الاختيار لتعليل المختار [الاختيار لتعليل
المختار]
[كتاب الشهادات]
ِ أَصْلُ الشَّهَادَةِ الْحُضُورُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» أَيْ حَضَرَهَا،
وَيُقَالُ: فُلَانٌ شَهِدَ الْحَرْبَ وَقَضِيَّةَ كَذَا إِذَا حَضَرَهَا،
وَقَالَ:
إِذَا عَلِمُوا أَنِّي شَهِدْتُ وَغَابُوا.
أَيْ حَضَرْتُ وَلَمْ يَحْضُرُوا، وَالشَّهِيدُ: الَّذِي حَضَرَهُ
الْوَفَاةُ فِي الْغَزْوِ حَتَّى لَوْ مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ
وَهُوَ حَيٌّ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا؛ لَأَنَّ الْوَفَاةَ لَمْ تَحْضُرْهُ
فِي الْغَزْوِ.
وَفِي الشَّرْعِ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ حَضَرَهُ الشُّهُودُ
وَشَاهَدُوهُ، إِمَّا مُعَايَنَةً كَالْأَفْعَالِ نَحْوِ الْقَتْلِ
وَالزِّنَا، أَوْ سَمَاعًا كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارَاتِ، فَلَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِمَا حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ عِيَانًا أَوْ
سَمَاعًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ حَتَّى
يَذْكُرَ الْحَادِثَةَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنْ
عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَهِيَ حُجَّةٌ
مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ مَشْرُوعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» ،
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى
الْمُدَّعِي» وَالْبَيِّنَةُ: الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ
فِيهَا إِحْيَاءَ حُقُوقِ النَّاسِ، وَصَوْنَ الْعُقُودِ عَنِ
التَّجَاحُدِ، وَحِفْظَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا، قَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا شُهُودَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهُمُ الْحُقُوقَ» .
قَالَ: (مَنْ تَعَيَّنَ لِتَحَمُّلِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إِذَا
طُولِبَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ
فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَلَا بَأْسَ بِالتَّحَرُّزِ عَنِ التَّحَمُّلِ.
(فَإِذَا تَحَمَّلَهَا وَطُلِبَ لِأَدَائِهَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
[البقرة: 282] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ
قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَلِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِحُقُوقِ النَّاسِ
فَيَحْرُمُ الِامْتِنَاعُ.
(إِلَّا أَنْ يَقُومَ الْحَقُّ بِغَيْرِهِ) بِأَنْ يَكُونَ فِي الصَّكِّ
سِوَاهُ مَنْ يَقُومُ الْحَقُّ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ؛ لِأَنَّ
الْحَقَّ لَا يَضِيعُ بِامْتِنَاعِهِ؛ وَلِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ،
وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ.
قَالَ: (وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ)
لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ حِسْبَةٌ، وَالسَّتْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ
حِسْبَةٌ.
(وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ
سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ» ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَقَّنَ مَاعَزًا الرُّجُوعَ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ سَتْرًا
عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُرْجَمَ وَيُشْتَهَرَ، وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً؛
وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
قَالَ: (وَيَقُولُ فِي السَّرِقَةِ:
(2/139)
أَخَذَ الْمَالَ، وَلَا يَقُولُ: سَرَقَ؛
وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ مِنَ
الرِّجَالِ، وَبَاقِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَمَا
سِوَاهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ
رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (ف) ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ
فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ
وَعُيُوبِ النِّسَاءِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَخَذَ الْمَالَ) إِحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.
(وَلَا يَقُولُ: سَرَقَ) إِقَامَةً لِحِسْبَةِ السَّتْرِ.
قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ مِنَ
الرِّجَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] ؛ وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي قَذَفَ زَوْجَتَهُ: «ائْتِنِي
بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَضَرْبٌ فِي ظَهْرِكَ» .
قَالَ: (وَبَاقِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) ، قَالَ
تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ،
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَاهَدَاكَ أَوْ
يَمِينُهُ» وَلَا تَقْبَلُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنْ لَا
تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
قَالَ: (وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ
رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ
يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَأَنَّهُ
مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْمُدَايَنَاتِ بِالْأَجَلِ فَتُقْبَلُ فِيهَا.
وَعَنْ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ
الشَّهَادَةِ بِالْآيَةِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لِوُجُودِ
الْمُشَاهَدَةِ وَالْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ كَالرَّجُلِ، وَزِيَادَةُ
النِّسْيَانِ تُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]
بَقِيَ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ، فَلِهَذَا قُلْنَا لَا تُقْبَلُ فِي
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ مَعَ
الشُّبْهَةِ.
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةُ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ)
قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ
جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» وَلِأَنَّهُ لَا
بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَا يُمْكِنُ الرِّجَالَ
الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ عَلَى
الِانْفِرَادِ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ
تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ امْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
قَبِلَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْوِلَادَةِ» ؛ وَلِأَنَّ مَا
يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يُعْتَبَرُ
فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ،
وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَبِالْأَرْبَعِ يُخْرَجُ عَنِ
الْخِلَافِ. وَأَحْكَامُ الشَّهَادَةِ فِي الْوِلَادَةِ تُعْرَفُ فِي
الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْبَكَارَةُ فَإِنَّ
الْعِنِّينَ يُؤَجَّلُ سُنَّةً وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَهَا إِذَا
قُلْنَا إِنَّهَا بِكْرٌ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ لَفْظَةُ
الشَّهَادَةِ؟ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَيُشْتَرَطُ
عِنْدَ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا عَلَى الْغَيْرِ
فَكَانَتْ شَهَادَةً.
(2/140)
وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي
اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِرْثِ (سم) ،
وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ
وَالْإِسْلَامِ، وَيُقْتَصَرُ فِي الْمُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِ
(سم ف) ، إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِ
الْخَصْمُ سَأَلَ عَنْهُ. وَقَالَا: يُسْأَلُ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ
الْحُقُوقِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ
الصَّلَاةِ دُونَ الْإِرْثِ) أَمَّا الصَّلَاةُ فَبِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَمَذْهَبُهُ.
وَقَالَا: تُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ يَكُونُ
عَقِيبَ الْوِلَادَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ،
فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ لِمَا مَرَّ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛
لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ سَمَاعُ صَوْتِهِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ
ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْإِرْثِ وَالْمَهْرِ، وَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي
الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَتَى
ثَبَتَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا زَوَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَإِبْطَالُ
الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّا
يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهِ فَلَا ضَرُورَةَ.
قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ
وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ
تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]
وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِقَوْلِ
الشَّاهِدِ وَيُنَفِّذُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ الصِّدْقُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
إِلَّا بِالْعَدَالَةِ، إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِشَهَادَةِ
الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا. وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ
فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] فَإِنَّهُ صَرِيحٌ
فِي طَلَبِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهَا؛
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ، فَيَكُونُ الِامْتِنَاعُ
عَنْهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْكَذِبِ أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي
قَوْلَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِهِ، إِلَّا
أَنَّا قَبِلْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ
مَقْرُونًا بِالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ
مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ
فَكَيْفَ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}
[النساء: 141] .
