الاختيار لتعليل المختار

كِتَابُ الْأَيْمَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
يَتْبَعُونَهُ فِي النَّسَبِ فَكَذَا فِي الْوَلَاءِ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ عَلَى يَدِ آخَرَ وَوَالَاهُ صَحَّ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِ عَنْهُ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَالِي عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا حَتَّى لَا يَصِحَّ مُوَالَاةُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَجْنُونِ، وَلَوْ وَالَى الصَّبِيُّ بِإِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ جَازَ وَالْوَلَاءُ لِلصَّبِيِّ، وَإِنْ وَالَى الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ جَازَ وَكَانَ وَكِيلًا عَنْ مَوْلَاهُ، وَيَقَعُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَالْعَبْدَ لَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَاءِ الْعَقْلُ وَالْإِرْثُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَوْلَى.
قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَلَاءِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْأَعْلَى مُتَبَرِّعٌ بِالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ وَعَقْلِ جِنَايَتَهِ، وَالْأَسْفَلُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِهِ خَلِيفَتَهُ فِي مَالِهِ، وَالتَّبَرُّعُ غَيْرُ لَازِمٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْقَبْضُ أَوِ الْعِوَضُ كَالْهِبَةِ. وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِالْقَوْلِ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ وَبِالْفِعْلِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِأَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ بِالْقَوْلِ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ لِأَنَّهُ عُزِلَ قَصْدًا وَبِالْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ عُزِلَ حُكْمًا.
قَالَ: (فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ وَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) لِحُصُولِ الْعِوَضِ كَالْهِبَةِ، وَكَذَا إِذَا كَبُرَ أَحَدُ أَوْلَادِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَقَلَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي عَقْدِهِ وَوَلَائِهِ، قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَوَالَتْ أَوْ أَقَرَّتْ بِالْوَلَاءِ وَفِي يَدِهَا ابْنٌ صَغِيرٌ تَبِعَهَا فِي الْوَلَاءِ) ، وَقَالَا: لَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهَا عَلَى مَالِهِ فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُهُ عَلَيْهِ كَقَبْضِ الْهِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الْأَيْمَانِ]
وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مِنَّا، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أَيْ تَتَقَوَّوْنَ عَلَيْنَا، وَقَالَ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَهِيَ الْجَارِحَةُ أَيْضًا.
وَهِيَ مُطْلَقُ الْحَلِفِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وقَوْله تَعَالَى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ: أَيْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى أَوْ بِقُوَّتِهِ أَوْ بِحَلِفِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] .
وَفِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَسَمُ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ بِهِ، فَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» ، وَفِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّ فِيهَا الْحَلِفَ، وَفِيهَا مَعْنَى الْقُوَّةِ لِأَنَّهُمْ يُقَوُّونَ كَلَامَهُ وَيُوَثِّقُونَهُ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا أَوْ تَعَاهَدُوا يَأْخُذُونَ

(4/45)


الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌّ: غَمُوسٌ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَغْوٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، فَنَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا وَمُنْعَقِدَةٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
بِالْيَمِينِ الَّتِي هِيَ الْجَارِحَةُ.
الثَّانِي: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ عَلَى وَجْهٍ يُنَزِّلُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ آتِكَ غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَهَذَا النَّوْعُ ثَبَتَ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَفِيهِ مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالتَّوَثُّقِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْحَمْلِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْمَنْعِ عَنْ فِعْلِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ كَوْنَ الْفِعْلِ مَصْلَحَةً وَلَا يَفْعَلُهُ لِنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُ، وَيَعْلَمُ كَوْنَهُ مَفْسَدَةً وَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِمَيْلِهِ إِلَيْهِ وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ، فَاحْتَاجَ فِي تَأْكِيدِ عَزْمِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى تَحْمِلُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ لِمَا يُلَازِمُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِهَتْكِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ وَالْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَحْمِلُهُ وَيَمْنَعُهُ لِمَا يُلَازِمُهُ مِنْ زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ الْمَنْعُ وَالْحَمْلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْيَمِينَيْنِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى.
وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَوْكِيدًا وَتَوْثِيقًا لِلْقَوْلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقَلِّلَ الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ: يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَلْعُونٌ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَلَّفَ بِهِ» ، وَقِيلَ إِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُكْرَهُ وَإِلَى الْمَاضِي يُكْرَهُ، وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَاضِي بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ.
قَالَ: (الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ: غَمُوسٌ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَلَغْوٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، فَنَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا. وَمُنْعَقِدَةٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ) فَإِذَا حَنِثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهَا وَهِيَ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَهِيَ الثَّانِيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ الثَّالِثَةُ، سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ نَاسِيًا، مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا الْغَمُوسُ فَلَيْسَتْ يَمِينًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ كَثِيرَةٌ فَلَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً، وَتَسْمِيَتُهَا يَمِينًا مَجَازٌ لِوُجُودِ صُورَةِ الْيَمِينِ. كَمَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحُرِّ، سَمَّاهُ بَيْعًا مَجَازًا، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَالْيَمِينُ عَلَى

(4/46)


وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْبِرُّ كَفِعْلِ الْفَرَائِضِ وَمَنْعِ الْمَعَاصِي، وَنَوْعٌ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ كَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَنَوْعٌ الْحِنْثُ فِيهِ خَيْرٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الْمَاضِي مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَالْحَالُ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنَ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَبَهْتُ الْمُسْلِمِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَذَكَرَهَا تَعْلِيمًا، أَوْ نَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهَا كَفَّارَةٌ لَمَا دَعَتِ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ اسْمٌ لِمَا يَسْتُرُ الذَّنْبَ فَتَرْفَعُ إِثْمَهُ وَعُقُوبَتَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَلِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] وَالْعَقْدُ مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاضِي.
وَأَمَّا اللَّغْوُ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا يَظُنُّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، وَيَكُونُ فِي الْحَالِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ الْمُقْبِلَ لَزَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] . وَحَكَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ قَطْعًا؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَسَّرَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا غَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجَاءَ عَلَى وَجْهَيْنِ: رَجَاءُ طَمَعٍ، وَرَجَاءُ تَوَاضُعٍ، فَجَازَ أَنَّ مَحَمَّدًا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا يَكُونُ اللَّغْوُ إِلَّا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْكَرْخِيُّ فَقَالَ: مَا كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ الَّذِي يُلْزِمُهُ بِالْحِنْثِ فَلَا لَغْوَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ قَوْلُهُ وَاللَّهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَلْغُو الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَيَلْزَمُهُ.
(وَ) أَمَّا الْمُنْعَقِدَةُ (فَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْبِرُّ كَفِعْلِ الْفَرَائِضِ وَمَنْعِ الْمَعَاصِي) لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَيَتَأَكَّدُ بِالْيَمِينِ، (وَنَوْعٌ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ كَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنَ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» .
(وَنَوْعٌ الْحِنْثُ فِيهِ خَيْرٌ

(4/47)


مِنَ الْبِرِّ كَهِجْرَانِ الْمُسْلِمِ وَنَحْوِهِ، وَنَوْعٌ هُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَحِفْظُ الْيَمِينِ فِيهِ أَوْلَى، وَإِذَا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مِنَ الْبِرِّ كَهِجْرَانِ الْمُسْلِمِ وَنَحْوِهِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَلِأَنَّ الْحِنْثَ يَنْجَبِرُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ.
(وَنَوْعٌ هُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَحِفْظُ الْيَمِينِ فِيهِ أَوْلَى) ، قَالَ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أَيْ: عَنِ الْحِنْثِ.
قَالَ: (وَإِذَا حَنِثَ) يَعْنِي فِي الْأَيْمَانِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] .
قَالَ: (إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) ، قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] خُيِّرَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهَا، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَقِرَاءَتُهُ مَشْهُورَةٌ فَكَانَتْ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَالْكَلَامُ فِي الرَّقَبَةِ وَالطَّعَامِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي ذَلِكَ مَرَّ فِي الظِّهَارِ.
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَى بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا رَدُّ الْعُرْيِ، وَكُلُّ ثَوْبٍ يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا يُسَمَّى كِسْوَةً وَإِلَّا فَلَا، فَإِذَا اخْتَارَ الْحَانِثُ الْكِسْوَةَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ فَلَا يَجُوزُ السَّرَاوِيلُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا عُرْفًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَدْنَاهُ مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلَا يَجُوزُ الْخُفُّ وَلَا الْقَلَنْسُوَةُ لِأَنَّ لَابِسَهُمَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَقِيلَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقَمِيصٌ، وَقِيلَ كِسَاءٌ وَقِيلَ مِلْحَفَةٌ، وَقِيلَ يَجُوزُ الْإِزَارُ إِنْ كَانَ يَتَوَشَّحُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ دُونَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ كَالسَّرَاوِيلِ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِمَامَةِ إِنْ كَانَتْ سَابِغَةً قَدْرَ الْإِزَارِ السَّابِغِ أَوْ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ قَمِيصٌ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا، وَمَا لَا يَجْزِيهِ فِي الْكِسْوَةِ يَجْزِيهِ عَنِ الْإِطْعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إِذَا نَوَاهُ.
وَلَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إِلَّا بِفِعْلٍ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنِ الْعَيْنِ لِيَكُونَ زَاجِرًا وَرَادِعًا لَهُ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَلَوْ أَعَارَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنِ الطَّعَامِ بِالْإِبَاحَةِ كَمَا يَزُولُ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَوْ كَفَّرَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ جَازَ، وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ وَذَلِكَ بِالْإِذْنِ لِيَنْتَقِلَ فِعْلُهُ إِلَيْهِ.
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «

(4/48)


وَالْقَاصِدُ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ.

فَصْلٌ وَحُرُوفُ الْقَسَمِ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَاءُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ، وَرُوِيَ: «ثُمَّ لْيُكَفِّرْهُ يَمِينَهُ» أَمْرٌ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ، أَوْ نَقُولُ: إِذَا حَنِثَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ سَاتِرَةٌ وَالسِّتْرُ يَعْتَمِدُ ذَنْبًا أَوْ جِنَايَةً، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هِيَ الْحِنْثُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْحِنْثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ، لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ مُفْضٍ إِلَى الزُّهُوقِ غَالِبًا، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا أَدَّى الزَّكَاةَ بَعْدَ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمَالُ.
قَالَ: (وَالْقَاصِدُ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْأَيْمَانُ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْبَعَةٌ لَا رِدِّيدَى فِيهِنَّ. وَعَدَّ مِنْهَا الْأَيْمَانَ. وَرُوِيَ: «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَحْلَفُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاهُ أَنْ لَا يُعِينَا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» ، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْيَمِينِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِكْرَاهِ مَضَى فِي بَابِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هُوَ الْفِعْلُ، وَوُجُودُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً لَا يَعْدِمُهُ الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ، وَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ لِمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ.

[فصل حُرُوفُ الْقَسَمِ وفيما يكون به اليمين]
فَصْلٌ (وَحُرُوفُ الْقَسَمِ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَّاءُ) هُوَ الْمَعْهُودُ الْمُتَوَارَثُ، وَقَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا} [الأنعام: 23] ، وَقَالَ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 62] ، وَقَالَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النحل: 63] ، وَلِلَّهِ يَمِينٌ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّامَ تُبْدَلُ مِنَ الْبَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وَ {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ وَضْعًا وَالْوَاوُ بَدَلٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ لِلْجَمْعِ، وَفِي الْإِلْصَاقِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَكَقَوْلِهِمْ: تُرَاثٌ، وَتُجَاهٌ، فَلَمَّا كَانَتِ الْبَاءُ أَصْلًا صَلَحَتْ لِلْقَسَمِ فِي اسْمِ اللَّهِ وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَفِي الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: بِكَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَكَوْنُ الْوَاوِ بَدَلًا عَنْهَا نَقَصَتْ عَنْهَا فَصَلَحَتْ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّرِيحَةِ دُونَ الْكِنَايَةِ، وَكَوْنُ التَّاءِ بَدَلَ الْبَدَلِ اخْتُصَّتْ بِسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ تَصْلُحْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَلَا فِي الْكِنَايَةِ.

