ثم غزوة الطائف، وهى بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه.
وقيل: إن أصلها أن جبريل- عليه
__________
(١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٣٧- ٥٤٣) ، والطبرى فى (تاريخه) (٣/ ١٤٠) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٣/ ٦٥٢- ٦٦٦) ، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٤٩٥- ٥٠٢) .
الصلاة والسلام- اقتلع الجنة التى كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمى الموضع بها.
وكانت أولا بنواحى صنعاء. واسم الأرض: وج، بتشديد الجيم المضمومة.
وسار إليها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فى شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين وحبس الغنائم بالجعرانة.
وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن دخلوا فيه ما يصلحهم لسنة. وتهيئوا للقتال.
وسار- صلى اللّه عليه وسلم- فمر بطريقة بقبر أبى رغال، وهو أبو ثقيف- فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب (١) .
ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك. فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد (٢) ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد اللّه بن أبى أمية. ورمى عبد اللّه بن أبى بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل ثم نقض بعد ذلك فمات منه فى خلافة أبيه.
وارتفع- صلى اللّه عليه وسلم- إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين. وكان يصلى بين القبتين حصار الطائف كله.
فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال خمسة عشر يوما. ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمى به فى الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسى معه لما رجع من سرية ذى الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر- صلى اللّه عليه وسلم- بقطع أعنابهم وتحريقها. فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها للّه وللرحم، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنى للّه وللرحم) (٣) .
__________
(١) أخرجه أبو داود (٣٠٨٨) فى الخراج والإمارة والفىء، باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، من حديث عبد اللّه بن عمرو- رضى اللّه عنهما- .
(٢) الرّجل: بالكسر، الجراد الكثير.
(٣) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٠) .
ثم نادى مناديه- صلى اللّه عليه وسلم-: أيما عبد نزل من الحصين وخرج إلينا فهو حر.
قال الدمياطى: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاى: ثلاثة وعشرون عبدا.
وفى البخارى عن أبى عثمان النهدى
قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ...
قال عاصم: (لقد شهد عندك رجلان ... أما أحدهما فأول من رمى بسهم فى سبيل اللّه، وأما الآخر فنزل إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف) (١) الحديث.
وأعتق- صلى اللّه عليه وسلم- من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة.
ولم يؤذن له- صلى اللّه عليه وسلم- فى فتح الطائف. وأمر عمر بن الخطاب فأذن فى الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: فاغدوا على القتال، فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: إنا قافلون إن شاء اللّه تعالى فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يضحك.
قال النووى: قصد- صلى اللّه عليه وسلم- الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه- صلى اللّه عليه وسلم- علم أولا، أو رجا أنه سيفتحه بعد ذلك بلا مشقة. فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد فيه القتال حتى أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا ممن المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك- صلى اللّه عليه وسلم- تعجبا من تغير رأيهم.
وفقئت عين أبى سفيان صخر بن حرب يومئذ، فذكر ابن سعد أن النبى صلى اللّه عليه وسلم- قال له وهى فى يده: (أيما أحب إليك عين فى الجنة أو أدعو اللّه أن يردها عليك)
قال: بل عين فى الجنة ورمى بها.
__________
(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٢٧) فى المغازى، باب: غزوة الطائف.
وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الآخرى يومئذ. ذكره الحافظ زين الدين العراقى فى شرح التقريب.
وقال- صلى اللّه عليه وسلم- لأصحابه: قولوا: (لا إله إلا اللّه وحده، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) .
فلما ارتحلوا
قال: (آيبون، تائبون عابدون، لربنا حامدون) (١) .
فانظر كيف كان- صلى اللّه عليه وسلم- إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع يتعرى من ذلك ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق اللّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) (٢) .
وانظر إلى قوله- صلى اللّه عليه وسلم-: (وهزم الأحزاب وحده) فنفى- صلى اللّه عليه وسلم- ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة، لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو للّه سبحانه وتعالى الذى خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل،
قال تعالى: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّه لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ (٣) فيثبت سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين،
قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٤) .
فعلى المكلف الامتثال فى الحالتين، أى: امتثال تعاطى الأسباب،
__________
(١) أخرجه بنحوه البخارى (١٧٩٧) فى العمرة، باب: ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، ومسلم (١٣٤٤) فى الحج، باب: ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما-.
