انقياد العرب وإسلامهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏حدثني أبو عبيدة ‏:‏ أن ذلك في سنة تسع ، وأنها كانت تسمى سنة الوفود ‏.‏

إذا جاء نصر اللّه والفتح

قال ابن إسحاق ‏:‏ وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذلك أن قريشاً كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك ‏.‏ وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وخلافه ، فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا عداوته ، فدخلوا في دين اللّه كما قال عز وجل أفواجا يضربون إليه من كل وجه يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ‏)أي ‏:‏ فاحمد اللّه علي ما أظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا ‏.‏

قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات ‏:‏

رجال الوفد

فقدمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفود العرب ، فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي ، في أشراف بني تميم ، منهم الأقرع بن حابس التميمي ، والزبرقان بن بدر التميمي ، أحد بني سعد ، وعمرو بن الأهتم ، والحبحاب بن يزيد ‏.‏

الحتات وما أخذه معاوية من ميراثه

قال ابن هشام ‏:‏الحتات وهو الذي آخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد آخى بين نفر من أصحابه من المهاجرين ، بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف ، وبين طلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام ، وبين أبي ذر الغفاري والمقداد بن عمرو البهراني ، وبين معاوية بن أبي سفيان والحتات بن يزيد المجاشعي ، فمات الحتات عند معاوية في خلافته ، فأخذ معاوية ما ترك وراثة بهذه الأخوة ، فقال الفرزدق لمعاوية ‏:‏

أبوك وعمي يا معاوية أورثا * تراثا فيحتاز التراث أقاربه

فما بال ميراث الحتات أكلته * وميراث حرب جامد لك ذائبه

وهذان البيتان في أبيات له ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏

وفي وفد بني تميم نعيم بن يزيد ،وقيس بن الحارث ، وقيس بن عاصم ، أخو بني سعد ، في وفد عظيم من بني تميم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وعطارد بن حاجب ، أحد بني دارم بن مالك بن حنظلة ابن زيد مناة بن تميم ، والأقرع بن حابس ، أحد بني دارم بن مالك ، والحتات بن يزيد ، أحد بني دارم بن مالك ، والزبرقان بن بدر ، أحد بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وعمرو بن الأهتم ، أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، وقيس بن عاصم أحد بني منقر بن عبيد بن الحارث ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن شهدا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف ‏.‏

أصحاب الحجرات وطلبهم المفاخرة

فلما قدم وفد بني تميم كانا معهم ، فلما دخل وفد بني تميم المسجد نادوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وراء حجراته ‏:‏ أن اخرج إلينا يا محمد ، فآذى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم ، فقالوا ‏:‏ يا محمد جئناك نفاخرك ، فأذن لشاعرنا وخطيبنا ؛

قال ‏:‏ قد أذنت لخطيبكم فليقل ‏:‏

كلمة عطارد يفتخر قومه

فقام عطارد بن حاجب فقال ‏:‏

الحمد للّه الذي له علينا الفضل المن ،وهو أهله الذي جعلنا ملوكاً ، ووهب لنا أموالاً عظاما ، نفعل فيها المعروف ، وجعلنا أعز أهل المشرق ، وأكثره عدداً ، وأيسره عدة ، فمن مثلنا في الناس وأولي فضلهم ‏؟‏ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ، ولو نشاء لأكثرنا الكلام ،ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا ، وإنا نعرف بذلك ‏.‏

أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا ، وأمر أفضل من أمرنا ‏.‏ ثم جلس ‏.‏

ثابت بن قيس يرد على عطارد

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس ، أخي بني الحارث بن الخزرج ‏:‏ قم فأجب الرجل في خطبته ، فقام ثابت ، فقال ‏:‏

الحمد للّه الذي السماوات والأرض خلقه ، قضى فيهن أمره ، ووسع كرسيه علمه ، ولم يك شيء قط إلا من فضله ، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً ، واصطفى من خير خلقه رسولا ، أكرمه نسبا ، وأصدقه حديثاً ، وأفضله حسباً ، فأنزل عليه كتابه ، وائتمنه على خلقه ، فكان خيرة اللّه من العالمين ، ثم دعا الناس إلى الإيمان به ، فآمن برسول اللّه المهاجرون من قومه وذوو رحمه ، أكرم الناس حسباً وأحسن الناس وجوها ، وخير الناس فعالا ‏.‏

ثم كان أول الخلق إجابة ، واستجاب للّه حين دعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن ، فنحن أنصار اللّه ووزراء رسوله ، نقاتل الناس حتى يؤمنوا باللّه ، فمن آمن باللّه ورسوله منع منا ماله ودمه ، ومن كفر جاهدناه في اللّه أبداً ، وكان قتله علينا يسيراً ‏.‏ أقول قولي هذا واستغفر اللّه لي وللمؤمنين والمؤمنات ، والسلام عليكم ‏.‏

شعر الزبرقان يفتخر بقومه

فقام الزبرقان بن بدر فقال ‏:‏

نحن الكرام فلا حي يعادلنا * منا الملوك وفينا تنصب البيع

وكم قسرنا من الأحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع

ونحن نطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع

بما ترى الناس تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم تصطنع

فننحر الكوم عبطا في أرومتنا * للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا

فلا ترانا إلى حي نفاخرهم * إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع

فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والأخبار تستمع

إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع

قال ابن هشام ‏:‏

ويروى ‏:‏ منا الملوك وفينا تقسم الربع

ويروى ‏:‏ من كل أرض هوانا ثم نتبع

رواه لي بعض بن تميم ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان ‏.‏

حسان يرد على الزبرقان

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان حسان غائباً فبعث إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال حسان ‏:‏ جاءني رسوله ، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم ، فخرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أقول ‏:‏

منعنا رسول اللّه إذ حل وسطنا * على أنف راض من معد وراغم

منعناه لما حل بين بيوتنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

ببيت حريد عزه وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

هل المجد إلا السودد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

قال فلما انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقام شاعر القوم ، فقال ما

قال ‏:‏ عرضت في قوله ، وقلت على نحو ما

قال ‏:‏

قال ‏:‏ فلما فرغ الزبرقان ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحسان بن ثابت ‏:‏ قم يا حسان ، فأجب الرجل فيما قال ‏.‏ فقام حسان ، فقال ‏:‏

إن الذوائب من فهر وأخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بهم كل من كانت سريرته * تقوى الإله وكل الخير يصطنع