(4/49)


وَتُضْمَرُ الْحُرُوفُ فَتَقُولُ: اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ إِلَّا فِيمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ، وَبِصِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، إِلَّا وَعِلْمِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ وَرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَغَضَبِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ: (وَتُضْمَرُ الْحُرُوفُ فَتَقُولُ: اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا) ثُمَّ قَدْ يُنْصَبُ لِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقَدْ يُخْفَضُ دَلَالَةً عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافٌ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، «وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَلَّفَ الَّذِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ اللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِالْبَتَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً» ، وَالْحَذْفُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَخْفِيفًا، وَالْحَلِفُ فِي الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. مَقْرُونًا بِالتَّأْكِيدِ وَهُوَ اللَّامُ وَالنُّونُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلُ كَذَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَفْعَلْهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لُغَةً، أَمَّا فِي النَّفْيِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا.
قَالَ: (وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ) لِأَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ أَصْلًا، وَلِأَنَّهُ مُتَعَاهَدٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ قَصْدَهُمْ وَنِيَّتَهُمْ تَنْصَرِفُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ كَمَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عَدَمِ الْعُرْفِ إِلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ لِسَبْقِ الْفَهْمِ إِلَيْهَا.
قَالَ: (وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ إِلَّا فِيمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَقِيلَ لَا يَحْتَاجُ فِي جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَيَكُونُ حَالِفًا، لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ يَمِينًا صَحِيحَةً فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَالِفًا، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ، يَمِينٌ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ قَالَ: لَا أَدْرِي. كَأَنَّهُ وَجَدَ الْعَرَبَ يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَرَائِضَ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ.
قَالَ: (وَبِصِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، إِلَّا: وَعِلْمِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ: وَرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَغَضَبِهِ) لَيْسَ بِيَمِينٍ.
اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ ضَرْبَانِ: صِفَاتُ الذَّاتِ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا يُوصَفُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَظَمَةِ، وَكُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ وَبِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالسَّخَطِ وَالْغَضَبِ، فَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِذَا حَلَفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا وَعِلْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ كَذَاتِهِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ صَارَ مُلْحَقًا بِالِاسْمِ وَالذَّاتِ فَيَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا، وَعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ حَتَّى قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: لَا يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ نَوَاهُ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ يَمِينًا كَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَلِأَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعْنًى غَيْرَ الذَّاتِ كَانَ ذِكْرُهَا كَذِكْرِ الذَّاتِ فَكَانَ قَوْلُهُ:

(4/50)


وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِيَمِينٍ كَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ وَالْكَعْبَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهُ يَمِينٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَقُدْرَةِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الْقَادِرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِلَّا أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ، وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ. قَالَ النَّسْفِيُّ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْحَلِفُ بِهَا حَلِفٌ بِاللَّهِ، وَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الصِّفَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَصِرْ بِهِ حَالِفًا بِالشَّكِّ، فَالرَّحْمَةُ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَطَرُ وَالنِّعْمَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْجَنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] . وَالسَّخَطُ وَالْغَضَبُ يُرَادُ بِهِمَا مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَالرِّضَا يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ فَصَارَ حَالِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ: (وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِيَمِينٍ كَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ وَالْكَعْبَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهُ يَمِينٌ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لِمَا رَوَيْنَا، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمُ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ» ، وَرُوِيَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ تَعْظِيمُ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ بِهِ كَفَارَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَمْ يَهْتِكْ حُرْمَةً مُنِعَ مِنْ هَتْكِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، أَمَّا النَّبِيُّ وَالْكَعْبَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْقَرْءِ وَهُوَ الْجَمْعُ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الضَّمَّ وَالتَّرْكِيبَ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَادِثِ فَيَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرَ صِفَاتِهِ، لِأَنَّ صِفَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَزَلِيَّةٌ كَهُوَ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِكَلَامِ اللَّهِ كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ كَلَامَهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ اللُّغَاتِ، لِأَنَّ اللُّغَاتِ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ أَوِ اصْطِلَاحِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً، بَلْ هِيَ عِبَارَةً عَنِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَشَرَائِعُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَعَرْشُهُ وَحُدُودُهُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْبَيْتُ وَالْكَعْبَةُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْقَبْرُ وَالْمِنْبَرُ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ. وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِنْ ذَلِكَ فَيَمِينٌ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرٌ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا فِي الْمُصْحَفِ أَوْ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ مِنَ الْحَجِّ، وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا وَلَا تُحِلُّهُ الشَّرِيعَةُ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَحُرْمَةِ اسْمِهِ، وَمِنْ

(4/51)


وَحَقُّ اللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَالْحَقُّ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَوْ هُوَ زَانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَوْ وَايْمِ اللَّهِ، أَوْ وَعَهْدِ اللَّهِ، أَوْ وَمِيثَاقِهِ، أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ زَادَ فِيهَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
هَذَا: أَنَا أَعْبُدُ الصَّلِيبَ أَوْ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ الْغَالِبُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا، فَهُوَ يَمِينٌ لِلْعُرْفِ.
وَلَوْ قَالَ: (وَحَقِّ اللَّهِ، لَيْسَ بِيَمِينٍ) ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمِينٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِ مُعْتَادٌ وَهُوَ الْمُخْتَارُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ وَالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَيْسَ يَمِينًا.
قَالَ: (وَالْحَقِّ يَمِينٌ) لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَقًّا كَقَوْلِهِ وَاجِبًا عَلَيَّ فَهُوَ يَمِينٌ.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ هُوَ زَانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ) ، وَكَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ وَسَخَطُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْأَيْمَانِ، (وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ يَمِينٌ) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ حَلَفَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ دَلِيلًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدِ اعْتَقَدَ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا قُلْنَا فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ فَهُوَ غَمُوسٌ، ثُمَّ قِيلَ: لَا يُكَفِّرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: يُكَفِّرُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ. إِذِ التَّعْلِيقُ بِالْمَاضِي بَاطِلٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا يُكَفِّرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْحِنْثِ يُكَفِّرُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْحِنْثِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا هُوَ مَجُوسِيٌّ أَوْ كَافِرٌ وَنَحْوُهُ.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَوْ وَايْمُ اللَّهِ، أَوْ وَعَهْدِ اللَّهِ، أَوْ وَمِيثَاقِهِ، أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ) ، أَمَّا عَمْرُ اللَّهِ فَهُوَ بَقَاءٌ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ فَقَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، وَأَمَّا وَايْمُ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ وَأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَأَمَّا عَهْدُ اللَّهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، ثُمَّ قَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ} [النحل: 91] سَمَّى الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ عُرْفًا وَالنَّذْرُ يَمِينٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» .
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ زَادَ فِيهَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ) وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْزِمُ، أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ، أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا قَالَ أَعْزِمُ

(4/52)


وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُهُ فَإِنِ اسْتَبَاحَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُمَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرُ: أَحْلِفُ وَأُقْسِمُ وَأَشْهَدُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْحَلِفَ وَالْقَسَمَ بِاللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِالشَّكِّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] ، وَقَالَ: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ، ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] ، وَقَالَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ حَذْفَ بَعْضِ الْكَلَامِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعَرَبِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ لِأَنَّ الْحَلِفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ، وَأَمَّا أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ فَالْعَزْمُ هُوَ الْإِيجَابُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] ، وَالْإِيجَابُ هُوَ الْيَمِينُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْحَسَنُ، وَأَمَّا عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فَلِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِإِيجَابِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: فَقَالَتْ يَمِينُ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةُ
وَوَجْهِ اللَّهِ يَمِينٌ، رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، وَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِعَدَمِ الْعُرْفُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ ثَوَابِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِالشَّكِّ. وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْجَارِحَةَ فَيَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ: (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُهُ فَإِنِ اسْتَبَاحَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ ثَوْبِي، أَوْ جَارِيَتِي فُلَانَةٌ، أَوْ رُكُوبُ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَحْوُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَحْرِيمُ الْحَلْالِ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حُرْمَتِهِ عَلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجَبِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ أَيْضًا يَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ إِلْغَاءِ كَلَامِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ أَرْفَقُ، ثُمَّ الْحُرْمَةُ تَتَنَاوَلُ الْكُلَّ جُزْءًا جُزْءًا، فَأَيُّ جُزْءٍ اسْتَبَاحَ مِنْهُ حَنِثَ، كَقَوْلِهِ: لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ، وَلَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقُ بِهِ لَا حَنِثَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ عُرْفًا لَا حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُمَا) ، وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا حَلَالًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبِرُّ وَلَا يَحْصُلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فَيَسْقُطُ الْعُمُومُ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً، وَلَوْ نَوَى امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ مَعَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَصَارَ مُولِيًا، وَإِنْ نَوَى امْرَأَتَهُ

(4/53)


وَمَنْ حَلَفَ حَالَةَ الْكُفْرِ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
وَحْدَهَا صُدِّقَ وَلَا يَحْنَثُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. قَالَ مَشَايِخُنَا هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا يَكُونُ طَلَاقًا عُرْفًا، وَيَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوهُ فَصَارَ كَالصَّرِيحِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ قَالَ: مَالُ فُلَانٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِيَ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ حَرَامًا فَهُوَ عَلَى الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا فَعَلَى الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ حَرَامًا فَوَطِئَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ وَالظِّهَارِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِعَارِضٍ لَا أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ.
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ حَالَةَ الْكُفْرِ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِهِ) لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَعْظِيمَ مَعَ الْكُفْرِ وَلَيْسَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِالرِّدَّةِ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُهَا لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الْأَعْمَالَ.
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ بِالسُّكُوتِ يَتِمُّ الْكَلَامُ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ.

[فصل في الْخُرُوجِ]
فَصْلٌ الْخُرُوجُ: هُوَ الِانْفِصَالُ مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَالدُّخُولُ: الِانْفِصَالُ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِلِ، فَعَلَى أَيِّ وَصْفٍ وُجِدَ كَانَ خُرُوجًا، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا مِنَ الْبَابِ أَوْ مِنَ السَّطْحِ أَوْ مِنْ ثُقْبٍ فِي الْحَائِطِ أَوْ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ مِنْ بَابِ الدَّارِ، فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَابِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَخْرُجُ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْفِعْلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ كَمَا إِذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ بِهِ.
(وَإِنْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ) لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ. وَقِيلَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ حَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ الْقُدْرَةِ صَارَ كَأَنَّهُ فَعَلَ الدُّخُولَ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ لِلدُّخُولِ، وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الرِّضَا وَالْإِرَادَةُ، أَوْ نَقُولُ: الْفِعْلُ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: يَحْنَثُ وَالْحَلِفُ عَلَى الدُّخُولِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ.

