العناية
شرح الهداية [كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ]
مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ،
وَمَا لَا يُكْرَهُ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ
(10/68)
قَالَ (الْمَوَاتُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
مِنْ الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ
عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ) سُمِّيَ
بِذَلِكَ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. قَالَ (فَمَا كَانَ مِنْهَا
عَادِيًّا لَا مَالِكَ لَهُ أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا
يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقَرْيَةِ
بِحَيْثُ إذَا وَقَفَ إنْسَانٌ مِنْ أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ لَا
يُسْمَعُ الصَّوْتُ فِيهِ فَهُوَ مَوَاتٌ) قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
-: هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَمَعْنَى الْعَادِيِّ مَا قَدُمَ
خَرَابُهُ. وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ
يَشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَعَ
انْقِطَاعِ الِارْتِفَاقِ بِهَا لِيَكُونَ مَيْتَةً مُطْلَقًا، فَأَمَّا
الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَا تَكُونُ مَوَاتًا،
وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ تَكُونُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ،
وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالِكٌ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَيَضْمَنُ الزَّارِعُ
نُقْصَانَهَا، وَالْبُعْدُ عَنْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا قَالَ شَرَطَهُ
أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنْ
الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ فَيُدَارِ
الْحُكْمُ عَلَيْهِ. وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَبَرَ
انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَنْهَا حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ
قَرِيبًا مِنْ الْقَرْيَةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ
بِخُوَاهَرْ زَادَهْ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
التَّسْبِيبُ لِلْخِصْبِ فِي أَقْوَاتِ الْأَنَامِ وَمَشْرُوعِيَّتُهُ
بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا
مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَشُرُوطُهُ سَتُذْكَرُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ.
وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَحُكْمُهُ تَمَلُّكُ الْمُحْيِي مَا أَحْيَاهُ. قَالَ (الْمَوَاتُ مَا لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَرَاضِي) شِبْهُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ
الْأَرَاضِيِ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ أَوْ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ
عَلَيْهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرِّمَالُ أَوْ
صَارَ سَبْخَةً بِالْمَيِّتِ مِنْ الْحَيَوَانِ الَّذِي بَطَلَتْ
مَنَافِعُهُ فَسُمِّيَ مَوَاتًا، وَإِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ
بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ. قَوْلُهُ (فَمَا كَانَ مِنَّا عَادِيًا) لَيْسَ
الْمُرَادُ بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
مَنْسُوبًا إلَى عَادٍ. لِأَنَّ عَادًا لَمْ يَمْلِكْ جَمِيعَ أَرَاضِي
الْمَوَاتِ. وَلَكِنْ مُرَادُهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي
الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ
مَالِكٌ بِعَيْنِهِ) قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةُ إذَا انْقَرَضَ أَهْلُهَا
فَهِيَ كَاللُّقَطَةِ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ) مِنْ
تَتِمَّةِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَوْلُهُ (فَيُدَارُ
الْحُكْمُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْقُرْبِ
(10/69)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتَمَدَ عَلَى مَا
اخْتَارَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ مَنْ أَحْيَاهُ
بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ، وَإِنْ أَحْيَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ
يَمْلِكْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا:
يَمْلِكُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ
أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ سَبَقَتْ
يَدُهُ إلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَطَبِ وَالصَّيْدِ. وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ نَفْسُ إمَامِهِ
بِهِ» وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ
لِشَرْعٍ، وَلِأَنَّهُ مَغْنُومٌ لِوُصُولِهِ إلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ
بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ
بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ كَمَا فِي سَائِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَرْجِعٌ حُكْمِيٌّ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ
مَنْ أَحْيَاهُ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَيَاهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ
إذْنٌ لِقَوْمٍ لَا نَصْبٌ لِشَرْعٍ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ
عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصْبُ الشَّرْعِ. وَالْآخَرُ إذْنٌ
بِالشَّرْعِ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ» وَالْآخَرُ
كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
فَلَهُ سَلَبُهُ» أَيْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْغَازِي بِهَذَا
الْقَوْلِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
إذْنًا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ»
مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ
التَّأْوِيلَ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُهُ فَكَانَ رَاجِحًا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ
أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَحْيَا
أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» يَدُلُّ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّ الْحُكْمَ
إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَقِّ
مِنْهُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ
مَشْرُوطًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ
إمَامِهِ»
(10/70)
الْغَنَائِمِ. وَيَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ؛
لِأَنَّ ابْتِدَاءَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ
إلَّا إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ
إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَاءِ. فَلَوْ أَحْيَاهَا، ثُمَّ
تَرَكَهَا فَزَرَعَهَا غَيْرُهُ فَقَدْ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا؛
لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا، فَإِذَا
تَرَكَهَا كَانَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا. وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ
يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا
نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ، إذْ الْإِضَافَةُ فِيهِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ
وَمِلْكُهُ لَا يَزُولُ بِالتَّرْكِ. وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً
ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهَا الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ
نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ طَرِيقَ الْأَوَّلِ فِي
الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّقِهِ وَقَصَدَ الرَّابِعُ
إبْطَالَ حَقِّهِ.
قَالَ (وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ
الْمُسْلِمُ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْنُ الْإِمَامِ مِنْ شَرْطِهِ
فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى
الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ
يَنْزِعُهَا مِنْ الثَّانِي) بَيَانُهُ أَنَّ الْمَشَايِخَ - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يُثْبِتُ مِلْكَ
الِاسْتِغْلَالِ أَوْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ مِنْهُمْ
الْفَقِيهُ أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ الْبَلْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
إلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَإِنَّ
لَهُ الِانْتِفَاعَ بِهِ. فَإِذَا قَامَ عَنْهُ وَأَعْرَضَ بَطَلَ حَقُّهُ.
وَعَامَّتُهُمْ إلَى الثَّانِي اسْتِدْلَالًا بِالْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ
أَضَافَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فِي قَوْلِهِ فَهِيَ لَهُ وَمِلْكُهُ لَا
يَزُولُ بِالتَّرْكِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِدْلَال بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا صَحِيحٌ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى
كَوْنِهِ إذْنًا لَا شَرْعًا فَكَيْفَ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إذْنًا لَهُ لَكِنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ
الْإِمَامُ كَانَ شَرْعًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لَهُ الْإِمَامُ
مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ مَلَكَ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ.
وَقَوْلُهُ (لِتَعَيُّنِهَا لِتَطَرُّفِهِ) لِأَنَّهُ حِينَ سَكَتَ عَنْ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ صَارَ الْبَاقِي طَرِيقًا لَهُ،
فَإِذَا أَحْيَاهُ الرَّابِعُ فَقَدْ أَحْيَا طَرِيقَهُ مِنْ حَيْثُ
الْمَعْنَى فَيَكُونُ لَهُ فِيهِ طَرِيقٌ.
قَالَ (وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ) الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ
فِي تَمَلُّكِ مَا أَحْيَاهُ سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ،
وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ كَمَا
فِي سَائِرِ
(10/71)
قَالَ (وَمَنْ حَجَرَ أَرْضًا وَلَمْ
يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى
غَيْرِهِ) لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْأَوَّلِ كَانَ لِيَعْمُرَهَا
فَتَحْصُلُ الْمَنْفَعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْعُشْرُ أَوْ
الْخَرَاجُ. فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ يَدْفَعُ إلَى غَيْرِهِ تَحْصِيلًا
لِلْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ لِيَمْلِكَهُ
بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ إنَّمَا هُوَ الْعِمَارَةُ وَالتَّحْجِيرُ
الْإِعْلَامُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَهُ بِوَضْعِ
الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ أَوْ يُعَلِّمُونَهُ لِحَجْرِ غَيْرِهِمْ عَنْ
إحْيَائِهِ فَبَقِيَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ كَمَا كَانَ هُوَ الصَّحِيحُ.
