ما
نزل من القرآن في أبي لهب وامرأته حمالة الحطب
فجعلت - قريش حين منعه اللّه منها، وقام عمُّه وقومه من بنى
هاشم وبني المطلب دونَه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يَهْمِزونه
ويستهزئون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم ، وفيمن نصب لعداوته
منهم ، ومنهم من سَمى لنا، ومنهم من نزل فيه القران في عامة من ذَكر اللّه من
الكفار، فكان ممن سُمي لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب بن عبد
المطلب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب
وإنما سماها اللّه تعالى حمالة الحطب لأنها كانت - فيما بلغني - تحمل الشوك فتطرحه
على طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث تمر،
فأنزل
اللّه تعالى فيهما:
{
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد:
١ـ٥].
قال
ابن هشام : الجِيد: العُنق ، قال أعْشَى بنىِ قَيْس بن
ثعلبة:
يومَ
تُبدي لنا قتيلةُ عن جيـ دٍ أسيلٍ
تزِينُه الأطواقُ
وهذا البيت في قصيدة له. وجمعه : أجياد. والمسَد: شجر يُدَق
كما يُدَق الكتان فتفتل منه حبال. قال النابغة الذُّبياني ، واسمه زِياد ابن عَمرو
بن ساوية :
مقذوفةٍ
بدخيسِ النَّحْضِ بازِلُها له صريف صريفَ
القَعْوِ بالمَسدِ
وهذا البيت في قصيدة له ، وواحدته : مسدة.
قال
ابن إسحاق : فذكر لي : أن أم جميل ، حمالة الحطب ، حين سمعت ما نزل
فيها، وفي زوجها من القرآن ، أتت رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو
بكر الصديق ، وفي يدها فِهْر من حجارة، فلما وقفت
عليهما أخذ اللّه ببصرِها عن رسولِ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت : يا أبا بكر: أين صاحبُك ؟ فقد بلغني أنه يهجوني ، واللّه
لو وجدتُه لضربتُ بهذا الفِهْرِ فاه ، أما واللّه إني لشاعرة،
ثم
قالت :
مُذَمماً
عَصَينا وأمرَه أبَينا
ودينَه قَلَيْنَا
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه أما تراها رأتك ؟
فقال
: ما رأتنى. ؟ لقد أخذ اللّه ببصرِها عني.
قال
ابن هشام : قولها " ودينَه قلَيْنا " عن غير
ابن إسحاق.
قال
ابن إسحاق : وكانت قريش إنما تُسمى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم مُذمما، ثم يسبونه ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم يقول : " ألا تعجبون لِما صرف اللّه عنى
أذى قريش، يسبون مُذمما، وأنا محمدٌ ".
وأمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جُمَح ، كان إذا رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هَمزه ولَهمزه ،
فأنزل اللّه تعالى فيه : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نَارُ اللّه الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: ١ـ٩]
قال ابن هشام : الهُمزة : الذي يشتم الرجلَ علانية، ويُكسر عينيه عليه ، ويَغْمِز به ، قال حسان بن ثابت :
همْزُتُك فاختُضِعْتَ لذلِّ نفسٍ بقافيةٍ تَأجَّجُ كالشُّوَاظِ
وهذا البيت في قصيدة له ، وجمعه : همزات ، واللُّمَزَة: الذي يعيب
الناس سرّاً ويُؤْذيهم.
قال رؤبة بن العجاج :
في ظلِّ عَصْرَيْ باطلى ولمزي
وهذا البيت في أرجوزة له ، وجمعه : لمزات.
إيذاء العاص الرسول صلى اللّه عليه وسلم وما نزل فيه من قرآن :
قال ابن إسحاق : والعاص بن وائل السَّهْمي ، كان خَبَّاب بن الأرَتّ ، صاحبُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قيناً بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص ابن وائل سيوفاً عملها له حتى كان له مال ، فجاءه يتقاضاه فقال له يا خباب : أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضة، أو ثياب أو خدم ؟
قال خَباب : بلى.
