قدومه على الرسول ومدحه

قال ابن هشام : حدثني خلاد ابن قُرَّة بن خالد السُّدوسى وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم : أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة بن عُكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، خرج إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الإسلام ، فقال يمدح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

ألم تغتمضْ عيناك ليلةَ أرمدَا  وبِتَّ كما بات السليمُ مُسهَّدَا
وما ذاك من عشقِ النساءِ وإنما   تناسيتَ قبلَ اليوم خلةَ مهدداَ
ولكن أرى الدهرَ الذي هو خائن   إذا أصلحتْ كفاى عاد فأفسدَا
كُهولاً وشبانا فقدت وثـــروة   فللّه هذا الدهرُ كيف ترددَا
وما زلت أبغي المالَ مذ أنا يافع   وليداً وكهلاً حين شبتُ وأمْردَا
وأبتذلُ العِيسَ المراقيلَ تُغْتلـي   مسافةَ ما بينَ النُّجَيْر فصَرْخَدا

ألا أيهذا السائلى أين يَمَّمـــتْ  فإن لها في أهلِ يثربَ مَوْعدَا
فإن تسألي عني فيا رُبّ سائــلٍ   حَفِى عن الأعشى به حيثُ أصعدا
أجدَّتْ برجليها النجاءَ وراجعـتْ   يداها خِنافاً ليناً غيرَ أحْردَا
[١]
وفيها إذا ما هجَّرَت عَجْرَفِيَّــة   إذا خِلْتَ حَرْباءَ الظهيرةِ أصْيدَا
[٢]
فآليتُ لا أرثى لها من كُلالــةٍ  ولا من حَفًى حتى تُلاقي محمدَا
[٣]
متى ما تُنَاخِي عندَ بابِ ابنَ هاشم   تُراحي وتَلْقَى من فواضلِه نَدَى
نبيُّا يرى ما لا تروْن وذِكْــرُه   أغار لَعَمْرِي في البلادِ وأنْجدَا
[٤]
له صدقات ما تغِبُّ ونائِـــل   وليس عطاءُ اليومِ مانعَه غدَا
[٥]
أجِدُّك لم تسمعْ وَصَاةَ محمــدٍ   نبىِّ الإِلهِ حيثُ أوْصَى وأشْهدَا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقَى   وِلاقيْتَ بعدَ الموتِ من قَد تَزَوَّدَا
ندمتَ على أن لا تكونَ كمثلِـه   فتُرْصِدُ للموتِ الذي كان أرْصَدا
فإياك والميتَاتِ لا تقربنَّهــــا   ولا تأخذَنْ سهماً حديداً لتُفْصِدَا
ولا النَّصَب المنصوب لا تنسكُنَّه   ولا تعبد الأوثانَ واللّه فاعبدا
ولا تَقْرَبنْ حُرَّةً كان سِرُّهـــا   عليك حراماً فانْكَحَنْ
أو تأبدَا
وذا الرحِمِ القُرْبَى فلا تَقْطعَنَّـه   لعاقبةٍ ولا الأسير المقيَّدَا
وسبِّح علِى حينِ العشياتِ والضُّحَى   ولا تَحْمَدِ الشيطانَ واللّه فاحمدَا
ولاتسْخرَنْ من بائسٍ ذي ضَرارَةٍ   ولا تحسَبَنَّ المالَ للمرءِ مُخلِدَا

نهاية الأعشى

فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعضُ المشركين من قريش ، فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليسلم ،

فقال له : يا أبا بصير، إنه يحرِّم الزنا، فقال الأعشى: واللّه إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرَب ،

فقال له : يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فواللّه إن في النفس منها لعُلالات ، ولكنى منصرف فأتروَّى منها عامى هذا، ثم آتيه فأسْلم[٦] ، فانصرف فمات في عامه ذلك ، ولم يَعُدْ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

----------------------------------------------------------------------------

[١] لينا غير أحردا. أي : تفعل ذلك من غير حرد في يديها. أي اعوجاج. وقيل الأحرد: الذي يبطئ في السير.
والنجاء: ضرب من السرعة. والخناف : لوي يديها في السير نشاطا.

[٢] هجرت : مشت في الهاجرة وهي الظهيرة. والعجرفية : التي لا تهاب شيئا. والحرباء: دويبة يدور وجهها مع الشمس كيفما دارت ، كانت في وسط السماء في أول الزوال. والاًصيد: المائل العنق.

[٣] أرثى : أشفق.

[٤] " أغار لعمرى في البلاد وأنجدا ": المعروف في اللغة : غار وأنجد، وقد أنشد هذا البيت : " لعمري غار في البلاد وأنجدا ". والغور: ما انخفض من الأرض ، والنجد: ما ارتفع منها، وإنما تركوا القياس في الغور، ولم يأت على أفعل إلا قليلا، وكان
قياسه أن يكون مثل أنجد، لأنه من أم الغور، فقد هبط ونزل ، فصار من باب غار الماء، ونحو ذلك.

[٥] وليس عطاء اليوم مانعه غدا: معناه على " رفع " العطاء "ونصب " مانع ، أي : ليس العطاء الذي يعطيه اليوم مانعاً له غدا من أن يعطيه ، فالهاء عائدة على الممدوح ،فلو كانت عائدة على العطاء لقال : وليس عطاء اليوم مانعه هو، بإبراز ضمير الفاعل ،
لأن الصلة إذا جرت على غير من هي له برز الضمير المستتر بخلاف الفعل ، ولو نصب على هذا مضمراً فيها عائدأ على النبي صلى اللّه عليه وسلم العطاء لجاز على إضمار الفعل المتروك إظهاره ، لأنه من باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره ، ويكون اسم ليس.

[٦] قال السهيلي : وهذه غفلة من ابن هشام ، ومن قال بقوله: فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضت بدر وأحد، وحرمت في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل؛ وفي الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها، وغنته القينتان * ألا يا حمز، للشرف النواء * فبقر خواصر الشارفين ، واجتب سنميهما.
فإن صح خبر الاًعشى، وما ذكر له في الخمر، فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له : أما علمت اًنه جرم الخمر، من المنافقين ، أو من اليهود، فاللّه أعلم. وفي القصيدة ما يدل على هذا قوله "فإن لها في أهل يثرب موعدا * وقد ألفيت للقالي رواية عن أبي عبيدة قال : لقي الأعشى عامر بن الطفيل في بلاد قيس ، وهو مقبل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر له أنه يحرم الخمر، فرجع ، فهذا أولى بالصواب.