ثم حجة أبى بكر الصديق- رضى اللّه عنه- بالناس، سنة تسع فى ذى القعدة،
كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد،
ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم فى الإكليل.
وقال قوم فى ذى الحجة، وبه قال
الداودى والثعلبى والماوردى. ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- أقام بعد ما رجع من تبوك رمضان
وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر فى أن بعث أبى بكر كان
بعد انسلاخ ذى القعدة، فيكون حجه فى ذى الحجة على هذا واللّه أعلم.
وكان مع أبى بكر ثلاثمائة رجل من
المدينة، وعشرون بدنة.
وفى البخارى ومسلم، عن أبى هريرة: أن أبا بكر بعثه فى الحجة التى
أمره رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- قبل حجة الوداع فى رهط يؤذن فى
الناس يوم النحر:
ألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف
بالبيت عريان (٢) .
ثم أردف النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بعلى بن أبى طالب، وأمره أن يؤذن
ببراءة، فأذن معلنا فى أهل منى ببراءة، وألايحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
عريان.
قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس فى ذلك العام فلم يحج فى العام
القابل الذى حج فيه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع مشرك. فأنزل اللّه فى العام
__________
(١) انظرها فى (السيرة النبوية) لابن هشام (٢/ ٥٤٣-
٥٤٨) ، وابن سعد فى (طبقاته) (٢/ ١٦٨- ١٦٩) ، وابن كثير فى (البداية والنهاية) (٤/ ٦٨- ٧٥)
، وابن القيم فى (زاد المعاد) (٣/ ٥٩٣-
٥٩٥) ، والزرقانى فى (شرح المواهب) (٣/ ٨٩- ٩٤) .
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٦٢٢) فى الحج، باب: لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج
مشرك، ومسلم (١٣٤٧)
فى الحج، باب: لا يحج البيت مشرك ولا يطوف
بالبيت عريان.
الذى نبذ فيه أبو بكر إلى
المشركين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ
عامِهِمْ هذا (١) الآية.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على
نجاسة المشرك كما فى الصحيح (المؤمن لا ينجس) وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات،
وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا .....، لأن أعيانهم لو كانت نجسة
كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا ستوى فى النهى عن دخول المشركين المسجد
الحرام وغيره من المساجد. فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر وخبث الباطن
بالعداوة قاله مقاتل.
وروى النسائى عن جابر أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا
بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب للصبح فلما استوى للتكبير سمع
الرغوة خلف ظهره فوقف عن التكبير ف
قال: هذه رغوة ناقة رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الجدعاء، لقد بدا لرسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فى الحج، فلعله أن يكون رسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فنصلى معه، فإذا على عليها، فقال
له أبو بكر أمير أم رسول،
قال: لا بل رسول، أرسلنى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- ببراءة أقرؤها على الناس فى مواقف
الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن
مناسكهم، حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر،
فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما
فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم
كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة
حتى ختمها (٢) .
__________
(١) سورة التوبة: ٢٨.
(٢) أخرجه النسائى (٥/ ٢٤٧)
فى المناسك، باب: الخطبة قبل يوم التروية، وفى (الكبرى) (٣٩٨٤) ، والدارمى فى (سننه) (١٩١٥) ، وابن حبان فى (صحيحه) (٦٦٤٥) .
وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن
أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر- رضى اللّه عنه- فإنما كان سنة تسع.
واستدل بهذه القصة على أن فرض
الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث فى ذلك كثيرة شهيرة.
وذهب جماعة إلى أن حج أبى بكر هذا
لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه.
وفى هذه السنة أيضا مات عبد اللّه
بن أبى ابن سلول، فجاء ابنه إلى رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه
أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلى عليه، فقام ليصلى
عليه، فقام عمر- رضى اللّه عنه- فأخذ بثوب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-
فقال: يا رسول اللّه تصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه،
فقال- صلى اللّه عليه وسلم-: (إنما خيرنى اللّه عز وجل)
قال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ (١) . وسأزيد على السبعين
قال: إنه منافق.
فصلى عليه رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فأنزل اللّه- عز وجل-: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ
مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه
وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٢) (٣) . رواه الشيخان والنسائى.
وفى هذه السنة أيضا آلى رسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من نسائه شهرا. وجحش شقه- أى خدش- وجلس فى مشربة له درجها من جذوع،
فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم
قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما،
وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع.
__________
(١) سورة التوبة: ٨٠.
(٢) سورة التوبة: ٨٤.
(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٢٦٩) فى الجنائز، باب: الكفن فى القميص، ومسلم (٢٤٠٠) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر- رضى اللّه عنه-.
ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول اللّه إنك آليت شهرا، ف
قال: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين) (١) .
ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن
قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان،
ثم قالوا: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) (٢) . وقال لمعاذ: (إنك ستأتى قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن
يشهدوا ألاإله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن
اللّه قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن اللّه قد فرض عليهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم
أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللّه حجاب) (٣) . رواه البخارى.
والمخلاف: - بكسر الميم وسكون
المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق.
وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب
عدن، وكان من عمله الجند- بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبى
موسى السفلى.
ثم أرسل خالد بن الوليد (٤) قبل حجة الوداع أيضا، فى ربيع الأول سنة
__________
(١) صحيح: أخرجه البخارى (١٩١١) فى الصوم، باب: قول النبى- صلى اللّه عليه وسلم-: (إذا رأيتم الهلال فصوموا) ، من حديث أنس- رضى اللّه عنه-، وهو عند مسلم (١٠٨٣) فى الصيام، باب: الشهر يكون تسعا وعشرين من حديث عائشة- رضى اللّه عنهما-، و (١٠٨٤) من حديث جابر- رضى اللّه عنه-.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٠٣٨) فى الجهاد والسير، باب: ما يكره من التنازع والاختلاف فى
الحرب، ومسلم (١٧٣٣)
فى الجهاد والسير، باب: فى الأمر بالتيسير وترك التنفير،
من حديث أبى موسى الأشعرى- رضى اللّه عنه-.
(٣) صحيح: أخرجه البخارى (١٤٩٦) فى الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد فى
الفقراء حيث كانوا، من حديث ابن عباس- رضى اللّه عنهما-.
(٤) انظر: (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٨) .
عشر- وفى الإكليل: فى ربيع الآخر،
وقيل: فى جمادى الأولى- إلى بنى عبد المدن بنجران فأسلموا.
ثم أرسل على بن أبى طالب إلى
اليمن (١) فى شهر رمضان سنة عشر من الهجرة،
وعقد له لواء وعممه بيده.
وأخرج أبو داود وأحمد والترمذى من حديث على
قال: بعثنى النبى صلى اللّه عليه وسلم- إلى اليمن فقلت: يا رسول اللّه تبعثنى إلى قوم أسن
منى وأنا حديث السن لا أبصر القضاء.
قال: فوضع يده فى صدرى و
قال: ( اللّهم ثبت لسانه واهد قلبه) ،
و قال: (يا على إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع
من الآخر) (٢) . الحديث.
فخرج فى ثلاثمائة، ففرق أصحابه
فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك. ثم لقى جمعهم فدعاهم إلى
السلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم على بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا
فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر
من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها
حق اللّه.
ثم قفل فوافى النبى- صلى اللّه عليه وسلم- بمكة قد قدمها للحج سنة عشر.
ثم حج- صلى اللّه عليه وسلم- حجة الوداع (٣) ، وتسمى حجة الإسلام، وحجة
البلاغ، وكره ابن عباس أن ي
قال: حجة الوداع.
وكان- صلى اللّه عليه وسلم- قد أقام بالمدينة يضحى كل عام ويغزو
المغازى، فلما كان
__________
(١) انظر (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٢٨) .
(٢) حسن: أخرجه أبو داود (٣٥٨٢) فى الأقضية، باب: كيف القضاء، والترمذى (١٣٣١) فى الأحكام، باب: ما جاء فى القاضى لا يقضى بين
الخصمين حتى يسمع كلامهما، وابن ماجه (٢٣١٠) فى الأحكام، باب: التغليظ فى الحيف والرشوة، وأحمد
فى (مسنده) (١/ ٨٣ و ٨٨ و ١١١ و ١٤٩) .
(٣) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٣٠)
.
فى ذى القعدة سنة عشر من الهجرة
أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له.
قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن
توفاه اللّه تعالى.
وفى البخارى عن زيد بن أرقم أن النبى- صلى اللّه عليه وسلم- غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد
ما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع (١) .
قال: وقال ابن إسحاق: وبمكة أخرى،
وقيل: حج حجتين. هذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه
إلا اللّه.
فخرج- صلى اللّه عليه وسلم- من المدينة يوم السبت لخمس بقين
من ذى القعدة وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر. لأن أول ذى الحجة كان يوم الخميس
قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم
الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة.
لكن ثبت فى الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذى
الحليفة ركعتين (٢) . فدل على أن خروجهم لم يكن يوم
الجمعة ويحمل قول من
قال: لخمس بقين، أى إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون
يوم الخميس أول ذى الحجة بعد مضى أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار.
هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن
كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذى القعدة أو أربع.