قال : فأنظرنى إلى يوم القيامةِ يا خَباب ، حتى أرْجعَ إلى تلك الدار فأقضيَك هناك حقَّك ، فواللّه لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند اللّه مني ، ولا أعظم حظّاً في ذلك ؛
فأنزل اللّه تعالى فيه : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } [مريم: ٧٧،٧٨] ألى قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا }.[مريم: ٨٠]
ولقى أبو جهل بن هشام رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فيما بلغني -
فقال
له : واللّه يا محمدُ، لتتركنَّ سبَّ آلهتنا، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد.
فأنزل
اللّه تعالى فيه : { وَلَا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا
بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:
١٠٨] فذكر لي أن رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم كف عن سب
آلهتهم ، وجعل يدعوهم إلى اللّه.
إيذاء النضر الرسول : والنضر بن الحارث بن علقمة بن كَلدَة ابن عبد مناف بن عبد
الدار بن قُصي ، كان إذا جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسا، فدعا فيه إلى اللّه تعالى وتلا فيه القرآن وحذر
قريشاً ما أصاب الأممَ الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام ، فحدثهم عن رُستم
السنديد، وعن أسفنديار، وملوك فارس ، ثم يقول واللّه ما محمد بأحسن حديثا مني ، وما أحاديثُه إلا أساطير الأولين ،
اكتتبها كما اكتتبتها.
فأنزل
اللّه فيه : { وَقَالُوا
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.[الفرقان: ٥،٦] ونزل فيه : { إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.[القلم: ١٥] ونزل فيه : { وَيْلٌ
لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ
آيَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.[الجاثية: ٧،٨]
قال
ابن هشام : الأفاك : الكذاب. وفى كتاب اللّه تعالى : {
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللّه وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ} [الصافات:
١٥١،١٥٢]
وقال رؤبة :
ما
لامرئ أفَّك قولاً إفْكا
وهذا البيت في أرجوزة له.
قال
ابن إسحاق : وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوماً - فيما بلغني
مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضْر بن الحارث حتى
جلس معهم في المجلس ، وفى المجلس غيرُ واحد من رجال قريش، فتكلم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعرضَ له
النضرُ بنُ الحارث ، فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: ٩٨ـ١٠٠]
قال
ابن هشام : حصب جهنم : كل ما أوقدت به. قال ، أبو ذُؤيب
الهذلى، واسمه خوَيْلد بن خالد:
فأطفئ
ولا توقد ولاتكُ مُحصباً لنارِ العداةِ أن
تطيرَ شداتها
وهذا البيت في أبيات له. ويروى " ولاتك محضئاً ".
قال الشاعر: حضأت له ناري فأبصر ضوءَها وما كان لولا حضأةُ النارِ يهتدي ابن
الزبعرى وما قيل فيه :
قال
ابن اسحاق : ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأقبل عبداللّه بن الزبعرى السَّهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة
لعبداللّه بن الزبعرى : واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد
المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من
آلهتنا هذه حصب جهنم ؛ فقال عبداللّه بن الزبعرى : أما واللّه لو وجدته لخصَمته ، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من
دون اللّه في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيرا، والنصارى
تعبد عيسى ابن مريم عليهما السلام فعجب
الوليد، ومن كان معه في المجلس من قول عبداللّه بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج
وخاصم : فذُكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قول ابن الزبعرى : فقال رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم "كل من أحب أن يُعبد
من دون اللّه فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته
".
فأنزل
اللّه تعالى عليه في ذلك : {
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:
١٠١،١٠٢] أي عيسى ابن مريم ، وعزيزاً، ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان الذي
مضوا على طاعة اللّه ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه.
ونزل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة، وأنها بنات اللّه
: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ* لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.[الأنبياء:
٢٦،٢٧]. إلى قوله : { وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ
نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.[الأنبياء:
٢٩].
ونزل فيما ذكروا من أمر عيسى ابن مريم أنه يعبد من دون اللّه ، وعَجب الوليد ومن حضره
من حجته وخصومته : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ
مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: ٥٧]: أي يصدون عن أمرك بذلك من قولهم.
ثم ذكر عيسى ابن مريم
فقال
: { إِنْ هُوَ
إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ*
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ*
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} :[الزخرف:
٥٩ــ٦١] أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى، وإبراء
الأسقام ، فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول : { فَلَا
تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}.