وَإِنَّمَا شَرَطَ تَرْكَ ثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ.
وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَهُ لَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى
وَطَنِهِ وَزَمَانٍ يُهَيِّئُ أُمُورَهُ فِيهِ، ثُمَّ زَمَانٍ يَرْجِعُ
فِيهِ إلَى مَا يَحْجُرُهُ فَقَدَّرْنَاهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا
دُونَهَا مِنْ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ لَا يَفِي بِذَلِكَ،
وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
تَرَكَهَا. قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ دِيَانَةً، فَأَمَّا إذَا أَحْيَاهَا
غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ
الْإِحْيَاءِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَصَارَ كَالِاسْتِيَامِ فَإِنَّهُ
يُكْرَهُ، وَلَوْ فُعِلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ. ثُمَّ التَّحْجِيرُ قَدْ
يَكُونُ بِغَيْرِ الْحَجَرِ بِأَنْ غَرَزَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً
أَوْ نَقَّى الْأَرْضَ وَأَحْرَقَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ أَوْ خَضَدَ
مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ أَوْ الشَّوْكِ، وَجَعَلَهَا حَوْلَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَسْبَابِ الْمِلْكِ حَتَّى الِاسْتِيلَاءِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يَمْلِكُ
مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَصْلِنَا كَالْمُسْلِمِينَ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحَجَرِ
بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِهِ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعْلَمَ بِوَضْعِ
الْأَحْجَارِ حَوْلَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَمَعْنَى
الثَّانِي أَعْلَمَ بِحَجْرِ الْغَيْرِ عَنْ إحْيَائِهَا فَكَانَ
التَّحْجِيرُ هُوَ الْإِعْلَامُ، فَإِذَا حَجَّرَ أَرْضًا وَلَمْ
يَعْمُرْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إلَى
غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَايِخَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ
- اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
يُفِيدُ مِلْكًا مُؤَقَّتًا إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ، وَقِيلَ لَا يُفِيدُ
وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أَشَارَ إلَيْهِ
بِقَوْلِهِ (هُوَ الصَّحِيحُ) قِيلَ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا
إذَا جَاءَ إنْسَانٌ آخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَحْيَاهُ،
فَإِنَّهُ مَلَكَهُ عَلَى الثَّانِي وَلَمْ يَمْلِكْهُ عَلَى الْأَوَّلِ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ حَقٌّ بَعْدَ
(10/72)
وَجَعَلَ التُّرَابَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُتِمَّ الْمُسَنَّاةَ لِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ، أَوْ
حَفَرَ مِنْ بِئْرٍ ذِرَاعًا أَوْ ذِرَاعَيْنِ، وَفِي الْأَخِيرِ وَرَدَ
الْخَبَرُ. وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ
إحْيَاءٌ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَلَوْ حَفَرَ
أَنْهَارَهَا وَلَمْ يَسْقِهَا يَكُونُ تَحْجِيرًا، وَإِنْ سَقَاهَا مَعَ
حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ، وَلَوْ
حَوَّطَهَا أَوْ سَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً؛
لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ وَيُتْرَكُ
مَرْعًى لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ وَمَطْرَحًا لِحَصَائِدِهِمْ) لِتَحَقُّقِ
حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ،
فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهَا بِمَنْزِلَةِ
الطَّرِيقِ وَالنَّهْرِ. عَلَى هَذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ
أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنًى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ
وَالْآبَارِ الَّتِي يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي بَرِّيَّةٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا)
وَمَعْنَاهُ إذَا حَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ
أَوْ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ حَفْرَ الْبِئْرِ
إحْيَاءٌ. قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ
ذِرَاعًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَفَرَ
بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا
لِمَاشِيَتِهِ» ثُمَّ قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِيِ
رَخْوَةً وَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ثَلَاثِ سِنِينَ نَفَى الْحَقَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ لَهُ
الْحَقُّ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ،
وَالْحَقُّ الْكَامِلُ هُوَ الْمِلْكُ. وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ
فِي الْكِتَابِ. وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ
مَفْهُومٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَوْلُهُ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتِمَّ
الْمُسَنَّاةَ) هُوَ مَا يُبْنَى لِلسَّيْلِ لِيَرُدَّ الْمَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْأَخِيرِ) يُرِيدُ حَفْرَ الْبِئْرِ (وَرَدَ
الْخَبَرُ) وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ فَهُوَ
مُتَحَجِّرٌ» .
وَقَوْلُهُ (لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا حَقِيقَةً) يَعْنِي عِنْدَ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ دَلَالَةً) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى
قَوْلِهِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ انْقِطَاعَ ارْتِفَاقِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ
عَنْهَا حَقِيقَةً إلَخْ. وَقَوْلُهُ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ
الْإِمَامُ) يُقَالُ أَقْطَعَ السُّلْطَانُ رَجُلًا أَرْضًا: أَيْ
أَعْطَاهُ إيَّاهَا وَخَصَّصَهُ بِهَا. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا)
إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهَا. الْعَطَنُ:
مُنَاخُ الْإِبِلِ وَمَبْرَكُهَا.
قَوْلُهُ (قِيلَ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ) يَعْنِي يَكُونُ
فِي كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا
أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» فَإِنَّهُ بِظَاهِرِهِ
يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ
صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأُولَى كَيْ لَا يَحْفِرَ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا
أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا
(10/73)
إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا (وَإِنْ كَانَتْ
لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَهُمَا قَوْلُهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسمِائَةِ
ذِرَاعٍ. وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ
بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ
إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ
وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ
فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ،
وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ "
مِنْ " كُلِّ جَانِبٍ بِيَقِينٍ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ فِي
الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ يَتَيَقَّنُ بِدَفْعِ الضَّرَرِ. وَالنَّاضِحُ: الْبَعِيرُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ مَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا
أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» يَعْنِي بَيْنَ الْعَطَنِ
وَالنَّاضِحِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ عَطَنًا
لِمَاشِيَتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِلتَّغْلِيبِ لَا
لِلتَّقْيِيدِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي انْتِفَاعِ الْآبَارِ فِي
الْفَلَوَاتِ هَذَا الطَّرِيقُ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَطَنِ ذِكْرًا
لِجَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَذَرُوا
الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] قَيَّدَ بِالْبَيْعِ لِمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ الْبَيْعُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] وَالْوَعِيدُ
لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِالْأَكْلِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِ
الْأَكْلُ فَأَخْرَجَهُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْغَالِبُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: حَدَّثَنَا
أَشْعَبُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: حَرِيمُ
الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا
وَهَاهُنَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ وَفِي مَائِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ)
(10/74)
أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ
الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ
يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ
الْحَفْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ
الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ؛
وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ
النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُهُ أَنْ
يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى
زِيَادَةِ مَسَافَةٍ: قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا
خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى
زِيَادَةِ مَسَافَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا
بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ
فِيهِ الْمَاءُ.
وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ
بِالزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا
ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
يُرِيدُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " مَنْ حَفَرَ
بِئْرًا " لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَنْ " تُفِيدُ الْعُمُومَ (أَوْلَى
عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (مِنْ
الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ) يُرِيدُ بِهِ
حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ،
وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَطَنُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ
النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» . وَرُدَّ عُمُومُ الْأَوَّلِ بِأَنَّ
مَعْنَاهُ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلْعَطَنِ فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا
أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْعَطَنِ كَمَا تَرَى. وَأُجِيبَ
بِأَنَّ عَطَنًا لَيْسَ صِفَةً لِبِئْرٍ حَتَّى يَكُونَ مُخَصِّصًا،
وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْحَاجَةِ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِيَكُونَ
دَافِعًا لِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ
الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَافِرِ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ
وَاسْتِحْقَاقَهُ بِالْعَمَلِ، فَفِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ اسْتِحْقَاقُهُ
لَكِنَّا تَرَكْنَاهُ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَاتْرُكْهُ فِي النَّاضِحِ
أَيْضًا لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّحَكُّمُ. قُلْنَا:
حَدِيثُهُ فِيهِ مُعَارَضٌ بِالْعُمُومِ فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا
بَعْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَحَفِظْنَاهُ. وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا
إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَرِيمُ
الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ» وَقَوْلُهُ (وَالذِّرَاعُ هِيَ
الْمُكَسَّرَةُ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ سِتَّ قَبَضَاتِ وَهُوَ ذِرَاعُ
الْعَامَّةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ عَنْ
ذِرَاعِ الْمَلِكِ وَهُوَ بَعْضُ الْأَكَاسِرَةِ بِقَبْضَةٍ، وَقَوْلُهُ
(لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ
مِنْ قَوْلِهِ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ
فَإِنَّهَا هِيَ الْمُكَسَّرَةُ.
(10/75)
وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْعَيْنِ
وَالْبِئْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِصَلَابَةٍ بِهَا وَفِي
أَرَاضِيِنَا رَخَاوَةٌ فَيُزَادُ كَيْ لَا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى
الثَّانِي فَيَتَعَطَّلَ الْأَوَّلُ. قَالَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ
فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْوِيتِ حَقِّهِ
وَالْإِخْلَالِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْحَفْرِ مَلَكَ الْحَرِيمَ
ضَرُورَةً تُمَكِّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ؛ فَإِنْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ
الْأَوَّلِ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُصْلِحَهُ وَيَكْبِسَهُ تَبَرُّعًا، وَلَوْ
أَرَادَ أَخْذَ الثَّانِي فِيهِ قِيلَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَكْبِسَهُ؛
لِأَنَّ إزَالَةَ جِنَايَةِ حَفْرِهِ بِهِ كَمَا فِي الْكُنَاسَةِ
يُلْقِيهَا فِي دَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِرَفْعِهَا، وَقِيلَ
يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ ثُمَّ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ
جِدَارَ غَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي
لِلْخَصَّافِ.
وَذَكَرَ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ، وَمَا عَطِبَ فِي الْأَوَّلِ
فَلَا ضَمَانَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، إنْ كَانَ بِإِذْنِ
الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا.
وَالْعُذْرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْحَفْرِ تَحْجِيرًا
وَهُوَ بِسَبِيلٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ لَا
يَمْلِكُهُ بِدُونِهِ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَفِيهِ الضَّمَانُ؛
لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ حَيْثُ حَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَإِنْ
حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا وَرَاءَ حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَذَهَبَ مَاءُ
الْبِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ
فِي حَفْرِهَا، وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ
دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْحَافِرِ الْأَوَّلِ فِيهِ
(وَالْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا) وَعَنْ مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ. وَقِيلَ هُوَ
عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ لَا حَرِيمَ لَهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمَاءُ
عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ فِي التَّحْقِيقِ فَيُعْتَبَرُ
بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ. قَالُوا: وَعِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ عَلَى
الْأَرْضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهُ
بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ (وَالشَّجَرَةُ تُغْرَسُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَهَا
حَرِيمٌ أَيْضًا حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي
حَرِيمِهَا) ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى حَرِيمٍ لَهُ يَجِدُ فِيهِ
ثَمَرَهُ وَيَضَعُهُ فِيهِ وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِخَمْسَةِ أَذْرُعٍ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ.
قَالَ (وَمَا تَرَكَ الْفُرَاتُ أَوْ الدِّجْلَةُ وَعَدَلَ عَنْهُ الْمَاءُ
وَيَجُوزُ عَوْدُهُ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْيَاؤُهُ) لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ
إلَى كَوْنِهِ نَهْرًا (وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ
فَهُوَ كَالْمَوَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ) ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ، لِأَنَّ قَهْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا يُمْنَعُ مِنْهُ)
كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (أَنْ يَطِمَّهُ) أَيْ يُصْلِحَهُ
وَيَكْبِسَهُ مِنْ بَابِ: أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرْمُهُ فِي كَوْنِ
الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ فَإِنَّ إصْلَاحَهُ كَبْسُهُ. قَوْلُهُ (وَذَكَرَ
طَرِيقَةَ مَعْرِفَةِ النُّقْصَانِ) وَهُوَ أَنْ يَقُومَ الْأَوَّلُ قَبْلَ
حَفْرِ الثَّانِيَةِ وَبَعْدَهُ فَيَضْمَنُ نُقْصَانَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَالْقَنَاةُ: مَجْرَى الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ تُسَمَّى
بِالْفَارِسِيَّةِ كاريز.
وَقَوْلُهُ (بِهِ وَرَدَ الْحَدِيثُ) يُرِيدُ بِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ
رَجُلًا
(10/76)
الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَهُوَ
الْيَوْمَ فِي يَدِ الْإِمَامِ.
قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ
حَرِيمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى
ذَلِكَ، وَقَالَا: لَهُ مُسْنَاةُ النَّهْرِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيُلْقِي
عَلَيْهَا طِينَهُ) قِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ
حَفَرَ نَهْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَحِقُّ
الْحَرِيمَ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْحَرِيمِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَشْيِ
لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَادَةً فِي بَطْنِ
النَّهْرِ وَإِلَى إلْقَاءِ الطِّينِ، وَلَا يُمْكِنُهُ النَّقْلُ إلَى
مَكَان بَعِيدٍ إلَّا بِحَرَجٍ فَيَكُونُ لَهُ الْحَرِيمُ اعْتِبَارًا
بِالْبِئْرِ. وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ،
وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ
فِيهِ فَوْقَهَا إلَيْهِ فِي النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ
فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ
إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ وَلَا اسْتِقَاءَ إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ
الْإِلْحَاقُ.
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ تَثْبُتُ الْيَدُ
عَلَيْهِ اعْتِبَارًا تَبَعًا لِلنَّهْرِ، وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الْيَدِ،
وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَنْعَدِمُ الْيَدُ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ
لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَلَهُمَا أَنَّ الْحَرِيمَ فِي
يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِاسْتِمْسَاكِهِ الْمَاءَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا
يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ.
وَلَهُ أَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْأَرْضِ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةً
فَلِاسْتِوَائِهِمَا، وَمَعْنًى مِنْ حَيْثُ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْغَرْسِ
وَالزِّرَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ
بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَجَاءَ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ
شَجَرَةً أُخْرَى بِجَنْبِ شَجَرَتِهِ، فَشَكَا صَاحِبُ الشَّجَرَةِ
الْأُولَى إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فَجَعَلَ لَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ
الْحَرِيمِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ وَأَطْلَقَ لِلْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ»
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ.
(قَوْلُهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ) ذَكَرَ فِي
شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ أَنَّ نَهْرًا لِرَجُلٍ وَأَرْضًا عَلَى
شَاطِئِ النَّهْرِ لِآخَرَ فَتَنَازَعَا فِي الْمُسَنَّاةِ، فَإِنْ كَانَ
بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَ النَّهْرِ حَائِلٌ كَالْحَائِطِ وَنَحْوِهِ
فَالْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا حَائِلٌ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ
لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَلِصَاحِبِ النَّهْرِ فِيهَا حَقٌّ، حَتَّى إنَّ
صَاحِبَ الْأَرْضِ إذَا أَرَادَ رَفْعَهَا: أَيْ هَدْمَهَا كَانَ لِصَاحِبِ
النَّهْرِ مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْمُسَنَّاةُ
لِصَاحِبِ النَّهْرِ. وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ أَنَّ
الِاخْتِلَافَ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهِ فِي كُلِّ
حِينٍ، أَمَّا الْأَنْهَارُ الصِّغَارُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى كَرْبِهَا
فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَهَا حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي
النِّهَايَةِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يُنَافِيهِ وَقَوْلُهُ
(فَيَكُونُ لَهُ حَرِيمٌ اعْتِبَارًا بِالْبِئْرِ) يَعْنِي بِجَامِعِ
الِاحْتِيَاجِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ الْحَاجَةَ وَهِيَ
مَوْجُودَةٌ فِي النَّهْرِ كَهِيَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَيَتَعَدَّى
الْحُكْمُ مِنْهُمَا إلَيْهِ (وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ
الْحَرِيمِ إلَى آخِرِهِ. وَفِي الْبِئْرِ عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ فَكَانَ
الْحُكْمُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَصِحُّ
تَعْدِيَتُهُ، وَقَوْلُهُ (وَالْحَاجَةُ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ) أَيْ فِي
الْبِئْرِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ هَبْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ
فَلْيَلْحَقْ بِهِ بِالدَّلَالَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِلْحَاقَ بِالدَّلَالَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَعْلَى
بِالْأَدْنَى أَوْ الْمُسَاوِي، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ
كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ فِيهِ: أَيْ فِي الْبِئْرِ
بِمَعْنَى الْقَلِيبِ فَوْقَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي النَّهْرِ، لِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي النَّهْرِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْحَرِيمِ،
وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبِئْرِ إلَّا بِالِاسْتِقَاءِ، وَلَا اسْتِقَاءَ
إلَّا بِالْحَرِيمِ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ.
وَقَوْلُهُ (وَوَجْهُ الْبِنَاءِ، إلَى قَوْلِهِ: وَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ
الْيَدِ) مِنْ جِهَتِهِمَا. وَقَوْلُهُ (وَلِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَى
آخِرِهِ) مِنْ جِهَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَوْلُهُ
(أَمَّا صُورَةً فَلِاسْتِوَائِهِمَا) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ
فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُسَنَّاةُ مُرْتَفِعَةً
(10/77)
كَاثْنَيْنِ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ
بَابٍ لَيْسَ فِي يَدِهِمَا، وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُعَلَّقٌ عَلَى
بَابِ أَحَدِهِمَا يُقْضَى لِلَّذِي فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ
بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ قَضَاءُ
تَرْكٍ، وَلَا نِزَاعَ فِيمَا بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ إنَّمَا
النِّزَاعُ فِيمَا وَرَاءَهُ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْغَرْسِ، عَلَى أَنَّهُ
إنْ كَانَ مُسْتَمْسِكًا بِهِ مَاءُ نَهْرِهِ فَالْآخَرُ دَافِعٌ بِهِ
الْمَاءَ عَنْ أَرْضِهِ، وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ تَعَلُّقُ حَقِّ
صَاحِبِ النَّهْرِ لَا مِلْكُهُ. كَالْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ
جُذُوعٌ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ مَلَكَهُ (وَفِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ وَلِآخَرَ
خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ أَرْضٌ تَلْزَقُهَا، وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي
يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) .
وَقَالَا: هِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمًا لِمُلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ وَلَيْسَتْ الْمُسَنَّاةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا
مَعْنَاهُ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ وَلَا طِينٌ مُلْقًى
فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، أَمَّا إذَا كَانَ
لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَاحِبُ الشُّغْلِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ
صَاحِبُ يَدٍ. وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ غَرْسٌ لَا يُدْرَى مَنْ غَرَسَهُ
فَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ أَيْضًا.
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ وِلَايَةَ الْغَرْسِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ. وَأَمَّا إلْقَاءُ الطِّينِ
فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقِيلَ إنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ
ذَلِكَ مَا لَمْ يُفْحِشْ. وَأَمَّا الْمُرُورُ فَقَدْ قِيلَ يُمْنَعُ
صَاحِبُ النَّهْرِ عِنْدَهُ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُ لِلضَّرُورَةِ. قَالَ
الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: آخُذُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ
وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ. ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ
حَرِيمَهُ مِقْدَارُ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَعَنْ
مُحَمَّدٍ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَهَذَا
أَرْفَقُ بِالنَّاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَنْ الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْمُسَنَّاةُ أَرْفَعَ مِنْ
الْأَرْضِ فَهِيَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ
ارْتِفَاعَهُ لِإِلْقَاءِ طِينِهِ. وَقَوْلُهُ (يُقْضَى لِلَّذِي فِي
يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمُتَنَازَعِ فِيهِ) هُوَ الْمَوْعُودُ
بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. وَقَوْلُهُ (وَالْقَضَاءُ فِي مَوْضِعِ
الْخِلَافِ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ كَانَ لَهُ نَهْرٌ فِي أَرْضِ
غَيْرِهِ قَضَاءُ تَرْكٍ لَا قَضَاءُ مِلْكٍ، فَلَوْ أَقَامَ صَاحِبُ
النَّهْرِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُسَنَّاةَ مِلْكُهُ
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءَ مِلْكٍ لَمَا قُبِلَتْ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ فِي حَادِثَةٍ قَضَاءُ مِلْكٍ
لَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا لَهُ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (وَلَا نِزَاعَ فِيمَا
بِهِ اسْتِمْسَاكُ الْمَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا إنَّ الْحَرِيمَ فِي
يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ بِإِمْسَاكِ الْمَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَانِعُ مِنْ نَقْضِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا
وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَقْضَهُ، وَذَكَرَ رِوَايَةَ
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ.
وَقَوْلُهُ (لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسَنَّاةِ
بِتَأْوِيلِ الْحَرِيمِ.
(10/78)
(وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ
بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ الشَّفَةِ،
وَالشَّفَةُ الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ) اعْلَمْ أَنَّ
الْمِيَاهَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَاءُ الْبِحَارِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
النَّاسِ فِيهَا حَقُّ الشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِيِ، حَتَّى إنَّ مَنْ
أَرَادَ أَنْ يَكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ
ذَلِكَ، وَالِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبَحْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى
أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَالثَّانِي مَاءُ الْأَوْدِيَةِ الْعِظَامِ
كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ لِلنَّاسِ فِيهِ حَقُّ
الشَّفَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقُّ سَقْيِ الْأَرَاضِيِ، فَإِنْ أَحْيَا
وَاحِدٌ أَرْضًا مَيْتَةً وَكَرَى مِنْهُ نَهْرًا لِيَسْقِيَهَا.
إنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ النَّهْرُ فِي مِلْكِ
أَحَدٍ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إذْ قَهْرُ
الْمَاءِ يَدْفَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ
فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ،
وَذَلِكَ فِي أَنْ يَمِيلَ الْمَاءُ إلَى هَذَا الْجَانِبِ إذَا
انْكَسَرَتْ ضِفَّتُهُ فَيُغْرِقَ الْقُرَى وَالْأَرَاضِي، وَعَلَى هَذَا
نَصْبُ الرَّحَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شَقَّ النَّهْرِ لِلرَّحَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فُصُولٌ فِي مَسَائِلِ الشِّرْبِ] [فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ]
ِ) (فَصْلٌ فِي الْمِيَاهِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ذَكَرَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ
مَسَائِلِ الشُّرْبِ، لِأَنَّ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ،
وَقَدَّمَ فَصْلَ الْمِيَاهِ عَلَى فَصْلِ الْكَرْيِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
هُوَ الْمَاءُ. وَالشَّفَةُ أَصْلُهَا شَفَهَةٌ أُسْقِطَتْ الْهَاءُ
تَخْفِيفًا، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الشُّرْبُ بِالشِّفَاهِ.
وَجَيْحُونُ: نَهْرُ خُوَارِزْمَ وَسَيْحُونٌ: نَهْرُ التُّرْكِ.
وَدِجْلَةُ نَهْرُ بَغْدَادَ: وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْكُوفَةِ: وَضِفَّةُ
النَّهْرِ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ: حَافَّتُهُ وَأَنَّثَ ثَلَاثٍ فِي
قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي
ثَلَاثٍ» لِأَنَّ الْفَصِيحَ فِي الْكَلَامِ إذَا لَمْ يُذْكَرْ
الْمَعْدُودُ أَنْ يُذْكَرَ عَلَى لَفْظِ الْمُؤَنَّثِ نَظَرًا إلَى لَفْظِ
الْأَعْدَادِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» الْحَدِيثَ.
وَالصَّوْمُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَيَّامِ لَا فِي اللَّيَالِي.
وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ الْمَعْدُودَ وَهُوَ الْأَيَّامُ أَنَّثَهُ.
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " شُرَكَاءُ " يُرِيدُ
بِهِ الْإِبَاحَةَ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يُحْرَزْ نَحْوُ الْحِيَاضِ
وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَأَمَّا الْكَلَأُ وَهُوَ مَا
لَا سَاقَ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يَنْبُتَ فِي أَرْضِ شَخْصٍ أَوْ أَنْبَتَهُ
فِيهَا بِكَرْيِ الْأَرْضِ وَسَقْيِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ
مُبَاحًا لِلنَّاسِ إلَّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ مِلْكَهُ إلَّا
بِإِذْنِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ فَإِمَّا
أَنْ يَخْرُجَ لَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ،
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ لِأَنَّهُ
(10/79)
كَشَقِّهِ لِلسَّقْيِ بِهِ. وَالثَّالِثُ
إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي الْمَقَاسِمِ فَحَقُّ الشَّفَةِ ثَابِتٌ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّارِ»
وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الشِّرْبَ، وَالشِّرْبُ خُصَّ مِنْهُ الْأَوَّلُ
وَبَقِيَ الثَّانِي وَهُوَ الشَّفَةُ، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ وَنَحْوَهَا مَا
وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ. وَلَا يُمْلَكُ الْمُبَاحُ بِدُونِهِ كَالظَّبْيِ
إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِهِ، وَلِأَنَّ فِي إبْقَاءِ الشَّفَةِ ضَرُورَةً؛
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ إلَى كُلِّ
مَكَان وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَظَهْرِهِ؛ فَلَوْ مُنِعَ
عَنْهُ أَفْضَى إلَى حَرَجٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسْقِيَ
بِذَلِكَ أَرْضًا أَحْيَاهَا كَانَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ
عَنْهُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَاصٌّ لَهُمْ
وَلَا ضَرُورَةَ. وَلِأَنَّا لَوْ أَبَحْنَا ذَلِكَ لَانْقَطَعَتْ
مَنْفَعَةُ الشِّرْبِ.
وَالرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحَرَّزُ فِي الْأَوَانِي وَأَنَّهُ صَارَ
مَمْلُوكًا لَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَانْقَطَعَ حَقُّ غَيْرِهِ عَنْهُ كَمَا
فِي الصَّيْدِ الْمَأْخُوذِ، إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ
الشَّرِكَةِ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا، حَتَّى لَوْ
سَرَقَهُ إنْسَانٌ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ وُجُودُهُ وَهُوَ يُسَاوِي
نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْبِئْرُ أَوْ الْعَيْنُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي
مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ
فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً آخَرَ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ
فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ يُقَالُ لِصَاحِبِ
النَّهْرِ: إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الشَّفَةَ أَوْ تَتْرُكَهُ يَأْخُذُ
بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ
الطَّحَاوِيِّ، وَقِيلَ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا احْتَفَرَ فِي
أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ. أَمَّا إذَا احْتَفَرَهَا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا
وَالْحَفْرُ لِإِحْيَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَقْطَعُ الشِّرْكَةَ فِي
الشَّفَةِ، وَلَوْ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ
أَوْ ظَهْرِهِ الْعَطَشَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّهُ
قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ حَقِّهِ وَهُوَ الشَّفَةُ، وَالْمَاءُ فِي
الْبِئْرِ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، بِخِلَافِ الْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي
الْإِنَاءِ حَيْثُ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
مَلَكَهُ، وَكَذَا الطَّعَامُ عِنْدَ إصَابَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَقِيلَ فِي
الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ
بِعَصًا؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ
التَّعْزِيرِ لَهُ؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
حَصَلَ بِكَسْبِهِ وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ.
وَأَمَّا النَّارُ فَمَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي أَرْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ
فِيهَا حَقٌّ فَلَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ
الِاصْطِلَاءُ بِهَا وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ وَأَنْ يَعْمَلَ بِضَوْئِهَا،
وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا
بِرِضَاهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَحْمٌ أَوْ حَطَبٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الْمُوقِدُ
لَيْسَ مِمَّا تَثْبُتُ فِيهِ الشَّرِكَةُ. وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ نَظَرًا
إلَى الدَّلِيلِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَقَوْلُهُ (حَتَّى لَوْ
سَرَقَهُ إنْسَانٌ لَمْ يُقْطَعْ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَلَى
هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}
[البقرة: 29] يُورِثُ الشُّبْهَةَ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ يُوَافِقُ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هُوَ
الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ الْآيَةَ، وَلَا يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِهِ إبْطَالُ
الْكِتَابِ. بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ فَإِنَّ
الْعَمَلَ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُبْطِلُ قَوْله تَعَالَى {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي} [النور: 2] . {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]
وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا دَلَّ
(10/80)
وَالشَّفَةُ إذَا كَانَ يَأْتِي عَلَى
الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا. وَفِيمَا يَرِدُ مِنْ
الْإِبِلِ وَالْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ بِشُرْبِهَا قِيلَ
لَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ لَا تَرِدُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ
وَصَارَ كَالْمُيَاوَمَةِ وَهُوَ سَبِيلٌ فِي قِسْمَةِ الشِّرْبِ. وَقِيلَ
لَهُ أَنْ يَمْنَعَ اعْتِبَارًا: بِسَقْيِ الْمَزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ
وَالْجَامِعُ تَفْوِيتُ حَقِّهِ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ
لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الصَّحِيحِ،؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ
بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِيهِ كَمَا قِيلَ يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ
وَهُوَ مَدْفُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي
دَارِهِ حَمْلًا بِجِرَارِهِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ النَّاسَ
يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْ الدَّنَاءَةِ، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَنَخْلَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ هَذَا
الرَّجُلِ وَبِئْرِهِ وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا، وَلَهُ أَنْ
يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمَقَاسِمِ
انْقَطَعَتْ شِرْكَةُ الشِّرْبِ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهِ
قَطْعَ شِرْبَ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّ الْمَسِيلَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ،
وَالضِّفَّةِ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّهُ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فِيهِ
وَلَا شَقُّ الضِّفَّةِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِي ذَلِكَ أَوْ
أَعَارَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَتُجْرَى فِيهِ
الْإِبَاحَةُ كَالْمَاءِ الْمُحَرَّزِ فِي إنَائِهِ.
