المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 7 ص -55-
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم
كتاب العتاق
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة
وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي
رحمه الله تعالى إعلم بأن الإعتاق لغة هو
إحداث القوة يقال عتق الفرخ إذا قوى فطار عن
وكره وفي الشريعة عبارة عن إحداث المالكية
والاستبداد للآدمي ومن ضروته انتفاء صفة
المملوكية والرق ولهذا يتعقبه الولاء الذي هو
كالنسب لأن الأب سبب لإيجاد ولده فيكون الولد
منسوبا إليه والعتق مسبب لإحداث صفة المالكية
التي اختص الآدمي بها فصار المعتق منسوبا إليه
بالولاء.
ولهذا ندب الشرع إليه بيانه في حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
"أيما مسلم أعتق مؤمنا أعتق الله بكل عضو منه
عضوا من النار" ولهذا استحبوا للرجل أن يعتق العبد وللمرأة أن تعتق الأمة ليتحقق
مقابلة الأعضاء بالأعضاء والتحرير لغة
التخليص يقال طين حر أي خالص عما يشوبه وأرض
حرة أي خالصة لا خراج عليها ولا عشر.
وفي الشريعة عبارة عن جعل الرقبة خالصة لله
تعالى قال الله تعالى:
{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران: من الآية35] ولهذا شرع التحرير في التكفير لأجل التطهير
قال الله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء: من الآية92] ولهذا ندب الشرع إلى فك
الرقبة بقوله:
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ
رَقَبَةٍ}
[البلد:12-13] وفي حديث البراء بن عازب إن رجلا سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يدخلني
الجنة فقال عليه السلام:
"لئن أوجزت
الخطبة فقد أعرضت المسألة فك الرقبة وعتق
النسمة"
قال أوليسا واحدا يا رسول الله قال:
"لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة
أن تعين في ثمنها" وسأل أبو ذر رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أفضل الرقاب فقال:
"أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" فهذه الآثار تبين أن الإعتاق من باب البر والإرفاق وأن أفضل الرقاب
أعزها عند صاحبها.
ثم بدأ الكتاب بحديث أبي الدرداء رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من لعب بطلاق أو عتاق فهو جائز عليه"
ونزلت هذه الآية في ذلك:
{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً } [البقرة: من الآية231] وقال عمر رضي الله عنه من تكلم بطلاق أو
عتاق أو نكاح فهو جائز عليه أي نافذ لازم وفيه
دليل على أن الهزل بهذه التصرفات جد كما قال
صلى الله عليه وسلم :"ثلاث جدهن جد وهزلهن
ج / 7 ص -56-
جد النكاح
والطلاق والعتاق" والهزل
واللعب سواء فإنه اسم لكلام يكون على نهج كلام
الصبيان لا يراد به ما وضع له ونفوذ هذه
التصرفات بوجود التكلم بها ممن هو من أهلها
ولا معتبر بقصده إلى حكمها لأن بانعدام القصد
إلى الحكم ينعدم الرضا بالحكم وذلك لا يمنع
لزوم هذه التصرفات لو قرن بها شرط الخيار.
والمراد بالآيات في قوله تعالى:
{وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة: من الآية231] الأحكام والهزء اللعب ففيه بيان أنه لا لعب
في أحكام الشرع.
وذكر في الأصل عن الحسن رحمه الله أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مر بعبد فساوم به
ولم يشتره فجاء رجل فاشتراه فأعتقه ثم أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال
صلى الله عليه وسلم :
"هو أخوك
ومولاك فإن شكرك فهو خير له وشر لك وإن كفرك
فهو شر له وخير لك وإن مات ولم يترك وارثا كنت
أنت عصبته" وفيه دليل
أنه لا بأس بالمساومة لمن لا يريد الشراء
بخلاف ما يقوله بعض الناس أن هذا اشتغال بما
لا يفيد فإن فيه فائدة وهو ترغيب الغير في
شرائه والرجل تفرس فيه خيرا حين رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ساوم به فلهذا اشتراه
وأعتقه وقوله صلى الله عليه وسلم : "هو
أخوك" أي في الدين قال الله تعالى:
{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ}[الأحزاب:
من الآية5].
وفيه دليل على أن الولاء يثبت بالعتق وإن لم
يشترط المعتق بخلاف ما يقوله بعض الناس وقوله:
"فإن
شكرك" أي بالمجازاة على ما صنعت إليه فهو خير له لأنه انتدب إلى ما ندب
إليه في الشرع قال صلى الله عليه وسلم :
"من أزلت إليه نعمة فليشكرها"
"وشر لك" لأنه يصل إليك بعض الجزاء في الدنيا فينتقص بقدره من ثوابك في
الآخرة "وإن كفرك فهو خير لك" لأنه يبقى ثواب
العمل كله لك في الآخرة وشر له لأن كفران
النعمة مذموم قال صلى الله عليه وسلم :
"من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وفيه دليل على أن المعتق يكون عصبة للمعتق لأنه قال: "كنت أنت عصبته".
ويستدل بالظاهر من يؤخر
مولى العتاقة عن ذوي الأرحام لأنه قال ولم
يترك وارثا وذوو الأرحام من جملة الورثة ولكن
عندنا مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي
الأرحام.
ومعنى الحديث لم يترك وارثا هو عصبة بدليل
قوله كنت أنت عصبته ثم بين أن من عتق عبدا
ينبغي أن يكتب له بذلك كتابا والمقصود بالكتاب
التوثيق فليكتب على أحوط الوجوه ويتحرز فيه عن
طعن كل طاعن ولهذا ذكر فيه أني أعتقك لوجه
الله فإن من الناس من يقول لا ينفذ العتق إذا
لم يقصد المعتق وجه الله تعالى ونحن لا نقول
بهذا حتى لو قال أعتقك لوجه الله تعالى أو
الشيطان نفذ العتق. والحديث الذي بدأ به
الكتاب يدل عليه ولكن يذكر هذا للتحرز عن جهل
بعض القضاة، وكذلك يكتب ولى ولاؤك وولاء عتقك
من بعدك لأن من الناس من يقول لا يثبت الولاء
إلا بالشرط فيذكره في الكتاب للتحرز عن هذا.
ثم الألفاظ التي يحصل بها العتق نوعان صريح
وكناية فالصريح لفظ العتق والحرية والولاء
ويستوي إن ذكر هذه الألفاظ بصيغة الخبر أو
الوصف أو النداء. أما
ج / 7 ص -57-
بصيغة
الخبر أن يقول قد أعتقتك أو حررتك لأن كلام
العاقل محمول على الصحة ما أمكن ووجه الصحة
هنا متعين وهو الإنشاء وصيغة الإخبار والإنشاء
في العتق واحد وإما على سبيل الوصف أن يقول
أنت حر أنت عتيق لأنه لما وصفه بما يملك
إيجابه فيه جعل ذلك بمنزلة الإيجاب منه لتحقيق
وصفه فإن قال أردت الكذب والخبر بالباطل دين
فيما بينه، وبين الله تعالى للاحتمال ولكنه لا
يدين في القضاء لأن هذا اللفظ في الظاهر موضوع
لإيجاب العتق والقاضي يتبع الظاهر لأن ما وراء
ذلك غيب عنه وكذلك لو قال يا حر يا عتيق لأن
النداء لاستحضار المنادى وذلك بذكر وصف له حتى
يعلم أنه هو المقصود بالنداء فهذا ووصفه إياه
بالعتق سواء وكذلك لو قال لعبده هذا مولاي أو
لأمته هذه مولاتي، لأن المولى يذكر بمعنى
الناصر قال الله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى
لَهُمْ} [محمد:11]
ولكن المالك لا يستنصر بمملوكه عادة ويذكر
بمعنى ابن العم قال الله تعالى:
{وَإِنِّي
خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي}
[مريم: من الآية5] ولكن نسب العبد معروف فلا
احتمال لهذا المعنى هنا ويذكر بمعنى الموالاة
في الدين ولكنه نوع مجاز والمجاز، لا يعارض
الحقيقة ويذكر بمعنى المولى إلاعلى على وذلك
غير محتمل عند الإضافة إلى العبد فيتعين
المولى الأسفل ولا يتحقق ذلك إلا بعد العتق
فلهذا عتق به في القضاء وإن قال أردت به
الولاية في الدين، أو الكذب دين فيما بينه
وبين الله تعالى للاحتمال ولم يدين في القضاء
لأنه خلاف الظاهر فإن قال يا مولاي فكذلك
الجواب عندنا.
وقال زفر رحمه الله تعالى لا يعتق بهذا اللفظ
إلا بالنية لأن هذا اللفظ في موضع النداء يقصد
به الإكرام دون التحقيق يقال يا سيدي ويا
مولاي ولو قال له يا سيدي ويا مالكي لا يعتق
به بدون النية فكذلك إذا قال يا مولاي ولكنا
نقول الكلام محمول على حقيقته ما أمكن وحقيقة
قوله يا مولاي لا يكون إلا بولاء له عليه
والعتق متعين لذلك فهذا وقوله يا حر يا عتيق
سواء بخلاف قوله يا سيدي ويا مالكي لأنه ليس
فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه ومما يلحق
بالصريح هنا قوله لمملوكه وهبت نفسك منك أو
بعت نفسك منك فإنه يعتق به وإن لم ينو لأن
موجب هذا اللفظ إزالة ملكه إلا أنه إذا أوجبه
لإنسان آخر يكون مزيلا لملكه إليه فيتوقف على
قبوله وإذا أوجبه للعبد يكون مزيلا بطريق
الإسقاط لا إليه فلا يحتاج إلى قبوله ولا يرتد
برده فأما بيان ألفاظ الكناية قوله لا سبيل لي
عليك فإنه محتمل يجوز أن يكون المراد لا سبيل
لي عليك في اللوم والعقوبة لأنك وفيت بما
أمرتك به ولا سبيل لي عليك لأني كاتبتك ولا
سبيل لي عليك لأني أعتقتك، والمحتمل لا تتعين
جهة فيه بدون النية فلا يعتق به إلا أن ينوي
العتق وكذلك قوله لا ملك لي عليك يحتمل لا ملك
لي عليك لأني بعتك وكذلك قوله قد خرجت من ملكي
يحتمل هذا المعنى فلا يعتق به ما لم ينو ويدين
في القضاء وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى لو
قال له أطلقتك ينوي به العتق أيضا لأن الإطلاق
يذكر بمعنى التحرير يقال أطلقته من السجن
وحررته إذا خلي سبيله ولأنه يحتمل أن يكون
مراده الإطلاق
ج / 7 ص -58-
من
الرق الذي عليه فهو كقوله لا رق لي عليك فأما
إذا قال لأمته أنت طالق أو قد طلقتك ونوى به
العتق لم تعتق عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى تعتق وكذلك سائر
كنايات الطلاق كقوله قد بنت مني أو حرمت علي
أو أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو اخرجي
أو اغربي أو استبري أو تقنعي أو اذهبي أو قومي
أو اختاري فاختارت نفسها أو قال ذلك لعبده فهو
كله على الخلاف.
وجه قول الشافعي أن صريح ما يسري كناية فيما
يسري كلفظ التحرير في الطلاق معنى صريح ما
يسري ما وضع لما يسري بطريق المطابقة كناية
لما هو وصف وهو كونه حرا لمعنى آخر هو مسمى
للفظ آخر وتقرير هذا الكلام أن الاستعارة
للاتصال بين الشيئين معنى طريق صحيح في اللغة
يقال للبليد حمار وللشجاع أسد للاتصال معنى
وهو الشجاعة والبلادة، وبين الملكين اتصال من
حيث المشابهة معنى لأن النكاح فيه معنى الرق
قال عليه الصلاة والسلام
"النكاح
رق" ولأنه يستباح بكل واحد منهما الوطء في محله وبين الإزالتين الاتصال
في المعني لأن كل واحد منهما إبطال للملك
ويحتمل التعليق بالشرط وهو ينبئ عن السراية
ويلزم على وجه لا يحتمل الفسخ فإذا ثبتت
المشابهة معنى قلنا ما كان صريحا في إزالة ملك
اليمين وهو لفظ التحرير كان كناية في ملك
النكاح فكذلك ما هو صريح في ملك النكاح يجعل
كناية صحيحة في إزالة ملك اليمين ولأن التحريم
من موجبات التحرير فإن الأمة إذا أعتقت حرمت
على مولاها وذكر الموجب على سبيل الكناية عن
الموجب صحيح كقوله لامرأته اعتدي بنية الطلاق.
"وحجتنا" في ذلك أنه نوى ما لا يحتمله لفظه
فهو كما لو قال لها كلي واشربي ونوى العتق
وهذا لأن المنوي إذا لم يكن من محتملات اللفظ
فقد تجردت النية عن لفظ يدل عليه وبيان ذلك
أنه لا مشابهة بين العتق والطلاق صورة ولا
معنى لأن الطلاق إزالة المانع من الانطلاق فإن
المرأة بعد عقد النكاح حرة محبوسة عند الزوج
فبالفرقة يزول المانع من الانطلاق والإعتاق
إحداث قوة الانطلاق لأنه لم يبق في الرقيق صفة
المالكية، وبالعتق يحدث له صفة المالكية ولا
مشابهة بين احداث القوة وبين إزالة المانع كما
لا مشابهة بين إحياء الميت وبين رفع القيد عن
المقيد ونحن نسلم أن المشابهة في المعنى طريق
الاستعارة ولكن لا في كل وصف بل في الوصف
الخاص لكل واحد منهما والوصف الخاص لكل واحد
منهما ما بينا دون ما ذكره الخصم، ألا ترى أنه
لا يستعار الأسد للجبان والحمار للذكي وبينهما
مشابهة في أوصاف وكل واحد منهما حيوان موجود
ولكن لما انعدمت المشابهة في الوصف الخاص لم
تجز الاستعارة فهذا مثله. فأما إذا استعمل لفظ
التحرير في الطلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة
معنى بل لأن موجب النكاح ملك المتعة وملك
الرقبة في محل ملك المتعة يوجب ملك المتعة فما
يزيل ملك الرقبة يكون سببا لإزالة ملك المتعة
فيصلح أن يكون
ج / 7 ص -59-
كناية
عنه. فأما ما يزيل ملك المتعة لا يكون سببا
لإزالة ملك الرقبة فلا يصلح كناية عنه ولهذا
قلنا في طرف الاستجلاب أن ما وضع لاستجلاب ملك
المتعة وهو لفظ النكاح والتزويج لا يثبت به
ملك الرقبة وما وضع لاستجلاب ملك الرقبة وهو
لفظ الهبة، والبيع يصلح لإيجاب ملك المتعة وهو
النكاح ولا يدخل على هذا اللفظ البيع فإنه لا
تنعقد به الإجارة على ما قال في كتاب الصلح
إذا باع سكنى داره من إنسان لا يجوز وإن كان
بهذا اللفظ ثبت ملك الرقبة وهو سبب لملك
المتعة لأن عندنا الاجارة تنعقد بلفظ البيع
فإن الحر إذا قال لغيره بعت نفسي منك شهرا
بدرهم لعمل كذا يكون إجارة صحيحة فأما بيع
السكنى إنما لا يجوز لانعدام المحل لأن لفظ
البيع موضوع للتمليك. والمنافع معدومة لا تقبل
التمليك ولهذا لو أضاف لفظة الإجارة إلى
المنفعة وقال أجرتك منفعة هذه الدار لا يجوز
وإذا أضاف لفظ البيع إلى عين الدار فهو عامل
بحقيقته لأن العين قابل للبيع فلا تجعل كناية
عن الإجارة لهذا ولا معنى لما قاله أنه ذكر
الموجب وعنى به الموجب لأن الموجب حكم والحكم
لا يصلح كناية عن السبب لأنه لا حكم بدون
السبب، والسبب يتحقق بدون الحكم فكان الحكم
كالتبع والأصل يستعار للتبع، ولا يستعار التبع
للأصل لافتقار التبع إلى الأصل واستغناء الأصل
عن التبع وفي قوله اعتدى وقوع الطلاق ليس بهذا
الطريق بل بطريق الإضمار حتى يقع الطلاق به
على غير المدخول بها وإن لم يكن عليها عدة
وكذلك إذا قال لامرأته أنت على حرام فذلك
اللفظ عامل بحقيقته عندنا لا أن يكون كناية
بطريق أنه ذكر الموجب وعنى به الموجب وهذا لأن
التحريم ينافي النكاح ابتداء وبقاء وذلك لا
يوجد هنا فإن حرمة الأمة عليه لا ينافي الملك
ابتداء وبقاء كما في المجوسية، والأخت من
الرضاعة ولو قال لعبده لا سلطان لي عليك ونوى
العتق لم يعتق لأنه ليس من ضرورة انتفاء
سلطانه عنه انتفاء الملك كالمكاتب فإنه لا
سلطان للمولى عليه وهو مملوك بخلاف قوله لا
سبيل لي عليك فإن من ضرورة انتفاء السبيل عنه
من كل وجه العتق لأن له على المكاتب سبيلا من
حيث المطالبة ببدل الكتابة حتى إذا انتفى ذلك
بالبراءة عتق ولو قال لعبده أنت لله لم يعتق.
وإن نوى في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لأنه صادق في مقالته فالمخلوقات كلها
لله تعالى فهو كما لو قال أنت عبد الله وعند
أبي يوسف يعتق به إذا نوى لأن معنى كلامه أنت
خالص لله بانتفاء ملكه عنه فهو كقوله لا ملك
لي عليك بخلاف قوله أنت عبد الله ولو قال
لعبده يا بني أو لأمته يا بنية لم تعتق لأن
هذا دعاء ولطف منه معناه أن هذا اللفظ في موضع
النداء يقصد به استحضار المنادى وإكرامه مع أن
قوله يا بني تصغير الابن. ولو قال يا ابن لا
يعتق لأنه صادق في مقالته فإنه ابن لأبيه
وإنما الإشكال في قوله يا ابني ولا يعتق بهذا
اللفظ إلا في رواية شاذة عن أبي حنيفة رحمه
الله أنه جعله كقوله يا حر ولكن لا يعتمد على
تلك الرواية والصحيح أن هذا اللفظ في موضع
النداء لاستحضار المنادى وتفهيمه ليحضر، وذلك
بصورة اللفظ لا بمعناه ووقوع العتق بهذا
ج / 7 ص -60-
اللفظ
لاعتبار معنى البنوة فلهذا لا يعتق به عند
النداء حتى لو جعل اسم عبده حرا وكان ذلك
معروفا عند الناس ثم ناداه به فقال يا حر لم
يعتق أيضا وإذا لم يكن هذا الاسم معروفا له
يعتق به في القضاء لأنه ناداه بوصف يملك
إيجابه بخلاف قوله يا ابني فإنه ناداه بوصف لا
يملك إيجابه فينظر إلى مقصوده فيه وهو الإكرام
دون التحقيق. وإن قال هذا ابني ومثله يولد
لمثله عتق ويثبت نسبه منه إن لم يكن له نسب
معروف لأن كلامه دعوة النسب وهو تصرف يملكه
المولى في مملوكه فإذا كان المحل محلا قابلا
للنسب وهو محتاج إلى النسب ثبت نسبه منه
والنسب لا يثبت مقصورا على الحال بل يثبت من
وقت العلوق فتبين أنه ملك ولده فيعتق عليه
ويستوي إن كان أعجميا جليبا أو مولدا لأن صحة
دعوة المولى شرعا بوصلة الملك وحاجة المملوك
إلى النسب وكذلك لو قال هذا أبي أو كانت أمة
فقال هذه أمي ومثلهما يلد مثله عتقا وإن لم
يكن له أبوان معروفان وصدقاه في ذلك ثبت نسبه
منهما فقد اعتبر تصديقهما في دعوى الأبوة
والأمومة عليهما ولم يعتبر في دعوى البنوة لأن
النسب من حق الولد فإنه يشرف به فمدعي البنوة
يقر على نفسه بالمحمولية فلا حاجة إلى تصديقه
لأن الإقرار يلزم المقر بنفسه فأما مدعي
الأبوة والأمومة يحتاج إلى تصديقهما لأنه يحمل
نسبه على غيره فيكون مدعيا ومجرد الدعوى لا
يلزم شيئا بدون الحجة فلهذا يحتاج إلى
تصديقهما ولأن مدعي الأبوة والأمومة يخبر أنه
علق من مائهما وهو غيب عنه فلا بد من تصديقهما
ومدعي البنوة يخبر أنه علق من مائه وقد يعرف
ذلك لكونه عاقلا عند علوقه وإن كان للغلام نسب
معروف فقال هذا ابني يعتق عليه ولا يثبت نسبه
لأنه مكذب فيما قال شرعا حين ثبت نسبه من
الغير ولكن هذا التكذيب في حكم النسب دون
العتق فهو في حكم العتق بمنزلة من لا نسب له
ولهذا قلنا في الفصل الأول إذا قال هذا أبي أو
أمي وكذباه يعتق لأن اعتبار تكذيبهما في حكم
النسب دون العتق.
توضيحه أن المملوك مستغن عن النسب إذا كان
معروف النسب من الغير ولكنه غير مستغن عن
الحرية فيثبت بكلامه ما يحتاج إليه المملوك
دون ما لا يحتاج إليه وهذا بخلاف ما لو قال
لامرأته هذه ابنتي وهي معروفة النسب من الغير
فإنه لا تقع الفرقة بينهما لأن هناك صار مكذبا
في حكم النسب شرعا ولو أكذب نفسه بأن قال غلطت
لا تقع الفرقة وإن لم يكن لها نسب معروف فكذلك
إذا صار مكذبا شرعا وهنا لو أكذب المولى نفسه
في حق من لا نسب له كان العتق ثابتا فكذلك إذا
صار مكذبا في النسب شرعا وحقيقة المعنى فيه
أنه في قوله لامرأته هذا ابنتي غير مقر على
نفسه بشيء ولكنه مقر على المحل بصفة الحرمة
لأنه لا موجب للنسب في ملكه من حيث الإزالة
وإنما موجبه حرمة المحل ثم ينتفي به الملك
ابتداء وبقاء ولم يعتبر إقراره في حرمة المحل
هنا لما كانت معروفة النسب وأما قوله لعبده
هذا ابني إقرار على نفسه لأن للبنوة موجبا في
ملكه، وهو زوال الملك به فإنه يملك ابنه
بالشراء ثم يعتق عليه فيعتبر إقراره فيما يقر
به على نفسه وهو عتقه عليه من حين دخل في ملكه
فأما إذا كان ممن لا يولد
ج / 7 ص -61-
مثله
لمثل المولى فقال هذا ابني لم يعتق في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الأول وهو قول أبي يوسف
ومحمد رحمهما الله تعالى وعتق في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الآخر.
وجه قوله الأول أن كلامه محال فيلغو كما لو
قال أعتقتك قبل أن أخلق وبيان الاستحالة أن
قوله هذا ابني أي مخلوق من مائي و ابن خمسين
سنة يستحيل أن يكون مخلوقا من ماء ابن عشرين
سنة وبه فارق معروف النسب فإن كلامه محتمل
هناك لجواز أن يكون مخلوقا من مائه بالزنى أو
يكون مخلوقا من مائه بالشبهة وقد اشتهر نسبه
من الغير ألا ترى أن أم الغلام لو كانت في
ملكه هناك تصير أم ولد له وهنا لا تصير أم ولد
له ولأن الحقيقة تكذبه في هذا الخبر فبلغوا
خبره كما لو قال لصبي صفر في يده هذا جدي أو
قال لعبده هذه ابنتي، أو لأمته هذا غلامي وفي
غير هذا الباب لو قال قطعت يد فلان وله علي
الإرش فأخرج فلان يده صحيحة لم يستوجب شيئا
بخلاف معروف النسب فإن الحقيقة لا تكذبه هناك.
ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر أنه
أقر بنسب مملوكه طائعا فيعتق عليه كما لو قال
لمعروف النسب هذا ابني وتأثيره أن صريح كلامه
محال كما قال ولكن له مجاز صحيح ومعناه عتق
على من حين ملكته لأن البنوة سبب لهذا فإنه
إذا ملك ابنه يعتق عليه فيجعل هذا السبب كناية
عن موجبه مجازا وتصحيح كلام العاقل واجب
وللعرب لسانان حقيقة ومجاز فإذا تعذر تصحيحه
باعتبار الحقيقة يصحح باعتبار المجاز. ألا ترى
أن الوارث إذا أعتق المكاتب يجعل إبراء منه عن
بدل الكتابة بهذا النوع من المجاز إلا أنهما
يقولان المجاز خلف عن الحقيقة ففي كل موضع
يكون الأصل متصورا يمكن أن يجعل المجاز خلفا
عنه كما في مسألة المكاتب وفي كل موضع لا يكون
الأصل متصورا لا يمكن جعل المجاز خلفا عنه
وهنا لا تصور للأصل بخلاف معروف النسب فإن
هناك الأصل متصور فيجوز إثبات المجاز خلفا عنه
ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول المجاز
خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم لأنه
تصرف من المتكلم في إقامة كلام مقام كلام
والمقصود تصحيح الكلام فلا يعتبر في تصحيح
المجاز تصور الحكم لإثبات الخلافة ألا ترى أنه
لو قال لحرة اشتريتك بكذا كان نكاحا صحيحا
والحرة ليست بمحل لأصل حكم البيع وهو ملك
الرقبة ولهذا المعنى قلنا إن أم الغلام لو
كانت في ملكه لا تعتق لأن اللفظ إذا صار مجازا
لغيره سقط اعتبار حقيقته وهذا مجاز عن الإقرار
بحريته فكأنه قال عتق علي من حين ملكه وليس
لهذا اللفظ موجب في الأم فأما إذا قال لعبده
هذه ابنتي فقد ذكره محمد على سبيل الاستشهاد
في كتاب الدعوى ومن عادته الاستشهاد بالمختلف
على المختلف فلا نسلمه على قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وبعد التسليم نقول الأصل أن المشار
إليه إذا لم يكن من جنس المسمى فالعبرة للمسمى
كما لو باع فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج
فالبيع باطل والذكور والإناث من بني آدم جنسان
فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمى تعلق
الحكم بالمسمي وهو معدوم ولا يتصور تصحيح
ج / 7 ص -62-
الكلام
إيجابا ولا إقرارا في المعدوم وكذا قوله لصبي
صغير هذا جدي فإنه ذكره على سبيل الاستشهاد
هنا وقد منعوه على قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وبعد التسليم نقول لا موجب لذلك الكلام
في ملكه إلا بواسطة الأب وتلك الواسطة غير
ثابتة وبدونها لا موجب لكلامه حتى يجعل كناية
عن موجبه مجازا فأما للبنوة والأبوة موجب في
ملكه بغير واسطة فيجعل كلامه كناية عن موجبة
وبخلاف قوله أعتقتك قبل أن أخلق لأنه لا موجب
فيما صرح به وكذلك قوله قطعت يدك لأنه لا موجب
للجرح بعد البرء إذا لم يبق له أثر فلا يمكن
تصحيح كلامه على أن يجعل كناية عن موجبه فلهذا
كان لغوا وإن قال لعبده هذا أخي لم يعتق.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه
يعتق لأن للأخوة في ملكه موجبا وهو العتق
فيجعل هذا اللفظ كناية عن موجبه.
وجه ظاهر الرواية أن الأخوة اسم مشترك قد يراد
به الأخوة في الدين قال الله تعالى
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: من الآية10] وقد يراد به الاتحاد في القبيلة قال الله
تعالى
{وَإِلَى
عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [لأعراف: من الآية65] وقد يراد به الأخوة في النسب والمشترك لا
يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي
أو لأمي نقول يعتق على هذا الطريق.
فإن قيل فالبنوة والأبوة قد تكون بالرضاعة ثم
أثبتم العتق بهذين اللفظين عند الإطلاق قلنا
لأن البنوة من الرضاع مجاز والمجاز لا يعارض
الحقيقة فأما الأخوة مشتركة في الاستعمال كما
بينا ولأن الأخوة لا تكون إلا بواسطة الأب أو
الأم لأنه عبارة عن مجاورة في صلب أو رحم وهذه
الواسطة غير مذكورة ولا موجب لهذه الكلمة بدون
هذه الواسطة فإن قال لأمته فرجك حر أو قال
لعبده رأسك حر يعتق وقد بينا هذا في الطلاق إن
ذكر ما يعبر به عن جميع البدن كذكر البدن
بخلاف اليد أو الرجل فهو في العتاق كذلك وإن
قال نويت الكذب لم يصدق في القضاء كما في قوله
أنت حر وإن قال لعبده أو لأمته ما أنت إلا حر
أو ما أنت إلا حرة فإنهما يعتقان لأن كلامه
اشتمل على النفي والإثبات وهذا آكد ما يكون من
الإثبات دليله كلمة الشهادة فكان هذا كقوله
أنت حر وهذا بخلاف ما لو قال أنت مثل الحر لأن
هذا اللفظ للمشابهة والمشابهة بين الشيئين قد
يكون خاصا وقد يكون عاما فلا يثبت العتق به
بدون النية وكذلك لو قال بدنك حر لأن معناه
بدنك بدن حر.
وفي النوادر قال: لو نوى فقال بدنك بدن حر
يعتق لأن هذا اللفظ للإيجاب لا للتشبيه ولو
قال لعبده أنت حر اليوم من هذا العمل فإنه
يعتق في القضاء لأنه وصفه بالحرية وتخصيصه
وقتا أو عملا لا يغير حكم ما وصفه به وأما
فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان لا يريد
العتق فهو عبده لأنه يحتمل أن يكون مراده لا
أكلفك اليوم هذا العمل والله تعالى مطلع على
ضميره ولكنه خلاف الظاهر فإنه جعل الحرية صفة
له في الظاهر فلهذا لا يدين في القضاء والله
أعلم بالصدق والصواب.
ج / 7 ص -63-
باب عتق ذوي الأرحام
ذكر عن عائشة رضي الله
عنها عن رسول الله صلى عليه وسلم قال:
"من ملك
ذا رحم محرم منه فهو حر" وكذلك روي
عن عمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وفي
هذا دليل على أن من ملك قريبه يعتق عليه لأن
قوله فهو حر جزاء لقوله من ملك مع القرابة
فإنما يتناول حرية المملوك دون المالك وفي بعض
الروايات قال عتق عليه وفيه دليل أن سبب العتق
الملك مع القرابة فإن مثل هذا في لسان صاحب
الشرع بمعنى بيان السبب كما قال من بدل دينه
فاقتلوه وقال تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: من الآية185].
ولهذا قال عامة العلماء إذا ملك أباه أو أمه
أو ابنه يعتق عليه وقال أصحاب الظواهر يلزمه
أن يعتقه ولكن لا يعتق قبل إعتاقه لظاهر قوله
عليه الصلاة والسلام
"لن يجزئ ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" ففيه تنصيص على أنه مستحق عليه إعتاقه ولو عتق بنفس الشراء لم يكن
لقوله فيعتقه معنى ولأن القرابة لا تمنع ثبوت
الملك ابتداء فلا تمنع البقاء بطريق الأولى
ألا ترى أنها لما منعت بقاء ملك النكاح منعت
ثبوته ابتداء.
"وحجتنا" في ذلك قوله تعالى
{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}[مريم:92-93] فقد نفى البنوة بينه وبين الخلق بإثبات العبودية فذلك
تنصيص على المنافاة بينهما والمتنافيان لا
يجتمعان فإذا كانت البنوة متقررة انتفت
العبودية ومراده عليه الصلاة والسلام من قوله
فيعتقه بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال
أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه وضرب فأوجع وكتبه
فقرمط وإنما اثبتنا له الملك ابتداء لأن
انتفاء العبودية لا يتحقق إلا به فإذا لم
يملكه لا يعتق بخلاف ملك النكاح لأنه لا فائدة
في اثبات ملك النكاح له على ابنته ثم إزالته
لأنها تعود إلى ما كانت عليه ولأن هذا العتق
صلة ومجازاة فلا يتحقق إلا بعد الملك فأما
انتفاء النكاح بحرمة المحل وهو موجود قبل
العقد ولأن ملك النكاح ليس إلا بملك الحل
فيختص بمحل الحل والأم والإبنة محرمة عليه
بالنص ولا تصور للملك بدون المحل فأما هذا ملك
مال وذلك ثابت في المحل فيثبت له نسبه أيضا إذ
ليس من ضرورة إثباته الاستدامة. وبهذا الحديث
أيضا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى إذا ملك
أخاه أو أخته أو أحدا من ذوي الرحم المحرم منه
أنه يعتق عليه.
وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يعتق إلا
الوالدين والمولودين لأنه ليس بينهما بعضية
فلا يعتق أحدهما على صاحبه كبني الأعمام بخلاف
الآباء والأولاد فالعتق هناك للبعضية والجزئية
ولأن القرابة التي بينهما في الأحكام كقرابة
بني الأعمام حتى تقبل شهادة كل واحد منهما
لصاحبه ويجوز لكل واحد منهما وضع زكاة ماله في
صاحبه ويجري القصاص بينهما في الطرفين ويحل
لكل واحد منهما حليلة صاحبه ولا يستوجب كل
واحد منهما النفقة على صاحبه مع اختلاف الدين
ولا يتكاتب أحدهما على صاحبه بخلاف الوالدين
والمولودين.
ج / 7 ص -64-
وهذا
بخلاف المناكحة لأن ثبوتها باسم الأختية
والبنتية لا بمعنى القرابة ألا ترى أنها تثبت
بالرضاع ولا تثبت بالقرابة بها ولهذا لا يعتبر
في الحرمة معنى قرب القرابة وبعدها.
"وحجتنا" في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إني وجدت أخي
يباع في السوق فاشتريته وأنا أريد أن أعتقه"
فقال عليه الصلاة والسلام: "قد أعتقه الله".
والمعنى فيه أن القرابة
المتأيدة بالمحرمية علة العتق مع الملك كما في
الآباء والأولاد وهذا لأن لهذا العتق بطريق
الصلة والقرابة المتأيدة بالمحرمية تأثيرا في
استحقاق الصلة لأنه يفترض وصلها ويحرم قطعها
ألا ترى أن الله تعالى جعل قطيعة الرحم من
الملاعن لقوله تعالى: {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّه}[محمد:
من الآية22-23] وقال عليه الصلاة والسلام:
"ثلاث معلقات بالعرش منها الرحم يقول قطعت ولم
أوصل".
والدليل عليه أن حرمة المناكحة تثبت بهذه
القرابة بمعنى الصيانة عن ذل الاستفراش
والاستخدام قهرا، فملك اليمين أبلغ في
الاستذلال من الاستفراش، وكذلك يحرم الجمع بين
الأختين نكاحا صيانة للقرابة عن القطيعة بسبب
المنافرة التي تكون بين الضرائر ومعنى قطيعة
الرحم في استدامة ملك اليمين أكثر ولا شك أن
للملك تأثيرا في استحقاق الصلة فيثبت بهذا
التقرير أن علة العتق هذان الوصفان وبعد هذا
لا يضر انتفاء الجزئية بينهما لما ثبت أن علة
العتق هذا دون الجزئية لأن التعدية بمعنى واحد
قد ظهر أثره مستقيم ولأن هذه القرابة في معنى
القرابة بين الجد والنافلة أيضا لأن اتصال أحد
الأخوين بالآخر بواسطة الأب كما أن اتصال
النافلة بالجد بواسطة الأب ولهذا ظهر الاختلاف
بين الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الأخوة
في الميراث.
وشبه بعضهم الجد مع النافلة بشجرة انشعب منها
غصن ومن ذلك الغصن غصن والأخوين بغصنين من
شجرة واحدة. وشبه بعضهم الجد مع النافلة بواد
تشعب منه نهر ومن النهر جدول والأخوين بنهرين
تشعبا من واد فيكون معنى القرب بينهما أظهر
لأن تفرقهما بشعب واحد والأول بشعبين فعرفنا
أن القرابة التي بينهما بمنزلة قرابة الجد مع
النافلة وذلك موجب للعتق مع الملك إلا أن في
حكم الولاية لم يجعل الأخ كالجد لأن المعتبر
فيه الشفقة مع القرابة وشفقة الأخ ليست كشفقة
الجد وفي حكم الإرث كذلك عند أبي حنيفة رضي
الله عنه لأن ذلك نوع ولاية فإنه خلافة في
الملك والتصرف. وبه فارق بني الأعمام
فالواسطات هناك قد كثرت من كل جانب فكانت
القرابة بعيدة بينهما ولهذا لا يثبت بها حرمة
النكاح ولا حرمة الجمع بينهما في النكاح. فأما
المكاتب فلا ملك له على الحقيقة وهذه القرابة
مع الملك علة والحكم الثابت بعلة ذات وصفين
ينعدم بانعدام أحد الوصفين إلا أن المكاتب إذا
ملك أباه يمتنع عليه بيعه وإذا ملك أخاه لا
يمتنع عليه بيعه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
لأن المكاتب له كسب وليس له ملك حقيقة وحق
الآباء والأولاد يثبت في الكسب حتى يجب عليه
نفقة أبيه
ج / 7 ص -65-
إذا
كان مكتسبا وإن لم يكن موسرا فأما حق الأخ لا
يثبت في الكسب حتى لا يجب عليه نفقة أخيه
الزمن إذا كان هو معسرا وإن كان مكتسبا وكذلك
إن كان المالك صغيرا فإنه يعتق عليه لتمام علة
العتق وهو الملك مع القرابة فإن الصغير يملك
حقيقة ألا ترى أنه يثبت له صفة الغناء بملكه
حتى يحرم عليه أخذ الصدقة بخلاف المكاتب وكذلك
إن كان المالك كافرا والمملوك مسلما أو على
عكس ذلك لأن الملك مع القرابة يتحقق مع اختلاف
الدين وبهما تمام علة العتق بخلاف استحقاق
النفقة فإن الشرع أوجب ذلك بصفة الوراثة فقال
تعالى:
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: من الآية233] معناه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم وبسبب
اختلاف الدين ينعدم صفة الوراثة فلهذا لا
يستحق النفقة بخلاف الآباء والأولاد
فالاستحقاق هناك بالولاد قال تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ}
[البقرة: من الآية233] وبسبب اختلاف الدين لا
ينعدم الولاد فهذا بيان معنى الفرق بين هذه
الفصول فإن ملكه الرجل مع آخر عتق نصيبه منه
وسعي العبد للشريك في نصيبه ولا ضمان على الذي
عتق من قبله في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن
لشريكه قيمة نصيبه إن كان موسرا ويسعى العبد
لشريكه إن كان معسرا وكذلك لو ملكاه بهبة أو
صدقة أو وصية فهو على هذا الخلاف وجه قولهما
أن القريب بالشراء صار معتقا لنصيبه لأن شراء
القريب إعتاق ولهذا تتأدى به الكفارة والمعتق
ضامن لنصيب شريكه إذا كان موسرا كما لو كان
العبد بين شريكين فاشترى قريب العبد نصيب أحد
الشريكين منه يضمن لشريكه الذي لم يبع إن كان
موسرا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما قال في
الكتاب لأن شراء الشريك معه رضا منه بالذي
يكون به العتق ومعنى هذا الكلام أن ضمان العتق
يجب بالإتلاف والإفساد والرضا بالسبب يمنع
وجوب مثل هذا الضمان كما لو أتلف مال الغير
بإذنه.