قَالَ: (وَيُقْتَصَرُ فِي الْمُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِ إِلَّا
فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِ الْخَصْمُ سَأَلَ
عَنْهُ. وَقَالَا: يَسْأَلُ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» ، وَفِي كِتَابِ
عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا
حَقًّا أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي
وَلَاءٍ
(2/141)
وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ. وَلَا
بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي: هُوَ عَدْلٌ (ف) جَائِزُ الشَّهَادَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَوْ قَرَابَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ وُلِدَ
غَيْرَ فَاسِقٍ، وَالْفِسْقُ أَمْرٌ طَارِئٌ مَظْنُونٌ، فَلَا يَجُوزُ
تَرْكُ الْأَصْلِ بِالظَّنِّ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ
لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّاهِدِ الْعَدَالَةُ كَذَلِكَ
الْأَصْلُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْعَدَالَةُ، وَالشَّاهِدُ وَصَفَهُ
بِالزِّنَا وَالْقَتْلِ فَتَقَابَلَ الْأَصْلَانِ فَرَجَّحْنَا
بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنَاهَا عَلَى
الْإِسْقَاطِ فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَلَهُمَا أَنَّ
الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَحْتَاطَ فِي حُكْمِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ
النَّقْضِ وَذَلِكَ بِسُؤَالِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.
(وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَفْتَى فِي زَمَانٍ كَانَتِ الْعَدَالَةُ فِيهِ
ظَاهِرَةً، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَّلَ
أَهْلَهُ وَقَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ»
وَاكْتَفَى بِتَعْدِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وَفِي زَمَنِهِمَا فَشَا الْكَذِبُ فَاحْتَاجَا إِلَى السُّؤَالِ، وَلَوْ
كَانَا فِي زَمَانِهِ مَا سَأَلَا، وَلَوْ كَانَ فِي زَمَنِهِمَا لَسَأَلَ،
فَلِهَذَا قُلْنَا: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَقَدْ تَصَفَّحْتُ
كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فَمَا رَأَيْتُهُ رَجَّحَ
عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ غَيْرِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ قَوْلَهُمَا لِمَا رَأَى مِنْ فَسَادِ
أَهْلِ الزَّمَانِ، وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ،
وَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ أَحْوَالِ
الشُّهُودِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى
الشَّاهِدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ
الشَّهَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ
الشَّهَادَةِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ عَدْلٌ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ؛
وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ
الْحُرِّيَّةُ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا عِنْدَهُ
قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَكْتَفُونَ
بِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ انْضَمَّ إِلَيْهَا تَزْكِيَةُ
السِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، ثُمَّ قِيلَ يَكْتَفِي
بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ:
تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي
تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُزَكِّي وَالشَّاهِدِ
لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ. وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ أَنْ
يَبْعَثَ رُقْعَةً مَخْتُومَةً إِلَى الْمُزَكِّي فِيهَا اسْمُ الشَّاهِدِ
وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَمُصَلَّاهُ، وَيَرُدُّهَا الْمُزَكِّي كَذَلِكَ
سِرًّا، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ
الشُّهُودِ أَوْثَقَ النَّاسِ وَأَوْرَعَهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمَهُمْ
أَمَانَةً وَأَكْثَرَهُمْ بِالنَّاسِ خِبْرَةً وَأَعْلَمَهُمْ
بِالتَّمْيِيزِ، غَيْرَ مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُقْصَدُوا
بِسُوءٍ أَوْ يُخْدَعُوا، وَيَنْبَغِي لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ
أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَيَتَعَرَّفَهَا مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ
سُوقِهِمْ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ عِنْدَهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي
آخِرِ الرُّقْعَةِ: هُوَ عَدْلٌ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا
كَتَبَ: إِنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، وَخَتَمَ الرُّقْعَةَ وَرَدَّهَا،
فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَقُولُ
جُرِحُوا، وَيُقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ قَوْلُ الْوَلَدِ
وَالْوَالِدِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ وَالْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ
فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهَا
شَهَادَةٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا
شَهَادَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالشُّهُودُ الْكُفَّارُ يُعَدِّلُهُمُ
الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمُ
(2/142)
وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ (سم) ، وَتَكْفِي تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ (ف) .
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ
الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ إِلَّا
الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ
عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يُشْهِدْهُ (ف) . وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ إِلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ
وَالدُّخُولَ وَالنِّكَاحَ، وَوِلَايَةَ الْقَاضِي، وَأَصْلَ الْوَقْفِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الْمُسْلِمُونَ سَأَلَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عُدُولِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ
يَسْأَلُ أُولَئِكَ عَنِ الشُّهُودِ.
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ
يَقُولَ هُمْ عُدُولٌ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، أَمَّا
لَوْ قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولُ صَدَّقَهُ فَقَدِ اعْتَرَفَ
بِالْحَقِّ فَيَقْضِي بِإِقْرَارِهِ لَا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ
الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْجُحُودِ؛ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ. وَوَجْهُ
الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ وَالشُّهُودَ يَزْعُمُونَهُ كَاذِبًا فِي
إِنْكَارِهِ مُبْطِلًا فِي جُحُودِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُزَكِّيًا.
قَالَ: (وَتَكْفِي تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ اثْنَيْنِ
وَهُوَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُتَرْجِمُ وَرَسُولُ الْقَاضِي إِلَى
الْمُزَكِّينَ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى
الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ بِالتَّزْكِيَةِ، فَيُشْتَرَطُ الْإِتْيَانُ
كَالشَّهَادَةِ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُ ذُكُورَةُ الْمُزَكِّي فِي
الْحُدُودِ وَالْأَرْبَعَةُ فِي شُهُودِ الزِّنَا لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا
يُشْتَرَطَ فِيهَا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ،
وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ تَعْبُّدِيٌّ فَلَا
يَتَعَدَّاهَا.
[فصل يجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ
الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ]
فَصْلٌ
(وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ
الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ عَلِمَ
الْمُوجِبَ وَتَيَقَّنَهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«إِنْ عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وَيَقُولُ أَشْهَدُ بِكَذَا
لِأَنَّهُ عَلِمَهُ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي فَإِنَّهُ كَذِبٌ.