(4/54)


حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الذَّهَابُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْإِتْيَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا حَلَفَ لَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ يَكْفِيهِ إِذْنٌ وَاحِدٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْخُرُوجُ لِغَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ إِلَى الْجِنَازَةِ وَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْيَمِينِ، وَالْإِتْيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ.
(حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ قَاصِدًا إِلَيْهَا.
قَالَ: (وَكَذَلِكَ الذَّهَابُ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْتِقَالِ وَالذَّهَابِ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] أَيْ يُزِيلَهُ عَنْكُمْ فَأَشْبَهَ الْخُرُوجَ، (وَفِي الْإِتْيَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا) لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْوُصُولُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 16] وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: خَرَجْتُ إِلَى بَلَدِ كَذَا وَلَمْ آتِهِ، أَيْ قَصَدْتُهُ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، وَالذَّهَابُ كَالْخُرُوجِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا.
حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَارِجًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ أَوْ عَلَى جَنْبِهِ يَحْنَثُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ جَسَدِهِ إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِ كَذَا فَهُوَ عَلَى الْخُرُوجِ بِبَدَنِهِ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى النُّقْلَةِ بِبَدَنِهِ وَأَهْلِهِ، هَذَا هُوَ الْعُرْفُ.
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ فِي غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ حَقًّا فِي اسْتِعْمَالِهِمْ دُونَ الْوَاجِبِ كَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَأَعْرَاسِهِمْ وَعِيَادَتِهِمْ وَنَحْوِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ إِلَّا إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوَاهَا لَا غَيْرُ، فَإِنْ عُدِمَا فَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَأُمُّهَا الْمُطَلَّقَةُ أَهْلُهَا، فَإِنْ كَانَ أَبُوهَا مُتَزَوِّجًا بِغَيْرِ أُمِّهَا وَأُمُّهَا كَذَلِكَ فَأَهْلُ مَنْزِلِ أَبِيهَا لَا مَنْزِلِ أُمِّهَا. حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْعِمْرَانَ قَاصِدًا بَغْدَادَ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِنَازَةِ حَيْثُ يَحْنَثُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى بَغْدَادَ سَفَرٌ، وَلَا سَفَرَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْعُمْرَانَ، وَلَا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ إِلَى الْجِنَازَةِ.
(حَلَفَ لَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الدَّخَلَاتِ إِلَّا دَخْلَةً مَقْرُونَةً بِإِذْنِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا رَاكِبَةً، وَإِلَّا مُنْتَقِبَةً فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَذَا هَذَا، وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً صُدِّقَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَرَدْتِ. فَخَرَجَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ نَهَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ حَنِثَ.
(وَلَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ يَكْفِيهِ إِذْنٌ وَاحِدٌ) وَكَذَلِكَ حَتَّى آذَنَ لَكِ لِأَنَّهُ جَعَلَ

(4/55)


حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَصَارَتْ صَحْرَاءَ وَدَخَلَهَا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: دَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَفِي الْبَيْتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ وَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَامَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ، وَلَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَهَا إِنْ كَانَ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الْإِذْنَ غَايَةً لِيَمِينِهِ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ الْغَايَةِ فَانْتَهَتِ الْيَمِينُ لِوُجُودِ الْغَايَةِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ صَحَّ كَمَا لَوْ كَانَتْ صَمَّاءَ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ فَدَخَلَتْ حَنِثَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ إِطْلَاقٌ وَإِنَّهُ يَتِمُّ الْإِذْنُ كَالرِّضَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْلَامُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالْإِفْهَامِ، بِخِلَافِ الرِّضَا فِيمَا إِذَا قَالَ: إِلَّا بِرِضَايَ، ثُمَّ قَالَ: رَضِيتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، لِأَنَّ الرِّضَا إِزَالَةُ الْكَرَاهَةِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا بِأَمْرِي فَأَمَرَهَا وَلَمْ تَسْمَعْ فَدَخَلَتْ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِلْزَامُ الْمَأْمُورِ فَلَا بُدَّ مِنَ السَّمَاعِ كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ.
حَلَفَ لَا تَخْرُجُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَخَرَجَتْ وَهُوَ يَرَاهَا فَلَمْ يَمْنَعْهَا لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَخْرُجُ فَكَانَ الْخُرُوجُ بِعِلْمِهِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَصَارَتْ صَحْرَاءَ وَدَخَلَهَا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ دَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَفِي الْبَيْتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ فِيهَا، لِأَنَّ قِوَامَ الْبِنَاءِ بِالْعَرْصَةِ، وَلِهَذَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الدَّارِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْبِنَاءِ، وَفِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فِي نَدْبِهِمُ الدُّورَ الدَّارِسَةَ أَقْوَى شَاهِدٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْغَائِبِ وَهُوَ مُنْكَرُ لَغْوٌ فِي الْحَاضِرِ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعَرْصَةُ إِنَّمَا تَصِيرُ صَالِحَةً لِلْبَيْتُوتَةِ بِالْبِنَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِهِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ خَرِبَ السَّقْفُ وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ يَحْنَثُ لِإِمْكَانِ الْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَلَوْ بُنِيَ الْبَيْتُ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ. وَفِي الدَّارِ يَحْنَثُ لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَبَقَاءِ اسْمِ الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ جُعِلَتِ الدَّارُ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ بِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ وَصِفَةٍ أُخْرَى، وَكَذَا لَوْ صَارَتْ بَحْرًا أَوْ نَهْرًا، وَكَذَا لَوْ بُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى بَعْدَ الْبُسْتَانِ وَالْحَمَّامِ لَا يَحْنَثُ لِمَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ وَالْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ) لِعَدَمِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا عُرْفًا، وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ وَأُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيهَا. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَهُمَا فِي سَفَرٍ عَلَى الْخَيْمَةِ وَالْفُسْطَاطِ وَالْقُبَّةِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، فَإِنْ نَوَى أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَامَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ كَسَطْحِ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الْمُعْتَكِفِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ إِذَا أُغْلِقَ الْبَابُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ.
(وَلَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَهَا إِنْ كَانَ لَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ

(4/56)


كَانَ دَاخِلًا حَنِثَ وَإِلَا فَلَا، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ.

فَصْلٌ
حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ لِلْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً حَنِثَ، وَكَذَلِكَ رُكُوبُ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ أَجْمَعَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
كَانَ دَاخِلًا حَنِثَ) لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ (وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدَّارِ، وَلَوْ أَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ دُونَ الْأُخْرَى إِنِ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ أَوْ كَانَ الْجَانِبُ الْآخَرُ أَسْفَلَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ أَسْفَلَ حَنِثَ، لِأَنَّ اعْتِمَادَ جَمِيعِ بَدَنِهِ يَكُونُ عَلَى رِجْلِهِ الدَّاخِلَةِ فَيَكُونُ دَاخِلًا.
(وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدُّخُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بَعْدَ الْيَمِينِ.
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ سَاكِنُهُ حَنِثَ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ عُرْفًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدَهُ حَيْثُ لَا يَحْنَثُ بِالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَادَةً. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا هِيَ مِلْكُ فُلَانٍ يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِالسُّكْنَى، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْمَالِكِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَإِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ.
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ سَاكِنُهَا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضَهُ فَزَرَعَ أَرْضًا مُشْتَرَكَةً حَنِثَ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضٌ وَلَيْسَ بَعْضُ الدَّارِ دَارًا تَسْمِيَةً وَعُرْفًا. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانَةٍ فَدَخَلَ دَارَهَا وَزَوْجُهَا يَسْكُنُهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الدَّارَ تُنْسَبُ إِلَى السَّاكِنِ.
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَلَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَدَارُ غَلَّةٍ فَدَخَلَ دَارَ الْغَلَّةِ لَا يَحْنَثُ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ بُسْتَانًا فِي تِلْكَ الدَّارِ، إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهَا حَنِثَ.

[فصل الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ]
فَصْلٌ (حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ لِلْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً حَنِثَ، وَكَذَلِكَ رُكُوبُ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ) وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَنَا أَنَّ زَمَانَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَبِثَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَابِسًا وَرَاكِبًا وَسَاكِنًا فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ فَيَحْنَثُ.
(حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ أَجْمَعَ) لِأَنَّ السُّكْنَى الْكَوْنُ فِي الْمَكَانِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِقْرَارِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ جَلَسَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ خَانٍ أَوْ بَاتَ فِيهِمَا لَا يُعَدُّ سَاكِنًا، وَالسُّكْنَى عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْرَارِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَهْلِ وَالْمَتَاعِ وَالْأَثَاثِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الدَّارِ

(4/57)


قَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي، فَقَالَ: إِنْ تَغَدَيْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَرَجَعَ وَتَغَدَّى فِي بَيْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ تَطْلُقْ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
بِاعْتِبَارِ أَهْلِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا أَوْ سِكَّةِ كَذَا أَوْ دَارِ كَذَا وَأَكْثَرُ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الدَّارِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالسُّكْنَى بَاقِيَةٌ، لِأَنَّ السُّكْنَى تَثْبُتُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَلَا تَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ الْكُلِّ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ حَنِثَ لِمَا قُلْنَا، وَعَنْهُ لَوْ بَقِيَ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالْمِكْنَسَةِ وَالْوَتَدِ لَمْ يَحْنَثْ لِانْتِفَاءِ اسْمِ السُّكْنَى بِذَلِكَ. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ إِقَامَةً لَهُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ نَقْلُ الْكُلِّ. وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ نَقْلَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ آلَاتِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدِ اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فَأَخَذَ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ مِنْ حِينِ حَلَفَ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا لَمْ يَحْنَثْ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ أَيَّامًا حَتَّى وَجَدَهُ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الطَّلَبَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى السِّكَّةِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ قِيلَ يَبَرُّ كَمَا فِي مَنْزِلٍ آخَرَ، وَقِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ بَقِيَ وَطَنُهُ الْأَوَّلُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ، فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ حَتَّى مَرَّ بِمِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّ وَطَنَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَذَا هَذَا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوِ انْتَقَلَ إِلَى السِّكَّةِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إِلَى صَاحِبِهَا أَوْ آجَرَهَا وَسَلَّمَهَا بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ دَارًا أُخْرَى لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فِي هَذَا الْمِصْرِ فَانْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَتَاعَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ أَهْلُهُ فِي مِصْرٍ وَهُوَ سَاكِنٌ فِي مِصْرٍ آخَرَ، وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ.
(قَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي، فَقَالَ: إِنْ تَغَدَّيْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَرَجَعَ وَتَغَدَّى فِي بَيْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ تَطْلُقْ) ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آَخَرُ: إِنْ ضَرَبْتَهُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ لَمْ يَعْتِقْ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينُ الْفَوْرِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَدَاءُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يُطَابِقُ السُّؤَالَ، وَكَذَلِكَ قَصْدُهُ مَنْعُهَا عَنِ الْخُرُوجِ الَّذِي هَمَّتْ بِهِ وَالضَّرْبِ الَّذِي هَمَّ وَبِذَلِكَ يَشْهَدُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ: إِنْ ضَرَبْتَنِي فَلَمْ أَضْرِبْكَ، أَوْ إِنْ لَقَيْتُكَ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتَنِي فَلَمْ أُجِبْكَ، أَوْ إِنِ اسْتَعَرْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ تُعِرْنِي، أَوْ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلَمْ أَقْعُدْ، أَوْ إِنْ رَكِبْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ أُعْطِكَ دَابَّتِي - فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي مَعِي الْبَيْتَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ بَعْدَ مَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ طَلُقَتْ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدُّخُولُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ فَاتَ فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمَ

(4/58)


وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَمْ يَحْنَثْ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ لَمْ يَحْنَثْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَمِنْ حِينِ حَلَفَ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إِلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الدُّخُولِ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ وُجِدَ.
قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَمْ يَحْنَثْ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدُّيُونِ فَلِأَنَّ عِنْدَهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي بَابِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرَقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَوْلَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِذَا نَوَاهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ بِدُونِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا، إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: الْإِضَافَةُ إِلَى الْمَوْلَى اخْتَلَّتْ فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَهُوَ مَالُهُ صَنَعَ فِي اكْتِسَابِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ كَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَأَخْذِ الْمُبَاحَاتِ. فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا يَكُونُ كَسْبَهُ. وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَانْتَقَلَ كَسْبُهُ إِلَى وَارِثِهِ فَأَكَلَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَسَبَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ كَسْبٌ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ صَارَ كَسْبَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مِمَّا تَمْلِكُ أَوْ مِمَّا مَلَكْتَ أَوْ مِنْ مِلْكِكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْمِلْكَ إِذَا تَجَدَّدَ عَلَى عَيْنٍ بَطَلَتِ الْإِضَافَةُ الْأُولَى وَصَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِيرَاثِ فُلَانٍ فَمَاتَ فَأَكَلَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَنِثَ، وَإِنْ مَاتَ وَارِثُهُ فَانْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ الْآخَرَ نَسَخَ الْمِيرَاثَ الْأَوَّلَ فَبَطَلَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوَّلِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، يُقَالُ: مَا تَكَلَّمَ وَإِنَّمَا قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهِمَا لِأَنَّهُ كَلَامٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا يُنَافِي الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّلَاةِ وَيَحْنَثُ خَارِجَهَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ فَلَمْ يُجْعَلْ كَلْامًا ضَرُورَةً، وَلَا ضَرُورَةَ خَارِجِ الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إِنْ حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَمِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ تَأَبَّدَتِ الْيَمِينُ، فَلَمَّا ذَكَرَ الشَّهْرَ خَرَجَ مَا وَرَاءَهُ عَنِ الْيَمِينِ وَبَقِيَ الشَّهْرُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ لَا يَتَأَبَّدُ فَكَانَ التَّعْيِينُ إِلَيْهِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إِلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) وَكَذَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إِلَى سَمْعِهِ، وَعَدَمُ فَهْمِهِ لِنَوْمِهِ وَصَمَمِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ مُتَغَافِلًا أَوْ مَجْنُونًا. وَفِي رِوَايَةٍ: اشْتَرَطَ أَنْ يُوقِظَهُ،

