رد المحتار على الدر المختار

بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ الْمُحَرَّمِ
(يُحَدُّ مُسْلِمٌ) فَلَوْ ارْتَدَّ فَسَكِرَ فَأَسْلَمَ لَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْكُفَّارِ ظَهِيرِيَّةٌ، لَكِنْ فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي: سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ (نَاطِقٌ) فَلَا يُحَدُّ أَخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ (مُكَلَّفٌ) طَائِعٌ غَيْرُ مُضْطَرٍّ (شَرِبَ الْخَمْرَ وَلَوْ قَطْرَةً)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
عَنْ الْمُحِيطِ كَذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إسْنَادُهَا إلَى أَبِي يُوسُفَ لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي خَرَّجَهَا لَا لِكَوْنِ غَيْرِهِ قَائِلًا بِخِلَافِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِلَافُهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْمُخَالِفِ تَأَمَّلْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ الْمُحَرَّمِ]
بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ أَخَّرَهُ عَنْ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا أَقْبَحُ مِنْهُ وَأَغْلَظُ عُقُوبَةً، وَقَدَّمَهُ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ لِتَيَقُّنِ الْجَرِيمَةِ فِي الشَّارِبِ دُونَ الْقَاذِفِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ، وَتَأْخِيرُ حَدِّ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ التَّابِعَةِ لِلنُّفُوسِ بَحْرٌ (قَوْلُهُ فَلَوْ ارْتَدَّ فَسَكِرَ إلَخْ) أَقُولُ: ذَكَرَ فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُحَدُّ لِلشُّرْبِ سَوَاءٌ شَرِبَ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَوْ فِيهَا فَأَسْلَمَ اهـ وَمِثْلُهُ فِي كَافِي الْحَاكِمِ، وَسَيَذْكُرُ الشَّارِحُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عَنْ السِّرَاجِيَّةِ لَوْ اعْتَقَدَ الذِّمِّيُّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ أَيْ فَيُحَدُّ (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْكُفَّارِ) يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا شَرِبَ فِي رِدَّتِهِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِقِيَامِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَإِذَا كَانَ وَقْتَ الشُّرْبِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ لَا يُحَدُّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ لَهُ لِوُجُوبِهِ قَبْلَهُ كَمَا يُفِيدُهُ مَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الظَّهِيرِيَّةِ فَافْهَمْ (قَوْلُهُ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ) أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ.
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهْرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ، وَمَشَى فِي الْمَنْظُومَةِ الْمُحِبِّيَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى.
قُلْت: وَعِبَارَةُ الْحَاكِمِ فِي الْكَافِي مِنْ الْأَشْرِبَةِ: وَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الشَّرَابِ اهـ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا، وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ مَا لَوْ سَكِرَ مِنْهُ (قَوْلُهُ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ) هَذَا ذَكَرَهُ قَارِئُ الْهِدَايَةِ. قُلْت: وَلِي فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْخَمْرَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَشْرَبُونَهَا وَرُبَّمَا سَكِرُوا مِنْهَا كَمَا جَاءَ صَرِيحًا.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْفَتْحِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنْ الْخَمْرِ فَأَخَذَتْ الْخَمْرُ مِنَّا وَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْت - قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ - وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الْآيَةَ " افَلَوْ كَانَ السُّكْرُ حَرَامًا لَزِمَ تَفْسِيقُ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ رَأَيْت فِي تُحْفَةِ ابْنِ حَجَرٍ قَالَ: وَشَرِبَهَا الْمُسْلِمُونَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، قِيلَ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ بِوَحْيٍ، ثُمَّ قِيلَ الْمُبَاحُ الشُّرْبُ لَا غَيْبَةُ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَزَيَّفَهُ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي النَّوَوِيَّ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِحُرْمَتِهِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُ مِلَّتِنَا اهـ وَهَذَا مُؤَيِّدٌ لِمَا بَحَثْته، لَكِنْ فِي جَوَابِهِ الْأَخِيرِ نَظَرٌ (قَوْلُهُ فَلَا يُحَدُّ أَخْرَسُ) سَوَاءٌ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ بِإِشَارَتِهِ الْمَعْهُودَةِ.
وَأَفَادَ أَنَّ الْأَعْمَى يُحَدُّ كَمَا فِي الْبَحْرِ (قَوْلُهُ لِلشُّبْهَةِ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يُحْتَمَلُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَلَوْ قَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ظَنَنْتهَا لَبَنًا أَوْ لَا أَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَمْ يُقْبَلْ، فَإِنْ قَالَ ظَنَنْتهَا نَبِيذًا قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْغَلَيَانِ وَالشِّدَّةِ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الذَّوْقِ وَالرَّائِحَةِ (قَوْلُهُ طَائِعٌ) مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِ الْمَتْنِ طَوْعًا ح (قَوْلُهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ) فَلَوْ شَرِبَ لِلْعَطَشِ الْمُهْلِكِ مِقْدَارَ مَا يَرْوِيهِ فَسَكِرَ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرٍ مُبَاحٍ.
وَقَالُوا: لَوْ شَرِبَ مِقْدَارَهُ وَزِيَادَةً وَلَمْ يَسْكَرْ حُدَّ كَمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ قُهُسْتَانِيٌّ، وَبِهِ صَرَّحَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي.
(قَوْلُهُ شَرِبَ الْخَمْرَ) هِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا

(4/37)


بِلَا قَيْدِ سُكْرٍ (أَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذٍ) مَا بِهِ يُفْتَى (طَوْعًا) عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِكَوْنِهِ فِي دَارِنَا، لِمَا قَالُوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ فَلَيْسَ بِخَمْرٍ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا، وَبِقَوْلِهِمَا أَخَذَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ خَانِيَّةٌ وَلَوْ خُلِطَ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا حُدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا يُحَدُّ إلَّا إذَا سَكِرَ نَهْرٌ.
مَطْلَبٌ فِي نَجَاسَةِ الْعَرَقِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ بِشُرْبِهِ وَفِي أَشْرِبَةِ الْقُهُسْتَانِيِّ: مَنْ قَالَ إنَّهَا لَمْ تَبْقَ خَمْرًا بِالطَّبْخِ لَمْ يُحَدَّ شَارِبُهَا إلَّا إذَا سَكِرَ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحَدَّ شَارِبُ الْعَرَقِ مَا لَمْ يَسْكَرْ. وَمَنْ قَالَ إنَّهَا بَقِيَتْ خَمْرًا فَالْحُكْمُ عِنْدَهُ بِالْعَكْسِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، كَمَا فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى. اهـ. قُلْت: عُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّ الْعَرَقَ لَمْ يَخْرُجْ بِالطَّبْخِ وَالتَّصْعِيدِ عَنْ كَوْنِهِ خَمْرًا فَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ. وَأَمَّا إذَا سَكِرَ مِنْهُ فَلَا شُبْهَةَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي بِنَجَاسَتِهِ أَيْضًا فَلَا يَغُرَّنَّك مَا أَشَاعَهُ فِي زَمَانِنَا بَعْضُ الْفَسَقَةِ الْمُولَعِينَ بِشُرْبِهِ مِنْ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَلَالٌ، كَأَنَّهُ قَالَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الطَّابَقِ: أَيْ الْغِطَاءِ مِنْ زُجَاجٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِيمَا لَوْ أَخْرَقَتْ نَجَاسَةٌ فِي بَيْتٍ فَأَصَابَ مَاءُ الطَّابَقِ ثَوْبَ إنْسَانٍ تَنَجَّسَ قِيَاسًا لَا اسْتِحْسَانًا، وَمِثْلُهُ حَمَّامٌ فِيهَا نَجَاسَاتٌ فَعَرِقَ حِيطَانُهَا وَكُوَّاتُهَا وَتَقَاطَرَ، فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِيهَا عَدَمُ النَّجَاسَةِ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ.
وَالْقِيَاسُ النَّجَاسَةُ لِانْعِقَادِهِ مِنْ عَيْنِ النَّجَاسَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَقَ الْمُسْتَقْطِرَ مِنْ الْخَمْرِ هُوَ عَيْنُ الْخَمْرِ تَتَصَاعَدُ مَعَ الدُّخَانِ وَتَقْطُرُ مِنْ الطَّابَقِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مِنْهَا إلَّا أَجْزَاؤُهَا التُّرَابِيَّةُ وَلِذَا يَفْعَلُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْإِسْكَارِ أَضْعَافَ مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرُ الْخَمْرِ، بِخِلَافِ الْمُتَصَاعِدِ مِنْ أَرْضِ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ مَاءٌ أَصْلُهُ طَاهِرٌ خَالَطَ نَجَاسَةً مَعَ احْتِمَالِ أَنَّ الْمُتَصَاعِدَ نَفْسُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ فِي طَهَارَتِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْعَرَقِ الصَّاعِدِ مِنْ نَفْسِ الْخَمْرِ النَّجِسَةِ الْعَيْنِ وَلَا يَطْهُرُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ طَهَارَةُ الْبَوْلِ، وَنَحْوُهُ إذَا اُسْتُقْطِرَ فِي إنَاءٍ وَلَا يَقُولُ بِهِ عَاقِلٌ.
وَقَدْ طُلِبَ مِنِّي أَنْ أَعْمَلَ بِذَلِكَ رِسَالَةً وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، (قَوْلُهُ بِلَا قَيْدِ سُكْرٍ) تَصْرِيحٌ بِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ وَلَوْ قَطْرَةً إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ بَاقِي الْأَشْرِبَةِ وَإِلَّا فَلَا يُحَدُّ بِالْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ قِيَامُ الرَّائِحَةِ.
وَمَنْ شَرِبَ قَطْرَةَ خَمْرٍ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَتُهَا عَادَةً، نَعَمْ يُمْكِنُ الْحَدُّ بِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآتِي مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالشُّرْبِ لَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ أَوْ سَكِرَ مِنْ نَبِيذٍ مَا) أَيْ مِنْ أَيِّ شَرَابٍ كَانَ غَيْرَ خَمْرٍ إذَا شَرِبَهُ لَا يُحَدُّ بِهِ إلَّا إذَا سَكِرَ بِهِ، وَعَبَّرَ بِمَا الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْمِيمِ إشَارَةً إلَى خِلَافِ الزَّيْلَعِيِّ حَيْثُ خَصَّهُ بِالْأَنْبِذَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ، وَهُوَ نَجَسٌ أَيْضًا قَالُوا: وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ نَأْخُذُ.
وَفِي طَلَاقِ الْبَزَّازِيَّةِ: لَوْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ الْمُخْتَارُ فِي زَمَانِنَا لُزُومُ الْحَدِّ اهـ نَهْرٌ قُلْت: وَمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ تَبِعَ فِيهِ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ، لَكِنَّهُ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ ذَكَرَ تَصْحِيحَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا مَشَى عَلَيْهِ هُنَا غَيْرُ الْمُخْتَارِ كَمَا فِي الْفَتْحِ. وَقَدْ حَقَّقَ فِي الْفَتْحِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ إنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ قَلِيلِهِ أَنَّهُ يُحَدُّ بِهِ بِلَا إسْكَارٍ كَالْخَمْرِ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَأَنَّ اسْتِدْلَالَهُمْ عَلَى الْحَدِّ بِقَلِيلِهِ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» " وَبِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ كَزَيْدٍ أَسَدٌ وَالْمُرَادُ بِهِ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْحَدِّ بِلَا إسْكَارٍ، وَكَوْنُ التَّشْبِيهِ خِلَافَ الْأَصْلِ أَوْجَبَ الْمَصِيرَ إلَيْهِ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِّ بِقَلِيلِهِ سِوَى الْقِيَاسِ وَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ بِهِ، نَعَمْ الثَّابِتُ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهُ، وَقَدْ أَطَالَ فِي ذَلِكَ إطَالَةً حَسَنَةً، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَيَأْتِي حُكْمُ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشِ (قَوْلُهُ بِكَوْنِهِ فِي دَارِنَا) أَيْ نَاشِئًا فِيهَا (قَوْلُهُ لِمَا قَالُوا إلَخْ) تَعْلِيلٌ لِتَفْسِيرِ الْعِلْمِ الْحُكْمِيِّ