الأخنس وما أنزل فيه : والأخنس بن شَريق بن عمرو بن وهب الثقفى، حليف بني زُهرة،
وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه ، فكان يصيبُ من رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم ، ويرد عليه ؛
فأنزل
اللّه تعالى: { وَلَا
تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}.[القلم: ١٠،١١].. إلى قوله تعالى : { زَنِيمٍ} ولم يقل : " زنيم
" لعيب في نسبه ، لأن اللّه لا يعيب أحداً بنسب ، ولكنه حقق بذلك نعتَه
ليُعرف. والزنيم :العديد للقوم. وقد قال الخَطِيم التميمىُّ في الجاهلية :
زنيمٌ
تداعاه الرجالً زيادةً كما زِيدَ في عرضِ
الأديمِ الأكارعُ
الوليد وما أنزل فيه : والوليد بن
المغيرة،
قال
:
أينْزل على محمد وأترَك وأنا كبير قريش وسيدُها! ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير
الثقفي سيد ثقيف ، ونحن عظيما القريتين !
فأنزل
اللّه
تعالى فيه ، فيما بلغني : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ
مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.[الزخرف: ٣١].. إلى قوله
تعالى: { مِمَّا يَجْمَعُونَ}.[الزخرف: ٣٢]
وأبي ابن خلف بن وهب بن حُذافة بن جُمَح ، وعقبة بن أبى
مُعيط ، وكانا متصافيين ، حَسَناً ما بينهما. فكان عقبة قد جلس إلى رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسمع منه ،
فبلغ ذلك أبَيا، فأتى عقبة
فقال
: ألم يبلغنى أنك جالستَ محمداً وسمعت منه !
قال
: وجهى من وجهك حرام أن أكلِّمَك - واستغلظ من
اليمين - إن أنت جلستَ إليه أو سمعت منه ، أو لم
تأته فتَتْفل في وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبي مُعيط لعنه اللّه
فأنزل
اللّه تعالى فيهما: { وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلًا}.[الفرقان:
٢٧] إلى قوله
تعالى : {
لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}.[الفرقان:
٢٩]
ومشى أبَىُّ بن خلف إلى رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم بعظم بالٍ قد ارْفَتَّ
فقال
: يا محمد، أنت تزعم أن اللّه يبعث هذا بعد ما
أرَمَّ ، ثم فتَّه بيده ، ثم نفخه في الريح نحوَ رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم: نعم أنا
أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإياك بعدما تكونان هكذا، ثم يدخلك اللّه النارَ.
فأنزل
اللّه تعالى فيه : { وَضَرَبَ
لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ
عَلِيمٌ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا
أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُون} [يس:
٧٨ـ٨٠]
سورة ( الكافرون ) وسبب نزولها : واعترض رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغنى - الأسودُ بنُ المطلب بن
أسَد ابن عبد العُزى، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي ،
وكانوا ذَوي أسنان في قومِهم ،
فقالوا: يا محمد، هلمَّ فلنعبد ما تعبدُ، وتعبد ما نعبد، فنشترك
نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظِّنا منه ،
وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد، كنت قد أخذت بحظِّك منه.
فأنزل
اللّه تعالى فيهما: { قُلْ
يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (٤) وَلَا
أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:
١ـ٦] أي إن كنتم لا تعبدون اللّه ، إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا
حاجة لي بذلك منكم لكم دينكم جميعاً، ولى دينى.
أبو جهل وما نزل فيه : وأبو جهل بن هشام ، لما ذكر اللّه عز وجل شجرةَ الزقوم تخويفاً بها لهم
قال
: يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي
يخوفكم بها محمد؟
قالوا: لا ؛
قال
:
عَجْوة يثرب بالزُّبد، واللّه لئن استمكنا منها لنتزقمنها
تزقما.
فأنزل
اللّه تعالى فيه : { إِنَّ
شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣)
طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ
يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:
٤٣ـ٤٦]: أي ليس كما يقول.
تفسير لفظ المهل :
قال
ابن هشام المهل : كل شىء أذبته ، من نحاس أو رصاص أو ما أشبه ذلك ، فيما أخبرني أبو عُبيدة. وبلغنا عن الحسن البصري أنه
قال
: كان عبداللّه بن مسعود واليا لعمر بن الخطاب
على بيت مال الكوفة، وأنه أمر يوماً بفضة فأذيبت ، فجعلت تَلَوَّنُ ألواناً،
فقال
: هل بالباب من أحد؟
قالوا: نعم ؛
قال
: فأدخلوهم ، فأدخلوا
فقال
: إن أدنى ما أنتم راءون شبها بالمهل لهذا. وقال
الشاعر:
يسقيه
ربى حميمَ المهلِ يجرعُه يشْوِي الوجوهَ فهو في بطنِه صَهِرُ
ويقال
:إن المهل : صديد الجسد.