(٢) صحيح: انظر ما قبله.
(٣) سورة محمد: ٤.
(٤) سورة محمد: ٣١.
والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان- صلى اللّه عليه وسلم- يأتى الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر اللّه تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التى ادخرها له- عليه الصلاة والسلام-.
قال ابن الحاج فى المدخل: ولما قيل له: يا رسول اللّه، ادع على ثقيف.
فقال:
( اللّهم اهد ثقيفا وائت بهم) (١) .
وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أمر أن يجمع السبى والغنائم مما أفاء اللّه على رسوله يوم حنين فجمع ذلك كله إلى الجعرانة، فكان بها إلى أن انصرف- عليه السّلام- من الطائف.
وكان السبى ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة.
واستأنى- صلى اللّه عليه وسلم-- أى انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة. ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها.
وفى البخارى: وطفق- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى رجالا المائة من الإبل. فقال ناس من الأنصار يغفر اللّه لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟!
قال أنس: فحدث رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم فى قبة من آدم، ثم قال لهم: (أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبى إلى رحالكم؟! فو اللّه لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به) ، قالوا: يا رسول اللّه قد رضينا (٢) .
وعن جبير بن مطعم
قال: بينما أنا مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- ومعه الناس مقفله
__________
(١) أخرجه الترمذى (٣٩٤٢) فى المناقب، باب: فى ثقيف وبنى حنيفة من حديث أبى الزبير عن جابر- رضى اللّه عنه- .
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣١٤٧) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (١٠٥٩) فى الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه.
من حنين، علقت برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف- صلى اللّه عليه وسلم- ف
قال: (أعطونى ردائى، فلو كان لى عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا) (١) . ورواه مسلم.
وذكر محمد بن سعد كاتب الواقدى عن ابن عباس أنه
قال: لما قدم رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها وذلك لليلتين بقيتا من شوال.
قال ابن سيد الناس وهذا .....، والمعروف عند أهل السير أن النبى صلى اللّه عليه وسلم- انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذى القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة.
وفى تاريخ الأزرفى أنه- صلى اللّه عليه وسلم- أحرم من وراء الوادى، حيث الحجارة المنصوبة.
وعند الواقدى: من المسجد الأقصى الذى تحت الوادى بالعدوة القصوى من الجعرانة. وكانت صلاته- عليه الصلاة والسلام- إذ كان الجعرانة به.
والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهى. وقال الباجى:
ثمانية عشر ميلا، وسمى بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلى.
قالوا: وقدم- صلى اللّه عليه وسلم- المدينة وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما.
وبعث- صلى اللّه عليه وسلم- قيس بن سعد بن عبادة (٢) إلى ناحية اليمن فى أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم فى الطرق.
فقدم زياد بن الحارث الصدائى، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، ف
قال:
__________
(١) قلت: بل هو عند البخارى برقم (٣١٤٨) فى فرض الخمس، باب: ما كان النبى- صلى اللّه عليه وسلم- يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.
(٢) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (١/ ٢٤٧) .
يا رسول اللّه أنا ولفدهم، فاردد الجيش، وأنا لك بقومى، فردهم النبى صلى اللّه عليه وسلم- من قناة.
وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا. وتأتى قصة وفدهم فى الفصل العاشر من المقصد الثانى- إن شاء اللّه تعالى-.
وبعث عيينة بن حصن الفزارى (١) إلى بنى تميم بالسقيا- وهى أرض بنى تميم- فى المحرم سنة تسع فى خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجرى ولا أنصارى.
فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم فى صحراء، فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولّوا، فأخذوا منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا فى المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيّا.
فقدم منهم عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس، فجاؤا إلى باب النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج- صلى اللّه عليه وسلم- وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا برسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر. ثم جلس فى صحن المسجد.
فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب. فأمر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم.
ونزل فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ (٢) . ورد عليهم صلى اللّه عليه وسلم- الأسرى والسبى (٣) .
وفى البخارى: عن عبد اللّه بن الزبير: أنه قدم ركب من بنى تميم على النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافى. قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل فى ذلك: يا أَيُّهَا
__________
(١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢١) .