وفي إثبات الرضا هنا نوعان من الكلام:
أحدهما أنه لما ساعد شريكه على القبول مع علمه
أن قبول شريكه موجب للعتق فقد صار راضيا بعتقه
على شريكه فهو كما لو استأذن أحد الشريكين من
صاحبه في أن يعتق نصيبه فأذن له في ذلك.
والثاني أن المشتريين صارا كشخص واحد لاتحاد
الإيجاب من البائع ولهذا لو قبل أحدهما دون
الآخر لم يصح قبوله ولم يملك نصيبه به ولا شك
أن كل واحد منهما راض بالتمليك في نصيبه فيكون
راضيا بالتمليك في نصيب صاحبه أيضا لما ساعده
على القبول بل يصير مشاركا له في السبب بهذا
الطريق والمشاركة في السبب فوق الرضا به إلا
أن بهذا السبب تتم علة العتق في حق القريب وهو
الملك ولا تتم علة العتق في حق الأجنبي فكان
القريب معتقا دون الأجنبي ولكن بمعاونة
الأجنبي يسقط حقه في تضمينه لما عاونه على
السبب
ج / 7 ص -66-
وفي
هذا يتضح الكلام لأبي حنيفة في الشراء فيما
إذا كان العبد كله لرجل فباع نصفه من قريبه
فإن الخلاف ثابت فيه ولا شك أن إيجاب البائع
رضا منه بقبول المشتري وما ينبنى على قبول
المشتري يحال به على إيجاب البائع كما لو باع
الأمة المنكوحة من زوجها قبل الدخول سقط جميع
المهر لأن الفرقة جاءت من قبل من له المهر وهو
البائع فأما في الهبة والصدقة والوصية كلاهما
أوضح لأن قبول أحدهما في نصيبه صحيح بدون قبول
الآخر ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول
هما كشخص واحد أيضا إلا أن في الهبة والصدقة
والوصية قبول الشخص الواحد في النصف دون النصف
صحيح وهذا بخلاف ما إذا باع أحد الشريكين
نصيبه من قريبه لأن هناك لم يوجد من الشريك
الآخر ما يكون رضا منه أو معاونة على السبب
وبخلاف ما لو قال أحد الشريكين لشريكه إن
ضربته اليوم سوطا فهو حر فضربه سوطا فإن
الحالف يضمن للضارب إن كان موسرا.
ومن أصحابنا من قال موضوع تلك المسألة أن
الشريك قال أيضا إن لم أضربه اليوم سوطا فهو
حر فإقدامه على الضرب بعد هذا يكون لدفع العتق
عن نصيبه فلا يصير به راضيا بعتق نصيب الشريك
على أن هناك إنما يعتق نصيب الشريك بقوله هو
حر وذلك تم بالحالف من غير رضا كان من الضارب
فأما الضرب شرط للعتق والرضا بالشرط لا يكون
رضا بأصل السبب بخلاف ما نحن فيه فإنه إنما
رضي بالسبب حين شاركه فيه، وهذا بخلاف حكم
الفرار فإن الرضا بالشرط من المرأة كالرضا
بالسبب في إسقاط حقها عن الميراث لأنه لا ملك
لها قبل موت الزوج في ماله وإنما يثبت حكم
الفرار دفعا لقصد الزوج الإضرار بها، وذلك
ينعدم بالرضا بالشرط كما ينعدم بالرضا من
السبب بخلاف ما نحن فيه
ولم يفصل في ظاهر الرواية بين أن يكون الشريك
عالما بأن المشتري معه قريب العبد أو لا يكون
عالما.
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لأن
سبب الرضا يتحقق وإن لم يكن عالما به فهو كمن
قال لغيره كل هذا الطعام وهو لا يعلم أنه
طعامه فأكله المخاطب فليس للآذن أن يضمنه شيئا
وكذلك لو قال لشريكه أعتق هذا العبد وهو لا
يعلم أنه مشترك بينهما.
وقد روي أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله
تعالى أن رضاه إنما يتحقق إذا كان عالما فأما
إذا كان لايعلم بذلك فله أن يرد نصيبه بالعيب
لأنه لايتم رضاه وقبوله حين لم يكن عالما بأن
شريكه معتق وبدون تمام القبول لا يعتق نصيب
الشريك فكان هذا بمنزلة العيب في نصيبه فإن لم
يكن عالما به كان له أن يرده. واستشهد في
الكتاب بقول أبي حنيفة رحمه الله بما لو أعتق
أحد الشريكين بإذن شريكه
وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في هذا
الفصل لا يسقط حق الشريك في التضمين بالإذن
وهذا صحيح على أصله لأن ضمان العتق عنده ضمان
التملك فإن العتق لا يتجزأ على قوله وضمان
التملك لا يسقط بالإذن كما لو استولد أحد
الشريكين الجارية بإذن شريكه.
وجه ظاهر الرواية أن هذا الضمان سببه الإفساد
والإتلاف فسقط بالإذن كضمان الإتلاف
ج / 7 ص -67-
الحقيقي بل أولى لأن هذا الضمان يسقط بالإعسار
وبخلاف ضمان الإتلاف الحقيقي فأما إذا ورث مع
قريبه غيره عتق نصيبه ولا ضمان عليه لشريكه
لأن الميراث يدخل في ملكه بغير قبوله والضمان
لا يجب إلا باعتبار الصنع من جهته ولهذا لو
ورث قريبه لم يجز عن كفارته وهذا بخلاف ما إذا
استولد جارية بالنكاح ثم ورثها مع غيره لأن
هناك المستولد يصير متملكا نصيب شريكه وضمان
التملك لا يعتمد الصنع ولهذا لا يختلف باليسار
والإعسار هناك ولو ملك محرما له برضاع أو
مصاهرة لم يعتق عليه لأنه لا قرابة بينهما
والعتق صلة تستحق بالقرابة والرضاع إنما جعل
كالنسب في الحرمة خاصة ولهذا لا يتعلق به
استحقاق الميراث والنفقة وليس من ضرورة ثبوت
الحرمة العتق عليه إذا ملكه كالوثنية
والمجوسية وكذلك إن ملك ذا رحم ليس بمحرم لأن
مثل هذه القرابة لا يفترض وصلها ولهذا لا
يتعلق بها حرمة المناكحة وحرمة الجمع في
النكاح.
ولو ملك أحد الزوجين صاحبه لم يعتق عليه لأنه
ليس بينهما قرابة ولأن ما بينهما من الزوجية
يرتفع بالملك وإذا اشترى أمة وهي حبلى من أبيه
عتق ما في بطنها لأنه ملك أخاه وليس له أن
يبيع الأمة حتى تضع لأن في بطنها ولدا حرا كما
لو أعتق ما في بطن أمته وهذا لأن الولد يصير
مستثنى بالعتق ولو استثناه شرطا في البيع بطل
البيع فكذلك إذا صار مستثنى بالعتق وله أن
يبيعها بعد الوضع لأن الأمة ما صارت أم ولد
للإبن فان المستولد أبوه ولا يصير الأب متملكا
لها على الابن لأنها ما كانت مملوكة للابن حين
علقت من الأب فلهذا كان له أن يبيعها والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب لوجوه من العتق
قال رضي الله تعالى عنه "ذكر عن أبي قلابة أن
رجلا أعتق عبدا له عند موته ولا مال له غيره
فأجاز رسول الله صلى اله عليه وسلم ثلثه
واستسعاه في ثلثي قيمته".
وفي هذا دليل أن العتق في المرض يكون وصية
وأنه ينفذ من ثلثه وأن معتق البعض يستسعي فيما
بقي من قيمته فيكون دليلا لنا على الشافعي رضي
الله عنه لأنه لا يرى السعاية على العبد بحال
ولكنه يقول يستدام الرق فيما بقي على ما نبينه
في مسألة تجزي العتق.
وذكر عن الحسن البصري أن رجلا
أعتق ستة أعبد له عند موته فأقرع رسول الله
صلى اله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين ورد
أربعة في الرق وبظاهر هذا الحديث يحتج الشافعي رحمه الله تعالى علينا. فإن المذهب
عندنا أن من أعتق ستة أعبد له في مرضه ولا مال
له غيرهم وقيمتهم سواء يعتق من كل واحد منهم
ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته وعند الشافعي رحمه
الله تعالى يجزئهم القاضي ثلاثة أجزاء ثم يقرع
بينهم فيعتق اثنين بالقرعة ويرد أربعة في
الرق. واستدل بهذا الحديث ورجح مذهبه بأن فيه
اعتبار النظر من الجانبين لأنه لو أعتق من كل
واحد منهم ثلثه تعجل تنفيذ الوصية وتأخر اتصال
حق الورثة إليهم بل في هذا إبطال حق الورثة
معنى لأن السعاية في معنى التأوى فإن المال في
ذمة المفلس يكون تأويا فإذا تعذر تنفيذ الوصية
بهذا.
ج / 7 ص -68-
الطريق
وجب جميع العتق في شخصين وتعيين المستحق
بالقرعة لأن ذلك أصل في الشرع وكان في شريعة
من قبلنا قال الله تعالى:{إِذْ
يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ} [آل عمران: من الآية44] وقال: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد
سفرا أقرع بين نسائه والقاضي إذا قسم المال بين الشركاء أقرع بينهم وبهذا تبين أن هذا
ليس في معنى القمار لأن في القمار تعليق أصل
الاستحقاق بخروج القدح وفي هذا تعيين المستحق
فأما أصل الاستحقاق ثابت بإيجاب المعتق.
"وحجتنا" في ذلك أن العبيد استووا في سبب
الاستحقاق وذلك موجب للمساواة في الاستحقاق
فلا يجوز اعطاء البعض وحرمان البعض كما لو
أوصي برقابهم لغيرهم لكل رجل برقبة بل أولى
لأن ملك الوصية يحتمل الرجوع من الموصي والرد
من الموصى له وهذه الوصية لا تحتمل ذلك فإذا
لم يجز حرمان البعض هناك فهنا أولى.
ثم فيما قاله الخصم ضرر الإبطال في حق بعض
الموصى لهم وفيما قلنا ضرر التأخير في حق
الورثة وضرر التأخير متى قوبل بضرر الإبطال
كان ضرر التأخير أهون وإذا لم نجد بدا من نوع
ضرر رجحنا أهون الضررين على أعظمهما مع أنه
ليس في هذا تعجيل حق الموصى له لأن عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى المستسعى مكاتب فلا
يعتق شيء منهم ما لم يصل إلى الورثة السعاية.
وعلى قولهما وإن تعجل العتق للعبيد وذلك ليس
بصنع منا بل بإعتاق الموصي ولزوم تصرفه شرعا
ولو أبطلنا حق بعض العبيد كان ذلك بإيجاب منا
ثم كلامه يشكل بما لو كان ماله دينا على مفلس
فأوصي به له فإنه يسقط نصيبه والباقي دين عليه
إلى أن يقدر على أدائه ولا وجه لتعيين المستحق
بالقرعة لأن تعيين المستحق بمنزلة ابتداء
الاستحقاق فإن الاستحقاق في المجهول في حكم
العين كأنه غير ثابت فكما أن تعليق ابتداء
الاستحقاق بخروج القرعة يكون قمارا فكذلك
تعيين المستحق، وإنما يجوز استعمال القرعة
عندنا فيما يجوز الفعل فيه بغير القرعة كما في
القسمة فإن للقاضي أن يعين نصيب كل واحد منهم
بغير قرعة فإنما يقرع تطييبا لقلوبهم ونفيا
لتهمة الميل عن نفسه. وبهذا الطريق كان يقرع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه
إذا أراد سفرا لأن له أن يسافر بمن شاء منهن
بغير قرعة إذ لا حق للمرأة في القسم في حال
سفر الزوج وكذلك يونس صلوات الله عليه عرف أنه
هو المقصود وكان له أن يلقي نفسه في الماء من
غير إقراع ولكنه أقرع كيلا ينسب إلى ما لا
يليق بالأنبياء. وكذلك زكريا عليه السلام كان
أحق بضم مريم إلى نفسه لأن خالتها كانت تحته
ولكنه أقرع تطييبا لقلوب الأحبار مع أن تلك
كانت معجزة له فقد روى أن أقلامهم كانت من
الحديد وكان الشرط أن من طفا قلمه على وجه
الماء فهو أحق بها وروي أنه كان من القصب،
وكان الشرط أن من استقبل قلمه جري الماء ولم
يجر مع الماء فهو أحق بها بقي اعتمادهم على
الحديث. ومن أصحابنا من قال هذا الحديث غير
صحيح لأن فيه أن الرجل كان له ستة أعبد قيمتهم
سواء ولم يكن له معهم شيء
ج / 7 ص -69-
آخر
وهذا من أندر ما يكون ولو ثبت فيحتمل أن الرجل
أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يعتقهم. وفي الحديث دليل عليه لأنه قال فأعتق
أثنين منهم وكان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يعتق أي الاثنين شاء منهم فأقرع
تطييبا لقلوبهم.
وذكر الجصاص أن معنى قوله فأعتق اثنين أي قدر
أثنين منهم وبه نقول فإنا إذا أعتقنا من كل
واحد منهم ثلثه فقد أعتقنا قدر أثنين منهم
ومعنى قوله فأقرع أي دقق النظر يقال فلان قريع
دهره أي دقيق النظر في الأمور ودقق الحساب بأن
جعل قدر الرقبتين بينهم أسداسا هذا تأويل
الحديث إن صح وعن إسماعيل ابن خالد عن الشعبي
رضي الله تعالى عنهم في رجل أعتق عبدا له عند
الموت ولا مال له غيره
قال عامر قال مسروق هو حر كله جعله لله لا
أرده وقال شريح يعتق ثلثه ويسعى في الثلثين
فقلت لعامر أي القولين أحب إليك قال فتيا
مسروق وقضاء شريح رضي الله تعالى عنهما. وفي
هذا إشارة أن العتق يتجزى في الحكم كما هو
مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأنه يجب
إتمامه ولا يجوز استدامة الرق فيما بقي منه
كما هو فتوى مسروق رحمه الله تعالى.
وعن علي رضي الله عنه أن
رجلا أعتق عبدا له عند الموت وعليه دين قال:
"يسعى العبد في قيمته" وعن أبي يحيى الأعرج رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يسعى
العبد في الدين"
والمراد إذا
كان الدين بقدر قيمته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه فإنه قال
تسعى الأمة في ثمنها يعني في قيمتها وهذا لأن
الدين مقدم على الوصية والميراث والعتق في
المرض وصية فوجب رده لقيام الدين ولكن العتق
لا يحتمل الفسخ والرق بعد سقوطه لا يحتمل
العود فكان الرد بإيجاب السعاية عليه وعن
إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا كان وصية
وعتق بدىءبالعتق وهكذا عن شريح وهو قول ابن
عمر رضي الله عنه لأن العتق أقوى سببا فإنه
يلزم بنفسه على وجه لا يحتمل الرد والرجوع عنه
والترجيح بقوة السبب أصل. وعن عمر رضي الله
عنه أنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعى بجيس وقال
لو كنت على ديننا لاستعنا بك على بعض أعمالنا
وفيه دليل على أن أعتاق النصراني قربة وأنهم
لا يؤتمنون على شيء من أمور المسلمين فإنهم لا
يؤدون الأمانة في ذلك.
وقد أنكر عمر رضي الله عنه ذلك على أبي موسى
الأشعري فإنه قال له مر كاتبك ليكتب لنا كذا
قال إن كاتبي لا يدخل المسجد قال أجنب هو قال
لا ولكنه نصراني فقال سبحان الله أما سمعت
الله يقول:{تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ
خَبَالاً} [آل عمران: من الآية118]. وعن عمر بن عبد العزيز أنه أعتق عبدا له
نصرانيا فمات العبد فجعل ميراثه لبيت المال.
وفيه دليل على أن المسلم لا يرث الكافر وإن
مات ولا وارث له فحصة ماله لبيت المال. وعن
ابن عمر رضي الله عنهما أن أمة فجرت فولدت من
الزنى فأعتقها ابن عمر رضي الله عنه وأعتق
ولدها. وفيه دليل على جواز التقرب إلى الله
تعالى بعتق ولد الزنى. وعن عمر
ج / 7 ص -70-
رضي
الله عنه أنه أوصى بولد الزنى خيرا وأوصى بهم
أن يعتقوا وهذا لأن له من الحرمة ما لسائر بني
آدم ولا ذنب لهم وإنما الذنب لآبائهم كما ذكر
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتأول في
أولاد الزنى:
{وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
[فاطر: من الآية 18].
وذكر عن إبراهيم وعامر رضي الله عنهما قالا لا
يجزئ ولد الزنى في النسمة الواجبة وكأنهما
تأولا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
"ولد الزنى شر الثلاثة" ولسنا نأخذ بقولهما فإن الله تعالى أمر بتحرير الرقبة وأكثر
المماليك لا تعرف آباؤهم عادة وتأويل الحديث:
"شر الثلاثة نسبا" فإنه لا نسب له أو قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مريدا فكان أخبث
من أبويه وإذا قال الرجل لأمته أمرك بيدك يعني
في العتق فإن أعتقت نفسها في مجلسها عتقت وإن
قامت منه قبل أن تعتق نفسها فهي أمة لأنه
ملكها أمرها وأهم أمورها العتق فتعمل نيبته في
العتق وجواب التمليك يقتصر على المجلس وقد
بيناه في الطلاق وذكرنا هناك أنه إذا لم ينو
الطلاق.
فالقول قوله فكذلك هنا إذا لم ينو العتق وكذلك
إن جعل أمرها في يد غيرها وإن قال لها اعتقي
نفسك فقالت قد اخترت نفسي كان باطلا لأن
كلامها يصلح جوابا للتخيير والمولى ما خيرها
إنما ملكها أمرها وقولها اخترت نفسي لا يصلح
للتصرف بحكم الملك ألا ترى أن المولى يملك
إعتاقها ولو قال لها اخترتك من نفسي أو اخترت
نفسي منك لا تعتق فكذلك قولها اخترت نفسي،
ولأن قوله: اعتقي نفسك إقامة منه إياها مقام
نفسه في إيقاع العتق فإنما يملك الإيقاع
باللفظ الذي كان المولى مالكا للإيقاع به ولو
قال لها أنت حرة إن شئت فإن قالت في مجلسها قد
شئت كانت حرة ولو قامت قبل أن تقول شيئا فهي
أمة والتفويض إلى مشيئتها بمنزلة التمليك منها
فتقتصر على الجواب في المجلس وكذلك إن قال إن
أردت أو هويت أو أحببت أو قال أنت حرة إن كنت
تحبينني أو تبغضينني. فالقول في ذلك قولها ما
دامت في مجلسها كما في الطلاق لأنه لا يوقف
على ما في قلبها إلا بإخبارها فكان هذا بمنزلة
التعليق بالإخبار بذلك وإن قالت في ذلك لست
أحبك ثم قالت أنا أحبك لم تصدق للتناقض ولأن
شرط البر قد تم بقولها الأول فلم يبق لها قول
مقبول بعد ذلك في حق المولى وكذلك لو قال إن
كنت تحبين العتق فأنت حرة
ولو قال أنت حرة إذا حضت كان القول في ذلك
قولها استحسانا لأنه لا يوقف عليه إلا من
جهتها ولكن هذا لا يقتصر على مجلسها لأنها لا
تقدر على الإخبار بالحيض على وجه تكون صادقة
فيه إلا بعد رؤية الدم وربما لا يتحقق في ذلك
المجلس فمتى قالت حضت عتقت ولو قال أنت حرة،
وفلانة إن شئت فقالت قد شئت نفسي لم تعتق لأن
قوله إن شئت ليس بكلام مستقل بنفسه فلا بد من
جعله بناء على ما سبق فيكون معناه إن شئت
عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئتها عتق نفسها
وكذلك لو قال لأمتيه أنتما حرتان إن شئتما
فشاءت إحداهما فهو باطل لأن معنى كلامه إن
شئتما عتقكما فلا يتم الشرط بمشيئة إحداهما
ولا بمشيئتهما عتق إحداهما ولو قال أيتكما
شاءت العتق فهي حرة فشاءتا جميعا عتقتا لأن
ج / 7 ص -71-
كلمة
أي تتناول كل واحدة منهما على الأنفراد فإن
شاءت إحداهما عتقت التي شاءت لأن مشيئة كل
واحدة منهما بهذا اللفظ شرط عتقهما ألا ترى
أنه قال أيتكما شاءت ولم يقل شاءتا وإن شاءتا
جميعا عتقتا فإن قال أردت إحداهما لم يصدق في
القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه
نوى التخصيص في اللفظ العام فإن كان نوى
إحداهما بعينها عتقت هي وإن نوى إحداهما لا
بعينها كان له أن يختار إحداهما فيعتقها ويمسك
الأخرى بمنزلة ما لو أعتق إحداهما لا بعينها
ولو قال كل مملوك لي فهو حر وله عبيد وأمهات
أولاد ومدبرون ومكاتبون عتقوا جميعا إلا
المكاتبين فإنهم لا يعتقون إلا أن ينويهم لأن
كلمة كل توجب التعميم وقد أوجب العتق لكل
مملوك مضاف إليه بالملكية مطلقا بقوله لي وهذا
يتحقق في العبيد وأمهات الأولاد والمدبرين
لأنه يملكهم رقا ويدا حتى يملك استغلالهم
واستكسابهم وهذا غير موجود في المكاتبين فإنه
يملكهم رقا لا يدا، بل المكاتب كالحر يدا حتى
كان أحق بمكاسبه ولا يملك المولى إكسابه
والثابت من وجه دون وجه لا يكون ثابتا مطلقا
فلهذا لا يدخلون إلا أن ينويهم فإن نواهم
فنقول المنوي من محتملات كلامه لأنه قد يضيف
إلى نفسه ما يكون مضافا إليه من وجه دون وجه
وإن قال أردت الرجال دون النساء دين فيما بينه
وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء لأنه نوى
التخصيص في اللفظ العام وهذا بخلاف ما لو قال
نويت السود منهم دون البيض فإنه لا يصدق في
القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأن
هناك نوى التخصيص بوصف ليس في لفظه ولا عموم
لما لا لفظ له فلا تعمل فيه نية التخصيص وهنا
نوى التخصيص فيما في لفظه لأن المملوك حقيقة
للذكور دون الإناث فإن الأنثى يقال لها مملوكة
ولكن عند الاختلاط يستعمل عليهم لفظ التذكير
عادة فإذا نوى الذكر فقد نوى حقيقة كلامه
ولكنه خلاف المستعمل فيدين فيما بينه وبين
الله تعالى ولا يدين في القضاء ولهذا قيل لو
قال نويت النساء دون الرجال كانت نيته لغوا.
قال "وكذلك لو قال لم أنو المدبرين لم يصدق
في القضاء" وفي كتاب الأيمان يقول إذا قال لم
أنو المدبرين لم يدين فيما بينه وبين الله
تعالى ولا في القضاء ففيه روايتان. وجه تلك
الرواية أنه نوى التخصيص بما ليس في لفظه لأن
التدبير وإن كان يوجب استحقاق العتق فلا يوجب
نقصانا في إضافته إليه بالملكية واليد.
وجه هذه الرواية أن إضافته إلى المولى برقه
والتدبير يمكن نقصانا في الرق لأن استحقاق
العتق على وجه لا يحتمل الفسخ لا يكون إلا بعد
نقصان في رقه ولهذا قيل المدبر من وجه كالحر
حتى لا يحتمل البيع فكان هو كالمكاتب من هذا
الوجه غير مضاف إلى المولى بمطلق الملك والرق
إلا أن النقصان هنا في الإضافة بمعنى خفي
فيدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء
ولا يخرج من الكلام بدون النية وفي المكاتب
النقصان بسبب ظاهر وهو ملك اليد له في مكاسبه
فلا يدخل إلا أن ينويه ولأن قوله كل مملوك لي
حر إنشاء العتق. وقد بينا أن عتق المدبر من
وجه تعجيل لما استحقه مؤجلا فلا يكون انشاء من
كل وجه فإذا قال: لم أنو
ج / 7 ص -72-
المدبرين فقد بين أنه نوى ما يكون إنشاء من كل
وجه خاصة وذلك أمر في ضميره خاصة فيدين فيما
بينه وبين الله تعالى ولو قال لعبيده أنتم
أحرار إلا فلانا كان كما قال لأن الكلام
المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء
الإستثناء وكذلك لو قال لعبدين أنتما حران إلا
سالما وهو اسم أحدهما كان سالم عبدا لأن كلامه
عبارة عما وراء المستثنى وقد بقي سوى المستثنى
عبد يمكن أن يجعل كلامه عبارة عنه ولو قال
سالم حر ومرزوق حر إلا سالما عتقا جميعا لأنه
تكلم بكلامين كل واحد منهما مستقل بنفسه بما
ذكر له من الخبر فكان قوله إلا سالما استثناء
لجميع ما تناوله أحد كلاميه وذلك باطل لأنه
تعطيل. والاستثناء للتحصيل والبيان وإنما
يتحقق ذلك إذا كان يبقى سوى المستثنى شيء
يتناوله ذلك الكلام وهذا بخلاف ما لو قال سالم
ومرزوق حران إلا سالما فإن الاستثناء صحيح هنا
لأن كلامه واحد هنا معنى حين أخر ذكر الخبر
حتى عطف إحداهما على الأخرى وذكر ما يصلح خبرا
للمستثنى. فعرفنا به أن كلامه واحد معنى فكأنه
قال هما حران إلا سالما فإن قال كل مملوك
أملكه أبدا فهو حر فهذا اللفظ إنما يتناول ما
يملكه في المستقبل لأنه قال أبدا وليس للأبد
نهاية في الحقيقة.
وفي العرف هو عبارة عن وقت في المستقبل إلى
موته ومن أصلنا أن العتق يحتمل الإضافة إلى
الملك كالطلاق فبأي سبب يملك المملوك من شراء
أو غيره فإنه يعتق لأن المضاف إلى وقت أو
المعلق بشرط عند وجوده كالمنجز وكذلك لو قال
كل مملوك أملكه إلى ثلاثين سنة وكذلك إذا قال
كل مملوك أشتريه فهو حر لأن الشراء سبب للملك
وإقامة السبب مقام الحكم صحيح فإن أمر غيره
فاشترى مملوكا لم يعتق لأنه جعل الشرط شراء
بنفسه ولم يوجد فإن حقوق العقد في البيع
والشراء إنما تتعلق بالعاقد والعاقد يستغني عن
إضافة العقد إلى الآمر بخلاف النكاح وإن كان
نوى أن لا يشتري هو ولا غيره عتق لأنه شدد
لأمر على نفسه بلفظ يحتمله فإنه نوى الحكم وهو
الملك بما ذكر من سببه وهو الشراء قالوا وهذا
كله إذا كان الرجل ممن يباشر العقد بنفسه فأما
إذا كان الحالف ممن لا يباشر الشراء بنفسه
عادة فأمر غيره بأن يشتري له عتق لأنه باليمين
منع نفسه عما يباشره عادة فإذا كان عادته
الشراء بهذا الطريق ينصرف يمينه إليه عند
الإطلاق. وإن قال: كل مملوك لي حر يوم أكلم
فلانا وليس له مملوك ثم اشترى مملوكا ثم كلمه
لم يعتق لأن قوله أملكه وإن كان ظاهرا في
الاستقبال فالمراد به الحال في الاستعمال يقال
فلان يملك كذا وأنا أملك كذا يعني في الحال
فما ليس بمملوك له في الحال لا يتناوله كلامه
لأن المضاف إلى وقت والمعلق بالشرط إنما
يتناول ما يتناوله المنجز فإذا كان العتق
المنجز بهذا اللفظ لا يتناول إلا ما يملكه في
الحال، فكذا المضاف إلى وقت بخلاف ما سبق لأن
الإضافة هنا في الملك لا في الحرية فلهذا
يتناول ما يملكه في المستقبل وإن كان قال يوم
أكلم فلانا فكل مملوك لي يومئذ حر عتقوا لأنه
أوجب العتق لما يكون في ملكه وقت الكلام وما
كان موجودا في ملكه وقت اليمين وما استحدث
الملك فيه موصوف بأنه مملوك له وقت الكلام
فيعتقون جميعا.
ج / 7 ص -73-
وإن
قال يوم أكلمه فكل مملوك أملكه أبدا فهو حر ثم
اشترى مملوكا ثم كلمه لم يعتق لأن المتعلق
بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز.
وقوله يوم أكلم فلانا شرط وقوله كل مملوك
أملكه أبدا حر فيصير عند وجود الكلام كأنه قال
كل مملوك أملكه أبدا وهذا اللفظ إنما يتناول
ما يملكه بعد الكلام دون ما كان مملوكا له قبل
الكلام والمشتري قبل الكلام مملوك له وقت
الكلام فلا يتناوله إيجابه وإن قال كل مملوك
أملكه حر يوم أكلم فلانا، وهو يريد ما يملكه
فيما يستقبل فاشترى مملوكا ثم كلمه عتق لأنه
نوى حقيقة كلامه، فإن حقيقة قوله أملكه
للاستقبال ولكن يعتق في القضاء من كان في ملكه
يوم حلف لأن ظاهر لفظه يتناول المملوك له في
الحال لغلبة الاستعمال فلا يصدق في صرف اللفظ
عن ظاهره.
وذكر في النوادر أنه يصدق لأن ما نوى من حقيقة
كلامه مستعمل أيضا وإنما لا يصدق في صرف
الكلام عن ظاهره إذا كان المنوي خلاف
المستعمل وإن قال كل مملوك لي حر وله عبد
بينه وبين آخر لم يعتق لأنه أوجب العتق لمملوك
مضاف إليه بالملك مطلقا والمملوك اسم للعبد
وهو المضاف إليه من وجه وإلى شريكه من وجه فلا
يتناوله مطلق كلامه فإن نواه عتق استحسانا وفي
القياس لا يعتق لأن نصيبه من العبد المشترك لا
يسمى عبدا ولا مملوكا فقد نوى خلاف الملفوظ
ولكن في الاستحسان يقول جزء من العبد موصوف
بأنه مملوك كالكل ولهذا صح إضافة التصرفات
المختصة بالملك إلى الجزء الشائع فإذا نواه
فقد شدد على نفسه بلفظ يحتمله وبدون نيته إنما
لم ندخله للعرف فإن المملوك اسم للعبد الكامل
عرفا وقد سقط اعتبار هذا العرف حين نوى بخلافه
توضيحه أن العبد المشترك مضاف إليه من وجه دون
وجه فيكون كالمكاتب يدخل بنيته وإن كان له عبد
تاجر له مماليك وعليه دين أو لا دين عليه عتق
العبد التاجر لأنه مملوك رقبة ويدا فيتناوله
مطلق الإضافة فأما مماليكه فعلى قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى إن كان عليه دين يحيط برقبته
وكسبه لم يعتق مماليكه نواهم أو لم ينوهم وإن
لم يكن عليه دين لم يعتق مماليكه إلا أن
ينويهم.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى سواء كان عليه
دين أو لم يكن فإن نواهم عتقوا وإن لم ينوهم
لا يعتقون وعند محمد رحمه الله تعالى سواء كان
عليه دين أو لم يكن يعتقون إلا أن يستثنيهم
بنيتة وهذا ينبني على أصلين أحدهما في المأذون
أن المولى لا يملك كسب العبد المأذون إذا كان
مستغرقا بالدين عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما يملكه. والثاني في الأيمان أن كسب
العبد لا يكون مضافا إلى المولى في قول أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وعند محمد
رضي الله تعالى عنه يكون حتى لو حلف لا يدخل
دار فلان فدخل دار عبده عند محمد رحمه الله
تعالى يحنث لأن حقيقة هذه الإضافة للملك وكسب
العبد مملوك لمولاه وعندهما الإضافة إلى
المولى مجاز وإلى العبد حقيقة لأنه كسبه قال
صلى الله عليه وسلم : "من باع عبدا وله مال ". والدليل عليه أنه يستقيم أن تنفي عن المولى فيقال هذه ليست بداره
بل هي دار
ج / 7 ص -74-
عبده
والعبرة للإضافة لا للملك ألا ترى أنه لو دخل
دارا يسكنها فلان عارية أو إجارة كان جاشا
إذا عرفنا هذا فنقول:
أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فالمولى لا
يملك كسب العبد إذا كان عليه دين حتى لو أعتقه
بعينه لم يعتق فكذلك بمطلق كلامه وإن نواه فإن
لم يكن عليه دين فهو غير مضاف إليه مطلقا فلا
يعتق بمطلق كلامه إلا أن ينويه فإن نواه عتق
لأن المنوي من محتملات كلامه وعند أبي يوسف
رحمه الله تعالى هو مالك له سواء كان عليه دين
أو لم يكن إلا أنه غير مضاف إليه مطلقا فلا
يدخل في كلامه إلا أن ينويه.
وعند محمد رحمه الله تعالى الإضافة باعتبار
الملك وهو مملوك له سواء كان عليه دين أو لم
يكن فيعتق بإيجابه إلا أن يستثنيه بنية فيعمل
استثناؤه لأنه نوى المضاف إليه من كل وجه وهذا
مضاف إليه ملكا ولكنه مضاف إلى عبده كسبا أو
نوى تخصيص لفظه العام فتعمل نيته فيما بينه
وبين الله تعالى. ولهذا لا يصدق في القضاء
وإذا دعا عبده سالما فأجابه مرزوق فقال أنت حر
ولا نية له عتق الذي أجابه لأنه اتبع الإيقاع
الجواب فيصير مخاطبا للمجيب. وإن قال عنيت
سالما عتق سالم بنيته لكون المنوى من محتملات
كلامه ولكنه لا يصدق في القضاء في صرف العتق
عن مرزوق لأن الإيقاع تناوله في الظاهر فلا
يدين في صرفه عنه في القضاء وهو مدين فيما
بينه وبين الله تعالى، وإن قال يا سالم أنت حر
وأشار إلى شخص ظنه سالما فإذا هو عبد آخر له
أو لغيره عتق عبده سالم لأنه اتبع الإيقاع
النداء فتناول المنادى خاصة ولا معتبر لظنه
فإن الظن لا يغني من الحق شيئا وإذا أعتق
الرجل عبده أو أمته ثم جحد العتق حتى أصاب من
الخدمة والغلة ما أصاب ثم أقر به أو قامت عليه
البينة فليس عليه في الخدمة شيء لأنه مجرد
استيفاء المنفعة ولا تتقوم المنفعة إلا بعقد
ألا ترى أنه لو غصب حرا فاستخدمه لم يكن عليه
شيء سوى المأثم عندنا فهذا مثله بل عينه لأنها
تبين أنها كانت حرة حين استخدمها ويرد عليها
ما أصاب من غلتها. ومراده إذا كانت هي التي
أجرت نفسها أو اكتسبت لأنه تبين أنها كانت حرة
مالكة لكسبها فعلى المولى أن يرد عليها ما أخذ
منها وإن كان هو الذي أجرها فما أخذ من الغلة
يكون مملوكا له لأنه وجب بعقده ولكن لا يطيب
له لأنه حصل له بكسب خبيث وعليه في الوطء لها
مهر المثل لأنه تبين أنه وطئها وهي حرة والوطء
في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر وقد سقط
الحد بالشبهة لأنها كانت مملوكة له يومئذ في
الظاهر فوجب المهر. وهذا لأن المستوفي بالوطء
في حكم العين دون المنفعة ولهذا يختص إباحة
تناوله بالملك ولا يملك بالعقد إلا مؤبدا وإن
كان أجنبي جنى عليه ثم أقر المولى أنه كان
أعتقه قبل ذلك لم يصدق على إلزام الجاني حكم
أرش الحر لأن إقراره ليس بحجة في حق الجاني.
وثبوت الحكم بحسب الحجة وإقراره حجة عليه خاصة
فما وجب من أرش المماليك يكون لها لأن المولى
حول ذلك بإقراره إليها وذلك صحيح منه لكونه
مقرى به على نفسه وإن قامت به بينة لزم الجاني
حكم الجناية على الحر لأن البينة حجة في حق
ج / 7 ص -75-
الكل.
