المبسوط
للسرخسي دار المعرفة [كِتَابُ التَّحَرِّي]
. كِتَابُ التَّحَرِّي (قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اعْلَمْ بِأَنَّ
التَّحَرِّيَ لُغَةً هُوَ الطَّلَبُ وَالِابْتِغَاءُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ
لِغَيْرِهِ أَتَحَرَّى مَسَرَّتَك أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَك قَالَ تَعَالَى
{فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] وَهُوَ وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ
إلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ
وَالتَّحَرِّي فِي الْعِبَادَاتِ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِلرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ
إلَيْهِ: اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا وَلْيُحَلِّلْ كُلٌّ
مِنْكُمَا صَاحِبَهُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْعِبَادَاتِ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ
الصَّوَابَ» وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الشَّيْءِ
بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ،
وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالتَّحَرِّي لِأَنَّهُ نَوْعُ
ظَنٍّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يَنْتَفِي
الشَّكُّ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ
وَلَكِنَّا نَقُولُ: التَّحَرِّي غَيْرُ الشَّكِّ وَالظَّنِّ فَالشَّكُّ
أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ وَالظَّنُّ
أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالتَّحَرِّي أَنْ
يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ
بِهِ إلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَا
يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ تَحَرِّيًا، فَالْحَرُّ
اسْمٌ لِجَبَلٍ عَلَى طَرَفِ الْمَفَاوِزِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا
الْكِتَابُ
(10/185)
وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ
تَعَالَى {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وَذَلِكَ بِالتَّحَرِّي
وَغَالِبِ الرَّأْيِ فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ، وَالسُّنَّةُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ
بِنُورِ اللَّهِ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«فِرَاسَةُ الْمُؤْمِنِ لَا تُخْطِئُ» «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِوَابِصَةَ ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك فَالْإِثْمُ مَا حَاكَ
فِي قَلْبِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ» وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ
عَلَيْهِ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ
لِلْعَمَلِ بِهِ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ ثُمَّ جُعِلَ
مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ
بِهِ ابْتِدَاءً، فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ
التَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا
تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحُرُوبِ،
فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ مَا فِيهَا
مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ الْمُحْتَرِمَةِ لِلْهَلَاكِ.
(فَإِنْ قِيلَ) : ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَتَتَحَقَّقُ
الضَّرُورَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ
وَنَحْوِهَا وَنَحْنُ إنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي
هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (قُلْنَا) : فِي هَذَا أَيْضًا مَعْنَى حَقِّ
الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَيَّ إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ،
وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ التَّحَرِّيَ لِمَعْرِفَةِ
حُدُودِ الْأَقَالِيمِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَفِي الزَّكَاةِ
التَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعَبْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ الرَّأْيِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَيْهِ
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِمَسَائِلِ الزَّكَاةِ
وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا
مُبْتَدَأَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ
مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ
بِهَا سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ أَوْ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي بَابِ
الصَّدَقَةِ نَصًّا وَهُوَ حَدِيثُ يَزِيد السُّلَمِيِّ عَلَى مَا
بَيَّنَهُ فَبَدَأَ بِمَا وَجَدَ فِيهِ النَّصَّ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا
كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ، وَمَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِهِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ
شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ وَلَا سُؤَالٍ فَهَذَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ
أَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
يَصِحُّ شَرْعًا وَعَلَى مَا يَصِحُّ فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ وَعَلَى
مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، فَإِنَّ
الْفَقْرَ فِي الْقَابِضِ أَصْلٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُولَدُ وَلَا
شَيْءَ لَهُ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ
جَائِزٌ شَرْعًا، فَالْمُعْطِي فِي الْإِعْطَاءِ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا
شَرْعِيًّا فَيَقَعُ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ
غَنِيٌّ فَإِذَا، عَلِمَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ
الْجَوَازَ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالظَّاهِرِ
إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ بِأَنْ
كَانَ عَلَيْهِ هَيْئَةُ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ
أَنَّهُ غَنِيٌّ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا
لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فَقِيرٌ، لِأَنَّ بَعْدَ الشَّكِّ لَزِمَهُ
التَّحَرِّي.