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق فاعلم شرها البدع

إن كان في الناس سباقون بعدهم * فكل سبق لأدنى سبقهم تبع

لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا

إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا

أعفة ذكرت في الوحي عفتهم * لا يطبعون ولا يرديهم طمع

لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم من مطمع طبع

إذا نصبنا لحي لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع

نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا

لا يفخرون إذا نالوا عدوهم * وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع

كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحليه في أرساغها فدع

خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الأمر الذي منعوا

فإن في حربهم فاترك عداوتهم * شرا يخاض عليه السم والسلع

أكرم بقوم رسول اللّه شيعتهم * إذا تفاوتت الأهواء والشيع

أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان حائك صنع

فإنهم أفضل الأحياء كلهم * إن جد بالناس جد القول أو شمعوا

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو زيد ‏.‏

يرضى بها كل من كانت سريرته * تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

شعر أخر للزبرقان بن بدر

و قال ابن هشام ‏:‏ حدثني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم ، أن الزبرقان بن بدر ، لما قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في وفد تميم ، قام فقال ‏:‏

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا * إذا احتفلوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس في كل موطن * وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الأصيد المتفاقم

وأن لنا المرباع في كل غارة * نغير بنجد أو بأرض الأعاجم

شعر أخر لحسان في الرد على الزبرقان

فقام حسان بن ثابت ، فأجابه فقال ‏:‏

هل المجد إلا السودد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم

نصرنا وآوينا النبي محمدا * على أنف راض من معد وراغم

بحي حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الأعاجم

نصرناه لما حل وسط ديارنا * بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا * وطبنا له نفسا بفيء المغانم

ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه بالمرهفات الصوارم

ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبي الخير من آل هاشم

بني دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم * لنا خول ما بين ظئر وخادم

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا للّه ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزي الأعاجم

إسلام الوفد‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله ، قال الأقرع بن حابس ‏:‏وأبى ، إن هذا الرجل لمؤتى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا ، فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحسن جوائزهم ‏.‏

شعر ابن الأهتم في هجاء قيس

وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم في ظهرهم ، وكان أصغرهم سناً ، فقال قيس بن عاصم ، وكان يبغض عمرو بن الأهتم ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنه قد كان رجل منا في رحالنا ، وهو غلام حدث ، وأزرى به ، فأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل ما أعطى القوم ، فقال عمرو بن الأهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك ، يهجوه ‏:‏

ظللت مفترش الهلباء تشتمني * عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سوددا رهوا وسوددكم * باد نواجذه مقع على الذنب

قال ابن هشام ‏:‏ بقي بيت واحد تركناه ، لأنه أقذع فيه ‏.‏

ما نزل من القرآن في وفد بني تميم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفيهم نزل من القرآن ‏:‏ ‏(‏ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ‏)‏ ‏.‏

قصة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في الوفادة عن بني عامر

رؤساء الوفد ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بني عامر ، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر ، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر ، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم ‏.‏

عامر يدبر الغدر بالرسول

فقدم عامر بن الطفيل عدو اللّه ، على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه ‏:‏ يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم ،

قال ‏:‏ واللّه لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي ، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش ‏!‏ ثم قال لأربد ‏:‏ إذا قدمنا على الرجل ، فإني سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف ‏.‏

فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال عامر بن الطفيل ‏:‏ يا محمد ، خالني ،

قال ‏:‏ لا واللّه ، حتى تؤمن باللّه وحده ،

قال ‏:‏ يا محمد ، خالني ، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يخير شيئاً ،

قال ‏:‏ فلما رأى عامر ما يصنع أربد ،

قال ‏:‏ يا محمد خالني ،

قال ‏:‏ لا حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له ‏.‏

فلما أبي عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ أما واللّه لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً ‏.‏

فلما ولي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ اللّهم اكفني عامر بن الطفيل ‏.‏

فلما خرجوا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عامر لأربد ‏:‏ ويلك يا أربد ‏!‏ أين ما كنت أمرتك به ‏؟‏ واللّه ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وأيم اللّه لا أخافك بعد اليوم أبداً ،

قال ‏:‏ لا أبا لك ‏!‏ لا تعجل علي ، واللّه ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل ، حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف ‏؟‏ ‏.‏

موت عامر بدعاء الرسول عليه

وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث اللّه على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه ، فقتله اللّه في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يقول ‏:‏ يا بني عامر ، أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ‏!‏ ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويقال أغدة كغدة الإبل ، وموتا في بيت سلولية ‏!‏ ‏.‏

موت أربد بصاعقة

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم خرج أصحابه حين واروه ، حين قدموا أرض بني عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم ، فقالوا ‏:‏ ما وراءك يا أربد ‏؟‏

قال ‏:‏ لا شيء واللّه ، لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه ، فأرسل اللّه تعالى عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما ‏.‏وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه ‏.‏

ما نزل في عامر وأربد

قال ابن هشام ‏:‏ وذكر زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس

قال ‏:‏ وأنزل اللّه عز وجل في عامر وأربد ‏(‏ اللّه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ وما لهم من دونه من وال ‏)‏ ‏.‏

قال ‏:‏ المعقبات هي من أمر اللّه يحفظون محمداً ، ثم ذكر أربد وما قتله اللّه به فقال ‏:‏ ‏(‏ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ‏)‏ إلى قوله ‏:‏ ‏(‏ شديد المحال ‏)‏ ‏.‏

شعر لبيد في بكاء أربد

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال لبيد يبكي أربد ‏:‏

ما إن تعدى المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد

أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد

فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد

إن يشغبوا لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد

حلو أريب وفي حلاوته * مر لطيف الأحشاء والكبد

وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت رياح الشتاء بالعضد

وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى تجلت غوابر المدد

أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد

لا تبلغ العين كل نهمتها * ليلة تمسي الجياد كالقدد

الباعث النوح في مآتمه * مثل الظباء الأبكار بالجرد

فجعني البرق والصواعق بالفارس * يوم الكريهة النجد

والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد

يعفو على الجهد والسؤال كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد

كل بني حرة مصيرهم * قل وإن أكثرت من العدد

إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما وإن فهم للّهلاك والنفد

قال ابن هشام ‏:‏بيته ‏(‏ والحارب الجابر الحريب ‏)‏ عن أبي عبيدة ، وبيته ‏(‏ يعفو على الجهد ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