(4/59)


وَلَوْ كَلَّمَ غَيْرَهُ وَقَصَدَ أَنْ يَسْمَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ، وَإِنْ نَوَاهُمْ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّهُ إِذَا أَيْقَظَهُ فَقَدْ أَسْمَعُهُ، وَلَوْ نَادَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُ فِي مِثْلِهِ الصَّمْتُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَعِيدًا لَوْ أَصْغَى إِلَيْهِ لَا يَسْمَعُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْمُكَالَمَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَّا أَنَّهُ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى السَّمَاعِ مَقَامَهُ، وَهُوَ مَا لَوْ أَصْغَى إِلَيْهِ سَمِعَ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا، أَوْ مِنْ أَيْنَ هَذَا، حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَوْ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ آخَرُ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
(وَلَوْ كَلَّمَ غَيْرَهُ وَقَصَدَ أَنْ يَسْمَعَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ حَقِيقَةً (وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ) لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ لِلْجَمِيعِ.
(وَإِنْ نَوَاهُمْ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ) دِيَانَةً لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لِلْجَمَاعَةِ، وَالنِّيَّةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَوْ أَشَارَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ مَفْهُومَةٍ بِأَصْوَاتٍ مَسْمُوعَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ إِمَامًا فَسَلَّمَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خَلْفَهُ لَا يَحْنَثُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُؤْتَمَّ فَكَذَلِكَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَارِجًا عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِسَلَامِهِ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ سَبَّحَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ، وَلَوْ قَرَعَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ الْحَالِفُ: مَنْ هَذَا؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إِنْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: كيست لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ لَهُ، وَإِنْ قَالَ: كي تو يَحْنَثُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَلَوْ قَالَ لَيْلًا: لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نَهَارًا: لَا أُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَمِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْغَدِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَقْتٍ مُطْلَقٍ فَابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ الْيَمِينِ كَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِمُدَّةٍ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقُرْبَةِ اخْتَصَّ بِعَقِيبِ السَّبَبِ كَالْإِجَارَةِ، وَلَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ إِلَى مَثَلِ تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ الْغَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَمِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى مَثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ فَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ ضَرُورَةً تَبَعًا، وَلَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ: لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ فَعَلَى بَاقِي الْيَوْمِ، وَكَذَا فِي اللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَتَعَلَّقَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، إِذْ هُوَ الْمُرَادُ ظَاهِرًا وَعُرْفًا، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ خَرَجَ

(4/60)


حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ يُعْتَبَرُ مِلْكُهُ يَوْمَ الْحِنْثِ لَا يَوْمَ الْحَلِفِ، وَكَذَا الثَّوْبُ وَالدَّارُ، وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا، أَوْ دَارَهُ هَذِهِ لَا يَحْنَثُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَفِي الصَّدِيقِ وَالزَوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَحْنَثُ بَعْدَ الْمُعَادَاةِ وَالْفِرَاقِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
عَنِ الْإِرَادَةِ ضَرُورَةً.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ. يُعْتَبَرُ مِلْكُهُ يَوْمَ الْحِنْثِ لَا يَوْمَ الْحَلِفِ، وَكَذَا الثَّوْبُ وَالدَّارُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ عَلَى مِلْكٍ مُضَافٍ إِلَى فُلَانٍ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْإِضَافَةُ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ عَنِ الْحِنْثِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتَ الْحِنْثِ (وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَارَهُ هَذِهِ لَا يَحْنَثُ بَعْدَ الْبَيْعِ) لِانْقِطَاعِ الْإِضَافَةِ، وَلَا تَعَادِيَ لِذَاتِهَا لِسُقُوطِ عِبْرَتِهَا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَيْنَهَا لِلتَّشَاؤُمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ.
(وَفِي الصَّدِيقِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَحْنَثُ بَعْدَ الْمُعَادَاةِ وَالْفِرَاقِ) لِأَنَّ الزَّوْجَةَ وَالصَّدِيقَ يُقْصَدَانِ بِالْهِجْرَةِ لِأَذًى مِنْ جِهَتِهِمَا، فَكَانَتِ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَكَانَتِ الْإِشَارَةُ أَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، لِأَنَّ الْمَنْعَ قَدْ يَكُونُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَالِكِهِ فَيَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِهِمَا، وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فِي الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ أَذًى مِنْ جِهَتِهِمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ دُونَ الْهِجْرَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ، وَيَحْتَمِلُ الْهِجْرَانَ فَيَحْنَثُ، فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَلَا صَدِيقٌ فَاسْتَحْدَثَ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ شَهْرًا أَوِ الْيَوْمَ سَنَةً، فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَتِلْكَ السَّنَةِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ شَهْرًا وَلَا سَنَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً.
وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمَ السَّبْتِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَهُوَ عَلَى سَبْتَيْنِ، لِأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ لَا يَدُورُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَيْنِ كَانَ عَلَى سَبْتَيْنِ لِأَنَّ السَّبْتَ لَا يَكُونُ يَوْمَيْنِ فَكَانَ مُرَادُهُ سَبْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَتْ كُلُّهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِمَا بَيَّنَّا.
حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ فَوُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ بِتَزْوِيجِهَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ انْصَرَفَتْ إِلَى الْمَوْجُودِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: بِنْتًا لِفُلَانٍ، أَوْ بِنْتًا مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ.
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إِخْوَةَ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْيَمِينِ لَا غَيْرُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْ كُلَّهُمْ، وَلَوْ قَالَ: لَا يُكَلِّمُ عَبِيدَ فُلَانٍ، أَوْ لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ فُلَانٍ، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ فُلَانٍ حَنِثَ بِفِعْلِ ثَلَاثَةٍ مِمَّا سَمَّى إِلَّا إِذَا نَوَى الْكُلَّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَوَّلَ إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ فَتَعَلَّقَتِ الْيَمِينُ بِأَعْيَانِهِمْ، فَمَا لَمْ يُكَلِّمِ الْكُلَّ لَا يَحْنَثُ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَدُ بِالْهِجْرَانِ لِكَوْنِهَا جَمَادًا أَوْ لِخِسَّةِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالِكُ فَتَنَاوَلَتِ الْيَمِينُ أَعْيَانًا مَنْسُوبَةً إِلَيْهِ وَقْتَ

(4/61)


فَصْلٌ [الْحِينُ وَالزَّمَانُ]
الْحِيِنُ وَالزَّمَانُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي التَعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ وَالدَّهْرُ: الْأَبَدُ، وَدَهْرًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونُ عَشَرَةٌ، وَفِي الْمُنَكَّرِ ثَلَاثَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
الْحِنْثِ، وَقَدْ ذَكَرَ النِّسْبَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: كُلُّ شَيْءٍ سِوَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ عَلَى وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةٍ.

[فصل الْحِينُ وَالزَّمَانُ]
ُ] (الْحِينُ وَالزَّمَانُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ) مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلِأَنَّهُ الْوَسَطُ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ الْحِينُ فَكَانَ أَوْلَى، وَالزَّمَانُ كَالْحِينِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ. يُقَالُ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَعَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ فِي الْحِينِ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ دُونَ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي الْحِينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَلَا عُرْفَ فِي الزَّمَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
قَالَ: (وَالدَّهْرُ: الْأَبَدُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صِيَامَ لِمَنْ صَامَ الدَّهْرَ» يَعْنِي جَمِيعَ الْعُمُرِ.
(وَدَهْرًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَالزَّمَانِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ فَيُتَّبَعُ، وَاللُّغَاتُ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا وَالدَّلَائِلُ فِيهِ مُتَعَارِضَةٌ فَتَوَقَّفَ فِيهِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دَهْرًا وَالدَّهْرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَ مَا نَوَى.
قَالَ: (وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونَ عَشْرَةٌ) وَكَذَا الْأَزْمِنَةُ.
(وَ) الْجَمْعُ (فِي الْمُنَكَّرِ ثَلَاثَةٌ) وَقَالَا فِي الْأَيَّامِ سَبْعَةٌ، وَالشُّهُورِ اثْنَا عَشَرَ وَغَيْرِهِمَا جَمِيعُ الْعُمُرِ، لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ، وَهِيَ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ وَشُهُورُ السَّنَةِ، وَلِأَنَّ الْأَيَّامَ تَنْتَهِي بِالسَّبْعَةِ وَالْأَشْهُرَ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَعُودُ، وَلَا مَعْهُودَ فِي غَيْرِهِمَا فَتَنَاوَلَتِ الْعُمُرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَكْثَرُهُ عَشْرَةٌ، وَمَا زَادَ يَتَغَيَّرُ لَفْظُهُ فَلَا يُزَادُ عَلَى الْعَشْرَةِ. أَمَّا الْمُنَكَّرُ يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ: عَشْرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَا.
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إِلَى كَذَا فَعَلَى مَا نَوَى، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَيَوْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْعَدَدِ، وَإِنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إِلَى الْحَصَادِ فَحَصَدَ أَوَّلُ النَّاسِ بَرَّ، وَكَذَلِكَ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ انْتَهَتِ الْيَمِينُ.
حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ قَرِيبًا

(4/62)


حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْضَمْهَا وَمِنْ هَذَا الدَّقِيقِ يَحْنَثُ بِخُبْزِهِ دُونَ سَفِّهِ، وَالْخُبْزُ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَالشِّوَاءُ مِنَ اللَّحْمِ، وَالطَّبِيخُ مَا يُطْبَخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالْمَاءِ، وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ مَرَقِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مِنْ سِتَّةٍ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا يُكَلِّمُهُ قَرِيبًا فَهُوَ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ بِيَوْمٍ، وَلَوْ قَالَ إِلَى بَعِيدٍ فَأَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ، وَآجِلًا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، وَعَاجِلًا أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ، وَلَوْ قَالَ بِضْعًا فَثَلَاثَةٌ، لِأَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ.