قَالَ: (إِلَّا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ
أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يُشْهِدْهُ) لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ مُوجِبَةً إِلَّا بِالنَّقْلِ إِلَى مَجْلِسِ
الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّحَمُّلِ، وَلَوْ سَمِعَهُ
يُشْهِدُ غَيْرَهُ عَلَى شَهَادَتِهِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ
مَا حَمَّلَهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُخْتَبِئِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ
الرَّجُلُ بِحَقٍّ وَالشُّهُودُ مُخْتَبِئُونَ فِي بَيْتٍ يَسْمَعُونَ
إِقْرَارَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُمُ الشَّهَادَةُ إِذَا كَانُوا
يَرَوْنَ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ لَا يَحِلُّ
لَهُمْ إِلَّا إِذَا عَلِمُوا أَنْ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ غَيْرُهُ
فَيَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَا إِذَا سَمِعُوا صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ إِلَّا
النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالدُّخُولَ وَالنِّكَاحَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي،
وَأَصْلَ الْوَقْفِ) ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ وَلَمْ تُوجَدْ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُبَاشَرُ بِحُضُورِ
جَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ مُسْتَمِرَّةٌ،
فَأُقِيمَتِ الشُّهْرَةُ وَالِاسْتِفَاضَةُ مَقَامَ الْعِيَانِ
وَالْمُشَاهَدَةِ كَيْلَا تَتَعَطَّلَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَعَلَى هَذَا
النَّاسُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، أَلَا تَرَى
أَنَّا نَشْهَدُ
(2/143)
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ فِيمَا سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَإِذَا رَأَى الشَّاهِدُ
خَطَّهُ لَا يَشْهَدْ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ سَائِرُ زَوْجَاتِهِ وَفَاطِمَةُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَنَشْهَدُ بِنَسَبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَنَشْهَدُ بِقَضَاءِ شُرَيْحٍ
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ، وَنَشْهَدُ بِمَوْتِ الْخُلَفَاءِ
الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالشُّهْرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ إِمَّا
بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ
وَاحِدٌ يَثِقُ بِهِ جَازَ؛ وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ رَجُلَيْنِ أَوْ
رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ؛ وَقِيلَ يَكْتَفِي فِي الْمَوْتِ بِشَهَادَةِ
الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَحْضُرُهُ غَيْرُ الْوَاحِدِ، وَإِذَا
رَأَى رَجُلًا يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ
لَهُ الشَّهَادَةُ بِوِلَايَتِهِ؛ وَكَذَا إِذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً
يَسْكُنَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَتَعَاشَرَانِ مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ
حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا كَمَا إِذَا رَأَى
عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ.
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى
أَصْلِهِ دُونَ شَرْطِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الَّذِي يُشْتَهَرُ،
فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ أَدَّى إِلَى اسْتِهْلَاكِ
الْأَوْقَافِ الْقَدِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
كَمَا فِي النَّسَبِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:
«الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَلِأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ
ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَبِلَالًا مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُشْتَهَرُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْإِعْتَاقِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُشْتَهَرُ غَالِبًا
وَصَارَ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ
مِثْلُهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ
يُطْلِقَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْقَاضِي حَتَّى لَوْ فَسَّرَهَا وَقَالَ
إِنَّهُ شَهِدَ بِالتَّسَامُعِ لَا يَقْبَلُهَا، وَكَذَلِكَ فِي
الشَّهَادَةِ بِالْيَدِ لَا يُفَسِّرُهَا.
قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) إِذَا رَآهُ
فِي يَدِهِ.
(فِيمَا سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ
وَهُوَ الْمَرْجِعُ فِي الْأَسْبَابِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِهَا. وَاشْتَرَطَ أَبُو يُوسُفَ أَنْ
يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا
لِلْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ الْخَصَّافُ التَّصَرُّفَ مَعَ الْيَدِ فَإِنَّ
الْيَدَ تَتَنَوَّعُ. قُلْنَا وَالتَّصَرُّفُ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ إِلَى
أَمَانَةٍ وَمِلْكٍ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا عَايَنَ
الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، أَوْ عَايَنَ الْمِلْكَ وَحْدَهُ وَعُرِفَ
الْمَالِكُ بِالِاشْتِهَارِ بِنَسَبِهِ. أَمَّا إِذَا عَايَنَ الْمَالِكَ
وَحْدَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛
لِأَنَّ الْحُرَّ يُسْتَخْدَمُ كَمَا يُسْتَخْدَمُ الْعَبْدُ كَالْأَجِيرِ
الْخَاصِّ وَنَحْوِهِ، فَلَا تَكُونُ الْيَدُ دَلِيلًا حَتَّى يُعْلَمَ
أَنَّهُ رَقِيقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ
الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَا
صَغِيرَيْنِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ،
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ رِقُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا بِخِلَافِ
الْكَبِيرَيْنِ.
قَالَ: (وَإِذَا رَأَى الشَّاهِدُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدُ مَا لَمْ يَذْكُرِ
الْحَادِثَةَ) وَهَكَذَا الْقَاضِي وَالرَّاوِي؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ
الْخَطَّ فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ، قَالُوا: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَقِيلَ هُوَ إِجْمَاعٌ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا وَجَدَ
الْقَاضِي الْقَضِيَّةَ
(2/144)
وَشَاهِدُ الزُّورِ يُشَهَّرُ وَلَا
يُعَزَّرُ (سم ف) ، وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الشَّهَادَةِ الدَّعْوَى،
وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْلَّفْظِ وَالْمَعْنَى (سم) ،
فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ
(سم) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فِي دِيوَانِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ، وَكَذَا إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ رَقْمَ
شَهَادَتِهِ عِنْدَهُ تَحْتَ خَتْمِهِ وَكَذَلِكَ الرَّاوِي فَيَجُوزُ
عِنْدَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنَ
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ.
أَمَّا مَا كَانَ فِي الصَّكِّ بِيَدِ الْخَصْمِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ
نُسْخَتُهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا
يَجُوزُ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إِنْ عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ»
وَلَا عِلْمَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَشَرْطُ حِلِّ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ
أَنْ يَحْفَظَ مِنْ حِينِ سَمِعَ إِلَى أَنْ يَرْوِيَ، وَلِهَذَا قَلَّتْ
رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَذَا إِذَا
ذَكَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْحَادِثَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ
بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَذْكُرْهَا.
قَالَ: (وَشَاهِدُ الزُّورِ يُشَهَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ) وَقَالَا:
يُوجِعُهُ ضَرْبًا وَيَحْبِسُهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ
وَجْهَهُ؛ وَلِأَنَّهَا إِضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ
فَيُعَزِّرُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّجْرَ يَحْصُلُ
بِالتَّشْهِيرِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ أَزْجَرَ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ
مِنَ الرُّجُوعِ، وَفِعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ
سِيَاسَةً وَلِهَذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ وَسَخَّمَ. وَالتَّشْهِيرُ:
أَنْ يَبْعَثَهُ الْقَاضِي إِلَى أَهْلِهِ أَوْ سُوقِهِ أَجْمَعَ مَا
يَكُونُونَ وَيَقُولُ: الْقَاضِي يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ وَيَقُولُ:
إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ،
مَنْقُولُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ
الضَّرْبِ.
