قريش تبتدع الحُمس

قال ابن إسحاق : وقد كانت قريش - لا أدري أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأي الْحُمْس رأيا رأوه وأداروه

فقالوا: نحن بنو إبراهيم ، وأهل الحُرمة، ووُلاة البيت ، وقُطَّان مكة وساكنُها، فليس لأحد من العرب مثلُ حقِّنا، ولا مثلُ منزلتنا، ولا تعرفُ له العرب مثلَ ما تعرِفُ لنا، فلا تعظِّموا شيئاً من الحِلِّ كما تُعظمون الحرمَ ، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفَّت العربُ بحُرمتِكم ، وقالوا: قد عظموا من الحلَ مثل ما عظموا من الحرم ، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم - صلى اللّه عليه وسلم ويَرَوْن لسائر العرب أن يفيضوا منها، إلا أنهم

قالوا: نحن أهلُ الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرجَ من الحرمة، ولا نعظم غيرَها، كما نعظمها نحن الحُمْس ، والحمس : أهل الحرم ، ثم جعلوا لمن وُلدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم ، بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ، ويَحرُم عليهم ما يَحرُم عليهم.

القبائل التي آمنت مع قريش بالْحُمْس : وكانت كِنانة وخُزَاعة قد دخلوا معهم في ذلك.

قال ابن هشام : وحدثني أبو عُبَيْدة النحوي : أن بني عامر بن صعصَعة ابن معاوية بن بكر بن هَوازن دخلوا معهم في ذلك ، وأنشدني لعَمْرو ابن مَعْدِ يكَرِب :

أعباسُ لو كَانتْ شِيَاراً جيادُنا  بتثليثِ ما ناصَيْتَ بعدي الأحامِسا

قال ابن هشام : تثليث : موضع من بلادهم. والشِّيَار: الحسان. يعني بالأحامس : بني عامر بن صَعْصَعة. وبعباس : عباس بن مِرْداس السُّلَميّ، وكان أغار على بنى زُبَيْد بتثليث. وهذا البيت في قصيدة لعمرو. وأنشدني للَقِيط بن زُرارة الدَّارَمِي في يوم جَبَلة:

أجْذِمْ إليك إنها بنو عَبْس المعْشَرُ الحِلَّةُ في القَوْمِ الحُمْس

لأن بنى عَبْس كانوا يوم جَبَلة حلفاء في بنى عامر بن صصَعة. يوم جبلة: ويومُ جَبَلة: يوم كان بين بنى حَنْظلة بن مالك بن زَيد مناة بن تميم ، وبين بنى عامر بن صصَعة، فكان الظَّفَر فيه لبني عامر بن صعصعة على بني حَنْظلة، وقُتل يومئذ لَقِيطُ بن زُرارة بن عُدُس ، وأسر حاجبُ بن زُرارة بن عُدُس ، وانهزم عَمرو بن عمرو ابن عُدُس بن زيد بن عبد اللّه بن دارم بن مالك بن حنظلة. ففيه يقول جرير للفرزدق :

كأنك لم تشهدْ لَقيطاً وحاجباً وعَمرو بنَ عَمروٍ إذا دَعَوْا: يا لَدَارِمِ

وهذا البيت في قصيدة له.

يوم ذي نَجَب : ثم التَقوا يومَ ذي نَجَب فكان الظَّفر لحنظلة على بنى عامر، وقُتل يومئذٍ حسانُ بن معاوية الكِنْديُّ وهو أبو كَبْشة. وأسر يزيد بن الصَّعِق الكلابي وانهزم الطُّفيْل بن مالك بن جعفر بن كلاب ، أبو عامر بن الطفَيْل. ففيه يقول الفرزدق :

ومنهنَّ إذ نجَّى طُفَيل بن مالك على قُرْزُل رَجْلا ركوضَ الهزائم
ونحن ضربنا هامةَ ابنِ خُوَيْلدٍ   نزيدُ على أم الفِراخ الجواثم

وهذان البيتان في قصيدة له.

فقال جرير:

ونحن خَضَبْنا لابنِ كبشةَ تاجَه ولاقى امرأً في ضَمةِ الخيلِ مِصقَعَا
وهذا البيت في قصيدة له.