والثابت من الحرية بها قبل الجناية كالثابت
معاينة على الحر ولا يجوز عتق الصبي والمجنون
في حال جنونه لأن قولهما هدر شرعا خصوصا فيما
يضرهما، ولأن العتق لا ينفذ إلا بقول ملزم لا
أنه ملزم في نفسه وقولهما غير ملزم شرعا وإن
أعتق في حال افاقته جاز لأنه مخاطب له قول
ملزم وهو يملك العبد حقيقة فينفذ عتقه. وإن
قال أعتقت عبدي وأنا صبي أو أنا نائم فالقول
قوله لأنه أضاف إقراره إلى حالة معهودة تنافي
إعتاقه فكان إنكارا للعتق معنى وإقرارا صورة
والعبرة للمعنى دون الصورة، وكذلك لو قال
أعتقته قبل أن يخلق أو قبل أن أخلق لأنه أضاف
إلى حالة معهودة تنافي تصور الإعتاق فيكون هذا
أبلغ في النفي من الإضافة إلى حالة تنافي
الإعتاق شرعا وإذا وجب تصديقه هناك فهنا أولى.
وإذا قال لعبده أنت حر متى شئت أو كلما شئت أو
إذا ما شئت فقال العبد لا أشاء ثم باعه ثم
اشتراه ثم شاء العتق فهو حر لأنه علق عتقه
بوجود مشيئته في عمره ولم يفت ذلك بقوله لا
أشاء لأنه يتحقق منه المشيئة بعده. وقوله لا
أشاء كسكوته أو قيامه عن المجلس ولا يجعل قوله
لا أشاء رد الأصل كلام المولى لأن تعليق العتق
بالشرط يتم بالمولى فلا يرتد برد العبد وإذا
بقي التعليق نزل العتق لوجود الشرط بمشيئته.
قال "ألا ترى أنه لو قال أنت حر إن دخلت
الدار ثم باعه ثم اشتراه فدخل الدار يعتق"
وهذا مذهبنا فأما عند الشافعي لا يعتق لأن
الملك عنده كما يشترط لانعقاد اليمين يشترط
لبقائها وبالبيع زال ملكه ولكنا نقول الملك
ليس بشرط لانعقاد اليمين وإنما الشرط وجود
المحلوف به فلهذا صححنا إضافة العتق إلى
الملك. والمحلوف به هو العتق ومحلية العبد
للعتق بصفة الرق وذلك لا ينعدم بالبيع إلا أنه
يشترط الملك عند وجود الشرط لنزول العتق لأن
تصرفه يتصل بالمحل عند وجود الشرط فأما قبل
ذلك بقاء اليمين ببقاء ذمته وبقاء المحلوف به
لكونه محلا للعتق فلا معنى لاشتراط الملك فيه.
وإن قال أنت حر حيث شئت فقام من مجلسه بطل ذلك
لأن حيث عبارة عن المكان أي أنت حر في أي مكان
شئت فليس في لفظه ما يوجب تعميما في الوقت
فيتوقت بالمجلس كقوله إن شئت وإن قال أنت حر
كيف شئت عتق في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ولم يعتق في قولهما ما لم يشأ قبل أن يقوم من
مجلسه وقد بينا هذا في الطلاق والعتق قياسه
وقوله كيف شئت في العتق ليس بشيء عند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن بعد نزول العتق لا
مشيئة لأحد في تغييره من وصف إلى وصف ولهذا لو
شاء العبد عتقا على مال أو إلى أجل أو بشرط أو
شاء التدبير فذلك باطل كله وهو حر وإن قال
عبدي حر وليس له إلا عبد واحد عتق لأنه عرف
محل العتق بإضافته إلى نفسه فكأنه عرفه
بالإشارة إليه ولأنه أوجب ما لا يتم إيجابه
إلا في ملكه فتعين ملكه له. فإن قال لي: عبد
آخر وإياه عنيت لم يصدق إلا ببينة لأن كلامه
تناول ذلك العبد الذي ظهر ملكه فيه باعتبار
الظاهر فيكون هو متهما في صرفه عنه إلا من لا
يعلم فلا يصدقه القاضي إلا بحجة ولو قال أبيعك
عبدا بكذا ولم يسمه ولم يره المشتري فالبيع
باطل لأنه
ج / 7 ص -76-
أوجبه
في مجهول وإيجاب البيع في المجهول باطل وهذه
جهالة تفضي إلى المنازعة بينهما فإن اتفقا أنه
هذا فالبيع جائز لأن الجهالة والمنازعة قد
ارتفعت باتفاقهما وكان بيانهما في الانتهاء
بمنزلة التعيين في الابتداء وإن قال أبيعك
عبدي بكذا ولم يسم كان المشتري بالخيار إذا
رآه لأنه عرفه بالإضافة إلى نفسه فكان بمنزلة
التعريف بالإشارة إلى مكانه وليس في ذلك
المكان مسمى بذلك الاسم إلا واحد وثبوت الخيار
للمشتري لعدم الرؤية.
قال "وليس هذا كالعتق" وظن بعض مشايخنا رحمهم
الله تعالى أن مراده الفرق بينهما في إثبات
خيار الرؤية وليس كذلك بل المراد هو الفرق لأن
إيجاب العتق في المجهول صحيح بخلاف إيجاب
البيع حتى لو قال أعتقت عبدا وليس له إلا عبد
واحد يعتق ذلك العبد بخلاف ما لو قال بعتك
عبدا لأن المنازعة تتمكن بسبب الجهالة في
البيع دون العتق والبيان من المولى مقبول في
العتق لأنه إيجاب لا يقابله استيجاب بخلاف
البيع ولو قال أحد عبدي حر أو أحد عبيدي حر
وليس له إلا عبد واحد عتق ذلك العبد لأنه عرف
محل العتق بإضافته إلى نفسه بالملكية وإذا كان
المضاف إليه بالملكية واحدا كان متعينا
لإيجابه ولو قال لعبديه أحدكما حر عتق أحدهما
لا بعينه لأن العتق يحتمل التعليق بالشرط فيصح
إيجابه في المجهول كالطلاق وهذا لأن المتعلق
بالشرط إنما ينزل عند وجود الشرط والإيجاب في
المجهول في حق العين كالمتعلق بشرط البيان
فيما يحتمل التعليق بالشرط فيصح إيجابه في
المجهول فإن مات أحدهما أو قتل تعين العتق في
الآخر لأن الذي مات خرج من أن يكون محلا
لإيقاع العتق عليه والعتق المبهم في حق
المعين، كالنازل عند البيان فلا بد من بقاء
لمحل ليبقى خياره في البيان وعدم التعين في
الباقي منهما كان لمزاحمة الآخر إياه وقد زالت
هذه المزاحمة بخروج أحدهما من أن يكون محلا
للعتق فلهذا يتعين في الآخر وهذا بخلاف البيع
فإنه لو اشترى أحد العبدين وسمى لكل واحد
منهما ثمنا وشرط الخيار لنفسه ثم مات أحدهما
تعين البيع في الهالك وهنا يتعين العتق في
القائم.
قال علي القمي وفي الحقيقة لا فرق بينهما لأن
الهالك يهلك على ملكه في الفصلين والأصح أن
يقول هناك حين أشرف أحدهما على الهلاك تعين
البيع فيه لأنه تعذر عليه رده كما قبض فإنما
يتعين للبيع وهو حي لا ميت وهنا لو تعين العتق
فيه تعين بعد الموت لأنه بالإشراف على الهلاك
لا يخرج من أن يكون محلا للعتق وبعد الموت هو
ليس بمحل للعتق فيتعين في القائم ضرورة وكذلك
لو باع أحدهما أو وهبه لأنه اكتسب فيه سبب
التمليك والمعتق لا يكون محلا للتمليك فمن
ضرورة اكتساب سبب التمليك. فيه نفي العتق عنه
وذلك يخرجه من مزاحمة الآخر في ذلك العتق وهذا
لأن تصرف العاقل محمول على الصحة ما أمكن ومن
ضرورة صحة هذا التصرف انتفاء ذلك العتق عن هذا
المحل وكذلك لو دبر أحدهما صح تدبيره لأنهما
مملوكاه في الظاهر ومن ضرورة صحة التدبير
انتفاء ذلك العتق عنه لأن المعتق لا يدبر وهذا
لأن التدبير تعليق للعتق بالشرط والعتق في محل
واحد غير متعدد فمن
ج / 7 ص -77-
ضرورة
تنجزه بطلان التعلق بالموت ومن ضرورة صحة
تعليقه بالموت انتفاء تنجز العتق فيه قبله
وكذلك لو كانا أمتين فوطىءإحداهما فعلقت منه
لأنها صارت أم ولد له فمن ضرورة صحة أمية
الولد واستحقاق العتق بها انتفاء العتق المنجز
عنها وإذ انتفى عن إحداهما تعين في الأخرى
لزوال المزاحمة ولو وطىءإحداهما ولم تعلق منه
فكذلك الجواب في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى وفي قول أبي حنيفة لا يتعين العتق
في الأخرى بل يبقى خياره في البيان.
وجه قولهما أن الوطء تصرف لا يحل إلا بالملك
فاقدامه عليه في إحداهما دليل تعيين الملك
فيها ومن ضرورته انتفاء ذلك العتق عنها فتعين
في الأخرى وقاسا بما بينا من التصرفات وبما لو
قال لامرأتين له إحداكما طالق ثلاثا ثم
وطىءإحداهما تعين الطلاق في الأخرى وهذا لأن
فعل المسلم محمول على الحل ما أمكن لأن عقله
ودينه يمنعه من الحرام. ووطؤهما جميعا ليس
بحلال له حتى لا يفتى له بذلك فكان من ضرورة
حل الوطء في إحداهما انتفاء العتق عنها ألا
ترى أنه لو باع جارية على أنه بالخيار ثلاثة
أيام ثم وطئها في مدة الخيار يصير فاسخا للبيع
وهناك الجارية باقية على ملكه ووطؤها حلال له
ثم كان من ضرورة الإقدام على الوطء انتفاء سبب
المزيل عنها فهنا أولى وكذلك لو باع إحدى
الأمتين وسمى لكل واحدة منهما ثمنا وشرط
الخيار لنفسه ثم وطئ إحداهما فليس له أن يعين
البيع فيها بعد ذلك وكذلك إن كان المشتري
بالخيار فوطئ إحداهما تعين البيع فيها لإثبات
صفة الحل لفعله فهذا قياسه.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول وطؤهما جميعا
مملوك له والوطء في الملك بمنزلة الاستخدام
لأنه من حيث الحقيقة ليس في الوطء إلا استيفاء
المنفعة وإنما تظهر المفارقة بينهما من طريق
الحكم وذلك في غير الملك فبقي في الملك الوطء
نظير الاستخدام وبيان أن وطأهما مملوك له أما
من حيث الحكم فلأنهما لو وطئهما بالشبهة كان
الواجب عقر المملوكتين وكان ذلك كله للمولى
وإنما يملك البدل بملك الأصل ومن حيث الحقيقة
فلأنهما كانتا مملوكتين له قبل إيجاب العتق
وإنما أوجب العتق في نكرة وكل واحدة منهما
بعينها معرفة والمنكر غير المعرف فلا يجوز
إيجاب العتق في المعين قبل بيانه لأنه إيجاب
في غير المحل الذي أوجبه.
ولا يقول هو في الذمة كما توهمه بعض أصحابنا
رضي الله عنهم لأنه ما أوجبه في الذمة ولكن
قول هو في المنكر كما أوجبه وعدم التعين لا
يمنع صحة الإيجاب فيما هو أضيق من هذا معنى
حتى لو باع قفيزا من صبرة جاز فلأن لا يمنع
صحة الإيجاب هنا أولى، ولكن الإيجاب في المنكر
كالمتعلق بشرط البيان في حكم العين والتعليق
بالشرط يمنع الوصول إلى المحل وفيما لا يحتمل
التعليق بالشرط كالبيع المعتبر انتفاء معنى
المنازعة لصحة الإيجاب فإذا بقيت كل واحدة
منهما مملوكة له عينا بقي وطء كل واحدة منهما
مملوكا له ولكن لا يفتى بالحل لأن المنكر الذي
وجب فيه العتق فيهما. والحل والحرمة مبني على
الاحتياط فلهذا لا
ج / 7 ص -78-
يفتى
بحل وطئهما له وإن كان وطؤهما مملوكا له وهذا
بخلاف النكاح فإن ملك النكاح ليس إلا ملك الحل
والطلاق موجبه الأصلي حرمة المحل ولا يجتمع
الوصفان في محل واحد فمن ضرورة كون ملك المتعة
بإقباله في الموطوءة انتفاء التطليقات عنها
فيتعين في الأخرى وأما العتق يزيل ملك الرقبة
وحل الوطء باعتبار ملك المتعة لا باعتبار ملك
الرقبة وليس من ضرورة ملك المتعة في محل
انتفاء العتق عن ذلك المحل. ولا يقال هنا لا
سبب لملك المتعة إلا ملك الرقبة ومن ضرورة
انتفاء ملك الرقبة انتفاء ملك المتعة الثابت
بسببه لأن ما كان طريقه طريق الضرورة تعتبر
فيه الجملة لا الأحوال ألا ترى أن الجارية
المبيعة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فقطعت
يد الولد وأخذ المشترى الإرش ثم ادعى البائع
نسب الولد بطل البيع وحكم بحرمة الأصل للولد
وبقي الإرش سالما للمشتري ولا سبب في هذا
الموضع لملكه الإرش سوى ملك الرقبة ثم نظر إلى
الجملة دون الأحوال وكذلك لو اشترى لحما
فأخبره عدل أنه ذبيحة مجوسي يحرم عليه تناوله
وسبب الملك هنا ملك العين ولما كان حل التناول
يثبت في الطعام في الجملة من غير ملك نظر إلى
الجملة دون الأحوال بخلاف حل الوطء إذا تقرر
هذا.
فنقول لا منافاة بين ملك المتعة والحرية في
محل واحد ابتداء وبقاء في الجملة وأكثر ما في
الباب أن يكون إقدامه على الوطء دليل بقاء ملك
المتعة له في هذا المحل وذلك لا يوجب منافاة
الحرية عنه ضرورة توضيحه أن وطء إحداهما دليل
الحرمة في الأخرى والتصريح بالحرمة يجوز أن
يقع به الطلاق بأن يقول لامرأته أنت علي حرام
بنية الطلاق فكذلك ما يدل على الحرمة في
الأخرى يحصل به البيان فأما التصريح بالحرمة
لا ينزل به العتق فكذلك البيان لا يحصل بما
يكون دليل الحرمة في إحداهما لأن البيان في حق
المحل كالإيجاب ابتداء ولهذا لا يصح بعد الموت
فأما في البيع بشرط الخيار لو لم يجعله فاسخا
للبيع بالوطء لكان إذا جاز البيع يملكه
المشتري من وقت العقد حتى لو وطئت بالشبهة كان
الإرش للمشتري فتبين به أن البائع وطئها في
غير ملكه.
فلهذا جعلناه بيانا وهنا لو عين العتق في
الموطوءة لا يتبين انعدام ملكه فيها سابقا على
الوطء بدليل أنها لو وطئت بشبهة يكون الإرش
سالما للمولى وإن عين العتق فيها مع أن فسخ
البيع هناك يحصل بالجناية وهنا لا يحصل
بجنايته على إحداهما بالبيان فكذلك بالوطء
وكذلك في بيع إحدى الأمتين. أما إذا كان
الخيار للمشتري فلأنه لا يملك إحداهما إلا بعد
تعيين البيع فيها وإذا كان الخيار للبائع
فلأنه لو عين البيع فيها بعد الوطء يثبت الملك
للمشتري من وقت البيع ويتبين أنه وطئها في غير
ملكه فللتحرز عن هذا تعين البيع في الأخرى
ضرورة.
وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله
تعالى أنه لو قبل إحداهما أو لمسها بشهوة أو
نظر إلى فرجها فكذلك أيضا لأن هذه الأفعال لا
تحل إلا في الملك كالوطء ولو أعتق إحداهما
بعينها ثم قال إياها كنت عنيت بذلك العتق
الأول كان مصدقا.
ج / 7 ص -79-
أما
عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
فلأن العتق الأول في حق العين لم يكن نازلا
حتى يقال له أوقع فكان هذا إيقاعا لذلك العتق
في العين.
وعند محمد رحمه الله تعالى هو نازل في إحداهما
حتى يقال له بين على ما ذكره في الزيادات ولكن
لفظه في الإيقاع والبيان يتقارب. والبيان
مستحق عليه فيحمل فعله على الوجه المستحق، وإن
قال أردت به الإيقاع ابتداء صح إيقاعه لأنها
بقيت على ملكه بعد العتق المبهم محلا قابلا
لتصرفه وبتقرر إيقاعه تخرج عن أن تكون محلا
لذلك العتق المبهم فيتعين في الأخرى كما لو
دبر إحداهما ولو فقأ رجل عين إحداهما فالمولى
على خياره لأن المفقوء عينها محل للعتق
كالأخرى وسواء أوقع العتق عليها أو على
الأخرى. فالواجب على الفاقيء أرش عين الأمة
للمولى أما إذا أوقع على الأخرى فلا إشكال فيه
وكذلك إذا أوقع على المفقوء عينها لأنها كانت
مملوكة حين فقئت عينها فصار أرش عين المملوكة
مستحقا للمولى ثم إيقاع العتق عليها يعمل فيما
بقي منها دون ما فات ونظيره أرش اليد في ولد
الجارية المبيعة إذا ادعى البائع نسبه أنه
يبقي سالما للمشتري وإن قال كنت عنيتها حين
أوقعت العتق أو قال كنت أوقعت العتق عليها قبل
فقء العين لم يصدق في حق الجاني لأن الواجب
عليه أرش مملوكة فهو بهذا الكلام يريد أن
يلزمه أرش عين حرة ولكنه يصدق على نفسه حتى
يكون ذلك الأرش لها لأنه هو المستحق للأرش
ظاهرا وقد أقربه لها فإقراره صحيح في حق نفسه
ولو قتلهما رجل واحد فإن قتل إحداهما قبل
الأخرى فعليه قيمة الأولى للمولى وديه الأخرى
لورثتها لأن بقتل إحداهما يتعين العتق في
الأخرى ضرورة فتبين أنه قتلها وهي حرة وإن
قتلهما معا كان عليه قيمة أمة ودية حرة إن
استوت القيمتان وإن اختلفت فعليه نصف قيمة كل
واحدة منهما ونصف دية حرة لأنا نتيقن أنه قتل
حرة وأمة وقتل الحر يوجب الدية وليست إحداهما
بأولى من الأخرى فيلزمه نصف قيمة كل واحدة
منهما ونصف ديتها لأن البيان فات حين قتلتا
وعند فوت البيان يشيع العتق فيهما.
فإن قيل إذا لم يكن العتق نازلا في إحداهما
كيف يجب عليه دية حرة؟
قلنا: هذا إنما يلزم من يقول أن العتق نازل
في الذمة ونحن قلنا أن العتق نازل في المنكر
وذلك المنكر فيهما لا يعدوهما فعند اتحاد
القاتل يعلم أنه قاتل للمنكر الذي نزل فيه
العتق وهو بمنزلة ما قال في الجامع لو أوصى
لرجل بأحد عبديه ثم مات فأعتقهما الموصى له ثم
عين الوارث وصيته في أحدهما تعين ذلك المعين
من قبله ثم نصف ما وجب في بدل نفس كل واحدة
منهما يكون لمولاها والنصف لورثتها لأن كل
واحدة منهما إن كانت حرة فبدل نفسها لوارثها
وإن كانت أمة فبدل نفسها لمولاها فيتوزع نصفين
للمساواة ولو قتلهما رجلان كل واحد منهما قتل
إحداهما فإن كان على التعاقب فعلى القاتل
الأول قيمة الأولى لمولاها وعلى القاتل الثاني
ديتها لورثتها لأن العتق تعين فيها وإن كان
معا فعلى كل واحد منهما قيمة أمة لأن كل واحد
من القاتلين إنما قتل إحداهما بعينها والعتق
في حق العين كأنه غير نازل،
ج / 7 ص -80-
فكانت
كل واحدة منهما مملوكة عينا وإنما نزول العتق
في المنكر ولا يتيقن أن كل واحد منهما قاتل
لذلك المنكر فإنما وجب على كل واحد منهما
القدر المتيقن به وهو القيمة ولم يبين في
الكتاب أن ذلك للمولى أو لورثتها.
وقيل هذا والأول سواء النصف للمولى من كل
واحدة منهما والنصف للورثة لأن في حق المولى
الحرية ثابتة في إحداهما فلا يستحق بدل نفسها
فيتوزع ذلك نصفين لهذا ولو قطع أيديهما رجل
واحد جميعا معا أو إحداهما قبل الأخرى أو فعل
ذلك رجلان كان الواجب أرش يدي مملوكتين ويسلم
ذلك كله للمولى لأن بعد قطع اليد يبقى خيار
المولى لبقاء كل واحدة منهما محلا للعتق وما
بقي خيار المولى لا يكون العتق نازلا في عين
إحداهما فإنما أبينت يد كل واحدة منهما على
حكم الرق بخلاف الرق فإنه لا يبقى خيار المولى
في البيان بعد ما قتلت أو إحداهما وإذا لم يبق
خياره لم يكن بد من الحكم بشيوع العتق فيهما
وإذا كان قاتلهما واحدا نتيقن بأنه قتل حرة
وأمة وإن لم يجن عليهما أحد ولكن المولى مات
قبل أن يبين عتق من كل واحدة منهما نصفها وسعت
في نصف قيمتها لأن البيان فات بموت المولى فإن
وارثه لا يخلفه في ذلك فإنه لا يقف على مراده
ولأن مجرد الخيار لا يورث ولما فات البيان شاع
العتق فيهما إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى
وبعد ما عتق نصف كل واحدة منهما يجب إخراج
النصف الباقي إلى الحرية بالسعاية. وإن اختار
المولى عند الموت إحداهما عتقت كلها ولا يعتبر
من ثلث ماله لأن الإيقاع كان منه في الصحة وقد
تم الاستحقاق به في حقه معتبرا من جميع ماله
لأنه لا تنكير في جانبه فلا يتغير ذلك ببيانه
عند الموت وهو نظير ما لو طلق إحدى نسائه
الأربع قبل الدخول من غير عينها كان له أن
يتزوج أخرى لأن إحداهن قد بانت في حقه فإنه لا
تنكير في جانبه. ولو جنت إحداهما جناية قبل أن
يختار المولى ثم اختار إيقاع العتق عليها بعد
علمه بالجناية كان مختارا للجناية لأنه كان
متمكنا من أن يوقع العتق على الأخرى فإيقاعه
على هذه في حق أولياء الجناية بمنزلة إعتاق
مبتدأ لأنه يمتنع به دفعها فيصير مختارا للدية
ولا يصدق في حقهم أنه كان أرادها بذلك العتق
السابق. وإن مات المولى قبل البيان عتق من كل
واحدة منهما نصفها وسعت كل واحدة منهما في نصف
قيمتها لورثة المولى وكان على المولى قيمة
التي جنت في ماله لأنه تعذر دفعها حين عتق
نصفها على وجه لم يصر المولى مختارا بل صار
مستهلكا بترك البيان في الأخرى حتى مات فيلزمه
قيمتها كما لو أعتق الجانية قبل أن يعلم
بالجناية
ولو باع إحداهما على أنه بالخيار وقع العتق
على الأخرى لأن تصرفه بالبيع في إحداهما نافذ
ومن ضرورة نفوذه خروجها من أن تكون محلا لذلك
العتق فيتعين في الأخرى، وكذلك لو باع إحداهما
بيعا فاسدا وقبضها المشتري وهذا أظهر لأن
المشتري بالقبض قد ملكها فمن ضرورته تعين
العتق في الأخرى.
ولكن قيل لا معتبر بهذه الزيادة فسواء قبضها
المشتري أو لم يقبضها تعين العتق في الأخرى
لأن البيع اسم خاص لتمليك مال بمال ففي قوله
بعت هذا بكذا إقرار بأنه لا حظ لها
ج / 7 ص -81-
في ذلك
العتق فيتعين في الأخرى. ألا ترى أنه لو عرض
إحداهما على البيع تعين الأخرى للعتق محفوظ عن
أبي يوسف رحمه الله تعالى. فإذا باع إحداهما
بيعا فاسدا أولى وهذا لأن دليل البيان ممن له
الخيار كصريح البيان كما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما خير بريرة قال لها:
"إن وطئك زوجك
فلا خيار لك"وكذلك لو
باع إحداهما بعينها على أن المشتري بالخيار
عتقت الباقية وهذا أظهر لأن المشتري لو أعتقها
عتقت من قبله فمن ضرورة هذا التصرف خروجها من
أن تكون مزاحمة في ذلك العتق وكذلك لو كاتب
إحداهما لأنه بالكتابة يوجب لها ملك اليد في
نفسها ومكاسبها بعوض. وهذا لا يتحقق في العتق
فكان انتفاء العتق عنها من ضرورة تصرفه، وكذلك
لو رهن إحداهما لأنه أثبت للمرتهن يد
الاستيفاء في ماليتها بتصرفه ومن ضرورته
انتفاء العتق عنها وكذلك لو أجر إحداهما لأنه
التزم تسليمها إلى المستأجر بولاية الملك ومن
ضرورته إنتفاء العتق عنها وإن استخدمها لم
تعتق الباقية لأنه ليس من ضرورة استخدامه
إياها انتفاء العتق عنها فالإنسان قد يستخدم
الحرة خصوصا إذا كانت مولاة له ويحل له ذلك
شرعا برضاها فلا يكون ذلك دليل البيان.
وقد بينا أن الإعتاق من الصبي لا يجوز وهو
مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك لو
قال كل مملوك أملكه إذا احتلمت فهو حر لأن
اليمين لا تنعقد إلا بقول ملزم وليس للصبي قول
ملزم شرعا خصوصا فيما لا منفعة له فيه
والمجنون كالصبي وإذا قال الصحيح عبدي حر يوم
أفعل كذا ففعل ذلك وهو معتوه عتق عبده إلا على
قول ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه فإنه
يقول المعلق بالشرط عند وجود الشرط. كالمنجز
والمعتوه ليس من أهل تنجيز العتق ولكنا نقول
العته لا يعدم ملكه ولا يمنع تحقق الفعل منه
إنما يهدر قوله ولا حاجة إلى قوله عند وجود
الشرط والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز
بذلك التعليق السابق وقد صح منه، وإذا أعتق
الرجل عبده وهو من أهل الحرب في دار الحرب ثم
صار ذميا أو أسلم وعبده معه في يده فهو عبده
وعتقه وتدبيره في دار الحرب باطل عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى عتقه نافذ لأنه
إزالة الملك بطريق الإبطال فيصح في دار الحرب
كالطلاق ثم ملك الحربي أضعف من ملك المسلم
فإذا كان ملك المسلم يزول بالعتق مع تأكده
بالإحراز فملك الحربي أولى وهما يقولان: لا
فائدة في هذا العتق لأنه معتق بلسانه مسترق
بيده وهو محل للاسترقاق والدار دار القهر
فعرفنا أنه غير مفيد شيئا ولأن الإعتاق إحداث
قوة وإذا كان العبد حربيا لا يتحقق فيه معنى
إحداث القوة لأنه عرضة للتملك.
ولهذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أهل
الحرب بمنزلة الأرقاء حتى لو كان العبد مسلما
كان العتق نافذا.
وبعض أصحابنا يقولون لا خلاف في نفوذ العتق
على ما فسره محمد رحمه الله تعالى في
ج / 7 ص -82-
السير
الكبير أنه إذا كان من حكم ملكهم أنه يمنع
المعتق من استرقاق المعتق فإنه ينفذ العتق
وإنما الكلام في إثبات الولاء على ما ذكره
الطحاوي أن عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى لا ولاء عليه للمعتق وله أن يوالي من
شاء.
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى استحسن أن يكون
ولاؤه للذي أعتقه لأن الولاء كالنسب ولا خلاف
أن النسب يثبت في دار الحرب حتى لو قال
المستأمن لغلمان في يده هؤلاء أولادي أو لجوار
في يده هن أمهات أولادي قبل ذلك منه فكذلك
الولاء يثبت في دار الحرب ثم يتأكد بالخروج
إلى دار الإسلام ولا يبطل.
وهما يقولان ثبوت الولاء للمعتق على المعتق
حكم شرعي ودار الحرب ليس بدار الأحكام وهو أثر
ملك محترم ولا حرمة لملك الكافر ثم لو أحرز
المملوك نفسه بدارنا لم يكن لأحد عليه ولاء
فكذلك المعتق والأصل فيه ما روي أن ستة من أهل
الطائف خرجوا حين كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم محاصرا لهم ثم خرج مواليهم يطلبون ولاءهم
فقال صلى الله عليه وسلم "أولئك
عتقاء الله" إلا أن أبا يوسف رحمه الله تعالى يقول هناك لم يوجد من الموالي
اكتساب سبب الولاء وإنما زال ملكهم بتباين
الدارين وهنا من المولى قد وجد اكتساب سبب
الولاء بالعتق والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهادة في العتق
قال رضي الله عنه "وشهادة الشهود على عتق
الأمة جائزة وإن كانت هي منكرة" لأن هذا فرج
معناه أن عتق الأمة يتضمن تحريم فرجها على
المولى وذلك من حق الشرع وفيما هو حق الله
تعالى الشهادة تقبل حسبة من غير الدعوى.
فإن قيل فعلى هذا ينبغي أن يكتفي بشهادة
الواحد لأنه أمر ديني وخبر الواحد فيه حجة
تامة.
قلنا: خبر الواحد إنما يكون حجة في الأمر
الديني إذا لم تقع الحاجة إلى التزام المنكر
وهنا الحاجة ماسة إلى ذلك ولأن في هذا ازالة
الملك والمالية عن المولى وخبر الواحد لا يكفي
لذلك فلهذا لا بد من أن يشهد به رجلان.
فإن قيل: فإذا كانت هي أخته من الرضاعة قبلت
الشهادة على عتقها مع جحودها وليس فيه تحريم
الفرج هنا.
قلنا: بل فيه معنى الزنى لأن فعل المولى بها
قبل العتق لا يلزمه الحد وبعد العتق يلزمه
الحد وبضعها مملوك للمولى وإن كان هو ممنوعا
عن وطئها للمحرمية ألا ترى أنه يزوجها وإن بدل
بضعها يكون له فيزول ذلك الملك بإعتاقها ولأن
الأمة في إنكار العتق متهمة لما لها من الحظ
في الصحبة مع مولاها ولا معتبر لإنكار من هو
متهم في إنكاره فجعلناها كالمدعية لهذا فأما
الشهادة على عتق العبد لا تقبل مع جحود العبد
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وتقبل في
قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
ج / 7 ص -83-
وجه
قولهما أن المشهود به حق الشرع وعدم الدعوى لا
يمنع قبول الشهادة عليه كعتق الأمة وطلاق
الزوجة.
وبيان ذلك أن المشهود به العتق وهو حق الشرع
ألا ترى أنه لا يحتاج فيه إلى قبول العبد ولا
يرتد برده وإنه مما يجوز أن يحلف به وإنما
يحلف بما هو حق الشرع وأن إيجابه في المجهول
صحيح ولا يصح إيجاب الحق للمجهول ويتعلق به
حرمة استرقاقه وذلك حق الشرع قال النبي عليه
الصلاة والسلام:
"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" وذكر في جملتهم من استرق الحر ويتعلق به حكم تكميل الحدود ووجوب
الجمعة، والأهلية للولايات ثم الاسترقاق على
أهل الحرب عقوبة بطريق المجازاة لهم حين
أنكروا وحدانية الله فجازاهم على ذلك بأن
جعلهم عبيد عبيده فإزالته بعد الإسلام يكون
حقا للشرع ولهذا كانت قربة تتأدى بعض الواجبات
بها.
والدليل عليه أن التناقض في الدعوى لا يمنع
قبول البينة حتى لو أقر بالرق ثم ادعى حرية
الأصل وأقام البينة قبلت بينته والتناقض يعدم
الدعوى.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة
والسلام
"ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد" فقد جعل أداء الشهادة قبل الاستشهاد من أمارات الكذب فظاهره يقتضي
أن لا يكون مقبولا منه إلا حيث خص بدليل
الإجماع والمعنى فيه أن إزالة ملك اليمين
بالقول ولا يتضمن معنى تحريم الفرج فلا تقبل
الشهادة فيه إلا بالدعوى كالبيع وتأثيره أن
المشهود به حق العبد لأن الإعتاق إحداث قوة
المالكية والاستبداد فيتضمن انتفاء ذل
المالكية والرق وذلك كله حق العبد فأما ما
وراء ذلك من ثمرات العتق فلا يعتبر ذلك وإنما
يعتبر المشهود به فإذا كان حقا للعبد يتوقف
قبول البينة على دعواه ونحن نسلم أن في السبب
معنى حق الشرع ولهذا لا يتوقف على قبوله ولا
يرتد برده ولكن هذا لا يدل على قبول البينة
فيه من غير الدعوى كالعفو عن القصاص ثم العبد
غير متهم في هذا الإنكار لأن العاقل لا يجحد
الحرية ليستكسبه غيره فينفق عليه بعض كسبه
ويجعل الباقي لنفسه فصح إنكاره وصار به مكذبا
لشهوده بخلاف الأمة لأنها متهمة في الأنكار
على ما قلنا حتى لو كان العبد متهما بأن كان
لزمه حد قذف أو قصاص في طرف فأنكر العتق تقبل
الشهادة.
ومن أصحابنا من قال التناقض إنما يعدم الدعوى
فيما يحتمل الفسخ بعد ثبوته لأن أول كلامه
ينقض آخره وآخره ينقض أوله فأما فيما لا يحتمل
النقض بعد ثبوته فلا معتبر بالتناقض كما في
دعوى النسب فإن الملاعن إذا أكذب نفسه ثبت
النسب منه ولا ينظر إلى تناقضه في الدعوى ولا
ناقض لحرية الأصل في دارنا فالتناقض فيه لا
يكون معدما للدعوى وهذا ضعيف.
فإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه بعد
ما أقر بنسب ولد أمته لغيره لو ادعاه لنفسه لا
يصح للتناقض والنسب لا يحتمل النقض والوجه أن
يسلك فيه طريقة الشبهين فنقول من حيث السبب
المشهود به من حق الشرع بمنزلة طلاق الزوجة
وعتاق الأمة ومن حيث
ج / 7 ص -84-
الحكم
المطلوب بالسبب هو حق العبد كما بينا وما تردد
بين الشبهين يوفر حظه عليهما فلشبهه بحقوق
العباد قلنا الشهادة لا تقبل بدون الدعوى
ولشبهه بحق الشرع قلنا التناقض في الدعوى لا
يمنع قبول البينة عليه وإذا شهدوا أنه أعتق
عبده سالما ولا يعرفون سالما وله عبد واحد
اسمه سالم فإنه يعتق لما بينا أن إيجاب العتق
في المجهول صحيح ولأن ملكه متعين لما أوجبه
فبأن لا يعرف الشهود العبد لا يمنع قبول
شهادتهم كما أن القاضي يفضي بالعتق إذا سمع
هذه المقالة من المولى وإن كان هو لا يعرف
العبد ولو شهدوا به في البيع أبطلته لما بينا
أن الجهالة التي تفضي إلى المنازعة تمنع صحة
البيع وإذا لم يعرف الشهود العبد، فهذه جهالة
تفضي إلى المنازعة ويتعذر على القاضي القضاء
لأجله بالشهادة وإذا شهدوا عليه بعتق عبد
بعينه واختلفا في الوقت أو المكان أو اللفظ أو
اللغة أو شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه
أقر أنه أعتقه فالشهادة جائزة لأن العتق قول
يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلافهما
في الزمان والمكان، ولا باختلافهما في اللغة
وصيغة الإقرار والإنشاء في العتق واحد وإن
اختلفا في الشرط الذي علق به العتق لم يجز لأن
أحدهما يشهد بعتق يتنجز عند دخول الدار والآخر
بعتق يتنجز عند كلام فلان والكلام غير الدخول
فلا يتمكن القاضي من القضاء بواحد من الشرطين
وإن اتفقا على أنه قال له إن دخلت الدار فأنت
حر، وقال المول:ى إنما قلت له إن كلمت فلانا
فأنت حر فأيهما فعل فهو حر لأن التعليق بشرط
الدخول ثبت بشهادة شاهدين وبكلام فلان بإقرار
المولى ولا منافاة بينهما. ولو شهد أحدهما أنه
أعتقه بجعل والآخر أنه كان بغير جعل لم تقبل
الشهادة لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول
البدل والآخر بعتق بات ولأن العتق بجعل يخالف
العتق بغير جعل في الأحكام وكذلك لو اختلفا في
مقدار الجعل والمولى ينكر ذلك فالشهادة لا
تقبل سواء ادعى العبد أقل المالين أو أكثرهما،
لأن أحدهما يشهد بعتق متعلق بقبول ألف والآخر
بقبول ألف وخمسمائة. وإن كان المولى هو المدعي
والعبد منكر فإن كان يدعي أقل المالين عتق
العبد لإقرار المولى بحريته ولا شيء عليه لأنه
أكذب أحد شاهديه وهو الذي شهد له بألف
وخمسمائة. وإن ادعى العتق بألف وخمسمائة قضى
عليه بألف لأن الشهادة هنا لا تقوم على العتق
فالعبد قد عتق بإقرار المولى وإنما تقوم على
المال. ومن ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له شاهد
بألف وآخر بألف وخمسمائة يقضي بالألف لاتفاق
الشاهدين لفظا ومعنى وإذا شهد شاهدان أنه
أعتقه إن دخل الدار وآخران إن كلم فلانا
فأيهما وجد عتق العبد لأن كل واحد من
التعليقين ثبت بحجة كاملة ولا تنافي بينهما،
وإن ادعى الغلام أنه أعتقه بألف وأقام شاهدين
وادعاه المولى بألفين، وأقام شاهدين فالبينة
بينة المولى لأنه يثبت الزيادة في حقه ببينته،
وإن أقام العبد بينة أنه قال إذا أديت إلي
ألفا فأنت حر وأنه قد أداها، وأقام المولى
بينته أنه إنما قال له إذا أديت إلي ألفين
فأنت حر فالعبد حر ولا شيء عليه غير الألف
الذي أداه لأن العبد يثبت ببينته تنجز الحرية
فيه وهو حقه ولأنه يجعل كأن الأمرين كانا إذ
لا منافاة بينهما ولو عاينا وجود الكلامين من
المولى تخير العبد وعتق بأداء أي المالين
اختاره ولو أقام العبد
ج / 7 ص -85-
البينة
أنه باعه نفسه بألف فأقام المولى البينة أنه
باعه نفسه بألفين كانت البينة بينة المولى لأن
العتق يتنجز بالقبول هنا فكان إثبات الزيادة
في بينة المولى بخلاف الأول.
قال في الأصل "ولو باعه نفسه بألف درهم
فأداها من مال المولى كان حرا وللمولى أن يرجع
عليه بمثلها والعتق هنا حصل بالقبول لا بأداء
المال" وإنما يتحقق هذا الفصل فيما إذا علقه
بالأداء والوجه فيه أن نزول العتق بوجود الشرط
وقد وجد، وإن كان المؤدي مسروقا أو مغصوبا من
المولى ثم رد هذا المال على المولى كان مستحقا
عليه، فيقع من الوجه المستحق في الحكم ويكون
له أن يرجع عليه بمثله وإن شهد للعبد ابناه أو
أبوه وأمه أن مولاه أعتقه فشهادتهما باطلة،
لأنها تقوم لمنفعة العبد وهؤلاء متهمون في حقه
ولا شهادة لمتهم والعتق يثبت مع الشبهات،
فيثبت بالشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع
الرجال وإذا رجع شهود العتق بعد القضاء لم
يبطل العتق لأنهما لا يصدقان في إبطال الحكم
ولا في إبطال حق العبد، ولكنهما يضمنان قيمته
لأنهما أتلفا ماليته على المولى وقد أقر
بالرجوع أنهما أتلفاه عليه بغير حق والمعتبر
في الضمان عند الرجوع بقاء من بقي على الشهادة
لا رجوع من رجع وقد بينا هذا في الطلاق. وإن
شهد شاهدان بعتقه فلم يحكم بشهادتهما للتهمة
ثم ملكه أحدهما عتق عليه لأنه قد أقر بحريته
وذلك الإقرار صحيح لازم في حقه إلا أنه لم يكن
عاملا لانعدام الملك له في المحل فإذا وجد
الملك عمل وكان كالمجدد للإقرار بعد ما ملكه
فيكون حرا من ماله، وإذا شهدا بعتقه فحكم
بشهادتهما ثم رجعا عنه فضمنا قيمته ثم قامت
بينة غيرهم بأن المولى قد كان أعتقه فإن شهدوا
أنه أعتقه بعد شهادة هؤلاء لم يسقط عنهم
الضمان بالاتفاق لأنهم شهدوا بما هو لغو فإنه
عتق بقضاء القاضي والمعتق لا يعتق،
وإن شهدوا أنه أعتقه قبل شهادة هؤلاء لم
يرجعوا بما ضمنوا في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى يرجعون على المولى بما ضمنوا وهذا بناء
على ما بينا أن عندهما الشهادة على عتق العبد
تقبل من غير دعوى فثبت بشهادة الفريق الثاني
حرية العبد من الوقت الذي شهدوا به. وإن لم
يكن هناك مدعيا لذلك ثم تبين به أن الفريق
الأول لم يتلفوا على المولى شيئا بشهادتهم
وأنه أخذ ما أخذ منهم بغير حق.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل
الشهادة على عتق العبد من غير الدعوى ولا مدعي
لما يشهد به الفريق الثاني فإن العبد قد حكم
بحريته فلا يمكنه أن يدعي العتق والفريق الأول
لما شهدوا بأنه أعتقه في وقت لا يمكنهم أن
يدعوا عتقا في وقت سابق عليه للتناقض فلانعدام
الدعوى لا تقبل شهادة الفريق الثاني ولا يجب
على المولى رد شيء مما أخذه من الفريق الأول.
ولو قيد رجل عبده ثم قال إن لم يكن في قيده
عشرة أرطال حديد فهو حر وإن حل قيده فهو حر
فشهد شاهدان أن في قيده خمسة أرطال حديد فقضى
القاضي بعتقه ثم حل القيد فإذا فيه عشرة
أرطال.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الشهود
يضمنون قيمته للمولى وهو قول أبي
ج / 7 ص -86-
يوسف
رحمه الله تعالى الأول وفي قوله الآخر وهو قول
محمد رحمه الله تعالى لا يضمنون له شيئا وهذا
بناء على أن قضاء القاضي بالعتق بشهادة الزور
عند أبي حنيفة رحمه الله ينفذ ظاهرا وباطنا.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله الآخر وهو قول
محمد رحمه الله تعالى ينفذ ظاهر لا باطنا
فتبين أن قضاء القاضي بشهادتهما لم يكن نافذا
في الباطن وأن العبد إنما عتق بحل القيد لا
بشهادتهما فلا يضمنان عندهما شيئا.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إنما عتق
العبد بقضاء القاضي لنفوذ قضائه ظاهرا وباطنا
وقضاء القاضي كان بشهادتهما فلهذا ضمنا قيمته
لأنا علمنا أنهما شهدا بالباطل.
فإن قيل: هما إنما شهدا بشرط العتق لأنهما
شهدا بوزن القيد أنه دون عشرة أرطال وذلك شرط
العتق ولا ضمان على شهود الشرط.
قلنا: لا كذلك بل شهدا بتنجيز العتق لأنهما
زعما أن المولى علق عتقه بشرط موجود والتعليق
بشرط موجود يكون تنجيزا حتى يملكه الوكيل
بالتنجيز وشهود تنجيز العتق يضمنون عند
الرجوع.
فإن قيل: قضاء القاضي إنما ينفذ عند أبي
حنيفة رحمه الله إذا لم يتيقن ببطلانه فأما
بعد التيقن ببطلانه لا ينفذ كما لو ظهر أن
الشهود عبيد أو كفار وهنا قد تيقنا ببطلان
الحجة حين كان وزن القيد خمسة أرطال وبعد ما
علم كذبهم بيقين لا ينفذ الفضاء باطنا فإنما
عتق بحل القيد.
قلنا: لا كذلك بل نفوذ القضاء عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى باعتبار أنه يسقط عن القاضي
تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهو حقيقة صدق
الشهود ولا يسقط عنه الوقوف على ما يتوصل إليه
من كفرهم ورقهم لأن التكليف يثبت بحسب الوسع
وقد تعذر على القاضي هنا الوقوف على حقيقة وزن
القيد لأنه لا يعرف ذلك إلا بعد أن يحله وإذا
حله عتق العبد فيسقط عنه حقيقة معرفة وزن
القيد ونفذ قضاؤه بالعتق بشهادتهما ظاهرا
وباطنا.
فإن قيل: لا كذلك فقد يمكنه معرفة وزن القيد
قبل أن يحله بأن يضع رجلي العبد مع القيد في
طست ويصب فيه الماء حتى يعلو القيد ثم يجعل
على مبلغ الماء علامة ثم يرفع القيد إلى ساقه
ويضع حديدا في الطست إلى أن يصل الماء إلى تلك
العلامة ثم يزن ذلك الحديد فيعرف به وزن
القيد.
قلنا: هذا من أعمال المهندسين ولا تنبني
أحكام الشرع على مثله مع أنه إنما يعرف وزن
القيد بهذا الطريق إذا استوى الحديدان في
الثقل ولا يعرف ذلك ولو شهدا أنه أعتق عبده
سالما وله عبدان اسم كل واحد منهما سالم
والمولى يجحد ذلك لم يعتق واحد منهما في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا بد من
الدعوى لقبول الشهادة عنده. والدعوى لا تتحقق
من المشهود له لأنه غير معين منهما ولا يتمكن
الشهود من تعيينه فبطلت شهادتهما لهذا. وإن
ج / 7 ص -87-
قالا:
قد سماه لنا فنسينا اسمه فشهادتهما باطلة
لإقرارهما على أنفسهما بالغفلة وبأنهما ضيعا
شهادتهما.
وحكي عن زفر رحمه الله تعالى أن الشهادة تقبل
ويقال للمولى بين لأنهما يثبتان كلام المولى
فثبت بشهادتها أن المولى أعتق عبدا له
والجهالة لا تمنع صحة العتق فكان المولى مجبرا
على البيان. ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه بغير
عينه والمولى يجحد ذلك فشهادتهما باطلة في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأن الدعوى شرط
لقبول البينة على العتق عنده والدعوى من
المجهول لا تتحقق إنما تتحقق الدعوى من كل
واحد منهما بعينه والمشهود به عتق في منكر لا
في معين فلا تقبل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في هذه
المسألة وفي مسألة الشهادة تقبل ويؤمر المولى
بالبيان لأن الشهادة على العتق عندهما تقبل من
غير دعوى فيثبت به أن المولى أعتق أحدهما بغير
عينه فيؤمر بالبيان لهذا وكذلك لو شهدا بأنه
أعتق إحدى أمتيه.
فإن قيل: في هذا الفصل ينبغي أن تقبل الشهادة
عندهم جميعا لأن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا
يشترط الدعوى في الشهادة على عتق الأمة.
قلنا: نعم إنما لا يشترط الدعوى في الشهادة
على عتق أمة بعينها لما فيها من تحريم الفرج
فأما العتق المبهم لا يوجب تحريم الفرج عنده.
ولهذا قال لا يكون الوطء بيانا فلهذا كان
الجواب في العبد والأمة سواء هنا إلا أن شهدا
أن هذا كان عند الموت منه فحينئذ تقبل
شهادتهما عنده استحسانا.
وفي القياس لا تقبل لانعدام شرط القبول وهو
الدعوى كما لو كان ذلك في حال حياته وصحته
والاستحسان وجهان:
أحدهما أن العتق المبهم يشيع فيهما بالموت حتى
يعتق من كل واحد منهما نصفه فتتحقق الدعوى من
كل واحد منهما.
والثاني أن العتق في مرض الموت بمنزلة الوصية
حتى يعتبر من الثلث ووجوب تنفيذ الوصية لحق
الموصي فتتحقق الدعوى من وصيه أو وارثه هنا
فلهذا قبلت البينة ولو شهدا أن أحد هذين
الرجلين أعتق عبده لم تجز شهادتهما لأن
المشهود عليه مجهول، وذلك يمنع قبول الشهادة
فإن الإنكار شرط لقبول البينة والإنكار من
المجهول لا يتحقق ولأن القاضي لا يتمكن من
القضاء على واحد منهما بهذه الشهادة وإن إدعى
العبد أو الأمة العتق ولم يكن له بينة حاضرة
لم يحل بين المولى، وبين العبد لأن بمجرد
الدعوى لا يثبت استحقاق العبد العتق فإنه خبر
متمثل بين الصدق وبين الكذب والمخبر غير موثوق
فيه لما له في ذلك من الحظ.
وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام في قوله:
"لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم".
واليد حق للمولى في مملوكه فكما لا يجوز إبطال الملك بمجرد الدعوى
فكذلك لا يجوز إبطال اليد بالحيلولة، وكذلك إن
أقام شاهدا واحدا لأن الحجة لا تتم بشهادة
ج / 7 ص -88-
الواحد
وهذا الجواب في العبد فأما في الأمة الحيلولة
تثبت إذا ادعت أن شاهدها الآخر حاضر احتياطا
لأمر الفرج.
وقد بينا هذا فيما أمليناه من شرح الجامع وإن
أقام شاهدين حيل بينه وبين مولاه حتى ينظر في
أمر الشاهدين وهذا إذا كان مولاه فاسقا أو
مخوفا عليه على ما فسرناه في الجامع.
والمعنى فيه أن الحجة هنا تمت من حيث الظاهر
حتى لو قضى القاضي بشهادتهما قبل أن تظهر
عدالتهما نفذ قضاؤه فتثبت به الحيلولة احتياطا
بخلاف ما إذا أقام شاهدا واحدا فإذا شهد شاهد
أنه أعتق عبدا له وشهد آخر أنه وهبه لنفسه
فهذا باطل لأنهما اختلفا في المشهود به لفظا
فإن الهبة غير العتق وضعا لأن الهبة تمليك
والإعتاق إحداث القوة أو إبطال الملك.
واختلافهما في المشهود به لفظا يمنع قبول
الشهادة
وإن شهدا جميعا أنه وهب عبده لنفسه فالعبد حر
لأنه ملكه نفسه ومن ملك نفسه يعتق كالمراغم
وقد يجوز أن تكون الهبة إعتاقا كما لو شهدوا
أنه وهبه من قريبه وسلمه إليه فإنه يقضي بعتقه
وقد بينا فيما سبق أنه إذا قال لم أنو به
العتق لا يصدق في القضاء وإذا قال له أنت حر
إن فعلت كذا وذلك من الأمور الظاهرة كالصوم
والصلاة ودخول الدار ونحوه فقال العبد قد فعلت
لا يصدق إلا أن يقيم البينة، أو يقر المولى
لأن العتق المعلق بالشرط إنما يتنجز عند وجود
الشرط فالعبد بدعواه وجود الشرط يدعي تنجيز
العتق فيه وهو غير مصدق في ذلك إلا بحجة بخلاف
قوله إن كنت تحبني أو تبغضني لأن ذلك لا يوقف
عليه إلا من جهته فوجب قبول قوله في ذلك ما
دام في مجلسه فإن قيل: فالصوم كذلك لأنه بينه
وبين ربه لا يقف عليه غيره .
قلنا: لا كذلك فإن ركن الصوم هو الكف وذلك
أمر ظاهر يقف عليه الناس بوقوفهم على ضده وهو
الأكل ولو قال لرجل أعتق أي عبيدي شئت فأعتقهم
جميعا لم يعتق منهم إلا واحد والأمر في بيانه
إلى المولى بخلاف ما لو قال أيكم شاء العتق
فهو حر فشاؤوا جميعا عتقوا لأن كلمة أي فيها
معنى العموم والخصوص من حيث أنها تتناول كل
واحد من المخاطبين على الانفراد فإذا أضاف
المشيئة بها إلى خاص ترجح جانب الخصوص فلا
يتناول إلا واحدا منهم وإذا أضاف المشيئة بها
إلى عام يترجح جانب العموم ولأن هذه الكلمة
إنما توجب التعميم فيمن دخل تحتها دون من لم
يدخل والداخل تحت هذه الكلمة العبيد دون
المخاطب بالمشيئة وإذا قال شئت فلا يكون شرط
العتق إلا مشيئة واحدة. وبالمشيئة الواحدة منه
لا يعتق إلا عبد واحد فأما في قوله شاء إنما
أضاف المشيئة إلى العبيد وكلمة أي اقتضت
التعميم في العبيد فصارت مشيئة كل واحد منهم
شرطا لعتقه فلهذا عتقوا ثم البيان إلى المولى
دون المخاطب بالمشيئة لأن ما فوض إليه قد
انتهى بوجود المشيئة منه بقي العتق واقعا على
أحدهم بغير عينه بإيقاع المولى فالبيان إليه
ولو قال أيكم دخل الدار فهو حر فدخلوا عتقوا
لأن الشرط دخول من دخل تحت كلمة أي وكذلك لو
قال أيكم بشرني بكذا فهو حر فبشروه معا عتقوا
لأن الشرط وجود البشارة ممن دخل تحت كلمة أي
فيتعمم بتعميمه وإن
ج / 7 ص -89-
قال
عنيت واحدا منهم لم يدين في القضاء وهو مدين
فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوي التخصيص
في اللفظ العام وإن بشره واحد بعد واحد فالأول
هو البشير ولا يعتق غيره وقد بينا هذا في كتاب
الطلاق أن البشارة اسم لخبر سار صدق غاب عن
المخبر علمه وإذا قال لآخر أخبر عبدي بعتقه أو
أنه حر أو بشره بعتقه فهو حر ساعة تكلم به
المولى أخبر العبد به أو لم يخبر لأن الباء
للإلصاق وإنما يتحقق إلصاق الأخبار بعتق موجود
منه لا معدوم ولأنه لو أخبره بنفسه بأن قال
أنت حر تضمن ذلك تنجيز العتق من جهته حتى يكون
خبره حقا فكذلك إن أمر غيره حتى يخبره به
ويصير كأنه قال أعتقته فبشره بذلك أو أخبره
فيعتق سواء أخبره أو لم يخبره
وإذا قال لعبد له يا سالم أنت حر وهو يعني
انسانا بين يديه غير سالم فإن سالم حر لأنه
أتبع الإيقاع النداء فإنما يتناول المنادي
وإذا قال أول عبد يدخل علي من عبيدي فهو حر
فأدخل عليه عبد ميت ثم أدخل عليه عبد حي فإنه
يعتق الحي.
قال لأنه هو الأول ولا يحتسب بالميت ولا يكون
الميت أولا وآخرا ومعنى هذا أن الإدخال عليه
للإكرام أو الإهانة ولا يتحقق ذلك في الميت
فيصير الحياة ثابتا بمقتضى كلامه وكأنه قال
أول عبد حي من عبيدي ولأنه جازاه بالحرية
وإنما يجازي به الحي دون الميت لأن الميت ليس
بمحل لإيجاب العتق فيه والثابت بمقتضى الكلام
كالثابت بالنص وإن أدخل عليه عبدان حيان جميعا
معا لم يعتق واحد منهما لأن الأول اسم لفرد
سابق لا يشاركه فيه غيره ولم يتصف واحد منهما
بالفردية عند الإدخال عليه فإن أدخل بعدهما
عبد آخر لم يعتق لأنه وإن اتصف بالفردية فلم
يتصف بالسبق فقد تقدمه عبدان ولو قال أول عبد
أملكه فهو حر فملك عبدين معا لم يعتق واحد
منهما لأنه لم يتصف واحد منهما بالفردية عند
دخوله في ملكه وإن ملك بعدهما آخر لم يعتق
أيضا لأنه لم يتصف بالسبق ولو قال آخر عبد
أملكه فهو حر فملك عبدين ثم عبدا ثم مات
المولى عتق الثالث لأن الآخر اسم لفرد متأخر
وقد اتصف به الثالث حين لم يملك غيره حتى مات.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يعتق من
جميع المال إذا كان تملكه في الصحة لأن صفة
الآخرية ثابت له من حين تملكه فيتبين أنه عتق
من ذلك الوقت وعندهما يعتق من الثلث لأن نزول
العتق عندهما وقت الموت لتحقق الشرط فيه في
هذه الحالة وقد بينا هذا في الطلاق ولو قال
آخر عبد أملكه فهو حر فاشترى عبدا ثم لم يملك
غيره حتى مات لم يعتق لأن هذا أول وصفة
الأولية والآخرية لا يجتمع في شخص واحد من
المخلوقين وإن اشترى عبدين بعده ثم مات لم
يعتق واحد منهم لأن الأول ما اتصف بالآخرية
ليكون آخرا. والعبدان لم يتصف واحد منهما
بالفردية فلا يكون واحد منهما آخرا ولو قال
لأمة لم يملكها أنت حرة من مالي فهذا باطل لأن
تنجيز العتق لا يصح إلا بعد وجود الملك في
المحل ولم يوجد بخلاف قوله إذا ملكتك لأن بذلك
اللفظ لا يصير مضيفا للعتق إلى الملك ولا إلى
سببه وهو فضل من الكلام لأن العتق من جهته لا
يكون إلا من ماله فلا يخرج
ج / 7 ص -90-
به
كلامه من أن يكون تنجيزا ولو قال إذا اشتريتك
فأنت حرة أو إن جامعتك فأنت حرة فاشتراها
وتسراها أو جامعها لم تعتق إلا على قول زفر
فإنه يقول التسري والجماع لا يحل إلا في الملك
فكان هذا في معنى إضافة العتق إلى الملك
بمنزلة قوله إن اشتريتك.
ولكنا نقول الجماع يتحقق في غير الملك فكذلك
التسري فإنه عبارة عن التحصين والمنع من
الخروج وهو ليس بسبب للملك فلا يتحقق به إضافة
العتق إلى الملك صورة ولا معنى فهو بمنزلة
قوله إذا كلمتك فأنت حرة بخلاف الشراء فإنه
سبب للملك وكذلك لو قال كل جارية أتسرى بها
فهي حرة فاشترى جارية بعد يمينه وتسراها لم
تعتق ولو تسرى جارية كانت مملوكة له وقت يمينه
عتقت لأن الإيجاب في حقها يصح لوجود الملك في
المحل وقت الإيجاب بمنزلة قوله كل جارية
أملكها فهي حرة ثم تسري. فالشرط عند أبي حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى أن يبوئها بيتا
ويحصنها ويجامعها وطلب الولد ليس بشرط.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يكون
تسريا إلا بطلب الولد مع هذا للعادة الظاهرة
أن الناس يطلبون الأولاد من السراري وفي
الأيمان يعتبر العرف وهما يقولان ليس في لفظه
ما يدل على طلب الولد لأن التسري إما أن يكون
مأخوذا من التسرر كالتقضي وذلك الاخفاء أو
يكون مأخوذا من السرار ومعناه التحصين والمنع
من الخروج أو يكون مأخوذا من السر الذي هو
الجماع كما قال تعالى:
{وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}[البقرة: من الآية235] فإذا لم يكن فيها ما ينبئ عن طلب الولد لا
يشترط فيه ذلك من غير لفظ وكيف يشترط ذلك
وبحصول الولد تخرج من أن تكون سرية لأنها تصير
أم ولد له فطلبه يخرجه حقيقة من أن تكون سرية
فلا يمكن أن يجعل شرطا لتحقيق التسري ولو
وطىءجارية فعلقت منه لم تعتق لأن التسري
بالتحصين والمنع من الخروج ولم يوجد وإن قال
لعبديه أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر فأكلاه
جميعا لم يعتق واحد منهما لأن الشرط أكل
الواحد لجميع الرغيف ولم يوجد وإن أقام أحدهما
البينة أنه أكله فأعتقه القاضي ثم أقام الآخر
البينة أنه هو الذي أكله لم يعتقه القاضي لأنه
جعل الأول آكلا فلا يتصور بعده كون الثاني
آكلا له إذ الرغيف الواحد لا يتكرر فيه فعل
الأكل وهذه البينة إنما تقوم لأبطال القضاء
الأول والبينة لإبطال القضاء لا تقبل.
توضيحه إنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح
معنى الصدق في شهادة الفريق الأول بالقضاء
فتعين معنى الكذب في شهادة الفريق الثاني وإن
جاءت البينتان معا لم يعتق واحد منهما لأن
القاضي يتيقن بكذب أحد الفريقين ولا يعرف
الصادق من الكاذب وإذا كانت تهمة الكذب تمنع
القضاء بالشهادة فالتيقن بالكذب أولى.
وعلى هذا لو شهد شاهدان أنه أعتق عبده سالما
يوم النحر بمكة فأعتقه القاضي ثم شهد آخران
أنه أعتق سريعا يوم النحر بالكوفة لم تجز
شهادتهما وإن جاءت البينتان معا لم تقبل واحدة
منهما وهذا والأول سواء وإن ردهما ثم ماتت
إحدى البينتين فأعاد الآخر بينته تلك
ج / 7 ص -91-
لم
يقبل القاضي شهادتهم لأنه قد ردها للتهمة فلا
يقبلها أبدا كما لو رد شهادة الفاسق ثم تاب
فأعادها وإن لم تمت واحدة من البينتين حتى جاء
أحد الغلامين بشاهدين آخرين يشهدان على ما
شهدت به البينة الأولى وجاء الآخر بشهوده
الذين كانوا شهدوا فإن القاضي يجيز شهادة
الآخرين اللذين لم يكونا شهدا عنده لأن شهادة
الفريقين الأولين قد بطلت للتعارض وصارت
كالمعدومة وإنما بقى شهادة الفريق الثاني
لأحدهما ولا معارض له فثبت المشهود به
بشهادتهما ولا يعتبر بما أعاده العبد الثاني
لأن تلك شهادة حكم ببطلانها وكما لا تقوم حجة
القضاء بمثل هذه الشهادة فكذلك المعارضة لا
تثبت بها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وإليه المرجع والمآب.
باب عتق العبد بين الشركاء
أكثر مسائل هذا الباب
تنبني على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإن
العتق عنده يتجزي حتى إن من أعتق نصف عبده فهو
بالخيار في النصف الباقي إن شاء أعتقه وإن شاء
استسعاه في النصف الباقي في نصف قيمته وما لم
يؤد السعاية فهو كالمكاتب.
وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله
تعالى يعتق كله ولا سعاية عليه لقوله عليه
الصلاة والسلام: "من أعتق
شقصا من عبده فهو حر كله ليس لله فيه شريك".
وفي الكتاب ذكر هذا اللفظ عن عمر أيضا رضي
الله عنه والمعنى فيه أن العتق اسقاط للرق
والرق لا يتجزى ابتداء وبقاء فإسقاطه بالعتق
لا يتجزى أيضا كما أن الحل لما كان لا يتجزى
ابتداء وبقاء فإبطاله بالطلاق لا يتجزى وبيانه
أن فعله إعتاق فلا يتحقق إلا بانفعال العتق في
المحل وبعد انفعال العتق في بعض الشخص لو بقي
الرق في شيء منه كان في ذلك تجزى الرق في محل
واحد وذلك لا يجوز فإن الذي ينبني على العتق
من الأحكام يضاد أحكام الرق من تكميل الحدود
والأهلية للشهادات والإرث والولايات ولا يتصور
اجتماع الضدين في محل واحد ولأن اتصال أحد
النصفين بالآخر أقوى من اتصال الجنين بالأم
لأن ذلك بعرض الفصل ثم إعتاق الأم يوجب عتق
الجنين لا محالة فإعتاق أحد النصفين لأن يوجب
عتق النصف الآخر أولى ولأن الاستيلاد يوجب حق
العتق وهو لا يحتمل الوصف بالتجزي في محل واحد
فحقيقة العتق أولى.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله تعالى بحديث سالم
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
"من أعتق شقصا له في عبد فإن كان موسرا فعليه خلاصه وإلا فقد عتق ما
عتق ورق ما رق"
وقال علي رضي الله عنه يعتق الرجل من عبده ما
شاء وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم
"فهو حر"
كله سيصير حرا كله بإخراج الباقي إلى الحرية
بالسعاية فيكون فيه بيانا أنه لا يستدام الرق
فيما بقي منه وهو مذهبنا ولأن هذا إزالة ملك
اليمين فيتجزأ في المحل كالبيع وتأثيره أن
نفوذ تصرف المالك باعتبار ملكه وهو مالك
للمالية دون الرق. فالرق اسم لضعف ثابت في أهل
الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم، وهو لا يحتمل
التملك كالحياة إلا أن بقاء
ج / 7 ص -92-
ملكه
لا يكون إلا ببقاء صفة الرق في المحل كما لا
يكون حيا إلا باعتبار صفة الحياة في المحل
فذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له فإذا ثبت
أنه يملك المالية وملك المالية يحتمل التجزي
فإنما يزول بقدر ما يزيله ولهذا لا يعتق شيء
منه بإعتاق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى حتى كان معتق البعض كالمكاتب إلا في حكم
واحد وهو أن المكاتب إذا عجز يرد في الرق لأن
السبب هناك عقد محتمل للفسخ. وهذا إذا عجز عن
السعاية لا يرد في الرق لأن سببه إزالة ملك لا
إلى أحد وهو لا يحتمل الفسخ وإنما يسمى فعله
إعتاقا مجازا على معنى أنه إذا تم إزالة الملك
بطريق الإسقاط يعقبه العتق الذي هو عبارة عن
القوة لا أن يكون الفعل المزيل ملاقيا للرق
كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية
ثم بنقض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلا من
هذا الوجه ولئن كان فعله إعتاقا فالعتق الذي
ينبني على الأعتاق لا يتجزى والإعتاق في نفسه
متجز حتى يتصور من جماعة في محل واحد فالعتق
للبعض إنما يوجد شطر العلة فيتوقف عتق المحل
إلى تكميله وهو نظير إباحة أداء الصلاة تنبني
على غسل أعضاء هي متجزئة في نفسها حتى يكون
غسل بعض الأعضاء مطهرا ثم يتوقف إباحة أداء
الصلاة على إكمال العدد وحرمة المحل لا تتجزى
وإن كان ينبني على طلقات هي متجزئة حتى كان
الموقع للتطليقة والتطليقتين مطلقا ويتوقف
ثبوت الحرمة على كمال العدد فهنا أيضا نزول
العتق في المحل يتوقف على تمام العلة بإعتاق
ما بقي وإن كان معتق البعض معتقا لأن الأعتاق
يقتضي انفعال العتق كما قال ولكن لا يقتضي
الاتصال بالإعتاق بل يثبت استحقاق الإعتاق
ويتأخر ثبوته في المحل إلى إكمال العلة فأما
الاسترقاق فقد قيل يحتمل الوصف بالتجزي حتى لو
فتح الإمام بلدة ورأى الصواب في أن يسترق
أنصافهم صح ذلك منه والأصح أنه لا يتجزى لأن
سببه وهو القهر لا يتجزى إذ لا يتصور قهر نصف
الشخص دون النصف والحكم ينبني على السبب وكذلك
الاستيلاد سببه لا يتجزى وهو نسب الولد فأما
عتق الجنين عند إعتاق الأم ليس لأجل الاتصال
ألا ترى أن إعتاق الجنين لا يوجب إعتاق الأم
والاتصال موجود ولكن الجنين في حكم جزء من
أجزائها كيدها ورجلها وثبوت الحكم في التبع
ثبوته في المتبوع وأحد النصفين ليس بتبع للنصف
الباقي فلهذا لم يكن إعتاق أحد النصفين موجبا
للعتق في النصف الباقي فإن كان العبد بين
رجلين فأعتق أحدهما نصيبه جاز ثم إن كان
المعتق موسرا فللساكت ثلاث خيارات في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى إن شاء أعتق نصيبه وإن
شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أدى
السعاية إليه عتق والولاء بينهما وإن شاء ضمن
المعتق نصف قيمته ثم يرجع المعتق على العبد
والولاء كله له وإن كان المعتق معسرا فللساكت
خياران إن شاء أعتق وإن شاء استسعى وليس له حق
تضمين الشريك إلا على قول بشر المريسي.
والقياس فيه أحد الشيئين إما وجوب الضمان على
المعتق موسرا كان أو معسرا لأنه بإعتاق نصيبه
يفسد على الشريك نصيبه فإنه يتعذر عليه
استدامة ملكه والتصرف في نصيبه
ج / 7 ص -93-
وضمان
الإفساد لا يختلف باليسار والعسرة أو القياس
أن لا يجب على المعتق ضمان بحال لأنه متصرف في
نصيب نفسه والمتصرف في ملكه لا يكون متعديا
ولا يلزمه الضمان وإن تعدى ضرر تصرفه إلى ملك
غيره كمن سقى أرضه فنزت أرض جاره أو أحرق
الحصائد في أرضه فاحترق شيء من ملك جاره.
ولكنا تركنا القياسين للآثار فمنه ما روي عن
نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل
يعتق نصيبه في المملوك: "إن كان غنيا
ضمن وإن كان فقيرا يسعى في حصة الآخر".
وهكذا روى عروة عن عائشة وعمر بن شهيب عن أبيه
عن ابن مسعود رضوان الله عليهم أن رجلين من
جهينة كان بينهما عبد فأعتقه أحدهما فرفع ذلك
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمنه
نصيب صاحبه وحبسه حتى باع غنيمة له في ذلك
وذكر الحسن عن عمر رضي الله عنه في العبد بين
اثنين يعتقه أحدهما أنه يضمن نصيب صاحبه إن
كان غنيا وإن كان فقيرا يسعى العبد في النصف
لصاحبه.
وعن إبراهيم عن الأسود بن يزيد أنه أعتق عبدا
له ولأخوة له صغار فذكر ذلك لعمر رضي الله عنه
فقال يستأني بالصغار حتى يدركوا فإن شاؤوا
أعتقوا وإن شاؤوا أخذوا القيمة فلهذه الآثار
قلنا بوجوب الضمان في حالة اليسار دون العسرة
ولكن المعتبر يسار اليسر لا يسار الغنى حتى
إذا كان له من المال قدر قيمة المملوك فهو
ضامن وإن كانت تحل له الصدقة هكذا ذكره في
حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
"قوم عليه نصيب شريكه إن كان له من المال ما
يبلغ ذلك" ولأنه قصد التقرب والصلة بإعتاق نصيبه وتمام ذلك بعتق ما بقي فإذا
كان متمكنا من إتمامه بملكه مقدار ما يؤديه
إلى شريكه كان عليه ذلك ولأن اختلاف هذا
الضمان باليسار والإعسار لتحقيق معنى النظر
للشريك فإنه إذا استسعى العبد يتأخر وصول حقه
إليه وإذا ضمن شريكه يتوصل إلى مالية نصيبه في
الحال وإنما يكون هذا إذا كان موسرا له من
المال ما يبلغ قيمة نصيب شريكه.
ثم على قول أبي يوسف ومحمد لا خيار للساكت
وإنما له تضمين الشريك إن كان موسرا واستسعاء
العبد إن كان معسرا أخذا بظاهر الحديث وبناء
على أصلهما أن العتق لا يتجزى ولهذا كان
الولاء عندهما كله للمعتق في الوجهين جميعا
وهو قول ابن أبي ليلى إلا في حرف واحد يقول
إذا سعى العبد رجع به على المعتق إذا أيسر
لأنه هو الذي ألزمه ذلك بفعله وقاس بالعبد
المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر فسعى العبد
في الدين رجع به على الراهن إذا أيسر.
ولكنا نقول إذا كانت عسرة المعتق تمنع وجوب
الضمان عليه للساكت فكذلك يمنع وجوب الضمان
عليه للعبد وإنما يسعى العبد في بدل رقبته
وماليته وقد سلم له ذلك فلا يرجع به على أحد
بخلاف المرهون فإنه ليس في بدل رقبته بل في
الدين الذي هو ثابت في ذمة الراهن ومن كان
مجبرا على قضاء دين في ذمة الغير من غير
التزام من جهته يثبت له حق الرجوع به عليه.
ج / 7 ص -94-
فأما
عند الشافعي رحمه الله تعالى إن كان المعتق
موسرا يعتق كله وهو ضامن لنصيب شريكه وإن كان
معسرا فللشريك أن يستديم الرق في نصيبه ويتصرف
فيه بما شاء وقال لا أعرف السعاية على العبد
ووجه قوله أن عسرة العبد أظهر من عسرة المعتق
لأنه ليس من أهل ملك المال فإذا لم يجب الضمان
على المعتق لعسرته فكذلك لا يجب على العبد بل
أولى لأن المعتق معسر جان والعبد معسر غير جان
وهذا لو لزمه السعاية إنما تلزمه في بدل رقبته
وليس للمولى ولاية إلزامه المال بدلا عن رقبته
في ذمته كما لو كاتبه بغير رضاه فلأن لا يكون
ذلك لغير المالك أولى.
"وحجتنا" في ذلك حديث بشر بن نهيك عن أبي
هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال
"من أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا
قيمة عدل وإلا يستسعى العبد في نصيبه غير
مستغرق عليه". والمعنى فيه أن نصيب الشريك مال متقوم وقد احتبس عند العبد لما
قلنا أن بعد إعتاق البعض يمتنع استدامة الملك
فيما بقي لوجوب تكميل العتق.
والدليل عليه حالة اليسار فإن حكم المحل لا
يختلف بيسار المعتق وعسرته ومن احتبس ملك
الغير عنده يكون ضامنا له موسرا كان أو معسرا
وجد منه الصنع أو لم يوجد كما لو هبت الريح
بثوب إنسان وألقته في صبغ إنسان فانصبغ كان
لصاحب الصبغ أن يرجع عليه بقيمة صبغه إذا
اختار صاحب الثوب إمساك الثوب وكذلك إذا
استولد أحد الشريكين الجارية المشتركة يضمن
نصيب شريكه موسرا كان أو معسرا لاحتباس نصيب
الشريك عنده فكذلك هنا يجب على العبد السعاية
في نصيب الشريك وإن كان معسرا لاحتباس نصيب
الشريك عنده وهذا بخلاف بدل الكتابة لأن وجوبه
بعقد التراضي ووجوب السعاية من طريق الحكم
للاحتباس وذلك متقرر وإن لم يرض به العبد.
فأما بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى
فنقول عنده العتق يتجزى فإنما عتق نصيب المعتق
فقط وبقي نصيب الآخر على ملكه فله أن يعتقه
كما كان له أن يعتقه قبل ذلك فإذا أعتقه كان
الولاء بينهما كما لو أعتقاه معا وله أن
يستسعي العبد في نصيبه لأن نصيبه احتبس عند
العبد حين تعذر استدامة الملك فيه وإذا
استسعاه فأدى السعاية عتق والولاء بينهما لأن
نصيبه عتق من جهته وله أن يضمن شريكه إن كان
موسرا لأنه مفسد عليه نصيبه لما تعذر عليه
استدامة الملك بإعتاق نصيبه ثم بالتضمين يصير
مملكا نصيبه من شريكه فيلتحق بما لو كان العبد
كله له فأعتق نصفه حتى يتخير في النصف الباقي
بين أن يعتقه وأن يستسعيه ولأنه بالتضمين يقيم
المعتق في نصيبه مقام نفسه وقد كان له الخيار
بين أن يعتقه أو يستسعيه فيثبت ذلك للمعتق بعد
أداء الضمان.