قَالَ: (وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الشَّهَادَةِ الدَّعْوَى) لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ
تُوَافِقْهَا فَقَدِ انْعَدَمَتْ.
(وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى،
فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ
تُقْبَلْ) وَقَالَا: تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي
أَلْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ، وَتَفَرَّدَ
أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ فَيَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا
شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْأَلْفِ، كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا الطَّلْقَةُ
وَالطَّلْقَتَيْنِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَجَدَ الِاخْتِلَافَ
لَفْظًا، وَأَنَّهُ دَلِيلُ الِاخْتِلَافِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى
الْأَلْفِ غَيْرُ مَعْنَى الْأَلْفَيْنِ، وَهُمَا جُمْلَتَانِ
مُتَغَايِرَتَانِ حَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا
يُقْبَلُ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَا، لِأَنَّهُمَا
اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّهُ عَطَفَ
الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى الْأَلْفِ، وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ
عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ بِخِلَافِ
الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَطْفٍ فَهُوَ
نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ. وَالْعِشْرُونَ، وَالْخَمْسُ
وَالْعِشْرُونَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ، وَلَوْ
كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى الْأَقَلَّ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي
الْمَسَائِلِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَلَوْ
قَالَ: كَانَ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَقَبَضْتُ خَمْسَمِائَةٍ
أَوْ أَبْرَأَتُهُ عَنْهَا قَبْلَ التَّوْفِيقِ، وَإِنْ شَهِدَا بِأَلْفٍ
فَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ
(2/145)
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى سَرِقَةِ بَقَرَةٍ
وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ (سم) ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي
الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ لَمْ يُقْطَعْ. شَهِدَا بِقَتْلِ زَيْدٍ
يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ
بِالْكُوفَةِ رُدَّتَا، فَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا
بَطَلَتِ الْأُخْرَى.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَضَى بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهَا، وَلَا يَثْبُتُ الْقَضَاءُ؛
لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ شَهِدَ آخَرُ يَثْبُتُ،
وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْهَدَ
بِالْأَلْفِ حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُدَّعِي بِالْقَبْضِ لِيُظْهِرَ
الْحَقَّ وَلَا يُعِينُ عَلَى الظُّلْمِ.
قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَا عَلَى سَرِقَةِ بَقَرَةٍ وَاخْتَلَفَا فِي
لَوْنِهَا قُطِعَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ لَمْ
يُقْطَعْ) ، وَقَالَا: لَا يُقْطَعُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ
مُخْتَلِفٌ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدَانِ وَصَارَ
كَالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَهُ أَنَّ اشْتِمَالَ الْبَقَرَةِ عَلَى
اللَّوْنَيْنِ جَائِزٌ، فَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا رَأَى فِي
جَانِبِهِ وَهِيَ حَالَةُ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ
دَلِيلًا، وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَتُقْبَلُ،
بِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي
بَقَرَةٍ فَكَانَا مُتَغَايِرَيْنِ.
قَالَ: (شَهِدَا بِقَتْلِ زَيْدٍ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، وَآخَرَانِ
بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ رُدَّتَا) لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا
كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَا تُدْرَى، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنَ
الْأُخْرَى بِالرَّدِّ وَلَا بِالْقَبُولِ فَيُرَدَّانِ.
(فَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا بَطَلَتِ الْأُخْرَى)
لِأَنَّ الْأُوْلَى تَرَجَّحَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا تُنْقَضُ بِمَا هُوَ
دُونَهَا.
[فصل ردت شهاته لمانع ثم زال هل تقبل شهادته]
فَصْلٌ
كُلُّ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِلرِّقِّ أَوِ الْكُفْرِ أَوْ لِلصِّبَا
ثُمَّ زَالَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ فَأَدَّاهَا قُبِلَتْ، وَلَوْ رُدَّتْ
لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ أَوِ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ أَوِ الْمَوْلَى
لِعَبْدِهِ ثُمَّ زَالَتْ فَأَدَّاهَا لَمْ تُقْبَلْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ
الْأُولَى لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَكُنِ
الرَّدُّ تَكْذِيبًا شَرْعًا، وَالثَّانِيَةُ شَهَادَةٌ لِقِيَامِ
الْأَهْلِيَّةِ فَكَانَ تَكْذِيبًا فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا، وَلَوْ
تَحَمَّلَهَا الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ أَوْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ
فَأَدَّاهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ قُبِلَتْ، وَكَذَلِكَ إِنْ
تَحَمَّلَهَا وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ صَبِيٌّ فَأَدَّاهَا بَعْدَ
زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ
الْأَدَاءِ لِمَا يَأْتِي وَلَا مَانِعَ حَالَتَئِذٍ.
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى) وَقَالَ زُفَرُ: تُقْبَلُ
فِيمَا يُجْرَى فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّهُ يُسْمَعُ. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: إِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ تُقْبَلُ لِوُجُودِ
الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ
وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَيَعْرِفُهُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الْمَيِّتِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ
وَلَا عَلَى الْإِشَارَةِ، وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ
الْحَاضِرِ وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي
(2/146)
وَلَا الْمَحْدُودِ (س ز) فِي قَذْفٍ
وَإِنْ تَابَ، وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا
لِلْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا لِعَبْدِهِ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ، وَلَا
لِلزَّوْجِ (ف) وَالزَّوْجَةِ (ف) ، وَلَا أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ
فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَلَا شَهَادَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ؛
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَلَا نَائِحَةٍ، وَلَا مَنْ يُغَنِّي
لِلنَّاسِ، وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
بِهَا عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ
الْقَضَاءِ لِيَصِيرَ حُجَّةً، كَمَا إِذَا جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ
الْمَوْتِ فَإِنَّهُ مِنْهُ لِلْأَهْلِيَّةِ وَالْغَيْبَةِ لَا تَفُوتُ
بِهَا الْأَهْلِيَّةُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ بِالنُّطْقِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ.
قَالَ: (وَلَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وَلِأَنَّهُ مِنْ
تَمَامِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ مَانِعٌ فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ.
أَمَّا الْمَحْدُودُ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ فَالرَّدُّ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ
وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِسْقِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ،
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ أَوْ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى
الْأَقْرَبِ وَهُوَ الْفِسْقُ.
(وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ)
لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حَدَثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى غَيْرَ الَّتِي
كَانَتْ قَبْلَهُ، فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ فِي إِسْقَاطِ الْأُولَى
إِسْقَاطًا فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً.