وصرح الواقدى بأن خروجه- صلى اللّه عليه وسلم- كان يوم السبت لخمس ليال بقين من
ذى القعدة.
وكان خروجه من المدينة بين الظهر
والعصر. وكان دخول مكة صبح
__________
(١) صحيح: أخرجه البخارى (٤٤٠٤) فى المغازى، باب: حجة الوداع، ومسلم (١٢٥٤) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وزمانهن.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (١٠٨٩) فى الجمعة، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، ومسلم (٦٩٠) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة المسافرين وقصرها.
رابعة، كما ثبت فى حديث عائشة
وذلك يوم الأحد. وهذا يؤيد أن خروجه من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون
مكثه فى الطريق ثمانى ليال، وهى المسافة الوسطى.
وخرج معه- عليه السّلام- تسعون ألفا، ويقال مائة ألف
وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقى.
ويأتى الكلام على حجة الوداع وما
فيها من المباحث فى مقصد العبادات إن شاء اللّه تعالى.
ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة (١) إلى أهل أبنى بالشراة ناحية
بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة.
وهى آخر سرية جهزها النبى- صلى اللّه عليه وسلم- وأول شىء جهزه أبو بكر الصديق رضى
اللّه عنه-، لغزو الروم مكان قتل أبيه زيد.
فلما كان يوم الأربعاء بدىء برسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجعه، فحمّ وصدع، فلما أصبح يوم
الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمى، وعسكر
بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين
والأنصار إلا انتدب، فيهم أبو بكر وعمر.
فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟
فخرج رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد
المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم
قال: (أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتنى عن بعضكم فى
تأميرى أسامة، ولئن طعنتم فى إمارتى أسامة فقد طعنتم فى إمارتى أباه من قبله، وايم
اللّه إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب
الناس إلى، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم) (٢) . ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع
الأول سنة إحدى عشرة.
__________
(١) انظرها فى (الطبقات الكبرى) لابن سعد (٢/ ١٤٥)
.
(٢) صحيح: أخرجه البخارى (٣٧٣٠) فى المناقب، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبى
صلى اللّه عليه وسلم-، ومسلم (٢٤٢٦) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد- رضى اللّه عنهما-، من حديث ابن عمر- رضى اللّه عنهما- بنحوه.
وجاء المسلمون الذين يخرجون مع
أسامة يودعون رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم-، ويخرجون إلى معسكر بالجرف.
فلما كان يوم الأحد اشتد برسول
اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- وجعه، فدخل أسامة من معسكره
والنبى- صلى اللّه عليه وسلم- مغمور، وهو اليوم الذى لدوه فيه،
فطأطأ أسامة فقبله، ورسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى
السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لى، ورجع أسامة إلى معسكره.
ثم دخل يوم الاثنين وأصبح- صلى اللّه عليه وسلم- مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى
المعسكر، فأمر الناس بالرحيل. فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاء يقول: إن رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة.
فتوفى- صلى اللّه عليه وسلم- حين زاغت الشمس لاثنتى عشرة ليلة
خلت من شهر ربيع الأول.
واستشكله السهيلى ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله
يوم الخميس، فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توامّ أو نواقص، أو بعضها، لم يصح.
قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله.
وأجاب البارزى ثم ابن كثير: باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة
كوامل، وكان أهل مكه والمدينة اختلفوا فى رؤية هلال ذى الحجة، فرآه أهل مكة ليلة
الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم
رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها. وكان أول ذى الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم
الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثانى عشر الاثنين.
قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالى أربعة
أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمى أحد الثقات: بأن ابتداء مرضه كان يوم السبت
الثانى والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع
الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن
أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية.
قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفى فى ثانى ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات فى ثانى شهر ربيع الأول، فغيرت فصار:
ثانى عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع
بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى.
ثم إن وفاته- صلى اللّه عليه وسلم- يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف. بل كاد يكون إجماعا لكن فى حديث
ابن مسعود: فى حادى عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم. واللّه أعلم. انتهى.
وسيأتى- إن شاء اللّه تعالى- حديث
الوفاة الشريفة فى المقصد الأخير.
ولما توفى- صلى اللّه عليه وسلم- دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف
إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- فغرزه عند بابه.
فلما بويع أبو بكر الصديق- رضى اللّه عنه- أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى
بيت أسامة ليمضى لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال ربيع الآخر سنة
إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه،
وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه فى الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد
من المسلمين.
وخرج أبو بكر فى المهاجرين وأهل
المدينة يتلقونه سرورا، واللّه أعلم.
فجميع سراياه وبعوثه نحو ستين
ومغازيه نحو سبع وعشرين.