ألا ذهب المحافظ والمحامي * ومانع ضيمها يوم الخصام

وأيقنت التفرق يوم قالوا * تقسم مال أربد بالسهام

تطير عدائد الأشراك شفعا * ووترا والزعامة للغلام

فودع بالسلام أبا حريز * وقل وداع أربد بالسلام

وكنت إمامنا ولنا نظاما * وكان الجزع يحفظ بالنظام

وأربد فارس الهيجا إذ ما * تقعرت المشاجر بالفئام

إذا بكر النساء مردفات * حواسر لا يجئن على الخدام

فواءل يوم ذلك من أتاه * كما وأل المحل إلى الحرام

ويحمد قدر أربد من عراها * إذا ما ذم أرباب اللحام

وجارته إذا حلت لديه * لها نفل وحظ من سنام

فإن تقعد فمكرمة حصان * وإن تظعن فمحسنة الكلام

وهل حدثت عن أخوين داما * على الأيام إلا ابني شمام

وإلا الفرقدين وآل نعش * خوالد ما تحدث بانهدام

قال ابن هشام ‏:‏وهي في قصيدة له ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا يبكي أربد ‏:‏

انع الكريم للكريم أربدا * انع الرئيس واللطيف كبدا

يحذي ويعطي ماله ليحمدا * أدما يشبهن صوارا أبداً

السابل الفضل إذا ما عددا * ويملأ الجفنة ملئا مددا

رفها إذا يأتي ضريك وردا * مثل الذي في الغيل يقرو جمدا

يزداد قربا منهم أن يوعدا * أورثتنا تراث غير أنكدا

غبا ومالا طارفا وولدا * شرخا صقورا يافعا وأمردا

وقال لبيد أيضا ‏:‏

لن تفنيا خيرات أربد * فابكيا حتى يعودا

قولا هو البطل المحامي * حين يكسون الحديدا

ويصد عنا الظالمين * إذا لقينا القوم صيدا

فاعتاقه رب البرية * إذ رأى أن لا خلودا

فثوى ولم يوجع ولم * يوصب وكان هو الفقيد

وقال لبيد أيضا‏:‏

يذكرني بأربد كل خصم * ألد تخال خطته ضرارا

إذا اقتصدوا فمقتصد كريم * وإن جاروا سواء الحق جارا

ويهدي القوم مطلعا إذا ما * دليل القوم بالموماة حارا

قال ابن هشام ‏:‏أخرها بيتا عن غير ابن إسحاق ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال لبيد أيضا ‏:‏

أصبحت أمشي بعد سلمي بن مالك * وبعد أبي قيس وعروة كالأجب

إذا ما رأى ظل الغراب أضجه * حذارا على باقي السناسن والعصب

قال ابن هشام ‏:‏وهذان البيتان في أبيات له ‏.‏

قدوم ضمام بن ثعلبة وافدا عن بني سعد بن بكر

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث بنو سعد بن بكر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب ، مولى عبداللّه بن عباس ، عن ابن عباس

قال ‏:‏

بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل إلى المسجد ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في أصحابه ‏.‏

وكان ضمام رجلاً جلداً أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أصحابه ، فقال ‏:‏ أيكم ابن عبدالمطلب

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنا ابن عبدالمطلب ‏.‏

قال ‏:‏ أمحمد ‏؟‏

قال ‏:‏ نعم ‏.‏

قال ‏:‏ ياابن عبدالمطلب ، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة ، فلا تجدن في نفسك ،

قال ‏:‏ لا أجد في نفسي ، فسل عما بداً لك ‏.‏

قال ‏:‏ أنشدك اللّه ، إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من كائن بعدك ، آللّه بعثك إلينا رسولا ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آللّه أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ فأنشدك اللّه إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آللّه أمرك أن تصلى هذه الصلوات الخمس ‏؟‏

قال ‏:‏ اللّهم نعم ‏.‏

قال ‏:‏ ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة ‏:‏ الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها ، حتى إذا فرغ ،

قال ‏:‏ فإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه ، وسأؤدي هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتني عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص ، ثم انصرف إلى بعيره راجعاً ‏.‏

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة ‏.‏

دعوة قومه للإسلام

قال فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن

قال ‏:‏ بئست اللات والعزى ‏!‏ قالوا ‏:‏ مه ، يا ضمام اتق البرص ، اتق الجنون ،

قال ‏:‏ ويلكم إنهما واللّه لا يضران ولا ينفعان ، إن اللّه قد بعث رسولاً ، وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإني أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه ،

قال ‏:‏ فواللّه ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً ‏.‏

قال ‏:‏ يقول عبداللّه بن عباس ‏:‏ فما سمعنا بوافد قدم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ‏.‏

قدوم الجارود في وفد عبدالقيس

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الجارود بن عمرو بن خنش أخو عبدالقيس ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبدالقيس وكان نصرانياً

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني من لا أتهم عن الحسن

قال ‏:‏

لما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلمه ، فعرض عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه ، فقال ‏:‏

يا محمد إني قد كنت على دين ، وإني تارك ديني لدينك ، أفتضمن لي ديني ‏؟‏

قال ‏:‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ نعم ، أنا ضامن أن قد هداك اللّه إلى ما هو خير منه ‏.‏

قال ‏:‏ فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحملان ، فقال ‏:‏ واللّه ما عندي ما أحملكم عليه ،

قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا ‏؟‏

قال ‏:‏ لا ، إياك وإياها ‏.‏ فإنما تلك حرق النار ‏.‏

موقفه من ردة قومه

فخرج من عنده الجارود راجعاً إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلباً على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة ، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام فقال ‏:‏ أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ويروى ‏:‏ وأكفي من لم يشهد ‏.‏

إسلام المنذر بن ساوى

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم فحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده أميراً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على البحرين ‏.‏

قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد بني حنيفة ، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏مسيلمة بن ثمامة ، ويكنى أبا ثمامة ‏.‏

ما طلبه مسيلمة الكذاب من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار ، ثم من بني النجار ، فحدثني بعض علمائنا من المدينة أن بني حنيفة أتت به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تستره بالثياب ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس في أصحابه ، معه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهم يسترونه بالثياب ، كلمه وسأله ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا ‏.‏

زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا ، وفي ركابنا يحفظها لنا ،

قال ‏:‏ فأمر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم ؛ وقال ‏:‏

أما إنه ليس بشركم مكاناً أي ‏:‏ لحفظه ضيعة أصحابه ، وذلك الذي يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

تنبؤ مسيلمة

قال ‏:‏ ثم انصرفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجاءوه بما أعطاه ، فلما انتهوا إلى اليمامة ، ارتد عدو اللّه وتنبأ وتكذب لهم ، وقال ‏:‏ إني قد أشركت في الأمر معه ‏.‏ وقال لوفده الذين كانوا معه ‏:‏ ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما إنه ليس بشركم مكاناً ، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه ، ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، ويقول لهم ‏:‏ فيما يقول مضاهاة للقرآن ‏:‏ ‏(‏ لقد أنعم اللّه على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى ‏)‏ وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنه نبي ، فأصفقت معه حنيفة على ذلك ، فاللّه اعلم أي ذلك كان ‏.‏

قدوم زيد الخيل في وفد طيئ

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد طيئ ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم ؛ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما حدثني من لا أتهم من رجال طيئ ‏:‏

ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ‏.‏ ثم سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ زيد الخير ، وقطع له فيدا وأرضين معه ؛ وكتب له بذلك ‏.‏

موت زيد الخير

فخرج من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعاً إلى قومه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه

قال ‏:‏ قد سماها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم باسم غير الحمى ، وغير أم ملدم ، فلم يثبته ، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه ، يقال له فردة أصابته الحمى بها فمات ، ولما أحس زيد بالموت

قال ‏:‏

أمرتحل قوم المشارق غدوة * وأترك في بيت بفردة منجد

ألا رب يوم لو مرضت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد

فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه ، التي قطع له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحرقتها بالنار ‏.‏

قدوم عدي بن حاتم

هربه أولا إلى الشام فرارا من الإسلام

وأما عدي بن حاتم فكان يقول ، فيما بلغني ‏:‏ ما من رجل من العرب كان اشد كراهية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سمع به مني ، أما أنا فكنت امرأ شريفاً ، وكنت نصرانياً ، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكاً في قومي ، لما كان يصنع بي ‏.‏

فلما سمعت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربي ، راعيا لإبلي ‏:‏ لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللاً سماناً ‏.‏ فاحتبسها قريباً مني ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ؛ ففعل ؛ ثم إنه أتاني ذات غداة ، فقال ‏:‏ يا عدي ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن ، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ، فقالوا ‏:‏ هذه جيوش محمد ،

قال ‏:‏ فقلت ‏:‏ فقرب إلي أجمالي ، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت ‏:‏ ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام ، فسلكت الجوشية ، ويقال ‏:‏ الحوشية ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها ‏.‏

أسر الرسول ابنة حاتم

وتخالفني خيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سبايا من طيئ ، وقد بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هربي إلى الشام ،

قال ‏:‏ فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت ‏:‏ يا رسول اللّه ، هلك الولد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من اللّه عليك ‏.‏

قال ‏:‏ من وافدك ‏؟‏

قالت ‏:‏ عدي بن حاتم ‏.‏

قال ‏:‏ الفار من اللّه ورسوله ‏؟‏

قالت ‏:‏ ثم مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتركني ، حتى إذا كان من الغد مر بي ، فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس ‏.‏

قالت ‏:‏ حتى إذا كان بعد الغد مر بي ، وقد يئست منه ، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه ،

قالت ‏:‏ فقمت إليه ، فقلت ‏:‏

يا رسول اللّه ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علي من اللّه عليك ‏.‏ فقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنيني ‏.‏

فسألت عن الرجل الذي أشار إلى أن أكلمه ، فقيل ‏:‏ علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه ‏.‏

وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة ،

قالت ‏:‏ وإنما أريد أن آتي أخي بالشام ‏.‏ فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت ‏:‏ يا رسول اللّه ، قد قدم رهط من قومي ، لي فيهم ثقة وبلاغ ‏.‏

قالت ‏:‏ فكساني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وحملني ، وأعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام ‏.‏

نصيحة ابنة حاتم أخاها بالإسلام

قال عدي ‏:‏ فواللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تَؤُمُّنا ،

قال ‏:‏ فقلت ابنة حاتم ‏.‏

قال ‏:‏ فإذا هي هي ، فلما وقفت علي انسحلت تقول ‏:‏ القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك ‏!‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أي أخيه لا تقولي إلا خيرا ، فواللّه ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت ‏.‏

قال ‏:‏ ثم نزلت فأقامت عندي ، فقلت لها ‏:‏ وكان امرأة حازمة ، ماذا ترين في أمر هذا الرجل ‏؟‏

قالت ‏:‏ أرى واللّه أن تلحق به سريعاً ، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت ‏.‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ واللّه إن هذا الرأي ‏.‏

إسلام عدي بعد قدومه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فدخلت عليه وهو في مسجده ، فسلمت عليه ، فقال ‏:‏ من الرجل ‏؟‏ فقلت ‏:‏ عدي بن حاتم ، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فانطلق بي إلى بيته ، فواللّه إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها ‏.‏

قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ واللّه ما هذا بملك ‏!‏

قال ‏:‏ ثم مضى بي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى إذا دخل في بيته ، تناول وسادة في أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلي ، فقال ‏:‏ اجلس على هذه ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بل أنت فاجلس عليها ، فقال ‏:‏ بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأرض ‏.‏

قال ‏:‏ قلت في نفسي ‏:‏ واللّه ما هذا بأمر ملك ‏.‏

ثم قال ‏:‏ إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تك ركوسيا ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ‏؟‏

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ فإن ذلك يكن يحل لك في دينك ،

قال ‏:‏ قلت ‏:‏ أجل واللّه ‏.‏

وقال ‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ‏.‏

ثم قال ‏:‏ لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فواللّه ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ،

ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة

عددهم ، فواللّه ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ‏.‏

ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم ، وأيم اللّه ، ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ،

قال ‏:‏ فأسلمت ‏.‏

وكان عدي يقول ‏:‏ قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة ، واللّه لتكونن ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها ، لا تخاف حتى تحج هذا البيت ، وأيم اللّه لتكون الثالثة ، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه ‏.‏

قدوم فروة بن مسيك المرادي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم فروة بن مسيك المرادي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة ، ومباعداً لهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