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْأَنْهَارُ ثَلَاثَةٌ: نَهْرٌ غَيْرُ
مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَلَمْ يَدْخُلْ مَاؤُهُ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ
كَالْفُرَاتِ وَنَحْوِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَلَيْهِ الْخُصُوصَاتُ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ
اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْمُزَارِعِ وَالْمَشَاجِرِ) ذَكَرَ فِي
الْمَبْسُوطِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُمْنَعَ فِي مِثْلِ
هَذِهِ الصُّوَرِ، لِأَنَّ الشَّفَةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ
وَالْبِئْرِ. فَأَمَّا مَا يَضُرُّ وَيَقْطَعُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ
ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْجَدْوَلِ
الصَّغِيرِ عُلِمَ مِنْ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ (فِي
الصَّحِيحِ) إشَارَةٌ إلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَأْخُذُونَ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ
وَغَسْلِ الثِّيَابِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفَةِ لَا
غَيْرُ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَقَوْلُهُ (لَهُ
ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ
مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي إذْ قَالُوا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ
صَاحِبِ النَّهْرِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ
الْمَاءَ مَتَى دَخَلَ فِي الْمُقَاسِمِ) أَيْ مَتَى دَخَلَ فِي قِسْمَةِ
رَجُلٍ بِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ (بِوَاحِدَةٍ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ.
[فَصْلٌ فِي كَرْيِ الْأَنْهَارِ]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ احْتَاجَ إلَى ذِكْرِ
مُؤْنَةِ كَرْيِ الْأَنْهَارِ الَّتِي كَانَ الشُّرْبُ مِنْهَا. وَلَكِنْ
لَمَّا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى النَّهْرِ إذْ
النَّهْرُ يُوجَدُ بِدُونِ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ كَالنَّهْرِ الْعَامِّ
أَخَّرَ ذِكْرَهُ.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّهْرَ إمَّا
أَنْ
(10/81)
وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي
الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهُ عَامٌّ. وَنَهْرٌ مَمْلُوكٌ دَخَلَ مَاؤُهُ فِي
الْقِسْمَةِ وَهُوَ خَاصٌّ. وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْقَاقُ
الشَّفَةِ بِهِ وَعَدَمُهُ. فَالْأَوَّلُ كَرْيُهُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ
بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لَهُمْ
فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُصْرَفُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ
الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَوَّلَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ فَالْإِمَامُ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ
إحْيَاءً
لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
إذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عُمَرُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ، إلَّا
أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ وَيُجْعَلُ مُؤْنَتُهُ عَلَى
الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛
لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى
الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ عَلَى كَرْيِهِ
دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ
وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ؛
وَلَوْ أَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ
عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِيِ وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي،
وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ بِخِلَافِ الْكَرْيِ؛ لِأَنَّهُ
مَعْلُومٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْخَاصُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ قِيلَ يُجْبَرُ الْآبِي
كَمَا فِي الثَّانِي. وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَى
الْآبِي بِمَا أَنْفَقُوا فِيهِ إذَا كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَاسْتَوَتْ
الْجِهَتَانِ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُجْبَرُ لِحَقِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
يَكُونَ عَامًّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ خَاصًّا كَذَلِكَ، أَوْ عَامًّا
مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَالْفُرَاتِ
وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ وَدِجْلَةَ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ فَصَلَ
الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَهُمَا بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَةِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ لَهُ)
أَيْ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ: أَيْ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى
الْعَمَلِ (وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ) أَيْ مُؤْنَةَ مَنْ يُطِيقُهُ عَلَى
الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُفْعَلُ
ذَلِكَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ
الْقِتَالَ وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. وَقَوْلُهُ
(وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ) يَعْنِي حِصَّةً مِنْ الشُّرْبِ فَلَا يُعَارَضُ
بِهِ، أَيْ فَلَا يُعَارَضُ الضَّرَرُ الْعَامُّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ،
بَلْ يُغَلَّبُ جَانِبُ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَيُجْعَلُ ضَرَرًا، وَيَجِبُ
السَّعْيُ فِي إعْدَامِهِ وَإِنْ بَقِيَ الضَّرَرُ الْخَاصُّ. وَقَوْلُهُ
(خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ) يُقَالُ بَثَقَ السَّيْلُ مَوْضِعَ كَذَا: أَيْ
خَرَقَهُ وَشَقَّهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ
لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةُ تَعُودُ إلَيْهِمْ عَلَى الْخُلُوصِ. ثُمَّ قِيلَ:
يُجْبَرُ الْآبِي كَمَا فِي الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ
الْإِسْكَافِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقِيلَ لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَقَوْلُهُ (فَاسْتَوَتْ الْجِهَتَانِ) يَعْنِي فِي الْخُصُوصِ، بِخِلَافِ
مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ الْإِجْبَارُ فِي النَّهْرِ الثَّانِي، فَإِنَّ مَنْ
أَبَى مِنْ أَهْلِهِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لِأَنَّ إحْدَى
الْجِهَتَيْنِ عَامٌّ وَالْأُخْرَى خَاصٌّ، فَيُجْبَرُ الْآبِي دَفْعًا
لِلضَّرَرِ الْعَامِّ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا جَبْرَ لِحَقِّ
الشَّفَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ
إحْيَاءُ حَقِّ الشَّفَةِ الْعَامَّةِ فَيَكُونُ فِي التَّرْكِ ضَرَرٌ
عَامٌّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبَرَ الْآبِي عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا
لِلضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الشَّفَةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ
مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا
يُجْبَرُ الْآبِي لِحَقِّ
(10/82)
الشَّفَةِ كَمَا إذَا امْتَنَعُوا جَمِيعًا
وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ،
فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ رُفِعَ عَنْهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَا: هِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ
أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرْضِينَ؛ لِأَنَّ
لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى
تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ
الْكَرْيِ الِانْتِفَاعُ بِالسَّقْيِ، وَقَدْ حَصَلَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى
فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ السَّيْلِ
عِمَارَتُهُ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ مَسِيلٌ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ، كَيْفَ
وَأَنَّهُ يُمْكِنُهُ دَفْعَ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ بِسَدِّهِ مِنْ
أَعْلَاهُ، ثُمَّ إنَّمَا يُرْفَعُ عَنْهُ إذَا جَاوَزَ أَرْضَهُ كَمَا
ذَكَرْنَاهُ، وَقِيلَ إذَا جَاوَزَ فُوَّهَةَ نَهْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ
عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّخَاذِ الْفُوَّهَةِ
مِنْ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ حَتَّى
سَقَطَتْ عَنْهُ مُؤْنَتُهُ قِيلَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءُ لِيَسْقِيَ
أَرْضَهُ لِانْتِهَاءِ الْكَرْيِ فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ نَفْيًا لِاخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ عَلَى
أَهْلِ الشَّفَةِ مِنْ الْكَرْيِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ
وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَهْلِ الشَّفَةِ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّهْرِ عَنْ
كَرْيِهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْكَرْيِ لِحَقِّ أَهْلِ
الشَّفَةِ. وَقَوْلُهُ (وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ)
ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (فَلَا يَلْزَمُهُ إنْفَاعُ غَيْرِهِ) قَالَ فِي
النِّهَايَةِ: الصَّوَابُ نَفْعُ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْإِنْفَاعَ فِي
مَعْنَى النَّفْعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ لَا
يُحْصَوْنَ) يَعْنِي فَكَانُوا مَجْهُولِينَ.