فَإِذَا تَرَكَ التَّحَرِّيَ بَعْدَمَا لَزِمَهُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى
مَوْقِعَ الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَحِينَئِذٍ
يَجُوزُ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ كَانَ لِمَقْصُودٍ
(10/186)
وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ
بِدُونِهِ فَسَقَطَ وُجُوبُ التَّحَرِّي كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ
وَاجِبٌ لِمَقْصُودٍ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى
ذَلِكَ بِأَنْ حُمِلَ إلَى الْجَامِعِ مُكْرَهًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ
السَّعْيِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَحَرَّى بَعْدَ الشَّكِّ وَيَقَعَ فِي
أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَدَفَعَ إلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ فَهَذَا
لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِفَقْرِهِ فَإِذَا
عَلِمَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ
مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَلَى
قِيَاسِ مَا نُبَيِّنُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ
فَإِنْ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَكُونُ
طَاعَةً فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ
إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ
صَحِيحٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُ
الْوَاجِبِ بِفِعْلِهِ هَذَا إذَا تَبَيَّنَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى
مُسْتَحَقِّيهِ بِظُهُورِ فَقْرِ الْقَابِضِ، وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ أَنْ
يَتَحَرَّى وَيَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَدَفَعَ
إلَيْهِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ
شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا
فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخِرِ
تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَالِسًا فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ
يَصْنَعُ صَنِيعَهُمْ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ أَوْ
سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرِّي.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ
تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ
اجْتِهَادِهِ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ
نَجِسًا أَوْ الْقَاضِي قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ
نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى يُوقَفُ
عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً فَإِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ بِهِمَا أَحْكَامًا مِنْ
النَّفَقَةِ وَضَمَانِ الْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ
الْوَصْفُ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ
الِاجْتِهَادِ بَلْ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ
فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوصِلْهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ صَارَ
اجْتِهَادُهُ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ، لِأَنَّ غَالِبَ
الرَّأْيِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي حَقِّهِ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهِ
الْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَالزَّكَاةُ صِلَةٌ
مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ
بِعُذْرٍ فِي جَانِبِهِ إذَا لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ،
وَبِهِ فَارَقَ الصَّلَاةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لِحَقِّ
الشَّرْعِ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فَيُمْكِنُ إقَامَةُ
الِاجْتِهَادِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ
الشَّرْعِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا
لَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ حَالِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ، وَبَيَانُهُ
أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ لَا إلَى
مَنْ هُوَ فَقِيرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ
(10/187)
لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ
حَقِيقَةً فَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ حَقِيقَةَ
الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَكَيْف يَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَالتَّكْلِيفُ
يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ الِاسْتِدْلَال
عَلَى فَقْرِهِ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ هَيْئَةٍ عَلَيْهِ
أَوْ جُلُوسٍ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ
الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا
يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ لِمَعْنَى الضَّرُورَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ
ذَلِكَ بِظُهُورِ حَالِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْقَابِضِ وَلَا أَنْ يُضَمِّنَهُ
بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ضَاعَ مَالُهُ فَلِبَقَاءِ
الضَّرُورَةِ قُلْنَا: يُجْعَلُ الْمُؤَدَّى مُجْزِيًا عَنْهُ وَلِأَنَّهُ
لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ غِنَاهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ
بِالِاجْتِهَادِ وَمَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ
مِثْلِهِ وَتَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْغِنَى لَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ صِفَةَ الْغَنِيِّ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْأَحْكَامَ
تَنْبَنِي عَلَى مَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى
صِدْقِ الشُّهُودِ.
وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَبِهِ فَارَقَ النَّصَّ لِأَنَّهُ
يُوقَفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مُطَالَبًا بِالْوُصُولِ
إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَذَّرَ إذَا كَانَ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي
طَلَبِهِ فَإِذَا ظَهَرَ بَطَلَ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ
الْمَاءِ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَيَبْطُلُ بِظُهُورِ
النَّجَاسَةِ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا نَقُولُ فِي
الزَّكَاةِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بَلْ هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْفَقِيرُ مَصْرِفٌ لَا مُسْتَحِقٌّ كَالْكَعْبَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ
جِهَةٌ تُسْتَقْبَلُ عِنْدَ أَدَائِهَا وَالصَّلَاةُ تَقَعُ لِلَّهِ
تَعَالَى، ثُمَّ هُنَاكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبُ إذَا أَتَى بِمَا فِي
وُسْعِهِ وَلَا مُعْتَبِرَ بِالتَّبَيُّنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ
فَكَذَلِكَ هُنَا، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ كَانَ
أَبَا الدَّافِعِ أَوْ ابْنَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا،
وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ هُنَا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِلصَّدَقَةِ مَعَ
الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ
إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ
أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُعْرَفُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَوْ قَالَ
لِغَيْرِهِ: لَسْت لِأَبِيك لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ وَالْحَدُّ يُدْرَأُ
بِالشُّبْهَةِ فَكَانَ ظُهُورُ النَّسَبِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ
بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ
فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي
الْجُوَيْرِيَةِ «عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَاصَمْت
أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى
لِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبِي أَعْطَى صَدَقَتَهُ لِرَجُلٍ فِي
الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَأَتَيْتُهُ
فَأَعْطَانِيهَا ثُمَّ أَتَيْت أَبِي فَعَلِمَ بِهَا فَقَالَ: وَاَللَّهِ
يَا بُنَيَّ مَا إيَّاكَ أَرَدْت بِهَا فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا يَزِيدُ لَك
مَا نَوَيْت وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت» وَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى
التَّطَوُّعِ لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْسَارِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(10/188)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ
مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ وَفِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ قَالَ: «صَدَقَةُ مَالِهِ» .
وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْوَاجِبِ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ
الْوَاجِبَ فِعْلٌ هُوَ قُرْبَةٌ فِي مَحَلٍّ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ
وَالضَّنُّ وَهُوَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ مَصْرِفٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا
وَلَادٌّ ثُمَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَالْحَاجَةِ أَقَامَ الشَّرْعُ
أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ
وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ لِتَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ
الْقَابِضِ وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا،
فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ
كَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْوَلَدِ وَلِهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ فَيُقَامُ
أَكْثَرُ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوَازِ ثُمَّ
طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْبُنُوَّةِ الِاجْتِهَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا
نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ إنِّي بِنُبُوَّتِهِ
أَعْرَفُ مِنَى بِوَلَدِي فَإِنِّي أَعْرِفُهُ نَبِيًّا حَقًّا وَلَا
أَدْرِي مَاذَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدِي، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُ
الْمَعْرِفَةِ الِاجْتِهَادَ كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الِاجْتِهَادُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ فَإِنْ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جَوَازِ صَرْفِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ
بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ مَعَ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ قُرْبَةٌ فَهُوَ
وَفَصْلُ الْأَبِ سَوَاءٌ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو
يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِمَّا
يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَيَصِيرُ كَالْمَعْلُومِ حَقِيقَةً
فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ
وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِهَاشِمِيٍّ: لَسْت بِهَاشِمِيٍّ
فَإِنَّهُ يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ،
وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى
الْخِلَافِ أَيْضًا وَفِي الْأَمَالِي رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ
الْكُفْرَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ
كُفَّارٌ بَطَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: مَا
يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادُ
وَالتَّصَدُّقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ
سَوَاءٌ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ: أَعْطَى ذِمِّيًّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَحْكِيمُ السِّيمَا فِي هَذَا
الْبَابِ قَالَ تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:
41] وَقَالَ تَعَالَى {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وَفِيهِ
دَلِيلٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ لَا يَصِيرُ
مُسْلِمًا لِأَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ عَلِمَ
أَنَّهُ ذِمِّيٌّ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا مُسْلِمٌ أَيْ مُنْقَادٌ
لِلْحَقِّ مُسْتَسْلِمٌ وَكُلُّ أَحَدٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا
يَعْتَقِدُهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْمَجُوسِيُّ إذَا
قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَشَاءَمُونَ
بِهَذَا اللَّفْظِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ،
وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ مُسْتَأْمَنٌ حَرْبِيٌّ
فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا
(10/189)
ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَفِي
جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ فَقَالَ: قَدْ نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ مَعَ مَنْ
يُقَاتِلُنَا فِي دِينِنَا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً
وَبِدُونِ فِعْلِ الْقُرْبَةِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ، وَلَمْ نُنْهَ
عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا قَالَ تَعَالَى {لَا
يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}
[الممتحنة: 8] فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ قُرْبَةً
يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِئُهُ لِقُصُورِ
فِعْلِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْإِيتَاءُ وَذَلِكَ لَا
يَكُونُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى
خَالِصًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَلَهُ فِي كَسْبِ
الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُ جَعْلَهُ لِلَّهِ
تَعَالَى خَالِصًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدٌ لِغَنِيٍّ أَوْ مُكَاتَبٌ لَهُ فَإِنَّهُ
يُجْزِئُهُ وَفِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَعَ الْعِلْمِ أَيْضًا وَلَا
يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْمَوْلَى لِأَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى
وَجْهِ التَّقَرُّبِ هُنَاكَ فَصَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، فَأَمَّا
فِي عَبْدِ نَفْسِهِ وَمُكَاتَبِهِ لَمْ يَتِمَّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ
وَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا
فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ
وَالْأَصْلُ فِي فَرِيضَةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لِلصَّلَاةِ
قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
[البقرة: 144] «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَجْعَلُ
الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى
الْمَدِينَةِ اُضْطُرَّ إلَى اسْتِدْبَارِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتَهُ
كَمَا كَانَتْ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَسَأَلَ
جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ فِي ذَلِكَ
وَكَانَ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُ
جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] الْآيَةُ» ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي حَقِّ
مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ التَّوَجُّهَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ
فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ فَقَدْ كَانَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى
عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ
لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ
وَالْبُعْدِ، وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -:
يَقُولُ: الْوَاجِبُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَكَّةَ
التَّوَجُّهُ إلَى الْجِهَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ، وَالتَّكْلِيفُ
بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
وَمَعْرِفَةُ الْجِهَةِ إمَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ
بِالتَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ فَمِنْ الدَّلِيلِ
الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ
بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنْ
بَعْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَتَحُوا
الْعِرَاقَ وَجَعَلُوا الْقِبْلَةَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
ثُمَّ فَتَحُوا خُرَاسَانَ وَجَعَلُوا قِبْلَةَ أَهْلِهَا مَا بَيْنَ
الْمَغْرِبَيْنِ مَغْرِبِ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبِ الصَّيْفِ فَكَانُوا
يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَلَمَّا مَاتُوا جُعِلَتْ قُبُورُهُمْ
(10/190)
إلَيْهَا أَيْضًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ
مُنْكِرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً، وَقَدْ
كَانَتْ عِنَايَتُهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَظْهَرَ مِنْ عِنَايَةِ مَنْ
كَانَ بَعْدَهُمْ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ
الدَّلِيلِ السُّؤَالُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَوْضِعٍ أَعْرَفُ بِقِبْلَتِهِمْ مِنْ
غَيْرِهِمْ عَادَةً وَقَالَ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، وَمِنْ الدَّلِيلِ النُّجُومُ
أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَهْلُ الْكُوفَةِ يَجْعَلُونَ الْجَدْيَ
خَلْفَ الْقَفَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْجَدْيَ
خَلْفَ الْأُذُنِ الْيُمْنَى، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ
الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُول: السَّبِيلُ فِي
مَعْرِفَةِ الْجِهَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الصَّيْفِ فِي أَطْوَلِ
أَيَّامِ السَّنَةِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ
فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ الشِّتَاءِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَدَعُ
الثُّلُثَيْنِ عَلَى يَمِينِهِ وَالثُّلُثَ عَلَى يَسَارِهِ فَيَكُونُ
مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ إذَا وَاجَهَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَلَا مَعْنَى
لِلِانْحِرَافِ إلَى جَانِبِ الشَّمَالِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا مَالَ
بِوَجْهِهِ يَكُونُ إلَى حَدِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ
السَّنَةِ أَوْ يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ
وَلَا لِلْحَرَمِ أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْهِنْدُوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْحَرَمَ مِنْ
جَانِبِ الشَّمَالِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ اثْنَا
عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا
وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا.
وَقِيلَ: قِبْلَةُ أَهْلِ الشَّامِ الرُّكْنُ الشَّامِيُّ وَقِبْلَةُ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْضِعُ الْحَطِيمِ وَالْمِيزَابُ مِنْ جِدَارِ
الْبَيْتِ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَمَا
بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ إلَى الْحِجْرِ قِبْلَةُ أَهْلِ الْهِنْدِ
وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا وَقِبْلَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ
الْبَابُ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فَإِذَا انْحَرَفَ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ قَلَّ انْحِرَافُهُ
يَصِيرُ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ، وَعِنْدَ انْقِطَاعِ
الْأَدِلَّةِ فَرْضُهُ التَّحَرِّي، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهِ إلَيْهَا
تُحْرِيه تَكُونُ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا
فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ
فَفِيهِ قَوْلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَكِنَّهُ مُؤَدٍّ
لِمَا كُلِّفَ وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَ الْجِهَةِ عَلَى رَجَاءِ
الْإِصَابَةِ، وَالْمَقْصُودُ لَيْسَ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا
الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَلَا جِهَةَ لِوَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى إلَّا أَنَّا لَوْ قُلْنَا: يَتَوَجَّهُ إلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ
انْعَدَمَ الِابْتِلَاءُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ
إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فَإِنَّمَا نُوجِبُ عَلَيْهِ
التَّحَرِّيَ لِرَجَاءِ الْإِصَابَةِ لِتَحْقِيقِ الِابْتِلَاءِ، وَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُصِيبًا لِلْجِهَةِ حَقِيقَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هَذَا
مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُصَلِّينَ بِالتَّحَرِّي
إذَا أَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ فَصَلَاةُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ
لِلْإِمَامِ
(10/191)
فِي الْجِهَةِ فَاسِدَةٌ، وَلَوْ انْتَصَبَ
مَا ظَنَّ الْإِمَامُ إلَيْهِ قِبْلَةً حَقِيقَةً يَصِحُّ اقْتِدَاءُ هَذَا
الرَّجُلِ بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِهَةِ كَمَا إذَا صَلَّوْا فِي
جَوْفِ الْكَعْبَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا نَقُولُ: مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ
الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاحْتَاجَ إلَى
أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى
أَرْبَعِ أَوْجُهٍ: فَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ
وَلَا تَحَرٍّ، أَوْ يَشُكَّ ثُمَّ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ
تَحَرٍّ، أَوْ يَتَحَرَّى فَيُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، أَوْ
يُعْرِضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَيُصَلِّي
إلَى جِهَةٍ أُخْرَى.