(4/38)


وَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا فَأَسْلَمَ فَشَرِبَ الْخَمْرَ جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ لَا يُحَدُّ، بِخِلَافِ الزِّنَا لِحُرْمَتِهِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. قُلْت: يُرَدُّ عَلَيْهِ حُرْمَةُ السُّكْرِ أَيْضًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ فَتَأَمَّلْ (بَعْدَ الْإِفَاقَةِ) فَلَوْ حُدَّ قَبْلَهَا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعَادُ عَيْنِيٌّ (إذَا أُخِذَ) الشَّارِبُ (وَرِيحُ مَا شَرِبَ) مِنْ خَمْرٍ أَوْ نَبِيذٍ فَتْحٌ، فَمَنْ قَصَرَ الرَّائِحَةَ عَلَى الْخَمْرِ فَقَدْ قَصَرَ (مَوْجُودَةٌ) خَبَرُ الرِّيحِ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ غَايَةٌ (إلَّا أَنْ تَنْقَطِعَ) الرَّائِحَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
بِكَوْنِهِ فِي دَارِنَا، لَكِنْ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْكَوْنِ فِي دَارِنَا وَإِلَّا لَمْ يُوَافِقْ التَّعْلِيلُ الْمُعَلَّلَ.
وَيُوَضِّحُ الْمَقَامَ مَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَجَاءَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أُخِذَ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُعْذَرْ بِقَوْلِهِ لَمْ أَعْلَمْ.
وَأَمَّا الْمَوْلُودُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ بَالِغٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ (قَوْلُهُ قُلْت يَرُدُّ عَلَيْهِ إلَخْ) أَيْ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِحُرْمَتِهِ أَيْ الزِّنَا فِي كُلِّ مِلَّةٍ حَيْثُ جَعَلُوهُ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الشُّرْبَ لَا يَحْرُمُ فِي كُلِّ مِلَّةٍ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لِمَا مَرَّ مِنْ حُرْمَتِهِ كَذَلِكَ. وَدُفِعَ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ هُوَ السُّكْرُ لَا نَفْسُ الشُّرْبِ، وَالْمُرَادُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا.
قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فَشَارِبُ الْخَمْرِ جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ لَا يُحَدُّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَكِرَ مِنْ هَذَا الشُّرْبِ أَوَّلًا، بَلْ الْمُتَبَادِرُ السُّكْرُ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الشُّرْبَ بِلَا سُكْرٍ لَكَانَ الْوَاجِبُ تَقْيِيدَهُ، أَوْ كَانَ يُقَالُ فَشَرِبَ قَطْرَةً نَعَمْ قَدْ يُدْفَعُ أَصْلُ الْإِيرَادِ بِمَنْعِ حُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فَافْهَمْ.
[تَتِمَّةٌ] لَوْ شَرِبَ الْحَلَالُ ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ حُدَّ، لَكِنْ لَوْ الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَظَّمَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرِبَ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَخَفَّهُ قُهُسْتَانِيٌّ عَنْ الْعِمَادِيِّ، وَيَأْتِي أَنَّهُ لَوْ شَرِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُحَدُّ.
فَعُلِمَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِلشُّرْبِ عَشْرَةٌ: ذِمِّيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَمُرْتَدٌّ وَإِنْ شَرِبَ قَبْلَ رِدَّتِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الشُّرْبِ وَصَبِيٌّ، وَمَجْنُونٌ وَأَخْرَسُ وَمُكْرَهٌ، وَمُضْطَرٌّ لِعَطَشٍ مُهْلِكٍ، وَمُلْتَجِئٌ إلَى الْحَرَمِ، وَجَاهِلٌ بِالْحُرْمَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَمَنْ شَرِبَ فِي غَيْرِ دَارِنَا، وَبِهِ يُعْلَمُ شُرُوطُ الْحَدِّ هُنَا (قَوْلُهُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ) أَيْ الصَّحْوِ مِنْ السُّكْرِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يُحَدُّ مُسْلِمٌ (قَوْلُهُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعَادُ) جَزَمَ بِهِ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيُّ ةِ: وَفِيهِ تَأَمُّلٌ اهـ وَبُيِّنَ وَجْهُهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَلَمَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَدٌّ فَلَا يُعَادُ بَعْدَ صَحْوِهِ. اهـ. قُلْت: وَفِيهِ نَظَرٌ، لِمَا فِي الْفَتْحِ: وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ أَوْ غَلَبَةَ الطَّرَبِ تُخَفِّفُ الْأَلَمَ. ثُمَّ ذَكَرَ حِكَايَةً. حَاصِلُهَا أَنَّ السَّكْرَانَ وَضَعَ عَلَى رُكْبَتِهِ جَمْرَةً حَتَّى طَفِئَتْ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا حَتَّى أَفَاقَ فَوَجَدَ الْأَلَمَ.
قَالَ: وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْحَدُّ فَائِدَتَهُ إلَّا حَالَ الصَّحْوِ، وَتَأْخِيرُ الْحَدِّ لِعُذْرٍ جَائِزٌ اهـ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخْطَأَ فَحَدَّهُ قَبْلَ صَحْوِهِ أَنْ يَسْقُطَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الصَّحْوِ.
وَلَا يَرِدُ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَسَارَ السَّارِقِ لَا تُقْطَعُ يَمِينُهُ أَيْضًا لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّ الِانْزِجَارَ حَاصِلٌ بِالْيَسَارِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ قَطْعَ الْيَمِينِ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَتْ الْيَمِينُ أَيْضًا يَلْزَمُ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ، وَلِذَا لَا يُقْطَعُ لَوْ كَانَتْ يُسْرَاهُ مَقْطُوعَةً أَوْ إبْهَامُهَا (قَوْلُهُ إذَا أُخِذَ الشَّارِبُ) شَرْطٌ تَقَدَّمَ دَلِيلُ جَوَابِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ يُحَدُّ مُسْلِمٌ إلَخْ وَضَمِيرُ أَخَذَ يَعُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالشَّارِبِ، وَالْمُرَادُ أَخْذُهُ إلَى الْحَاكِمِ (قَوْلُهُ وَرِيحُ مَا شَرِبَ إلَخْ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: فَالشَّهَادَةُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا: أَيْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ مِنْ غَيْرِهِ مُقَيَّدَةٌ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، فَلَا بُدَّ مَعَ شَهَادَتِهِمَا بِالشُّرْبِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّ الرِّيحَ قَائِمٌ حَالَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ بِأَنْ يَشْهَدَا بِهِ وَبِالشُّرْبِ أَوْ يَشْهَدَا بِهِ فَقَطْ فَيَأْمُرُ الْقَاضِي بِاسْتِنْكَاهِهِ فَيَسْتَنْكِهَ وَيُخْبِرَ بِأَنَّ رِيحَهَا مَوْجُودٌ. اهـ. (قَوْلُهُ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ سَمَاعِيٌّ) الْأَوْلَى وَهِيَ لِعَوْدِهِ إلَى الرِّيحِ وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ ضَمِيرَهَا

(4/39)


(لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ) وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَا بِالشُّرْبِ طَائِعًا وَيَقُولَا أَخَذْنَاهُ وَرِيحُهَا مَوْجُودَةٌ (وَلَا يَثْبُتُ) الشُّرْبُ (بِهَا) بِالرَّائِحَةِ (وَلَا بِتَقَايُئِهَا، بَلْ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ يَسْأَلُهُمَا الْإِمَامُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَكَيْفَ شَرِبَ) لِاحْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ (وَمَتَى شَرِبَ) لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ (وَأَيْنَ شَرِبَ) لِاحْتِمَالِ شُرْبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ يَسْأَلُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ، وَلَا يَقْضِي بِظَاهِرِهَا فِي حَدٍّ مَا خَانِيَّةٌ.
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِسُكْرِهِ مِنْ الْخَمْرِ وَالْآخَرُ مِنْ السُّكْرِ لَمْ يُحَدَّ ظَهِيرِيَّةٌ (أَوْ) يَثْبُتُ (بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً صَاحِيًا ثَمَانُونَ سَوْطًا) مُتَعَلِّقٌ بِيُحَدُّ (لِلْحُرِّ، وَنِصْفُهَا لِلْعَبْدِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
لِتَذْكِيرِ الْخَبَرِ، وَالْمُؤَنَّثُ السَّمَاعِيُّ هُوَ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ لَفْظُهُ بِعَلَامَةِ تَأْنِيثٍ وَلَكِنَّهُ سُمِعَ مُؤَنَّثًا بِالْإِسْنَادِ إنْ كَانَ رُبَاعِيًّا كَهَذِهِ الْعَقْرَبِ قَتَلْتهَا، وَبِهِ أَوْ بِالتَّصْغِيرِ إنْ كَانَ ثُلَاثِيًّا كَعُيَيْنَةٍ فِي تَصْغِيرِ عَيْنٍ هَذِهِ النَّارُ أَضْرَمْتهَا وَذَلِكَ فِي أَلْفَاظٍ مَحْصُورَةٍ.
(قَوْلُهُ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ) أَفَادَ أَنَّ زَوَالَهَا لِمُعَالَجَةِ دَوَاءٍ لَا يَمْنَعُ الْحَدَّ كَمَا فِي حَاشِيَةِ مِسْكِينٍ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ (قَوْلُهُ وَلَا يَثْبُتُ الشُّرْبُ بِهَا) ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ:
يَقُولُونَ لِي انْكِهِ قَدْ شَرِبْت مُدَامَةً ... فَقُلْت لَهُمْ لَا بَلْ أَكَلْت السَّفَرْجَلَا
وَانْكِهِ بِوَزْنِ امْنَعْ وَنِكْهُ مِنْ بَابِهِ: أَيْ أَظْهِرْ رَائِحَةَ فَمِك فَتْحٌ (قَوْلُهُ بِالرَّائِحَةِ) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ بِهَا (قَوْلُهُ وَلَا بِتَقَايُئِهَا) مَصْدَرُ تَقَيَّأَ. اهـ. ح لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالشَّكِّ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ سَكْرَانُ لَا يُحَدُّ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَا أَوْ أَنَّهُ سَكِرَ مِنْ الْمُبَاحِ بَحْرٌ، لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ بِمُجَرَّدِ الرِّيحِ أَوْ السُّكْرِ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (قَوْلُهُ رَجُلَيْنِ) احْتِرَازٌ عَنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ لِلشُّبْهَةِ كَمَا فِي الْبَحْرِ (قَوْلُهُ يَسْأَلُهُمَا الْإِمَامُ) أَشَارَ إلَى مَا فِي الْبَحْرِ عَنْ الْقُنْيَةِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِقَاضِي الرُّسْتَاقِ أَوْ فَقِيهِهِ أَوْ الْمُتَفَقِّهَةِ أَوْ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ إقَامَةُ حَدِّ الشُّرْبِ إلَّا بِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ (قَوْلُهُ عَنْ مَاهِيَّتِهَا) لِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ بَاقِيَ الْأَشْرِبَةِ خَمْرٌ (قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ الْإِكْرَاهِ) لَكِنْ لَوْ قَالَ أُكْرِهْت لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالشُّرْبِ طَائِعًا وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ (قَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِأَنَّ التَّقَادُمَ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ وَهُوَ شَهْرٌ، وَإِلَّا فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمَا أَنْ يُؤْخَذَ وَالرِّيحُ مَوْجُودَةٌ كَمَا مَرَّ أَفَادَهُ فِي الْبَحْرِ، فَالتَّقَادُمُ عِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا مَرَّ فِي الْبَابِ السَّابِقِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَا يَمْنَعُ الْإِقْرَارَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَرَجَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَوْلَهُ وَفِي الْفَتْحِ أَنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ قَوْلُهُمَا إلَّا أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَرْجَحُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. اهـ. (قَوْلُهُ مِنْ السَّكَرِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْكَافِ: وَهُوَ عَصِيرُ الرُّطَبِ إذَا اشْتَدَّ، وَقِيلَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ عِنَايَةٌ. قُلْت: وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُحَدُّ لِعَدَمِ تُوَافِقُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمَشْرُوبِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ غَيْرِهَا تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ ظَهِيرِيَّةٌ) وَمِثْلُهُ فِي كَافِي الْحَاكِمِ (قَوْلُهُ أَوْ بِإِقْرَارِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَقَدْرُ الشَّارِحِ يَثْبُتُ لِطُولِ الْفَصْلِ.
قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَفِي حَصْرِهِ الثُّبُوتَ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ يُوجَدُ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ يُوجَدُ الْقَوْمُ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ شَرِبُوهَا لَا يُحَدُّونَ وَإِنَّمَا يُعَزَّرُونَ، وَكَذَا الرَّجُلُ مَعَهُ رَكْوَةٌ مِنْ الْخَمْرِ اهـ بَلْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ سَكْرَانُ لَا يُحَدُّ بِلَا بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ بَلْ يُعَزَّرُ (قَوْلُهُ مَرَّةً) رَدٌّ لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقْرَارِهِ مَرَّتَيْنِ بَحْرٌ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِسُؤَالِ الْقَاضِي الْمُقِرَّ عَنْ الْخَمْرِ مَا هِيَ؟ وَكَيْفَ شَرِبَهَا؟ وَأَيْنَ شَرِبَ؟ وَيَنْبَغِي ذَلِكَ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنْ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَعَلِمَ شُرْبَهُ طَوْعًا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ شُرُنْبُلَالِيَّةٌ تَأَمَّلْ (قَوْلُهُ مُتَعَلِّقٌ بِيُحَدُّ) أَيْ تَعَلُّقًا مَعْنَوِيًّا