(10/83)
قَالَ (وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ
بِغَيْرِ أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْلَكُ بِدُونِ
الْأَرْضِ إرْثًا، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ وَيَبْقَى الشِّرْبُ لَهُ
وَهُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَصِحُّ فِيهِ الدَّعْوَى (وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ
لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ
لَا يُجْرَى النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ) ؛ لِأَنَّهُ
مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ. فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ يَكُونُ
الْقَوْلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فَصْلٌ فِي الدَّعْوَى وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ]
لَمَّا قَرُبَ مِنْ فَرَاغِ بَيَانِ مَسَائِلِ الشُّرْبِ خَتَمَهُ بِفَصْلٍ
يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ مَسَائِلِ الشُّرْبِ (يَجُوزُ
دَعْوَى الشُّرْبِ بِلَا أَرْضٍ اسْتِحْسَانًا) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ:
يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ
صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ،
وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ، وَوَجْهُ
الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (تُرِكَ عَلَى حَالِهِ) مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ.
(10/84)
قَوْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ،
وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ
لَهُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ
يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِي لَهُ لِإِثْبَاتِهِ
بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا
الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى
فِي دَارِ غَيْرِهِ، فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا نَظِيرُهُ فِي
الشِّرْبِ
(وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ كَانَ
الشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، بِخِلَافِ
الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّطَرُّقُ وَهُوَ فِي الدَّارِ
الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ
الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ لَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَلَكِنَّهُ
يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى
النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ
يَسْكُرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ
لَهُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ لَا يَسْكُرُ
بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا
بِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ
عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ إلَّا بِرِضَا أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ
ضِفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مَوْضِعٍ مُشْتَرَكٍ بِالْبِنَاءِ، إلَّا أَنْ
يَكُونَ رَحًى لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ، وَيَكُونُ
مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ
نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ) يَعْنِي بِأَنْ لَمْ يَكُنْ
مُسْتَعْمَلًا بِإِجْرَائِهِ مَاءَهُ فِيهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ أَشْجَارُهُ
فِي طَرَفَيْ النَّهْرِ فَعَلَيْهِ: أَيْ فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ
أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ إنْ كَانَ يَدَّعِي رَقَبَةَ النَّهْرِ، أَوْ
أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ
لِيَسْقِيَهَا إنْ كَانَ يَدَّعِي الْإِجْرَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ،
فَإِذَا أَقَامَهَا يُقْضَى لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكًا لَهُ:
يَعْنِي فِي الْأَوَّلِ أَوْ حَقًّا مُسْتَحَقًّا فِيهِ: يَعْنِي فِي
الثَّانِي، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ كَالثَّابِتِ
مُعَايَنَةً. وَقَوْلُهُ (فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهَا) أَيْ اخْتِلَافُ
الْمُدَّعِينَ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ (نَظِيرُهُ) أَيْ نَظِيرُ
الِاخْتِلَافِ فِي الشُّرْبِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِهَا فَيَتَقَدَّرُ
بِقَدْرِهِ) مُعَارَضٌ لِأَنَّهُمْ قَالُوا قَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ
الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي فِي النَّهْرِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي
الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
إثْبَاتَ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ،
وَانْتِفَاعُ مَنْ لَهُ عَشْرُ قِطَعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ
لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسَاوِي فِي إثْبَاتِ
الْيَدِ. وَقَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ
الْأَعْلَى السَّكْرُ (لِمَا فِيهِ) أَيْ فِي السَّكْرِ مِنْ إبْطَالِ
حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ
سَكْرٍ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ)
(10/85)
وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ مَا
بَيَّنَّاهُ مِنْ كَسْرِ ضِفَّتِهِ، وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ
سُنَنِهِ الَّذِي كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِ، وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ
نَظِيرُ الرَّحَى، وَلَا يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا وَلَا قَنْطَرَةً
بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
لِوَاحِدٍ نَهْرٌ خَاصٌّ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ
فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ لَهُ ذَلِكَ،
أَوْ كَانَ مُقَنْطِرًا مُسْتَوْثِقًا فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ
وَلَا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ
{لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَضْعًا وَرَفْعًا. وَلَا
ضَرَرَ بِالشُّرَكَاءِ بِأَخْذِ زِيَادَةِ الْمَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ
يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ،
وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ، وَكَذَا إذَا
كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا
عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ
لِاحْتِبَاسِ الْمَاءِ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ.
بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهَا حَيْثُ
يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي
الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ
اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ وَالتَّرَفُّعِ وَهُوَ الْعَادَةُ فَلَمْ يَكُنْ
فِيهِ تَغْيِيرُ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ
وَقَعَتْ بِالْكُوَى فَأَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُقَسِّمَ بِالْأَيَّامِ
لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ
الْحَقِّ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي
نَهْرٍ خَاصٍّ لَيْسَ لِوَاحِدٍ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا
يَضُرُّ بِأَهْلِهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ خَاصَّةٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا
كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ
أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي
الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى
(وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى
أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ شِرْبٌ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا
تَقَادَمَ الْعَهْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقُّهُ (وَكَذَا إذَا
أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
يَعْنِي إذَا اصْطَلَحُوا عَلَى السَّكْرِ لَيْسَ لِمَنْ يَسْكُرُ أَنْ
يَسْكُرَ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَنَحْوِهِ إذَا
أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابِ خَشَبٍ لِكَوْنِهِ إضْرَارًا
بِهِمْ فَيَمْنَعُ مَا فَضَلَ عَنْ السَّكْرِ عَنْهُمْ إلَّا إذَا رَضُوا
بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الشُّرْبُ إلَّا
بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ يَبْدَأُ أَهْلُ الْأَسْفَلِ
حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْأَهْلِ لِأَعْلَى أَنْ
يَسْكُرُوا لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثُ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ
الْمُشْتَرَكِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ حَقُّ جَمِيعِ
الشُّرَكَاءِ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا
فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ، وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهْلُ أَسْفَلِ
النَّهْرِ أُمَرَاءُ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا لِأَنَّ
لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ وَعَلَيْهِمْ
طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك.
