المستكفي باللّه: أبو الربيع سليمان بن الحاكم بأمر اللّه.

ولد في نصف المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة واشتغل بالعلم قليلاً وبويع بالخلافة بعهد من أبيه في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة وخطب له على المنابر في البلاد المصرية والشامية وسارت البشارة بذلك إلى جميع الأقطار والممالك الإسلامية وكانوا يكنون بالكبش فنقلهم السلطان إلى القلعة وأفرد لهم داراً.

وفي سنة اثنتين هجم التتار على الشام فخرج السلطان ومعه الخليفة لقتالهم فكان النصر عليهم وقتل من التتار مقتلة عظيمة وهرب الباقون.

وفيها زلزلت مصر والشام زلزلة عظيمة هلك فيها خلق تحت الهدم.

وفي سنة أربع أنشأ الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري الوظائف والدروس بجامع الحاكم وجدده بعد خرابه من الزلزلة وجعل القضاة الأربعة مدرسي الفقه وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي وشيخ النحو أبا حيان.

وفي سنة ثمان خرج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون قاصداً للحج فخرج من مصر في شهر رمضان المعظم وخرج معه جماعة من الأمراء لتوديعه فردهم فلما اجتاز بالكرك عدل إليها فنصب له الجسر فلما توسطه انكسر به فسلم من قدامه وقفز به الفرس فنجا وسقط من وراءه فكانوا خمسين فمات أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي تحته وأقام السلطان بالكرك ثم كتب كتاباً إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة فأثبت ذلك القضاة بمصر ثم نفذ على القضاة الشام وبويع الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالسلطنة في الثالث والعشرين من شهر شوال ولقب الملك المظفر وقلده الخليفة وألبسه الخلعة السوداء والعمامة المدورة ونفذ التقليد إلى الشام في كيس أطلس أسود فقرئ هناك وأوله إنه من سليمان وإنه بسم اللّه الرحمن الرحيم.

ثم عاد الملك الناصر في رجب سنة تسع يطلب عوده إلى الملك ومالأه على ذلك جماعة من الأمراء فدخل دمشق في شعبان ثم دخل مصر يوم عيد الفطر وصعد القلعة وكان المظفر بيبرس فر في جماعة من أصحابه قبل قدومه بأيام ثم أمسك وقتل من عامه وقال العلاء الوداعي في عود الناصر إلى الملك:

الملك الناصر قد أقبلت ... دولته مشرقة الشمس

عاد إلى كرسيه مثل ما ... عاد سليمان إلى الكرسي

وفي هذه السنة تكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لبس العمائم البيض وأنهم قد التزموا للديون بسبعمائة ألف دينار كل سنة زيادة على الجالية فقام الشيخ تقي الدين ابن تيمية في إبطال ذلك قياماً عظيماً وبطل وللّه الحمد.

وفيها أظهر ملك التتار خوبند الرفض في بلاده وأمر الخطباء أن لا يذكروا في الخطبة إلا علي بن أبي طالب وولديه وأهل البيت واستمر ذلك إلى أن مات سنة ست عشرة وولي ابنه أبو سعيد فأمر بالعدل وأقام السنة والترضي عن الشيخين ثم عثمان ثم علي في الخطبة وسكن كثير من الفتن وللّه الحمد وكان هذا من خير ملوك التتار وأحسنهم طريقة واستمر إلى أن مات سنة ست وثلاثين ولم يقم لهم بعده قائمة بل تفرقوا شذر مذر.

وفي سنة عشرة زاد النيل زيادة كثيرة لم يسمع بمثلها وغرق منها بلاد كثيرة وناس كثيرون. وفي سنة أربع وعشرين زاد النيل أيضاً كذلك ومكث على أرض ثلاثة أشهر ونصفاً وكان ضرره أكثر من نفعه.

وفي سنة ثمان وعشرين عمرت سقوف المسجد الحرام بمكة والأبواب وظاهره مما يلي باب بني شيبة.

وفي سنة ثلاثين أقيمت الجمعة بإيوان الشافعية من المدرسة الصالحية بين القصرين وذلك أول ما أقيمت بها.