[فصل الْحلف على الطعام]
فَصْلٌ
[الْحَلِفُ عَلَى الطَّعَامِ]
(حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْضِمْهَا) ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَا: يَحْنَثُ بِالْخُبْزِ لِلْعُرْفِ. وَلَهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فَإِنَّهُ يُقْلَى وَيُسْلَقُ وَيُؤْكَلُ بَعْدَهُ قَضْمًا، وَالْحَقِيقَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ.
قَالَ: (وَمِنْ هَذَا الدَّقِيقِ يَحْنَثُ بِخُبْزِهِ دُونَ سَفِّهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَانْصَرَفَ إِلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ وَهُوَ الْخَبْزُ، وَكَذَا إِنْ أَكَلَ مِنْ عَصِيدَتِهِ أَوِ اتَّخَذَهُ خَبِيصًا أَوْ قَطَايِفَ حَنِثَ، إِلَّا إِذَا نَوَى أَكْلَ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً تَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ رَاجِحٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ.
قَالَ: (وَالْخُبْزُ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ) لِأَنَّ الْيَمِينَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَادَةِ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُعْتَادِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَأَكَلَ ثَرِيدًا. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ. وَالطَّعَامُ حَقِيقَةُ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ، وَفِي الْعُرْفِ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ لَا تُسَمَّى طَعَامًا، وَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ وَيُتَغَذَّى بِهَا كَمَعْجُونِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَالْمِلْحُ طَعَامٌ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَكْلِهِ مَعَ الْخُبْزِ إِدَامًا لَهُ، وَالنَّبِيذُ شَرَابٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ طَعَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْفَاكِهَةُ طَعَامٌ.
حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِشِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، وَفِي عُرْفِنَا يَحْنَثُ بِالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهِمَا أَيْضًا.
قَالَ: (وَالشِّوَاءُ مِنَ اللَّحْمِ) خَاصَّةً لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّوَّاءَ اسْمٌ لِبَائِعِ الْمَشْوِيِّ مِنَ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَأْكُلِ الشِّوَاءَ وَإِنْ أَكَلَ الْبَاذِنْجَانَ وَالسَّمَكَ الْمَشْوِيَّ وَغَيْرَهُ مَا لَمْ يَأْكُلِ الشِّوَاءَ مِنَ اللَّحْمِ، وَإِنْ نَوَى كُلَّ شَيْءٍ يُشْوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ الشِّوَاءَ مَا يُجْعَلُ فِي النَّارِ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ الْعُرْفَ اخْتُصَّ بِاللَّحْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَالطَّبِيخُ مَا يُطْبَخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالْمَاءِ) لِلْعُرْفِ، وَإِنْ نَوَى كُلَّ مَا يُطْبَخُ صُدِّقَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ، (وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ مَرَقِهِ) لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ اللَّحْمِ، وَفِي النَّوَادِرِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا فَأَكَلَ قِلِّيَّةً يَابِسَةً لَا مَرَقَ فِيهَا لَا يَحْنَثُ،

(4/63)


وَالرُّءُوسُ: مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي السُّوقِ، وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّهُ بِدُونِ الْمَرَقِ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَحْمٌ مَقْلِيٌّ وَلَا يُقَالُ مَطْبُوخٌ إِلَّا لِمَا طُبِخَ فِي الْمَاءِ. وَلَوْ أَكَلَ سَمَكًا مَطْبُوخًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَعَنِ ابْنِ سِمَاعَةَ: الطَّبِيخُ يَكُونُ عَلَى الشَّحْمِ، فَإِنْ طَبَخَ عَدْسًا أَوْ أُرْزًا بِوَدْكٍ فَهُوَ طَبِيخٌ، وَإِنْ كَانَ بِسَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ فَلَيْسَ بِطَبِيخٍ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَالطَّابِخُ: هُوَ الَّذِي يُوقِدُ النَّارَ دُونَ الَّذِي يَنْصِبُ الْقِدْرَ وَيَصُبُّ الْمَاءَ وَاللَّحْمَ وَحَوَائِجَهُ فِيهِ، وَالْخَابِزُ: الَّذِي يَضْرِبُ الْخُبْزَ فِي التَّنُّورِ دُونَ مَنْ عَجَنَهُ وَبَسَطَهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ فُلَانٍ فَطَبَخَ هُوَ وَآخَرُ وَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْهُ حَنِثَ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يُسَمَّى طَبِيخًا، وَكَذَلِكَ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ فَخَبَزَ هُوَ وَآخَرُ، وَكَذَلِكَ مِنْ رُمَّانٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَى هُوَ وَآخَرُ، وَكَذَا لَا أَلْبَسُ مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَ هُوَ وَآخَرُ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا فُلَانٌ فَأَكَلَ مَا طَبَخَاهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِقِدْرٍ، وَكَذَلِكَ مِنْ قُرْصٍ يَخْبِزُهُ فُلَانٌ، أَوْ رُمَّانَةٍ يَشْتَرِيهَا فُلَانٌ، أَوْ ثَوْبًا يَنْسِجُهُ فُلَانٌ لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مِنْ غَزْلِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا لَمْ يَحْنَثْ، رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا دَامَ فِي مِلْكِهِ، فَبَاعَ بَعْضَهُ وَأَكَلَ الْبَاقِيَ لَا يَحْنَثُ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَتَنَاهَدَ وَأَكَلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ نَفْسِهِ عُرْفًا، رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ فُلَانٍ وَبَيْنَهُمَا دَرَاهِمُ فَأَخَذَ مِنْهَا دِرْهَمًا فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا وَأَكَلَ لَمْ يَحْنَثْ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِ شَرِيكِهِ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ حِصَّتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حِصَّتِهِ.
قَالَ: (وَالرُّءُوسُ مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي السُّوقِ) جَرْيًا عَلَى الْعُرْفِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْيَمِينِ رُءُوسُ الْبَقَرِ وَالْجَزُورِ، وَعِنْدَهُمَا يَخْتَصُّ بِرُءُوسِ الْغَنَمِ وَهُوَ اخْتِلَافُ عَادَةٍ وَعَصْرٍ.
قَالَ: (وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ) ، وَقَالَا: الرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْعِنَبُ فَاكِهَةٌ، لِأَنَّهُ يُتَفَكَّهُ بِهَا عَادَةً كَسَائِرِ الْفَاكِهَةِ حَتَّى يُسَمَّى بَائِعُهَا فَاكِهَانِيُّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] . وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى الْعِنَبِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَالْمَعْطُوفُ يُغَايِرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ لُغَةً، وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْكَرِيمُ الْحَكِيمُ لَا يُعِيدُ الْمِنَّةَ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَيُتَفَكَّهُ بِرُطَبِهِ وَيَابِسِهِ دُونَ الشِّبَعِ، وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ يُسْتَعْمَلَانِ لِلْغِذَاءِ وَالشِّبَعِ، وَالرُّمَّانُ

(4/64)


وَالْإِدَامُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ: كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمِلْحِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
يُسْتَعْمَلُ لِلْأَدْوِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْفَاكِهَةِ قَاصِرًا عَنْهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَوْ نَوَاهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَحَبُّ الرُّمَّانِ إِدَامٌ وَلَيْسَ بِفَاكِهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتُّفَّاحُ وَالسَّفَرْجَلُ وَالْكُمِّثْرَى وَالْإِجَّاصُ وَالْمِشْمِشُ وَالْخَوْخُ وَالتِّينُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهَا تُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ دُونَ الشِّبَعِ، وَالْبِطِّيخُ فَاكِهَةٌ، وَالْيَابِسُ مِنْ أَثْمَارِ الشَّجَرِ فَاكِهَةٌ، وَيَابِسُ الْبِطِّيخِ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْجَزَرُ وَالْبَاقِلَاءُ الرَّطْبُ بُقُولٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: التُّوتُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْفَاكِهَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَصَبُ السُّكَّرِ وَالْبُسْرُ الْأَحْمَرُ فَاكِهَةٌ، وَالْجَوْزُ فِي عُرْفِنَا لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِهِ.
وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ: الْجَوْزُ الْيَابِسُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا، فَأَمَّا رُطَبُهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا لِلتَّفَكُّهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: اللَّوْزُ وَالْعُنَّابُ فَاكِهَةٌ، رُطَبُهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ، وَيَابِسُهُ مِنْ يَابِسِهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةَ الْعَامِ أَوْ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ إِنْ كَانَ زَمَانُ الرَّطْبَةِ فَهِيَ عَلَى الرَّطْبَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْيَابِسِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ زَمَانِهَا فَهِيَ عَلَى الْيَابِسِ لِلتَّعَارُفِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِالْيَابِسِ وَالرَّطْبِ إِذَا كَانَ فِي زَمَانِ الرَّطْبَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاكِهَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِمْ: فَاكِهَةُ الْعَامِ إِذَا كَانَ زَمَانُ الرَّطْبَةِ يُرِيدُونَهَا دُونَ الْيَابِسِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رَطْبَةً تَعَيَّنَتِ الْيَابِسَةُ فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ.
قَالَ: (وَالْإِدَامُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ: كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمِلْحِ) ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَهِيَ بِالْمُلَازَقَةُ فَيَصِيرَانِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَلَيْسَتْ بِمُوَافَقَةٍ حَقِيقَةً، يُقَالُ: وَأَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا: أَيْ وَفَّقَ بَيْنَكُمَا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُغِيرَةِ وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: «لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا كَانَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» ، فَكُلُّ مَا احْتَاجَ فِي كُلِّهِ إِلَى مُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ إِدَامٌ، وَمَا أَمْكَنَ إِفْرَادُهُ بِالْأَكْلِ فَلَيْسَ بِإِدَامٍ، وَإِنْ أُكِلَ مَعَ الْخُبْزِ كَمَا لَوْ أَكَلَ الْخُبْزَ مَعَ الْخُبْزِ، فَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالْعَسَلُ وَالْمَرَقُ إِدَامٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مُنْفَرِدًا وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَخْتَلِطُ بِالْخُبْزِ وَيَصِيرُ تَبَعًا.
وَاللَّحْمُ وَالشِّوَاءُ وَالْبَيْضُ وَالْجُبْنُ لَيْسَ بِإِدَامٍ لِأَنَّهَا تُفْرَدُ بِالْأَكْلِ وَلَا تَمْتَزِجُ بِالْخُبْزِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ عَادَةً فَهُوَ إِدَامٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ. وَعَنْ أَبَى يُوسُفَ: الْجَوْزُ الْيَابِسُ إِدَامٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: التَّمْرُ وَالْجَوْزُ وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ وَالْبُقُولُ وَسَائِرُ الْفَوَاكِهِ لَيْسَ بِإِدَامٍ، لِأَنَّهَا

(4/65)


وَالْغَدَاءُ: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ، وَالْعَشَاءُ: مِنَ الظُّهْرِ إِلَى نِصْفِ الْلَيْلِ، وَالسُّحُورُ: مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ: الْكَرْعُ مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
تُفْرَدُ بِالْأَكْلِ وَلَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْضِعًا تُؤْكَلُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُعْتَادًا يَكُونُ إِدَامًا عِنْدَهُمُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ.
قَالَ: (وَالْغَدَاءُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَكْلِ الْغَدْوَةِ، وَمَا بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَكُونُ غَدْوَةٌ.
(وَالْعَشَاءُ: مِنَ الظُّهْرِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَكْلِ الْعَشَاءِ وَأَوَّلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَرُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشَاءِ رَكْعَتَيْنِ» يُرِيدُ بِهِ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ.
(وَالسُّحُورُ: مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّحَرِ فَيَنْطَلِقُ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَكْلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً، فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الشِّبَعِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَمْ أَتَغَدَّ وَإِنَّمَا أَكَلْتُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عَادَتُهُمْ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَشَرِبَ اللَّبَنَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ بَدَوِيًّا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا لِلْعَادَةِ.
قَالَ الْكَرْخِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ أُرْزًا أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى شَبِعَ لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَكُونُ غَدَاءً حَتَّى يَأْكُلَ الْخَبْزَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ لَحْمًا بِغَيْرِ خُبْزٍ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ.
قَالَ: (وَالشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ: الْكَرْعُ مِنْهُ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنَ الْفُرَاتِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا يُبَاشِرُ الْمَاءَ بِفِيهِ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ بِيَدِهِ أَوْ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. أَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْيَمِينِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِهْدَارُ الْحَقِيقَةِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَهْجُورَةً مُهْمَلَةً كَمَا قُلْنَا فِي سَفَّ الدَّقِيقِ. وَعِنْدَهُمَا الْعِبْرَةُ لِلْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ جَمْعًا لِمَكَانِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعُرْفِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْكَرْعُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ أَكْثَرُ فَيُعْتَبَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ الْكَرْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ عَادَةً عِنْدَ عَدَمِ الْأَوَانِي فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَاهَدَ الْعَرَبَ بِالْكُوفَةِ يَكْرَعُونَ ظَاهِرًا مُعْتَادًا فَحَمَلَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، وَهُمَا شَاهَدَا النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُونَهُ إِلَّا نَادِرًا فَلَمْ يَخُصَّا الْيَمِينَ بِهِ، وَلَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنَ الْفُرَاتِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ زَالَتْ بِالِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ فِي كُوزٍ آَخَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِصَاصِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمْ بِدِجْلَةَ دُونَ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مَاؤُهَا وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْمَاءَ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَبِالْإِنَاءِ وَبِالْغَرْفِ وَمِنْ نَهْرٍ آخَرَ،

