العناية
شرح الهداية قَالَ (وَإِذَا دَفَعَ الْمُضَارِبُ
الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ الْمَالِ
لَمْ يَضْمَنْ بِالدَّفْعِ وَلَا يَتَصَرَّفُ الْمُضَارِبُ الثَّانِي
حَتَّى يَرْبَحَ، فَإِذَا رَبِحَ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِرَبِّ الْمَالِ)
وَهَذَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ: إذَا عَمِلَ بِهِ ضَمِنَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، وَهَذَا
ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَضْمَنُ
بِالدَّفْعِ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَهُ الدَّفْعُ عَلَى
وَجْهِ الْإِيدَاعِ، وَهَذَا الدَّفْعُ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّفْعَ إيدَاعٌ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ
كَوْنُهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالْعَمَلِ فَكَانَ الْحَالُ مُرَاعًى قَبْلَهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْجَارِيَةَ رَأْسَ الْمَالِ
وَقَدْ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ
وَهِيَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ
الْأَلْفَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُدَّعِيَ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ،
لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْوَلَدِ لَمَّا اُسْتُحِقَّ
بِرَأْسِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا فِي الِاسْتِيفَاءِ عَلَى
الرِّبْحِ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا رِبْحٌ فَتَكُونُ
بَيْنَهُمَا، وَقَدْ تَمَلَّكَ الْمُدَّعِي نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا
بِجَعْلِهَا أُمَّ وَلَدٍ بِالدَّعْوَةِ السَّابِقَةِ فَيَضْمَنُ،
وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي صُنْعًا بَلْ يَعْتَمِدُ
التَّمَلُّكَ وَقَدْ حَصَلَ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً
بِالنِّكَاحِ ثُمَّ مَلَكَهَا هُوَ وَغَيْرُهُ وِرَاثَةً، فَإِنَّهُ
يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ، كَالْأَخِ تَزَوَّجَ بِجَارِيَةِ أَخِيهِ
فَاسْتَوْلَدَهَا فَمَاتَ الْمُزَوِّجُ وَتَرَكَ الْجَارِيَةَ مِيرَاثًا
بَيْنَ الزَّوْجِ وَأَخٍ آخَرَ فَمَلَكَهَا الزَّوْجُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ
وَيَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ، بِخِلَافِ ضَمَانِ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ
ضَمَانُ إعْتَاقٍ وَهُوَ إتْلَافٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَدِّي وَهُوَ لَا
يَتَحَقَّقُ بِدُونِ صُنْعِهِ.
وَقَوْلُهُ كَمَا مَرَّ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ عِتْقَهُ
بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ آخِرُهُمَا وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ،
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْعُقْرَ وَهُوَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ
لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنَافِعِ فَصَارَ كَالْكَسْبِ.
[بَابُ الْمُضَارِبِ يُضَارِبُ]
مُضَارَبَةُ الْمُضَارِبِ مُرَكَّبَةٌ، فَأَخَّرَهَا عَنْ الْمُفْرَدَةِ
اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي مُوجِبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ إذَا
دَفَعَ الْمَالَ إلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ رَبُّ
الْمَالِ؛ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ
بِالدَّفْعِ وَلَا بِتَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ الثَّانِي حَتَّى يَرْبَحَ،
فَالْمُوجِبُ هُوَ حُصُولُ الرِّبْحِ، فَإِنْ رَبِحَ الثَّانِي ضَمِنَ
الْأَوَّلُ لِرَبِّ الْمَالِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: إذَا
عَمِلَ بِهِ ضَمِنَ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ
وَقَالَ: ضَمِنَ بِالدَّفْعِ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ
الْمُضَارِبُ هُوَ الدَّفْعُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيدَاعِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ
بِغَيْرِهِ، وَدَفْعُ الْمُضَارِبِ مُضَارَبَةً لَيْسَ عَلَى وَجْهِ
الْإِيدَاعِ فَلَا يَمْلِكُهُ وَلَهُمَا أَنَّ دَفْعَهُ إيدَاعٌ حَقِيقَةً،
وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ كَوْنُهُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالْعَمَلِ فَكَانَ
الْحَالُ قَبْلَهُ مُرَاعًى: أَيْ مَوْقُوفًا إنْ عَمِلَ ضَمِنَ وَإِلَّا
فَلَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ
(8/461)
أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ إيدَاعٌ
وَبَعْدَهُ إبْضَاعٌ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ فَلَا
يَضْمَنُ بِهِمَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ
شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَيَضْمَنُ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا
إذَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً، فَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً لَا
يَضْمَنُهُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ عَمِلَ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَجِيرٌ فِيهِ
وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرْ
الثَّانِيَ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى
اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودِع الْمُودَعِ. وَقِيلَ رَبُّ الْمَالِ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الثَّانِيَ بِالْإِجْمَاعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
إيدَاعٌ، وَبَعْدَهُ إبْضَاعٌ، وَالْفِعْلَانِ يَمْلِكُهُمَا الْمُضَارِبُ
فَلَا يَضْمَنُ بِهِمَا لِعَدَمِ الْمُخَالَفَةِ بِهِمَا، إلَّا أَنَّهُ
إذَا رَبِحَ فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُ شَرِكَةً فِي الْمَالِ فَصَارَ
مُخَالِفًا لِاشْتِرَاكِ الْغَيْرِ فِي رِبْحِ مَالِ رَبِّ الْمَالِ، وَفِي
ذَلِكَ إتْلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ خَلَطَهُ بِغَيْرِهِ،
وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَيْهِمَا
بِالرِّبْحِ أَوْ الْعَمَلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَتْ
الْمُضَارَبَةُ صَحِيحَةً، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ لِيَتَنَاوَلَ كُلًّا
مِنْهُمَا فَإِنَّ الْأُولَى إذَا كَانَتْ فَاسِدَةً أَوْ الثَّانِيَةَ
أَوْ كِلْتَيْهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَضْمَنْ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الثَّانِيَ
أُجْبِرَ فِيهِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ
الْمُوجِبَةُ لِلضَّمَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الْأُولَى فَاسِدَةً لَمْ يُتَصَوَّرْ جَوَازُ
الثَّانِيَةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْأُولَى فَلَا يَسْتَقِيمُ
التَّقْسِيمُ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِجَوَازِ الثَّانِيَةِ حِينَئِذٍ مَا يَكُونُ
جَائِزًا بِحَسَبِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِلثَّانِي مِنْ
الرِّبْحِ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُمْلَةِ
بِأَنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لِلْأَوَّلِ نِصْفُ الرِّبْحِ وَمِائَةٌ مَثَلًا
وَلِلثَّانِي نِصْفُهُ (قَوْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ) يَعْنِي
الْقُدُورِيَّ (يَضْمَنُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّانِيَ وَقِيلَ)
اخْتِيَارًا مِنْهُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ (يَنْبَغِي أَنْ
لَا يَضْمَنَ الثَّانِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ
بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مُودَعِ الْمُودَعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْأَوَّلِ
وَالثَّانِي) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (بِإِجْمَاعِ) أَصْحَابِنَا
(8/462)
وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا
ظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ
مُودِعِ الْمُودَعِ أَنَّ الْمُودَعَ الثَّانِيَ يَقْبِضُهُ لِمَنْفَعَةِ
الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا، أَمَّا الْمُضَارِبُ الثَّانِي
يَعْمَلُ فِيهِ لِنَفْعِ نَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا. ثُمَّ
إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَبَيْنَ
الثَّانِي وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّهُ
ظَهَرَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ خَالَفَ بِالدَّفْعِ إلَى
غَيْرِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَضِيَ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا
دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ
بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ كَمَا فِي الْمُودَعِ وَلِأَنَّهُ
مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ.
وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا
لِأَنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ ضَمِنَهُ
ابْتِدَاءً، وَيَطِيبُ الرِّبْحُ لِلثَّانِي وَلَا يَطِيبُ لِلْأَعْلَى
لِأَنَّ الْأَسْفَلَ يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ وَلَا خُبْثَ فِي الْعَمَلِ،
وَالْأَعْلَى يَسْتَحِقُّهُ بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
وَلَا يُعَرَّى عَنْ نَوْعِ خُبْثٍ.
قَالَ (فَإِذَا دَفَعَ رَبُّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَذِنَ
لَهُ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَدَفَعَهُ بِالثُّلُثِ وَقَدْ
تَصَرَّفَ الثَّانِي وَرَبِحَ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَالَ لَهُ
عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِرَبِّ
الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي الثُّلُثُ وَلِلْمُضَارِبِ
الْأَوَّلِ السُّدُسُ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الثَّانِي مُضَارَبَةً قَدْ
صَحَّ لِوُجُودِ الْأَمْرِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ وَرَبُّ الْمَالِ
شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ جَمِيعِ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ
يَبْقَ لِلْأَوَّلِ إلَّا النِّصْفُ فَيَتَصَرَّفُ تَصَرُّفُهُ إلَى
نَصِيبِهِ وَقَدْ جَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ ثُلُثِ الْجَمِيعِ
لِلثَّانِي فَيَكُونُ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا السُّدُسُ، وَيَطِيبُ
لَهُمَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي وَاقِعٌ لِلْأَوَّلِ كَمَنْ
اُسْتُؤْجِرَ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ
عَلَيْهِ بِنِصْفِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَ) هَذَا الْقَوْلُ (هُوَ الْمَشْهُورُ) مِنْ الْمَذْهَبِ (وَهَذَا
عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ وَكَذَا عِنْدَهُ) لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ
فَرْقٍ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ مُودَعِ الْمُودَعِ
(وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُودَعَ الثَّانِيَ يَقْبِضُهُ لِمَنْفَعَةِ
الْأَوَّلِ فَلَا يَضْمَنُ وَالْمُضَارِبُ الثَّانِي يَعْمَلُ فِيهِ
لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ) مِنْ حَيْثُ شَرِكَتُهُ فِي الرِّبْحِ (فَجَازَ
أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ
الْمُضَارَبَةُ) الثَّانِيَةُ (لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ
وَقْتِ الْمُخَالَفَةِ بِالدَّفْعِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ
الْمَالِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ مَالَ نَفْسِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ
الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ بِالْعَقْدِ) أَيْ بِسَبَبِهِ
(لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ) أَيْ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ (كَمَا فِي
الْمُودَعِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَلَامَهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ قَالَ
قَبْلَ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَهَاهُنَا قَالَ
لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ.