يوم الردم بين همدان ومراد

وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم في يوم كان يقال له ‏:‏ يوم الردم ، فكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏الذي قاد همدان في ذلك اليوم مالك بن حريم الهمداني ‏.‏

شعر فروة بن مسيك في يوم الردم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك ‏:‏

مررنا على لفاة وهن خوص * ينازعن الأعنة ينتحينا

فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نغلب فغير مغلبينا

وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا

كذاك الدهر دولته سجال * تكر صروفه حينا فحينا

فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست غضارته سنينا

إذ انقلبت به كرات دهر * فألفيت الألى غبطوا طحينا

فمن يغبط بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خؤونا

فلو خلد الملوك إذن خلدنا * ولو بقي الكرام إذن بقينا

فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الأولينا

قال ابن هشام ‏:‏أول بيت منها ، وقوله ‏:‏ ‏(‏ فإن نغلب ‏)‏ عن غير ابن إسحاق ‏.‏

قدوم فروة على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وماقاله من الشعر ‏:‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفارقاً لملوك كندة

قال ‏:‏

لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها

قربت راحلتي أؤم محمدا * أرجو فواضلها وحسن ثرائها

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏ ‏(‏ أرجو فواضله وحسن ثنائها ‏)‏ ‏.‏

قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما انتهى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني - ‏:‏ يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم ‏؟‏

قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك ‏!‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيراً ‏.‏

واستعمله النبي صلى اللّه عليه وسلم على مراد وزيد ومذحج كلها ‏.‏ وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه في بلاده حتى توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

قدوم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد

إسلام عمرو ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن معديكرب في أناس من بني زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي ، حين انتهى إليهم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ يا قيس ، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبي ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فإن كان نبياً كما يقول ، فإنه لن يخفي عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه ، فأبي عليه قيس ذلك ، وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأسلم ، وصدقه ، وآمن به ‏.‏

ما قاله عمرو فيما أوعده به قيس بن مكشوح

فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح ، أوعد عمراً ، وتحطم عليه ، وقال ‏:‏ خالفني وترك رأيي ؛ فقال عمرو بن معديكرب في ذلك ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنعاء * أمرا باديا رشده

أمرتك باتقاء اللّه * والمعروف تتعده

خرجت من المنى مثل * الحمير غره وتده

تمناني على فرس * عليه جالسا أسده

علي مفاضة كالنهي * أخلص ماءه جدده

ترد الرمح منثني السنان * عوائرا قصده

فلوا لاقيتني للقيت * ليثا فوقه لبدة

تلاقي شنبثا شثن البراثن * ناشزا كتده

يسامي القرن إن قرن * تيممه فيعتضده

فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده

فيدمغه فيحطمه * فيخضمه فيزدرده

ظلوم الشرك فيما أحرزت * أنيابه ويده

قال ابن هشام ‏:‏أنشدني أبو عبيدة ‏:‏

أمرتك يوم ذي صنعاء * أمرا بينا رشده

أمرتك باتقاء اللّه * تأتيه وتتعده

فكنت كذي الحمير غرره * مما به وتده

ارتداد عمرو بعد موت الرسول

قال ابن إسحاق ‏:‏ فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد ‏.‏ وعليهم فروة بن مسيك ، فلما توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب ، وقال حين ارتد ‏:‏

وجدنا ملك فروة شر ملك * حمارا ساف منخره بثفر

وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر

قال ابن هشام ‏:‏قوله ‏:‏ ‏(‏ بشفر ‏)‏ عن أبي عبيدة ‏.‏

قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة

إسلامه ومن معه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأشعث بن قيس ، في وفد كندة فحدثني الزهري بن شهاب أنه قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ثمانين راكباً من كندة ، فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا ، وعليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير ، فلما دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

قال ‏:‏ ألم تسلموا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بلى ،

قال ‏:‏ فما بال هذا الحرير في أعناقكم ‏؟‏

قال ‏:‏ فشقوه منها ، فألقوه ‏.‏

انتسابهم إلى آكل المرار

ثم قال الأشعث بن قيس ‏:‏ يا رسول اللّه ، نحن بنو آكل المرار ، وأنت ابن آكل المرار ،

قال ‏:‏ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ‏:‏ ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبدالمطلب ، وربيعة بن الحارث ‏.‏

وكان العباس وربيعة رجلين تاجرين ، وكانا إذا شاعا في بعض العرب ، فسئلا ممن هما ‏.‏ قالا نحن بنو آكل المرار ، يتعززان بذلك ، وذلك أن كندة كانوا ملوكاً ، ثم قال لهم ‏:‏ لا بل نحن بنو النضر بن كنانة ، لا نقفوا أمنا ، ولا ننتفي من أبينا ، فقال الأشعث بن قيس ‏:‏

هل فرغتم يا معشر كندة ‏؟‏ واللّه لا اسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين ‏.‏

قال ابن هشام ‏:‏ الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل النساء ، وآكل المرار ‏:‏ الحارث بن عمرو بن حجر بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندى ؛ ويقال ‏:‏ كندة ، وإنما سمي آكل المرار ، لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم ، وكان الحارث غائبا ، فغنم وسبى ، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني ، امرأة الحارث بن عمرو ، فقالت لعمرو في مسيره ‏:‏ لكأني برجل أدلم أسود ، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبتك ، تعني الحارث ، فسمى آكل المرار ‏.‏ والمرار ‏:‏ شجر ‏.‏

ثم تبعه الحارث في بني بكر بن وائل ، فلحقه فقتله ، واستنقذ امرأته ، وما كان أصاب ، فقال الحارث بن حلزة اليشكري لعمرو بن المنذر ، وهو عمرو بن هند اللخمي ‏:‏

وأقدناك رب غسان بالمنذر * كرها إذ لا تكال الدماء

لأن الحارث الأعرج الغساني قتل المنذر أباه ، وهذا البيت في قصيدة له ‏.‏

وهذا الحديث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع ‏.‏

ويقال ‏:‏ بل آكل المرار ‏:‏ حجر بن عمرو بن معاوية ، وهو صاحب هذا الحديث ، وإنما سمي آكل المرار ، لأنه أكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار ‏.‏

قدوم صرد بن عبداللّه الأزدي مسلما

إسلامه

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صرد بن عبداللّه الأزدي ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، في وفد من الأزد ، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن ‏.‏