فَأَمَّا بَيَانُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ
شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ
رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ
بِأَنْ ذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ
فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَكُلُّ مَنْ
قَامَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ يُجْعَلُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ فِي
أَدَائِهَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَحُمِلَ أَمْرُهُ عَلَى الصِّحَّةِ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ
الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَسْقُطُ
اعْتِبَارُهُ إذَا تَبَيَّنَ الْحَالُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ
بِجَوَازِ الصَّلَاةِ هُنَا لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ لَا
لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُجَوِّزِ فَإِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ
الْمُفْسِدُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ
أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ
كَالْيَقِينِ خُصُوصًا فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ
وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ صَلَّى إلَى جِهَةٍ فَإِنْ
تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ
أَخْطَأَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ
الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ فَقَدْ لَزِمَهُ التَّحَرِّي لِأَجْلِ
هَذِهِ الصَّلَاةِ وَصَارَ التَّحَرِّي فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ
فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْفَرْضَ لَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إذَا شَكَّ
وَلَمْ يَشُكَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ
أَصَابَ الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّحَرِّي
لِمَقْصُودٍ وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَ
فَرِيضَةُ التَّحَرِّي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ
أَصَابَ فَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُفْتِي بِالْجَوَازِ هُنَا
أَيْضًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا لَا
يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا
يُجْزِيهِ لِأَنَّ فَرْضَ التَّحَرِّي لَزِمَهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ
اعْتِبَارُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُجْعَلُ
كَالْيَقِينِ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ هُنَا فِي الْإِعَادَةِ
فَأَمَّا إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى وَصَلَّى إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى
إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ
رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ
فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ
أَخْطَأَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَيَامَنَ أَوْ
تَيَاسَرَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَدْبَرَ
الْكَعْبَةَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ
(10/192)
فِي اجْتِهَادِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ
اجْتِهَادِهِ كَالْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إذَا ظَهَرَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ
وَالْمُتَوَضِّئِ بِمَاءٍ إذَا عَلِمَ بِنَجَاسَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا
تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ
فَإِنَّ وَجْهَ الْمَرْءِ مُقَوَّسٌ فَإِنَّ عِنْدَ التَّيَامُنِ أَوْ
التَّيَاسُرِ يَكُونُ أَحَدُ جَوَانِبِ وَجْهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَمَّا
عِنْدَ الِاسْتِدْبَارِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ وَجْهِهِ إلَى الْكَعْبَةِ
فَيَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ بِهِ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الْآيَةُ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا
حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ طَحْيَاءَ
مُظْلِمَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنَّا وَخَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا
الْخُطُوطُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ» وَفِي حَدِيثِ «جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ فِي يَوْمٍ ذِي ضَبَابٍ فَاشْتَبَهَتْ
عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إلَى
جِهَةٍ فَلَمَّا انْكَشَفَ الضَّبَابُ فَمِنَّا مَنْ أَصَابَ وَمِنَّا مَنْ
أَخْطَأَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ» وَقَالَ
عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ
قَصْدِهِ مَعْنَاهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ إذَا تَوَجَّهَ إلَى جِهَةِ
قَصْدِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ
عَنْهُ الْفَرْضُ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ،
وَبَيَانُ الْوَصْفِ مَا قَرَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمَقْصُودَ
مِنْ طَلَبِ الْجِهَةِ لَيْسَتْ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِطَلَبِ الْجِهَةِ
لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ
الِابْتِلَاءُ قَدْ تَمَّ بِتَحَرِّيهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ
مِنْ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ عَلَى
وَجْهٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْعِلْمِ يُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ عِنْدَ
التَّحَرِّي لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِدْبَارِ،
وَإِيضَاحُ مَا قُلْنَا فِيمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ قَالَ:
قِبْلَةُ الْبَشَرِ الْكَعْبَةُ، وَقِبْلَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ الْبَيْتُ
الْمَعْمُورُ، وَقِبْلَةُ الْكُرَوِيِّينَ الْكُرْسِيُّ، وَقِبْلَةُ
حَمَلَةِ الْعَرْشِ الْعَرْشُ، وَمَطْلُوبُ الْكُلِّ وَجْهُ اللَّهِ
تَعَالَى، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ
أَوْ فِي الْمَاءِ لِمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ
عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَيْسَ
بِقُرْبَةٍ فَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِهِ بِحَالٍ فَأَمَّا
الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قُرْبَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ
يَتَطَوَّعُ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ اخْتِيَارًا
وَيُؤَدِّي الْفَرْضَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ أَيْضًا وَبِنَحْوِ هَذَا
فُرِّقَ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَبِ وَعَلَى
الْغَنِيِّ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ
كَمَا قَرَّرْنَا
فَأَمَّا إذَا أَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا
اجْتِهَادُهُ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى
(10/193)
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ
الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ
لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ
قَالَ: أَمَّا يَكْفِيهِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ، وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ لُزُومَ
التَّحَرِّي كَانَ لِمَقْصُودٍ وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ
بِغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَصَابَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءً،
وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ
التَّحَرِّي إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا قَالَ فِي
الزَّكَاةِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي فَكَأَنَّهُ صَلَّى إلَى
هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ
فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاتِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ
أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِجَوَازِ
صَلَاتِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْفَسَادَ فِيهِ كَمَا لَوْ اقْتَدَى