وقال عبداللّه بن الزبير الأسدي :
فمن
عاش منهم عاش عبداً وِإن يمتْ ففي النارِ يُسقَى مهلها وصديدها
وهذا البيت في قصيدة له.
بلغنا أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه لما حُضر أمر بثوبين
لبيسين يغْسَلان فيُكَفن فيهما، فقالت عائشة: قد أغناك اللّه يا أبت عنهما، فاشترِي كفناً،
فقال
: إنما هي ساعة حتى يصير إلى المهل ، قال
الشاعر:
شابَ
بالماءِ منه مُهلاً كَريها ثم علَّ المتونَ
بعدَ النِّهالِ
قال
ابن إسحاق :
فأنزل
اللّه تعالى فيه : {
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ
إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:
٦٠]
ابن أم مكتوم والوليد وسورة عبس : ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه
صلى اللّه عليه وسلم يكلمه ، وقد طمع في
إسلامه ، فبينا هو في ذلك ، إذ مر به ابنُ أمِّ مكتوم الأعمى، فكلم رسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجعل
يستقرئه القرآنَ ، فشق ذلك منه على رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر
الوليد، وما طمع فيه من إسلامه. فلما أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه.
فأنزل
اللّه تعالى عليه فيه : { عَبَسَ
وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}.[عبس: ١،٢] إلى قوله
تعالى: { فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ* مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: ١٣،١٤] أي إنما بعثتك بشيراً ونذيرا، لم أخص بك أحداً، فلا تمنعْه ممن ابتغاه ، ولا
تتصدين به لمن لا يريده.
قال ابن إسحاق : وبلغ أصحابَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، الذين خرجوا إلى أرض الحبشة، إسلامُ اًهل مكة، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دَنَوْا من مكة، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً.
من عبد شمس : فكان ممن قدم عليه مكةَ منهم ، فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدراً ومن حبس عنه حتى فاته بدر وغيره ، ومن مات بمكة منهم من بنى عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي : عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، معه امراًته : رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة ابن عبد شمس ، وامرأته سَهلة بنت سُهَيْل.
ومن حلفائهم : عبداللّه بن جحش بن رئاب.
من نوفل : ومن بني نوفل بن عبد مناف : عُتبة بن غَزْوان ، حليف لهم ، من قيس عيلان.
من أسد: ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قُصى : الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
من عبد الدار: ومن بنى عبد الدار بن قصي : مُصْعَب بن عُمَير ابن هاشم بن عبد مناف ، وسُوَيْبط بن سعد بن حريملة.
من عبد: ومن بنى عبد بن قصى : طُلَيب بن وهب بن عبد.
من زهرة : ومن بني زهرة بن كلاب : عبدُ الرحمن بن عَوْف ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهرة. والمقداد بن عَمرو، حليف لهم ، وعبداللّه بن مسعود، حليف لهم.
من مخزوم : ومن بنى مخزوم بن يَقَظة : أبو سَلمة بن عبد الأسد ابن هلال بن عبداللّه بن عَمرو بن مخزوم ، معه امرأته : أم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وشمَّاس بن عثمان بن الشَّريد بن سُوَيد بن هَرْمِى بن عامر بن مخزوم. وسلمة بن هشام بن المغيرة، حبسه عمه بمكة، فلم يقدم إلا بعد بدر وأحد والخندق ، وعَيَّاش بن أبي ربيعة ابن المغيرة، هاجر معه إلى المدينة، ولحق به أخواه لأمه : أبو جهل ابن هشام ، والحارث بن هشام ، فرجعا به إلى مكة فحبساه بها حتى مضى بدر وأحد والخندق.
ومن حلفائهم : عمار بن ياسر، يُشَكُّ فيه أكان خرج إلى الحبشة
أم لا؟ ومُعَتِّب بن عوف بن عامر من خزاعة.