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا
لِلْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-: «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ
لِوَالِدِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ
لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ،
وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ»
رُوِيَ ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةٍ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلِأَنَّ
الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ دَفْعُ الزَّكَاةِ
إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وُجُوهٍ، وَمَحْرَمِيَّةُ
الرَّضَاعِ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ
بَيْنَهُمَا فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَرَابَاتِ
كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَمَا سِوَى قَرَابَةِ الْوِلَادِ
لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: (وَلَا لِعَبْدِهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا
يَمْلِكُ فَتَقَعُ الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ.
(وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِأَنَّ أَكْسَابَهُ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْعَبْدُ
الْمَدْيُونُ كَالْمُكَاتَبِ.
قَالَ: (وَلَا لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ
الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمَا مُتَّصِلَةٌ عَادَةً فَتَقَعُ لِنَفْسِهِ مِنْ
وَجْهٍ.
(وَلَا أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا)
لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهَا تَقَعُ لِنَفْسِهِ.
(وَلَا شَهَادَةَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ
يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِي مُدَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَصَارَ
كَالْمُسْتَأْجِرِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَلَا نَائِحَةٍ، وَلَا مَنْ
يُغَنِّي لِلنَّاسِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ: " لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ: النَّائِحَةُ،
وَالْمُغَنِّيَةُ» ، وَالْمُرَادُ الْمُخَنَّثُ الَّذِي يَفْعَلُ
الْأَفْعَالَ الرَّدِيئَةَ، وَأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. قَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُؤَنَّثَاتِ مِنَ
الرِّجَالِ، وَالْمُذَكَّرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ» ، أَمَّا اللَّيِّنُ فِي
الْكَلَامِ خِلْقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
قَالَ: (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مُتَأَوِّلًا قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ أَوْ يَكُنْ عَلَى اللَّهْوِ.
(2/147)
وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ، وَلَا
مَنْ يَفْعَلُ كَبِيرَةً تُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا،
وَلَا مَنْ يُقَامِرُ بِالشَّطْرَنْجِ وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ
بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَخَفَّةَ
كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ
السَّلَفِ، وَلَا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ بِسَبَبِ
الدُّنْيَا، وَتُقْبَلُ إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الدِّينِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
(وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ غَفْلَةً
وَيَطَّلِعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ بِالطُّلُوعِ عَلَى السُّطُوحَاتِ.
قَالَ: (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ كَبِيرَةً تُوجِبُ الْحَدَّ) لِفِسْقِهِ.
(وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا) لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمُ
الْإِدْمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنِ الْعَقْدِ
الْفَاسِدِ.
(وَلَا مَنْ يُقَامِرُ بِالشَّطْرَنْجِ) لِأَنَّهُ حَرَامٌ. أَمَّا نَفْسُ
اللَّعِبِ لَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ إِلَّا أَنْ
تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ أَوْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ كَذِبًا.
قَالَ: (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ) لِفِسْقِهِ
بِإِبْدَاءِ عَوْرَتِهِ.
(وَلَا مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَخِفَّةِ
كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ يُسْقِطُ
الْمُرُوءَةَ فَلَا يَتَحَاشَى عَنِ الْكَذِبِ، وَكَذَا مَنْ يَمْشِي فِي
السُّوقِ بِالسَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُنَاهَدَةُ مَعَ
الِابْنِ فِي السَّفَرِ.
قَالَ: (وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِفِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ
يَكْتُمُهُ، وَلَا الشَّتَّامُ لِلنَّاسِ وَالْجِيرَانِ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ شَتَمَ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ
الْأَسْقَاطِ وَأَوْضَاعِ النَّاسِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الَّذِينَ
تَبَرَّؤُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَإِنْ كَانَ
بَاطِلًا.
(وَلَا شَهَادَةِ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ بِسَبَبِ
الدُّنْيَا) لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ.
(وَتُقْبَلُ إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الدِّينِ) لِأَنَّهُ لَا يَكْذِبُ
لِدِينِهِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ تَارِكِ
الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ مَجَانَةً، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ
تَرْكَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ الْخَصَّافُ مَرَّةً. وَإِنْ
تَرَكَهَا لِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ بُعْدٍ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بِتَأْوِيلٍ
بِأَنْ كَانَ يُفَسِّقُ الْإِمَامَ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجَالِسَ الْفُجُورِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَدْلُ
الَّذِي لَمْ يُظْهِرْ رِيبَةً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مُوسِرٌ أَخَّرَ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ إِنْ كَانَ
صَالِحًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُمَا لَا وَقْتَ لَهُمَا، وَمَا
كَانَ لَهُ وَقْتٌ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ
بِالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ الشَّاعِرِ مَا
لَمْ يَقْذِفْ فِي شِعْرِهِ الْمُحْصَنَاتِ، وَقَالَ الْعَدْلُ: هُوَ
الَّذِي غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ
اشْتِرَاطُ السَّلَامَةِ عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى
ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْعَبْدَ قَلَّ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ
النَّخَّاسِينَ وَالدَّلَّالِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ، وَتُقْبَلُ
شَهَادَةُ أَهْلِ جَمِيعِ الصَّنَائِعِ كُلِّهَا إِذَا كَانُوا عُدُولًا
إِلَّا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ.
وَمَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ حَالَ إِفَاقَتِهِ،
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَهُمْ
قَوْمٌ مِنَ الرَّافِضَةِ يَسْتَجِيزُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ
يَحْلِفُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ حُرْمَةَ الْكَذِبِ، وَقِيلَ
يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً،
(2/148)
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى
الذِّمِّيِّ، وَتُقْبَلُ (ف) شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ
شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ، وَالْخَصِيِّ وَالْخُنْثَى وَوَلَدِ الزِّنَا،
وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الشَّاهِدِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ
التَّحَمُّلِ. وَإِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ
قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُجَسِّمَةِ لِأَنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَنْ لَا
يَكْفُرُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. أَلَا يَرَى
أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا
وَاقْتَتَلُوا، وَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَتْ مَقْبُولَةً،
وَلَيْسَ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَكْثَرَ مَا
كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْفَاسِقِ عَمَلًا؛
لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ دِينِهِ فَيَرْتَكِبُ الْكَذِبَ، وَهَذَا
يَعْتَقِدُ مَا يَفْعَلُهُ حَقًّا يُدِينُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى
فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْكَذِبِ.
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ)
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
عَلَى الْمُسْلِمِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ عَلَيْهِ وَفِسْقِهِ مِنْ حَيْثُ
الِاعْتِقَادُ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ
مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ.
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ
عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَمْ
أَجِدْ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ غَيْرَ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، فَإِنِّي وَجَدْتُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ بِشَهَادَةِ
الْيَهُودِ وَمِلَلُهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي
الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْمَعُهُمْ دَارٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ عَدَمِ
قَبُولِ شَهَادَةِ الرُّومِ عَلَى الْهِنْدِ وَبِالْعَكْسِ لِانْقِطَاعِ
الْوِلَايَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَبِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ
لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ.
(وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ) لِعَدَمِ
الْوِلَايَةِ.
(وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ وِلَايَتَهُ
ثَابِتَةٌ فِي دَارِنَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَتَكُونُ
ثَابِتَةً فِي جِنْسِهِ.
قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ) لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لَا
يُوجِبُ الْفِسْقَ إِلَّا إِذَا تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَلَوْ
تَرَكَهُ بَعْدَ مَا كَبُرَ لَا يَفْسُقُ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ صِيَانَةً
لِمُهْجَتِهِ لَا رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ.
قَالَ: (وَالْخَصِيُّ) لِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ فَصَارَ كَغَيْرِهِ
مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبِلَ شَهَادَةَ
عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ.
قَالَ: (وَالْخُنْثَى) لِأَنَّهُ إِمَّا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
قَالَ: (وَوَلَدُ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ
فِسْقَهُ كَكُفْرِهِمَا وَإِسْلَامِهِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ.
قَالَ: (وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الشَّاهِدِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ
التَّحَمُّلِ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا وَالْإِلْزَامَ حَالَةُ
الْأَدَاءِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُ.
قَالَ: (وَإِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ
قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ) لِمَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِنَابِ
الْكَبَائِرِ أَجْمَعَ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيَكُونُ
صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ، مُعْتَادَ الصِّدْقِ، مُجْتَنِبًا
الْكَذِبَ، يَخَافُ
(2/149)
فَصْلٌ
تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَسْقُطُ (ف)
بِالشُّبْهَةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
هَتْكَ السِّتْرِ، صَحِيحَ الْمُعَامَلَةِ، فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ،
مُؤَدِّيًا لِلْأَمَانَةِ، قَلِيلَ اللَّهْوِ وَالْهَذَيَانِ. قَالَ عُمَرُ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَغُرَّنَّكُمْ طَنْطَنَةُ الرَّجُلِ فِي
صِلَاتِهِ، وَانْظُرُوا إِلَى حَالِهِ عِنْدَ دِرْهَمِهِ وَدِينَارِهِ.
أَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَتِهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ،
لِمَا فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ.
1 -
فَصْلٌ
اعْلَمْ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، لِأَنَّ الْجَارِحَ
اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْعِيَانُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ دِينِهِ،
وَالْمُعَدِّلُ شَهِدَ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى دَلِيلٍ،
وَلَوْ عَدَّلَهُ وَاحِدٌ وَجَرَحَهُ آخَرُ فَالْجَرْحُ أَوْلَى، فَإِنْ
عَدَّلَهُ آخَرُ فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ،
وَلَوْ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى
لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَدَدِ لَا
تُوجِبُ التَّرْجِيحَ، وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى
الْجَرْحِ قَصْدًا وَلَا يَحْكُمُ بِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِلْزَامِ
وَأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ هَتْكَهُ،
وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعِي
بِذَلِكَ سَمِعَهَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ،
وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لِأَدَاءِ
الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا عَلَى الْجَرْحِ خَاصَّةً، إِذْ لَا
خَصْمَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ اسْتَأْجَرَهُمْ
بِدَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ مِنْ مَالِي الَّذِي فِي يَدِهِ
قُبِلَتْ لِأَنَّهُ خَصْمٌ، ثُمَّ يُثْبِتُ الْجَرْحَ بِنَاءً عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: صَالَحْتُهُمْ عَلَى مَالٍ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِمْ
لِئَلَّا يَشْهَدُوا بِهَذَا الْبَاطِلِ وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ
الْمَالِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ
قَالَ: لَمْ أُسَلِّمِ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَمْ تُقْبَلْ، وَلَوْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ
شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي أَوْ أَجِيرُهُ
وَنَحْوُ ذَلِكَ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ
الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَقَّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْحُدُودُ أَوْ
حَقُّ الْعَبْدِ.
قَالَ الْخَصَّافُ: وَأَسْبَابُ الْجَرْحِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الرُّكُوبُ
فِي الْبَحْرِ، وَالتِّجَارَةُ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، وَفِي قُرَى
فَارِسَ وَأَشْبَاهِهِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ حَيْثُ
سَكَنَ دَارَ الْحَرْبِ وَكَثَّرَ سَوَادَهُمْ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا
فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْذِبَ بِأَخْذِ الْمَالِ وَقُرَى فَارِسَ
يُطْعِمُونَهُمُ الرِّبَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
[فصل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ]
فَصْلٌ
(تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ) وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى
(2/150)
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى
شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ
رَجُلَيْنِ. وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ: أَشْهَدُ عَلَى
شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا،
وَيَقُولُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا
أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا،
وَقَالَ لِي: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
ذَلِكَ وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى إِحْيَاءِ الْحُقُوقِ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْأَدَاءِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ
سَفَرٍ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَ حُقُوقُ النَّاسِ، وَتَجُوزُ
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ بَعُدَ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا
بَيَّنَّا.
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي
الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ نُقِلَ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ
الْمُدَّعِي فَيَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا لَمْ
تَجُزْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى
الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ، وَفِي ذَلِكَ احْتِيَالٌ لِلثُّبُوتِ؛ وَلِأَنَّ
فِيهَا شُبْهَةً لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ أَوِ الْبَدَلِيَّةِ،
وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُقْبَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ
الْحُدُودِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا
يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كَسَائِرِ
الْعُقُوبَاتِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْبَلُ، لِأَنَّ
التَّعْزِيرَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ»
وَالْحَبْسُ تَعْزِيرٌ.
قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ)
لِأَنَّهُ حَقٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ النِّصَابِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلَّا شَهَادَةُ
رَجُلَيْنِ.
قَالَ: (وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ) لِمَا
رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا،
وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ أَصْلٍ حَقٌّ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَهِدَا
بِحَقَّيْنِ.
(وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي
أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا) لِأَنَّ
الْفَرْعَ يَنْقُلُ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْمِيلِ
لِمَا بَيَّنَّا، فَيَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي
لِيَنْقُلَهَا إِلَيْهِ.
قَالَ: (وَيَقُولُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا
أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا،
وَقَالَ لِيَ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
ذِكْرِ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ وَذَلِكَ
بِمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ
يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ثَمَانِي مَرَّاتٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ:
أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ
أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَأَشْهَدَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ،
وَقَالَ لِيَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَأَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنِ اكْتَفَى بِخَمْسٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرْبَعٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ
فُلَانًا أَشْهَدَنِي، وَقَالَ لِي: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي. وَمِنْهُمْ
مَنْ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ
يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا قَالَ لِيَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي،
أَوْ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ.
وَالْأَحْسَنُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَحْوَطُ مَا ذَكَرَهُ
الْخَصَّافُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحَرُّزًا عَنِ اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ يَصْغُرُ كِتَابُنَا عَنِ اسْتِيعَابِهِ.