قتاله أهل جرش

فخرج صرد بن عبداللّه يسير بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتى نزل بجرش ، وهي يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضوت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم حين سمعوا بسير المسلمين إليهم ، فحاصروهم فيها قريباً من شهر ، وامتنعوا فيها منه ثم رجع عنهم قافلاً ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولي عنهم منهزما ، فخرجوا في طلبه ، حتى إذا أدركوه عطف عليهم ، فقتلهم قتلاً شديداً ‏.‏

أخبار الرسول بما حدث

وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران ، فبينا هما عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشية بعد صلاة العصر ، إذ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ بأي بلاد اللّه شكر ‏؟‏ فقام إليه الجرشيان ، فقالا ‏:‏ يا رسول اللّه ، ببلادنا جبلاً يقال له كشر ، وكذلك يسميه أهل جرش ، فقال ‏:‏ إنه ليس بكشر ، ولكنه شكر ، قالا ‏:‏ فما شأنه يا رسول اللّه ‏؟‏

قال ‏:‏ إن بدن اللّه لتنحر عنده الآن ‏.‏

قال ‏:‏ فجلس الرجلان إلى أبي بكر ، أو إلى عثمان ، فقال لهما ‏:‏ ويحكما إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لينعى لكما قومكما ، فقوما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فاسألاه أن يدعو اللّه أن يرفع عن قومكما ، فقاما إليه ، فسألاه ذلك ، فقال ‏:‏ اللّهم ارفع عنهم ‏.‏ فخرجا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعين إلى قومهما ، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبداللّه ، في اليوم الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قال ، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر ‏.‏

إسلام أهل جرش

وخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم ، على أعلام معلومة ، للفرس والراحلة وللمثيرة ، وبقرة الحرث ، فمن رعاه من الناس فمالهم سحت ، فقال في تلك الغزوة رجل من الأزد ، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية ، وكانوا يعدون في الشهر الحرام ‏:‏

يا غزوة ما غزونا غير خائبة * فيها البغال وفيها الخيل والحمر

حتى أتينا حمرا في مصانعها * وجمع خثعم قد شاعت لها النذر

إذا وضعت غليلا كنت أحمله * فما أبالي أدانوا بعد أم كفروا

قدوم رسول اللّه ملوك حمير بكتابهم

قدوم رسول ملوك حمير

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاب ملوك حمير ، مقدمة من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم ، الحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال ، والنعمان ، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ؛ وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم ، ومفارقتهم الشرك وأهله ‏.‏

كتاب الرسول إليهم فكتب إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏

من محمد رسول اللّه النبي ، إلى الحارث بن عبد كلال ، وإلى نعيم بن عبد كلال ، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان ‏.‏

أما بعد ذلكم ‏:‏ فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم ، فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبرنا ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن اللّه قد هداكم بهداه ، إن أصلحتم وأطعتم اللّه ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم خمس اللّه ، وسهم الرسول وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار ، عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ‏.‏

وأن في الإبل الأربعين ابنة لبون ، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر ، وفي كل خمس من الإبل شاة ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ‏.‏

وأنها فريضة اللّه التي فرض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك ، وأشهد على إسلامه ، وظاهر المؤمنين على المشركين ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة اللّه وذمة رسوله ‏.‏

وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني ، فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية ، على كل حال ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف ، من قيمة المعافر ، أو عوضه ثيابا ‏.‏

فمن أدى ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإنه له ذمة اللّه وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو للّه ولرسوله ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإن رسول اللّه محمداً النبي ، أرسل إلى زرعة ذي يزن ، أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيراً ، معاذ بن جبل ، وعبداللّه بن زيد ، ومالك بن عبادة ، وعقبة بن نمر ، ومالك بن مرة ، وأصحابهم ، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم ، وأبلغوها رسلي ، وأن أميرهم معاذ بن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا ‏.‏

أما بعد ‏:‏ فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنه عبده ورسوله ، ثم أن مالك بن مرة الرهاوي ، قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيراً ، ولا تخونوا ولا تخاذلوا ، فإن رسول اللّه هو ولي غنيكم وفقيركم ، وأن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل ‏.‏

وأن مالكاً قد بلغ الخبر ، وحفظ الغيب ، وآمركم به خيراً ، وإني قد أرسلت إليهم من صالحي أهل وأولي دينهم وأولي علمهم ، وآمرك بهم خيراً ، فإنهم منظور إليهم ،والسلام عليكم ورحمه اللّه وبركاته ‏.‏

وصية الرسول معاذا حين بعثه إلى اليمن

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني عبداللّه بن أبي بكر أنه حدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حين بعث معاذاً أوصاه ، وعهد إليه ، ثم قال له ‏:‏

يسر ولا تعسر ، وبشر ولا تنفر ، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب ، يسألونك ما مفتاح الجنة ‏؟‏ فقل ‏:‏ شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، فخرج معاذ ، حتى إذا قدم اليمن قام بما أمره به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأتته امرأة من أهل اليمن ، فقالت ‏:‏ يا صاحب رسول اللّه ، ما حق زوج المرأة عليها ‏؟‏

قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ إن المرأة لا تقدر على أن تؤدي حق زوجها ، فأجهدي نفسك في أداء حقه ما استطعت ،

قال ‏:‏ واللّه لئن كنت صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنك لتعلم ما حق الزوج على المرأة ‏.‏

قال ‏:‏ ويحك ‏!‏ لو رجعت إليه فوجدته تنثعب منخراه قيحاً ودماً فمصصت ذلك حتى تذهبيه ما أديت حقه ‏.‏

إسلام فروة بن عمرو الجذامي

إسلامه

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ، ثم النفاثي ، إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسولا بإسلامه ، وأهدى له بغلة بيضاء ، وكان فروة عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ‏.‏

حبس الروم له وشعره ومقتله

فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه ، طلبوه حتى أخذوه ، فحبسوه عندهم ، فقال في محبسه ذلك ‏:‏

طرقت سليمى موهنا أصحابي * والروم بين الباب والقروان

صد الخيال وساءه ما قد رأى * وهممت أن أغفى وقد أبكاني

لا تكحلن العين بعدي إثمدا * سلمى ولا تدين للإتيان

ولقد علمت أبا كبيشة أنني * وسط الأعزة لا يحص لساني

فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت لتعرفن مكاني

ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان

فلما أجمعت الروم لصلبه على ماء لهم ، يقال له عفراء بفلسطين ، قال‏:‏

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفراء فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها * مشذبة أطرافها بالمناجل