من جمح : ومن بنى جُمَح بن عَمرو بن هُصَيْص بن كعب : عثمان ابن مَظْعون بن حبيب بن وهْب بن حُذافة بن جُمَح. وابنه السائب ابن عثمان ، وقدامة بن مظعون ، وعبداللّه بن مظعون.
من سهم : ومن بني سهم بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب : خُنَيس ابن حذافة بن قيس بن عدي ، وهشام بن العاص بن وائل ، حبس بمكة بعد هجرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق.
من عدي : ومن بنى عدي بن كعب : عامر بن ربيعة، حليف لهم ، معه امرأته : ليلى بنت أبي حَثْمة بن حذافة بن غانم.
من عامر: ومن بنى عامر بن لؤي : عبداللّه بن مَخْرمَة بن عبد العُزى بن أبى قيس. وعبداللّه بن سُهَيْل بن عمرو، وكان حُبس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، حتى كان يوم بدر، فانحاز من المشركين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشهد معه بدراً، وأبو سَبْرة بن أبي رُهْم بن عبد العُزى، معه امرأته : أم كلثوم بنت سُهيل بن عمرو، والسكران بن عمرو بن عبد شمس ، معه امرأته : سَوْدة بنت زَمْعة ابن قيس ، مات بمكة قبل هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة، فخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على امرأته سَوْدة بنت زَمْعة.
ومن حلفائهم : سعد بن خولة.
من الحارث : ومن بنى الحارث بن فِهر: أبو عُبَيدة بن الجراح ، وهو عامر بن عبداللّه بن الجراح ، وعمرو بن الحارث بن زُهير بن أبى شداد، وسُهَيل بن بيضاء، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال ، وعمرو بن أبي سَرْح بن ربيعة بن هلال.
فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.
من دخل مكة بجوار من مهاجري الحبشة : فكان من دخل منهم بجوار، فيمن سُمي لنا: عثمان بن مظعون بن حبيب الجُمحى، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم ، دخل بجوار من أبى طالب بن عبد المطلب وكان خاله. وأم أبي سلمة : بُرَّة بنت عبد المطلب.
عثمان بن مظعون يرد جوار ،الوليد:
قال ابن إسحاق : فأما عثمانُ بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان ،
قال : لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة،
قال : واللّه إن غُدُوِّي ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابي وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى في اللّه ما لا يصيبني ، لنقصٌ كبير فيِ نفسي. فمشى إلى الوليد بن المغيرة، فقال له يا أبا عبد شمس ، وفتْ ذمتُك ، قد رددتُ إليك جوارَك ،
فقال له : يا بن أخى لعله آذاك أحد من قومي ؟
قال : لا ولكني أرضى بجوار اللّه ، ولا أريد أن أستجير بغيره ؟
قال : فانطلق إلى المسجد، فاردد علىَّ جواري علانيةً كما أجرتُك علانية.
قال : فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردَّ علىّ جواري ،
قال : صدق ، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكنى قد أحببت أن لا أستجير بغير اللّه ، فقد رددت عليه جوارَه ، ثم انصرف عثمان ، ولبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد:
* ألا كل شيءٍ ما خلا اللّه باطلُ *
قال عثمان : صدقت. قال لبيد:
" وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ "
قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش، واللّه ما كان يُؤذَى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله ، فرد عليه عثمان حتى شَرِيَ أمرُهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينَه فخضَّرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ،
فقال : أما واللّه يابن أخي كانت عينُك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمةٍ منيعة.
قال : يقول عثمان : بل واللّه إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في اللّه ، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس ، فقال له الوليد: هلم يابن أخى، إن شئت فعد إلى جوارك ،
فقال : لا.
أبو سلمة في جوار أبي طالب :
قال ابن إسحاق :
وأما أبو سَلَمة بن عبد الأسد، فحدثنى أبى : إسحاقُ بن يَسار عن سَلمة بن عبداللّه بن عمر بن أبى سلمة أنه حدثه : أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب ، مشى إليه رجال من بنى مخزوم ،
فقالوا: يا أبا طالب ، لقد منعتَ منا ابنَ أخيك محمداً، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟
قال : إنه استجار بى، وهو ابن أختي ، وإن أنا لم أمنع ابنَ أختي لم أمنع ابنَ أخى، فقام أبو لهب
فقال : يا معشر قريش ، واللّه لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه في جوارِه من بين قومه ، واللّه لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كلِّ ما قام فيه ، حتى يبلغ ما أراد.