(4/40)


وَفُرِّقَ عَلَى بَدَنِهِ كَحَدِّ الزِّنَا) كَمَا مَرَّ.

(فَلَوْ أَقَرَّ سَكْرَانُ أَوْ شَهِدُوا بَعْدَ زَوَالِ رِيحِهَا) لَا لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ (أَوْ أَقَرَّ كَذَلِكَ أَوْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ لَا) يُحَدُّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ، ثُمَّ ثُبُوتُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا بِرَأْيِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَهُمَا شَرَطَا قِيَامَ الرَّائِحَةِ.

(وَالسَّكْرَانُ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ) الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَ (السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَقَالَا: مَنْ يَخْتَلِطُ كَلَامُهُ) غَالِبًا، فَلَوْ نِصْفُهُ مُسْتَقِيمًا فَلَيْسَ بِسَكْرَانَ بَحْرٌ (وَيُخْتَارُ لِلْفَتْوَى) لِضَعْفِ دَلِيلِ الْإِمَامِ فَتْحٌ.
(وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ) لَمْ يَصِحَّ (فَلَا تَحْرُمُ عِرْسُهُ) وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ السَّبْعِ الْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ أَنَّهُ كَالصَّاحِي كَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ عَامِلُهُ يُحَدُّ (قَوْلُهُ كَمَا مَرَّ) فَلَا يُضْرَبُ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ، وَيُضْرَبُ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ، وَيُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ إلَّا الْإِزَارَ احْتِرَازًا عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ بَحْرٌ وَفِي شَرْحِ الْوَهَّابِيَّةِ: وَالْمَرْأَةُ تُحَدُّ فِي ثِيَابِهَا

(قَوْلُهُ فَلَوْ أَقَرَّ سَكْرَانُ) أَيْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ لَا يُحَدُّ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ كَالصَّاحِي فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ عُقُوبَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْآفَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَذْفِ سَكْرَانُ حُبِسَ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُحَدُّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهُ الضَّرْبُ فَيُحَدُّ لِلسُّكْرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ حَدُّهُ لِلسُّكْرِ بِمَا إذَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِهِ وَإِلَّا فَبِمُجَرَّدِ سُكْرِهِ لَا يُحَدُّ لِإِقْرَارِهِ بِالسُّكْرِ، وَكَذَا يُؤْخَذُ بِالْإِقْرَارِ بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ الْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا فَتْحٌ مُلَخَّصًا، وَقَوْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا لَا يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا (قَوْلُهُ أَوْ أَقَرَّ كَذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ زَوَالِ رِيحِهَا، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا إنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ وَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ (قَوْلُهُ فَيَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ) لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ وَأَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ.
وَإِذَا أَقَرَّ وَهُوَ سَكْرَانُ يَزِيدُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فَيُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ أَيْضًا (قَوْلُهُ ثُمَّ ثُبُوتُهُ إلَخْ) هَذَا بَيَانٌ لِدَلِيلِهِمَا عَلَى اشْتِرَاطِ قِيَامِ الرَّائِحَةِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ، فَعِنْدَ عَدَمِ قِيَامِهَا يَنْتَفِي الْحَدُّ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَكْمُلْ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ اشْتَرَطَ قِيَامَهَا، لَكِنْ قَدَّمْنَا تَصْحِيحَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ وَبَيَانُهُ فِي الْفَتْحِ

(قَوْلُهُ وَالسَّكْرَانُ إلَخْ) بَيَانٌ لِحَقِيقَةِ السُّكْرِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي شُرْبِ مَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّكْرُ مُتَفَاوِتًا اشْتَرَطَ الْإِمَامُ أَقْصَاهُ دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ شَيْءٍ وَشَيْءٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَعْرَى عَنْ شُبْهَةِ الصَّحْوِ، نَعَمْ وَافَقَهُمَا الْإِمَامُ فِي حَقِّ حُرْمَةِ الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ فَاعْتُبِرَ فِيهَا اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْهِدَايَةِ: وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْكِرِ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ مَا قَالَاهُ إجْمَاعًا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ اهـ: وَذَكَرَ فِي الْفَتْحِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَقَوْلِهِمَا أَيْضًا فِي السُّكْرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ رِدَّتُهُ فِيمَا دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْحُدُودِ، وَكَذَا فِي الَّذِي لَا تَصِحُّ مَعَهُ الرِّدَّةُ، إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ فِيهِ أَقْصَاهُ لَزِمَ أَنْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ فِيمَا دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِي عَدَمِ تَكْفِيرِ الْمُسْلِمِ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا اعْتَبَرَ أَقْصَى السُّكْرِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي دَرْءِ السُّكْرِ وَاعْتِبَارُ الْأَقْصَى هُنَا خِلَافُ الِاحْتِيَاطِ، هَذَا حَاصِلُ مَا فِي الْفَتْحِ.
قُلْت: لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ فِيمَا دُونَ الْأَقْصَى بِالنِّسْبَةِ إلَى فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلَوْ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَمْ يَصِحَّ) أَيْ لَمْ يَصِحَّ ارْتِدَادُهُ: أَيْ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ:؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ أَوْ الِاسْتِخْفَافِ، وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ. وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ قَصَدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ذَاكِرًا لِمَعْنَاهُ كَفَرَ وَإِلَّا لَا. اهـ. وَقَدْ عَلِمْت آنِفًا مَا الْمُرَادُ بِالسُّكْرِ هُنَا (قَوْلُهُ فَلَا تَحْرُمُ عِرْسُهُ) أَيْ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ فِي حَالَةِ السُّكْرِ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ السَّكْرَانِ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إلَّا فِي سَبْعٍ: لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ

(4/41)


بَسَطَهُ الْمُصَنِّفُ مَعْزِيًّا لِلْأَشْبَاهِ وَغَيْرِهَا.

وَنُقِلَ فِي الْأَشْرِبَةِ عَنْ الْجَوْهَرَةِ حُرْمَةُ أَكْلِ بَنْجٍ وَحَشِيشَةٍ وَأَفْيُونٍ، لَكِنْ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ، وَلَوْ سَكِرَ بِأَكْلِهَا لَا يُحَدُّ بَلْ يُعَزَّرُ انْتَهَى. وَفِي النَّهْرِ: التَّحْقِيقُ مَا فِي الْعِنَايَةِ أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[رد المحتار]
وَلَا إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَلَا إشْهَادُهُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَا تَزْوِيجُهُ الصَّغِيرَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ الصَّغِيرَةِ بِأَقَلَّ، وَلَا تَطْلِيقُهُ زَوْجَةَ مَنْ وَكَّلَهُ بِتَطْلِيقِهَا حِينَ صَحْوِهِ، وَلَا بَيْعُهُ مَتَاعَ مَنْ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ صَاحِيًا، وَلَا رَدُّ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ مَا غَصَبَهُ مِنْهُ قَبْلَ سُكْرِهِ، هَذَا حَاصِلُ مَا فِي الْأَشْبَاهِ: وَنَازَعَهُ مُحَشِّيَةِ الْحَمَوِيُّ فِي الْأَخِيرَةِ بِأَنَّ الْمَنْقُولَ فِي الْعِمَادِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ السَّكْرَانِ فِيهَا كَالصَّاحِي، فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْوَكَالَةِ بِالتَّطْلِيقِ بِأَنَّ الصَّحِيحَ الْوُقُوعُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخَانِيَّةِ وَالْبَحْرِ. اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَكَتَبْنَا هُنَاكَ عَنْ التَّحْرِيرِ أَنَّ السَّكْرَانَ إنْ كَانَ سُكْرُهُ بِطَرِيقٍ مُحَرَّمٍ لَا يَبْطُلُ تَكْلِيفُهُ، فَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ، وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ، وَتَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنْ كُفْءٍ وَالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قَائِمٌ، وَإِنَّمَا عَرَضَ فَوَاتُ فَهْمِ الْخِطَابِ بِمَعْصِيَتِهِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَيَصِحُّ إسْلَامُهُ كَالْمُكْرَهِ لَا رِدَّتُهُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ اهـ وَقَدَّمَ الشَّارِحُ هُنَاكَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ التَّصْحِيحُ فِي طَلَاقِ مَنْ سَكِرَ مُكْرَهًا أَوْ مُضْطَرًّا وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الْوُقُوعِ، وَقَدَّمْنَا آنِفًا عَنْ الْفَتْحِ أَنَّهُ كَالصَّاحِي فِيمَا فِيهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ عُقُوبَةً لَهُ