فزعم الزهري بن شهاب أنهم لما قدموه ليقتلوه ،

قال ‏:‏

بلغ سراة المسلمين بأنني * سلم لربي أعظمي ومقامي

ثم ضربوا عنقه ، وصلبوه ، على ذلك الماء ، يرحمه اللّه تعالى ‏.‏

إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم

دعوة خالد الناس إلى الإسلام وإسلامهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد ، في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ، قبل أن يقاتلهم ثلاثاً ، فإن استجابوا ، فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم ‏.‏

فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون ‏:‏ أيها الناس ، أسلموا تسلموا ‏.‏

فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه ، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب اللّه وسنة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وبذلك كان أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا ‏.‏

كتاب خالد إلى الرسول يسأله أمره

ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ لمحمد النبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، من خالد بن الوليد ، السلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله هو ‏.‏

أما بعد ‏:‏ يا رسول اللّه صلى اللّه عليك ، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب ، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام ، وأن أدعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا ، أقمت فيهم ، وقبلت منهم ، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب اللّه وسنة نبيه ، وإن لم يسلموا قاتلتهم ، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام ، كما أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبعثت فيهم ركباناً قالوا ‏:‏

يا بني الحارث ، أسلموا تسلموا ، فأسلموا ولم يقاتلوا ، وأنا مقيم بين أظهرهم ، آمرهم بما أمرهم اللّه به ، وأنهاهم عما نهاهم اللّه عنه ، وأعلمهم معالم الإسلام ، وسنة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حتى يكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،والسلام عليك يا رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

رد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على خالد

فكتب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏

من محمد النبي رسول اللّه إلى خالد بن الوليد ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو ‏.‏

أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم ، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام ، وشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبداللّه ورسوله ، وأن قد هداهم اللّه بهداه ، فبشرهم وأنذرهم ، وليقبل معك وفدهم ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

قدوم خالد مع وفدهم على الرسول

فأقبل خالد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأقبل معه بني الحارث بن كعب ، منهم قيس بن الحصين ذي الغصة ، ويزيد بن عبدالمدان ، ويزيد بن المحجل ، وعبداللّه بن قراد الزيادي ، وشداد بن عبداللّه القناني ، وعمرو بن عبداللّه الضبابي ‏.‏

حديث الرسول صلى اللّه عليه وسلم معهم

فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرآهم ،

قال ‏:‏ من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ‏؟‏ قيل ‏:‏ يا رسول اللّه ، هؤلاء رجال بني الحارث بن كعب ، فلما وقفوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلموا عليه ،

وقالوا ‏:‏ نشهد أنك رسول اللّه وأنه لا إله إلا اللّه ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ وأنا اشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه ‏.‏

ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أنتم الذين إذا زجروا استقدموا ، فسكتوا ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثانية ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الثالثة ، فلم يراجعه منهم أحد ، ثم أعادها الرابعة ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ نعم ، يا رسول اللّه ، نحن الذين إذا زجروا استقدموا ، قالها أربع مرار ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏

لو أن خالداً لم يكتب إلي أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا ، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم ، فقال يزيد بن عبدالمدان ‏:‏ أما واللّه ما حمدناك ولا حمدنا خالداً ؛

قال ‏:‏ فمن حمدتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ حمدنا اللّه عز وجل الذي هدانا بك يا رسول اللّه ،

قال ‏:‏ صدقتم ‏.‏

ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ، قالوا ‏:‏ لم نكن نغلب أحداً ،

قال ‏:‏ بلى ، قد كنتم تغلبون من قاتلكم ، قالوا ‏:‏ كنا نغلب من قاتلنا يا رسول اللّه إنا كنا نجتمع ولا نفترق ، ولا نبدأ أحدا بظلم ،

قال ‏:‏ صدقتم وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بني الحارث بن كعب قيس بن الحصين ‏.‏

فرجع وفد بني الحارث إلى قومهم في بقية من شوال، أو في صدر ذي القعدة ، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر ، حتى توفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ورحم وبارك ، ورضي وأنعم ‏.‏

الرسول يبعث عمرو بن حزم بعهده إليهم

وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ، ليفقههم في الدين ، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام ، ويأخذ منهم صدقاتهم ،

وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده ،

وأمره فيه بأمره ‏.‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا بيان من اللّه ورسوله ، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، عهد من محمد النبي رسول اللّه لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى اللّه في أمره كله ، فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره اللّه ، وأن يبشر الناس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلم الناس القرآن ، ويفقههم فيه ، وينهى الناس ‏.‏

فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر ، ويخبر الناس بالذي لهم ، والذي عليهم ، ويلين للناس في الحق ، ويشتد عليهم في الظلم ، فإن اللّه كره الظلم ، ونهى الناس عنه ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ألا لعنة اللّه على الظالمين ‏)‏ ويبشر الناس بالجنة وبعملها ، وينذر الناس النار وعملها ، ويستأنف الناس حتى يفقهوا في الدين ، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته ، وما أمر اللّه به ، والحج الأكبر ‏:‏ الحج الأكبر ، والحج الأصغر‏:‏ هو العمرة ‏.‏

وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير ، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه ، وينهى الناس أن يحتبي أحد في ثوب واحد ، يفضي بفرجه إلى السماء ، وينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه ، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر ، وليكن دعواهم إلى اللّه عز وجل وحده لا شريك له ، فمن لم يدع إلى اللّه ، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف ، حتى تكون دعواهم إلى اللّه وحده لا شريك له ‏.‏

ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين ، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم اللّه ‏.‏

وأمر بالصلاة لوقتها ، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ، ويغلس بالصبح ، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة ، والمغرب حين يقبل الليل ، لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء ، والعشاء أول الليل ‏.‏

وأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها ، والغسل عند الرواح إليها ‏.‏

وأمره أن يأخذ من المغانم خمس اللّه ، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء ، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر ، وفي كل عشر من الإبل شاتان ، وفي كل عشرين أربع شياه ، وفي كل أربعين من البقر بقرة ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع ، جذع أو جذعة ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها ، شاة ، فإنها فريضة اللّه التي افترض على المؤمنين في الصدقة ، فمن زاد خيراً فهو خير له ‏.‏

وأنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه ، ودان بدين الإسلام ، فإنه من المؤمنين ، له مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها ، وعلى كل حالم ‏:‏ ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، دينار واف أو عوضه ثياباً ، فمن أدى ذلك فإن له ذمة اللّه وذمة رسوله ، ومن منع ذلك فإنه عدو للّه ولرسوله وللمؤمنين جميعا ، صلوات اللّه على محمد ، والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته ‏.‏

قدوم رفاعة بن زيد الجذامي

إسلامه وحمله كتاب الرسول إلى قومه ‏:‏

وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجذامي ، ثم الضبيبي ، فأهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلاماً ، وأسلم فحسن إسلامه ، وكتب له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتاباً إلى قومه وفي كتابه ‏:‏

كتاب الرسول إلى قوم رفاعة بن زيد ‏:‏

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من محمد رسول اللّه لرفاعة بن زيد ‏.‏

إني بعثته إلى قومه عامة ، ومن دخل فيهم ، يدعوهم إلى اللّه وإلى رسوله ، فمن أقبل منهم ففي حزب اللّه وحزب رسوله ، ومن أدبر فله أمان شهرين ‏.‏

فلما قدم رفاعة على قومه أجابوا وأسلموا ، ثم ساروا إلى الحرة ‏:‏ حرة الرجلاء ، ونزلوها ‏.‏

قدوم وفد همدان

من رجال الوفد ‏:‏

قال ابن هشام ‏:‏ وقدم وفد همدان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما حدثني من أثق به ، عن عمرو بن عبداللّه بن أذينة العبدي ، عن أبي إسحاق السبيعي ،

قال ‏:‏

قدم وفد همدان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، منهم مالك بن نمط ، وأبو ثور ، وهو ذو المشعار ، ومالك بن أيفع ، وضمام بن مالك السلماني ، وعميرة بن مالك الخارفي ، فلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرجعه من تبوك ، وعليهم مقطعات الحبرات ، والعمائم العدنية ، برحال الميس على المهرية والأرحبية ، ومالك بن نمط ورجل أخر يرتجزان بالقوم ، يقول أحدهما ‏:‏

همدان خير سوقة وأقيال * ليس لها في العالمين أمثال

محلها الهضب ومنها الأبطال * لها إطابات بها وآكال

ويقول الآخر ‏:‏

إليك جاوزن سواد الريف * في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بحبال الليف *

خطبة مالك بن نمط بين يدي الرسول صلى اللّه عليه وسلم

فقام مالك بن نمط بين يديه ، فقال ‏:‏ يا رسول اللّه نصية من همدان ، من كل حاضر وباد ، أتوك على قلص نواج متصلى بحبائل الإسلام ، لا تأخذهم في اللّه لومة لائم ، من مخلاف خارف ويام وشاكر أهل السود والقود ، أجابوا دعوة الرسول ، وفارقوا الآلهات والأنصاب ، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع ، وماجرى اليعفور بصلع ‏.‏

فكتب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كتابًا فيه ‏:‏

كتابه صلى اللّه عليه وسلم لهم

بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ هذا كتاب من رسول اللّه محمد ، لمخلاف خارف ، وأهل جناب الهضب ، وحقاف الرمل ، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط ، ومن أسلم من قومه ، على أن لهم فراعها ووهاطها ، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، يأكلون علافها ، ويرعون عافيها ، لهم بذلك عهد اللّه وذمام رسوله ، وشاهدهم المهاجرون والأنصار ، فقال في ذلك مالك بن نمط ‏:‏

ذكرت رسول اللّه في فحمة الدجى * ونحن بأعلى رحرحان وصلدد

وهن بنا خوص طلائح تغتلي * بركبانها في لاحب متمدد

على كل فتلاء الذراعين جسرة * تمر بنا مر الهجيف الحفيدد

حلفت برب الراقصات إلى منى * صوادر بالركبان من هضب قردد

بأن رسول اللّه فينا مصدق * رسول أتى من عند ذي العرش مهتدي

فما حملت من ناقة فوق رحلها * أشد على أعدائه من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه * وأمضى بحد المشرفي المهند

ذكر الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي

قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان تكلم في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكذابان ، مسيلمة بن حبيب باليمامة في بني حنيفة ، والأسود بن كعب العنسي بصنعاء ‏.‏

تحقق رؤياه صلى اللّه عليه وسلم فيها

قال ابن إسحاق ‏:‏ حدثني يزيد بن عبداللّه بن قسيط ، عن عطاء بن يسار ، أو أخيه سليمان بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ،

قال ‏:‏سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره ، وهو يقول ‏:‏

أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت في ذراعي سوارين من ذهب ، فكرهتهما فنفختهما فطار ، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة ‏.‏

الرسول يتحدث عن الدجالين

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة ، أنه

قال ‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ‏:‏ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالاً ، كلهم يدعي النبوة ‏.‏

خروج الأمراء والعمال على الصدقات

قال ابن إسحاق ‏:‏ وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسي وهو بها ‏.‏

وبعث زيد بن لبيد ، أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها ،

وبعث عدي بن حاتم على طيئ ، وصدقاتها وعلى بني أسد ‏.‏

وبعث مالك بن نويرة -

قال ابن هشام ‏:‏ اليربوعي - على صدقات بني حنظلة ‏.‏

وفرق صدقة بني سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها ، وقيس بن عاصم على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين ، وبعث علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه إلى أهل نجران ، ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم ‏.‏

كتاب مسيلمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقد كان مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، سلام عليك ؛ أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون ‏.‏

فقدم عليه رسولان له بهذا الكتاب

قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني شيخ من أشجع ، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي ، عن أبيه نعيم ،

قال ‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابه ‏:‏

فما تقولان أنتما ، قالا ‏:‏ نقول كما

قال ‏:‏ فقال ‏:‏ أما واللّه لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ‏.‏

جوابه صلى اللّه عليه وسلم على مسيلمة

ثم كتب إلى مسيلمة ‏:‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم ‏:‏ من محمد رسول اللّه ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من ابتع الهدى ‏.‏ أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ‏.‏

وذلك في أخر سنة عشر ‏.‏

تم بعون اللّه الجزء الخامس من سيرة ابن هشام ، ويليه إن شاء اللّه الجزء السادس ، وأوله حجة الوداع أعان اللّه على إتمامه ‏.‏