(٢) سورة الحجرات: ٤.
(٣) أخرجه البيهقى فى (دلائل النبوة) (٥/ ٣١٣- ٣١٤) .
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّه وَرَسُولِهِ.... (١) حتى انقضت (٢) . أى لا تقدموا القضاء فى أمر قبل أن يحكم اللّه ورسوله فيه.
ولما نزل لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ (٣) أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدى رسول اللّه إلا كمن يسارر صاحبه، فنزل فيه وفى أمثاله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّه (٤) الآية.
ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق من خزاعة يصدقهم، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية. وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون رجلا يتلقونه بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما للّه ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله.
فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أنهم لقوة بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة.
فهمّ- صلى اللّه عليه وسلم- أن يبعث إليهم من يغزوهم. وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد، فأخبروا النبى- صلى اللّه عليه وسلم- الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ... (٥) . إلى آخر الآية، فقرأ عليهم- صلى اللّه عليه وسلم- القرآن. وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن.
وفى (شرف المصطفى) للنيسابورى، مما ذكره مغلطاى أنه- عليه الصلاة والسلام- بعث عبد اللّه بن عوسجة إلى بنى عمرو بن حارثة، وقيل حارثة بن عمر-
قال: وهو الأصح- فى مستهل صفر يدعوهم إلى الإسلام فأبوا أن يجيبوا بالصحيفة فدعا عليهم- صلى اللّه عليه وسلم- بذهاب العقل، فهم إلى أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط.
__________
(١) سورة الحجرات: ١.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٦٧) فى المغازى، باب: رقم (٦٨) .
(٣) سورة الحجرات: ٢.
(٤) سورة الحجرات: ٣.
(٥) سورة الحجرات: ٦.
ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم (١) ، من تربة- بفتح الراء- من أعمال مكة سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا، وأمره أن يشن الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى فى الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة. وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس.
ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابى إلى بنى كلاب (٢) ، فى ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم وغنموهم.
ثم سرية علقمة بن مجرز المدلجى إلى طائفة من الحبشة (٣) فى ربيع الآخر، وقال الحاكم فى صفر سنة تسع.
وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه- صلى اللّه عليه وسلم- أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل جدة، فبعث إليهم بن مجزز فى ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة فى البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا.
فلما رجع، بعض القوم ألى أهليهم، فأمر عبد اللّه بن حداقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال عزمت عليكم إلا تواثبتم فى هذه النار، فلما همّ بعضهم بذلك
قال:
اجلسوا، إنما كنت أمزح.
فذكروا ذلك للنبى- صلى اللّه عليه وسلم- ف
قال: من أمركم بمعصية فلا تطيعوه. ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبى سعيد الخدرى.
وبوب عليه البخارى ف
قال: سرية عبد اللّه بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزز المدلجى، وي
قال: إنها سرية الأنصارى. ثم روى حديثا عن على
قال:
__________
(١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٢) .
(٢) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٣) .
(٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٣) .
بعث النبى- صلى اللّه عليه وسلم- سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار. وأمرهم أن يطيعوه، فغضب
فقال: أليس قد أمركم النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أن تطيعونى؟ قالوا: بلى،
قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا،
فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها،
فقال: ادخلوا، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا يقولون: فررنا إلى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبى- صلى اللّه عليه وسلم-
فقال:
(لو دخلوها ما خرجوا منها) (١) .
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: فى قوله: (ويقال إنها سرية الأنصارى) إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما. ويحتمل الجمع بينها بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد اللّه بن حذافة السهمى القريشى المهاجرى بكونه أنصاريّا. ويحتمل أن يكون الحمل على المعنى الأعم، أى أنه نصر رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الجملة. وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزى
فقال: قوله (من الأنصار) وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمى.
قال فى فتح البارى: ويؤيد حديث ابن عباس عند أحمد، فى قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (٢) .
نزلت فى عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدى، بعثه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى سرية. انتهى.
وقال النووى: وهذا الذى فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم،
وقيل: كان مازحا،
وقيل: إن هذا الرجل عبد اللّه بن حذافة السهمى،
قال: وهذا ..... لأنه قال فى الرواية التى بعدها إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. انتهى.