فلهذا قال: يرجع على العبد بما ضمن والولاء
كله له لأنه عتق من جهته وإن أعتق أحدهما نصيب
شريكه منه لم يعتق لأن ملك الغير ليس بمحل
للعتق في حقه والسراية عندهما
ج / 7 ص -95-
إنما
تكون بعد مصادفة العتق محله وإذا لم يصادف
محله كان لغوا ولو دبر أحدهما نصيبه وهو موسر.
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى التدبير
يتجزى لأن موجبه حق الحرية فيكون معتبرا
بحقيقة الحرية فيبقى بعد تدبير المدبر نصيب
الآخر على ملكه فينفذ عتقه فيه وللمدبر الخيار
إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة
نصيبه مدبرا وإن شاء استسعى العبد في ذلك لأنه
تمكن نقصان في نصيبه بالتدبير لأنه وإن امتنع
البيع ولكنه كان متمكنا من استدامة الملك إلى
موته وإنما تعذر عليه ذلك بإعتاق الشريك
فيضمنه إن كان موسرا وإنما يضمنه مدبرا لأنه
أفسده وهو منقوص بنقصان التدبير ولم يرجع
المعتق على العبد بما ضمن بإعتبار أنه يقوم
مقام من ضمنه وقد كان للمدبر أن يستسعي العبد
في قيمة نصيبه مدبرا وأي ذلك فعل فالولاء
بينهما هنا لأنه بالتدبير استحق ولاء نصيبه
فلا يبطل ذلك وإن ضمن شريكه بخلاف القن.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى حين
دبره الأول صار الكل مدبرا له لأن التدبير
عندهما لا يتجزى كالعتق ويضمن قيمة نصيب شريكه
موسرا كان أو معسرا لأنه صار متملكا على شريكه
نصيبه وضمان التملك لا يختلف باليسار والإعسار
ثم إعتاق الثاني باطل لأنه أعتق ما لا يملكه
وإن كان العبد بين ثلاثة نفر فدبره أحدهم ثم
أعتقه الثاني وهما موسران.
فجواب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في
هذا والأول سواء لأنه حين دبره أحدهم صار الكل
مدبرا له وهو ضامن ثلثي قيمته لشريكيه موسرا
كان أو معسرا وإن كان العبد بين ثلاثة دبره
أحدهم وأعتقه الآخر فالإعتاق من الثاني بعد
ذلك لغو.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى تدبير
المدبر يقتصر على نصيبه والإعتاق من الثاني
صحيح لمصادفته المحل ثم للساكت أن يضمن المدبر
ثلث قيمته إن كان موسرا وليس له أن يضمن
المعتق لأن بالتدبير السابق صار نصيبه بحيث لا
يحتمل النقل إلا إلى المدبر بالضمان فلو أثبت
له حق تضمين المعتق انتقل نصيبه إلى المعتق
بالضمان وذلك ممتنع بالتدبير السابق فلهذا
يضمن المدبر دون المعتق وإن شاء استسعى العبد
في ثلث قيمته، وإن شاء أعتقه وإذا ضمن المدبر
فللمدبر أن يرجع بذلك على العبد فيسعى له فيه
وللمدبر أيضا أن يضمن الذي أعتق ثلث قيمته
مدبرا لأنه تعذر عليه استدامة الملك في نصيبه
بإعتاق المعتق فكان له أن يضمنه ثلث قيمته
مدبرا وليس له أن يضمن المعتق ما أدى إلى
الساكت من قيمة نصيبه لأن الساكت لم يكن
متمكنا من تضمين المعتق فكذلك من يقوم مقامه
ولأن صنعه وهو الإعتاق وجد قبل أن يتملك
المدبر نصيب الساكت فلهذا لا يضمنه قيمة هذا
الثلث ويكون الولاء بين المدبر والمعتق أثلاثا
ثلثاه للمدبر وثلثه للمعتق. وإذا كان العبد
بين اثنين، فشهد كل واحد منهما على صاحبه أنه
أعتقه وصاحبه منكر ذلك فالعبد يسعى في جميع
قيمته بينهما نصفين موسرين أو معسرين أو كان
أحدهما موسرا والآخر معسرا في قول أبي حنيفة،
والولاء
ج / 7 ص -96-
بينهما
نصفان فأما فساد رق العبد فلاتفاقهما على ذلك
وهما يملكانه بطريق الإنشاء ثم يسار المعتق
عنده لا يمنع وجوب السعاية على العبد فكل واحد
منهما بشهادته على شريكه يدعي السعاية لنفسه
في قيمة نصيبه على العبد ويدعي الضمان على
شريكه إلا أن الضمان لم يثبت لإنكار الشريك
فتبقى السعاية لكل واحد منهما على العبد وعند
الأداء يعتق نصيب كل واحد منهما من جهته فكان
الولاء بينهما.
وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله إن كانا
موسرين فهو حر ولا سعاية عليه لأنهما تصادقا
على حريته وكل واحد منهما يتبرأ من جهة
السعاية ويدعى الضمان على شريكه لأن يسار
المعتق عندهما يمنع وجوب السعاية عليه وما
ادعى كل واحد منهما من الضمان على شريكه لم
يثبت لإنكار شريكه
وإن كانا معسرين يسعى العبد في قيمته بينهما
لأن كل واحد منهما يدعي السعاية هنا فإنه يقول
شريكي معتق وهو معسر وإن كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا يسعى للموسر منهما في نصف قيمته
ولم يسع للمعسر في شيء لأن الموسر يدعي
السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو معسر وإن
كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى للموسر
منهما في نصف قيمته ولم يسع للمعسر في شيء لأن
الموسر يدعي السعاية فإنه يقول شريكي معتق وهو
معسر فلى استسعاء العبد في قيمة نصيبي وأما
المعسر يتبرى من السعاية ويقول شريكي معتق وهو
موسر فحقي في الضمان قبله فلا يكون له أن
يستسعى العبد بالتبري منه ولا يجب الضمان له
على شريكه بجحوده والولاء في جميع ذلك موقوف
عندهما لأن كل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه
فإن الولاء للمعتق وكل واحد منهما يزعم أن
صاحبه هو المعتق فلهذا توقف الولاء وإذا أعتق
أحد الشريكين العبد واختار الآخر تضمينه
فإختلفا في قيمته يوم أعتقه فإن كان العبد
قائما نظر إلى قيمته يوم ظهر العتق حتى إذا لم
يتصادقا على العتق فيما مضى يقوم للحال لأن
العتق حادث فيحال بحدوثه على أقرب أوقات ظهوره
ووجوب الضمان بالإفساد أو الإتلاف فيكون
المعتبر قيمته وقت تقرر السبب وذلك عند ظهور
العتق فلهذا يقوم في الحال وكذلك إن أراد أن
يستسعي العبد ألا ترى أن له أن يعتق نصيبه
الساعة فكذلك له أن يستسعي العبد في قيمة
نصيبه الساعة ولو تصادقا أنه أعتقه قبل هذا
كان عليه نصف القيمة يوم أعتقه حتى إذا انتقصت
قيمته بزيادة السن فإنه لا تعتبر الزيادة
والنقصان لأن السبب الموجب للضمان على الشريك
هو العتق فينظر إلى قيمته عند ذلك كما في
المغصوب تعتبر قيمته يوم الغصب وإن اختلفا في
قيمته في ذلك الوقت فالقول قول المعتق لأن
القيمة عليه فكان القول قوله في مقداره كما في
المغصوب.
وهذا لأن الشريك يدعي عليه الزيادة وهو منكر
وهذا بخلاف الشفعة فإن المشتري لو أحرق البناء
كان للشفيع أن يأخذ العرصة بحصتها من الثمن في
قسمة الثمن وينظر إلى قيمة الأرض في الحال
ويكون القول في قيمة البناء قول المشتري لأن
الشفيع هناك يتملك على المشتري العرصة فهو
يدعي لنفسه على المشتري حق التملك بأقل
المالين والمشتري ينكر ذلك وهنا الساكت يملك
المعتق نصيبه بالضمان فهو يدعي عليه حق
التمليك فيه بأكثر المالين والمعتق منكر لذلك
فإن مات الذي لم يعتق قبل أن يختار شيئا كان
لورثته من الخيار ما كان له
ج / 7 ص -97-
لأنهم
قائمون مقامه بعد موته وليس في هذا توريث
الخيار بل المعنى الذي لأجله كان الخيار ثابتا
للمورث موجود في حق الورثة فإن شاؤوا أعتقوا
وإن شاؤوا استسعوا العبد وإن شاؤوا ضمنوا
المعتق فإن ضمنوه فالولاء كله للمعتق لأنه
بأداء الضمان إليهم يتملك نصيبهم كما كان
يتملك بالأداء إلى المورث، وإن اختاروا
الإعتاق أو الاستسعاء فالولاء في هذا النصيب
للذكور من أولاد الميت دون الإناث لأن معتق
البعض صار بمنزلة المكاتب والمكاتب لا تورث
عينه وإن كان يورث ما عليه من المال فإنما عتق
نصيب الساكت على ملكه والولاء يكون له فيخلفه
في ذلك الذكور من أولاده دون الإناث إذ الولاء
لا يورث وإن اختار بعضهم السعاية وبعضهم
الضمان فلكل واحد منهم ما اختار من ذلك لأن كل
واحد منهم فيما ناله قام مقام الميت.
وهذا لأن الملك بالإرث يثبت حكما فيكون بمنزلة
الملك بالضمان فكما أن نصيب الساكت يحتمل
التمليك بالضمان من المعتق فكذلك يحتمل
الانتقال إلى الورثة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه ليس لهم ذلك إلا أن يجتمعوا على التضمين
أو الاستسعاء وهذا هو الأصح لأنه صار بمنزلة
المكاتب والمكاتب لا يملك بالإرث فكذلك هم لا
يملكون نصيب الساكت بعد موته.
والدليل عليه فصل الولاء الذي تقدم أنه لا
يثبت لهم بالإعتاق ابتداء ولكنهم خلف المورث
يقومون مقامه وليس للمورث أن يختار التضمين في
البعض والسعاية في البعض فكذلك لا يكون للورثة
ذلك
وفرع على تلك الرواية وقال لو أعتق أحد الورثة
نصيبه لا يعتق ما لم يجتمعوا على إعتاقه
بمنزلة المكاتب يعتقه أحد الورثة بعد موت
المورث لا يعتق ولا يسقط به شيء من بدل
الكتابة فهذا كذلك ولو لم يمت الساكت ولكن
العبد مات قبل أن يختار الشريك شيئا فله أن
يضمن المعتق قيمة نصيبه إن كان موسرا
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه ليس له أن يضمنه قيمة نصيبه بعد موت العبد
ووجهه أن نصيبه باق على ملكه والضمان غير
متقرر على الشريك ما لم يختر ضمانه فإذا هلك
على ملكه فليس له أن يقرر الضمان على شريكه
باختياره بعد ذلك وهذا لأن صحة اختيار التضمين
متعلق بشرط وهو أن يملك نصيبه منه بالضمان وقد
فات هذا الشرط بموته لأن الميت لا يحتمل
التمليك.
وجه ظاهر الرواية أن وجوب الضمان عليه
بالإعتاق لأن السبب وهو الإفساد قد تحقق به
فكان ذلك بمنزلة الغصب وموت العبد بعد الغصب
لا يمنع المغصوب منه من تضمين الغاصب وإن كان
التمليك منه من حكم ذلك الزمان فكذلك هنا وهذا
لأنه لما كان يضمنه من وقت العتق وكان محلا
للتمليك عند ذلك فذلك الحكم لا يبطل بموته وإن
خرج به من أن يكون محتملا للتمليك في الحال
فإذا ضمن المعتق رجع بما ضمن في تركة الغلام
لأن في حال حياته كان له أن يستسعيه فيما ضمن
فإذا مات كان له أن يرجع به في تركته وإن كان
معسرا رجع الشريك بقيمة نصيبه في تركة الغلام
لأن السعاية له عليه مستحقة كبدل الكتابة
فيستوفيه من تركته بعد موته وإن كان العبد ترك
مالا قد اكتسب بعضه قبل العتق، وبعضه بعد
ج / 7 ص -98-
العتق
فما اكتسب قبل العتق بين الموليين نصفان لأنه
كان على ملكهما حين اكتسب هذا المال والكسب
لمالك الأصل وما اكتسب بعد العتق فهو تركة
العبد لأنه اكتسبه فيكون ذلك له يرجع فيه
الساكت أو المعتق إذا ضمن وما بقي فهو ميراث
للمعتق لأنه بالضمان ملك نصيب صاحبه فكان
الولاء في الكل له وإن اختلفا فيه فقال أحدهما
هذا مما اكتسبه قبل العتق وهو بيننا وقال
الآخر اكتسب بعده فهو بمنزلة ما اكتسب بعده
لأن الكسب حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات
ومن ادعى فيه تاريخا سابقا لا يصدق إلا بحجة
وإن اختلفا في قيمته والمعتق موسر فالقول قول
المعتق لأن العبد ميت لا يمكن تقويمه في الحال
ليستدل بذلك على قيمته فيما مضى فيتعين ظاهر
الدعوى والإنكار والساكت يدعي لنفسه زيادة
والمعتق منكر لذلك فإن كان المعتق معسرا ولا
كسب للعبد فنصف القيمة دين للساكت على العبد
إن ظهر له مال يستوفي منه وإن لم يظهر فليس
هذا بأول مدين هلك مفلسا وإن كان العبد حيا
فصالحه الساكت على أقل من نصف قيمته فهو جائز
لأنه استوجب عليه نصف قيمته فهو بالصلح أسقط
بعض حقه واستوفى البعض وذلك يستقيم كما في
الكتابة وإن صالحه على أكثر من نصف قيمته بذهب
أو ورق فالفضل باطل.
أما عندهما فلأن الواجب له نصف القيمة شرعا
فالصلح على أكثر من جنسه يكون ربا وعند أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وإن بقي له الملك في
نصيبه ولكن العبد استحق العتق عند أداء نصف
القيمة شرعا فلا يملك إبطال ذلك الاستحقاق
بالصلح على أكثر منه وكذلك إن صالح المعتق على
أكثر من نصف القيمة فالفضل مردود لأن حقه قبل
العتق يتقدر بنصف القيمة فالصلح على أكثر منه
يكون ربا
ثم هذا على أصلهما ظاهر فإن الصلح على المغصوب
الهالك على أكثر من قيمته لا يجوز عندهما
فكذلك هنا.
وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق ويقول هناك
المغصوب باق على ملك المغصوب منه ولم يستحق
عليه تمليكه من الغاصب حتى أن له أن يبرئه من
الضمان ليبقى هالكا على ملكه فإذا صالحه على
أكثر من قيمته كان بدل الصلح بمقابلة ملكه
وليس فيه إبطال حق مستحق شرعا فلا يتمكن فيه
الربا وهنا الساكت غير متمكن من استبقاء نصيبه
على ملكه ولكن يستحق عليه إزالته عن ملكه بنصف
القيمة إما سعاية على العبد أو ضمانا يستوفيه
من الشريك فإذا صالح على أكثر منه كان في هذا
الصلح إبطال حق مستحق شرعا.
توضيحه أن المعتق يرجع على العبد بما يضمن فلو
صححنا هذا الصلح رجع على العبد بالزيادة وكما
ليس للساكت أن يلزم العبد أكثر من نصف القيمة
بالصلح فكذلك لا يكون له أن يلزم من يرجع على
العبد وإن صالحه على عروض أكثر من نصف قيمته
فهو جائز لأنه لا يتمكن فيه الربا لاختلاف
الجنس بخلاف ما إذا صالح على الذهب أو الورق
وإنما لا يجوز هناك أيضا إذا كانت الزيادة
بقدر ما لا يتغابن الناس فيه فأما مقدار ما
يتغابن الناس فيه عفو لأن ذلك يدخل تحت تقويم
المقومين فلا يتيقن بالزيادة.
ج / 7 ص -99-
قال
"وإن صالح العبد على شيء من الحيوان إلى أجل
فهو جائز بمنزلة الكتابة".
قال عيسى هذا غلط فإنه استحق السعاية على
العبد وهو نصف القيمة فإذا صالح على حيوان كان
ذلك بدلا عن نصف القيمة المستحق له ولا يثبت
الحيوان دينا في الذمة بدلا عن ما هو مال ألا
ترى أنه لو صالح المعتق على حيوان في الذمة لا
يجوز فكذلك إذا صالح العبد.
وما ذكره في الكتاب أصح لأن نصيب الساكت باق
على ملكه فإذا صالح على حيوان إلى أجل فكأنه
كاتبه عليه وهذا لأنه ليس في هذا الصلح إبطال
حق مستحق للعبد بخلاف ما إذا صالحه على أكثر
من نصف قيمته وبخلاف ما إذا صالح المعتق على
الحيوان لأن هناك يملك نصيبه بما يصح العتق
عليه والحيوان يثبت دينا في الذمة بدلا عن
العتق وإذا أعتقه أحدهما وهو معسر ثم أيسر فلا
ضمان عليه لأن صفة اليسار في العتق تعتبر
لإيجاب الضمان فإذا انعدم وقت الإعتاق تقرر
العتق غير موجب للضمان فلا يصير موجبا بعد ذلك
كمن قطع يد مرتد ثم أسلم ثم مات وإن قال
المعتق أعتقت وأنا معسر وقال الشريك بل أعتقت
وأنت موسر نظر إلى حاله يوم ظهر العتق إما
لأنه كالمنشىءللعتق في الحال أو لأنه لما وقع
الاختلاف فيما مضى يحكم الحال فإذا كان في
الحال موسرا فالظاهر شاهد لمن يدعي اليسار
فيما مضى وإن كان معسرا في الحال فالظاهر شاهد
لمن يدعي العسرة فيما مضى وهو كشرب الرحا مع
المستأجر إذا اختلفا في جريان الماء في المدة
يحكم الحال فإن تصادقا على أن العتق كان سابقا
منه في مدة قد يختلف حاله فيه فالقول قول
المعتق في إنكار يساره ولأنه ينكر المعنى
الموجب للضمان فهو كإنكاره أصل الإعتاق.
قال "وإن كان موسرا يوم أعتقه فاختار الشريك
ضمانه ثم بدا له أن يبرئه ويستسعى الغلام لم
يكن له ذلك" وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما
الله تعالى أنه لو قضى القاضي له بالضمان أو
رضى به المعتق فليس له أن يستسعي الغلام بعد
ذلك وإلا فله ذلك قيل ما ذكره في الكتاب مطلقا
محمولا على ذلك التفصيل وقيل بل المسألة على
روايتين وجه ظاهر الرواية أن المخير بين
الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه
كالغاصب مع غاصب الغاصب إذا اختار المغصوب منه
تضمين أحدهما وهذا لأنه باختياره التضمين يصير
مملكا نصيبه من المعتق حتى يكون ولاؤه له
والولاء لا يحتمل الفسخ فلا يمكنه الرجوع عنه
بعد ذلك ومن ضرورة تمليكه منه إسقاط حقه في
السعاية قبل العبد ووجه رواية محمد رحمهما
الله تعالى أن التمليك منه لا يتم إلا بالقضاء
أو الرضا وإن كان ذلك مستحقا شرعا كالتمليك
بالأخذ بالشفعة وحقه في الضمان.
لا يتقرر ما لم يتم التمليك وسقوط حقه في
الاستسعاء بناء على تقرر حقه في الضمان وكان
أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول هكذا
ينبغي في الغاصب وغاصب الغاصب أنه إذا اختار
تضمين أحدهما فقبل القضاء أو الرضا ممن اختار
ضمانه يكون له أن يرجع فيضمنه الآخر فأما إذا
اختار استسعاء العبد فليس له أن يضمن الشريك
بعد ذلك لأنه
ج / 7 ص -100-
ليس
فيه تمليك من أحد بل فيه تقرير لملكه وإبراء
للمعتق عن الضمان وذلك يتم به كما لو أذن له
في أن يعتق نصيبه ولو أن المعتق رجع على العبد
بما لزمه من الضمان ثم أحال الساكت عليه ووكله
بقبض السعاية منه اقتضاء من حقه كان جائزا
والولاية للمعتق لأنه بمنزلة المكاتب للمعتق
والمولى إذا أحال غريما له بدينه على مكاتبه
ليقبضه من بدل الكتابة كان صحيحا وكان صاحب
الدين بمنزلة الوكيل يقبض له أولا ثم لنفسه
وإن لم يختر شيئا حتى جرحه إنسان كان الإرش
عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب لما عليه من
السعاية أما للساكت أو للمعتق ومن جنى على
مكاتبه أو على مكاتب غيره فعليه الأرش يقبضه
فيستعين به في سعايته ولا تكون جنايته اختيارا
منه للسعاية لأن موجب جنايته لا يختلف
بالاستسعاء أو تضمين الشريك فليس فيه ما يدل
على اختيار السعاية وكذلك لو اغتصب منه مالا
فيه وفاء بنصف قيمته أو أقرض العبد أو بايعه
كان ذلك عليه للعبد لأنه بمنزلة المكاتب له أو
لغيره وهو على خياره لأن موجب هذه المعاملة لا
يختلف بالاستسعاء والتضمين ولو أعتق جزءا من
عبده أو شقصا منه أو بعضه فعندهما يعتق كله.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى البيان إليه
لأن ما سمي يطلق على القليل والكثير منه فأي
مقدار عنى منه يعتق ذلك القدر ويستسعيه فيما
بقي وإن أعتق سهما منه فالسهم في قياس قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى السدس كما قال في
الوصية بسهم من ماله وقد بينا هذا في الإقرار
فيستسعيه في خمسة أسداس وإذا أعتق أمة بينه
وبين آخر ثم ولدت فللشريك أن يضمن المعتق قيمة
نصيبه يوم أعتق ولا يضمنه شيئا من قيمة الولد
لأنه ما صنع في الولد شيئا ولأنه لم يثبت حق
الشريك في الولد لأنها كانت مكاتبة حين ولدت
والمكاتبة أحق بولدها كما أنها أحق بكسبها
وإذا كان العبد بين ثلاثة رهط فأعتق أحدهم
نصيبه ودبر الآخر وكاتب الآخر ولا يعلم أيهم
أول فنقول أما على قول أبي حنيفة عتق المعتق
في نصيبه نافذ ولا ضمان له على أحد تقدم تصرفه
أو تأخر وتدبير المدبر في نصيبه أيضا نافذ وهو
مخير إن شاء استسعى العبد في ثلث قيمته مدبرا
وإن شاء ضمن المعتق فإذا اختار التضمين ضمنه
سدس قيمته مدبرا ورجع على العبد بسدس قيمته
استحسانا وفي القياس ليس له حق التضمين لأن
التدبير منه إن سبق فله حق تضمين المعتق وإن
تأخر فليس له حق تضمينه والضمان لا يجب بالشك
ولأن تدبيره مانع من تمليك نصيبه من المعتق
بالضمان وهو شرط التضمين إذا سبق العتق وفي
الاستحسان اعتبر الأحوال فقال من وجه هو قياس
له ثلث قيمته وهو أن يكون التدبير سابقا ومن
وجه لا يكون ضامنا شيئا فيضمنه سدس القيمة
باعتبار الأحوال ومن وجه يستسعى العبد فيما
بقي وهو سدس القيمة لأنه يستوجب السعاية عليه
على كل حال فأما المكاتب فإن مضى العبد على
كتابته يؤدي إليه مال الكتابة والولاء بينهم
أثلاثا وإن عجز كان للمكاتب أن يضمن المعتق
والمدبر قيمة نصيبه نصفين إذا كانا موسرين
لأنه ليس أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من
الآخر ويرجعان على العبد بما ضمنا ويكون
ج / 7 ص -101-
ولاؤه
بينهما نصفين ولم يذكر قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى في الكتاب.
وذكر في الزيادات إذا كان العبد بين اثنين
أعتقه أحدهما ودبره الآخر ولا يعلم أيهما أول
فعلى قول أبي يوسف يترجح العتق على التدبير
فيكون ولاؤه للذي أعتقه وللمدبر أن يضمن شريكه
نصف قيمته فيما إذا كان موسرا.
وعند محمد رحمه الله تعالى يجعل كأنهما وقعا
معا ثم يغلب العتق فيعتق كله والولاء بينهما
وللمدبر أن يعتق نصف قيمته مدبرا إذا عرفنا
هذا فنقول الكتابة من الثالث أول عندهما وعند
أبي يوسف رحمه الله تعالى يسبق العتق فيكون
للمكاتب والمدبر ضمان قيمة الثلثين على المعتق
والولاء كله للمعتق.
وعند محمد رحمه الله تعالى المكاتب يضمن
المدبر والمعتق قيمة نصيبه بينهما نصفين
كأنهما وقعا معا وقيل بل ذلك في نصيبه خاصة
فأما في نصيب المكاتب العتق أقوى من التدبير
فإنما يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا كان موسرا
وإن كان العبد بين خمسة رهط فأعتق أحدهم ودبر
الآخر وكاتب الثالث نصيبه وباع الرابع نصيبه
وقبض الثمن وتزوج الخامس على نصيبه ولم يعلم
أيهم أول فنقول:
أما على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحكم
العتق والتدبير على ما بينا في الفصل الأول
إلا أن التضمين والاستسعاء هناك في الثلث وهنا
في الخمس لأن نصيب المدبر الخمس هنا. فأما في
البيع فإن تصادقا أنه كان بعد العتق والتدبير
أو قال البائع كان قبل العتق والعبد في يده
وقال المشتري كان بعده فالبيع باطل لأن معتق
البعض لا يباع فالمبطل للبيع ظاهر في الحال أو
يجعل كأنهما وقعا معا فكان البيع باطلا وإن
تصادقا أنه كان قبل العتق والتدبير فالمشتري
بالخيار إن شاء نقض البيع لتغير المبيع في
ضمان البائع وإن شاء أمضاه وأعتق نصيبه
واستسعاه فيكون ولاؤه له وإن شاء ضمن المعتق
والمدبر قيمة نصيبه إن كانا موسرين إذ ليس
أحدهما بوجوب الضمان عليه بأولى من الآخر
ويرجعان به على العبد. وأما المرأة فإن تصادقا
أن التزويج كان بعد العتق أو التدبير فالنكاح
صحيح ولها خمس قيمته على الزوج لأنه تبين أنه
تزوجها على من هو كالمكاتب وإن تصادقا على أن
التزويج كان قبل العتق والتدبير فلها الخيار
للتغير إن شاءت تركت المسمى وضمنت الزوج خمس
قيمته وإن شاءت أجازت وأعتقت واستسعت العبد في
خمس قيمته وولاء خمسه لها وإن شاءت ضمنت
المعتق والمدبر خمس قيمته نصفين ثم لا تتصدق
هي بالزيادة إن كانت بخلاف المشتري لأن
المشتري إنما حصل له ذلك بمال فيتصدق بربح حصل
لا على ضمانه والمرأة تملكت ذلك لا بأداء مال
فلا يظهر الربح في حقها. فأما نصيب المكاتب
فهو على ما ذكرنا إن أدى البدل إليه عتق من
قبله وإن عجز كان له أن يضمن المدبر والمعتق
قيمة نصيبه نصفين إن كانا موسرين.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
فالجواب في العتق، والتدبير على ما
ج / 7 ص -102-
قلنا.
فأما البيع فإن تصادقا أنه كان البيع أولا ثم
العتق ثم التدبير فللمشتري الخيار وإذا اختار
إمضاء البيع ضمن المعتق خمس قيمته إذا كان
موسرا ليس له إلا ذلك وإن تصادقا أنه كان
البيع ثم التدبير ثم العتق واختار المشتري
الامضاء للتدبير ضمن المدبر خمس قيمته موسرا
كان أو معسرا ليس له إلا ذلك .وأما التزويج
فإن تصادقا أنه كان التزويج ثم العتق ثم
التدبير فاختارت الإجازة ضمنت المعتق خمس
القيمة ليس لها إلا ذلك إذا كان موسرا وإن كان
معسرا استسعت الغلام في خمس القيمة وإن كان
التزويج ثم التدبير ثم العتق ضمنت المدبر خمس
قيمته موسرا كان أو معسرا ليس لها إلا ذلك وإن
تصادقا أن التزويج كان بعد العتق فعند أبي
يوسف رحمه الله تعالى ترجع على الزوج بخمس
القيمة وعند محمد رحمه الله تعالى لها مهر
مثلها لأنه ظهر أنه تزوجها على حر.
وقد بينا في كتاب النكاح اختلافهما فيما إذا
تزوجها على عبد فإذا هو حر فأما الكتابة فهو
باطل عندهما كما بينا وعند أبي يوسف رحمه الله
تعالى للمكاتب أن يضمن المعتق قيمة نصيبه إذا
كان معسرا وعند محمد رحمه الله تعالى يضمنه
الأقل من قيمة نصيبه ومن بدل الكتابة على قياس
ما يأتي بعد هذا من اختلافهم في المكاتب بين
اثنين يعتقه أحدهما، ولو كان في العبد شريك
سادس وهب نصيبه لابن له صغير لا يعلم قبل
العتق كان أو بعده فالقول فيه قول الأب لأنه
هو المملك فإن قال الهبة بعد العتق فهو باطل.
وإن قال الهبة قبل العتق فالهبة جائزة ثم يقوم
الأب في نصيب الابن مقام الابن أن لو كان
بالغا في التضمين أو الاستسعاء وليس له حق
الإعتاق فإن كان المعتق والمدبر موسرين ضمنهما
سدس قيمته للابن لأن الاستسعاء بمنزلة الكتابة
وللأب ولاية الكتابة في مال ولده. وإذا أعتق
أحد الشريكين نصيبه من العبد لم يكن للآخر أن
يبيع نصيبه ولا يهبه ولا يمهره لأنه صار
بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يحتمل التمليك
بشيء من الأسباب فإن كاتبه على أكثر من نصف
قيمته طرح الفضل عنه لأن هذا بمنزلة الاستسعاء
منه وقد بينا أنه لو استسعاه وصالحه على أكثر
من نصف قيمته دراهم أو دنانير فالفضل مردود.
وإن كاتبه على عروض أكثر من نصف قيمته جاز كما
لو صالحه من السعاية على عروض لأن الفضل لا
يتحقق هنا فإن عجز عن الكتابة سقط عنه ما
التزم من العروض ويجبر على السعاية في نصف
القيمة كما كان قبل الكتابة ولا يكون له أن
يضمن الشريك شيئا لأن مكاتبته بمنزلة
الاستسعاء منه واختياره السعاية يسقط حقه في
تضمين الشريك فليس له أن يرجع فيه فيضمنه
شيئا، وكذلك لو كان قال قد اخترت السعاية فليس
له أن يضمن الشريك بعد ذلك والخيار في هذا عند
السلطان وعند غيره سواء لأن الخيار ثابت
للساكت شرعا فمن يختار بنفسه يكون ملتزما إياه
ولو لم يختر واحدا منهما حتى يموت المعتق كان
للساكت أن يرجع بالضمان في ماله لأن حق
التضمين قد ثبت له بالعتق في الصحة فلا يسقط
ذلك بموته كسائر ديونه. وإذا باع الذي لم يعتق
نصيبه من المعتق أو وهبه على عوض أخذه منه فإن
هذا واختيار الضمان سواء في القياس لأنه تمليك
لنصيبه منه بعوض يستوفيه
ج / 7 ص -103-
منه.
والتضمين ليس إلا هذا غير أن هذا افحشهما لأن
في التضمين تمليكا حكما بسبب ذلك العتق وفي
البيع والهبة بعوض تمليك مبتدأ بسبب ينشآنه في
الحال. ومعتق البعض لا يحتمل ذلك فباعتبار
السبب كان هذا افحش وباعتبار حكم السبب كان
هذا والتضمين سواء والمقصود الحكم دون السبب
إلا أنه إن كان العوض أكثر من نصف القيمة من
الدراهم أو الدنانير فالفضل باطل كما بيناه في
الصلح، وإن دبر الساكت نصيبه فتدبيره اختيار
للسعاية لأن موجب التضمين تمليك نصيبه من
صاحبه بالضمان وقد فوت ذلك بالتدبير لأنه
استحق ولاء نصيبه فكان ذلك إبراء للمعتق عن
الضمان واختيارا للسعاية، وإن كان العتق بعد
التدبير ضمن المعتق نصف قيمته مدبرا إن كان
موسرا لأنه إنما تعذر عليه استدامة الملك في
نصيبه بإعتاق المعتق وكان نصيبه عند الإعتاق
مدبرا فلهذا ضمنه نصف قيمته مدبرا وإن لم يعلم
أيهما أول فهو على القياس والاستحسان الذي
بينا في القياس لا ضمان على المعتق.
وفي الاستحسان يضمن ربع قيمته مدبرا ويرجع به
المعتق على العبد وعلى العبد مثل ذلك للمدبر
والولاء بينهما، ولو كان العبد بين صغير وكبير
فأعتقه الكبير وهو غني وللصغير أب أو وصي فهو
قائم مقامه في اختيار التضمين أو الاستسعاء
وليس له أن يعتق لأنه تبرع وذلك لا يثبت للأب
والوصي في مال الولد فإن لم يكن له أب ولا وصي
استؤني به بلوغه ليختار إما الضمان أو الإعتاق
أو الإستسعاء.
وقيل هذا إذا كان في موضع لا قاضي فيه فإن كان
في موضع فيه قاض نصب القاضي له قيما يختار
التضمين أو الاستسعاء فإن ذلك أنفع للصبي لأنه
يتعذر التصرف في نصيب الصبي من العبد بعد
العتق
وكذلك إن كان مكان الصبي مكاتب أو عبد مأذون
عليه دين فهو مخير بين الضمان والسعاية وليس
له أن يعتق لأنه تبرع لا يحتمله كسب المكاتب
والمأذون فأما التضمين والاستسعاء فله ذلك في
المكاتب لأن المكاتب يملك أن يكاتب والاستسعاء
بمنزلة الكتابة. فأما في العبد المديون فينبغي
أن يكون له حق التضمين فقط لأن الاستسعاء
بمنزلة الكتابة وليس للمأذون أن يكاتب.
ولكن قال سبب الاستسعاء قد تقرر وهو عتق
الشريك على وجه لا يمكن إبطاله وربما يكون
الاستسعاء أنفع من التضمين فلهذا ملك المأذون
ذلك وإن كان لا يملك الكتابة ابتداء. وإذا
اختار المكاتب أو المأذون التضمين أو
الاستسعاء فولاء نصيبهما للمولى لأنه ليس من
أهل الولاء فثبت الولاء لأقرب الناس إليهما
وهو المولى وإن لم يكن على العبد دين فالخيار
للمولى كما يكون بين حرين لأن كسب العبد مملوك
للمولى في هذه الحالة وإذا قال أحد الشريكين
للعبد إن دخلت المسجد اليوم فأنت حر وقال له
الآخر إن لم تدخل المسجد اليوم فأنت حر فمضى
اليوم وقال كل واحد منهما حنث صاحبي فعلى قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يسقط
نصف السعاية عن العبد. وعند محمد رحمه الله
تعالى لا يسقط عنه شيء من السعاية إذا كانا
معسرين لأن كل واحد من الشريكين شاهد على
صاحبه
ج / 7 ص -104-
بالعتق
فلا يسقط شيء من السعاية عن العبد إذا كانا
معسرين وهذا لأن المقضي عليه بسقوط حقه في
السعاية مجهول والقضاء بالمجهول لا يجوز ألا
ترى أنه لو كان بينهما عبدان سالم وبزيع فقال
أحدهما إن دخلت المسجد اليوم فسالم حر وقال
الآخر إن لم تدخل اليوم فبزيع حر فمضى اليوم
ولا يدري أدخل أو لم يدخل لا يسقط شيء من
السعاية عن العبد لجهالة المقضي عليه منهما
فهذا مثله.
وهما يقولان تيقن القاضي بحنث أحدهما وسقوط
نصف السعاية عن العبد ولا يجوز له أن يقضي
بوجوب ما تيقن سقوطه كمن طلق إحدى نسائه
الأربع قبل الدخول ثم مات قبل أن يبين سقط نصف
الصداق للتيقن به. وإن كان المقضي عليها منهن
مجهولا ولكن لما كان المقضي له معلوما جاز
القضاء به فهنا أيضا المقضي له بسقوط نصف
السعاية عنه معلوم وهو العبد فيجوز القضاء به
وإن كان المقضي عليه مجهولا بخلاف العبدين فإن
الجهالة هناك في المقضي له والمقضي عليه جميعا
فيمتنع القضاء لتفاحش الجهالة وبخلاف ما لو
شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعتق لأن هناك
لم يتيقن بسقوط شيء من السعاية عن العبد لجواز
أن يكونا كاذبين في شهادتهما وهنا تيقنا بسقوط
نصف السعاية لأن أحد الموليين حانث لا محالة.
ثم تخريج المسألة على قول أبي حنيفة أن العبد
يسعى في نصف قيمته بينهما نصفين موسرين كانا
أو معسرين أو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا
لأنه ليس أحدهما بإسقاط حقه في السعاية بأولى
من الآخر ويسار المعتق عنده لا يمنع وجوب
السعاية على العبد فيتوزع الساقط عليهما نصفين
ويكون الباقي وهو نصف القيمة بينهما نصفان.
وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى إن كانا معسرين
فكذلك الجواب وإن كانا موسرين لم يسع لواحد
منهما في شيء لأن كل واحد منهما يدعى الضمان
على شريكه ويتبرى من السعاية فإن يسار المعتق
عنده يمنع وجوب السعاية وإن كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا يسعى في ربع قيمته للموسر منهما
لأن المعسر يتبرأ من السعاية والموسر يقول
شريكي معتق وهو معسر فلي حق استسعاء العبد
فلهذا يسعى له في ربع قيمته.