وَأُجِيبَ بِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ: يَعْنِي أَنَّ الْمُضَارِبَ الثَّانِيَ
عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ شَرِكَتِهِ فِي الرِّبْحِ وَعَامِلٌ
لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ مُودَعٌ وَعَمَلُ
الْمُودَعِ وَهُوَ الْحِفْظُ لِلْمُودِعِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ
عَدَمُهُ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا يَعْمَلُ فِيهِ لِمَنْفَعَةِ
نَفْسِهِ وَلَمْ يَقُلْ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
الشَّخْصُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَلَا تَنَاقُضَ
بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ (وَلِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي ضِمْنِ
الْعَقْدِ) فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ غَرَّهُ وَالثَّانِي اعْتَمَدَ
قَوْلَهُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَالْمَغْرُورُ فِي ضِمْنِ
الْعَقْدِ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ (وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ)
الثَّانِيَةُ (وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، لِأَنَّ قَرَارَ
الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ ضَمِنَهُ ابْتِدَاءً، وَيَطِيبُ
الرِّبْحُ لِلثَّانِي وَلَا يَطِيبُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّانِيَ
يَسْتَحِقُّهُ بِعَمَلِهِ وَلَا خُبْثَ فِيهِ وَالْأَوَّلُ يَسْتَحِقُّهُ
بِمِلْكِهِ الْمُسْتَنِدِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَلَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ
خُبْثٍ) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَسَبِيلُهُ
التَّصَدُّقُ.
قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ
إلَخْ) هَذِهِ الْمَسَائِلُ إلَى آخِرِهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا
إلَى شَرْحٍ، وَإِنَّمَا قَالَ يَطِيبُ لَهُمَا ذَلِكَ: أَيْ لِلْمُضَارِبِ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي الثُّلُثُ وَالسُّدُسُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَإِنْ
لَمْ يَعْمَلْ بِنَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ بَاشَرَ الْعَقْدَيْنِ؛ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْضَعَ الْمَالَ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ أَبْضَعَهُ رَبُّ
الْمَالِ حَتَّى رَبِحَ كَانَ نَصِيبُ
(8/463)
دِرْهَمٍ (وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ عَلَى
أَنَّ مَا رَزَقَك اللَّهُ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَلِلْمُضَارِبِ
الثَّانِي الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ وَرَبِّ
الْمَالِ نِصْفَانِ) لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِ التَّصَرُّفَ وَجَعَلَ
لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رُزِقَ الْأَوَّلُ وَقَدْ رُزِقَ الثُّلُثَيْنِ
فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ
نِصْفَ جَمِيعِ الرِّبْحِ فَافْتَرَقَا (وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهُ فَمَا
رَبِحْت مِنْ شَيْءٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ وَقَدْ دَفَعَ إلَى
غَيْرِهِ بِالنِّصْفِ فَلِلثَّانِي النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ
الْأَوَّلِ وَرَبِّ الْمَالِ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ شَرَطَ لِلثَّانِي نِصْفَ
الرِّبْحِ وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ
فَيَسْتَحِقُّهُ.
وَقَدْ جَعَلَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَبِحَ الْأَوَّلُ
وَلَمْ يَرْبَحْ إلَّا النِّصْفُ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا (وَلَوْ كَانَ
قَالَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِي نِصْفُهُ أَوْ
قَالَ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَك نِصْفَانِ وَقَدْ
دَفَعَ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ
وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ
الْأَوَّلِ)
لِأَنَّهُ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مُطْلَقِ الْفَضْلِ فَيَنْصَرِفُ
شَرْطُ الْأَوَّلِ النِّصْفَ لِلثَّانِي إلَى جَمِيعِ نَصِيبِهِ فَيَكُونُ
لِلثَّانِي بِالشَّرْطِ وَيَخْرُجُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، كَمَنْ
اُسْتُؤْجِرَ لِيَخِيطَ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ
لِيَخِيطَهُ بِمِثْلِهِ (وَإِنْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثَّانِي ثُلُثَيْ
الرِّبْحِ فَلِرَبِّ الْمَالِ النِّصْفُ وَلِلْمُضَارِبِ الثَّانِي
النِّصْفُ وَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي سُدُسَ الرِّبْحِ
فِي مَالِهِ) لِأَنَّهُ شَرَطَ لِلثَّانِي شَيْئًا هُوَ مُسْتَحَقٌّ
لِرَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَنْفُذْ فِي حَقِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ
الْإِبْطَالِ، لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ لِكَوْنِ
الْمُسَمَّى مَعْلُومًا فِي عَقْدٍ يَمْلِكُهُ وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ
السَّلَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ فِي
ضِمْنِ الْعَقْدِ وَهُوَ سَبَبُ الرُّجُوعِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ،
وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ
فَدَفَعَهُ إلَى مَنْ يَخِيطُهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ.
(وَإِذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ
وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ
وَلِنَفْسِهِ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ طَيِّبًا لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ
بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ غَرَّهُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ لِأَنَّ
الْمَغْرُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا
إذَا قَالَ الْآخَرُ هَذَا الطَّرِيقُ آمِنٌ فَاسْلُكْهُ وَلَمْ يَكُنْ
آمِنًا فَسَلَكَهُ فَقُطِعَ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ وَأُخِذَ مَالُهُ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ.
[فَصْلٌ شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ
وَلِعَبْدِهِ ثُلُثَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ]
(فَصْلٌ)
لَمَّا كَانَ لِلْمُضَارِبِ بَعْدَ إدْخَالِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ
رَبِّ الْمَالِ حُكْمُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ ذَكَرَهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ
فَقَالَ (وَإِذَا شَرَطَ الْمُضَارِبُ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ
وَلِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ ثُلُثَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ مَعَهُ
وَلِنَفْسِهِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ) فَقَوْلُهُ وَلِعَبْدِ رَبِّ
الْمَالِ
(8/464)
لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً
خُصُوصًا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إذْنٌ لَهُ،
وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ أَخْذِ مَا أَوْدَعَهُ
الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ بَيْعِ
الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَالِ
وَالْمُضَارِبِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ
لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ التَّسْلِيمِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا صَحَّتْ
الْمُضَارَبَةُ يَكُونُ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ
وَالثُّلُثَانِ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى إذَا
لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ
لِلْغُرَمَاءِ. هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ هُوَ الْمَوْلَى، وَلَوْ
عَقَدَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ
وَشَرَطَ الْعَمَلَ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
دَيْنٌ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَ
عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ صَحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَوْلَى
بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْئَانِ: عَبْدُ الْمُضَارِبِ، وَالْأَجْنَبِيُّ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاحْتِرَازٍ عَنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ حُكْمَ عَبْدِ
الْمُضَارِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حُكْمُ عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ احْتِرَازًا عَنْ الثَّانِي، فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ
لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَ الْمُضَارِبِ صَحَّ الشَّرْطُ
وَالْمُضَارَبَةُ جَمِيعًا وَصَارَتْ الْمُضَارَبَةُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ،
وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَعَمِلَ الْأَجْنَبِيُّ مَعَهُ صَحَّتْ
الْمُضَارَبَةُ مَعَ الْأَوَّلِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَيُجْعَلُ الثُّلُثُ
الْمَشْرُوطُ لِلْأَجْنَبِيِّ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ
الْمَالِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِرَأْسِ الْمَالِ أَوْ
بِالْعَمَلِ أَوْ بِضَمَانِ الْعَمَلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ مَعَهُ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا
لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا، إمَّا أَنْ يَكُونَ
عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحَّ الشَّرْطُ
سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ عَبْدَ الْمُضَارِبِ أَوْ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ،
لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا الشَّرْطِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ
بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ انْتِفَاءِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ فِي
حَقِّهِ جَعَلْنَاهُ شَرْطًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ، لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطٌ
لِلْعَبْدِ شَرْطٌ لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ
كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ كَانَ عَبْدَ الْمُضَارِبِ فَعَلَى قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَالْمَشْرُوطُ كَالْمَسْكُوتِ
عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُ هَذَا
الشَّرْطِ لِلْعَبْدِ وَتَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ لِلْمُضَارِبِ، لِأَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ عَلَى
الْعَبْدِ دَيْنٌ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ فَالْمَشْرُوطُ لِرَبِّ الْمَالِ
بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا إذَا شَرَطَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ وَهُوَ
الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ صَرِيحًا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَا
سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ (لِأَنَّ
لِلْعَبْدِ يَدًا مُعْتَبَرَةً لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ
وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ إذْنٌ لَهُ، وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ لِلْعَبْدِ
يَدًا مُعْتَبَرَةً (لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ أَخْذِ مَا
أَوْدَعَهُ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، وَلِهَذَا) أَيْ
وَلِكَوْنِ الْيَدِ مُعْتَبَرَةً خُصُوصًا إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ
(يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ) يَعْنِي إذَا
كَانَ مَدْيُونًا عَلَى مَا سَيَجِيءُ (وَإِذَا كَانَ لَهُ يَدٌ
مُعْتَبَرَةٌ لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ عَمَلِهِ مَانِعًا مِنْ التَّسْلِيمِ
وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ
الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ التَّسْلِيمِ عَلَى
مَا مَرَّ، وَإِذَا صَحَّتْ الْمُضَارَبَةُ) وَالشَّرْطُ (يَكُونُ
الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَالثُّلُثَانِ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ
كَسْبَ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَإِذَا
كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ لِلْغُرَمَاءِ، هَذَا إذَا كَانَ الْعَاقِدُ
هُوَ الْمَوْلَى، وَلَوْ عَقَدَ الْمَأْذُونُ لَهُ إلَخْ) ظَاهِرٌ.