(4/66)


وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنَ الحِبِّ أَوِ الْبِئْرِ يَحْنَثُ بِالْإِنَاءِ، وَالسَّمَكُ وَالْأَلْيَةُ لَيْسَا بِلَحْمٍ، وَالْكَرِشُ وَالْكَبِدُ وَالرِّئَةُ وَالْفُؤَادُ وَالْكُلْيَةُ وَالرَأْسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْأَمْعَاءُ وَالطِّحَالُ لَحْمٌ، وَالشَّحْمُ شَحْمُ الْبَطْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ عَلَى الْمَاءِ دُونَ النَّهْرِ وَقَدْ وُجِدَ.
قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنَ الْجُبِّ أَوِ الْبِئْرِ يَحْنَثُ بِالْإِنَاءِ) وَهَذَا فِي الْبِئْرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهَا إِلَّا بِإِنَاءٍ حَتَّى قَالُوا: لَوْ نَزَلَ الْبِئْرَ وَكَرَعَ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةٌ، وَأَمَّا الْجُبُّ إِنْ كَانَ مَلْآنَ يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالْإِنَاءُ لِتَعَيُّنِهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ فَهُوَ عَنِ الشُّرْبِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ فِيهِ.
قَالَ: (وَالسَّمَكُ وَالْأَلْيَةُ لَيْسَا بِلَحْمٍ) فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَيُّ لَحْمٍ أَكَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ السَّمَكِ حَنِثَ سَوَاءٌ أَكَلَهُ طَبِيخًا أَوْ مَشْوِيًّا أَوْ قَدِيدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا: كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ، وَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وَصَيْدِ الْحَرَمِ، لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ اللَّحْمِ وَصِفَةِ الذَّابِحِ.
فَأَمَّا السَّمَكُ وَمَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَكَلْتُ لَحْمًا وَقَدْ أَكَلَ السَّمَكَ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْحَقِيقَةُ دُونَ لَفْظِ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَابَّةً فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] ، وَكَذَا لَوْ خَرَّبَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُخَرِّبُ بَيْتًا، وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فِي الشَّمْسِ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي السِّرَاجِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمُتَعَارَفُ، وَكَذَلِكَ الْأَلْيَةُ وَشَحْمُ الْبَطْنِ لَيْسَا بِلَحْمٍ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مَا يُتَّخَذُ مِنَ اللَّحْمِ، وَلَا يُسَمَّيَانِ لَحْمًا عُرْفًا، وَإِنْ نَوَاهُ أَوْ نَوَى السَّمَكَ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ: (وَالْكَرِشُ وَالْكَبِدُ وَالرِّئَةُ وَالْفُؤَادُ وَالْكُلْيَةُ وَالرَّأْسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْأَمْعَاءُ وَالطِّحَالُ لَحْمٌ) لِأَنَّهَا تُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ، وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زَمَنِهِ بِالْكُوفَةِ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَا تُبَاعُ فِيهَا مَعَ اللَّحْمِ فَلَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِي كُلِّ بَلْدَةِ وَكُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا شَحْمُ الظَّهْرِ فَهُوَ لَحْمٌ، وَيُقَالُ لَهُ: لَحْمٌ سَمِينٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّحْمُ.
قَالَ: (وَالشَّحْمُ شَحْمُ الْبَطْنِ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّحْمِ، وَيُقَالُ لَهُ: لَحْمٌ سَمِينٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَالَا: يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الشَّحْمِ يَتَنَاوَلُهُ وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ، وَفِي عُرْفِنَا: اسْمُ الشَّحْمِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَحْمًا فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الشَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ شَاةٍ فَأَكَلَ لَحْمَ

(4/67)


حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَهُ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا الرُّطَبُ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَاللَّبَنُ شِيرَازًا، حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمَلِ فَصَارَ كَبْشًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا وَدُبْسِهَا غَيْرِ الْمَطْبُوخِ، وَمِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَعَلَى اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ، وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْبَيْضِ، وَالشَّرَاءُ كَالْأَكْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
عَنْزٍ حَنِثَ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْعَنْزَ وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ لَحْمُ الْجَامُوسِ فِي يَمِينِ الْبَقَرِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَهُ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا الرُّطَبُ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَاللَّبَنُ شِيرَازًا) لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ دَاعِيَةٌ إِلَى الْيَمِينِ فَتَتَقَيَّدُ بِهِ، أَوْ نَقُولُ: اللَّبَنُ مَا يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمَلِ فَصَارَ كَبْشًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ صِفَةَ الْحَمْلِيَّةِ لَيْسَتْ دَاعِيَةً إِلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ لَحْمِهِ أَقَلُّ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً دَاعِيَةً تَعَيَّنَتِ الذَّاتُ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرَتِهَا وَدُبْسِهَا غَيْرِ الْمَطْبُوخِ) يُقَالُ لَهُ: سَيَلَانٌ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إِلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا، وَيَحْنَثُ بِالْجِمَارِ لِأَنَّهُ مِنْهَا وَلَا يَحْنَثُ بِمَا يَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ: كَالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدُّبْسِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا مَا يُوجَدُ كَذَلِكَ مُتَّصِلًا بِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَعَصِيرِ الْعِنَبِ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِهَا إِلَّا أَنَّهُ مُنْكَتِمٌ فَزَالَ الِانْكِتَامُ بِالْعَصِيرِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ عَيْنِ النَّخْلَةِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ.
(وَ) لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ (مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَعَلَى اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ) لِمَا مَرَّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً، لِأَنَّ عَيْنَ الشَّاةِ مَأْكُولٌ فَانْصَرَفَتِ الْيَمِينُ إِلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ.
قَالَ: (وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْبَيْضِ) لِلْعُرْفِ، فَإِنَّ اسْمَ الْبَيْضِ عُرْفًا يَتَنَاوَلُ بَيْضَ الطَّيْرِ كَالدَّجَاجِ وَالْأُوَّزِ مِمَّا لَهُ قِشْرٌ، فَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ إِلَّا بِنِيَّةٍ لِأَنَّهُ بَيْضٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ.
(وَالشِّرَاءُ كَالْأَكْلِ) فَالْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ كَالْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ.
حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاضْطَرَّ إِلَى الْمِيتَةِ وَالْخَمْرِ فَأَكَلَ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُضْطَرِّ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، وَالْحَرَامُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمَا وَإِنْ وُضِعِ الْإِثْمُ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الْمَيْتَةَ حَالَةَ الضَّرُورَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْأَكْلِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ أَثِمَ، وَلَوْ أَكَلَ طَعَامًا مَغْصُوبًا حَنِثَ، وَلَوِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ مَغْصُوبٍ لَا يَحْنَثُ.

(4/68)


حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَيَطِيرَنَّ فِي الْهَوَاءِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ لِلْحَالِ. حَلَفَ لِيَأْتِيَنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَهِيَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ. حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَلَمْ يَأْتِهِ حَتَى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
[فصل انعقاد اليمين]
فَصْلٌ (حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَيَطِيرَنَّ فِي الْهَوَاءِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ لِلْحَالِ) ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَصَارَ كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ فَتَنْعَقِدُ إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا أَوْ مُتَوَهَّمًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَلَا مُتَوَهَّمًا لَمْ يَنْعَقِدْ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مُنْعَقِدٌ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ، وَبَيْعَ الْمُدَبَّرِ مُنْعَقِدٌ لِأَنَّهُ مُتَوَهَّمٌ دُخُولُهُ تَحْتَ الْعَقْدِ بِالْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْعَاقِدِ، وَبَيْعَ الْحُرِّ لَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ وَلَا مُتَوَهَّمُ الدُّخُولِ فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ يَنْعَقِدُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَالْمَوْهُومِ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ وَالْمَوْهُومِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَقْدُورٌ مَوْهُومٌ يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ قَادِرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ صَعَدَ السَّمَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَنْزِلُونَ، وَإِذَا كَانَ مُتَوَهَّمًا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ حُكْمًا لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً كَمَوْتِ الْحَالِفِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا.
قَالَ: (حَلَفَ لَيَأْتِيَّنَهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَهِيَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ) ، مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَمْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْعُرْفِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةِ الْآلَةِ وَعَدَمِ الْمَوَانِعِ، وَإِنْ عَيَّنَ اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْآلِيَّةَ تَقُومُ بِالِاسْتِطَاعَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَلَمْ يَأْتِهِ حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّ الْحِنْثَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ إِذِ الْبِرُّ مَرْجُوٌّ قَبْلَهُ. حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ أَوْ حَانُوتَهُ لَقِيَهُ أَوْ لَمْ يَلْقَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَكَانِهِ دُونَ مُلَاقَاتِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَأُوَافِيَنَّكَ غَدًا فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ، فَإِنْ أَتَاهُ فَلَمْ يَلْقَهُ حَنِثَ.
حَلَفَ لَا تَأْتِي زَوْجَتُهُ الْعُرْسَ فَذَهَبَتْ قَبْلَ الْعُرْسِ وَأَقَامَتْ حَتَّى مَضَى الْعُرْسُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْعُرْسَ أَتَاهَا لَا أَتَتْهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَأَعُودَنَّ فُلْانًا غَدًا فَعَادَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ إِذَا أَتَاهُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. حَلَفَ لَا تَذْهَبُ زَوْجَتُهُ إِلَى بَيْتِ وَالِدِهَا فَذَهَبَتْ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَلَمْ تَدْخُلْ لَمْ يَحْنَثْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: حَلَفَ لَا أُرَافِقُ فُلْانًا فَهُوَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الطَّعَامِ أَوْ شَيْءٍ يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ مَقَامُهُمَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةِ وَطَعَامُهُمَا لَيْسَ بِمُجْتَمِعٍ وَلَا يَأْكُلَانِ عَلَى خِوَانٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِمُرَافَقَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي مَحْمَلٍ أَوْ كَانَ كِرَاهُمَا وَاحِدًا

(4/69)


وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ، أَوْ شَرِبْتُ، أَوْ لَبِسْتُ، أَوْ كَلَّمْتُ، أَوْ تَزَوَّجْتُ، أَوْ خَرَجْتُ وَنَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ طَعَامًا، أَوْ شَرِبْتُ شَرَابًا، أَوْ لَبِسْتُ ثَوْبًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ صُدِّقَ دِيَانَةً خَاصَّةً، وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْدِ وَالْوَرْدُ وَالْبَنَفْسِجُ هُوَ الْوَرَقُ وَالْخَاتَمُ النُّقْرَةُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ، وَالذَّهَبُ حُلِيٌّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَوْ قِطَارُهُمَا وَاحِدًا فَهِيَ مُرَافَقَةٌ، وَإِنْ كَانَ كِرَاهُمَا مُخْتَلِفًا وَالْمَسِيرُ وَاحِدٌ فَلَيْسَ بِمُرَافَقَةٍ.
قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ، أَوْ لَبِسْتُ أَوْ كَلَّمْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ أَوْ خَرَجْتُ وَنَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ طَعَامًا أَوْ شَرِبْتُ شَرَابًا أَوْ لَبِسْتُ ثَوْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ صُدِّقَ دِيَانَةً خَاصَّةً) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ لَفْظًا عَامًّا وَنَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعُمُومِ قَدْ يُرِيدُ الْخُصُوصَ، فَإِذَا نَوَى صَارَتْ نِيَّتُهُ دَلَالَةً عَلَى التَّخْصِيصِ كَالدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ لَا يُصَدَّقُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْخُصُوصَ يَتْبَعُ الْأَلْفَاظَ دُونَ الْمَعَانِي، فَمَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ، فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الطَّعَامُ وَالثَّوْبُ وَنَحْوُهُمَا لَيْسَ مَذْكُورًا فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا قَالَ: عَنَيْتُ الْخُبْزَ أَوِ اللَّحْمَ فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِمَا بَيَّنَّا.
وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ وَتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى، وَلَوْ نَوَى الْجِنْسَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَحَدُ الظَّاهِرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيهَا إِذَا نَوَاهَا.
قَالَ: (وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ) لُغَةً، (فَلَا يَحْنَثُ بِالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْدِ) وَقِيلَ يَحْنَثُ فِي عُرْفِنَا، فَإِنَّ الرَّيْحَانَ اسْمٌ لِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مِنَ النَّبَاتِ عُرْفًا فَيَحْنَثُ بِهِمَا وَبِالشاهسبرم، وَالْعَنْبَرُ وَالْآسُ لَا يُسَمَّى رَيْحَانًا عُرْفًا.
قَالَ: (وَالْوَرْدُ وَالْبَنَفْسَجُ هُوَ الْوَرَقُ) عُرْفًا، وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَهُ حَنِثَ، وَلَوِ اشْتَرَى وَرَقَهُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا كَانَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَّا عُرْفُنَا فَكَمَا ذَكَرْتُ؛ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ طِيبًا فَدَهَنَ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ طَيِّبٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ شَمًّا عُرْفًا. قَالَ: (وَالْخَاتَمُ النَّقْرَةُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ، وَالذَّهَبُ حُلِيٌّ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلَيًّا لَا يَحْنَثُ بِخَاتَمِ النَّقْرَةِ، لِأَنَّ النَّقْرَةَ