بِالْإِمَامِ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ جِهَتِهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ
إذَا عَلِمَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ يُوَضِّحُهُ
أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ صَارَتْ
بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ عَمَلًا حَتَّى لَوْ صَلَّى إلَيْهَا
جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَصَارَ هُوَ
فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مُعَايِنًا
الْكَعْبَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَتَكُونُ
صَلَاتُهُ فَاسِدَةً وَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّ تِلْكَ
الْجِهَةَ مَا انْتَصَبَتْ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَإِنْ
انْتَصَبَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ تَبَيُّنُ
الْحَالِ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ أَمَّا فِي هَذَا
الْفَصْلِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ
لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَإِذَا تَبَيَّنَ فِي
خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْلَى وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافُ هَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا
مَذْهَبَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ قَوِيَ حَالُهُ بِالتَّيَقُّنِ
بِالْإِصَابَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَنْبَنِي الْقَوِيُّ عَلَى
الضَّعِيفِ كَالْمُومِي إذَا قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي
خِلَالِ الصَّلَاةِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُصَلِّيًا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا
اجْتِهَادُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ
إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ
تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ
إذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ
إلَى جِهَةٍ تِلْكَ الْجِهَةُ قِبْلَةٌ فِي حَقِّهِ عَمَلًا فَيَكُونُ
حَالُهُ كَحَالِ «أَهْلِ قِبَا حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ
إلَى الْكَعْبَةِ فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَهُمْ رُكُوعٌ ثُمَّ
جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صَلَاتَهُمْ» وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى
جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى
يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ
لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يَبْنِي عَلَى مَا
أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ:
لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ جِهَاتٍ
(10/194)
بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ، وَاخْتَلَفَ
الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْجِهَةِ
الْأُولَى فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ أَيْضًا
فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَقْبِحُ هَذَا وَيَقُولُ: إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا فَعَلَيْهِ
اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ
فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا فِي هَذِهِ
الصَّلَاةِ أَيْضًا
. فَأَمَّا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ
ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ
أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ
لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا حَتَّى لَا يُحْكَمَ بِجَوَازِ
صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا عَلِمَ فِي خِلَالِ
الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ
لَا يَجُوزُ، فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ
بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ وَنَظِيرُهُ
فِي الْمُومِي وَالْمُتَيَمِّمِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَزُولُ
مَا بِهِمْ مِنْ الْعُذْرِ إذَا كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا يَلْزَمُهُمْ
الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُمْ
الِاسْتِقْبَالُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ افْتَتَحَهَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ
وَتَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ
فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَهَذَا
الْفَصْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو
بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ الْخَطَأُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ،
فَإِذَا تَبَيَّنَ الصَّوَابُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى
حَالُهُ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو
بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: لَا
يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَلَاتَهُ هُنَا فِي
الِابْتِدَاءِ كَانَتْ صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ
فَبِالتَّبَيُّنِ لَا تَزْدَادُ الْقُوَّةُ حُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُ
الِانْتِقَالُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الشَّكِّ لِأَنَّ هُنَاكَ صَلَاتَهُ
لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ إلَّا بِالتَّيَقُّنِ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا
تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ حُكْمًا فَلِهَذَا
لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ
رَجُلٌ دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ فِيهِ وَقِبْلَتُهُ مُشْكِلَةٌ
وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ فَتَحَرَّى الْقِبْلَةَ وَصَلَّى ثُمَّ
عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ
لِأَنَّ التَّحَرِّيَ حَصَلَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَإِنَّ أَوَانَ
التَّحَرِّي مَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَقَدْ بَقِيَ هُنَا
دَلِيلٌ لَهُ وَهُوَ السُّؤَالُ فَكَانَ وُجُودُ التَّحَرِّي كَعَدَمِهِ
فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ التَّحَرِّي فَلَا
تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَكَذَا هَذَا
عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَإِنْ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ أَصَابَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَاسْتُشْهِدَ لِهَذَا بِمَنْ
أُتِيَ مَاءً مِنْ الْمِيَاهِ أَوْ حَيًّا مِنْ الْأَحْيَاءِ وَطَلَبَ
الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ فَإِنْ
كَانَ فِي الْحَيِّ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ حَتَّى
تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ،
وَإِنْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ
يَسْأَلُهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ
بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ عِنْدَهُ خَبَرَ
الْمَاءِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ
(10/195)
ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ
الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ
خَبَرِ الْمَاءِ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ
بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ هَذِهِ الْفُصُولَ، وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءَ فَلَمْ
يُخْبِرْهُ حَتَّى صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَأَمْرُ الْقِبْلَةِ كَذَلِكَ، وَلَمْ
يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الِاشْتِبَاهَ لَوْ كَانَ لَهُ
بِمَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَصَلَّى
بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ هَلْ يَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْيَسُ
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتٍ وَقَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهُ
الْأَدِلَّةُ فَفَرْضُهُ التَّحَرِّي وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ
بِالتَّحَرِّي فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجَ
مَكَّةَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
يَقُولُ هُنَا: تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالْخَطَأِ
إذَا كَانَ بِمَكَّةَ.
(قَالَ) : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ
بِالْمَدِينَةِ مَقْطُوعٌ بِهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا نَصَبَهَا رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ
سَائِرِ الْبِقَاعِ وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ بِمَكَّةَ يَنْدُرُ
وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ فَلَا يَنْدُرُ تَحَرِّيهِ
لِلْحُكْمِ بِالْجَوَازِ هُنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فَإِنَّ
الِاشْتِبَاهَ يَكْثُرُ فِيهَا وَالْأَصْلُ فِي الْمَسَائِلِ بَعْدَ هَذَا
أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا
فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، وَالْمُسْتَهْلَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ،
أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ لِلْغَالِبِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَخْلُو
عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ اسْمُ
الْحِنْطَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي قَرْيَةٍ عَامَّةُ أَهْلِهَا
الْمَجُوسُ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا مَا لَمْ
يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَفِي الْقَرْيَةِ الَّتِي عَامَّةُ
أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ يَحِلُّ ذَلِكَ بِنَاءً لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ
وَيُبَاحُ لِكُلِّ أَحَدٍ الرَّمْيُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى كُلِّ مَنْ
يَرَاهُ مِنْ بُعْدٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ
وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ
أَنَّهُ حَرْبِيٌّ
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ دَخَلُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ
بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ
أَهْلُ الذِّمَّةِ.
وَلَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ
الْحَرْبِ جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ
إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ
ثُمَّ الْمَسَائِلُ نَوْعَانِ: مُخْتَلِطٌ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ
وَمُخْتَلِطٌ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ؛ فَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ
مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ؛ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ أَوْ
لِلْحَرَامِ، أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ وَفِيهِ حَالَتَانِ: حَالَةُ
الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَحَالَةُ الِاخْتِيَارِ
فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي الْفُصُولِ
كُلِّهَا لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ لَهُ
شَرْعًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ
وَإِصَابَةُ الْحَلَالِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ كَانَ أَوْلَى، وَأَمَّا
فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ بِأَنْ
كَانَتْ الْمَسَالِيخُ ثَلَاثَةً أَحَدُهَا مَيْتَةٌ جَازَ لَهُ
التَّحَرِّي أَيْضًا
(10/196)
لِأَنَّ الْحَلَالَ هُوَ الْغَالِبُ
وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ التَّنَاوُلُ
مِنْهَا إلَّا مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيْتَةٌ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يُوقِعَ
تَحَرِّيَهُ عَلَى أَحَدِهَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَيَتَجَنَّبَهَا
وَيَتَنَاوَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ لَا بِالتَّحَرِّي بَلْ بِغَلَبَةِ
الْحَلَالِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ غَالِبًا
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْحَلَالِ فِيهَا
وَيَرْجُو إصَابَتَهُ بِالتَّحَرِّي فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى كَمَا فِي
الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَيْتَةِ مَحْضُ
حَقِّ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ
كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ جِهَاتِ الْخَطَأِ هُنَاكَ
تَغْلِبُ عَلَى جِهَاتِ الصَّوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ
الْعَمَلِ بِالتَّحَرِّي فَهَذَا مِثْلُهُ.