ثم سرية على بن أبى طالب إلى الفلس (٣) - بضم الفاء وسكون اللام-
__________
(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٣٤٠) فى المغازى، باب: سرية عبد اللّه بن حذافة السهمى وعلقمة بن مجزر المدلجى، ومسلم (١٨٤٠) فى الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى المعصية.
(٢) سورة النساء: ٥٩.
(٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٤) .
وهو صنم طيىء ليهدمه، فى ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا- وعند ابن سعد: مائتى رجل- فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء.
وكان فى السبى سفانة بنت حاتم، أخت عدى بن حاتم، فأطلقها النبى صلى اللّه عليه وسلم-، فكان ذلك سبب إسلام عدى.
وعند ابن سعد أيضا: أن الذى كان سباها خالد بن الوليد- رضى اللّه عنه-.
ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب (١) - موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلى، وقيل أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة.
قصة كعب بن زهير مع النبى- صلى اللّه عليه وسلم- (٢) ، وكانت فيما بين رجوعه صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف وغزوة تبوك.
وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القاسم بن يسار بن الأنبارى، دخل حديث بعضهم فى حديث البعض: أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتى هذا الرجل- يعنى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجيرا، فأتى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسمع كلامه فامن به..
وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه- صلى اللّه عليه وسلم-، ورأى زهير فى منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله، ففاته فأوله بالنبى الذى يبعث فى آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا.
قال ابن إسحاق: ولما قدم- صلى اللّه عليه وسلم- من الطائف، كتب بجيرا بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقى من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل
__________
(١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٤) .
(٢) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٠١- ٥١٥) .
وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن كنت لم تفعل فانج إلى نجائك.
وكان كعب قد
قال: ألا بلغا عنى بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أى شىء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقى عليه أخا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست باسف ... ولا قائل إما عثرت لعا لكا
سقاك بها المأمون كأسا رويّة ... فأنهلك المأمون منها وعلّكا (١)
قال السهيلى: (لعا) كلمة تقال للعاثر دعاء له. انتهى.
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأنشده إياها. فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: سقاك بها المأمون. صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون.. ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه،
قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه. ثم قال- عليه الصلاة والسلام-: من لقى منكم بن زهير فليقتله.. فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات:
من مبلغ كعبا فهل لك فى التى ... تلوم عليها باطلا وهى أحزم
إلى اللّه لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شىء دينه ... ودين أبى سلمى على محرم
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه ف
قال: هو مقتول. فلما لم يجد من شىء بدا، قال قصيدته التى يمدح بها رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه.
__________
(١) كأسا روية: أى مروية، والنّهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثانى، والمأمون: يقصد النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما كانت تسميه به قريش الصادق الأمين.
ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ف
قال: هذا رسول اللّه فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فوضع يده فى يده- وكان رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يعرفه- ف
قال: يا رسول اللّه، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم-: (نعم)
قال: أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة: أنه وثب عليه رجل من الأنصار و
قال: يا رسول اللّه دعنى وعدو اللّه أضرب عنقه. فقال صلى اللّه عليه وسلم-: (دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا) (١) .
قال: فغضب كعب على هذا الحى من الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. ثم قال قصيدته اللامية التى أولها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
ومنها:
أنبئت أن رسول اللّه أوعدنى ... والعفو عند رسول اللّه مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن ولو كثرت فى الأقاويل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف اللّه مسلول
فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
وفى رواية أبى بكر بن الأنبارى أنه لما وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف اللّه مسلول
رمى- عليه الصلاة والسلام- إليه بردة كانت عليه. وأن معاوية بذل
__________
(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك) (٣/ ٦٧٤) ، والطبرانى فى (الكبير) (١٩/ ١٧٦) ، وهو منقول هذا الكلام بتمامه من (زاد المعاد) لابن القيم (٣/ ٥٢٠- ٥٢٦) .
فيها عشرة آلاف
فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم.
قال: وهى البردة التى عند السلاطين إلى اليوم.
قال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: (إذا عرد السود التنابيل) وإنما عنى معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته فغضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم- يمدح الأنصار- قصيدته التى يقول فيها:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالحى الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيارهم بنو الأخيار
المكرهين السمهرى بأدرع ... كسوالف الهندى غير قصار
والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى
وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة.