الاختيار لتعليل المختار [الاختيار لتعليل
المختار]
[كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي]
الْأَدَبُ: هُوَ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِصَالِ
الْحَمِيدَةِ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُعَامَلَتِهِمْ، وَأَدَبُ
الْقَاضِي: الْتِزَامُهُ لِمَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنْ بَسْطِ
الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَتَرْكِ الْمَيْلِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى
حُدُودِ الشَّرْعِ، وَالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ: يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}
[الإسراء: 23] وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] وَبِمَعْنَى
الْفَرَاغِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}
[الجمعة: 10] وَبِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، يُقَالُ: قَضَى الْحَاكِمُ
النَّفَقَةَ: أَيْ قَدَّرَهَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي إِقَامَةِ شَيْءٍ
مَقَامَ غَيْرِهِ، يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ دَيْنَهُ: أَيْ أَقَامَ مَا
دَفَعَهُ إِلَيْهِ مَقَامَ مَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ. وَفِي الشَّرْعِ:
قَوْلٌ مُلْزِمٌ يَصْدُرُ عَنْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ، وَفِيهِ مَعْنَى
اللُّغَةِ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِالْحُكْمِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ،
وَفَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا أَوْ فَرَغَا مِنَ الْخُصُومَةِ،
وَقَدَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَا لَهُ، وَأَقَامَ قَضَاءَهُ مَقَامَ
صُلْحِهِمَا وَتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ
لِلْخُصُومَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ (الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ
وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ) وَمَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا
وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَثْبَتَ لِآدَمَ اسْمَ الْخَلِيفَةِ،
وَقَالَ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وَقَالَ
لِدَاوُدَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَلِأَنَّ
فِيهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِظْهَارَ
الْحَقِّ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَإِيصَالَ الْحَقِّ
إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَرَعَ اللَّهُ
تَعَالَى الشَّرَائِعَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -.
وَالْقَضَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَيَّنَ
لَهُ، وَلَا يُوجَدَ مَنْ يَصِحُّ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ
أَدَّى إِلَى تَضْيِيعِ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ قَبُولُهُ أَمْرًا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِينَ
مِنَ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ أَنْ
يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَكِنْ هُوَ أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ. وَمُخَيَّرٌ
فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الصَّلَاحِيَةِ
وَالْقِيَامِ بِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ قَبِلَهُ، وَإِنْ شَاءَ
لَا. وَمَكْرُوهٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ، لَكِنَّ
غَيْرَهُ أَقْوَمُ بِهِ وَأَصْلَحُ. وَحَرَامٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ
نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْهُ، وَعَدَمَ الْإِنْصَافِ فِيهِ لِمَا يَعْلَمُ
مِنْ بَاطِنِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى مَا لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَحْرُمُ
عَلَيْهِ، وَيَكُونُ رِزْقُهُ وَكِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ أَهْلِهِ
وَأَعْوَانِهِ وَمَنْ يُمَوِّنُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ
مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْعَامَّةِ، فَلَوْلَا الْكِفَايَةُ رُبَّمَا طَمِعَ
فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ
يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنْ لَهُ ثَرْوَةٌ لِئَلَّا يَطْمَعَ
(2/82)
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي
مُجْتَهِدًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَعَقْلِهِ
وَفَهْمِهِ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِنْ تَنَزَّهَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَرَجَ
إِلَى السُّوقِ لِيَكْتَسِبَ ; فَرَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ،
وَكَانَ عِنْدَهُ عَبَاءَةً قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ رِزْقِهِ، فَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَعْطِيهَا عُمَرَ لِيَرُدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى لَا يَأْخُذُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
[من يولى القضاء]
قَالَ: (وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا) لِأَنَّ
الْحَادِثَةَ إِذَا وَقَعَتْ يَجِبُ طَلَبُهَا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ مِنَ
السُّنَّةِ ثُمَّ مِنَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ الرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ، وَيَشْهَدُ لَهُ «حَدِيثُ
مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ وَوَلَّاهُ الْحُكْمَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: "
كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ حُكْمٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ
بِرَأْيِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ
وَرَسُولَهُ» وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَا
إِجْمَاعَ مَعَ وُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -.
قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَعَقْلِهِ
وَفَهْمِهِ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي)
أَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ؛ فَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ
وَالْقَضَاءِ أَقْوَى وَأَعَمُّ وِلَايَةً، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ لَا فَلَا ; وَلَا
تَجُوزُ وِلَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا
وِلَايَةَ لَهُمْ، وَلَا الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ، وَلِوُجُودِ الِالْتِبَاسِ عَلَيْهِ فِي الصَّوْتِ
وَغَيْرِهِ ; وَالْأُطْرُوشُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْخُصُومِ،
وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ الْإِقْرَارَ، فَرُبَّمَا
يُنْكِرُ إِذَا اسْتَعَادَهُ فَتَضِيعُ حُقُوقُ النَّاسِ ; وَالْفَاسِقُ
يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ
يُوَلِّيَ كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِشَهَادَتِهِ. وَفِي
النَّوَادِرِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَلَوْ
فَسَقَ بَعْدَ الْوِلَايَةِ اسْتَحَقَّ الْعَزْلَ وَلَا يَنْعَزِلُ،
وَقِيلَ يَنْعَزِلُ لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ مَا رَضِيَ بِهِ إِلَّا
عَدْلًا، وَيُشْتَرَطُ دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي
أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ وَلَا يُوثَقُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا
أَمَانَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأُمُورِ
الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا الْفَهْمُ فَلْتَفْهَمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ
وَالْحَدِيثِ وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَايَا وَالدَّعَاوَى
وَكُتُبِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ فَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ
يَعْلَمْ بِذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ
يَقْضِي.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَأَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَرِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا. وَقَالَ: إِذَا كَانَ عَالِمًا
بِالْفَرَائِضِ يَكْفِي فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ. وَقِيلَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ
الْجَاهِلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالِاسْتِفْتَاءِ،
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا
(2/83)
وَلَا يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ، وَيُكْرَهُ
الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ، وَلَا
بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ أَدَاءَ فَرْضِهِ، وَمَنْ
تَعَيَّنَ لَهُ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ، وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ
مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ.
وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ (ف) فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ.
فَإِذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ يَطْلُبُ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي قَبْلَهُ،
وَيَنْظُرُ فِي خَرَائِطِهِ وَسِجِلَّاتِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَلَّدَ إِنْسَانًا
عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ
النَّاسَ يَرْجِعُونَ إِلَى فَتْوَاهُ فِي حَوَادِثِهِمْ وَيَقْتَدُونَ
بِهِ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ
الْأَوْصَافِ ; وَالْفَاسِقُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُفْتِيًا؛
لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ ; وَقِيلَ
يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى الْخَطَأِ.
قَالَ: (وَلَا يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ
الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ الْوِلَايَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَهَا
وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا أُعِنْتَ عَلَيْهَا» وَقَالَ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ طَلَبَ عَمَلًا فَقَدْ غَلَّ»
وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا عَدَلَ مَنْ طَلَبَ
الْقَضَاءَ.
قَالَ: (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنِ
الْقِيَامِ بِهِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَحْذُورِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ
الدُّخُولُ لِمَنْ يَدْخُلُهُ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ
سِكِّينٍ» قِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَ، وَقِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ
أَهْلًا.
قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ أَدَاءَ فَرْضِهِ)
لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ
قُدْوَةً، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَّى
عَلِيًّا وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمَا وَلَّاهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ
أَجْرَانِ» وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ;
وَقِيلَ الدُّخُولُ فِيهِ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ وَهُوَ
الصَّحِيحُ.
(وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ تَفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ) وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ; وَلَوْ كَانَ فِي
الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ وَامْتَنَعُوا وَالسُّلْطَانُ يَفْصِلُ
بَيْنَ الْخُصُومِ لَمْ يَأْثَمُوا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ
أَثِمُوا، وَإِنِ امْتَنَعُوا حَتَّى قَلَّدَ جَاهِلًا أَثِمَ الْكُلُّ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ) لِأَنَّ
الصَّحَابَةَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالتَّابِعُونَ تَقَلَّدُوهُ مِنَ الْحَجَّاجِ
مَعَ جَوْرِهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إِقَامَةَ الْحَقِّ وَدَفْعَ الظُّلْمِ
حَتَّى لَوْ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوِلَايَةُ
مِنْهُ.
[قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ]
قَالَ: (وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا
فِيهِ) إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُحَادَثَةِ الرِّجَالِ
وَمَبْنَى أَمْرِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ قَالَ: لَا يُتْرَكُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا حَوْلًا،
لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ يَنْسَى الْعِلْمَ فَيَعْزِلُهُ
السُّلْطَانُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَيَسْتَبْدِلُ بِهِ حَتَّى يَشْتَغِلَ
بِالدَّرْسِ.
[ما ينبغي للقاضي أن يفعله بعد توليه]
قَالَ: (فَإِذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ) يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ
اللَّهَ تَعَالَى وَيُؤْثِرَ طَاعَتَهُ وَيَعْمَلَ لِمَعَادِهِ وَيَقْصِدَ
إِلَى الْحَقِّ بِجُهْدِهِ فِيمَا تَقَلَّدَهُ.
وَ (يَطْلُبُ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي قَبَلَهُ وَيَنْظُرُ فِي
خَرَائِطِهِ وَسِجِلَّاتِهِ)
(2/84)
وَعَمِلَ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ
الْوُقُوفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ
فِي يَدِهِ، وَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
هُوَ الَذِي سَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَيَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا
ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْجَامِعِ أَوْلَى، وَيَتَّخِذُ مُتَرْجِمًا
وَكَاتِبًا عَدْلًا مُسْلِمًا لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَتُجْعَلُ فِي
يَدِ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِيَعْمَلَ بِهَا.
قَالَ: (وَعَمِلَ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ بِمَا تَقُومُ
بِهِ الْبَيِّنَةُ) لِأَنَّهَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ.
(أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ.
(وَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ) لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَشَهَادَةُ
الْفَرْدِ لَا عَمَلَ بِهَا.
قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي سَلَّمَهَا إِلَيْهِ) لِأَنَّ
يَدَهُ كَيَدِهِ فَيَكُونُ أَمِينًا فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ
رَجُلَيْنِ مِنْ ثِقَاتِهِ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي، فَيَقْبِضَانِ مِنَ
الْمَعْزُولِ دِيوَانَهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَرَائِطِ
وَالسِّجِلَّاتِ، فَيَجْمَعَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ حَتَّى لَا
يَشْتَبِهَ عَلَى الْقَاضِي، وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ شَيْئًا فَشَيْئًا
لِيَنْكَشِفَ مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمَا وَيَخْتِمَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا
السُّؤَالُ لَيْسَ لِلْإِلْزَامِ بَلْ لِيَنْكَشِفَ بِهِ الْحَالُ، فَإِنْ
أَبَى الْمَعْزُولُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمَا النُّسَخَ أُجْبِرَ عَلَى
ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ
لِأَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الْخُصُومِ لِأَنَّهُمْ
وَضَعُوهَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِهَا، أَوْ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ
فَعَلَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا، وَيَأْخُذَانِ الْوَدَائِعَ
وَأَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبَانِ أَسْمَاءَ الْمَحْبُوسِينَ
وَيَأْخُذَانِ نُسْخَتَهُمْ مِنَ الْمَعْزُولِ لِيَنْظُرَ الْمَوْلَى فِي
أَحْوَالِهِمْ فَمَنِ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ
أُلْزِمَهُ عَمَلًا بِالْحُجَّةِ، وَإِلَّا نَادَى عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ
مَنْ كَانَ يُطَالِبُ فُلَانًا الْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ فَلْيَحْضُرْ، فَمَنْ
حَضَرَ وَادَّعَى عَلَيْهِ اِبْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، وَيُنَادِي
أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لَا
يُخَلِّيهِ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي أَمْرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا
بِنَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ غَائِبٍ وَهُوَ
الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْزُولِ لَا يَكُونُ عَبَثًا.
قَالَ: (وَيَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ)
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ
الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَدَكَّةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي
مَسْجِدِ الْكُوفَةِ إِلَى الْآنَ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَلِلْحُكْمِ» وَلِئَلَّا يُشْتَبَهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ
مَكَانُهُ.
(وَالْجَامِعُ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ
حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءً خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ
فَنَظَرَ فِي خُصُومَتِهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، كَمَا
لَوْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَابَّةٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِاسْتِمَاعِ
الدَّعْوَى وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَلَسَ فِي
بَيْتٍ جَازَ، وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ
أَحَدًا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ
مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ الْأَعْوَانُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ
بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ لِلْخُصُومَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ قَرِيبًا
مِنْهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّيَانَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ
يَجْلِسَ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْقَضَاءِ.
قَالَ: (وَيَتَّخِذُ مُتَرْجِمًا وَكَاتِبًا عَدْلًا مُسْلِمًا لَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا
(2/85)
وَيُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي
الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَا يُسَارُّ
أَحَدَهُمَا وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَضْحَكُ لِأَحَدِهِمَا،
وَلَا يُمَازِحُهُمَا، وَلَا أَحَدَهُمَا، وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا
دُونَ الْآخَرِ، وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةَ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يُهْدِ لَهُ
قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إِلَّا الْعَامَّةَ، وَيَعُودُ
الْمَرْضَى، وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ هَمٌّ، أَوْ
نُعَاسٌ، أَوْ غَضَبٌ، أَوْ جُوعٌ، أَوْ عَطَشٌ، أَوْ حَاجَةٌ
حَيَوَانِيَّةٌ كَفَّ عَنِ الْقَضَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا لَا يُؤْمَنُ
أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
فَقِيهًا لَا يَعْرِفُ كَتَبَةَ السِّجِلَّاتِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
الْقَاضِي مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيَجْلِسُ نَاحِيَةً عَنْهُ حَيْثُ يَرَاهُ
حَتَّى لَا يُخْدَعَ بِالرَّشْوَةِ.
قَالَ: (وَيُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ
وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ} [النساء:
135] أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا ابْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ
فَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ
وَالنَّظَرِ» وَفِي كِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: آسِ بَيْنَ
النَّاسِ فِي مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ وَعَدْلِكَ، وَمَعْنَاهُ مَا
ذَكَرْنَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فَقَالَ: حَتَّى لَا يَطْمَعَ
شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا
فَضَّلَ أَحَدَهُمَا يَنْكَسِرُ قَلْبُ الْآخَرِ فَلَا يَنْشَرِحُ
لِلدَّعْوَى وَالْجَوَابِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيِ
الْقَاضِي جُثُوًّا وَلَا يُجْلِسُهُمَا فِي جَانِبٍ، وَلَا أَحَدَهُمَا
عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ
الْخَصْمَانِ إِنْ شَاءَ بَدَأَهُمَا فَقَالَ مَا لَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ
سَكَتَ حَتَّى يَتَكَلَّمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ
الْآخَرَ لِيَفْهَمَ دَعْوَاهُ.
قَالَ: (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ) لِمَا
بَيَّنَّا ; وَلِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ.
(وَلَا يَضْحَكُ لِأَحَدِهِمَا) لِأَنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُ عَلَى
خَصْمِهِ.
(وَلَا يُمَازِحُهُمَا وَلَا أَحَدَهُمَا) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِهَيْبَةِ
الْقَضَاءِ.
(وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ
وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ.
قَالَ: " وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةَ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يُهْدِ لَهُ قَبْلَ
الْقَضَاءِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَدَايَا
الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا أَهْدَى لَهُ لِلْقَضَاءِ
ظَاهِرًا فَكَانَ آكِلًا بِالْقَضَاءِ فَأَشْبَهَ الرَّشْوَةَ، بِخِلَافِ
مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى
الْعَادَةِ أَوْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُهَا، وَالْقَرِيبُ عَلَى
هَذَا التَّفْصِيلِ.
قَالَ: (وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إِلَّا الْعَامَةَ) كَالْعُرْسِ
وَالْخِتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهَا وَالْإِجَابَةُ سُنَّةٌ،
وَلَا يُجِيبُ الْخَاصَّةَ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ
مِنْ قَرِيبٍ أَوْ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى
التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا دُونَهَا خَاصَّةٌ وَمَا
فَوْقَهَا عَامَّةٌ، وَقِيلَ الْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ
لَا يَحْضُرُهَا لَا يَعْمَلُهَا.
قَالَ: (وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ) لِأَنَّهَا مِنْ
حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ،
وَلَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا
مِنَ التَّكَلُّمِ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخُصُومَاتِ.
قَالَ: (فَإِنْ حَدَثَ لَهُ هَمٌّ أَوْ نُعَاسٌ، أَوْ غَضَبٌ أَوْ جُوعٌ،
أَوْ عَطَشٌ، أَوْ حَاجَةٌ حَيَوَانِيَّةٌ كَفَّ عَنِ الْقَضَاءِ) قَالَ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ
(2/86)
وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فِي
الْمَجْلِسِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا أَنْ
يُفَوَّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ إِلَّا أَنْ
يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ مَا يَكُونُ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى
الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ.
وَإِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ أَمْضَاهُ، إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ
الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
غَضْبَانُ " وَفِي رِوَايَةٍ " وَهُوَ شَبْعَانُ» وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ
إِلَى الْفِكْرِ، وَهَذِهِ الْأَعْرَاضُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ
فَتُخِلُّ بِالْقَضَاءِ، وَيُكْرَهُ لَهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ يَوْمَ
الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْجُوعِ، وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ
بِطُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا ضَجِرَ وَمَلَّ وَيَقْعُدُ
طَرَفَيِ النَّهَارِ ; وَإِذَا طَمِعَ فِي رِضَى الْخَصْمَيْنِ رَدَّهُمَا
مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُدُّوا
الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ
بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْخِيرِ.
قَالَ: (وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ لِنَفْسِهِ) لِمَا
فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ، وَلَا بَأْسَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ. وَعَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا
يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يُحَابِيهِ.
قَالَ: (وَلَا يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا أَنْ يُفَوَّضَ
إِلَيْهِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْإِمَامِ ; وَالْوَكِيلُ
لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ.
قَالَ: (وَلَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَلِيُّ لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ
حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ
الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ بِدُونِ الْإِنْكَارِ فَلَا وَجْهَ
إِلَى الْقَضَاءِ.
قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) إِمَّا
بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ
جِهَةِ الْقَاضِي.
(أَوْ مَا يَكُونُ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا
يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ) كَمَنِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ
فَأَنْكَرَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ
فُلَانٍ الْغَائِبَ يَقْضِي بِهَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَكَذَا
لَوِ ادَّعَى شُفْعَةً وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ الشِّرَاءَ، فَأَقَامَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِنَ الْغَائِبِ يَقْضِي عَلَى
الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، وَكَذَا إِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ
فَقَالَ: هُمَا عَبْدَانِ، فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ
مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا حَكَمَ بِعِتْقِهِمَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ
وَالْغَائِبِ جَمِيعًا.