(2/151)
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ
إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُ الْأُصُولِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ. فَإِنْ
عَدَّلَهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُمْ جَازَ،
وَإِذَا أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ
الْفُرُوعِ، وَالتَّعْرِيفُ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ أَوِ الْفَخِذِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ
حُضُورُ الْأُصُولِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تُقْبَلُ
لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي
نَظَرًا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ
الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ الرَّجُلِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا
جَوَّزْنَاهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ مَعَ
حَضْرَةِ الْأُصُولِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرُوعَ أَبَدَالٌ، وَلَا حُكْمَ
لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي النَّظَائِرِ، وَشَهَادَةُ
الْمَرْأَتَيْنِ لَيْسَتْ بَدَلِيَّةً؛ لِأَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ
لِلْحُكَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فَاطْلُبُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَاءَ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ
تَرْضَوْنَهُمْ فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ. وَالْعُذْرُ مَوْتٌ أَوْ مَرَضٌ
أَوْ سَفَرٌ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ عِنْدَ تَعَذُّرِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ
وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا.
أَمَّا الْمَوْتُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَادُ بِهِ مَرَضٌ
لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا السَّفَرُ
فَمُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ السَّفَرِ، لِأَنَّ بُعْدَ الْمَسَافَةِ عُذْرٌ،
وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ حَتَّى رَتَّبَ عَلَيْهَا
كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ
يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ وَيَعُودَ إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ
فَلَيْسَ بِعُذْرٍ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ عُذْرٌ، لِأَنَّ
الْبَيْتُوتَةَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ مَشَقَّةٌ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ:
وَبِهِ نَأْخُذُ.
قَالَ: (فَإِنْ عَدَّلَهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ
أَهْلِ التَّزْكِيَةِ، وَمِثْلُهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ فَزَكَّى
أَحَدُهُمَا الْآخَرُ جَازَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي حَقِّهِ
حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبُ قَبُولِ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ
بِمِثْلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي إِقَامَةِ شَهَادَتِهِ؟
(وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُمْ جَازَ) وَيَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْهُمْ عِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهُمُ النَّقْلُ دُونَ
التَّعْدِيلِ، فَإِذَا نَقَلُوهَا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ مِنْ
غَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
تَعْتَمِدُ الْعَدَالَةَ فَإِذَا سَكَتُوا صَارُوا شَاكِّينَ فِيمَا
شَهِدُوا بِهِ فَلَا تُقْبَلُ.
قَالَ: (وَإِذَا أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ
شَهَادَةُ الْفُرُوعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا التَّحْمِيلَ وَقَدْ وَقَعَ
التَّعَارُضُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ؛ وَلَوِ ارْتَدَّ شَاهِدَا
الْأَصْلِ ثُمَّ أَسْلَمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ
بِالرِّدَّةِ بَطَلَ الْإِشْهَادُ؛ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ
لِتُهْمَةٍ فِي الْأُصُولِ، ثُمَّ تَابَ الْأُصُولُ لَمْ تُقْبَلْ
شَهَادَةُ الْأُصُولِ وَلَا الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا
شَهَادَةَ الْأُصُولِ، فَالْمَرْدُودُ شَهَادَةُ الْأُصُولِ؛ وَيَجُوزُ
شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ
لِابْنِهِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ: (وَالتَّعْرِيفُ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ أَوِ الْفَخِذِ) لِأَنَّ
التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا،
لِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْقَبِيلَةِ كَبَنِي تَمِيمٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ
التَّعْرِيفُ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْرِيفِ
بِالْفَخْذِ وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ،
(2/152)
وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْمِصْرِ
وَالْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ عَامَّةٌ، وَإِلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ
خَاصَّةٌ.
بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ
وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ
الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ، وَبَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخِ الْحُكْمُ، وَضَمِنُوا
مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقُضِيَ بِهِ،
وَأَخَذَهُ الْمُدَّعِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَكَذَا ذِكْرُ الْأَبِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ فِي
اسْمِ الْإِنْسَانِ وَاسْمِ أَبِيهِ. أَمَّا الِاشْتِرَاكُ مَعَ ذَلِكَ فِي
اسْمِ الْجَدِّ فَنَادِرٌ فَحَصَلَ بِهِ التَّعْرِيفُ.
(وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْمِصْرِ وَالْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ عَامَّةٌ)
لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ.
(وَإِلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ) .
[بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ]
الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِ
الْقَاضِي: " فَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ وَرَاجَعْتَ فِيهِ
نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ،
فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يَبْطُلُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ
خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ "، فَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ لِأَنَّ
الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الشَّهَادَةِ
الْبَاطِلَةِ رُجُوعٌ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَالرُّجُوعُ
قَوْلُهُ شَهِدْتُ بِزُورٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ
الشَّاهِدَ بِشَهَادَتِهِ تَسَبَّبَ إِلَى إِتْلَافِ الْمَالِ عَلَى
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ يَدًا وَتَصَرُّفًا،
فَإِنْ أَزَالَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ضَمِنَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانَ
بِعِوَضٍ إِنْ كَانَ مِثْلًا لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
أَقَلَّ مِنْهُ ضَمِنَ النُّقْصَانَ، وَالْقَاضِي مُلْجَأٌ إِلَى
الْقَضَاءِ مِنْ جِهَةِ الشُّهُودِ فَلَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ إِلَيْهِ.
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ) لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ
فِيهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَى الرُّجُوعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ
مَجْلِسِ الْقَاضِي كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ تَوْبَةٌ
وَالشَّهَادَةُ جِنَايَةٌ، فَيُشْتَرَطُ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْجَهْرِ
وَالْإِخْفَاءِ؛ وَلَوْ أَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهُمَا رَجَعَا لَمْ تُقْبَلْ وَلَا يَحْلِفَانِ، فَإِنْ قَالَ
رَجَعْتُ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ كَانَ هَذَا رُجُوعًا مُبْتَدَأً عِنْدَ
الْقَاضِي.
قَالَ: (فَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ
الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ
وَقَدْ تَنَاقَضَتْ.
قَالَ: (وَبَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخِ الْحُكْمُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
وَالرُّجُوعَ عَنْهَا سَوَاءٌ فِي احْتِمَالِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ،
إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْقَضُ
بِالثَّانِي.
قَالَ: (وَضَمِنُوا مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمَا
بِسَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَضَاهُ
دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِمَا
مَرَّ.