وَقَوْلُهُ (وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ نَظِيرُ الرَّحَى)
الدَّالِيَةُ: جِذْعٌ طَوِيلٌ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأَرُزِّ
وَفِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ يُسْقَى بِهَا. وَالسَّانِيَةُ
الْبَعِيرُ يَسْتَقِي مِنْ الْبِئْرِ. وَالْجِسْرُ: اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ
وَيُرْفَعُ مِمَّا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ الْخَشَبِ وَالْأَلْوَاحِ،
وَالْقَنْطَرَةُ: مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْحَجَرِ وَالْآجُرِّ مَوْضُوعًا
لَا يُرْفَعُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ
مُشْتَرَكٍ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ
مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ
بِالْكُوَى) الْكُوَّةُ: ثُقْبُ الْبَيْتِ وَالْجَمْعُ كِوَاءٌ بِالْمَدِّ،
وَكُوًى مَقْصُورٌ، وَيُسْتَعَارُ لِمَفَاتِحِ الْمَاءِ إلَى الْمَزَارِعِ
وَالْجَدَاوِلِ فَيُقَالُ كُوَى النَّهْرِ، وَمَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يُوَسِّعَ الْكَوَّةَ وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا
عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَيَجْعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْهُ) أَيْ
مِنْ فَمِ النَّهْرِ، هَذَا تَقْدِيرٌ اتِّفَاقِيٌّ وَالْعِبْرَةُ
لِلِاحْتِبَاسِ.
(10/86)
فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ
إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى) ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً
عَلَى حَقِّهِ، إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ
أَنْ تُسْقَى الْأَرْضُ الْأُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ
أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى
سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي يَفْتَحُهَا فِي هَذَا
الطَّرِيقِ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ
الْخَاصِّ وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا
لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْآخَرِ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ
يُقَسِّمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ
بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ
لَهُمَا، وَبَعْضُ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ
ذَلِكَ. وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ
الشِّرْبِ، فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ،
وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ،
بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ
حَيْثُ لَا تَجُوزُ الْعُقُودُ إمَّا لِلْجَهَالَةِ أَوْ لِلْغَرَرِ، أَوْ
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى لَا يَضْمَنَ إذَا سَقَى مِنْ
شِرْبِ غَيْرِهِ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْعُقُودُ فَالْوَصِيَّةُ بِالْبَاطِلِ
بَاطِلَةٌ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ حَتَّى يَجِبَ
مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا فِي الْخُلْعِ حَتَّى يَجِبَ رَدُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَصُورَةُ هَذَا إذَا كَانَتْ الْأَلْوَاحُ الَّتِي فِيهَا الْكُوَّةُ فِي
فَمِ النَّهْرِ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ
فَيَجْعَلَهَا فِي وَسَطِ النَّهْرِ وَيَدَعُ فُوَّهَةَ النَّهْرِ بِغَيْرِ
لَوْحٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُسْفِلُ كُوَاهُ: أَيْ يَجْعَلُهَا أَعْمَقَ
مِمَّا كَانَتْ وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ يَرْفَعُهَا إلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ يَزِيدُ فِي الشِّرْبِ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْهُ حَقٌّ فِي الشُّرْبِ
وَيَزِيدُ مِنْ الْمَارَّةِ مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمُرُورِ
وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ (سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ)
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا كَانَ لَهُ أَنْ
يَفْتَحَ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَرَادَ
أَنْ يَقْسِمَ الشِّرْبَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا) بِأَنْ يَقُولَ
لِشَرِيكِهِ اجْعَلْ لِي نِصْفَ الشَّهْرِ وَلَك نِصْفَهُ، فَإِذَا كَانَ
فِي حِصَّتِي سَدَدْت مَا بَدَا لِي مِنْهَا وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك
فَتَحْتهَا كُلَّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ
بَيْنَهُمَا بِالْكُوَى، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمَاءِ فِي الْقِسْمَةِ
الْأُولَى مُسْتَدَامٌ وَفِي الثَّانِيَةِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ،
وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ السُّفْلِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ
إعَارَةٌ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ
مِنْ الشِّرْبِ مِنْ الشَّهْرِ لِتَعَذُّرِ جَعْلِ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ
مُبَادَلَةً، فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ وَإِجَارَتَهُ بِهِ
بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَارِيَّةً فَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى
شَاءَ.
وَقَوْلُهُ (وَالشِّرْبُ مِمَّا يُورَثُ وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ
بِعَيْنِهِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ
فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ وَحُقُوقِهِ، وَعَدَمُ جَوَازِ
بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ جَوَازِ ذَلِكَ أَلَا تَرَى
أَنَّ الْقِصَاصَ وَالدَّيْنَ وَالْخَمْرَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَإِنْ
لَمْ يُمْلَكْ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ.
وَقَوْلُهُ (بِعَيْنِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِيصَاءِ بِبَيْعِ الشِّرْبِ
كَمَا سَنَذْكُرُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشِّرْبَ بِغَيْرِ الْأَرْضِ لَا
يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، فَإِذَا سَمَّاهُ فِي النِّكَاحِ صَحَّ
النِّكَاحُ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِذَا سَمَّاهُ فِي الْخُلْعِ
صَحَّ الْخُلْعُ وَعَلَيْهَا رَدُّ
(10/87)
مَا قَبَضَتْ مِنْ الصَّدَاقِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ. وَلَا يَصْلُحُ
بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ
الْعُقُودِ. وَلَا يُبَاعُ الشِّرْبُ فِي دَيْنِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
بِدُونِ أَرْضٍ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ يَصْنَعُ الْإِمَامُ؟
الْأَصَحُّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَبِيعَهَا
بِإِذْنِ صَاحِبِهَا، ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَعَ
الشِّرْبِ وَبِدُونِهِ فَيَصْرِفُ التَّفَاوُتَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ،
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَرْضًا
بِغَيْرِ شِرْبٍ، ثُمَّ ضَمَّ الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيَصْرِفُ
مِنْ الثَّمَنِ إلَى ثَمَنِ الْأَرْضِ وَيَصْرِفُ الْفَاضِلَ إلَى قَضَاءِ
الدَّيْنِ
(وَإِذَا سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ مَخَرَهَا مَاءً) أَيْ مَلَأَهَا
(فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ
أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا) ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مَا قَبَضَتْ مِنْ الْمَهْرِ، وَإِذَا جَعَلَهُ بَدَلَ الصُّلْحِ
فَالْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ قِصَاصٍ، فَإِنْ
كَانَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ وَقَوْلُهُ
(وَالْأَصَحُّ) إشَارَةٌ إلَى وُجُودِ الِاخْتِلَافِ. فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
- رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ
مِنْ قِيمَةِ الشِّرْبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ
يُقَالَ لِلْمُقَوِّمِينَ إنَّ الْعُلَمَاءَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ
بَيْعِ الشِّرْبِ بِكَمْ يُشْتَرَى هَذَا الشِّرْبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يُضَمُّ هَذَا الشِّرْبُ إلَى جَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ أَقْرَبِ مَا
يَكُونُ مِنْ هَذَا الشِّرْبِ وَيُنْظَرُ بِكَمْ يُشْتَرَى مَعَ الشِّرْبِ
وَبِكَمْ يُشْتَرَى بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ فَضْلُ مَا بَيْنَهُمَا
قِيمَةَ الشِّرْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا وَيَجْمَعُ
ذَلِكَ الْمَاءَ فِيهِ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي
جَمَعَهُ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يَقْضِي دَيْنَهُ بِذَلِكَ. وَاخْتَارَ
الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ مَخَرَهَا) قَالَ فِي الصِّحَاحِ مَخَرْت الْأَرْضَ: أَيْ
أَرْسَلْت الْمَاءَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ)
يَلُوحُ إلَيَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَمِنَ. وَعَدَمُ
التَّعَدِّي إنَّمَا يَكُونُ إذَا سَقَى أَرْضَهُ سَقْيًا يُسْقَى مِثْلُهُ
فِي الْعَادَةِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي نَوْبَتِهِ. وَقِيلَ إنْ كَانَ جَارُهُ
تَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْأَحْكَامِ ضَمِنَ. وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَمْ
يَضْمَنْ اعْتِبَارًا بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. |