[فصل إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ]
فَصْلٌ
(وَإِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ أَمْضَاهُ إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ
الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ) وَأَصْلُهُ
أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ فَقَضَى
بِقَضِيَّةٍ يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنَ
الْقُضَاةِ نَقْضُهُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الثَّانِيَ مِثْلُهُ
وَالْأَوَّلَ تَرْجِيحٌ بِالسَّبْقِ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ. وَرُوِيَ
أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى بِقَضَاءٍ خَالَفَ فِيهِ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَلَمْ يَفْسَخَاهُ لِوُقُوعِهِ مِنْ قَاضٍ جَائِزِ
الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَدِّ
(2/87)
وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَجُوزُ لِمَنْ قَلَّدَهُ وَعَلَيْهِ ;
وَإِذَا عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ
وَمَحَلِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ. وَالْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ
الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (سم) فِي الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ:
كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ،
وَالْإِرْثُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ ذَاكَ عَلَى مَا
قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي، وَلَمْ يَفْسَخِ الْأَوَّلَ ; وَلَا
اجْتِهَادَ مَعَ الْكِتَابِ وَلَا مَعَ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، إِذْ
لَا اجْتِهَادَ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِهِمَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ
مُعَاذٍ، وَلَا مَعَ إِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ وَلَيْسَ
بِاخْتِلَافٍ، وَالْمُرَادُ اخْتِلَافُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) ؛
لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَرِدُ الشَّهَادَةُ لَهُ فِي الْقَضَاءِ
أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ لِمَنْ قَلَّدَهُ وَعَلَيْهِ) لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ لَا عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي زَمَنِ
وِلَايَتِهِ وَمَحَلِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ) لِأَنَّ عِلْمَهُ
كَشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ حَاصِلٌ
بِمَا عَلِمَهُ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ، وَالْحَاصِلُ
بِالشَّهَادَةِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ
عَلَى الِانْفِرَادِ مَقْبُولٌ فِيمَا لَيْسَ خَصْمًا فِيهِ، وَمَتَى قَالَ
حَكَمْتُ بِكَذَا نَفَذَ حُكْمُهُ. وَأَمَّا مَا عَلِمَهُ قَبْلَ
وِلَايَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لَا يَقْضِي بِهِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَقْضِي كَمَا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ
وَمَحَلِّهَا لِمَا مَرَّ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ
وَغَيْرِ وِلَايَتِهِ شَاهِدٌ لَا حَاكِمٌ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا
تُقْبَلُ، وَصَارَ كَمَا إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ
ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا.
وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ
فِيهَا، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَائِبُهُ إِلَّا فِي
حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ
الْعَبْدِ، وَإِلَّا فِي السُّكْرِ إِذَا وُجِدَ سَكْرَانَ، أَوْ مَنْ بِهِ
أَمَارَاتُ السُّكْرِ فَإِنَّهُ يُعَزِّرُهُ.
قَالَ: (وَالْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا
فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعِ،
وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَالْإِرْثُ) وَقَالَا: لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا.
وَصُورَتُهُ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالزُّورِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ لِرَجُلٍ
فَقَضَى بِهَا الْقَاضِي نَفَذَ عِنْدَهُ حَتَّى حَلَّ لِلزَّوْجِ
وَطْؤُهَا خِلَافًا لَهُمَا ; وَلَوْ شَهِدَا بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ
أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَائِنًا فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا آخَرُ جَازَ ; وَعِنْدَهُمَا إِنْ جَهِلَ الزَّوْجُ
الثَّانِي ذَلِكَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا اتِّبَاعًا لِلظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُكَلَّفُ عِلْمَ الْبَاطِنِ وَإِنْ عَلِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ
الشَّاهِدَيْنِ لَا يَحِلُّ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ الْأَوُّلُ كَانَ
زَانِيًا وَيُحَدُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا
يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْرَثَ شُبْهَةً
فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ احْتِيَاطًا، وَلَا يَنْفُذُ فِي مُعْتَدَّةِ
الْغَيْرِ وَمَنْكُوحَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
تَقْدِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفِي الْأَجْنَبِيَّةِ أَمْكَنَ
ذَلِكَ فَيُقَدَّمُ تَصْحِيحًا لَهُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَيَنْفُذُ
بِبَيْعُ الْأَمَةِ عِنْدَهُ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا،
وَيَنْفُذُ فِي الْهِبَةِ
(2/88)
وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي
وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَالْإِرْثِ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَكْلُ الْهِبَةِ
وَالْمِيرَاثِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا. لَهُمَا
قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّكُمْ
لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمُ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ
بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشْرٌ أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ
لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ
لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وَأَنَّهُ عَامٌّ فَيَعُمُّ جَمِيعَ
الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْبَاطِنِ كَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا
الظَّاهِرُ فَالْحُكْمُ لَازِمٌ عَلَى مَا أَنْفَذَهُ الْقَاضِي.
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ
وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَلَهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا
خَطَبَ امْرَأَةً وَهُوَ دُونَهَا فِي الْحَسَبِ فَأَبَتْ أَنْ
تَتَزَوَّجَهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ
عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَحُكِمَ عَلَيْهَا
بِالنِّكَاحِ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أَتَزَوَّجْهُ وَإِنَّهُمْ شُهُودُ
زُورٍ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُ قَضَى
بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ
الْإِنْشَاءِ فَيُجْعَلُ إِنْشَاءً تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ،
وَحَدِيثُهُمَا فِي الْمَالِ صَرِيحٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ
قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ
بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَرُوِيَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إِثْبَاتَ
الْمِلْكِ بِدُونِ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ
إِلَى عَمْرٍو.
أَمَّا الْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُمَا
فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ وَغَيْرِهَا مِنْ عَمْرٍو حَالَ
غَيْبَتِهِ وَخَوْفَ الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْحِفْظِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ
النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْفُرْقَةَ فِي الْعِنِّينِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ فِي
الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، فَيُجْعَلُ الْقَضَاءُ إِنْشَاءً احْتِرَازًا
عَنِ الْحَرَامِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ
بِغَيْرِ أَسْبَابٍ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فَبَطَلَ، ثُمَّ
نَقُولُ: لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي
بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا
وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا ; وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا
ابْتُلِيَ بِهِ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ أَيْضًا، وَهَكَذَا رَابِعٌ
وَخَامِسٌ، فَتَحِلُّ لِلْكُلِّ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ مِنَ
الْفُحْشِ مَا لَا يَخْفَى ; وَلَوْ قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا لَا
تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ وَلَا فُحْشَ فِيهِ.
[فصل الدليل على وجوب حبس من عليه الدين ومتى
يجوز]
فَصْلٌ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْحَبْسِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ
وَعُقُوبَتَهُ» وَالْعُقُوبَةُ: الْحَبْسُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ
السَّلَفِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ لِإِيصَالِ الْحُقُوقِ إِلَى
أَرْبَابِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ عَنِ الْأَدَاءِ فَعَلَى
الْقَاضِي جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْبِرُهُ بِالضَّرْبِ إِجْمَاعًا
فَتَعَيَّنَ الْحَبْسُ.
قَالَ: (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ
لَمْ يَحْبِسْهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ ظُلْمَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ
ظَهَرَ ظُلْمُهُ وَجُحُودُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَبَسَهُ.
قَالَ: (وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ
(2/89)
مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ،
فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ قَالَ
الْمُدَّعِي: هُوَ مُوسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مُعْسِرٌ فَإِنْ كَانَ
الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ مَالٍ
كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ
وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى
ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ
لَهُ مَالًا فَيَحْبِسُهُ، فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى
ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَظْهَرَهُ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ
فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ; وَإِنْ قَامَتِ
الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي
نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ إِلَّا
إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ،
وَهَذَا إِذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِقْرَارِ، أَمَّا إِذَا ثَبَتَ
بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا
تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ فَيَكُونُ ظَالِمًا، وَلَا يَسْأَلُهُ
الْقَاضِي: أَلَكَ مَالٌ؟ وَلَا مِنَ الْمُدَّعِي إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ
فَيْسَأَلُهُ.
(فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ
الْإِنْظَارَ بِالنَّصِّ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُلَازَمَةِ.
(وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي هُوَ مُوسِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ أَنَا مُعْسِرٌ،
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ
مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ
وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ) لِأَنَّ
الظَّاهِرَ بَقَاءُ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ وَالْتِزَامُهُ يَدُلُّ عَلَى
الْقُدْرَةِ.
(وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ) لِأَنَّهُ
الْأَصْلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ
الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَإِعْتَاقِ
الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ.
(إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ)
لِأَنَّهُ ظَالِمٌ.
(فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ
مَالٌ أَظْهَرَهُ وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ
خَلَّى سَبِيلَهُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِعْسَارُهُ فَيَسْتَحِقُّ
الْإِنْظَارَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِعْسَارِهِ،
وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْحَبْسِ بِالْإِجْمَاعِ
وَقَبْلَهُ لَا. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ الْحَبْسِ قَرِينَةً،
وَهُوَ تَحَمُّلُ شِدَّةِ الْحَبْسِ وَمُضَايَقَتِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ
إِعْسَارِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَقِيلَ تُقْبَلُ
فِي الْحَالَتَيْنِ.
(وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَّدَ حَبْسَهُ)
لِظُلْمِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ. قِيلَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً،
وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَبَعْضُهُمْ
بِسِتَّةٍ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْتُ لَكَ أَوَّلًا، لِأَنَّ النَّاسَ
يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ وَيَتَفَاوَتُونَ تَفَاوُتًا
كَثِيرًا فَيُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.
قَالَ: (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ حَقٌّ
مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ وَقَدْ مَنَعَهُ فَيُحْبَسُ لِظُلْمِهِ.
(وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) وَكَذَا الْأَجْدَادُ
وَالْجَدَّاتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُصَاحَبَةً بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ أُمِرَ
بِهَا.
(إِلَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ
(2/90)
فَصْلٌ
يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ، وَفِي النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ وَالْغَصْبِ وَالْأَمَانَةِ
الْمَجْحُودَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَفِي النَّسَبِ وَفِي الْعَقَارِ، وَلَا
يُقْبَلُ فِي الْمَنْقُولَاتِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي
جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ هَلَاكَهُ، كَمَا لَوْ صَالَ
الْأَبُ عَلَى الْوَلَدِ فَلِلْوَلَدِ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ ; وَإِذَا
مَرِضَ الْمَحْبُوسُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ فِي الْحَبْسِ
لَمْ يُخْرِجْهُ، وَإِلَّا أَخْرَجَهُ لِئَلَّا يَهْلَكَ ; وَإِذَا
امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنَ الْحُضُورِ عَزَّرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَى مِنْ
ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ تَعْبِيسِ وَجْهٍ عَلَى مَا يَرَاهُ.