قال :
فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبةَ، وكان لهم وليا وناصرا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأبقوا على ذلك ، فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو طالب يحرِّض أبا لهب على نُصرتِه ونصرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
وإن امرأً أبو عُتَيْبة عَمُّــــه لفي روضةٍ ما إن يُسامُ المَظالمَا
أقول له ، وأين منه نصيحتــي أبا مُعْتب ثبتْ سوادَك قائمَا
ولا تقبلنَّ الدهرَ ما عشتَ خُطـةً تُسَب بها إما هَبطت المواسما
وولِّ سبيلَ العجزِ غيرَك منهــمُ فإنك لم تُخلَقْ على العجزِ لازما
وحاربْ فإن الحربَ نُصْف وما ترى أخا الحربِ يُعطى الخسْفَ حتى يُسالما
وكيف ولم يَجْنُوا عليكَ عظيمـةً ولم يخذلوك غانماً أو مُغارِما
جزى اللّه عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفـلاً وتَيْماً ومخزوماً عُقوقا ومأثما
بتفريقِهم من بعدِ وُد وألفَـــةٍ جماعتنا كيما ينالوا المحارِما
كذبتم وبيتِ اللّه نُبزَى محمداً ولما تَرَوْا يوماً لدى الشِّعْب قائما
قال ابن هشام : نبزى : نسلب.
قال ابن هشام : وبقى منها بيت تركناه.
دخول أبى بكر في جوار ابن الدغنة ثم رده عليه :
قال ابن إسحاق :
وقد كان أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، كما حدثني محمد بن مُسلم الزهري عن عُروة عن عائشة رضى اللّه عنهما، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ما رأى، استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الهجرة فأذن له ، فخرج أبو بكر مهاجراً، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين ، لقيه ابن الدُّغُنَّة، أخو بني عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش.
قال ابن إسحاق : والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، والهون بن خُزيمة بن مُدركة، وبنو المصطلق من خزاعة.
قال ابن هشام : تحالفوا جميعاً، فسُموا الأحابيش للحلف.
ويقال : ابن الدّغينة.
قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عروة، عن عائشة رضى اللّه عنها
قالت : فقال ابن الدُّغُنة: أين يا أبا بكر؟
قال : أخرجني قومى وآذونى، وضيقوا عليَّ ،
قال : ولمَ ؟ فواللّه إنك لتَزين العشيرة، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف ، وتُكعبِ المعدوم ، ارجع فأنت في جواري. فرجع معه ، حتى إذا دخل مكة، قام ابن الدُّغنة
فقال : يا معشر قريش؛ إني قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرضنَّ له أحد إلا لِخير.
قالت : فكفوا عنه.
قالت : وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح ، فكان يصلى فيه ، وكان رجلا رقيقا؟ إذا قرأ القرآن استبكى.
قالت : فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء، يعجبون لما يرَوْن من هيئته.
قالت : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدُّغنَّة،
فقالوا: يابن الدغنة، إنك تُجِيرُ هذا الرجل ليؤذيَنا! إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكى؛ وكانت له هيئة ونحو؛ فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ؛ فأته فمرْه أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء.
قالت : فمشى ابن الدغنة إليه؛
فقال له : يا أبا بكر؛ إني لم أجرْك لتؤذي قومَك ؛ إنهم قد كرهوا مكانَك الذي أنت فيه وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك ، فاصنع فيه ما أحببت
قال : أوَأرد عليك جوارَك وأرضى بجوار اللّه ؟ قال فارددْ علىَّ جواري ؛
قال : قد رددته عليك قالت. فقام ابن الدُّغنَّة، فقال ، يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد ردَّ عليَّ جواري فشأنكم بصاحبكم.
قال ابن إسحاق : وحدثنى عبدُ الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم ابن محمد،
قال : لقيه سفيه من سفهاء قريش، وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً.
قال : فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة، أو العاص بن وائل.
قال : فقال أبو بكر: ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه ؟
قال : أنت فعلتَ ذلك بنفسك.
قال : وهو يقول : أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك ! أي رب ، ما أحلمك !.