وعند محمد رحمه الله تعالى إن كانا معسرين
يسعى في جميع قيمته بينهما نصفان وإن كانا
موسرين لا يسعى لواحد منهما لأن كل واحد منهما
تبرأ من السعاية فإن يسار المعتق عنده يمنع
وجوب السعاية
وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا يسعى في
نصف قيمته للموسر منهما لأنه يدعي السعاية
عليه ولا يسعى للمعسر في شيء لأنه يتبرأ من
السعاية ويدعي الضمان على شريكه فعليه إثباته
بالحجة "رجل أعتق عبده عند الموت ولا مال له
غيره فأمر العبد موقوف في جنايته وشهادته
ونكاحه بغير إذن المولى" وهذا بخلاف ما لو
وهبه من إنسان في مرضه فإن الهبة تكون صحيحة
حتى لو كانت جارية حل للموهوب له وطؤها بعد
الاستبراء والأصل أن كل تصرف يحتمل النقض بعد
نفوذه فهو نافذ من المريض لقيام ملكه
ج / 7 ص -105-
في
الحال والهبة من هذا النوع وكل تصرف لا يحتمل
النقض بعد نفوذه يتوقف من المريض لأن حاله
متردد بين أن يبرأ فيكون متصرفا في حق نفسه أو
يموت فيكون متصرفا في حق ورثته ولا يمكن دفع
الضرر عن الورثة بالإبطال بعد النفوذ لأن هذا
النوع من التصرف لا يحتمل ذلك فيدفع الضرر
عنهم يتوقف حكم التصرف على ما يتبين في الثاني
والعتق من هذا النوع فيوقف منه حتى إذا بريء
من مرضه تبين أنه كان نافذا وأن حاله في
الجناية والشهادة كحال الحر وإن مات من مرضه
وهو يخرج من ثلثه
وكذلك إن لم يكن له مال سواه فعليه السعاية في
ثلثي قيمته لأن العتق في المرض وصية لا تنفذ
إلا من الثلث وما دام يسعى فهو كالمكاتب لأن
سعايته في بدل رقبته فهو بمنزلة معتق البعض
يكون كالمكاتب ما دام يسعى بخلاف المرهون
يعتقه الراهن وهو معسر فهو وإن كان يسعى في
الدين إلا أن السعاية هناك ليس في بدل الرقبة
بل في الدين الذي هو على الراهن ولهذا يرجع
عليه إذا أيسر فلا يمنع سلامة الرقبة له وهنا
السعاية في بدل الرقبة فلا تسلم له رقبته ما
لم يؤدها وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من
العبد في مرضه ثم مات وهو موسر لم يضمن حصة
شريكه في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وقالا هو ضامن لشريكه قيمة نصيبه تستوفي من
تركته لأن هذا ضمان الإتلاف والإفساد فإذا
تقرر سببه من المريض كان هو والصحيح سواء
كضمان المغصوب والمتلفات وهذا ضمان التملك
فيستوي فيه الصحيح والمريض كالضمان بالإستيلاد
والحجر بسبب المرض لا يكون أعلى من الحجر بسبب
الرق ثم المكاتب لو كاتب نصيبه كان ضامنا
لنصيب شريكه فالمريض أولى.
وحجة أبي حنيفة رحمه الله ما قال في الكتاب من
قبل أن الضمان لو وجب لوجب أن يكون من مال
الورثة يعني إن تركته تنتقل إلى ورثته بالموت
فلو استوفى ضمان العتق إنما يستوفي من مال
الوارث ولا سبب لوجوب هذا الضمان على الوارث
فإن قيل: لا كذلك بل هذا دين لزمه فيمنع
انتقال المال إلى وارثه.
قلنا: ما لزمه شيء قبل أن يختار الشريك ضمانه
ولو لزمه فهذا ليس بدين صحيح يتقرر ألا ترى أن
العسرة تمنع وجوبه ومثل هذا الدين لا يمنع ملك
الوارث ثم تقريره من وجهين أحدهما أن هذا في
الصورة دين وفي المعنى صلة لأن وجوبها لإكمال
الصلة وهو العتق والصلة وأن تقرر سببها في
حياته يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى
يتعين من الثلث.
ولهذا الحرف قال ابن أبي ليلى رضي الله تعالى
عنه إن كان الضمان يخرج من ثلث ماله يجب وإلا
فلا
ولكنا نقول لكونه في حكم الصلات لا يمنع نقل
الملك إلى الوارث ولا يجوز استيفاؤه من مال
الوارث لما قلنا ولأن المرض أنفى للضمان من
الفقر حتى أن الفقر لا يمنع ضمان الكفالة
والمرض يمنع منه فيما زاد على الثلث فإذا كان
الفقر ينفي وجوب الضمان للعتق أصلا فلأن ينفيه
من مرض الموت أصلا أولى وهذا بخلاف المكاتب
لأن
ج / 7 ص -106-
الضمان
هناك يجب في كسبه وهو أحق بكسبه يدا وتصرفا
إنما ينعدم بسبب الرق حقيقة الملك والغنا. وقد
بينا أنه لا معتبر بالغنا في وجوب ضمان العتق
إنما المعتبر هو اليسر والأداء على المكاتب
متيسر هناك من كسبه والمكاتب فيما يتقرر منه
من أسباب الصلة كالحر ألا ترى أن المحاباة
اليسيرة تصح منه بالإتفاق ومن المريض تعتبر من
ثلثه وهذا بخلاف ما لو كان العتق في الصحة فإن
الضمان يستوفي من تركته بعد موته لأن السبب
هناك تقرر في حال كونه مطلق التصرف في الصلات
فيتقرر وجوبه عليه ألا ترى أنه لو كفل بمال في
صحته فهو معتبر من جميع ماله بخلاف ما إذا كفل
في مرضه فهذا مثله وإذا أعتق أحد الشريكين
العبد ثم اختلفا فقال المعتق أعتقته وأنا معسر
عام أول ثم أصبت مالا بعد ذلك وقال الآخر بل
أعتقته عام أول وأنت موسر فالقول قول المعتق
لأن حاله يتبدل في مثل هذه المدة وإن أقاما
البينة فالبينة بينة الساكت لأنه يثبت اليسار
والضمان لنفسه بسببه. وإذا كان العبد بين
رجلين فقال أحدهما إن لم أضربه اليوم فهو حر
وقال الآخر إن ضربته سوطا فهو حر فضربه سوطين
ثم مات منهما ففي المسألة حكمان حكم العتق
وحكم الجناية أما حكم العتق أنه يعتق نصيب
الذي لم يضربه لوجود شرط حنثه حين ضربه سوطا
وإن كان موسرا فللضارب الخيار بين أن يضمنه
نصف قيمته مضروبا سوطا وبين أن يستسعي العبد
في ذلك لأنه إنما صار معتقا له وهو منقوص بضرب
السوط الأول وقد بينا أن إيجاد الشرط من
الضارب لا يسقط حقه في الضمان فلهذا كان له أن
يضمنه نصف قيمته مضروبا سوطا وأما حكم الجناية
فإن الضارب يضمن نصف ما نقصه السوط الأول
لشريكه في ماله لأن جنايته بضرب السوط الأول
لاقى ملكا مشتركا بينهما ثم قد انقطعت سراية
هذه الجناية بالعتق بعدها والجناية على
المماليك فيما دون النفس لا تعقله العاقلة
فلهذا يضمن له نصف النقصان بالسوط الأول في
ماله ثم يضمن ما نقصه السوط الآخر كله لأنه
صار بمنزلة المكاتب حين أعتق نصيبه وجنايته
على مكاتبه وعلى مكاتب غيره موجبة للضمان عليه
ويضمن نصف قيمته بعد السوطين لأنه مات من
السوطين جميعا وأحدهما صار هدرا والآخر معتبر
فيضمن نصف قيمته مضروبا سوطين ويجمع ذلك مع
نقصان السوط الثاني فيكون على العاقلة لأن
الجناية الثانية صارت نفسا فما يجب باعتبارها
يكون على العاقلة وهذا تركة العبد يستوفي منه
الشريك ما ضمن لأنه كان له حق الرجوع على
العبد بما ضمن لشريكه فيرجع في تركته بعد موته
وما بقي بعده فهو ميراث للمعتق لأن الولاء قد
صار له في الكل.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا
يغرم نقصان السوط الثاني لأنه بعتق البعض عتق
كله والنقصان غير معتبر في الجناية على
الأحرار ولكن يجب نصف ديته على عاقلته فإن كان
له وارث فهو لوارثه وإلا فهو للمعتق ولا يرجع
فيه بشيء مما ضمن لشريكه وإن كان المعتق معسرا
فإن الشريك الذي لم يعتق لم يرجع بما غرمه من
نقصان السوط الآخر
ج / 7 ص -107-
ومن
نصف قيمته مضروبا سوطين بل بنصف قيمة العبد
لأنه كان له حق استسعاء العبد في ذلك فيستوفيه
من تركته وما بقي فهو بين الشريك والمعتق وبين
أقرب الناس إلى الضارب من العصبة لأن الولاء
بينهما ولكن الضارب قاتل فيكون محروما عن
الميراث ويجعل كالميت فيقوم أقرب عصبة مقامه
في ذلك وعندهما الواجب نصف الدية يستوفي منه
الضارب نصف القيمة وهو السعاية وما بقي فهو
كله للمعتق لأن الولاء في الكل له عندهما.
وإذا قال كل مملوك أملكه فيما استقبل فهو حر
فملك مملوكا مع غيره لا يعتق لأن شرط عتقه أن
يملك مملوكا مطلقا ونصف المملوك لا يتناوله
هذا الاسم فإن اشترى نصيب شريكه عتق لأن الشرط
قد تم حين صار الملك في الكل له ولا فرق بين
أن يملك المملوك جملة أو متفرقا وإن باع نصيبه
أولا ثم اشترى نصيب شريكه لم يعتق لأنه لم
يحصل في ملكه مملوك تام في شيء من أحواله
والعرف الظاهر بين الناس أنهم يريدون بهذا
اللفظ الملك التام ولو قال لمملوك بعينه إذا
ملكتك فأنت حر فاشترى نصفه ثم باع ثم اشترى
النصف الباقي عتق لأن الشرط قد تم حين اشترى
النصف الباقي والموجود في ملكه هذا النصف يعتق
والقياس في المعين وغير المعين سواء غير أنه
استحسن وفرق بينهما بحرفين:
"أحدهما" أن الوصف في المعين غير معتبر
والاجتماع في الملك وصف فيعتبر ذلك في غير
المعين ولا يعتبر في المعين.
"والثاني" العادة فإن الإنسان يقول ما ملكت قط
مائة درهم ولا يريد بذلك مجتمعا لا متفرقا وفي
المعين لا يقول ما ملكت هذه المائة درهم إذا
كان ملكها متفرقا وإن قال إن اشتريته فهو حر
فاشتراه شراء فاسدا لم يعتق لأن شرط حنثه تم
قبل أن يقبضه ولا ملك له في القبض ألا ترى أنه
لو أعتقه لا ينفذ عتقه فإن كان في يده حين
اشتراه عتق ومراده إذا كان مضمونا بنفسه في
يده حتى ينوب قبضه عن قبض الشراء فيصير متملكا
بنفس الشراء فيعتق لوجود الشرط وإذا جنى
المستسعى فهو بمنزلة المكاتب يحكم عليه بالأقل
من أرش الجناية ومن قيمته لأن الرق فيه باق
وهو أحق بمكاسبه فيكون كالمكاتب في جنايته ألا
ترى أنه كالمكاتب في الجناية عليه فإن جنى
جناية أخرى بعد الحكم بالأولى حكم في الثانية
بمثل ذلك لأن الأولى بالقضاء تحولت إلى كسبه
فتتعلق الثانية برقبته وإن لم يكن حكم بالأولى
تحاصا في القيمة لأنهما تعلقا برقبته فلا
يلزمه باعتبارهما إلا قيمة واحدة وبيان هذه
الفصول في كتاب الديات وإن حفر بئرا في غير
ملكه فوقع فيه إنسان فعليه أن يسعى في قيمته
لأنه متعد فيه فهو في حكم الضمان كجنايته بيده
وإن وقع فيه آخر اشتركوا في تلك القيمة
لاستناد الجنايتين إلى سبب واحد وهو الحفر ولا
يجب بالسبب الواحد إلا قيمة واحدة وإن وجد في
داره قتيل سعى في قيمته لأن التدبير في حفظ
داره إليه فكان حكم القتيل الموجود فيها كحكم
الذي جنى عليه بيده وما أفسد من الأموال فهو
عليه بالغا ما بلغ لأنه بمنزلة المكاتب في ذلك
كله عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما هو
حر في جميع أحكامه وإذا أعتق أحد الشريكين
الجارية وهي
ج / 7 ص -108-
حامل
ثم أعتق الآخر ما في بطنها ثم أراد أن يضمن
شريكه نصف قيمة الأم لم يكن له ذلك وهذا
اختيار منه للسعاية لأنه بإعتاق الجنين استحق
ولاءه وهو في حكم جزء من أجزاء الأم ولو اكتسب
سبب الولاء في جزء منها سقط حقه في تضمين
الشريك ولأنه منع تمليك ما في بطنها من الشريك
بالضمان فلهذا صار به مختارا للسعاية ولو
أعتقا جميعا ما في بطنها ثم أعتق أحدهما الأم
وهو موسر كان لصاحبه أن يضمنه نصف قيمتها إن
شاء لأن بعد إعتاق الجنين كانا يتمكنان من
استدامة الملك فيها والتصرف بعد الوضع وقد
امتنع على الساكت ذلك بإعتاق الشريك وهو موسر
فكان له أن يضمنه نصف قيمتها إن شاء والحبل
نقصان في بنات آدم لا زيادة فإنما يضمنه نصف
قيمتها حاملا لأنه أعتقها وهي على هذه الصفة
والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في عتق الشركاء
قال "وإذا شهد الشاهدان أن أحد الشريكين أعتق
العبد ولا يدرون أيهما هو وجحد الموليان لم
تجز شهادتهما" لأنهما لم يبينا المعتق منهما.
والحجة هي البينة فما لا تكون مبينة لا تكون
حجة ولأن الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء
ولا يتمكن القاضي من الإيجاب على المجهول فإن
شهد أحد الشريكين على صاحبه بالعتق لم تجز
شهادته لأنه في الحقيقة يدعي إما الضمان على
شريكه أو السعاية على العبد في نصيبه ولكن
الرق يفسد بإقراره لأنه متمكن من إفساد الرق
بإعتاقه فإذا أقر بفساد الرق بإعتاق الشريك
يعتبر إقراره في ذلك ثم يسعى العبد في قيمته
بينهما في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
موسرين كانا أو معسرين أو كان أحدهما موسرا
والآخر معسرا لأن يسار المعتق عنده لا يمنع
وجوب السعاية فالشاهد منهما يقول شريك معتق
ولي حق استسعاء العبد مع يساره والمشهود عليه
يقول الشاهد كاذب ولا ضمان لي عليه ولكن لي حق
استسعاء العبد لاحتباس نصيبي عنده.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إن كان
المشهود عليه معسرا فكذلك الجواب وإن كان
موسرا يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته ولا
يسعى للشاهد في شيء لأن المشهود عليه يدعى
السعاية مع يسار الشاهد فإنه يزعم أنه كاذب
وليس بمعتق فلا يضمن شيئا مع يساره فإن الشاهد
تبرأ من السعاية عند يسار المشهود عليه لأنه
يقول هو معتق ضامن لنصيبي ويدعي السعاية عند
عسرة المشهود عليه فيسعى له في هذه الحالة ولو
شهد أحد الشريكين مع آخر على شريكه باستيفاء
السعاية لم تجز شهادته عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لأنه شهد لعبده فإنه بمنزلة
المكاتب لهما ما دام يسعى والمكاتب عبد لمولاه
ولأنه متهم فلعله قصد استخلاص كسبه لنفسه
بشهادته على صاحبه بالاستيفاء وكذلك لو شهد
عليه بغصب أو جراحة أو شيء يجب به عليه مال
فشهادته مردودة لأنه شاهد لعبده. عبد بين
ثلاثة شهد اثنان منهم على صاحبهما أنه أعتقه
فحكم على العبد أن يسعى لهم في قيمته فأدى إلى
واحد منهم
ج / 7 ص -109-
شيئا
كان ذلك بينهم أثلاثا لأن السعاية وجبت لهم
عليه بسبب واحد فيكون المستوفى مشتركا بينهم
ولأنه بمنزلة العبد لهم فلا يكون لأحدهم حق
الاختصاص بشيء من كسبه فإن شهد اثنان منهم على
الآخر أنه استوفى منه حصته لم تجز شهادتهما من
قبل أنهما يجران إلى أنفسهما منفعة حتى يأخذا
منه ثلثي ما استوفاه وكذلك إن شهدا أنه استوفى
المال كله بوكالة منهما لم تجز شهادتهما عليه
لما قلنا ويبرأ العبد من حصتهما لإقرارهما فيه
بقبض مبرىءفإن قبض وكيلهما في براءة المديون
كقبضهما ويستوفي المشهود عليه حصته من العبد
ولا يشاركه في ذلك الشاهدان لأنهما أسقطا
حقهما بالشهادة السابقة ولأنهما يزعمان أنه
ظالم في هذا الاستيفاء لا حق له فيه ولا لهما
وإن شهدا بدين لهذا العبد على أجنبي لم تقبل
لأنه بمنزلة عبدهما ما دام يسعى وإذا شهد
شاهدان على أحد الشريكين أن شريكه الغائب أعتق
حصته من هذا العبد فعلى قول أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى تقبل هذه الشهادة ويقضي
بعتقه لأن العتق عندهما لا يتجزأ فينتصب
الحاضر خصما عن الغائب وهما في الحقيقة يشهدان
على الحاضر بعتق نصيبه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا تقبل هذه
الشهادة لأن العتق عنده يتجزأ فإنما يشهدان
بعتق نصيب الغائب خاصة وليس عنه خصم حاضر
والقضاء على الغائب بالشهادة لا يجوز ولكن
يحال بينه وبين هذا الحاضر أن يسترقه ويوقف
حتى يقدم الغائب استحسانا. وفي القياس لا يحال
لأن هذه الحيلولة تنبني على ثبوت العتق في
نصيب الغائب ولا يثبت ذلك بالشهادة بدون
القضاء.
ولكن في الاستحسان قال هما يشهدان على الغائب
بالعتق وعلى الحاضر بقصر يده عنه لأن معتق
البعض بمنزلة المكاتب لا يد عليه لمولاه
والحاضر خصم في إثبات قصر يده عنده فتقبل هذه
الشهادة في هذا الحكم إذ ليس من ضرورة القضاء
بها القضاء على الغائب بالعتق فهو نظير من وكل
بعتق عبده فأقام العبد البينة على الوكيل أن
مولاه أعتقه لا يحكم بعتقه ولكن يحكم بقصر يد
الوكيل عنه حتى يحضر المولى فتعاد عليه البينة
فكذلك هنا إذا حضر الغائب فلا بد من إعادة
البينة عليه للحكم بعتقه لأن الأولى قامت على
غير خصم فإن كانا غائبين فقامت البينة على
أحدهما بعينه أنه أعتق العبد لم تقبل هذه
الشهادة إلا بخصومة تقع من قبل قذف أو جناية
أو وجه من الوجوه فحينئذ تقبل البينة إذا قامت
على أن الموليين أعتقاه أو أن أحدهما أعتقه
واستوفى الآخر السعاية منه لأن الخصم الحاضر
لا يتمكن من إثبات ما يدعيه على العبد إلا
بإثبات حريته والعبد لا يتمكن من دفعه إلا
بإنكار حريته فينتصب خصما على الغائبين في ذلك
وإذا شهد شاهد على أحد الشريكين أنه أعتقه
وشهد آخر على الشريك الآخر أنه أعتقه لم يحكم
بشهادتهما أما على مذهب أبي حنيفة رحمه الله
تعالى لا يشكل لأن المشهود به مختلف والمشهود
عليه كذلك. وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى فلأن أحدهما شهد بعتق يبرأ فيه من
نصيب زيد إلى نصيب عمرو والآخر شهد بعتق يبرأ
فيه من نصيب عمرو إلى نصيب زيد ولم يتفق
الشاهدان على واحد من الأمرين فلا يحكم
ج / 7 ص -110-
بشهادتهما. وإن كان العبد لمسلم ونصراني شهد
نصرانيان عليهما بالعتق جازت شهادتهما على
النصراني لأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض
مقبولة وشهادتهم على المسلمين مردودة فأنما
يثبت العتق في نصيب النصراني خاصة فهذا وما لو
شهدا عليه أنه أعتق نصيبه سواء حتى يخير
المسلم بين الإعتاق والتضمين والاستسعاء فإن
شهدا على المسلم منهما بأنه أعتق نصيبه
فالشهادة باطلة والعبد مملوك لهما على حاله
بخلاف ما إذا شهد النصراني على شريكه بالعتق
فإن ذلك إقرار منه في نصيبه بفساد الرق
والإقرار يلزم بنفسه قبل القضاء وهذه شهادة لا
توجب شيئا إلا بالقضاء وليس للقاضي أن يقضي
على المسلم بشهادة النصراني، ولو شهد نصرانيان
على شهادة مسلمين أن النصراني أعتقه فهذا باطل
لأنهما يثبتان شهادة المسلمين عند القاضي وكما
لا يثبت قضاء القاضي على المسلمين بشهادة
النصراني وإن كان الخصم نصرانيا فكذلك لا تثبت
شهادة المسلمين بشهادة النصراني، وإذا كان
العبد بين ثلاثة نفر ادعى أحدهم أنه أعتق
نصيبه على ألف وشهد له شريكاه على العبد
فالشهادة جائزة لأن نصيبه من العبد قد عتق
بإقراره وإنما بقي دعواه المال عليه فالآخران
يشهدان بالمال على أحدهما ولا تهمة في هذه
الشهادة ولو شهد ابنا أحد الشركاء أن أباهما
قد أعتق العبد بغير جعل جازت شهادتهما لأنهما
يشهدان على أبيهما وشهادة ابن العبد بالعتق
تقبل إن كان العبد ينكر ذلك والمولى يدعيه وإن
كان العبد يدعي ذلك لا تقبل لأنهما يشهدان
لأبيهما وكذلك إن شهدا بوجود شرط العتق بعد
ظهور التعليق فإنما يشهدان لأبيهما فلا تقبل
شهادتهما. ولو ادعى المولى أنه أعتقه بألف
درهم وقال العبد أعتقني بغير شيء فشهد ابنا
المولى للعبد بما ادعى وأقام الأب شاهدين على
أنه أعتقه بألف درهم فإنه يؤخذ له بالألف لأنه
يثبت المال ببينة والعبد ينفي المال بما يقيم
من البينة.
وعند التعارض يرجح بين البينتين وإذا كانت بين
رجلين فشهد ابنا أحدهما على الشريك أنه أعتقها
فشهادتهما باطلة لأنهما شهدا لأمة أبيهما
ولأنهما يشهدان لأبيهما بثبوت حق التضمين له
قبل الشريك إن كان موسرا ولو شهدا على أبيهما
أنه أعتقها جاز ذلك لأنه لا تهمة في شهادتهما
على أبيهما فإن كان الأب موسرا ثم ماتت الخادم
وتركت مالا وقد ولدت بعد العتق ولدا فأراد
الشريك أن يستسعي الولد فليس له ذلك كما في
حياة الأم لم يكن له سبيل على استسعاء الولد
فكذلك بعد موتها إذا خلفت مالا ولكنه يضمن
الشريك كما كان يضمنه في حياتها ثم يرجع
الشريك بما يضمن في تركتها كما كان يرجع عليها
لو كانت حية وما بقي فهو ميراث للابن لأن
بأداء ما عليها من السعاية يحكم بعتقها وعتق
ولدها مستندا إلى حال حياتها على ما نبينه في
المكاتبة وإن لم تدع مالا رجع بذلك على الابن
لأن الابن مولود في الكتابة والمولود في
الكتابة يسعى فيما على أمه بعد موتها لأنه جزء
من أجزائها فبقاؤه كبقائها ولأنه محتاج إلى
تحصيل العتق لنفسه ولا يتوصل إلى ذلك إلا
بأداء ما على أمه وإن لم تمت فاختار الشريك أن
يستسعيها فهي بمنزلة المكاتبة في تلك السعاية.
ج / 7 ص -111-
والحاصل أن بعد موتها ليس للشريك أن يستسعيها
باعتبار بقاء الولد وفي حال حياتها له أن
يستسعيها لأن حق الاستسعاء باعتبار احتباس
نصيب الشريك عندها وذلك لا يتحقق بعد موتها
ولا حق للشريك في ولدها فلهذا لا يستسعيها
باعتبار بقاء الولد ولا باعتبار بقاء المال
ولكنه يضمن الشريك. وأما في حال حياتها فقد
تقرر احتباس نصيب الشريك عندها فكان له أن
يستسعيها وهي بمنزلة المكاتبة ما دامت تسعى
حتى ليس لها أن تتزوج بدون إذن مولاها وإن
ولدت فولدها بمنزلتها وإن اشترت أباها أو أمها
أو ولدها فليس لها أن تبيعهم ولو اشترت أخاها
أو ذا رحم محرم منها فلها أن تبيعهم في قول
أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا وليس لها
ذلك في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
وهو القياس أصل المسألة في المكاتب.
وجه قولهما أن الحر لو اشترى أخاه يصير في مثل
حاله فكذلك المكاتب إذا اشترى أخاه يصير في
مثل حاله ألا ترى أن في الآباء والأولاد لا
يفصل بين المكاتب وبين الحر حتى يصير في مثل
حاله في الوجهين فكذلك في كل ذي رحم محرم لأن
القرابة المتأيدة بالمحرمية بمنزلة الولاد في
استحقاق الحرية كما في استحقاق العتق بها وهذا
لأن ما للمكاتب من الحق في كسبه يحتمل الكتابة
حتى لو كاتب عبده صح كما أن ما للحر من الملك
يحتمل العتق فإذا سوى هناك بين الأخوة والآباء
في إثبات ما يحتمله ملك الحر, فكذلك يسوى
بينهما هنا في إثبات ما يحتمله كسب المكاتب.
وجه الاستحسان لأبي حنيفة أن من تكاتب عليه
يكون تبعا له أن الكتابة لا تكون إلا ببدل
وليس عليه شيء من البدل فعرفنا أنه تبع ومعنى
الأصالة والتبعية يتحقق فيما بين الآباء
والأولاد لأجل الجزئية فيستقيم أن يتكاتب عليه
بسبب الجزئية فأما معنى الأصالة والتبعية لا
يتحقق بين الأخوة وسائر القرابات فلا يتكاتب
أحدهما على الآخر والثاني أن المكاتب كسائر
الأباء والأولاد يثبت باعتبار الكسب على أن
يوفى بعد ظهور الملك فإن الابن إذا كان مكتسبا
يقضى عليه بنفقة أبيه على أن يملك بالاكتساب
فيؤدي فكذلك هنا ثبت حق الآباء والأولاد في
الكسب على أنه متى ثبت الملك بالعتق عتق عليه
فيمتنع بيعهم لهذا ولا يثبت حق الأخوة في
الكسب على أن يوفي من الملك إذا ظهر فكذلك لا
يثبت حق الأخوة في كسب المكاتب ولا يمتنع عليه
بيعهم ولا يدخل على هذا الكلام أنه لا يقضي
على المكاتب بالنفقة لآبائه وأولاده الأحرار
لأن الاستحقاق بالكسب على أن يقضي من الملك
وهنا لو قضى عليه بالنفقة لزمه ذلك قبل تمام
الملك له بالعتق وذلك لا يجوز لأن ماله من
الحق قبل العتق لا يحتمل الصلة التامة.
توضيحه أن الأقارب يكثرون فلو تعذر عليه بيعهم
إذا دخلوا في ملكه أدى إلى تفويت المقصود
بالكتابة وهو تحصيل المال ليؤدي فيعتق ولا
يوجد مثل ذلك في الآباء.
فلهذا استحسن أبو حنيفة رحمه الله تعالى وإن
اشترت زوجها لم يفسد النكاح. ولها أن
ج / 7 ص -112-
تبيعه،
كالمكاتب لأنه إنما يثبت لها حق الملك في رقبة
الزوج وحق الملك لا يرفع النكاح لأنه أضعف
منه، والضعيف لا يرفع القوي إذا طرأ عليه وإن
كان عبد على هذه الصفة فاشترى امرأته كان له
أن يبيعها إن لم تكن ولدت منه وإن كانت ولدت
منه فاشترى ولدها معها فهي بمنزلته لأن حق
الأم تبع لحق الولد. وثبوت التبع بثبوت
المتبوع وقد امتنع عليه بيع الولد فيمتنع عليه
بيع الأم أيضا، وإن كفل عن المستسعي رجل
بسعايته لمولاه فهو باطل لأن السعاية كبدل
الكتابة والكفالة ببدل الكتابة باطلة لأنه
عبده فلا يتقرر عليه دينه فهذا مثله وإن مات
ولم يترك مالا حاضرا وترك دينا على الناس فلم
يختصموا في أمره حتى خرج الدين فهو بمنزلة
المال الحاضر يؤدي منه سعايته ويكون ما بقي
ميراثا والولد الحر والمولود في السعاية
والمشتري في ذلك سواء لأن الكل يعتقون بعتقه
ثم يجر ولاء ولده الحر لأن الأب في الولاء أصل
كما في النسب وإنما كان ولاؤه لموالي الأم
لعدم الولاء في جانب الأب فإذا ظهر الولاء في
جانبه انجر إليه ولاء أولاده وسنقرر هذا في
موضعه وإن لم يخرج الدين حتى جني ولده الحر
كانت الجناية على عاقلة أمه لأنه مولى لموالي
الأم ما لم يظهر له ولاء في جانب الأب فإن
اختصم موالي الأم وموالي الأب في ولايته قبل
خروج الدين فقضي به لموالي الأم ثم خرج الدين
بعد ذلك كان الدين لموالي الأب كله لا يكون
للابن فيه شيء في القياس ولكنا ندع العتاقين
ونجعل السعاية للمولى وما بقي ميراثا للابن.
وجه القياس أن القاضي لما حكم بولائه لموالي
الأم فقد حكم برق الأب إلى هذا الوقت وهو ميت
والرقيق لا يرثه الحر.
توضيحه أنه قطعه عن جانب الأب حين قضى بولائه
لموالي الأم وقضى بجنايته عليهم ووجه
الاستحسان أن حكم الكتابة فيه لكونه معتق
البعض وذلك لا يحتمل الفسخ فيبقى بعد قضاء
القاضي حكم الكتابة فيه على حاله. فإذا خرج
ماله يؤدي كتابته ويحكم بحريته مستندا إلى حال
حياته لأنه لا يمكن الحكم بحريته مقصورا على
الحال فتبين أنه مات حرا والحر يرثه ابنه الحر
والقاضي ما قضى بقطع نسبه عن أبيه ولو كان
العبد في سعاية وله ولد من أمة له ثم مات
العبد كان للابن أن يسعى فيما على أبيه بمنزلة
المولود في الكتابة ولو كان عبد وأمة زوجين
لرجل وأعتق نصف كل واحد منهما وقضى عليهما
بالسعاية في نصف قيمتهما ثم ولدت ولدا فقتل
الولد وترك مالا فديته وماله لأمه لأن الولد
جزء من أمه يتبعها في الملك والرق ولم يعتق
فكان تابعا لأمه داخلا في سعايتها فلهذا كان
بدل نفسه وماله لها ولو جنى الولد جناية سعي
في الأقل من قيمته ومن الجناية لأنه بمنزلة
المكاتب وهذا هو الحكم في جناية المكاتب ولو
مات أبواه سعى فيما بقي على أمه دون أبيه لأنه
يتبعها في حكم الكتابة دون الأب فيقوم مقامها
في السعاية فيما عليها ولو ماتت أمه عن مال
أدى منه سعايتها وما بقي فهو ميراث للابن لأنه
يعتق بعتقها ولا ميراث للزوج منها لأن الزوج
مكاتب ما لم يؤد السعاية وإن مات الزوج عن مال
يؤدي ما عليه من سعايته وما بقي ميراث لمعتقه
لا
ج / 7 ص -113-
يرث
ابنه ولا امرأته من ذلك شيئا لأنهما بمنزلة
المكاتبين ما لم تؤد الأم سعايتها وهذا وما لو
كوتب الزوجان كل واحد منهما بعقد على حدة سواء
في جميع ما ذكرنا.
وذكر في الأصل عن ابراهيم أن معتق النصف إذا
جنى فنصف جنايته على العاقلة والنصف عليه وإذا
جنى عليه فارش نصف الجناية عليه إرش العبيد
وإرش النصف الآخر إرش الأحرار وكأنه اعتبر
البعض بالكل ولسنا نأخذ بهذا بل هو بمنزلة
العبد في الجناية والجناية عليه لأن بين
الحرية والرق في محل واحد منافاة وقد قررناه
فيما سبق وإذا شهد الشاهدان على أحد الشريكين
أنه أقر بعتق المملوك وهو موسر جاز ذلك وثبوت
إقراره بالبينة كثبوته بسماع القاضي منه ويضمن
لشريكه إن كان موسرا نصف قيمته ويرجع به على
الغلام والولاء له وإن كان جاحدا للعتق لأن
القاضي حكم عليه بخلاف زعمه وبقضاء القاضي سقط
اعتبار زعمه بخلافه، ألا ترى أن العبد لو كان
كله له فشهدا عليه بعتقه كان الولاء له وإن
كان منكرا وإن شهدا أنه أقر أنه حر الأصل عتق
ولا ولاء له لأن الثابت من إقراره بالبينة
كالثابت بالمعاينة وإنما يقضي القاضي على
المقر بما يقر به ويجعله في حقه كأنه حق وحرية
الأصل لا تعقب الولاء وإن شهدوا على إقراره أن
الذي باعه كان أعتقه عتق كما لو سمع القاضي
إقراره بذلك وهذا لأنه أقر بنفوذ العتق فيه
ممن كان مالكا له وولاؤه موقوف لأن كل واحد
منهما ينفيه عن نفسه فإن البائع يقول أنا ما
أعتقته وإنما عتق بإقرار المشتري فله ولاؤه
والمشتري يقول بل أعتقه البائع فالولاء له
فلهذا توقف ولاؤه على أن يرجع أحدهما إلى
تصديق صاحبه فيكون الولاء له لأن الولاء لا
يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بالتكذيب أصلا
ولكن يبقى موقوفا فإذا صدقه ثبت منه وإن شهدا
على إقراره أن البائع كان دبره أو كاتب أمه أو
أن البائع كان استولدها قبل البيع فإنه يخرج
كل واحد منهما من ملكه لإقراره أنه لم يملكهما
بالشراء وأنهما باقيان على ملك البائع ولا
يرجع على البائع بالثمن لأن إقراره ليس بحجة
على البائع في إبطال البيع وقد استحق البائع
الثمن به ولا يعتقان حتى يموت البائع فإذا مات
عتقا لأن المشتري أقر بتعلق عتقهما بموت
البائع والبائع كان مقرى بأن إقرار المشتري
فيهما نافذ لأن يملكهما فعند موت البائع يحصل
التصادق منهما على الحرية إذا كان المدبر يخرج
من ثلث مال البائع فلهذا يحكم بعتقهما
والجناية عليهما كالجناية على مملوكين قبل موت
البائع لأنهما لا يعتقان إلا بموته، وتوقف
جنايتهما في قول أبي حنيفة.
وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
عليهم السعاية في الأقل من قيمتهما وأرش
جنايتهما
والقياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى
لأن المشتري إن كان صادقا فموجب جنايتهما على
البائع ابتداء لأن موجب جناية المدبر وأم
الولد القيمة على المولى ابتداء وإن كان كاذبا
فجنايتهما تتعلق برقبتهما ويخاطب المشتري بذلك
ومع جهالة المستحق عليه لا يتمكن القاضي من
القضاء بشيء فلهذا تتوقف جنايتهما ولكنهما
استحسنا فقالا هما بمنزلة المكاتبين في الحال
حتى يكتسبان وينفقان على أنفسهما من كسبهما
ولا سبيل لأحد على
ج / 7 ص -114-
أخذ
الكسب منهما وإنما كان موجب جناية المكاتب على
نفسه لكونه أحق بكسبه فإذا وجد ذلك المعنى
هنا.
قلنا عليهما السعاية في الأقل من قيمتهما ومن
أرش الجناية, وكذلك أمة بين رجلين أقر أحدهما
أنها ولدت من الآخر وأنكر الآخر ذلك فهي
موقوفة تخدم المنكر يوما ويرفع عنها يوم ولا
سبيل للمقر عليها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
رحمهما الله تعالى الآخر.
وفي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى الأول وهو
قول محمد رحمه الله تعالى تسعى في نصف قيمتها
للمنكر لأن اقرار أحدهما على شريكه بأمية
الولد كشهادته عليه بعتق نصيبه وقد بينا أن
هناك يسعى للمنكر في نصيبه فكذلك هنا، ولكن
أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هناك تعذر
استدامة الملك لأن ما أقر به لو كان حقا كان
استدامة الملك فيها ممتنعا فلهذا تخرج إلى
الحرية بالسعاية وهنا ما أقر به من أمية الولد
لو كان حقا لم يكن استدامة الملك فيها ممتنعا
فلا معنى لإيجاب السعاية عليها للمنكر ولكن في
زعم المنكر أنها مشتركة بينهما كما كانت وأن
شريكه كاذب فكان له أن يستخدمها يوما من كل
يومين كما قبل هذا الأوان وليس للمقر أن
يستخدمها في اليوم الآخر لأنه يزعم أنها صارت
أم ولد لشريكه وإن حقه في الضمان قبل شريكه
ولا حق له في الاستخدام فلهذا لم يكن للمقر
عليها سبيل وجنايتها والجناية عليها تكون
موقوفة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما
الله تعالى.