[فصل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق لا يسقط
بالشبهة]
فَصْلٌ (يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ لَا
يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ
الْجَمْعِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ، بِخِلَافِ مَا يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِشُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ ;
وَالْأَصْلُ فِي الْجَوَازِ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ
الْمَكْتُوبِ عَنْهُ وَخِطَابِهِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ
تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ قَامَ مَقَامَ خِطَابِهِ لَهُ فِي الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا ; وَكَذَلِكَ كُتُبُ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى مَلِكِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَإِلَى
نُوَّابِهِ فِي الْبِلَادِ قَامَتْ مَقَامَ خِطَابِهِ لَهُمْ، حَتَّى
وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي كُتُبِهِ كَمَا وَجَبَ
بِخِطَابِهِ ; وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى
الْقَاضِي كَخِطَابِهِ لَهُ، وَلَوْ خَاطَبَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ
صَحَّ، فَكَذَلِكَ كِتَابُهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَ
الْقَاضِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ كَذَا، فَيَكْتُبُ
الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي الَّذِي الْخَصْمُ فِي بَلَدِهِ، وَهُوَ نَقْلُ
الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ،
وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى حَاضِرٍ حَكَمَ عَلَيْهِ وَكَتَبَ
بِحُكْمِهِ، وَهُوَ السِّجِلُّ.
(وَ) يَكْتُبُ (فِي النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ وَالْغَصْبِ وَالْأَمَانَةِ
الْمَجْحُودَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ يُعْرَفُ
بِالْوَصْفِ.
(وَفِي النَّسَبِ) لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ
وَالْقَبِيلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
(وَفِي الْعَقَارِ) لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْحُدُودِ.
(وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَنْقُولَاتِ) لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى
الشَّهَادَةِ لِلْإِشَارَةِ.
(وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ،
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ
بِأَوْصَافِهِ وَمِقْدَارِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ
أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِكَثْرَةِ إِبَاقِهِ
دُونَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا ; وَصُورَتُهُ: أَنْ
يَكْتُبَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَيَذْكُرُ
اسْمَهُ وَحِلْيَتَهُ
(2/91)
وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ
كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَعْلُومٍ،
فَإِنْ شَاءَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ
مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَقْرَأُ الْكِتَابَ عَلَى
الشُّهُودِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِمَا فِيهِ، وَيَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ
وَيَحْفَظُوا مَا فِيهِ، وَتَكُونُ أَسْمَاؤُهُمْ دَاخِلَ الْكِتَابِ
بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ; وَأَبُو يُوسُفَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ لَمَّا ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ
وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَاضِي
الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ نَظَرَ فِي خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ
كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إِلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ،
وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ وَفَتَحَهُ وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ
وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَجِنْسَهُ آبِقٌ مِنْهُ وَقَدْ أَخَذَهُ فُلَانٌ.
قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ
الْقَاضِي) لِأَنَّهُ لِلْإِلْزَامِ، وَلَا إِلْزَامَ بِدُونِ
الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْبَيِّنَةُ
تُعِينُهُ، وَيَكْتُبُ اسْمَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَيَنْسُبُهُمَا إِلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْفَخِذِ وَالْقَبِيلَةِ،
أَوْ إِلَى الصِّنَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْجَدَّ لَمْ يَجُزْ
إِلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَخِذِ مِثْلُهُ فِي
النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ يَخُصُّهُ
وَيُعَيِّنُهُ حَتَّى يَزُولَ الِالْتِبَاسُ.
(وَلَا بُدَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَعْلُومٍ) بِأَنْ يَقُولَ مِنْ فُلَانِ
ابْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ.
(فَإِنْ شَاءَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ
مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَلَا) حَتَّى يَصِيرَ الْمَكْتُوبُ
إِلَيْهِ مَعْرُوفًا وَالْبَاقِي يَكُونُ تَبَعًا.
(وَيَقْرَأُ الْكِتَابَ عَلَى الشُّهُودِ وَيُعْلِمَهُمْ بِمَا فِيهِ)
لِيَعْلَمُوا بِمَا يَشْهَدُونَ.
(وَيَخْتِمَهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيَحْفَظُوا مَا فِيهِ) حَتَّى لَوْ
شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَخَتْمُهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا
بِمَا فِيهِ لَا تُقْبَلُ، لَأَنَّ الْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، فَمَتَى
كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي يُتَوَهَّمُ التَّبْدِيلُ.
(وَتَكُونُ أَسْمَاؤُهُمْ دَاخِلَ الْكِتَابِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ)
لِنَفْيِ الِالْتِبَاسِ.
(وَأَبُو يُوسُفَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِمَا ابْتُلِيَ
بِالْقَضَاءِ) تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ.
(وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ) قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَلَوْ كَتَبَ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ ابْنِ
فُلَانٍ إِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ
وَحُكَّامِهِمْ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ مِنَ
الْقُضَاةِ أَنْ يَقْبَلَهُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَائِزٌ لِقَوْمٍ
مَجْهُولِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ
يُعَرِّفْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا وَنَهَانَا وَكُنَّا مَجْهُولِينَ
عِنْدَهُ وَصَحَّ خِطَابُهُ وَلَزِمَنَا وَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ ;
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْكِتَابِ اسْمُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ
وَالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْعُنْوَانِ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَ
عَلَى الْعُنْوَانِ وَحْدَهُ لَمْ تُقْبَلْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛
لِأَنَّ مَا لَيْسَ تَحْتَ الْخَتْمِ مُتَوَهَّمُ التَّبْدِيلِ.