(8/465)
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ
الْمُضَارِبُ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ) لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ، وَمَوْتُ الْمُوَكِّلِ يُبْطِلُ الْوَكَالَةَ، وَكَذَا مَوْتُ
الْوَكِيلِ وَلَا تُورَثُ الْوَكَالَةُ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فَصْلٌ فِي الْعَزْلِ وَالْقِسْمَةِ]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحِ آلَ
الْأَمْرُ إلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَهُ وَهُوَ عَزْلُ
الْمُضَارِبِ وَقِسْمَةُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ.
قَالَ (وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْمُضَارِبُ بَطَلَتْ
الْمُضَارَبَةُ إلَخْ) إذَا مَاتَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْمُضَارِبُ
بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ،
وَبِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى
رَبِّ الْمَالِ
(8/466)
(وَإِنْ ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ
الْإِسْلَامِ) وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ (وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ)
(بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ) لِأَنَّ اللُّحُوقَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ؛
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَقَبْلَ
لُحُوقِهِ يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ مُضَارِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لَهُ فَصَارَ كَتَصَرُّفِهِ
بِنَفْسِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إذَا هَلَكَ الثَّمَنُ عِنْدَ الْمُضَارِبِ
بَعْدَمَا اشْتَرَى شَيْئًا، كَالْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ
قَبْلَ الشِّرَاءِ لَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ
بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ، ثُمَّ لَوْ هَلَكَ بَعْدَمَا أَخَذَهُ ثَانِيًا
لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ
تَوْكِيلًا لَانْعَزَلَ إذَا عَزَلَهُ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَمَا اشْتَرَى
بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ عُرُوضًا كَمَا فِي الْوَكِيلِ إذَا عَلِمَ بِهِ،
وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا عَادَ الْمُضَارِبُ عَلَى
مُضَارَبَتِهِ إذَا لَحِقَ رَبُّ الْمَالِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا
ثُمَّ عَادَ مُسْلِمًا كَالْوَكِيلِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
سَيَأْتِي.
(وَإِذَا ارْتَدَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ) : يَعْنِي
إذَا لَمْ يَعُدْ مُسْلِمًا، أَمَّا إذَا عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ
الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ
(8/467)
(وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ
الْمُرْتَدُّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى حَالِهَا) لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً
صَحِيحَةً، وَلَا تُوقَفُ فِي مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَبَقِيَتْ
الْمُضَارَبَةُ.
قَالَ (فَإِنْ عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ وَلَمْ يَعْلَمْ
بِعَزْلِهِ حَتَّى اشْتَرَى وَبَاعَ فَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ
وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ قَصْدًا يَتَوَقَّفُ عَلَى
عِلْمِهِ (وَإِنْ عَلِمَ بِعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ أَنْ
يَبِيعَهَا وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ
ثَبَتَ فِي الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْقِسْمَةِ وَهِيَ تُبْتَنَى
عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْبَيْعِ. قَالَ (ثُمَّ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا شَيْئًا آخَرَ) لِأَنَّ الْعَزْلَ
إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ ضَرُورَةَ مَعْرِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ
انْدَفَعَتْ حَيْثُ صَارَ نَقْدًا فَيَعْمَلُ الْعَزْلُ (فَإِنْ عَزَلَهُ
وَرَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ نَضَّتْ لَمْ يَجُزْ
لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إعْمَالِ عَزْلِهِ
إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الرِّبْحِ فَلَا ضَرُورَةَ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَكَانَتْ الْمُضَارَبَةُ كَمَا كَانَتْ، أَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ
فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ وَهِيَ لَا تُوجِبُ بُطْلَانَ
الْمُضَارَبَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِحَقِّ الْمُضَارِبِ كَمَا لَوْ
مَاتَ حَقِيقَةً، وَأَمَّا قَبْلَ لُحُوقِهِ فَيَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُ
الْمُضَارِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ
لِرَبِّ الْمَالِ فَكَانَ كَتَصَرُّفِ رَبِّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ
وَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ، فَكَذَا تَصَرُّفُ مَنْ يَتَصَرَّفُ
لَهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَالْمُضَارَبَةُ عَلَى
حَالِهَا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى وَبَاعَ وَرَبِحَ
أَوْ وَضَعَ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالرِّبْحُ
بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا لِأَنَّ لَهُ عِبَارَةً صَحِيحَةً، لِأَنَّ
صِحَّتَهَا بِالْآدَمِيَّةِ وَالتَّمْيِيزِ وَلَا خَلَلَ فِي ذَلِكَ،
وَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ مَبْنَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَتَوَقَّفَ
تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَارِثِ، وَلَا تَوَقُّفَ فِي
مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمْ بِهِ فَبَقِيَتْ
الْمُضَارَبَةُ، خَلَا أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ فِي الْعُهْدَةِ فِيمَا بَاعَ
وَاشْتَرَى يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
لِأَنَّ حُكْمَ الْعُهْدَةِ يَتَوَقَّفُ بِرِدَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ
لَزِمَتْهُ لَقُضِيَ مِنْ مَالِهِ وَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِيهِ، فَكَانَ
كَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ إذَا تَوَكَّلَ عَنْ غَيْرِهِ بِالْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ.
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حَالَتُهُ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ
الرِّدَّةِ كَهِيَ فِيهِ قَبْلَهَا فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ
عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
قَالَ (فَإِنْ عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ إلَخْ)
(8/468)
بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ
دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِجِنْسِ رَأْسِ
الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِهِ وَصَارَ
كَالْعُرُوضِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
إذَا عَزَلَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ
حَتَّى لَوْ اشْتَرَى وَبَاعَ جَازَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ
جِهَتِهِ، وَعَزْلُ الْوَكِيلِ قَصْدًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ،
وَإِذَا عَلِمَ بِعَزْلِهِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا
وَلَا يَمْنَعُهُ الْعَزْلُ عَنْ ذَلِكَ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً حَتَّى
لَوْ نَهَاهُ عَنْ الْبَيْعِ نَسِيئَةً لَمْ يَعْمَلْ بِنَهْيِهِ لِأَنَّ
حَقَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الرِّبْحِ بِمُقْتَضَى صِحَّةِ الْعَقْدِ،
وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالْقِسْمَةِ وَالْقِسْمَةُ تَبْتَنِي عَلَى
رَأْسِ الْمَالِ بِتَمْيِيزِهِ، وَرَأْسُ الْمَالِ إنَّمَا يَنِضُّ: أَيْ
يَتَيَسَّرُ وَيَحْصُلُ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ إذَا بَاعَ شَيْئًا لَا يَجُوزُ
أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ شَيْئًا آخَرَ، لِأَنَّ الْعَزْلَ إنَّمَا
لَمْ يَعْمَلْ ضَرُورَةً مَعْرِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ
حَيْثُ صَارَ نَقْدًا فَيَعْمَلُ، وَإِنْ عَزَلَهُ وَرَأْسُ الْمَالِ
دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَقَدْ نَضَّتْ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِيهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إعْمَالِ عَزْلِهِ إبْطَالُ
حَقِّهِ فِي الرِّبْحِ لِظُهُورِهِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي تَرْكِ
الْأَعْمَالِ، قَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ
الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَ دَرَاهِمَ وَرَأْسُ الْمَالِ
دَنَانِيرَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِجِنْسِ رَأْسِ
(8/469)
وَعَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ
وَلُحُوقُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ وَنَحْوِهَا. قَالَ
(وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ
فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ) لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَالرِّبْحُ كَالْأَجْرِ لَهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لَهُ رِبْحٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاقْتِضَاءُ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ
وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِهِ وَصَارَ
كَالْعُرُوضِ (قَوْلُهُ عَلَى هَذَا مَوْتُ رَبِّ الْمَالِ) يُرِيدُ بِهِ
أَنَّ الْعَزْلَ الْحُكْمِيَّ كَالْقَصْدِيِّ فِي حَقِّ الْمُضَارِبِ.
فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَصِحَّ الْعَزْلُ الْقَصْدِيُّ لَمْ يَصِحَّ
الْحُكْمِيُّ، لِأَنَّ عَدَمَ عَمَلِ الْعَزْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ
حَقِّ الْمُضَارِبِ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعَزْلَيْنِ
(وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَقَدْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ
فِيهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ لِكَوْنِهِ
بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ وَأَجْرُهُ الرِّبْحُ، وَإِنْ لَمْ يَرْبَحْ لَمْ
يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ) حِينَئِذٍ وَالْوَكِيلُ
مُتَبَرِّعٌ (وَالْمُتَبَرِّعُ
(8/470)
(وَيُقَالُ لَهُ وَكِّلْ رَبَّ الْمَالِ
فِي الِاقْتِضَاءِ) لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ،
فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْكِيلِهِ وَتَوَكُّلِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ حَقُّهُ.
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يُقَالُ لَهُ أَجِّلْ مَكَانَ قَوْلِهِ
وَكِّلْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوَكَالَةُ وَعَلَى هَذَا سَائِرُ
الْوَكَالَاتِ وَالْبَيَّاعُ وَالسِّمْسَارُ يُجْبَرَانِ عَلَى التَّقَاضِي
لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَجْرٍ عَادَةً.