وحديث يوم جَبَلة، ويوم ذي نَجَب أطولُ مما ذكرنا. وإنما منعنى من استقصائه ما ذكرت في حديث يومِ الفِجَار.

ما زادته قريش في الحُمْس

قال ابن إسحاق : ثم ابتدعوا في ذلك أموراً لم تكن لهم ، حتى

قالوا: لا ينبغى للحُمْس أن يأتَقِطوا الأقِط ، ولا يَسْلَئُوا السمنَ وهم حُرم ، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا - إن استظلوا - إلا في بيوت الأدَم ما كانوا حُرُماً، ثم رفعوا في ذلك ،

فقالوا: لا ينبغي لأهل الحِلِّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحِلِّ إلى الحَرم إذا جاءوا حُجاجاً أو عُمَّاراً، ولا يطوفون بالبيت إذا قَدِموا أولَ طوافهمِ إلا في ثياب الحُمْس. فإن لم يجدوا منها شيئاً طافوا بالبيت عُراةَ.

اللَّقىَ عند الحمس : فإن تكرَّمنهم متُكرِّم من رجل أو امرأة، ولم يجدوا ثياب الحمس ؛ فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحِل ، ألقاها إذا فرغِ من طوافه ، ثم لم ينتفعْ بها، ولم يَمَسَّها هو، ولا أحدٌ غيرُه أبداَ.

وكانت العرب تُسمى تلك الثياب : اللَّقَى، فحملوا على ذلك العربَ.

فدانت به ، ووقفوا على عرفات ، وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عُراةً، أما الرجال فيطوفون عراة،

وأما النساء فتضع إحْدَاهن ثيابَها كلَّها إلا درعا مُفَرَّجا عليها، ثم تطوف فيه ، فقالت امرأة من العرب ، وهى كذلك تطوف بالبيت :

اليومَ يَبْدو بَعْضُهُ ، أو  كله وما بدا منه فلا أحِلُّه

ومن طاف منهم في ثيابه التي جاء فيها من الحل ألقاها؛ فلم ينتفع بها هو ولا غيره.فقال قائل من العرب يذكر شيئا تركه من ثيابه ، فلا يقربه – وهو يحبه:

كفى حَزَناً كَرِّي عليها كأنها لقى بين أيدي الطائفين حَريمُ

يقول : لا تمس.

الإسلام يُعطل عادات الحُمْس : فكانوا تعالى محمداً – صلى اللّه عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له حجه ،: (ثم أفيضوا من حيثُ أفَاض التاسُ غفور رحيم ) يعني قريشاً، والناس : العرب ، إلى عرفات ، والوقوف عليها والإِفاضة منها.

الإسلام يبطل عادات الحمس: فكانوا كذلك حتى بعث اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وسلم فأنزل عليه حين أحكم له دينه، وشرع له سنن حجه: { ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}  [البقرة:١٩٩] يعنى قريشاً والناس : العرب، فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.

وأنزل اللّه عليه فيما كانوا حرَّموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت ، حين طافوا عُراةً، وحرَّموا ما جاءوا به من الحل من الطعام : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأعراف:٣١،٣٢] ، فوضع اللّه تعالى أمر الحُمْس ، وما كانت قريش ابتدعت منه - عن الناس بالإسلام ، حين بعث اللّه به رسولَه صلى اللّه عليه وسلم.

الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخالف الحمْس قبل الرسالة

قال ابن إسحاق : حدثني عبداللّه بن أبى بكر بن محمد بن عَمرو بن احَزْم ، عن عثمان ابن أبي سليمان بن جُبَيْر بن مُطْعِم ، عن عمه نافع بن جبير عن أبيه جُبير بن مُطْعم.

قال : لقد رأيتُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي، وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفعَ معهم منها توفيقا من اللّه له ، صلى اللّه عليه وسلم تسليماً كثيراً.

إخبار الكها ن من العرب ، والأحبار من يهود والرهبان من النصارى ببعثته صلى اللّه عليه وسلم