(4/70)


وَالْعِقْدُ اللُّؤْلُؤُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مُرَصَّعًا. حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ جَعَلَ قِرَامًا فَنَامَ حَنِثَ، وَالضَّرْبُ وَالْكَلَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْحَيَاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
تُلْبَسُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِلْخَتْمِ لَا لِلتَّزَيُّنِ، وَالْحُلِيُّ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الذَّهَبُ فَإِنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ مِمَّا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْفِضَّةِ قِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لِلزِّينَةِ، وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِلرِّجَالِ وَلَا يَحِلُّ لَهُمُ التَّزَيُّنُ بِالْحُلِيِّ.
قَالَ: (وَالْعِقْدُ اللُّؤْلُؤُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مُرَصَّعًا) وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ الْعُرْفُ لَا الْحَقِيقَةُ، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ حُلِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَصَّعًا لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَادًا فَهُوَ اخْتِلَافُ عَادَةٍ وَزَمَانٍ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْعِقْدِ الْغَيْرِ الْمُرَصَّعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلَيٍّ؛ وَلَوْ عَلَّقَتِ الْمَرْأَةُ فِي عُنُقِهَا ذَهَبًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ لَا يَحْنَثُ، وَالْمَنْطِقَةُ الْمُفَضَّضَةُ وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى لَيْسَ بِحُلِيٍّ لِمَا مَرَّ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ قِرَامًا فَنَامَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْقِرَامَ تَبَعٌ لِلْفِرَاشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِرَامُ ثَوْبًا طَبَرَيًّا وَالْفِرَاشُ دِيبَاجًا، يُقَالُ: نَامَ عَلَى فِرَاشِ دِيبَاجٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَعْلَى دِيبَاجًا وَالْأَسْفَلُ خَزًّا يُقَالُ: نَامَ عَلَى الدِّيبَاجِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْفِرَاشِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَائِمٌ عَلَى الْفِرَاشَيْنَ حَقِيقَةً، وَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا فَكَلَّمَهُ وَآخَرَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ. جَوَابُهُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، وَفِي الْعُرْفِ لَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَى الْأَعْلَى، وَفِي الْكَلَامِ هُوَ مُخَاطِبٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِيقَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا وَالسَّرِيرُ وَالدُّكَّانُ وَالسَّطْحُ كَالْفِرَاشِ إِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ سَرِيرًا آخَرَ وَبَنَى عَلَى السَّطْحِ سَطْحًا آخَرَ فَنَامَ عَلَى الْأَعْلَى لَا يَحْنَثُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَإِنْ جَعَلَ عَلَى السَّرِيرِ أَوِ السَّطْحِ أَوِ الدُّكَّانِ بِسَاطًا أَوْ فِرَاشًا أَوْ نَحْوَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ نَائِمًا عَلَى السَّطْحِ وَالسَّرِيرِ وَالدُّكَّانِ، وَمَتَى جَلَسَ عَلَى مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَلَيْسَ بِجَالِسٍ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ عَلَى ثِيَابِهِ فَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعَدُّ حَائِلًا، وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ.
قَالَ: (وَالضَّرْبُ وَالْكَلَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ هُوَ الْفِعْلُ الْمُؤْلِمُ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْحَيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْكِسْوَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ التَّمْلِيكُ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَا تَمْلِيكَ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ السَّتْرَ صَحَّ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ، وَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ عُرْفًا فِي مَوْضِعٍ يَجْلِسُ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ وَالتَّعْظِيمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالدُّخُولِ بِأَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ

(4/71)


حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ حَتَّى يَقْتُلَهُ فَهُوَ عَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ. حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ.

حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى وَصَامَ سَاعَةً حَنِثَ، وَإِنْ قَالَ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ الْيَوْمِ. حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَسْجُدْ؛ وَلَوْ قَالَ: صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيْتًا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى، أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ لَا يَكُونُ دُخُولًا عَلَيْهِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَالظُّلَّةِ وَالدِّهْلِيزِ لَا يَكُونُ دُخُولًا عَلَيْهِ إِلَّا إِنِ اعْتَادُوا الْجُلُوسَ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنِ ابْنِ سَمَاعَةَ ضِدَّ هَذَا فَقَالَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَدَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
رَجُلَانِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ فَدَخَلَا فِي الْمَنْزِلِ مَعًا لَا يَحْنَثَانِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ غَسَّلْتُكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسَالَةِ لِلتَّطْهِيرِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ حَتَّى يَقْتُلَهُ فَهُوَ عَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ) لِأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْعُرْفِ؛ وَلَوْ قَالَ: حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ أَوْ حَتَّى يَبْكِيَ أَوْ يَبُولَ أَوْ يَسْتَغِيثَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً؛ وَلَوْ قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسِّيَاطِ حَتَّى تَمُوتَ فَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ.
وَلَوْ قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ فَهُوَ عَلَى الْمَوْتِ حَقِيقَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ لَمْ أَضْرِبْكِ حَتَّى أَتْرُكَكِ لَا حَيَّةً وَلَا مَيِّتَةً فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا يُوجِعُهَا (حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ.

[فصل الحنث في اليمين]
فَصْلٌ (حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى وَصَامَ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ النِّيَّةِ وَقَدْ وُجِدَ (وَإِنْ قَالَ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ الْيَوْمِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ، وَذَلِكَ صَوْمُ الْيَوْمِ لِأَنَّ مَا دُونَهُ نَاقِصٌ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَسْجُدْ) لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَرْكَانِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِمْسَاكِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْيَوْمِ وَفِي الْجُزْءِ الثَّانِي يَتَكَرَّرُ (وَلَوْ قَالَ صَلَاةً لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِتَمَامِ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ.
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا، وَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيَّتًا

(4/72)


وَلَوْ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ مَيْتًا ثُمَّ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ (سم) ؛ وَمَنْ قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا؛ وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي عَتَقُوا فِي الْوَجْهَيْنِ قَالَ: إِنْ تَسَرَّيْتُ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَتَسَرَّى بِهَا لَمْ تَعْتِقْ. حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَزَوَّجَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
(وَلَوْ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ مَيَّتًا ثُمَّ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَا: لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْحَلَّتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ لَا إِلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ الْحَيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهَا الْحَيَاةُ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ عَتَقَ الْحَيُّ فَكَذَا هُنَا، بِخِلَافِ حُرِّيَّةِ الْأُمِّ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَيَاةِ فَافْتَرَقَا.
قَالَ: (وَمَنْ قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي عَتَقُوا فِي الْوَجْهَيْنِ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ عُرْفًا اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ صِدْقٍ لَيْسَ عِنْدَ الْمُبَشِّرِ عِلْمُهُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنَ الْفَرَحِ عَادَةً، وَالسُّرُورُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالصِّدْقِ لَا بِالْكَذِبِ وَبِخَبَرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمُهُ، وَالْخَبَرُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْخَبَرِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَيَقَعُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْبِشَارَةُ حَصَلَتْ بِالْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا فَعَتَقَ وَلَمْ تَحْصُلْ بِالْبَاقِي لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِهِ فَلَمْ تَكُنْ بِشَارَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ حَصَلَتْ بِإِخْبَارِ الْكُلِّ فَيَعْتِقُونَ؛ أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ فَيَعْتِقُونَ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْإِعْلَامُ كَالْبِشَارَةِ يَعْتِقُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرَ لِأَنَّهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَوَّلِ، وَالْبِشَارَةُ وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْمُشَافَهَةِ، وَالْمُحَادَثَةُ بِالْمُشَافَهَةِ لَا غَيْرَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَالُ: حَدَّثَنَا.
فَإِذَا قَالَ: أَيُّ غُلَامٍ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَكَتَبَ إِلَيْهِ غُلَامُهُ بِذَلِكَ عَتَقَ؛ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لَهُ أَرْسَلَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ بِالْبِشَارَةِ فَجَاءَ الرَّسُولُ وَقَالَ لِلْمَوْلَى: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَكَ: قَدْ قَدِمَ فُلَانٌ عَتَقَ الْمُرْسِلُ دُونَ الرَّسُولِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ؛ وَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ: إِنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَرْسَلَنِي فُلَانٌ عَتَقَ الرَّسُولُ خَاصَّةً.
(قَالَ: إِنْ تَسَرَّيْتُ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَتَسَرَّى بِهَا لَمْ تَعْتِقْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَنَاوَلَتْهَا الْيَمِينُ لِكَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَعْتِقُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَرِّي ذِكْرٌ لِلْمِلْكِ، لِأَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْمِلْكِ. قُلْنَا الْمِلْكُ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَزَوَّجَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ

(4/73)


وَإِنْ أَجَازَ بِالْفِعْلِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ. حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ يَحْنَثُ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ، وَفِي الْكَبِيرَيْنِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ. حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَكَّلَ بِهِ حَنِثَ، وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ صُدِّقَ قَضَاءً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَذَبْحُ الشَّاةِ كَضَرْبِ الْعَبْدِ. حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَوَكَّلَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ.
(وَإِنْ أَجَازَ بِالْفِعْلِ) كَإِعْطَاءِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ (لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْعُقُودَ تَخْتَصُّ بِالْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ عَقْدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ رِضًا، وَشَرْطُ الْحَنْثِ الْعَقْدُ لَا الرِّضَا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ بِالرِّضَا بِهِ.
(وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ صَدَقَ دِيَانَةً لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
(وَكَذَلِكَ) الْحُكْمُ فِي (الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقُ) وَكُلِّ عَقْدٍ لَا تُرْجَعُ حُقُوقُهُ إِلَى الْوَكِيلِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ لَيْسَ لَهُ حُقُوقٌ كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالذَّبْحِ وَالْكِسْوَةِ وَالْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ وَبِالْأَمْرِ. وَفِي الصُّلْحِ رِوَايَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ.
(حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ يَحْنَثُ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِجَازَةِ) لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِرَادَتِهِ لِمِلْكِهِ وَوِلَايَتِهِ (وَكَذَلِكَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا (وَفِي الْكَبِيرَيْنِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ) لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُمَا فَيَتَعَلَّقُ بِحَقِيقَةِ الْفِعْلِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَكَلَ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَالِكِ فَيُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِأَنَّهُ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ (وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ صُدِّقَ قَضَاءً) لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُفْضِي إِلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلَ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخَاصَ مِنَ الْعَامِّ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً.
قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْوَلَدِ وَهُوَ التَّثْقِيفُ وَالتَّأْدِيبُ فَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ ضَرْبِ الْعَبْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
(وَذَبْحُ الشَّاةِ كَضَرْبِ الْعَبْدِ) حَلَفَ لَا يَضْرِبُ حُرًّا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرْبَ الْحُرِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا فَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ضَرْبًا حَدًّا وَتَعْزِيرًا فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَوَكَّلَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ)