وفيها فرغ من الجامع الذي أنشأه قوصون خارج باب زويلة وخطب به وحضره السلطان والأعيان وباشر الخطابة يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني ثم استقر في خطابته فخر الدين بن شكر.

وفي سنة ثلاث وثلاثين أمر السلطان بالمنع من رمي البندق وأن لا تباع قسيه ومنع المنجمين.

وفيها عمل السلطان للكعبة باباً من الآبنوس عليه صفائح فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفاً وثلاثمائة وكسر وقلع الباب العتيق فأخذه بنو شيبة بصفائحه وكان عليه اسم صاحب اليمن.

وفي سنة ست وثلاثين وقع بين الخليفة والسلطان أمر فقبض على الخليفة واعتقله بالبرج ومنعه من الاجتماع بالناس ثم نفاه في ذي الحجة سنة سبع إلى قوص هو وأولاده وأهله ورتب لهم ما يكفيهم وهم قريب من مائة نفس فإنا للّه وإنا إليه راجعون واستمر المستكفي بقوص إلى أن مات بها في شعبان سنة أربعين وسبعمائة ودفن بها وله بضع وخمسون سنة.

قال ابن حجر في الدرر الكامنة: كان فاضلاً جواداً حسن الخط جداً شجاعاً يعرف بلعب الأكرة ورمي البندق وكان يجالس العلماء والأدباء وله عليهم إفضال ومعهم مشاركة وكان بطول مدته يخطب له على المنابر حتى في زمن حبسه ومدة إقامته بقوص وكان بينه وبين السلطان أولاً محبة زائدة وكان يخرج مع السلطان إلى السرحات ويلعب معه الكرة وكانا كالأخوين.

والسبب في الوقيعة بينهما أنه رفع إليه قصة عليها خط الخليفة بأن يحضر السلطان بمجلس الشرع الشريف فغضب من ذلك وآل الأمر إلى أن نفاه إلى قوص ورتب له على واصل المكارم أكثره مما كان له بمصر.

وقال ابن فضل اللّه في ترجمته من المسالك: كان حسن الجملة لين الحملة.

وممن مات في أيام المستكفي من الأعلام: قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد والشيخ زين الدين الفارقي شيخ الشافعية وشيخ دار الحديث وليها بعد وفاة النووي إلى الآن ووليها بعده صدر الدين بن الوكيل والشرف الفزاري والصدر بن الزرير بن الحاسب والحافظ شرف الدين الدمياطي والضياء الطوسي شارح الحاوي والشمس في زمانه والحافظ سعد الدين الحارثي والفخر التوزي محدث مكة والرشيد بن المعلم من كبار الحنفية والأربوي والصدر ابن الوكيل شيخ الشافعية والكمال ابن الشريشي والتاج التبريزي والفخر ابن بنت أبي سعد والشمس بن أبي العز شيخ الحنفية والرضي الطبري إمام مكة والصفي أبو الثناء ومحمود الأرموي والشيخ نور الدين البكري والعلاء ابن العطار تلميذ الإمام النووي والشمس الأصبهاني صاحب التفسير وشرح مختصر ابن الحاجب وشرح التجريد وغير ذلك والتقى الصائغ المقرئ خاتمة مشايخ القراء والشهاب محمود شيخ صناعة الإنشاء والجمال بن مطهر شيخ الشيعة والكمال بن قاضي شهبة والنجم القمولي صاحب الجواهر والبحر: والكمال بن الزملكاني والشيخ تقي الدين بن تيمية وابن جبارة شارح الشاطبية والنجم البالسي شارح التنبيه والبرهان الفزاري شيخ الشافعية والعلاء القونوي شارح الحاوي والفخر التركماني من الحنفية شارح الجامع الكبير والملك المؤيد صاحب حماة الذي له تصانيف كثيرة منها نظم الحاوي والشيخ ياقوت العرشي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي والبرهان الجعبري والبدر بن جماعة والتاج ابن الفاكهاني والفتح بن سيد الناس والقطب الحلبي والزين الكناني والقاضي محي الدين بن فضل اللّه والركن بن القويع والزين بن المرحل والشرف ابن البارزي والجلال القزويني وآخرون.