قَالَ: (فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ نُظِرَ فِي
خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ
إِلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ
وَفَتَحَهُ وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) لِثُبُوتِ
الْحَقِّ عَلَيْهِ.
(وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ لِلْإِلْزَامِ
(2/92)
فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ،
أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ بَطَلَ،
وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بَطَلَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ
بَعْدَ اسْمِهِ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ مَاتَ الْخَصْمُ نَفَّذَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَطَلَبَ
الطَّالِبُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى
قَاضِي الْبَلَدِ الَذِي فِيهِ خَصْمُهُ كَتَبَ لَهُ، وَيَكْتُبُ فِي
كِتَابِهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ مَعْنَاهُ.
فَصْلٌ حَكَّمَا رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا جَازَ (ف) ، وَلَا يَجُوزُ
التَّحْكِيمُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
كَالشَّهَادَةِ لَا يَسْمَعُهَا إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ، وَلَا
يَفْتَحُهُ إِلَّا بِحَضْرَتِهِ. وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ
بِحُضُورِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ حَالَةَ الْفَتْحِ.
قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ
الْقَضَاءِ) بِأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
(قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ بَطَلَ) ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ
حَالَةَ وُصُولِهِ وَهُوَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ،
وَبِالْعَزْلِ وَغَيْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعَايَا.
(وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بَطَلَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ
بَعْدَ اسْمِهِ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ
الْمُسْلِمِينَ) لِمَا بَيَّنَّا.
(وَإِنْ مَاتَ الْخَصْمُ نَفَذَ عَلَى وَرَثَتِهِ) لِقِيَامِهِمْ
مَقَامَهُ.
(وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَطَلَبَ
الطَّالِبُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى
قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ خَصْمُهُ كَتَبَ لَهُ) لِلْحَاجَةِ
إِلَيْهِ.
(وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ مَعْنَاهُ)
لِيَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ.
[فصل ما يجوز فيه التحكيم وما لا يجوز]
فصل
(حكما رجلا ليحكم بينهما) لأن لهما ولاية على أنفسهما حتى كان كالقاضي في
حقهما والمصالح في حق غيرهما؛ لأن غيرهما لم يرض بحكمه، وليس له عليه ولاية
بخلاف القاضي.
وصورته: إذا رد المشتري المبيع على البائع بعيب بالتحكيم لا يملك الرد، على
بائعه لما ذكرنا، وكذلك إذا حكما في قتل خطأ فحكمه بالدية على العاقلة لا
يلزمهم لعدم ولايته عليهم (ولا يجوز التحكيم فيما يسقط بالشبهة) كالحدود
والقصاص؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما. وقيل: يجوز
في القصاص لأنهما يملكانه فيملكان تفويضه إلى غيرهما، والحدود حق الله
تعالى فلا يجوز، ويجوز في تضمين السرقة دون القطع،
(2/93)
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ أَنْ يَسْمَعَ
الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَالْإِقْرَارِ، فَإِذَا حَكَمَ
لَزِمَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ قَبْلَ الْحُكْمِ،
وَإِنْ رُفِعَ حُكْمُهُ إِلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إِنْ وَافَقَ مَذْهَبَهُ،
وَأَبْطَلَهُ إِنْ خَالَفَهُ، وَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ لُهُ.
كِتَابُ الْحَجْرِ وَأَسْبَابُهُ: الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالرِّقُ، وَلَا
يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا،
وَتَصَرُّفُ الَذِي يَعْقِلُ إِنْ أَجَازَهُ وَلِيُّهُ، أَوْ كَانَ أَذِنَ
لَهُ يَجُوزُ، وَالْعَبْدُ كَالصَّبِيِّ الَذِي يَعْقِلُ ; وَالصَّبِيُّ
وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَإِقْرَارُهُمَا وَطَلَاقُهُمَا
وَعَتَاقُهُمَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
(ويشترط أن يكون من أهل القضاء) لأنه يلزمهما حكمه كالقاضي، وتعتبر أهليته
وقت الحكم والتحكيم جميعا (وله أن يسمع البينة ويقضي بالنكول والإقرار)
لأنه حكم شرعي (فإذا حكم لزمهما) لولايته عليهما (ولكل واحد منهما الرجوع
قبل الحكم) لأنه إنما ولي الحكم عليهما برضاهما، فإذا زال الرضا زالت
الولاية كالقاضي مع الإمام (وإن رفع حكمه إلى قاض أمضاه وإن وافق مذهبه)
لعدم الفائدة في نقضه (وأبطله إن خالفه) لأنه لا ولاية له عليه، فلا يلزمه
إنفاذ حكمه، بخلاف القاضي؛ لأن ولايته عامة (ولا يجوز حكمه لمن لا تقبل
شهادته له) للتهمة، والله أعلم. |