قَالَ (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ
دُونَ رَأْسِ الْمَالِ) لِأَنَّ الرِّبْحَ تَابِعٌ وَصَرْفُ الْهَلَاكِ
إلَى مَا هُوَ التَّبَعُ أَوْلَى كَمَا يُصْرَفُ الْهَلَاكُ إلَى الْعَفْوِ
فِي الزَّكَاةِ (فَإِنْ زَادَ الْهَالِكُ عَلَى الرِّبْحِ فَلَا ضَمَانَ
عَلَى الْمُضَارِبِ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ (وَإِنْ كَانَا يَقْتَسِمَانِ
الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْضُهُ
أَوْ كُلُّهُ تَرَادَّا الرِّبْحَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ
رَأْسَ الْمَالِ) لِأَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَا تَصِحُّ قَبْلَ
اسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ وَهَذَا بِنَاءٌ
عَلَيْهِ وَتَبَعٌ لَهُ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ
أَمَانَةً تَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَوْفَيَاهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ،
فَيَضْمَنُ الْمُضَارِبُ مَا اسْتَوْفَاهُ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ
وَمَا أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مَحْسُوبٌ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ (وَإِذَا
اسْتَوْفَى رَأْسَ الْمَالِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّهُ رِبْحٌ وَإِنْ نَقَصَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِمَا
بَيَّنَّا
(وَلَوْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَفَسَخَا الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ عَقَدَاهَا
فَهَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ الْأَوَّلَ) لِأَنَّ
الْمُضَارَبَةَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَالثَّانِيَةَ عَقْدٌ جَدِيدٌ،
وَهَلَاكُ الْمَالِ فِي الثَّانِي لَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ الْأَوَّلِ كَمَا
إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا آخَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لَا يُجْبَرُ عَلَى إيفَاءِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ) فَإِنْ قِيلَ: رَدُّ
رَأْسِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ،
وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ
إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا
الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ كَالْمُودَعِ (فَيُقَالُ لَهُ وَكَّلَ
رَبُّ الْمَالِ فِي الِاقْتِضَاءِ) فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ زَالَتْ
يَدُهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ (لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ
إلَيْهِ) فَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْ يُضَيِّعْ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ (وَفِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَالُ لَهُ أَجِّلْ مَكَانَ قَوْلِهِ وَكِّلْ
وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَكَالَةُ) فَكَانَ فِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةً،
وَمُجَوِّزُهَا مَعْرُوفٌ وَهُوَ اشْتِمَالُهَا عَلَى النَّقْلِ،
وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَجِّلْ رُبَّمَا يُوهِمُ أَنَّ
رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُضَارِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
(وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْوَكَالَاتِ) يَعْنِي الْوَكِيلُ إذَا بَاعَ
وَانْعَزَلَ يُقَالُ لَهُ وَكَّلَ الْمُوَكِّلُ بِالِاقْتِضَاءِ (وَ)
أَمَّا (الْبَيَّاعُ وَالسِّمْسَارُ) وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ لِلْغَيْرِ
بَيْعًا أَوْ شِرَاءً فَإِنَّهُمَا (يُجْبَرَانِ عَلَى التَّقَاضِي
لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِالْأَجْرِ عَادَةً) وَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ
أَجْرُهُ أُجْبِرَ عَلَى تَمَامِ عَمَلِهِ وَاسْتِئْجَارُهُ قَلَّمَا
يَخْلُو عَنْ فَسَادٍ، لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى شِرَاءِ شَيْءٍ
فَقَدْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ
لَا يَتِمُّ إلَّا بِمُسَاعِدَةِ الْبَائِعِ عَلَى بَيْعِهِ وَقَدْ لَا
يُسَاعِدُهُ، وَقَدْ يَتِمُّ بِكَلِمَةٍ وَقَدْ لَا يَتِمُّ بِعَشْرِ
كَلِمَاتٍ فَكَانَ فِيهِ نَوْعُ جَهَالَةٍ.
وَالْأَحْسَنُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَمْ
يَشْتَرِطْ أَجْرًا فَيَكُونُ وَكِيلًا مُعَيَّنًا لَهُ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ
مِنْ عَمَلِهِ عُوِّضَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
قَالَ (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مِنْ الرِّبْحِ
إلَخْ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَبَيَّنُ قَبْلَ
وُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ.
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ
الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يُسَلَّمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى
يُسَلِّمَ لَهُ رَأْسَ مَالِهِ» فَكَذَا الْمُؤْمِنُ لَا يُسَلَّمُ لَهُ
نَوَافِلُهُ حَتَّى تُسَلَّمَ لَهُ عَزَائِمُهُ، أَوْ قَالَ فَرَائِضُهُ،
وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَصْلٌ وَالرِّبْحُ تَبَعٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ
بِالتَّبَعِ قَبْلَ حُصُولِ الْأَصْلِ، فَمَتَى هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ
اُسْتُكْمِلَ مِنْ التَّبَعِ، فَإِذَا زَادَ الْهَلَاكُ عَلَى الرِّبْحِ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ اقْتَسَمَاهُ تَرَادَّا
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُفِيدُ مِلْكًا مَوْقُوفًا إنْ بَقِيَ مَا أُعِدَّ
إلَى رَأْسِ الْمَالِ إلَى وَقْتِ الْفَسْخِ كَانَ مَا أَخَذَهُ كُلٌّ
مِنْهُ مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ هَلَكَ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ وَتَبَيَّنَ
أَنَّ الْمَقْسُومَ رَأْسُ الْمَالِ
(فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ إلَخْ) :
(8/471)
[فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ]
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ)
لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَيَنْتَظِمُهُ إطْلَاقُ
الْعَقْدِ إلَّا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ لَا يَبِيعُ التُّجَّارُ إلَيْهِ
لِأَنَّ لَهُ الْأَمْرَ الْعَامَّ الْمَعْرُوفَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا
كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ سَفِينَةً لِلرُّكُوبِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا
اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ
الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ.
وَلَوْ بَاعَ بِالنَّقْدِ ثُمَّ أَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ،
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَالْمُضَارِبُ
أَوْلَى، إلَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ
يُقَايِلَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً، وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ لِأَنَّهُ
لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ ثُمَّ
الْبَيْعَ بِالنَّسَاءِ. بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ
الْإِقَالَةَ. وَلَوْ احْتَالَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ أَوْ
الْأَعْسَرِ جَازَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ،
بِخِلَافِ الْوَصِيِّ يَحْتَالُ بِمَالِ الْيَتِيمِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ
فِيهِ الْأَنْظَرُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ،
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
نَوْعٌ يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ
بَابِ الْمُضَارَبَةِ وَتَوَابِعِهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ
جُمْلَتِهِ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ
وَالرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ لِأَنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ
وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالْإِيدَاعُ وَالْإِبْضَاعُ
وَالْمُسَافَرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَمْلِكُهُ إذَا قِيلَ
لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ
فَيَلْحَقَ عِنْدَ وُجُودِ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَفْعِ الْمَالِ
مُضَارَبَةً أَوْ شَرِكَةً إلَى غَيْرِهِ وَخَلْطِ مَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي أَوَّلِ
الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُضَارَبَةِ زِيَادَةً لِلْإِفَادَةِ
وَتَنْبِيهًا عَلَى مَقْصُودِيَّةِ أَفْعَالِ الْمُضَارَبَةِ
بِالْإِعَادَةِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ إلَخْ) مَا كَانَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ
يَتَنَاوَلُهُ إطْلَاقُ الْعَقْدِ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُضَارِبُ
وَمَا لَا فَلَا، فَجَازَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّقْدِ
وَالنَّسِيئَةِ لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا إذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ لَا
يَبِيعُ التُّجَّارُ إلَيْهِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: بِأَنْ بَاعَ إلَى عَشْرِ سِنِينَ لِخُرُوجِهِ
حِينَئِذٍ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ
دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سَفِينَةً
لِلرُّكُوبِ.
قِيلَ هَذَا فِي مُضَارِبٍ خَاصٍّ كَالطَّعَامِ مَثَلًا، وَأَمَّا إذَا
لَمْ يُخَصَّ كَانَ لَهُ شِرَاءُ السَّفِينَةِ وَالدَّوَابِّ إذَا اشْتَرَى
طَعَامًا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
ذَلِكَ إذَا كَانَ لِلرُّكُوبِ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَ لِلْحَمْلِ
فَهُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَكْرِيَهَا: أَيْ السَّفِينَةَ
وَالدَّوَابَّ مُطْلَقًا اعْتِبَارًا لِعَادَةِ التُّجَّارِ، فَإِنَّهُ
إذَا اشْتَرَى طَعَامًا لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ
تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِ
(8/472)
الْمُضَارَبَةِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ
غَيْرِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ رَضِيَ بِشَرِكَتِهِ لَا بِشَرِكَةِ
غَيْرِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ
فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ جِهَةٌ فِي
التَّثْمِيرِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُوَافِقُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ عِنْدَ
وُجُودِ الدَّلَالَةِ وَقَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك دَلَالَةٌ عَلَى
ذَلِكَ.
وَنَوْعٌ لَا يَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَا بِقَوْلِهِ اعْمَلْ
بِرَأْيِك إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ
الِاسْتِدَانَةُ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
بَعْدَمَا اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ السِّلْعَةَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَالُ زَائِدًا عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ
الْمُضَارَبَةُ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالدَّيْنِ،
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَ الْمُشْتَرَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَأَخَذَ
السَّفَاتِجَ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِدَانَةِ، وَكَذَا إعْطَاؤُهَا
لِأَنَّهُ إقْرَاضٌ وَالْعِتْقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِ مَالٍ وَالْكِتَابَةُ
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْإِقْرَاضُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ.