وفي قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه
الله تعالى هي بمنزلة المكاتبة تسعى في
الجناية عليها بأخذ الإرش فتستعين بها هكذا
ذكر في الكتاب وهو ظاهر لأن عندهما لما قضى
عليها بالسعاية في نصيب الجاحد كانت كالمكاتب
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لما كانت
موقوفة الحال لا يقضى فيها بشيء فكذلك حكم
جنايتها والجناية عليها.
وقيل الصحيح أن عند أبي حنيفة نصف جنايتها على
الجاحد لأن نصفها مملوك له مطلقا حتى يستخدمها
بقدره والنصف الآخر يتوقف وعلى قول أبي يوسف
الأول وهو قول محمد جنايتها عليها تسعى في
الأقل من قيمتها ومن إرش الجناية لأنها أحق
بكسبها، ألا ترى أنها تنفق على نفسها من كسبها
ولو جعلناها موقوفة فمن ينفق عليها وإذا لم
يكن بد من أن تجعل أحق بكسبها كان موجب
جنايتها في كسبها كالمكاتبة والله تعالى أعلم
بالصواب.
باب عتق ما في البطن
قال: "رجل قال لجاريته
كل ولد تلدينه فهو حر فما ولدته في ملكه فهو
حر" لأن ملك الأم سبب لملك الولد فإن الجنين
يتبع الأم في الملك وقيام سبب الملك عند
التعليق كقيام الملك في صحة التعليق
ألا ترى أن في اليمين المضاف جعل التعليق بسبب
الملك وهو الشراء كالتعليق بالملك ولو كان
الملك موجودا في المحل الذي يلاقيه وقت
التعليق كان التعليق صحيحا فكذلك إذا كان سبب
الملك موجودا ولا يعتق ما لم تلد لأنه جعل شرط
العتق الولادة وإن مات المولى وهي حبلى ثم
ولدته لم تعتق لأنها صارت ملكا للوارث
ج / 7 ص -115-
بالموت
فإنما وجد الشرط بعد زوال ملك المعتق وكذلك لو
باعها المولى وهي حبلى جاز بيعه لقيام ملكه
وقدرته على تسليمها وإذا ولدت بعد ذلك لم تعتق
لأن الشرط وجد في غير ملك الحالف وإن ضرب ضارب
بطنها فالقته ميتا كان فيه ما في جنين الأمة
لأنه ما دام في البطن فهو رقيق ولو كان قال كل
ولد تحبلين به فهو حر كان فيه ما في جنين الحر
لأن شرط العتق هنا وجود الحبل وقد علم أنه كان
موجودا قبل الضرب فإنما وجدت جناية الضارب على
جنين هو حر وإن ولدته بعد البيع لأقل من ستة
أشهر فهو حر والبيع باطل لأنا تيقنا بوجود
الولد قبل البيع وحريته فإنما باعها وفي بطنها
ولد حر فيكون البيع باطلا.
وقال لها: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فهو حر
وإن كانت جارية فأنت حرة فولدت غلامين
وجاريتين فإن علم أن الغلام أول ما ولدت فهو
حر والباقون أرقاء وإن علم أن الجارية أول ما
ولدت فهي مملوكة والباقون مع الأم أحرار لأن
بولادة الجارية الأولى عتقت الأمة وإنما عتقت
بعد انفصال هذه الجارية عنها فكانت هي مملوكة,
والباقون أحرار لأنهم انفصلوا منها بعد حريتها
والولد لا ينفصل من الحرة إلا حرا وإن لم يعلم
أيهم أول يعتق من الأم نصفها لأنها تعتق في
حال وترق في حال ويعتق ثلاثة أرباع كل واحد من
الغلامين لأن أحدهما حر بيقين فإنها إن ولدت
الغلام أولا فهذا الغلام حر وإن ولدت الجارية
أولا فالغلامان يعتقان بعتق الأم فأحدهما حر
بيقين والآخر يعتق في حال دون حال فيعتق نصفه
ثم حرية ونصف بينهما نصفان إذ ليس أحدهما
بأولى من الآخر فيعتق من كل واحد منهما ثلاثة
أرباعه ويسعى في ربع قيمته ويعتق من كل واحدة
من الجاريتين ربعها لأن إحداهما أمة بيقين
والأخرى تعتق في حال دون حال فإنها إن ولدت
الغلام أولا فالجاريتان مملوكتان وإن ولدت
إحدى الجاريتين أولا فهذه مملوكة والأخرى حرة
فإذا كانت إحداهما تعتق في حال دون حال يعتق
نصفها وليست إحداهما بأولى من الأخرى فكان نصف
الحرية بينهما لكل واحدة منهما ربع حرية وتسعى
كل واحدة في ثلاثة أرباع القيمة وإن تصادق
الأم والمولى على أن هذا الغلام أول عتق ما
تصادقا عليه والباقون أرقاء لأن اليد لهما
والقول قول ذي اليد فيمن لا يعبر عن نفسه في
رقه وحريته فإن تصادقا على شيء وجب الأخذ بما
تصادقا عليه وإن اختلفا فيه فالقول قول المولى
مع يمينه لأن المعتق هو المولى فكان قوله في
بيان من عتق مقبولا مع يمينه إن ادعت الأم
خلاف ذلك لأنها تدعي عليه ما لو أقر به لزمه
وإنما يستحلف على العلم بالله ما يعلم أنها
ولدت الجارية أولا لأنه يستحلف على فعلها
والاستحلاف على فعل الغير يكون على العلم.
وإذا قال لها إن كان حملك غلاما فأنت حرة وإن
كانت جارية فهي حرة فكان حملها غلاما وجارية
لم يعتق أحد منهم لأن الحمل اسم لجميع ما في
البطن قال تعالى: {أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق: من الآية4] والعدة لا تنقضي إلا بوضع جميع ما في البطن
فإنما جعل شرط عتقها كون جميع ما في البطن
غلاما وشرط عتق الجارية كونها جميع ما في
البطن ولم يوجد ذلك,
ج / 7 ص -116-
وكذلك
قوله إن كان ما في بطنك لأن ما هو من ألفاظ
العموم فهو يقتضي أن يكون جميع ما في بطنها
بتلك الصفة ولو كان قال في الكلامين إن كان في
بطنك عتقت الجارية والغلام لأنه جعل شرط عتقها
وجود الغلام في بطنها وقد تبين أنه كان موجودا
والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا فعلمنا أنها
عتقت قبل انفصال الولدين عنها فيعتق الولدان
جميعا.
وإذا قال إذا كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت
حرة وإن كانت جارية فهي حرة فولدتهما جميعا
فإن علم أن الغلام أول عتقت هي مع ابنتها
والغلام رقيق وإن علم أنها ولدت الجارية أولا
عتقت الجارية والأم مع الغلام رقيقان وإن لم
يعلم واتفق الأم والمولى على شيء فكذلك لأن
اليد لهما.
وإن قالا لا ندري فالغلام رقيق والابنة حرة
ويعتق نصف الأم لأنها إن ولدت الغلام أولا فهي
حرة والغلام رقيق وإن ولدت الجارية أولا
فالجارية حرة والغلام والأم رقيقان فالأم تعتق
في حال دون حال فيعتق نصفها والغلام عبد بيقين
والجارية حرة بيقين إما أن تعتق بنفسها أو
بعتق الأم ولو كأن قال إن كان أول ولد تلدينه
غلاما فأنت حرة فولدت غلاما وجارية فإن ولدت
الغلام أولا فالغلام رقيق والأم والجارية
حرتان وإن ولدت الجارية أولا فهم أرقاء فالأم
تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها وكذلك
الجارية والغلام رقيق بيقين.
وذكر في الكيسانيات عن محمد رحمه الله تعالى
في هذا الفصل أنه لا يحكم بعتق واحد منهم ولكن
يحلف المولى بالله ما يعلم أنها ولدت الغلام
أولا فإن نكل عن اليمين فنكوله كإقراره وإن
حلف فهم أرقاء بخلاف الفصل الأول لأنا تيقنا
بحرية بعضهم واعتبار الأحوال بعد التيقن
بالحرية صحيح وهنا لم يتيقن بشيء من الحرية
لجواز أنها ولدت الجارية أولا فلا معنى
لاعتبار الأحوال ولكنها تدعي عليه شرط العتق
وهو منكر فالقول قوله مع يمينه.
ولو قال ما في بطنك حر فولدت بعد ذلك لستة
أشهر لا يعتق وإن ولدت لأقل من ستة أشهر عتق
لأنه أوجب العتق لما هو موجود في بطنها وإذا
ولدت لأقل من ستة أشهر فقد تيقنا أنه كان
موجودا فأما إذا ولدت لستة أشهر فصاعدا لم
نتيقن أنه كان موجودا والعلوق يضاف إلى أدنى
مدة الحمل إلا في حالة الضرورة وإن ولدت واحدا
لأقل منها بيوم والآخر لأكثر منها بيوم عتقا
لأنا تيقنا بوجود الأول في بطنها وقت اليمين
حين ولدته لأقل من ستة أشهر وهما توأم واحد
خلقا من ماء واحد فالحكم بوجود أحدهما في
البطن في وقت حكم بوجودهما. وإذا أعتق أمته
ولها زوج حر فولدت ولدا لستة أشهر فصاعدا بعد
العتق فنفاه الزوج لاعن ولزم الولد أمه لأن
الحل قائم بين الزوجين فإنما يستند العلوق إلى
أقرب الأوقات وهو ستة أشهر وتبين أنها علقت به
في حال هما أهل اللعان فيقطع النسب عنه
باللعان ويكون ولاؤه لموالي الأم لأنه لا نسب
له من جهة الأب وإن وضعته لأقل من ستة أشهر
لزم أباه ولاعن أما اللعان فلأنه قذفها في
الحال وهي محصنة وأما لزوم الولد أباه فلانا
تيقنا أن العلوق كان قبل
ج / 7 ص -117-
العتق
وهي لم تكن من أهل اللعان فلزمه نسب الولد على
وجه لا يملك نفيه فلا يتغير ذلك بالعتق بعده
وولاء الولد لموالي الأم لأنه كان موجودا في
البطن حين أعتق الأم فصار الولد مقصودا بالعتق
وله ولاء نفسه, ولو قال لأمته إن كنت حبلى
فأنت حرة فإن ولدت لأقل من ستة أشهر فهي حرة
وولدها لأنه تبين أنه كان منجزا عتقها
بالتعليق بشرط موجود وإن ولدت لستة أشهر أو
أكثر لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط لجواز
أن يكون هذا الولد من علوق حادث وما لم نتيقن
بوجود الشرط لا ينزل الجزاء ولو قال لها ما في
بطنك حر فضرب رجل بطنها بعد هذا القول لأقل من
ستة أشهر فألقت جنينا ميتا ففيه ما في جنين
الحرة لأنا علمنا أنه كان موجودا في بطنها حين
قال ذلك وأنه حكم بعتقه.
فإن قيل: فلعله كان ميتا وإعتاق الميت باطل.
قلنا: قد ظهر لموته سبب وهو الضرب فيحال
بالحكم عليه. ولما حكمنا بوجوب الضمان على
الضارب فقد حكمنا بحياته إلى هذا الوقت فعلى
الجاني ما في جنين الحرة ولو قال لها إن كان
أول ما تلدينه غلاما ثم جارية فأنت حرة وإن
كانت جارية ثم غلاما فالغلام حر فولدت غلامين
وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم وربع
الأولاد لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية
فالأم حرة وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام
فالأم رقيقة فهي تعتق في حال دون حال فيعتق
نصفها وأحد الغلامين رقيق بيقين والآخر يعتق
في حال دون حال فيعتق ربع كل واحد منهم ولا
يقال من الجائز أنها ولدت الغلامين أولا ثم
الجاريتين لأن هذا بمنزلة ولادة الغلام أولا
ثم الجارية وإذا ولدت الجاريتين أولا, ثم
الغلامين فهذا بمنزلة ولادة الجارية أولا ثم
الغلام لأن الشرط ولادة الغلام بعد ولادة
الجارية, وقد وجد سواء تخلل بينهما ولادة
جارية أخرى أو لم يتخلل وإن ولدت غلاما وجارية
في بطن لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم ونصف
الغلام لأن الأم تعتق في حال دون حال, وكذلك
الغلام فيعتق نصف كل واحد منهما والابنة أمة
لأنها إن ولدت الغلام أولا ثم الجارية فإنما
عتقت الأم بعد انفصال الجارية فهي أمة. وإن
ولدت الجارية أولا فهي أمة.
فعرفنا أن رقها متعين, وإن قال أول ولد تلدينه
فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت لأن الميت ولد
كالحي ألا ترى أن الجارية تصير به أم ولد
والمرأة تصير به نفساء فيتم شرط عتقها
بولادته, ولو كان قال هو حر لا ينحل يمينه
بولادة الميت حتى إذا ولدت ولدا حيا بعد ذلك
عتق الولد الحي في قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى ولم يعتق في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله تعالى.
وجه قولهما: أن انحلال شرط اليمين تحقق بولادة
الولد الميت وليس من ضرورة انحلال اليمين نزول
الجزاء, ألا ترى أنه لو قال أول عبد اشتريه
فهو حر فاشترى عبدا لغيره انحلت اليمين حتى لو
اشترى بعد ذلك عبدا لنفسه لم يعتق
ج / 7 ص -118-
والدليل عليه أنه لو قال: أول ولد تلدينه فهو
حر وامرأته طالق فولدت ولدا ميتا وقع الطلاق
ثم عندكم لو ولدت ولدا حيا بعد ذلك يعتق الحي
وهذا لا وجه له لأن الشرط إن صار موجودا
بولادة الميت انحلت اليمين وإن لم يصر موجودا
فينبغي أن لا يقع الطلاق والدليل عليه أن هذا
الحي ثاني ولد حتى لو قال ثاني ولد تلدينه فهو
حر يعتق هذا ولا يكون الشخص الواحد أولا
وثانيا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما حكي عن
أبي سعيد البردعي رحمه الله تعالى أنه كان
يقول الولد الميت ولد في حق الغير حتى أن
العدة تنقضي به والجارية تصير أم ولد وليس
بولد في حق نفسه حتى لا يسمى ولا يصلى عليه
فإذا كان الجزاء عتق الأم أو طلاق المرأة كان
الميت ولدا فيه وإذا كان الجزاء عتق الولد لم
يكن الميت ولدا فيه ولكن هذا تشه ومع أنه تشه
لا معنى له فإنه يقال ينبغي أن يجعل ولدا في
حق المولى حتى ينحل يمينه به وينبغي أن يجعل
ولدا في حق الولد الثاني حتى لا يعتق.
فالوجه الصحيح أن يقول جازى بكلامه ما لا
يجازى به إلا الحي فتصير الحياة مدرجة في
كلامه ويكون المضمر كالمصرح به فكأنه قال أول
ولد تلدينه حيا فهو حر وإنما قلنا ذلك لأن
كلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن ولا يصح
هذا الكلام إلا بإضمار الحياة في الولد لأن
الإعتاق إحداث القوة وذلك يتحقق في الحي دون
الميت فتبين بقوله فهو حر أن حياة الولد مضمر
في كلامه, ألا ترى أنه لو قال إذا ولدت ولدا
ميتا فهو حر كان كلامه لغوا وبه فارق الطلاق
وعتق الأم لأنه لا حاجة في تصحيح ذلك الكلام
إلى إضمار الحياة في الولد, ألا ترى أنه لو
صرح بموت الولد كان التعليق صحيحا ثم ما ثبت
بطريق الاقتضاء يجعل ثابتا للحاجة والضرورة
ففيما تتحقق فيه الحاجة يجعل مدرجا في كلامه
وفيما لا تتحقق فيه الحاجة لا يجعل مدرجا ولا
يبعد أن يكون الشرط واحدا ثم يحكم بوجوده في
بعض الجزاء دون البعض كما لو قال لامرأته إذا
حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت حضت تصدق في
وقوع الطلاق عليها دون ضرتها ولما ثبت أن
الحياة مدرجة في كلامه فالذي ولدته بعد الميت
أول ولد حي وإن كان في الصورة ثاني ولد وليس
هذا كقوله أول عبد اشتريه فهو حر لأن المشتري
لغيره محل للعتق
ألا ترى أن العتق ينفذ فيه من مالكه ومن
المشتري موقوفا على إجازة مالكه فلا حاجة إلى
إضمار الشراء لنفسه لتصحيح الكلام وها هنا
الميت ليس بمحل للعتق أصلا فلهذا جعلنا الحياة
مدرجة في كلامه.
وإن قال أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدا
وشهدت امرأة على الولادة وكذبها المولى وقال
هذا عبدي من غيرها لم يعتق بشهادة امرأة في
قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعلى قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يعتق وقد تقدم
نظيره في الطلاق وقد بينا أن عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى بشهادة القابلة إنما يثبت ما
هو من أحكام الولادة على الخصوص والعتق ليس من
أحكام الولادة على الخصوص
ج / 7 ص -119-
وعندهما لما قبلت شهادة القابلة في حق نسب
الولد فكذلك تقبل فيما جعل بناء على الولادة,
ألا ترى أنه لو قال إن كان بها حبل فهو مني ثم
جاءت امرأة تشهد على الولادة بعد هذا القول
بيوم صارت أم ولد له وبالاستيلاد يثبت حق
الحرية ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يفرق
فيقول الاستيلاد من أحكام نسب الولد فأما هذا
العتق ليس من حكم الولادة وشهادة القابلة حجة
ضرورية فلا تكون حجة إلا فيما هو في حكم
الولادة.
وإن قال لها أنت حبلى فإذا ولدت فأنت حرة
فشهدت امرأة على الولادة عتقت لا بشهادة
القابلة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بل
بمجرد قول الأمة لأنه لما أقر بأنها حبلى فقد
جعل شرط وقوع العتق عليها ظهور ما هو موجود في
بطنها وقد ظهر بقولها كما إذا قال لها إذا حضت
فأنت حرة وقد تقدم نظير هذا في الطلاق.
وإذا قال لها إذا حبلت فأنت حرة ثم وطئها
فينبغي له في الورع والتنزه أن يعتزلها حتى
يعلم أحامل هي أم لا لأن سبب الحبل هو الوطء
فبعدما وطئها يحتمل أنها قد حبلت وقد عتقت فلو
وطئها كان حراما عليه والتحرز عن الحرام واجب
فلهذا نأمره على طريق التنزه أن يعتزلها فإذا
حاضت علمنا أنها ليست بحامل فيطأها مرة أخرى
بعد ما تطهر وهكذا دأبه ودأبها وإن ولدت بعد
هذه المقالة لأكثر من سنتين وقد وطئها قبل
الولادة لأقل من ستة أشهر فعليه العقر لأنا
تيقنا بوجود شرط العتق بعد اليمين وتيقنا بأنه
وطئها بعد ما علقت فإنما وطئها وهي حرة
بالشبهة فعليه العقر وإن ولدته لأقل من سنتين
لم تعتق لأنا لم نتيقن بوجود الشرط وهو الحبل
بعد اليمين لجواز أن يكون هذا الولد من علوق
كان قبل اليمين فإن قيل: فأين ذهب قولكم أن
يستند العلوق إلى أقرب الأوقات.
قلنا: نعم يستند العلوق إلى أقرب الأوقات إذا
لم يكن فيه إثبات العتق بالشك لأن العتق بالشك
لا ينزل وقد تقدم نظيره في الرجعة في الطلاق.
وإذا قال لأمتيه ما في بطن أحداكما حر فله أن
يوقع على أيهما شاء لأن ما في البطن في حكم
العتق كالمنفصل وقد بينا في المنفصل أنه لو
أوجب العتق في غير المعين كان البيان إليه
فكذلك فيما في البطن فإن ضرب إنسان بطن
إحداهما فالقت جنينا ميتا وقع العتق على ما في
بطن الأخرى لأن الذي انفصل ميتا خرج من أن
يكون محلا للعتق ومزاحما للآخر فيما أوجب
فيتعين العتق في الآخر ضرورة ولو ضرب بطن كل
واحدة منهما رجل معا فالقتا جنينين ميتين لأقل
من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق كان على كل واحد
منهما ما في جنين الأمة لأن كل واحد من
الجنينين كان مملوكا يقينا وبعد إيجاب العتق
في المجهول بقيا كذلك.
وقد بينا في المنفصلين أنه لو قتل كل واحد
منهما رجل كان على كل واحد من القاتلين قيمة
مملوك فهذا مثله.
وإن قال: ما في بطن هذه حر وما في بطن هذه حر
أو سالم عتق ما في البطن الأولى والخيار بين
سالم وما في بطن الثانية إليه لأنه أوجب العتق
لما في بطن الأولى بعينها وخير
ج / 7 ص -120-
نفسه
بين عتق ما في بطن الثانية وسالم لأنه أدخل
بينهما حرف أو ذلك للتخيير فكأنه قال ما في
بطن هذه حر واحد الآخرين فيعتق الأول بعينه
والخيار إليه في الآخرين يوقع العتق على أيهما
شاء, وإذا قال لأمتيه ما في بطن إحداكما حر ثم
خرجت إحداهما وجاءت أخرى فقال ما في بطن
إحداكما حر ثم ولدن كلهن لأقل من ستة أشهر
فالقول فيه قول المولى.
وأصل هذه المسألة في العبيد ذكرها في مواضع من
الكتب, والتخريج في الكل واحد فنقول رجل له
ثلاثة أعبد دخل عليه اثنان فقال أحدكما حر ثم
خرج أحدهما ودخل الثالث فقال أحدكما حر
فالبيان إلى المولى لأن الإيهام كان منه ولأن
حكم الكلامين يختلف بيانه.
فإن قال عنيت بالكلام الأول الثابت أو أعنيه
الآن واختاره عتق الثابت بالكلام الأول وتبين
أنه في الكلام الثاني جمع بين حر وعبد وقال
أحدكما حر فلا يجب به شيء إذا لم ينو العبد.
وإن قال عنيت بالكلام الأول الخارج عتق الخارج
بالكلام الأول وصح الكلام الثاني لأنه جمع فيه
بين عبدين فقال أحدكما حر فالبيان إليه فإن
بين أولا أنه عنى بالكلام الثاني الثابت تعين
الخارج بالكلام الأول لأن الثابت خرج من
مزاحمة الخارج في موجب الكلام الأول حين أنشأ
عتقه بعده.
وإن قال عنيت بالكلام الثاني الداخل عتق
الداخل ولا بد من أن يبين مراده بالكلام
الأول, وإن مات قبل أن يبين عتق من الخارج
نصفه ومن الثابت ثلاثة أرباعه ومن الداخل نصفه
في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى
وربعه في قول محمد رحمه الله تعالى لأنه وجب
بالكلام الأول حرية تتردد بين الخارج والثابت
وقد فات البيان بموت المولى فيشيع فيهما فلهذا
يعتق من الخارج نصفه ومن الثابت نصفه بالكلام
الأول والكلام الثاني لا يجب به شيء إن كان
المراد بالكلام الأول الثابت ويجب به حرية إن
كان المراد بالكلام الأول الخارج فأوجبنا به
نصف حرية باعتبار التردد ثم هذا النصف يتردد
بين الثابت والداخل فيكون نصفه وهو الربع
للثابت فاجتمع له ثلاثة أرباع حرية وحصل
للداخل ربع حرية بالكلام الثاني.
فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى يعتق منه ربعه
ولأنه شريك الثابت في الكلام الثاني, فلا يصيب
إلا قدر ما يصيب الثابت بهذا الكلام وشبه هذا
بمن له ثلاث نسوة لم يدخل بشيء منهن قال
لاثنتين منهن أحداكما طالق فخرجت إحداهما
ودخلت الثالثة فقال إحداكما طالق ثم مات قبل
أن يبين يسقط من مهر الخارجة ربعه ومن مهر
الثانية ثلاثة أثمانه ومن مهر الداخلة ثمنه
للطريق الذي قلنا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى قالا
الكلام الثاني صحيح على كل حال فإن كان مراده
الثابت عتق به ما بقي وهو النصف وإن كان مراده
الداخل عتق به كله فالداخل
ج / 7 ص -121-
يعتق
في حال ولا يعتق في حال فيعتق نصفه, وبيان هذا
الكلام أما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فظاهر
لأن الحرية الأولى لما شاعت فيهما كان الثابت
معتق البعض ومعتق البعض عنده بمنزلة المكاتب
أهل لإنشاء العتق فيه فيصح الكلام الثاني على
كل حال.
وعلى قول أبي يوسف رحمه الله العتق لا يتجزأ
بعد وقوعه على محل بعينه بعد وقوعه ولم يكن
واقعا على الثابت حين تكلم بالكلام الثاني فصح
الكلام الثاني.
وأما مسألة الطلاق فقد قيل هو مذكور في
الزيادات وهو قول محمد رحمه الله.
فأما عندهما يسقط من مهر الداخلة ربعه وبعد
التسليم الفرق واضح على أصل أبي حنيفة رحمه
الله لأن الطلاق عنده لا يتجزأ بخلاف العتق
فالكلام الثاني ليس بصحيح على كل حال وإنما
الإشكال على قول أبي يوسف رحمه الله والفرق
أنه يوجد شخص متردد الحال بين الرق والحرية
ويكون محلا لإنشاء العتق وهو المكاتب والثابت
بهذه الصفة حين تكلم بالكلام الثاني فأمكن
تصحيح الكلام الثاني من هذا الوجه على كل حال
فأما الطلاق لا يوجد شخص متردد الحال بين أن
تكون مطلقة ومنكوحة ثم يصح وقوع الطلاق عليها
فلا وجه لتصحيح الكلام الثاني من كل وجه.
قلنا: إن كان صحيحا يسقط به نصف مهر وإن لم
يصح لم يسقط به شيء فسقط به ربع مهر ثم يتردد
هذا الربع بين الثابتة والداخلة فيصيب الداخلة
نصف الربع وهو الثمن فلهذا سقط ثمن مهرها وإن
كان المولى قال ذلك في مرضه ومات قبل البيان
ولا مال له سواهم فإنهم يقتسمون الثلث على قدر
حقهم فيضرب الخارج في الثلث بسهمين والثابت
بثلاثة أسهم والداخل بسهمين في قولهما فيكون
الثلث بينهم على سبعة والقسمة من أحد وعشرين
كل رقبة سبعة فيستسعي الخارج في خمسة أسباعه
وكذلك الداخل والمقيم في أربعة أسباعه.
وعلى قول محمد رحمه الله تعالى الداخل إنما
يضرب بسهم واحد فيكون الثلث بينهم على ستة
والقسمة من ثمانية عشر يسعى الخارج في ثلثي
قيمته والثابت في نصف قيمته والداخل في خمسة
أسداس قيمته إذا عرفت هذا التخريج في العبيد
فكذلك فيما في بطن الجواري لأن الجنين في حكم
العتق كالمنفصل
وإن قال لأمته قد أعتقت ما في بطنك على ألف
درهم عليك فقبلت ثم وضعت غلاما لأقل من ستة
أشهر فهو حر لأنا تيقنا أنه كان موجودا في
البطن حين علق العتق بقبولها المال وقد وجد
منها القبول والمال باطل لأنه لا يمكن إيجابه
على الجنين لأن المولى شرطه على الأم دون
الجنين ولأنه لا ولاية للأم على الجنين في
الزام المال إياه ولا يمكن إيجابه على الأم
لأن الجنين في حكم العتق كشخص واحد على حدة
واعتاق شخص ببدل على شخص آخر لا يجوز وهذا
بخلاف الطلاق فإنه لو طلق امرأته بمال على
أجنبي وقبل الأجنبي ذلك وجب المال عليه ولو
أعتق عبده بمال على أجنبي وقبل الأجنبي ذلك لا
يلزمه المال لأن المولى منتفع بالعتق من حيث
تحصيل الثواب
ج / 7 ص -122-
لنفسه
في العقبى, والولاء في الدنيا ومن انتفع بملك
نفسه لا يستوجب بدله على غيره بالشرط كمن أكل
طعام نفسه ببدل على غيره فأما الزوج غير منتفع
بالطلاق ولكنه مبطل لملكه فإذا شرط بدلا على
غيره والتزمه ذلك الغير كان صحيحا كالعفو عن
القصاص والإبراء عن الدين ولو ولدت الأمة
غلاما ثم كاتبت على نفسها وعليه ألف درهم أجزت
ذلك والتزمه إن كبر أو عقل فرضي, وفرض الجواب
على هذا الموضع إنما يستقيم على طريقة القياس,
فأما على طريقة الاستحسان على ما ذكره في
الجامع وغيره من المواضع غير مستقيم بل الصحيح
من الجواب ما ذكره.
في رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أن
المكاتبة تجوز وتلزم الأم ولا يلزم الغلام من
المال شيء ولكن يعتق بأدائها وهذا لأنه لا
ولاية للأم على الولد في الزام بدل الكتابة
إياه فيكون هذا بمنزلة ما لو كاتب له عبدا
حاضرا وعبدا له غائبا على ألف درهم في القياس
يتوقف العقد في حق الغائب على إجازته لأنه ليس
للحاضر عليه ولاية.
وفي الاستحسان ينفذ العقد وتكون الألف كلها
على الحاضر بقبوله فكان المولى شرط البدل كله
عليه وجعل عتق الآخر معلقا بأدائه وذلك صحيح
بدون القبول من الآخر فكذلك في هذه المسألة.
قال فكاتبها على نفسها أو عليه على ألف درهم.
وهكذا عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي
في وضع هذه المسألة أنها كاتبت عليه فعلى هذا
الجواب مستقيم" لأن المقصود بالكتابة الولد
دون الأم فإن لم تكن الأم داخلة في العقد
يعتبر وجود القبول من الابن إذا كبر أو عقل
ومقصوده الفرق بين حالة الاجتنان في البطن وما
بعد الانفصال فإن في حالة الاجتنان في البطن
لا يتوقف لأنه لا ولاية لأحد عليه في حالة
الاجتنان وإنما يتوقف ماله مجيز حال وقوعه
فأما بعد الانفصال قد تولى عليه في هذا العقد
لما له فيه من المنفعة له فيتوقف على إجازته
وإذا كبر أو عقل فرضي لزمه المال.
ولو قال لأمته ما في بطنك حرمتي ما أدى إلى
ألفا فوضعته لأقل من ستة أشهر فمتى ما أدى فهو
حر لأن ما في البطن في تنجيز العتق كالمنفصل
فكذلك في تعليق عتقه بأدائه المال بخلاف
الكتابة لأن فيها الزام المال إياه ولا ولاية
لأحد عليه في ذلك وليس في التعليق الزام المال
إياه بل التعليق يتم بالمعلق وحده وكلامه قبل
الانفصال وبعده سواء.
ولو قال بعد الانفصال متى أدى إلى هذا المولود
ألفا فهو حر صح وعتق إذا أدى فكذلك إذا قال
قبل الانفصال ولو قال لثلاث إماء له ما في بطن
هذه حر وما في بطن هذه أو في بطن هذه عتق ما
في بطن الأولى وهو مخير في الباقيتين لإدخاله
حرف التخيير بين الثانية والثالثة. ولو قال إن
كان ما في بطن جاريتي غلام فاعتقوه وإن كانت
جارية فاعتقوها ثم مات فكان في بطنها غلام
وجارية فعلى الوصي أن يعتقهما من ثلثه وكان
ينبغي على قياس ما سبق
ج / 7 ص -123-
أن لا
يعتق واحدا منهما لأنه شرط أن يكون جميع ما في
بطنها غلاما أو جميع ما في بطنها جارية وقد
تقدم نظيره في التخيير ولكنه في هذا الموضع
اعتبر مقصود المولى وهو الوصية بإعتاق الغلام
عنه وبإعتاق الجارية وكلامه هذا ليس بتعليق
فكأنه قال اعتقوا ما في بطنها غلاما كان أو
جارية أو كلاهما فيجب على الوصي أو الورثة
تنفيذ الوصية فيهما من ثلثه.
وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت
حرة وإن كانت جارية ثم غلاما فهما حران فولدت
غلاما وجاريتين لا يعلم أيهما أول عتق نصف
الأم لأنها تعتق في حال وهو أن تكون ولادة
الغلام أولا ولا تعتق في حال وهو أن تكون
ولادة الجارية أولا فيعتق نصفها ونصف الغلام
أيضا لأنها إن ولدت الجارية ثم الغلام فالغلام
حر وإن ولدت الغلام أولا فالغلام رقيق فيعتق
نصفه.
قال ويعتق من كل واحدة من الجاريتين ربعها
وتسعى في ثلاثة أرباع قيمتها.
قال: "أبو عصمة رحمه الله وهذا غلط بل الصحيح
أنه يعتق من كل واحدة منهما ثلاثة أرباعها
وتسعى في الربع" لأن إحداهما حرة بيقين فإنها
إن ولدت الغلام أولا عتقت الأم والجاريتان
تعتقان بعتقها, وإن ولدت الجارية أولا ثم
الغلام عتقت إحدى الجاريتين فإحداهما حرة
بيقين والأخرى تعتق في حال دون حال فيعتق
نصفها فيكون السالم لهما حرية ونصف بينهما لكل
واحدة ثلاثة أرباع الحرية.
ومن أصحابنا رحمهم الله تعالى من تكلف لتصحيح
جواب الكتاب فقال إحدى الجاريتين مقصودة
بالعتق في حال فلا يعتبر مع هذا جانب التبعية
بينهما وإذا سقط اعتبار جانب التبعية فاحداهما
تعتق في حال دون حال فيعتق نصفها ثم هذا النصف
بينهما لاستواء حالهما فإنما يعتق من كل واحدة
ربعها ولكن هذا يكون مخالفا في التخريج
للمسائل المتقدمة.
إذا فالأصح ما قاله أبو عصمة رضي الله عنه
وإذا كانت الأمة بين رجلين فأعتق أحدهما ما في
بطنها وهو غني ثم ولدت بعد ذلك بيوم غلاما
ميتا فلا ضمان على المعتق لأن نفوذ عتقه لا
يكون إلا باعتبار حياة الجنين ولم يعلم ذلك
حقيقة ولا حكما حين انفصل ميتا والضمان بالشك
لا يجب, وإن كان رجل ضرب بطنها فألقت جنينا
ميتا فعلى الضارب ما في جنين الأمة نصف عشر
قيمته إن كان غلاما وعشر قيمتها إن كانت
جارية.
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن العتق
عنده يقتصر على نصيب المعتق من الجنين ويبقى
الرق فيه باعتبار نصيب الشريك فلهذا يجب على
الضارب ما في جنين الأمة ثم يكون على المعتق
نصف ذلك لشريكه لأن جنايته إنما تثبت بما وجب
من الضمان على الضارب فيتقدر حكم الضمان بقدر
ذلك فلهذا كان على المعتق نصف ذلك لشريكه ثم
يرجع به فيما أدى الضارب لأنه بدل نفسه فيكون
تركة له, وقد بينا أن المعتق إذا ضمن يرجع بما
ضمن فيما تركه معتق البعض بعد موته ثم الباقي
ميراث عنه للذي أعتقه إن لم يكن له وارث أقرب
منه من أخ أو نحوه لأن الولاء في جميعه للمعتق
حين ضمن نصيب شريكه
ج / 7 ص -124-
وأما
على قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله تعالى يجب
على الضارب ما يجب في جنين الحرة لأن العتق
عندهما لا يتجزأ ويكون ذلك كله للمعتق ميراث
بولائه ويكون على المعتق نصف قيمته لشريكه
معتبرا بوقت الانفصال لأن ضمان العتق إنما
يعتبر بوقت الإعتاق ولكن يتعذر الوقوف على ذلك
لكونه مجتنا في البطن فيعتبر قيمته بأقرب
أوقات الإمكان وذلك بعد الانفصال. وإن لم يضرب
بطنها أحد ولكن ولدت بعد العتق بيوم ولدا حيا
ثم مات فعلى المعتق نصف قيمته معتبرا بوقت
الانفصال لما بينا, فإن لم تلد حتى أعتق الآخر
الأم وهو موسر ثم ولدت فاختار شريكه أن يضمنه
نصف قيمة الأم فله ذلك لأنه بعد اعتاق الجنين
كان متمكنا من استدامة الملك في الأم وقد أفسد
شريكه ذلك حين أعتقها فله أن يضمنه نصف قيمتها
ويرجع بذلك الضمان على الأمة وولاء الأمة للذي
أعتقها وولاء الولد بينهما, في قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى لأنهما أعتقاه. وفي قول أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولاء الولد كله
لمعتق الولد, وإن دبر أحدهما ما في البطن ثم
أعتق الآخر الأم البتة وهو غني ثم ولدت بعده
بيوم فإن الذي أعتق الأم يضمن نصف قيمة الأم
ويرجع بذلك عليها ويكون ولاء الأم للذي أعتقها
لما بينا وولاء الولد لهما جميعا في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى لأن تدبير المدبر اقتصر
على نصيبه فاستحق نصف ولاء الولد والنصف الآخر
من الولد إنما عتق باعتاق الشريك الذي أعتق
الأم فلهذا كان ولاء الولد بينهما.
وأما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
التدبير لا يتجزأ فصار كله مدبرا للذي دبره
واستحق ولاء جميعه ويكون هو ضامنا نصف قيمة
الولد لشريكه موسرا كان أو معسرا ثم الشريك
باعتاق الأم يصير ضامنا له نصف قيمتها وولاء
الأم لمن أعتقها وولاء الولد للمدبر لأنه
استحق ولاءه وإن عتق بعد ذلك تبعا للأم فلهذا
كان له ولاء الولد والله أعلم بالصواب.