قَالَ: (فَإِنْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقَضَى بِهِ وَأَخَذَهُ الْمُدَّعِي ثُمَّ
رَجَعَا ضَمِنَاهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) لِوُجُودِ التَّسَبُّبِ عَلَى
وَجْهِ التَّعَدِّي، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ،
وَلَا وَجْهَ إِلَى تَضْمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ، وَلَا
يُضَمَّنُ الْقَاضِي لِمَا بَيَّنَّا،
(2/153)
فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ
النِّصْفَ، وَالْعِبْرَةُ فِي الرُّجُوعِ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِمَنْ رَجَعَ،
فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ
رَجَعَ آخَرُ ضَمِنَا النِّصْفَ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
فَرَجَعَتْ وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهَا رُبُعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتَا
ضَمِنَتَا نِصْفَهُ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ
رَجَعُوا فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدُسُ وَعَلَيْهِنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ
(سم) ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ
عَلَى الرَّجُلَيْنِ خَاصَّةً. شَهِدَا بِنِكَاحٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ
الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ
مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ضَمِنَا الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ، وَفِي الطَّلَاقِ
إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَا نِصْفَ (ف) الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ
بَعْدَهُ لَمْ يَضْمَنَا (ف)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَلِأَنَّ فِي تَضْمِينِهِ مَنْعَ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ
خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَلَوْ شَهِدَا بِعَيْنٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا
قِيمَتَهَا أَقَبَضَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا؛
لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْلِكُهُ
إِلَّا بِالْقَبْضِ.
قَالَ: (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ، وَالْعِبْرَةُ فِي
الرُّجُوعِ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِمَنْ رَجَعَ) أَلَا يَرَى أَنَّهُ إِذَا
بَقِيَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْحَقُّ لَا اعْتِبَارَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ؟
وَقَدْ بَقِيَ هُنَا مَنْ يَقُومُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ،
فَيَضْمَنُ الرَّاجِعُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ.
(فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ)
لِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ جَمِيعُ الْحَقِّ.
(فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ ضَمِنَا النِّصْفَ) لِمَا مَرَّ.
قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ وَاحِدَةٌ
فَعَلَيْهَا رُبْعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ، وَلَوْ
شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا، فَعَلَى الرَّجُلِ
السُّدْسُ وَعَلَيْهِنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ) وَقَالَا: عَلَيْهِ
النِّصْفُ وَعَلَيْهِنَّ النِّصْفُ، لِأَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ
فَهُنَّ مَقَامُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِنَّ إِلَّا
نِصْفُ الْحَقِّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ
كُلَّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامُ رَجُلٍ؛ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ» فَصَارَ كَشَهَادَةِ سِتَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَوْ رَجَعَ
النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فَعَلَيْهِنَّ النِّصْفُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ
رَجَعَ ثَمَانٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ رَجَعَتْ أُخْرَى فَعَلَى
الرَّاجِعَاتِ الرُّبُعُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَثَمَانِي
نِسْوَةٍ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْحَقِّ وَلَا شَيْءَ عَلَى
الرَّاجِعَاتِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهُنَّ مَنْ يَقُومُ بِهِ نِصْفُ
الْحَقِّ.
(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى
الرَّجُلَيْنِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ بِهِمَا دُونَهُمَا.
قَالَ: (شَهِدَا بِنِكَاحٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا
لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ
إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ، وَالضَّمَانُ يَسْتَدْعِي
الْمُمَاثَلَةَ، وَإِنَّمَا يُتَقَوَّمُ بِالتَّمْلِيكِ إِظْهَارًا
لِخَطَرِ الْمَحَلِّ. (وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ
ضَمِنَا الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِغَيْرِ
عِوَضٍ.
قَالَ: (وَفِي الطَّلَاقِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَا نِصْفَ
الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ.
(وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّ الْمَهْرَ تَأَكَّدَ
بِالدُّخُولِ فَلَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا. شَهِدَا بِالطَّلَاقِ وَآخَرَانِ
أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شُهُودُ الدُّخُولِ ثَلَاثَةَ
أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَشُهُودُ
(2/154)
وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ
ضَمِنُوا الدِّيَةَ، وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا، وَإِنْ
رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا: لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ لَمْ
يَضْمَنُوا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ رَجَعَ
شُهُودُ الْيَمِينِ، وَشُهُودُ الشَّرْطِ فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ
الْيَمِينِ وَإِذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الطَّلَاقِ رُبُعَهُ، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى النِّصْفِ،
فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ رُبُعُهُ، وَانْفَرَدَ شُهُودُ الدُّخُولِ
بِالنِّصْفِ فَيَنْفَرِدُونَ بِضَمَانِهِ، وَفِي الشَّهَادَةِ بِالْعِتْقِ
يَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِنْ
غَيْرِ عِوَضٍ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَتَحَوَّلْ
إِلَيْهِمَا فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْبَيْعِ
ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْقِيمَةَ لَا الثَّمَنَ، لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا
الْمَبِيعَ لَا الثَّمَنَ؛ وَلَوْ شَهِدَا بِبَيْعِ عَبْدٍ ثُمَّ رَجَعَا
بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ ضَمِنَا
الْفَضْلَ، وَلَوْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا
نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ.
قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ) وَلَا
قِصَاصَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً،
وَالتَّسْبِيبُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ، بِخِلَافِ
الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِيهِ مُضْطَرٌّ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ
يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَلِيُّ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ
وَالِاخْتِيَارُ يَقْطَعُ التَّسْبِيبَ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ
وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَخْلُو عَنْ
أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ ثُمَّ
رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ.
قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ التَّلَفَ
أُضِيفَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَلْجَئُوا الْقَاضِي إِلَى
الْحُكْمِ.
(وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا: لَمْ نَشْهَدْ شُهُودَ
الْفَرْعِ لَمْ يَضْمَنُوا) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّسْبِيبَ وَهُوَ
الْإِشْهَادُ، وَالْقَضَاءُ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ؛ وَلَوْ
قَالُوا: أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ
مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُونَ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَتَهُمْ
فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا. وَلَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِمَا
عَايَنَهُ مِنَ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ فَيُضَافُ
إِلَيْهِمْ، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ
عَلَى الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ
شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ
لِمَا مَرَّ لَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ
بَيْنَهُمَا.
قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ) لِأَنَّ الْإِحْصَانَ
شَرْطٌ مَحْضٌ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إِلَى الْعِلَّةِ لَا إِلَى الشَّرْطِ.
قَالَ: (وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْيَمِينِ وَشُهُودُ الشَّرْطِ
فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ) لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ
الْيَمِينُ، وَالتَّلَفُ مُضَافٌ إِلَى مَنْ أَثْبَتَ السَّبَبَ دُونَ
الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْيَمِينِ
دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: شَهِدَ شَاهِدَانِ
أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِدُخُولِ
الدَّارِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ
الدُّخُولِ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ
التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ.
قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا) وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ
لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ
الْإِحْصَانِ.
وَلَهُ أَنَّ الْقَاضِيَ
(2/155)
كِتَابُ الْوَكَالَةِ وَلَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ
يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ، وَالْوَكِيلُ مِمَّنْ
يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، وَكُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ
بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
إِنَّمَا يَعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّزْكِيَةِ، فَهِيَ عِلَّةُ
الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ
لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. |