قَالَ (وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ)
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ
الِاكْتِسَابِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَهْرَ وَسُقُوطَ
النَّفَقَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْعَقْدُ لَا
يَتَضَمَّنُ إلَّا التَّوْكِيلَ بِالتِّجَارَةِ وَصَارَ كَالْكِتَابَةِ
وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ اكْتِسَابٌ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ تِجَارَةً لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ فَكَذَا هَذَا.
قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى رَبِّ
الْمَالِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ فَهُوَ عَلَى
الْمُضَارَبَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
لِكَوْنِهِ مِنْ صَنِيعِهِمْ.
وَقَيَّدَ بِالْمَشْهُورَةِ لِأَنَّ ابْنَ رُسْتُمَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الدَّفْعِ مُضَارَبَةً.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي
الرِّبْحِ، وَلَوْ بَاعَ نَقْدًا ثُمَّ أَخَّرَ الثَّمَنَ جَازَ
بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ
ذَلِكَ، فَالْمُضَارِبُ أَوْلَى لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ لِكَوْنِهِ شَرِيكًا
فِي الرِّبْحِ أَوْ بِعَرْضِيَّةِ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ
كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَ
الْعَقْدَ ثُمَّ يَبِيعَ نَسِيئَةً لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ،
فَجُعِلَ تَأْجِيلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ وَالْبَيْعِ نَسِيئَةً،
وَلَا كَذَلِكَ الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ وَالْبَيْعَ نَسِيئَةً بَعْدَمَا
بَاعَ مَرَّةً لِانْتِهَاءِ وَكَالَتِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ
الْإِقَالَةَ وَالْبَيْعَ نَسِيئَةً كَمَا قَالَاهُ، وَإِنْ كَانَ
الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَلَوْ قِيلَ الْمُضَارِبُ بِالْحَوَالَةِ
جَازَ سَوَاءٌ كَانَ أَيْسَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَعْسَرَ مِنْهُ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ أَقَالَ الْعَقْدَ مَعَ الْأَوَّلِ ثُمَّ
بَاعَهُ بِمِثْلِهِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ جَازَ، فَكَذَا إذَا
قَبِلَ الْحَوَالَةَ وَلِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ
يَحْتَالُ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ نَظَرِيٌّ فَلَا بُدَّ
وَأَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَيْسَرَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْلَ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْمُضَارِبُ بِأَنْوَاعِهِ
الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
ثُمَّ قَالَ (وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ
الْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَالْعَقْدُ لَا
يَتَضَمَّنُ إلَّا التَّوْكِيلَ بِهَا (وَجَوَّزَ أَبُو يُوسُفَ تَزْوِيجَ
الْأَمَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الِاكْتِسَابِ) بِلُزُومِ الْمَهْرِ
وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَسْبٌ
فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُضَارَبَةِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ (فَإِنْ دَفَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى رَبِّ
الْمَالِ إلَخْ) فَإِنْ دَفَعَ إلَى رَبِّ الْمَالِ شَيْئًا مِنْ مَالِ
الْمُضَارَبَةِ بِضَاعَةً فَاشْتَرَى بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَبَاعَ لَمْ
تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ، خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ
تَصَرَّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ
فَيَكُونُ
(8/473)
وَقَالَ زُفَرُ: تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ
لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَلَا يَصْلُحُ
وَكِيلًا فِيهِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ إذَا شَرَطَ
الْعَمَلَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. وَلَنَا أَنَّ التَّخْلِيَةَ فِيهِ قَدْ
تَمَّتْ وَصَارَ التَّصَرُّفُ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ فَيَصْلُحُ رَبُّ
الْمَالِ وَكِيلًا عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالْإِبْضَاعُ تَوْكِيلٌ
مِنْهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِرْدَادًا، بِخِلَافِ شَرْطِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ
فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا
دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مُضَارَبَةً حَيْثُ لَا يَصِحُّ
لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَنْعَقِدُ شَرِكَةً عَلَى مَالِ رَبِّ الْمَالِ
وَعَمَلِ الْمُضَارِبِ وَلَا مَالَ هَاهُنَا، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ يُؤَدِّي
إلَى قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَ عَمَلُ رَبِّ
الْمَالِ بِأَمْرِ الْمُضَارِبِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ
الْأُولَى.
قَالَ (وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مُسْتَرِدًّا لِلْمَالِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ
عَلَيْهِ ابْتِدَاءً.
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَقَدْ تَمَّتْ فَصَارَ
التَّصَرُّفُ حَقًّا لِلْمُضَارِبِ.
وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَرَبُّ الْمَالِ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَالْإِبْضَاعُ
تَوْكِيلٌ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ، وَلَمَّا صَحَّ اسْتِعَانَةُ
الْمُضَارِبِ بِالْأَجْنَبِيِّ فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ
أَشْفَقَ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَكُونُ اسْتِرْدَادًا، بِخِلَافِ شَرْطِ
الْعَمَلِ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ يَمْنَعُ التَّخْلِيَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: رَبُّ الْمَالِ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا لِأَنَّ الْوَكِيلَ
مَنْ يَعْمَلُ فِي مَالِ غَيْرِهِ وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَعْمَلُ فِي مَالِ
غَيْرِهِ بَلْ فِي مَالِهِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ صَارَ
كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ الْمَالِ فَجَازَ تَوْكِيلُهُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ
كَانَ كَذَلِكَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ مَعَ رَبِّ الْمَالِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَى رَبِّ
الْمَالِ مُضَارَبَةً حَيْثُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ
تَنْعَقِدُ شَرِكَةً عَلَى مَالِ رَبِّ الْمَالِ وَعَمَلِ الْمُضَارِبِ
وَلَا مَالَ هَاهُنَا، فَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لِآدَمِيٍّ إلَى قَلْبِ
الْمَوْضُوعِ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: رَبُّ الْمَالِ إمَّا أَنْ
يَصِيرَ بِالتَّخْلِيَةِ كَالْأَجْنَبِيِّ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزْ
الْإِبْضَاعُ، فَالْقِيَاسُ شُمُولُ الْجَوَازِ وَعَدَمُهُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ.
قَوْلُهُ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الْمَالَ لِلدَّافِعِ
وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، بِخِلَافِ الْبِضَاعَةِ فَإِنَّهَا تَوْكِيلٌ عَلَى
مَا مَرَّ وَلَيْسَ الْمَالُ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ قَدْ
يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَيْسَ الْمَالُ لَهُ (وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ)
الْمُضَارَبَةُ الثَّانِيَةُ (بَقِيَ عَمَلُ رَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِ
الْمُضَارِبِ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْمُضَارَبَةُ الْأُولَى) وَكَلَامُ
الْمُصَنِّفِ يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْإِبْضَاعِ بِبَعْضِ الْمَالِ حَيْثُ
قَالَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ
الدَّلِيلَ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِهِ بَعْضًا أَوْ كُلًّا، وَبِهِ
صَرَّحَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمَبْسُوطِ، وَقَيَّدَ بِدَفْعِ
الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا أَخَذَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ
مِنْ مَنْزِلِ الْمُضَارِبِ بِغَيْرِهِ أَمْرٍ وَبَاعَ وَاشْتَرَى، فَإِنْ
كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا فَقَدْ نَقَضَ الْمُضَارَبَةَ، إذْ
الِاسْتِعَانَةُ مِنْ الْمُضَارِبِ لَمْ تُوجَدْ حَيْثُ لَا دَفْعَ مِنْهُ
فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ
انْتِقَاضُ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ صَارَ رَأْسُ الْمَالِ عَرْضًا لَا
يَكُونُ نَقْضًا لِأَنَّ النَّقْضَ الصَّرِيحَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ
عَرْضًا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا فَهَذَا أَوْلَى.
قَالَ (وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ فِي الْمِصْرِ إلَخْ) فَرَّقَ بَيْنَ
حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي مَالِ
الْمُضَارَبَةِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الِاحْتِبَاسِ
(8/474)
فَلَيْسَتْ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ،
وَإِنْ سَافَرَ فَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ وَكِسْوَتُهُ وَرُكُوبُهُ)
وَمَعْنَاهُ شِرَاءٌ وَكِرَاءٌ فِي الْمَالِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِإِزَاءِ الِاحْتِبَاسِ
كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ، وَالْمُضَارِبُ فِي
الْمِصْرِ سَاكِنٌ بِالسُّكْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا سَافَرَ صَارَ
مَحْبُوسًا بِالْمُضَارَبَةِ فَيَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِيهِ، وَهَذَا
بِخِلَافِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْبَدَلَ لَا مَحَالَةَ فَلَا
يَتَضَرَّرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ، أَمَّا الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ
لَهُ إلَّا الرِّبْحُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ، فَلَوْ أَنْفَقَ
مِنْ مَالِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَبِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ
لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَبِخِلَافِ الْبِضَاعَةِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ.
قَالَ (فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا قَدِمَ مِصْرَهُ رَدَّهُ
فِي الْمُضَارَبَةِ) لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهُ
دُونَ السَّفَرِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَغْدُو ثُمَّ يَرُوحُ فَيَبِيتُ
بِأَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السُّوقِيِّ فِي الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ
بِحَيْثُ لَا يَبِيتُ بِأَهْلِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ
لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَالنَّفَقَةُ هِيَ مَا يُصْرَفُ إلَى
الْحَاجَةِ الرَّاتِبَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ ذَلِكَ غَسْلُ
ثِيَابِهِ وَأُجْرَةُ أَجِيرٍ يَخْدُمُهُ وَعَلَفُ دَابَّةٍ يَرْكَبُهَا
وَالدُّهْنُ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَادَةً كَالْحِجَازِ،
وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَضْمَنَ
الْفَضْلَ إنْ جَاوَزَهُ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ بَيْنَ التُّجَّارِ.