مَطْلَبٌ فِي الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ (قَوْلُهُ لَكِنْ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ) ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ يَكْفُرُ مُنْكِرُهَا بِخِلَافِ هَذِهِ (قَوْلُهُ لَا يُحَدُّ بَلْ يُعَزَّرُ) أَيْ بِمَا دُونَ الْحَدِّ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى عَنْ الْمِنَحِ، لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا عَنْ الْقُهُسْتَانِيِّ عَنْ مَتْنِ الْبَزْدَوِيِّ أَنَّهُ يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْ الْبَنْجِ فِي زَمَانِنَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ اهـ تَأَمَّلْ.
قَالَ فِي الْمِنَحِ: وَفِي الْجَوَاهِرِ: وَلَوْ سَكِرَ مِنْ الْبَنْجِ وَطَلَّقَ تَطْلُقُ زَجْرًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى اهـ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ قَاضِي خَانْ تَصْحِيحُ عَدَمِ الْوُقُوعِ فَلْيُتَأَمَّلْ عِنْدَ الْفَتْوَى. اهـ. وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الطَّلَاقِ عَنْ تَصْحِيحِ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ الْبَنْجِ وَالْأَفْيُونِ يَقَعُ زَجْرًا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ عَنْ النَّهْرِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي الْبَدَائِعِ وَغَيْرِهَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُزَلْ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ. وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ: إنْ كَانَ لِلتَّدَاوِي فَكَذَلِكَ وَإِنْ لِلَّهْوِ وَإِدْخَالِ الْآفَةِ قَصْدًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ فِي الْوُقُوعِ. اهـ. قُلْت: وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ تَعْلِيلُ الْبَدَائِعِ، وَلِلثَّانِي تَعْلِيلُ الْعَلَّامَةِ قَاسِمٍ.
وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَيْضًا عَنْ الْفَتْحِ أَنَّ مَشَايِخَ الْمَذْهَبَيْنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ مَنْ غَابَ عَقْلُهُ بِالْحَشِيشَةِ وَهِيَ وَرَقُ الْقَنْبِ بَعْدَ أَنْ اخْتَلَفُوا فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُهَا مِنْ الْفَسَادِ (قَوْلُهُ أَنَّ الْبَنْجَ مُبَاحٌ) قِيلَ هَذَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا يَأْتِي. اهـ.
أَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ إلَخْ مِنْ الْأَشْرِبَةِ، وَبِهِ عَبَّرَ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا لَزِمَ تَحْرِيمُ الْقَلِيلِ مِنْ كُلِّ جَامِدٍ إذَا كَانَ كَثِيرُهُ مُسْكِرًا كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَنْبَرِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ بِحُرْمَتِهَا، حَتَّى إنَّ الشَّافِعِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الْحَدِّ بِالْقَلِيلِ مِمَّا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ خَصُّوهُ بِالْمَائِعِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ قَلِيلُ الْبَنْجِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ حَرَامًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَزِمَ كَوْنُهُ نَجَسًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَإِنَّ قَلِيلَهُ حَرَامٌ نَجَسٌ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِنَجَاسَةِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ. وَفِي كَافِي الْحَاكِمِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَنْجَ لَا بَأْسَ بِتَدَاوِيهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. اهـ.
وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْأَشْرِبَةُ الْمَائِعَةُ، وَأَنَّ الْبَنْجَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْجَامِدَاتِ إنَّمَا يَحْرُمُ إذَا أَرَادَ بِهِ السُّكْرَ وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْهُ، دُونَ الْقَلِيلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّدَاوِي وَنَحْوُهُ كَالتَّطَيُّبِ بِالْعَنْبَرِ وَجَوْزَةِ الطِّيبِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا كَانَ سُمَيًّا قِتَالًا كَالْمَحْمُودَةِ وَهِيَ السَّقَمُونْيَا وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ السُّمِّيَّةِ

(4/42)


لِأَنَّهُ حَشِيشٌ، أَمَّا السُّكْرُ مِنْهُ فَحَرَامٌ.

(أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ فَهَرَبَ) ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَا يُحَدُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ.

(وَ) لَوْ (شَرِبَ) أَوْ زَنَى (ثَانِيًا يُسْتَأْنَفُ الْحَدُّ) لِتَدَاخُلِ الْمُتَّحِدِ كَمَا سَيَجِيءُ.

[فَرْعٌ]
سَكْرَانُ أَوْ صَاحَ جَمَحَ بِهِ فَرَسُهُ فَصَدَمَ إنْسَانًا فَمَاتَ، إنْ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِ ضَمِنَ وَإِلَّا لَا مُصَنِّفُ عِمَادِيَّةٍ.