(4/74)


حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ، وَلَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ أَعَارَ فَلَمْ يُقْبَلْ حَنِثَ. حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إِلَى قَرِيبٍ فَمَا دُونَ الشَّهْرِ، وَبَعِيدٍ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ: لَيَقْضِيَنَّهُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ، وَبَعْضُهَا زُيُوفٌ، أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لِأَنَّ الْعَقْدَ يُوجَدُ مِنَ الْعَاقِدِ حَتَّى تَرْجِعَ الْحُقُوقُ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ فَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنَ الْحَالِفِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الْعُقُودَ كَالسُّلْطَانِ وَالْمُخَدَّرَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ يُبَاشِرُ مَرَّةً وَيُوكِلُ أُخْرَى تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ، وَلَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ أَعَارَ فَلَمْ يُقْبَلْ حَنِثَ) لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَمْلِيكٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ رُكْنًا لِتَحْقِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ تَمْلِيكٌ مِنْ جَانِبِ الْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَحْنَثُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالْقَبُولِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ. قُلْنَا: الْهِبَةُ تَمْلِيكٌ فَتُتِمُّ بِالْمُمَلِّكِ وَالْقَبُولُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ دُونَ وُجُودِ الْهِبَةِ، فَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَتَمَلُّكٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي الْقَرْضِ رِوَايَتَانِ، وَيَحْنَثُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْهِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَحْنَثُ فِيهِ إِلَّا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمِلْكُ وَهُوَ بِالْقَبْضِ. قُلْنَا: هُوَ بَيْعٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ.
قَالَ: (حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إِلَى قَرِيبٍ فَمَا دُونَ الشَّهْرِ، وَبِعِيدٍ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ يُعَدُّ بَعِيدًا وَالْعِبْرَةُ لِلْمُعْتَادِ.
(وَإِنْ قَالَ: لَيَقْضِيَنَّهُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ وَبَعْضُهَا زُيُوفٌ، أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ إِلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ وَالْعَيْبُ لَا يَعْدَمُ الْجِنْسِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْمُسْتَحَقَّةُ دَرَاهِمُ وَقَبْضُهَا صَحِيحٌ، وَبِرَدِّهَا لَا يَنْتَقِضُ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْيَمِينِ.
(وَلَوْ كَانَ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِدَرَاهِمَ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ سَتُّوقًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ فِضَّةً لَا يَحْنَثُ. حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ مِنْ فُلَانٍ حَقَّهُ فَأَخَذَهُ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ كَفِيلٍ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ مُحْتَالٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بَرَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ وَالْحِوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ حَنِثَ، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الدَّافِعَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْأَخْذُ مِنْ وَكِيلِهِ أَخْذٌ مِنْهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُقُوقَ الْقَضَاءِ لَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَأْمُورِ وَكَذَا كَفِيلُهُ بِأَمْرِهِ كَالْوَكِيلِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنِّ فُلَانًا حَقَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالْأَدَاءِ أَوْ أَحَالَهُ فَقَبَضَ بَرَّ، وَلَوْ بَاعَهُ شَيْئًا وَقَبَضَهُ بَرَّ أَيْضًا، لِأَنَّ بِالْبَيْعِ

(4/75)


حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ مُتَفَرِّقًا فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْبِضَ بَاقِيَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ فِي وَزْنَتَيْنِ مُتَعَاقِبًا لَمْ يَحْنَثْ. حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا، وَإِنْ قَالَ: لَأَفْعَلَنَّهُ بَرَّ بِوَاحِدَةٍ. اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لَيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ مُفْسِدٍ فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْعَارِيَةُ وَالصَّدَقَةُ.

فَصْلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
صَارَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَتَقَاصَّانِ وَهُوَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدُّيُونِ؛ وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ حَنِثَ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ مِنَ الْحَالِفِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَهَرَبَ مِنَ الْغَرِيمِ لَمْ يَحْنَثْ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ مُتَفَرِّقًا فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْبِضَ بَاقِيهِ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ جَمِيعِ دَيْنِهِ مُتَفَرِّقًا وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحَنْثِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي أَوْ وَهَبَهُ لَا يَكُونُ قَابِضًا لِلْكُلِّ (وَإِنْ قَبَضَهُ فِي وَزْنَتَيْنِ مُتَعَاقِبًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ وَزْنُ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَإِنِ اشْتَغَلَ بَيْنَ وَزْنَيْنِ بِعَمَلٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسَ فَاخْتَلَفَ الدَّفْعُ.
قَالَ: (حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبِدًا لِأَنَّهُ نَفَى مُطْلَقًا فَيَعُمُّ.
(وَإِنْ قَالَ: لَأَفْعَلَنَّهُ بَرَّ بِوَاحِدَةٍ) لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِثْبَاتِ فَيَبِرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهَ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِمَوْتِهِ أَوْ بِهَلَاكِ مَحَلِّ الْفِعْلِ إِذَا أَيِسَ مِنَ الْفِعْلِ.
قَالَ: (اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لَيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ مُفْسِدٍ فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْفَسَادِ وَدَفْعُ الشَّرِّ بِالْمَنْعِ وَالزَّجْرِ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ سَلْطَنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا، وَزَوَالُهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَزْلِ (حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْعَارِيَةُ وَالصَّدَقَةُ) وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ.

[فَصْلٌ في النذر]
فَصْلٌ النَّذْرُ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ، أَمَّا كَوْنُهُ قُرْبَةً فَلِمَا يُلَازِمْهُ مِنَ الْقُرْبِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا شَرْعِيَّتُهُ فَلِلْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بِإِيفَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِ بِنَذْرِكِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ، وَعَلَى شَرْعِيَّتِهِ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِقُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَالْقُرَبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَصِحُّ بِمَا لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَكْفِينِ الْمَيِّتَ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ

(4/76)


وَلَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخِرًا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ - كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ وُجُودَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْإِيجَابِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا إِيجَابَهُ فِي مِثْلِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّذْرِ، وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَعْصِيَةٍ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» .
قَالَ: (وَلَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلُقًا) أَيْ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ (فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ) لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ مَوْجُودٌ نَظَرًا إِلَى الْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْأَصْلُ وَالشَّرْطُ تَبَعٌ، وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى فَصَارَ كَالْمُنَجَّزِ.
(وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخِرًا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ وُجُودَهُ) كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا أَوْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِلْبَلْوَى وَالضَّرُورَةِ، وَلَوْ أَدَّى مَا الْتَزَمَهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ نَذْرٌ لَفْظًا فَيَخْتَارُ أَيَّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ؛ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ وُجُودَهُ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ قَدِمْتُ مِنْ سَفَرِي لَا يُجْزِيهِ إِلَّا الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ.
وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي صَدَقَةٌ فَفَعَلَ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ إِلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا، لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَصِحُّ؛ وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَبَدِ فَضَعُفَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ أَفْطَرَ لِئَلَّا تَخْتَلَّ فَرَائِضُهُ وَيَفْدِيَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَلَوْ نَذَرَ عَدَدًا مِنَ الْحَجِّ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ؛ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامُ مَسَاكِينَ، كَقَوْلِهِ إِطْعَامٌ، لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمُ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِيجَابُ الْفِعْلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامٌ أَطْعَمَ إِنْ شَاءَ وَلَوْ لُقْمَةً.
وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ وَنَوَى الصَّوْمَ أَوِ الصَّدَقَةَ دُونَ الْعَدَدِ لَزِمَهُ فِي الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي الصَّدَقَةِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ اعْتِبَارًا بِالْوَاجِبِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِذْ هُوَ الْأَقَلُّ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا؛ وَلَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ أَيَّامِ حَيْضِهَا أَوْ قَالت: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهَا أَضَافَتِ الصَّوْمَ إِلَى وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَقْضِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ صَدَرَ صَحِيحًا فِي حَالٍ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ وَلَا إِضَافَتَهُ إِلَى زَمَانٍ يُنَافِيهِ، إِذِ الصَّوْمُ مُتَصَوَّرٌ فِيهِ وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ مُحْتَمَلٌ كَالْمَرَضِ فَتَقْضِيَهُ وَصَارَ كَمَا إِذَا نَذَرَتْ صَوْمَ شَهْرٍ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ أَيَّامِ حَيْضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الشَّهْرِ عَنِ الْحَيْضِ

(4/77)


وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ أَوْ نَحْرَهُ لَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الاختيار لتعليل المختار]
فَصَحَّ الْإِيجَابُ.
وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ لَيْلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ وَقَدْ أَكَلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُتَكَلَّمِ بِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقْضِي فِي الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ كَمَا إِذَا نَذَرَتْ صَوْمَ غَدٍ فَحَاضَتْ؛ وَلَوْ قَدِمَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَضَاهُ وَلَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ خَرَجَ صَحِيحًا.
وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَةٍ أَوْ صَوْمَ نِصْفِ يَوْمٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَامَ يَوْمًا، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ صَلَاةٌ وَقُرْبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا كَالْوَتْرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَصَوْمُ نِصْفِ يَوْمٍ قِرْبَةٌ كَإِمْسَاكِ غَدَاةَ الْأَضْحَى فَصَحَّ الْتِزَامُهُ ثُمَّ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِتْمَامُهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي شَرْعًا، وَلَوْ نَذَرَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ أَرْبَعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَرَكْعَتَانِ عِنْدَ زُفَرَ؛ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ بِوُضُوءٍ لِأَنَّ إِيجَابَ أَصْلِ الصَّلَاةِ صَحِيحٌ وَذِكْرُ الْوَصْفِ بَاطِلٌ.
وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ عُرْيَانًا صَحَّ خِلَافًا لَزُفَرَ وَلَزِمَتْهُ بِقِرَاءَةٍ مَسْتُورًا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَمَا ذَكَرَ قُرْبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَوْبٍ فَصَحَّ الْإِيجَابُ.
قَالَ: (وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ أَوْ نَحْرِهِ لَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَذَا النَّذْرُ بِذَبْحِ نَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ وَفِي الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ الْأَصَحُّ عَدَمُ الصِّحَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ. لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ. وَلَهُمَا فِي الْوَلَدِ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا فَيَكُونُ سَمَاعًا، وَلِأَنَّ إِيجَابَ ذَبْحِ الْوَلَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَابِ ذَبْحِ الشَّاةِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ ذَبْحَهُ بِمَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُ الشَّاةِ بِالْحَرَمِ. بَيَانُهُ قِصَّةُ الذَّبِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَبْحَ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ حَيْثُ قَالَ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] فَيَكُونُ كَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا، إِمَّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] أَوْ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلِنَا تَلْزَمُنَا حَتَّى يَثْبُتَ النَّسْخُ، وَلَهُ نَظَائِرُ: مِنْهَا إِيجَابُ الشَّيْءِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِيجَابُ الْهَدْيِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَابِ شَاةٍ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَإِذَا كَانَ نَذْرُ ذَبْحِ الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ شَاةٍ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً بَلْ قُرْبَةً حَتَّى قَالَ الْأَسْبِيجَابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ: إِنْ أَرَادَ عَيْنَ الذَّبْحِ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لَا يَصِحُّ وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي مَعْصِيَةٌ لِإِفْضَائِهِ إِلَى إِهْلَاكِهِ، وَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ الْتِزَامًا لِلْفِدْيَةِ كَذَا هَذَا. وَلِمُحَمَّدٍ فِي النَّفْسِ وَالْعَبْدِ أَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمَا فَوْقَ وِلَايَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّاةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَرَفْنَاهُ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْوَلَدِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَذَرَ بِلَفْظِ الْقَتْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ

(4/78)