قَالَ (وَأَمَّا الدَّوَاءُ فَفِي مَالِهِ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي
النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لِإِصْلَاحِ بَدَنِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
التِّجَارَةِ إلَّا بِهِ فَصَارَ كَالنَّفَقَةِ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى النَّفَقَةِ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ وَإِلَى الدَّوَاءِ
بِعَارِضِ الْمَرَضِ، وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ وَذَلِكَ وَاضِحٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ
وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ.
وَالْمُسْتَبْضِعُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ
الْأَجِيرِ لِمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ
أَحَدُ هَؤُلَاءِ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ، إلَّا
أَنَّا تَرَكْنَاهُ فِيمَا إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ لِأَجْلِ الْعُرْفِ
وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَبْضِعِ بِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ
بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ الْأَجِيرِ بِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ
بِبَدَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ
بِيَقِينٍ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ، أَمَّا
الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الرِّبْحُ وَهُوَ فِي حَيِّزِ
التَّرَدُّدِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، فَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ
مَالِهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ حُكْمُ
الْإِجَارَةِ، وَإِذَا أَخَذَ شَيْئًا لِلنَّفَقَةِ وَهُوَ مُسَافِرٌ
فَقَدِمَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ رَدَّهُ فِي الْمُضَارَبَةِ
لِانْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا فَضَلَ
مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ، وَجُعِلَ الْحَدُّ
الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مَا إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَغْدُو
ثُمَّ يَرُوحُ فَيَبِيتُ بِأَهْلِهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ السُّوقِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ
الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ إذْ ذَاكَ لَهَا وَالنَّفَقَةُ مَا
تُصْرَفُ إلَى الْحَاجَةِ الرَّاتِبَةِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
وَكِسْوَتِهِ وَرُكُوبِهِ شِرَاءً أَوْ كِرَاءً كُلُّ ذَلِكَ
بِالْمَعْرُوفِ.
وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ مُعَدَّاتٍ تُكْثِرُ تَثْمِيرَ
الْمَالِ كَغَسْلِ الثِّيَابِ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَالْخَادِمِ
وَالْحَلَّاقِ وَعَلَفِ الدَّابَّةِ وَالدُّهْنِ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ
فِيهِ إلَيْهِ كَالْحِجَازِ، فَإِنَّ الشَّخْصَ إذَا كَانَ طَوِيلَ
الشَّعْرِ وَسِخَ الثِّيَابِ مَاشِيًا فِي حَوَائِجِهِ يُعَدُّ مِنْ
الصَّعَالِيكِ وَيَقِلُّ مُعَامِلُوهُ فَصَارَ مَا بِهِ تَكْثُرُ
الرَّغَبَاتُ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ مِنْ جُمْلَةِ
(8/475)
الزَّوْجِ وَدَوَاؤُهَا فِي مَالِهَا.
قَالَ (وَإِذَا رَبِحَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ
الْمَالِ، فَإِنْ بَاعَ الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً حَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى
الْمَتَاعِ مِنْ الْحِمْلَانِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَحْتَسِبُ مَا أَنْفَقَ
عَلَى نَفْسِهِ) لِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِإِلْحَاقِ الْأَوَّلِ دُونَ
الثَّانِي، وَلِأَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْمَالِيَّةِ
بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ وَالثَّانِيَ لَا يُوجِبُهَا.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَّرَهَا
أَوْ حَمَلَهَا بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ
بِرَأْيِك فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ) لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ
الْمَالِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ هَذَا الْمَقَالُ عَلَى مَا مَرَّ (وَإِنْ
صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ وَلَا
يَضْمَنُ) لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ حَتَّى إذَا بِيعَ كَانَ
لَهُ حِصَّةُ الصَّبْغِ وَحِصَّةُ الثَّوْبِ الْأَبْيَضِ عَلَى
الْمُضَارَبَةِ بِخِلَافِ الْقِصَارَةِ وَالْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ بِهِ، وَلِهَذَا إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ ضَاعَ
وَلَا يَضِيعُ إذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ، وَإِذَا صَارَ شَرِيكًا
بِالصَّبْغِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك انْتِظَامَهُ
الْخُلْطَةَ فَلَا يَضْمَنُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
النَّفَقَةِ، وَالدَّوَاءُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لِإِصْلَاحِ الْبَدَنِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ (وَإِذَا رَبِحَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ إلَخْ) يُرِيدُ أَنَّ
الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَرَبِحَ يَأْخُذُ
رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ كَامِلًا فَتَكُونُ النَّفَقَةُ مَصْرُوفَةً
إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ كَانَ مَا
بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، فَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبُ
الْمَتَاعَ بَعْدَمَا أَنْفَقَ مُرَابَحَةً حَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى
الْمَتَاعِ مِنْ الْحِمْلَانِ وَنَحْوِهِ كَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ
وَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ، وَلَا يَحْسِبُ مَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ
لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ
الْمُضَارِبِ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا ثِيَابًا فَقَصَرَهَا أَوْ حَمَلَهَا
بِمِائَةٍ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك فَهُوَ
مُتَطَوِّعٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا
الْمَقَالُ لَا يَنْتَظِمُهُ كَمَا مَرَّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا بَعْدَمَا
مَرَّ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ صَبَغَهَا أَحْمَرَ فَهُوَ شَرِيكٌ
بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ، وَسَائِرُ الْأَلْوَانِ كَالْحُمْرَةِ إلَّا
السَّوَادَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الصَّبْغَ عَيْنٌ قَائِمٌ
بِالثَّوْبِ فَكَانَ شَرِيكًا بِخَلْطِ مَالِهِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ.
وَقَوْلُهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك يَنْتَظِمُهُ، فَإِذَا بِيعَ الثَّوْبُ كَانَ
لِلْمُضَارِبِ حِصَّةُ الصَّبْغِ يَقْسِمُ ثَمَنَ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا
عَلَى
(8/476)
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ
بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا بَزًّا فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ
اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا فَلَمْ يَنْقُدْهُمَا حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قِيمَتِهِ مَصْبُوغًا وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ فَمَا بَيْنَهُمَا حِصَّةُ
الصَّبْغِ إنْ بَاعَهُ مُسَاوَمَةً، وَإِنْ بَاعَهُ مُرَابَحَةً قَسَمَ
الثَّمَنَ هَذَا عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى الْمُضَارِبُ الثَّوْبَ
بِهِ، وَعَلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فَمَا بَيْنَهُمَا حِصَّةُ الصَّبْغِ
وَالْبَاقِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ، بِخِلَافِ الْقَصَارَةِ بِفَتْحِ
الْقَافِ وَالْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ قَائِمٍ بِالثَّوْبِ
وَلَمْ يَزِدْ بِهِ شَيْءٌ، وَلِهَذَا إذَا فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فَازْدَادَ
الْقِيمَةُ بِهِ ضَاعَ فِعْلُهُ وَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ
ثَوْبَهُ مَجَّانًا، وَإِذَا صَبَغَ الْمَغْصُوبَ لَمْ يَضَعْ بَلْ
يَتَخَيَّرُ رَبُّ الثَّوْبِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ مَا زَادَ الصَّبْغُ
فِيهِ يَوْمَ الْخُصُومَةِ لَا يَوْمَ الِاتِّصَالِ بِثَوْبِهِ وَبَيْنَ
أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ قِيمَةِ الثَّوْبِ أَبْيَضَ يَوْمَ صَبْغِهِ
وَتَرَكَ الثَّوْبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ كَذَلِكَ
فَالْمُضَارِبُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ حَالًا مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُضَارِبُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ الصَّبْغِ
كَانَ بِهِ مُخَالِفًا غَاصِبًا فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ كَالْغَاصِبِ بِلَا
تَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُضَارِبٍ قِيلَ
لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِك وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْخَلْطَ وَبِالصَّبْغِ
اخْتَلَطَ مَالُهُ بِمَالِ الْمُضَارِبِ فَصَارَ شَرِيكًا فَلَمْ يَكُنْ
غَاصِبًا فَلَا يَضْمَنُ، وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا قِيلَ الْمُضَارِبُ
إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا بِهَذَا الْفِعْلِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ
فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا وَقَعَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
ضَمِنَ الْمُضَارِبُ كَالْغَاصِبِ لِمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ
كَوْنِهِ غَاصِبًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ
فِيهِ اسْتِدَانَةً عَلَى الْمَالِكِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ آخَرُ فِي مَسَائِل تَتَعَلَّق بِالْمُضَارَبَةِ]
(فَصْلٌ آخَرُ)
هَذِهِ مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَسَائِلِ الْمُضَارَبَةِ
فَذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ) مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَاضِحٌ،
(8/477)
ضَاعَا يَغْرَمُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمُضَارِبُ خَمْسَمِائَةٍ وَيَكُونُ رُبْعُ الْعَبْدِ
لِلْمُضَارِبِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ) قَالَ: هَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ حَاصِلُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ عَلَى
الْمُضَارِبِ إذْ هُوَ الْعَاقِدُ، إلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ
عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُ
فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأُجْرَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا نَضَّ الْمَالُ ظَهَرَ الرِّبْحُ وَلَهُ مِنْهُ
وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَى بِالْأَلْفَيْنِ عَبْدًا صَارَ
مُشْتَرِيًا رُبْعَهُ لِنَفْسِهِ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ لِلْمُضَارَبَةِ
عَلَى حَسَبِ انْقِسَامِ الْأَلْفَيْنِ، وَإِذَا ضَاعَتْ الْأَلْفَانِ
وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لِمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَهُ الرُّجُوعُ
بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ
مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ وَيَخْرُجُ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الرُّبْعُ
مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ
أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَيَبْقَى ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ
الْعَبْدِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِي
الْمُضَارَبَةَ (وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ)
لِأَنَّهُ دَفَعَ مَرَّةً أَلْفًا وَمَرَّةً أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ
(وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَلْفَيْنِ) لِأَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا بِيعَ الْعَبْدُ
بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَحِصَّةُ الْمُضَارَبَةِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ يَرْفَعُ
رَأْسَ الْمَالِ وَيَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا
بِخَمْسِمِائَةٍ وَبَاعَهُ إيَّاهُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ
مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسِمِائَةٍ) لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ
بِجَوَازِهِ لِتَغَايُرِ الْمَقَاصِدِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ
بِيعَ مِلْكُهُ بِمِلْكِهِ إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ،
وَمَبْنَى الْمُرَابَحَةِ عَلَى الْأَمَانَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ
شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ فَاعْتُبِرَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ، وَلَوْ اشْتَرَى
الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَبَاعَهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ
وَمِائَتَيْنِ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ لِأَنَّهُ
اُعْتُبِرَ عَدَمًا فِي حَقِّ نِصْفِ الرِّبْحِ وَهُوَ نَصِيبُ رَبِّ
الْمَالِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا
قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً فَثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِ الْفِدَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرُبْعُهُ عَلَى الْمُضَارِبِ)
لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ
وَقَدْ كَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ
الْمَالُ عَيْنًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَمَبْنَاهُ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ عَلَى أَنَّ ضَمَانَ رَبِّ الْمَالِ
لِلْبَائِعِ بِسَبَبِ هَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ غَيْرُ مَانِعٍ لَهَا،
فَالْمَضْمُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا
شَرَطَا، وَضَمَانُ الْمُضَارِبِ لِلْبَائِعِ بِسَبَبِ هَلَاكِهِ مَانِعٌ
عَنْهَا.