باب العتق على المال
قال: "رجل أعتق عبده على
مال من عروض أو حيوان أو غير ذلك أو باعه نفسه
أو وهب له نفسه على أن يعوضه كذا فهو جائز
وإذا قبله العبد فهو حر في جميع أحكامه" لأنه
علق عتقه بقبول المال ولأنه جعل التزام المال
من العبد بمقابلة العتق وقد وجد ذلك بقبوله
والولاء للمولى لأنه عتق على ملكه فإن العبد
ليس من أهل أن يملك مالية نفسه فيبطل ملك
المالية بإعتاق المولى وتحدث القوة للعبد
بإيجاب المولى وهو موجب للولاء بعوض كان أو
بغير عوض والمال دين على العبد لأنه التزمه
بقبوله وقد كانت له ذمة صالحة للإلتزام فيها
وتأيدت بالعتق ويجوز وجوب المال عليه وإن لم
يملك ما يقابله من ملك المولى كما يجب المال
على المرأة بقبول الطلاق وعلى القاتل بقبول
الصلح وإن كان لا يملك شيئا بمقابلته ولهذا كل
ما يصلح التزامه عوضا في الطلاق يصلح التزامه
عوضا هنا وإن اختلفا في المال في جنسه أو
مقداره فالقول قول العبد لأنه عتق باتفاقهما
والمال عليه للمولى فالقول في بيانه قوله
والبينة بينة المولى إما لإثباته الزيادة أو
لأنه يثبت حق نفسه ببينة.
ج / 7 ص -125-
ولو
قال المولى: أعتقتك أمس على ألف درهم فلم تقبل
وقال العبد قبلت فالقول قول المولى مع يمينه
لأنه أقر بتعليق العتق بقبوله المال وهو يتم
بالمولى ولهذا يتوقف بعد المجلس إذا كان العبد
غائبا ثم العبد يدعي وجود الشرط بقبوله
والمولى منكر لذلك فالقول قوله كما لو قال له
قلت لك أمس أنت حر إن شئت فلم تشأ وقال العبد
بل قد شئت فالقول قول المولى بخلاف ما لو قال
لغيره بعتك هذا الثوب أمس بألف درهم فلم تقبل
وقال المشتري قبلت فالقول قول المشتري لأن
البائع أقر بالبيع ولا يكون البيع إلا بقبول
المشتري فهو في قوله لم يقبل راجع عما أقر به
وإذا أعتقه على مال حال أو مؤجل فله أن يشتري
بذلك المال منه ما بدا له يدا بيد لأنه دين
يجوز الإبراء عنه ولا يستحق قبضه في المجلس
فيجوز الاستبدال به كالإثمان ولا خير فيه
نسيئة لأن الدين بالدين حرام في الشرع ولو
أعتق أمته على مال فولدت ثم ماتت ولم تدع شيئا
فليس على الولد من ذلك المال شيء لأنه انفصل
عنها بعد حريتها فكان حرا وليس على الحر شيء
من دين مورثه إذا مات ولو أعطته في حياتها
كفيلا بالمال الذي أعتقها عليه جاز لأنها حرة
فثبت المال دينا عليها بصفة القوة والكفالة
بمثله من الديون صحيحة بخلاف بدل الكتابة.
وإن قال لعبده إذا أديت إلي فأنت حر لم يكن
مكاتبا ولم يعتق حتى يؤدي لأن الكتابة توجب
المال على المكاتب بالقبول فيثبت له بمقابلته
ملك اليد والمكاسب وهنا المال لا يجب على
العبد فلا يثبت له ملك اليد والمكاسب ولكن هذا
اللفظ من المولى تعليق لعتقه بأداء المال
فيكون كالتعليق بسائر الشروط ولهذا لا يحتاج
فيه إلى قبول العبد ولا يبطل بالرد ولا يمتنع
على المولى بيعه ولكن متى جاء بالمال عتق وليس
للمولى أن يمتنع من قبوله عندنا استحسانا.
وفي القياس له ذلك وهو قول زفر رحمه الله
تعالى لأنه تعليق العتق بالشرط فلا يجبر
المولى على إيجاد الشرط كما لو علقه بسائر
الشروط وإذا لم يكن مجبرا على إيجاد الشرط لا
يتم الشرط بفعل العبد لأن الشرط أن يتصل
بالمولى نص على ذلك بقوله ولا يتصل به إلا
بقبوله ودليل الوصف أنه لا يسري إلى الولد ولا
يمتنع عليه بيعه ولا يصير العبد أحق بمكاسبه
ولا يحتمل الفسخ والدليل عليه أنه لو باعه ثم
اشتراه ثم جاء بالمال لم يجبر على قبوله فكذلك
قبل البيع لأن حكم التعليق بالشرط لا يختلف
بما قبل البيع وبعده.
وجه الاستحسان أنه مملوك تعلق عتقه بأداء مال
معلوم إلى المولى فإذا خلى بين المال والمولى
يعتق كالمكاتب وتأثيره أن هذا اللفظ باعتبار
الصورة تعليق وباعتبار المعنى والمقصود كتابة
لأنه حثه على اكتساب المال ورغبة في الأداء
بما جعل له من العتق وليست الكتابة إلا هذا
وهذا المال عوض من
وجه ألا ترى أن في زوجته الطلاق بهذه الصفة
يكون بائنا وأن المولى لو وجد المال زيوفا
فرده كان له أن يستبدله بالجياد وما تردد بين
أصلين يوفر حظه عليهما فوفرنا عليه التعليق في
الابتداء لمراعاة لفظ المولى ودفع الضرر عنه
ووفرنا عليه معنى الكتابة في الانتهاء دفعا
للضرر والغرور عن العبد فقلنا كما وضع المال
بين يدي
ج / 7 ص -126-
المولى
يعتق يدل عليه أنه علق العتق بفعل يباشره
العبد وهو الأداء وفي مثله لا يكون للمولى أن
يمتنع منه ولا أن يمنع عبده من ذلك الفعل كما
لو قال له أنت حر إن شئت فشاء العبد في المجلس
يعتق وليس للمولى أن يمتنع من ذلك الفعل. فأما
إذا باعه ثم اشتراه قد روى عن أبي يوسف رحمه
الله تعالى أنه إذا جاء بالمال يعتق وهذا وما
قبل البيع سواء لأن التعليق لا يبطل بالبيع
وعلى ما ذكره في الزيادات أنه لا يجبر المولى
على القبول والعذر واضح فإن معنى التعليق لا
يبطل بالبيع ولكن معنى الكتابة يبطل بنفوذ
البيع فيه وإجبار المولى على القبول كان من
حكم الكتابة وقد بطل ذلك بنفوذ البيع فيه
فلهذا لا يجبر على القبول بعده فأما قبل البيع
معنى الكتابة باق كما بينا.
ولسنا نعني بقولنا يجبر المولى على القبول
الإجبار حسا وإنما نعني أن بمجرد التخلية بينه
وبين المال يعتق وليس للمولى أن يمتنع عنه
وإذا أحضر العبد المال لا يمكن المولى من أن
يهرب منه ثم لا يعتق العبد إلا بأداء جميع
المال لأن الشرط لا يتم إلا به حتى لو بقي من
المال درهم فهو عبد على حاله ولمولاه أن يبيعه
وكذلك لو كان قال له إن أديت إلي ألفا إلا أن
هذا على المجلس في ظاهر الرواية.
وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله تعالى أنه
لا يتوقت بالمجلس كالتعليق بسائر الشروط وجه
ظاهر الرواية. أنه بمنزلة التعليق بمشيئة
العبد لأنه يتخير بين الأداء والامتناع منه
فكما يتوقت بالمجلس إذا قال له أنت حر إن شئت
فكذلك هذا توضيحه أنه في الكتابة يحتاج إلى
القبول في المجلس, والأداء هنا بمنزلة القبول
هناك من حيث أن حكم الكتابة يثبت به فيعتبر
وجود الأداء في المجلس هنا إذا لم يكن في لفظه
ما يدل على الوقت كما يعتبر القبول في المجلس
في الكتابة وإن اختلفا في مقدار المال فالقول
قول المولى مع يمينه لأن التعليق بالشرط تم به
فالقول قوله في بيانه بخلاف مسألة أول الباب
فإن العبد هناك عتق بالقبول فيكون الاختلاف
بينهما في الدين الواجب عليه وهنا لا يعتق إلا
بالأداء فإنما وقع الاختلاف بينهما فيما يقع
به العتق فلهذا كان القول قول المولى فيه. وإن
أقاما البينة فالبينة بينة العبد لأنه لا
منافاة بين البينتين فيجعل كان الأمرين كانا
فأي الشرطين أتى به العبد يعتق ولأن البينات
للإلزام وفي بينة العبد معنى الإلزام فإنها
إذا قبلت عتق العبد بأداء الخمسمائة وليس في
بينة المولى إلزام فإنها وإن قبلت لا يجبر
العبد على أداء المال.
وإذا قال لأمته إذا أديت إلي ألفا فأنت حرة
فولدت ولدا ثم أدت لم يعتق ولدها معها لأنها
إنما عتقت عند الأداء وقد انفصل الولد عنها
قبل هذا فلا يسري إليه ذلك العتق. وقد بينا أن
حكم الكتابة لا يثبت بهذا اللفظ قبل الأداء
فبقي ولدها مملوكا للمولى مطلقا وإن أدت الألف
من مال مولاها عتقت لوجود الشرط وللمولى أن
يرجع عليها بمثله لأن مقصود المولى لم يحصل
بها فإن مقصوده أن يحثها على الاكتساب لتؤدي
من كسبها فيملك المولى ما لم يكن له ملكا قبل
هذا وبأداء مال المولى إليه لا يحصل هذا
المقصود فيرجع عليها بمثله دفعا
ج / 7 ص -127-
للضرر
عنه وكذلك إن أدت من كسب اكتسبه قبل هذا القول
لأن ذلك الكسب من ملك المولى قبل التعليق ولو
أدته من كسب اكتسبته بعد هذا القول لم يرجع
المولى عليها بشيء آخر لأن مقصوده قد تم فإن
استحق المقبوض من يد المولى لم يبطل العتق لأن
الشرط تم بأداء المستحق والعتق بعد وقوعه لا
يحتمل الفسخ وللمولى أن يرجع عليها بمثله لأن
مقصوده لم يحصل بهذا الأداء, ولو كان المولى
مريضا حين قال لها إن أديت إلي ألفا فأنت حرة
فاكتسبت وأدت ثم مات المولى من مرضه فإنها
تعتق من ثلثه في القياس وهو قول زفر رحمه الله
تعالى لأن كسبها ملك المولى فلا يكون ملكه
عوضا عن ملكه والعتق في المرض بغير عوض يكون
معتبرا من الثلث.
وفي الاستحسان تعتق من جميع ماله لأن المؤدى
في حكم العوض حتى إذا وجده زيوفا استبدله
بالجياد ولأن الضرر مندفع عن الورثة حين
استوفى المولى منها مقدار ماليتها وهذا بناء
على اعتبار معنى الكتابة فيه عند الأداء
استحسانا.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا كل شهر مائة
فأنت حرة وقبلت فهذه مكاتبة وليس له أن يبيعها
وإن أدت عتقت وإن كسرت شهرا واحدا ثم أدت إليه
ذلك الشهر كان جائزا هكذا في نسخ أبي سليمان.
وفي نسخ أبي حفص رضي الله عنه قال لا تكون
مكاتبة وله أن يبيعها قبل الأداء, ولو كسرت
شهرا ثم أدت في الشهر الثاني لم تعتق.
وجه رواية أبي حفص رضي الله عنه أن تعليق
العتق بشرط واحد وبشروط كثيرة سواء كما في
سائر الشروط وليس في هذا أكثر من أنه علق عتقه
بوجود أداء المائة عشر مرات في عشرة أشهر ولو
علقه بأداء الألف جملة واحدة لم تكن مكاتبة
ولا تعتق إلا بوجود صورة الشرط فكذلك إذا علقه
بالأداء عشر مرات.
ووجه رواية أبي سليمان رضي الله عنه أنه أتى
بمعنى الكتابة حين جعل المال مؤجلا منجما عليه
والتأجيل والتنجيم من حكم الكتابة والعبرة في
العقود للمعاني دون الألفاظ, ألا ترى أنه لو
قال ملكتك هذا العبد بكذا كان بيعا وإن لم
يصرح بلفظ البيع ولأن التأجيل والتنجيم
للتيسير وذلك في المال الواجب فعرفنا أنه قصد
إيجاب المال عليه ولا يجب عليه المال إلا
بالكتابة.
ولو قال لها إذا أديت إلي ألفا في هذا الشهر
فأنت حرة فلم تؤدها في ذلك الشهر وأدتها في
غيره لم تعتق على الروايتين جميعا وبهذا
استشهد في نسخ أبي حفص ووجه الفرق على رواية
أبي سليمان أنه ليس في هذا اللفظ ما يدل على
معنى الكتابة من التنجيم والتيسير على العبد
بل فيه اشتراط تعجيل أداء المال فلم يكن كتابه
وقد فات الشرط بمضي الشهر قبل أدائه فلهذا لا
يعتق بخلاف ما إذا صرح بالتنجيم.
وإذا قال متى أديت إلي ألفا فأنت حرة فمات
المولى قبل الأداء بطل هذا القول كما
ج / 7 ص -128-
يبطل
التعليق بسائر الشروط إذ لا فائدة في بقائه
بعد موت المولى لأنها صارت مملوكة للوارث فلا
يتوهم وجود الشرط بعد هذا على ملك المولى
لتعتق به بخلاف الكتابة فإن المكاتب ثبت له
حكم المالكية يدا بعقد الكتابة فلا يصير ملكا
للوارث ولكن يبقى على حكم ملك المولى حتى يعتق
بأدائه وإن كان قال إن أديت ألفا بعد موتي
فأنت حرة فهذه وصية لأن العتق بمال والعتق
بغير مال في صحة إيجابه من المولى سواء.
ولو قال أنت حرة بعد موتي كان صحيحا فكذلك إذا
قال إذا أديت ألفا بعد موتي فأنت حرة إذا جاءت
بالمال فعلى الوصي أن يقبله منها ويعتقها ثم
إن كانت قيمتها ألف درهم أو أقل فليس عليها
شيء آخر استحسانا, وإن كانت قيمتها أكثر من
ذلك فالفضل يعتبر من الثلث وهذا ومسئلة المريض
سواء.
ولو قال لعبدين له إذا أديتما إلي ألفا فأنتما
حران فأدى أحدهما حصته لم يعتق لأن شرط العتق
أداؤهما جميعا المال والشرط يقابل المشروط
جملة ولا يقابله جزءا فجزءا وإنما ذلك من
أحكام المعاوضات وكذلك لو أدى أحدهما جميع
الألف من عنده لم يعتق لأن الشرط أداؤهما فلا
يتم بأداء أحدهما فإن قال المؤدي خمسمائة من
عندي وخمسمائة بعث بها صاحبي لاؤأديها إليك
عتقا لأن أداء الرسول كأداء المرسل فيتم الشرط
بهذا وهو أداؤهما جميعا المال فإن أداها عنهما
رجل آخر لم يعتقا لأن الشرط أداؤهما بخلاف
الكتابة فإن شرط العتق هناك براءته عن المال
وذلك يحصل بأداء الأجنبي إذا قبله المولى ثم
للمؤدي أن يرجع فيها لأنه أداها ليعتقا به ولم
يحصل مقصوده فإن قال أؤديها إليك على أنهما
حران أو على أن تعتقهما فقبل على ذلك عتقا
ويرجع المال إلى المؤدي أما العتق فلأن قبول
المولى على هذا الشرط بمنزلة الإعتاق من
المولى إياهما وأما ثبوت حق الرجوع فلأن عوض
العتق لا يجب على الأجنبي وقد بينا هذا في
الباب المتقدم, وإذا أداها وقال هما أمراني أن
أؤديها إليك عنهما فقبلها عتقا لأنه رسول
عنهما في الأداء وأداء الرسول كأداء المرسل
وقوله لعبده متى أديت إلي ألفا فأنت حر أو إن
أديت أو إذا أديت إذن منه له في التجارة
استحسانا لوجود دليل الإذن فإنه حثه على أداء
المال ولا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب
فيكون هذا ترغيبا له في الاكتساب ليؤدي المال
ولم يرد الاكتساب بالتكدي لأنه يدني المرء
ويخسسه وإنما مراده الاكتساب بالتجارة ودلالة
الإذن كصريح الإذن ألا ترى أنه لو قال أد إلي
ألفا كل شهر كذا كان ذلك منه إذنا له في
التجارة فإن اكتسب ألفي درهم فأدى إليه ألفا
عتق لوجود الشرط وللمولى أن يأخذ منه الألف
الباقية لأنه كسب عبده بخلاف المكاتب فقد ثبت
له المالكية يدا في مكاسبه بعقد الكتابة فلهذا
سلم الفضل له وهنا ما ثبت للعبد حكم المالكية
في مكاسبه وإنما اعتبرنا معنى الكتابة عند
الأداء ليندفع الضرر والغرور عن العبد وذلك في
قدر ما شرط عليه أداؤه فأثبتنا حقه بذلك القدر
وما زاد عليه فهو للمولى لأن الثابت بالضرورة
لا يعدو موضع الضرورة.
ج / 7 ص -129-
وإن
قال إذا أديت إلي ألفا فأنت حر فقال العبد
للمولى حط عني منها شيئا أو اقبل مني مكانها
مائة دينار فحط عنه المولى مائة درهم وأدى
تسعمائة لم يعتق, ألا ترى أنه لو أبرأه عن
جميع المال لم يعتق وهذا لأن الشرط وجود أداء
الألف فلا يتم بأداء تسعمائة بخلاف الكتابة
فإن المال هناك واجب على المكاتب فيتحقق
إبراؤه عنه سواء أبرأه عن الكل أو حط بعضه
وهنا لا مال على العبد فالحط والإبراء باطل
ولا يعتق ما لم يتم الشرط وليس للعبد أن يسترد
من المولى ما أخذ منه لأن كسبه مملوك لمولاه
وهو نظير ما لو قال له إذا خدمتني سنة فأنت حر
فخدمه أقل من سنة وتجاوز المولى عما بقي لم
يعتق لأن الشرط لم يتم وكذلك لو صالحه من
الخدمة على مال كان باطلا ولا يعتق بها لأن
العتق المتعلق بالشرط لا ينزل ما لم يوجد
الشرط بعينه ولا تتحقق الخدمة بهذا الصلح فلا
يعتق به إلا أن يقول المولى له عند الصلح أنت
حر إن أديت هذا.
ولو قال لعبده إن أديت إلي كذا من العروض فأنت
حر فأداها إليه عتق لوجود الشرط إلا أنه إن
كان ذلك شيئا يصلح أن يكون عوضا في الكتابة
يجبر المولى على قبوله بمنزلة الألف وإن كان
لا يصلح عوضا في الكتابة لا يجبر على قبوله
ولكن إن قبله يعتق لأن الإجبار على القبول
باعتبار معنى الكتابة.
ولو قال أخذ مني وولدي سنة ثم أنت حر أو إذا
خدمتني وإياه سنة فأنت حر فمات المولى قبل مضي
السنة لم يعتق به لأن الشرط لم يتم وقد بينا
أن التعليق يبطل بموت المولى وكذلك إن مات
الولد فقد فات شرط العتق بموته فلا يعتق بعد
ذلك.
ولو قال أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل فهو حر
والخدمة عليه يؤخذ بها لأنه أوجب له العتق هنا
بقبول الخدمة وفي الأول أوجب له العتق بوجود
الخدمة ثم الخدمة في مدة معلومة تصلح أن تكون
عوضا فيصح التزامه دينا بمقابلة العتق فإن مات
المولى فللورثة أن يأخذوه بما بقي من خدمة
السنة من قيمته في قياس قول أبي حنيفة رحمه
الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف رحمه الله
تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله
تعالى إنما يأخذونه بما بقي من الخدمة.
قال عيسى وهذا غلط بل على قولهم جميعا هنا
يأخذونه بما بقي من خدمة السنة لأن الخدمة دين
عليه فيخلفه وارثه بعد موته كما لو كان أعتقه
على ألف درهم واستوفى بعضها ثم مات كان للورثة
أن يأخذوه بما بقي من الألف ولكن في ظاهر
الرواية يقول الناس يتفاوتون في الخدمة وإنما
كان الشرط أن يخدم المولى فيفوت ذلك بموت
المولى كما يفوت بموت العبد ولو مات العبد قبل
تمام السنة فللمولى أن يأخذ من تركته بقدر ما
بقي عليه من خدمة السنة من قيمته في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى وفي قوله الأول وهو قول محمد
رحمه الله تعالى من قيمة الخدمة.
وأصل المسألة في كتاب البيوع إذا باع نفس
العبد منه بجارية فاستحقت أو هلكت قبل
ج / 7 ص -130-
القبض في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى الآخر وهو قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى يرجع على العبد بقيمة نفسه
وفي قوله الأول وهو قول محمد رحمه الله تعالى
يرجع بقيمة الجارية إلا أن هذا القدر ليس بقوي
فإن الخدمة عبارة عن خدمة البيت وهو معروف بين
الناس لا يتفاوتون فيه فلا يفوت بموت المولى
ولكن الأصح أن يقول الخدمة عبارة عن المنفعة
والمنفعة لا تورث فلا يمكن إبقاء عين الخدمة
بعد موت المولى فلهذا كان المعتبر قيمته أو
قيمة الخدمة على حسب ما اختلفوا فيه والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب بيع أمهات الأولاد
قال: "رضي الله عنه بيع أم الولد باطل في قول
جمهور الفقهاء وكان بشر المريسي وداود ومن
تبعه من أصحاب الظواهر رضوان الله عليهم
أجمعين يجوزون بيعها" لأن المالية والمحلية
للبيع قبل الولادة معلوم فيها بيقين فلا يرتفع
إلا بيقين مثله وخبر الواحد لا يوجب علم
اليقين, ولكنا نقول في معارضة هذا الكلام لما
حبلت من المولى امتنع بيعها بيقين فلا يرتفع
ذلك إلا بيقين مثله ولا يقين بعد انفصال
الولد, "فإن قال" إنما امتنع بيعها لأن في
بطنها ولدا حرا وقد علمنا انفصاله عنها.
قلنا: لا كذلك بل إنما امتنع بيعها لثبوت
الحرية في جزء منها فإن الولد يعلق من الماءين
حر الأصل وماؤها جزء منها وثبوت الحرية لجزء
منها مانع من بيعها وهذا المعنى لا ترتفع
بالانفصال وإليه أشار عمر رضي الله عنه فقال
أبعد ما اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم
بدمائهن أو إنما امتنع بيعها لأنها صارت
منسوبة إليه بواسطة الولد يقال أم ولده وهذه
النسبة توجب العتق فيمتنع البيع ضرورة
وبالانفصال يتقرر هذا المعنى ولا يرتفع.
ثم الآثار المشهورة تدل على ذلك فمنه حديث
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صلى اله عليه وسلم قال:
"أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر
منه" ولما ولدت مارية إبراهيم من رسول الله صلى اله عليه وسلم ورضي عنها
وقيل لرسول الله صلى اله عليه وسلم ألا
تعتقها؟ قال:
"قد أعتقها ولدها" ففي هذين الحديثين دليل استحقاق العتق لها وذلك يمنع البيع.
وفي حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال أمر
رسول الله صلى اله عليه وسلم يعتق أمهات
الأولاد من غير الثلث, وأن لا يبعن في دين
ففيه دليل استحقاق العتق وانعدام المالية
والتقوم فيها حين لم يجعل عتقها من الثلث ولم
يثبت حق الغرماء فيها.
وفيه دليل أنه لا يجوز بيعها لحاجة المولى في
حياته ولا بعد موته وحديث سلامة بنت معقل قالت
اشتراني الحباب ابن عمرو فولدت منه ثم مات
فجئت إلى النبي صلى اله عليه وسلم فأخبرته أني
ولدت من الحباب فقال: "من وارث الحباب؟" فقال أبو بشر بن عمرو فقال:
"أعتقوا هذه فإذا أتانا سبي فأتونا حتى نعوضكم" وتأويله أن وارث الحباب كان ينكر ولادتها منه ومع ذلك
ج / 7 ص -131-
أمره
رسول الله صلى اله عليه وسلم أن يعتقها
احتياطا ووعده العوض من عنده فهو دليل على أن
الاستيلاد إذا كان ظاهرا ثبت به استحقاق العتق
ولا يجوز بيعها.
وحديث عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال استشارني عمر بن الخطاب رضي الله
تعالى عنه في عتق أمهات الأولاد فاجتمعت أنا
وهو على عتقهن ثم رأيت بعد ذلك أن أرقهن فقال
أبو عبيدة رأي ذوي عدل أحب إلي من رأي ذي عدل
وحده فدل أنهم كانوا مجمعين على استحقاق العتق
لها في الابتداء.
فإن قيل: فكيف جوز علي رضي الله تعالى عنه
مخالفة الإجماع بعد ذلك؟
قلنا: يحتمل أنه كان من مذهبه أن الإجماع لا
يتم إلا بانقراض ذلك العصر ويحتمل أن معنى
قوله ثم رأيت أن أرقهن إلى أداء السعاية فلا
يكون هذا منه خلافا في أصل استحقاق العتق بل
في صفته أنه من الثلث أو من جميع المال.
وعن إبراهيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان ينادي على منبر رسول الله صلى اله عليه
وسلم ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق
عليها بعد موت مولاها وعن إبراهيم في أم الولد
إذا أسقطت سقطا قد استبان خلقه كانت به أم ولد
هكذا, روى عنه حماد وروى عنه الحكم إذا أسقطت
مضغة أو علقة كانت به أم ولد وكأنه على هذه
الرواية اعتبر نفس اختلاط الماءين كما في حديث
عمر رضي الله عنه
ولسنا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بحديث حماد عنه
لأن السقط الذي لم يستبن شيء من خلقه ليس بولد
فلا تصير به أم ولد بخلاف السقط الذي استبان
بعض خلقه فإنه ولد في الأحكام فيتحقق نسبتها
إليه بواسطة
وإذا أقر الرجل أن حمل أمته منه صارت أم ولد
له وله خدمتها ووطؤها ولا يجوز له أن ينقل
ملكها إلى غيره أما إذا ظهر ولادتها بعد هذا
الإقرار فلا إشكال فيه لأن نسب الولد ثبت منه
بإقراره فإن ثبوت النسب من وقت العلوق بإقراره
وإقراره مصادف محله وأما إذا لم تظهر ولادتها
وزعم المولى أنه كان ريحا في بطنها وصدقته في
ذلك فهي بمنزلة أم الولد أيضا لأن الحمل اسم
للولد وقد ثبت لها حق العتق بإقراره المتقدم
فلا يصدقان على إبطاله كما لا يصدقان على
إبطال حقيقة العتق وكذلك لو كان قال ما في
بطنك من ولد فهو مني ولو كان قال ما في بطنك
مني ثم تصادقا أنه كان ريحا في بطنها فله أن
يبيعها لأنه ليس في لفظه تصريح بوجود الولد في
بطنها فلا يكون مقرى لها بحق العتق بهذا اللفظ
بخلاف ما سبق.
وإن قال إن كانت حبلى فهو مني فولدت ولدا أو
أسقطت سقطا قد استبان خلقه فإن أقر المولى به
فهي أم ولده إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر
لأن ولادتها هذا الولد ثبت بإقراره ووجوده في
البطن عند دعواه معلوم وإن أنكر المولى
الولادة فشهدت عليه امرأة جاز ذلك وثبت النسب
لأن الولادة تثبت بشهادة المرأة الواحدة كما
تثبت بإقراره, ثم النسب وأمية الولد إنما تثبت
بإقرار المولى لا بشهادة القابلة وإذا ولدت
المدبرة من السيد صارت أم ولد له وبطل
التدبير.
ج / 7 ص -132-
معناه
أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ثبوت أمية الولد
لأن كل واحد منهما يوجب استحقاق العتق لها في
الحال وتعلق التنجز بموت المولى والاستحقاق
بالاستيلاد أقوى حتى يكون من جميع المال
والتدبير من الثلث والضعيف لا يظهر في مقابلة
القوي فلهذا قال وقد بطل التدبير, وإذا أقر في
صحته أن أمته هذه قد ولدت منه صارت أم ولده
لأنه أقر باستحقاق العتق لها في حال يملك
إنشاء عتقها مطلقا والمقر يعامل في حق نفسه
كأنما أقر به حق إذا لم يكن في المحل حق لأحد
سواه كان الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة
وإن أقر بذلك في مرضه فإن كان معها ولد فكذلك
الجواب لأن نسب الولد ثبت منه فإن المريض غير
محجور على الإقرار بالنسب وثبوت نسب الولد
شاهد لها بمنزلة ما لو أقامت البينة على أنها
أم ولده وإن لم يكن معها ولد عتقت من الثلث
لأن إقراره لها باستحقاق العتق بمنزلة تنجيز
العتق ولو نجز عتقها كان من الثلث لأن حق
الورثة قد تعلق بها بمرضه.
توضيحه أنه إذا كان معها ولد فهو محتاج إلى
إثبات نسب ولده منه كيلا يضيع نسله وحاجته
مقدم على حق الورثة فإنما صرفها مع ولدها إلى
حاجته فكانت من جميع ماله وإذا لم يكن معها
ولد فهو بكلامه ما صرفها إلى حاجته بل أقر
بعتقها بعد موته فيكون معتبرا من ثلثه, وإذا
زوج أم ولده من رجل جاز النكاح لأن الفراش
الثابت له عليها سببه ملك اليمين وذلك غير
ملزم للمولى فلا يمنع صحة تزويجه إياها فإذا
ولدت من الزوج فولدها بمنزلتها أما ثبوت النسب
من الزوج فلأنها ولدته على فراشه وأما ثبوت حق
أمية الولد لهذا الولد فلأنه جزء منها فإنما
ينفصل عنها بصفتها وكما أنها تعتق بالموت ولا
تسعى لأحد فكذلك ولدها من غير المولى, ألا ترى
أن الولد لا ينفصل من الحر إلا حرا وعلى
المولى في جناية أم الولد قيمتها لا يلزمه
أكثر من ذلك وإن كثرت الجناية منها لأنه
بالاستيلاد السابق منع دفعها بالجناية على وجه
لم يصر مختارا لأنه ما كان يعلم أنها تجنى ولو
كانت محل الدفع لم يكن عليه إلا دفعها
بالجناية وإن كثرت الجناية منها فكذلك لا
يلزمه إلا قيمة واحدة لأنه ما منع إلا رقبة
واحدة وأما الدين الذي يلحقها بغصب أو استهلاك
فإنها تسعى فيه بالغا ما بلغ لأن الدين ثابت
في ذمتها, ولو كانت محل البيع لكانت تباع فيه
ويصرف كسبها ورقبتها إلى ديونها فإذا تعذر
بيعها بالاستيلاد وجب قضاء ديونها من كسبها
بخلاف الجناية فإنها تتباعد عن الجاني وتتعلق
بأقرب الناس إليه, ألا ترى أن دين المملوك
يبقى في ذمته بعد بيعه ولا تبقى الجناية في
رقبته بعد بيعه أو عتقه, وولد أم الولد ثابت
النسب من المولى ما لم ينفه لأنها فراش له
وقال عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" ولكن
ينتفي عنه بمجرد النفي عندنا.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى إن لم يكن
استبرأها بحيضة يلزمه نسب ولدها وليس له أن
ينفيه وإن كان قد استبرأها بحيضة بعد ما وطئها
لا يلزمه نسب ولدها إلا بالدعوة.
وحكمها وحكم الأمة التي ليست بأم ولد سواء
عنده بناء على أصلين له أحدهما أنه لا عدة على
أم الولد بعد العتق كالأمة القنة وإنما يلزمها
الاستبراء بحيضة وقد بينا هذا في كتاب
ج / 7 ص -133-
النكاح. والثاني أن عنده الأمة تصير فراشا
بنفس الوطء وقد بينا هذا أيضا فيما أمليناه من
شرح الدعوى فإذا صارت عنده فراشا بالوطء لا
يرتفع حكم هذا الفراش إلا بالاستبراء, فإن
جاءت بالولد قبل أن يستبرئها يلزمه النسب
لوجود دليله شرعا فلا يملك نفيه كما لو قامت
البينة به وإن استبرأها بحيضة فقد انعدم حكم
ذلك الفراش لأن بسببها كان اشتغال رحمها بمائه
بالوطء وقد انعدم ذلك بالاستبراء فلا يلزمه
النسب إلا بالدعوة وعندنا له على أم الولد
فراش معتبر ولهذا لزمها أن تعتد بثلاث حيض بعد
العتق فثبت النسب باعتبار الفراش ولكن هذا
الفراش غير ملزم في حقه ولهذا يملك تزويجها من
غيره فكما ينفرد بنقل الفراش إلى غيره ينفرد
بنفي نسب الولد وإنما يملك نفيه ما لم يقض به
القاضي أو يتطاول ذلك فأما بعد قضاء القاضي
فقد لزمه بالقضاء على وجه لا يملك إبطاله
وكذلك بعد التطاول لأنه يوجد منه دليل الإقرار
في هذه المدة من قبول التهنئة ونحوه فيكون
كالتصريح بالإقرار. واختلافهم في مدة التطاول
قد سبق بيانه في باب اللعان من كتاب الطلاق,
فأما الأمة والمدبرة فلا يلزمه ولدهما وإن
حصنهما وطلب ولدهما ما لم يقربه لأن الفراش
على المملوكة لا يثبت بالوطء عندنا والنسب لا
يثبت بدون الفراش إلا أنه روي عن أبي حنيفة
رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها ولم يعزل عنها
وحصنها فله أن يدعي نسب ولدها وليس له أن
ينفيه فيما بينه وبين ربه لأن الظاهر أنه منه
والبناء على الظاهر واجب فيما لا تعلم حقيقته,
فأما إذا عزل عنها أو لم يحصنها فله أن ينفيه
لأن هذا الظاهر يقابله ظاهر آخر.
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا وطئها
ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بالولد فعليه
أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو
لم يحصن تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على
الصلاح ما لم يتبين خلافه ولأن ما يظهر عقيب
سببه يكون محالا به عليه حتى يتبين خلافه وعند
محمد رحمه الله تعالى لا ينبغي له أن يدعي
النسب إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي له أن
يعتق الولد ويستمتع بها ويعتقها بعد موته لأن
استلحاق نسب ليس منه لا يحل شرعا فيحتاط من
الجانبين وذلك في أن لا يدعي النسب ولكن يعتق
الولد ويعتق الأم بعد موته لاحتمال أن يكون
منه ولا ينبغي له أن يزوج أم ولده حتى
يستبرئها بحيضة لجواز أن تكون حاملا من المولى
فلا يكون تزويجها صحيحا ولكن هذا التوهم يوجب
الاحتياط ولا يبطل النكاح فإذا اشتراها فقد
علم أنها ليست بحامل فيتزوجها بعد ذلك, وإن
زوجها قبل الاستبراء فولدت لأقل من ستة أشهر
فهو من المولى والنكاح فاسد لأنا تيقنا أن
العلوق سبق النكاح على فراش المولى وإن زوجها
وهي حامل ومن كان في بطنها ولد ثابت النسب من
أحد لا يجوز تزويجها وإن ولدته لأكثر من ستة
أشهر فالنسب ثابت من الزوج لأنها علقت على
فراشه فإن ادعاه المولى عتق بإقراره ونسبه
ثابت من الزوج وقد تقدم بيان هذا الفصل, وإذا
حرمت أم الولد على مولاها بوطء ابنه إياها فإن
جاءت بولد بعد ذلك لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه
إلا أن يدعيه.
ج / 7 ص -134-
وعند
زفر رحمه الله تعالى ثبت النسب منه وله أن
ينفيه لأنه ما اعترض على فراش آخر فيكون النسب
ثابتا منه بالفراش وثبوت الحرمة بهذا السبب
كثبوتها بالحيض وذلك لا يقطع الفراش, ولكنا
نقول تحسين الظن بالمسلم واجب فلو أثبتنا
النسب منه من غير دعوة لكان فيه حمل أمره على
الفساد والحكم عليه بمباشرة الوطء الحرام وذلك
لا يجوز إلا أن توجد الدعوى منه فحينئذ يحكم
بذلك بإقراره وإن جاءت به لأكثر من سنتين وإن
جاءت به لأقل من سنتين وزعم أنه كان من علوق
قبل الحرمة وجب قبول قوله في ذلك للإحتمال
وإذا مات عن أم ولده أو أعتقها فعليها أن تعتد
بثلاث حيض هكذا نقل عن علي و ابن مسعود رضي
الله عنهما وقد بينا هذا في كتاب النكاح وكذلك
إن كانت حرمت عليه قبل ذلك لأنها بالحرمة ما
صارت فراشا لغيره إلا أن يثبت نسب الولد منه
لتحسين الظن به لا لانعدام الفراش حتى إذا
ادعى يثبت النسب منه فإذا أعتقها فقد زال
الفراش إليها بالعتق في هذه الحالة فتلزمها
العدة لهذا وإذا أعتق أم ولده فجاءت بولد ما
بينها وبين سنتين من يوم أعتقها فنفاه فنفيه
باطل لأن فراشها قد تأكد بحريتها, ألا ترى أنه
لا يملك تزويجها من غيره ما لم تنقض عدتها
فكانت كالمنكوحة في هذه الحالة والمعتدة من
نكاح متى جاءت بولد لأقل من سنتين من وقت
الفرقة ثبت النسب من الزوج على وجه لا يملك
النفي فكذلك هنا وإن أقرت بانقضاء عدتها بثلاث
حيض ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت النسب
منه وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لا يثبت
نسبه منه كما في المعتدة من نكاح, وإذا تزوج
أمة رجل فولدت ثم اشتراها أو ملكها بسبب آخر
صارت أم ولد له عندنا, وعلى قول الشافعي رحمه
الله تعالى لا تصير أم ولد له.
وفي المغرور إذا ملك الجارية له وجهان احتج
بقوله صلى اله عليه وسلم:
"أيما أمة ولدت من سيدها فشرط لثبوت حق العتق لها أن تلد من سيدها" |