وَحَقِيقَةُ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي
رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهَا
بَزًّا فَهُوَ مُضَارَبَةٌ، فَإِذَا بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ظَهَرَتْ حِصَّةُ
الْمُضَارِبِ وَهِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً
بِأَلْفَيْنِ وَقَعَ رُبْعُهَا لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ رُبْعَ الثَّمَنِ
لَهُ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِرَبِّ الْمَالِ فَإِذَا هَلَكَ الثَّمَنُ
صَارَ غُرْمُ الرُّبْعِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ
وَالْبَاقِي عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَإِذَا غَرِمَ الْمُضَارِبُ رُبْعَ
الثَّمَنِ مَلَكَ رُبْعَ الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا مَلَكَ
رُبْعَهَا خَرَجَ ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ مَبْنَى
الْمُضَارَبَةِ عَلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَيَكُونُ الضَّمَانُ
مُنَافِيًا لَهَا.
وَلَوْ أَبْقَيْنَا نَصِيبَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لَأَبْطَلْنَا مَا
غَرِمَ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ رَأْسَ الْمَالِ
فَيَصِيرُ مُضَارِبًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ.
ثُمَّ لَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ صَارَ رُبْعُ الثَّمَنِ
لِلْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَذَلِكَ أَلْفٌ وَبَقِيَتْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ
فَذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّ ضَمَانَ رَبِّ الْمَالِ يُلَائِمُ
الْمُضَارَبَةَ وَلَا يَضِيعُ مَا يَضْمَنُ بَلْ يُلْحَقُ بِرَأْسِ
الْمَالِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ
أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْخَمْسُمِائَةِ رِبْحٌ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ) مَعْنَاهُ وَاضِحٌ،
وَقَوْلُهُ (لِتَغَايُرِ الْمَقَاصِدِ) لِأَنَّ مَقْصُودَ رَبِّ الْمَالِ
وُصُولُهُ إلَى الْأَلْفِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَمَقْصُودُ
الْمُضَارِبِ اسْتِفَادَةُ الْيَدِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْعَدَمِ) أَيْ عَدَمِ
الْجَوَازِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِهِ عَنْ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ عَبْدٌ
كَانَ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ أَلْفًا لَمْ يَكُنْ فِي
مِلْكِهِ وَالشُّبْهَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ
فَاعْتُبِرَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ كَثُبُوتِهِ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ وَالْأَكْثَرُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ
إلَى أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ بِمَالِهِ
(قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا
عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً) كَانَ
الدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ إلَيْهِمَا، فَإِنْ دَفَعَاهُ بَطَلَتْ
الْمُضَارَبَةُ لِهَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَإِنْ فَدَيَاهُ
(فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْفِدَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرُبْعُهُ عَلَى
الْمُضَارِبِ، لِأَنَّ الْفِدَاءَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ
بِقَدْرِهِ وَكَانَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا، لِأَنَّ رَأْسَ
الْمَالِ لَمَّا صَارَ عَيْنًا
(8/478)
وَاحِدًا ظَهَرَ الرِّبْحُ وَهُوَ أَلْفٌ
بَيْنَهُمَا وَأَلْفٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ
أَلْفَانِ، وَإِذَا فَدَيَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا
نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا نَصِيبُ رَبِّ
الْمَالِ فَلِقَضَاءِ الْقَاضِي بِانْقِسَامِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِمَا لِمَا
أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِسْمَةَ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةُ
تَنْتَهِي بِالْقِسْمَةِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ جَمِيعَ
الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ
فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِسْمَةِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالزَّائِلِ عَنْ
مِلْكِهِمَا بِالْجِنَايَةِ، وَدَفْعُ الْفِدَاءِ كَابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ
فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا لَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ
يَخْدُمُ الْمُضَارِبَ يَوْمًا وَرَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا فَلَمْ
يَنْقُدْهَا حَتَّى هَلَكَتْ يَدْفَعُ رَبُّ الْمَالِ ذَلِكَ الثَّمَنَ
وَرَأْسُ الْمَالِ جَمِيعُ مَا يَدْفَعُ إلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ) لِأَنَّ
الْمَالَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَلَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا،
وَالِاسْتِيفَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ وَحُكْمُ
الْأَمَانَةِ يُنَافِيهِ فَيَرْجِعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، بِخِلَافِ
الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ
وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً لِأَنَّهُ
أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُسْتَوْفِيًا، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ
الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إذَا تَوَكَّلَ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَاحِدًا ظَهَرَ الرِّبْحُ وَهُوَ أَلْفٌ بَيْنَهُمَا) وَلِهَذَا عَتَقَ
الرُّبْعُ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبَهُ (وَأَلْفٌ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ)
وَقَيَّدَ الْعَيْنَ بِالْوَحْدَةِ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ
عَيْنَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ
كَمَا تَقَدَّمَ (فَإِذَا فَدَيَاهُ خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ الْمُضَارَبَةِ،
أَمَّا نَصِيبُ الْمُضَارِبِ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ) أَنَّهُ صَارَ
مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ أَمَانَةً وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ
أَمَانَةٌ (وَأَمَّا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ فَلِقَضَاءِ الْقَاضِي
بِانْقِسَامِ الْفِدَاءِ عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ انْقِسَامَ
الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا) لِاسْتِخْلَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفِدَاءِ مَا
يَخُصُّهُ (وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْقِسْمَةِ بِخِلَافِ مَا
تَقَدَّمَ) يَعْنِي بِهِ مَا إذَا ضَاعَ الْأَلْفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ لَا تَنْتَهِي الْمُضَارَبَةُ هُنَاكَ (لِأَنَّ
جَمِيعَ الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ) لِكَوْنِهِ الْعَاقِدَ،
وَالدَّفْعُ وَالْفِدَاءُ لَيْسَ بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالزَّائِلِ) لِأَنَّهُ اُسْتُحِقَّ
بِالْجِنَايَةِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ
وَالْمُضَارَبَةُ تَنْتَهِي بِالْهَلَاكِ (فَدَفْعُ الْفِدَاءِ
كَابْتِدَاءِ الشِّرَاءِ فَيَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا
خَارِجًا عَنْ الْمُضَارَبَةِ يَخْدُمُ الْمُضَارِبَ يَوْمًا وَرَبَّ
الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ) يُرِيدُ بِهِ مَا
تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ مَا إذَا ضَاعَ
الْأَلْفَانِ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ
(فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا وَهَلَكَ قَبْلَ
النَّقْدِ إلَى الْبَائِعِ رَجَعَ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ
بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ جَمِيعَ مَا يَدْفَعُهُ
لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ) وَقَدْ هَلَكَ وَقَدْ بَقِيَ
عَلَيْهِ الثَّمَنُ دَيْنًا وَهُوَ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ
فَيَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ (وَ)
بِالْقَبْضِ ثَانِيًا (لَا يَصِيرُ) الْمُضَارِبُ (مُسْتَوْفِيًا لِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ) وَقَبْضُ الْمُضَارِبِ
لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بَلْ هُوَ أَمَانَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَلَا
يَجْتَمِعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا كَانَ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى أَنْ يُسْقِطَ
عَنْهُ الْعُهْدَةَ بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ (بِخِلَافِ
الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ
وَهَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ) فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا مَرَّةً
وَاحِدَةً (لِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا لِأَنَّ
الْوَكَالَةَ تُجَامِعُ الضَّمَانَ كَالْغَاصِبِ إذَا وَكَّلَهُ
الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ) فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا
وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِمُجَرَّدِ الْوَكَالَةِ، حَتَّى لَوْ
هَلَكَ الْمَغْصُوبُ وَجَبَ الضَّمَانُ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمِينًا فِيهِ،
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ
تَعَدٍّ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى قَبْضِ الْأَمَانَةِ فَيَجُوزُ أَنْ
يُعْتَبَرَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَبَبٌ سِوَى
الْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا نُسَلِّمُ صَلَاحِيَتَهُ
لِإِثْبَاتِ حُكْمَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، وَلَوْ غَصَبَ أَلْفًا فَضَارَبَ
الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْغَاصِبَ وَجَعَلَ رَأْسَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ
كَانَ كَصُورَةِ الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ مَا يَنْفِيهِ،
وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا يَحْتَاجُ إلَى فَرْقٍ دَفْعًا
لِلتَّحَكُّمِ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا
وَالدَّلِيلُ إمْكَانُ ذَلِكَ وَالْإِمْكَانُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ دَفْعُ
اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُسْتَوْفِيًا فَثَابِتٌ
بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ
مُسْتَوْفِيًا لَبَطَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ
أُخْرَى أَصْلًا، فَأَمَّا هَاهُنَا فَحَقُّ رَبِّ
(8/479)
ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ يَرْجِعُ مَرَّةً، وَفِيمَا إذَا اشْتَرَى ثُمَّ دَفَعَ
الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ الْمَالَ فَهَلَكَ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ
لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَجُعِلَ مُسْتَوْفِيًا
بِالْقَبْضِ بَعْدَهُ، أَمَّا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ
أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْأَمَانَةِ بَعْدَهُ فَلَمْ
يَصِرْ مُسْتَوْفِيًا، فَإِذَا هَلَكَ رَجَعَ عَلَيْهِ مَرَّةً ثُمَّ لَا
يَرْجِعُ لِوُقُوعِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا مَرَّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْمَالِ لَا يَضِيعُ لِأَنَّهُ يُلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ
وَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ يَضُرُّ
الْمُضَارِبَ فَاخْتَرْنَا أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فَضَرَرُهُ بِهَلَاكِ الثَّمَنِ لَا
يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَقَوْلُهُ وَلَوْ غَصَبَ أَلْفًا إلَخْ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ رِوَايَةٌ
تُحْوِجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِي الْوَكَالَةِ) لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا دَفَعَ
الْمَالَ ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ، وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى ثُمَّ
دَفَعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَوَّلِ وَيَصِيرُ بِهِ مُسْتَوْفِيًا،
وَفِي الثَّانِي لَا يَرْجِعُ أَصْلًا وَكَلَامُهُ فِيهِ وَاضِحٌ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(8/480)
قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ
أَلْفَانِ فَقَالَ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفًا وَرَبِحْت أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ
الْمَالِ لَا بَلْ دَفَعْت إلَيْك أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُضَارِبِ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ
رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي
عَلَيْهِ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ
الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ وَفِي مِثْلِهِ
الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا لِأَنَّهُ
أَعْرَفُ بِمِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ، وَلَوْ اخْتَلَفَا مَعَ ذَلِكَ فِي
مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ فِيهِ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الرِّبْحَ
يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ لِأَنَّ
الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ
هِيَ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَ أَلْفًا وَقَالَ
فُلَانٌ هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ) لِأَنَّ
الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ أَوْ شَرْطًا مِنْ
جِهَتِهِ أَوْ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَلَوْ قَالَ
الْمُضَارِبُ أَقْرَضْتنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ بِضَاعَةٌ أَوْ
وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
الْمُضَارِبِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ]
أَخَّرَ هَذَا الْفَصْلَ عَمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ فِي الِاخْتِلَافِ
وَهُوَ فِي الرُّتْبَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمُضَارِبِ أَلْفَانِ إلَخْ) اخْتِلَافُ رَبِّ
الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ إذَا كَانَ فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ مِثْلُ
أَنْ يَقُولَ الْمُضَارِبُ وَمَعَهُ أَلْفَانِ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفًا
وَرَبِحْت أَلْفًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَا بَلْ دَفَعْت إلَيْك
أَلْفَيْنِ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ
أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ،
(8/481)
لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ
التَّمَلُّكَ وَهُوَ يُنْكِرُ. وَلَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ
الْمُضَارَبَةَ فِي نَوْعٍ وَقَالَ الْآخَرُ مَا سَمَّيْت لِي تِجَارَةً
بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعُمُومُ
وَالْإِطْلَاقُ، وَالتَّخْصِيصُ يُعَارِضُ الشَّرْطَ، بِخِلَافِ
الْوَكَالَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْخُصُوصُ. وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا
اتَّفَقَا عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالْإِذْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي الشَّرِكَةَ وَهُوَ
يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ الْقَوْلُ
لِلْمُضَارِبِ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ فِي مِقْدَارِ
الْمَقْبُوضِ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ
كَالْغَاصِبِ أَوْ أَمِينًا كَالْمُودَعِ لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِمِقْدَارِ
الْمَقْبُوضِ، وَإِذَا كَانَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ مَعَ ذَلِكَ: أَيْ
مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي رَأْسِ الْمَالِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ رَبُّ
الْمَالِ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَانِ وَالْمَشْرُوطُ ثُلُثُ الرِّبْحِ
وَقَالَ الْمُضَارِبُ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفٌ وَالْمَشْرُوطُ نِصْفُهُ
فَالْقَوْلُ فِيهِ: أَيْ فِي الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ: يَعْنِي وَفِي
رَأْسِ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ كَمَا كَانَ، أَمَّا فِي رَأْسِ الْمَالِ
فَلِمَا مَرَّ مِنْ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا فِي الرِّبْحِ فَلِأَنَّ
الرِّبْحَ يُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَهُوَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ،
وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَ كَانَ الْمَالُ بِيَدِهِ
بِضَاعَةً كَانَ الْقَوْلُ لَهُ، فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ،
وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ فَضْلٍ قُبِلَتْ
بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْفَضْلِ فِي رَأْسِ
الْمَالِ وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْفَضْلِ فِي
الرِّبْحِ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ، وَإِذَا كَانَ فِي صِفَةِ
رَأْسِ الْمَالِ كَمَا إذَا قَالَ مَنْ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ هِيَ
مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ بِالنِّصْفِ وَقَدْ رَبِحَتْ أَلْفًا وَقَالَ
فُلَانٌ هِيَ بِضَاعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ
الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَقْوِيمَ عَمَلِهِ بِمُقَابَلَةِ
الرِّبْحِ وَشَرْطًا مِنْ جِهَتِهِ بِمِقْدَارٍ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ
الشَّرِكَةِ فِيهِ وَهُوَ يُنْكِرُ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ أَقْرَضْتَنِي وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ هِيَ
بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ وَالْبَيِّنَةُ
لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَمْلِيكَ الرِّبْحِ وَهُوَ
يُنْكِرُ وَسَمَّاهُ مُضَارِبًا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى عَدَمِهِ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُضَارِبًا فِي الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقْرَضَهُ،
وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا
تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلَوْ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ الْقَرْضَ
وَالْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ فَالْقَوْلُ لِلْمُضَارِبِ لِاتِّفَاقِهِمَا
عَلَى الْأَخْذِ بِالْإِذْنِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى
الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْبَيِّنَةُ لِرَبِّ الْمَالِ
وَإِنْ أَقَامَاهَا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الضَّمَانَ، وَإِذَا كَانَ فِي
الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَالْقَوْلُ
لِرَبِّ الْمَالِ، أَمَّا إذَا أَنْكَرَ الْخُصُوصَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ
الْعُمُومَ هُوَ الْأَصْلُ كَمَا يَذْكُرُ، وَكَذَا إذَا أَنْكَرَ
الْعُمُومَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ إنْكَارَهُ ذَلِكَ نَهْيًا لَهُ عَنْ
الْعُمُومِ.
وَلَهُ أَنْ يَنْتَهِيَ عَنْهُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ إذَا ثَبَتَ مِنْهُ
الْعُمُومُ نَصًّا فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَرَبُّ
الْمَالِ يَدَّعِي الْعُمُومَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ قِيَاسًا
وَاسْتِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ يَدَّعِيهِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا
الْعُمُومُ وَالتَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ
هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ صَحَّ وَمَلَكَ بِهِ جَمِيعَ
التِّجَارَاتِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْعُمُومَ لَمْ
يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ
كَالْوَكَالَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُدَّعِي الْعُمُومِ
مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ.
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ
(8/482)
يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِحَاجَتِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ
حَاجَةِ الْآخَرِ إلَى الْبَيِّنَةِ، وَلَوْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ
وَقْتًا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ آخِرَ
الشَّرْطَيْنِ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مِنْهُمَا نَوْعًا فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى
التَّخْصِيصِ وَالْإِذْنُ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ وَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (لِحَاجَتِهِ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ وَعَدَمِ حَاجَةِ
الْآخَرِ إلَى الْبَيِّنَةِ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ
لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ، وَبِأَنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي الضَّمَانَ
فَكَيْفَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيِّنَةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ
وَيَلْزَمُهَا نَفْيُ الضَّمَانِ فَأَقَامَ الْمُصَنِّفُ اللَّازِمَ
مَقَامَ الْمَلْزُومِ كِنَايَةً، وَبِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ
الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ثَابِتٌ بِإِقْرَارِ الْآخَرِ
وَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ (وَلَوْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا
فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ آخِرَ الشَّرْطَيْنِ
يَنْقُضُ الْأَوَّلَ) وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتَا أَوْ وُقِّتَتَا عَلَى
السَّوَاءِ أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ
لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهِمَا مَعًا
لِلِاسْتِحَالَةِ وَعَلَى التَّعَاقُبِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ عَلَى
ذَلِكَ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِهِمَا تَعْمَلُ بَيِّنَةُ رَبِّ
الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(8/483)
|