(وَحُجَّتُنَا) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ
الْغَالِبُ هُوَ الْحَرَامُ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي وُجُوبِ
الِاجْتِنَابِ عَنْهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ
تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ،
وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ
فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ
الْحَلَالَ فَإِنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ هُنَاكَ لَيْسَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ
كَمَا قَرَّرْنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ
عَنْهُ، فَوِزَانُهُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا بِأَنْ لَمْ
يَجِدْ غَيْرَهَا، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ
قُرْبَةٌ جَائِزَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى
الدَّابَّةِ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الِاخْتِيَارِ
بِحَالٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ هُنَا
فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ
عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ
إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ
تَنَاوُلِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ
إنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ هَذَا وَإِنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا
يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْمُبَاحِ فَيَتَرَجَّحُ
جَانِبُ الْفَرْضِ وَهُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ
الْحَلَالَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَلَامَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ،
وَمِنْ الْعَلَامَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ إذَا أُلْقِيَتْ فِي الْمَاءِ
تَطْفُو لِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّمِ فِيهَا وَالذَّكِيَّةُ تَرْسُبُ، وَقَدْ
يَعْرِفُ النَّاسُ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ النَّشِيشِ وَبِسُرْعَةِ الْفَسَادِ
إلَيْهَا، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْحَرَامُ
ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ أَوْ ذَبِيحَةَ مُسْلِمٍ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ
عَمْدًا
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ
الدُّهْنِ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ وَدَكُ الْمَيْتَةِ أَوْ شَحْمُ
الْخِنْزِيرِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَإِنْ كَانَ
الْغَالِبُ وَدَكَ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ
لَا بِأَكْلٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ
الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ هَذَا مُحَرَّمُ
الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ الْكُلُّ وَدَكَ الْمَيْتَةِ،
وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
«جَاءَ نَفَرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَقَالُوا: إنَّ لَنَا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ وَقَدْ
(10/197)
احْتَاجَتْ إلَى الدُّهْنِ فَوَجَدْنَا
نَاقَةً كَثِيرَةَ الشَّحْمِ مَيِّتَةً أَفَنَدْهُنُهَا بِشَحْمِهَا
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ
الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ
عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ فَكَانَ هَذَا كَالْأَوَّلِ،
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الزَّيْتُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ وَدَكَ
الْمَيْتَةِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا فَهُوَ
مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ
الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جُزْءًا
مِنْ الْحَلَالِ إلَّا بِتَنَاوُلِ جُزْءٍ مِنْ الْحَرَامِ وَهُوَ
مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِصْبَاحُ وَدَبْغُ الْجُلُودِ بِهَا
فَإِنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَلَالُ فَالِانْتِفَاعُ إنَّمَا يُلَاقِي
الْحَلَالَ مَقْصُودًا، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عَلِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّهْنِ
النَّجِسِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَانْتَفَعُوا بِهِ
دُونَ الْأَكْلِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَيَانِ الْعَيْبِ
عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ:
النَّجَاسَةُ لِلْجَارِ لَا لِعَيْنِ الزَّيْتِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ
النَّجِسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ
وَهَذَا لِأَنَّ إلَى الْعِبَادِ إحْدَاثَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ
الْأَشْيَاءِ لَا تَقْلِيبَ الْأَعْيَانِ، وَإِنْ كَانَ التَّنَجُّسُ
يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ عَرَفْنَا أَنَّ عَيْنَ الطَّاهِرِ لَا
يَصِيرُ نَجِسًا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ
الصَّلَاةِ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ فَالْمُشْتَرِي
بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ
حِينَ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ وَإِنْ دَبَغَ بِهِ الْجِلْدَ
فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ لِيَزُولَ بِالْغُسْلِ مَا عَلَى الْجِلْدِ
مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ وَمَا يُشْرَبُ فِيهِ فَهُوَ عَفْوٌ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ
الْمَوْتَى إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ
وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَيْضًا: فَإِنْ كَانَتْ
الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ
وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ
وَالْغَالِبُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ
يُصَلِّي عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً
لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ
ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ
ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَنَظِيرُهُ مَا
لَوْ تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى مَنْ
يَرْمِيهِمْ أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مَوْتَى الْكُفَّارِ لَا
يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ
بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَلَبَةُ لِلْكُفَّارِ
هُنَا، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ،
وَيَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ
الْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ،
(10/198)
فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ مَا هُوَ
الْأَوْجَبُ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ،
وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَرِّي هُنَا عِنْدَنَا لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ
وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ هُنَا وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ،
أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ فِي حُكْمِ
تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ جُعِلَ كَأَنَّهُمْ كُفَّارٌ كُلَّهُمْ
فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّفْنِ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ
مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو
وَلَا يُعَلَّى وَدَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لَا
يَجُوزُ بِحَالٍ.
وَقِيلَ: بَلْ يُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَا مِنْ
مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ
فَيُدْفَنُونَ فِيهَا، وَأَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ
النَّصْرَانِيَّةَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَمَاتَتْ وَهِيَ حُبْلَى
فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا لِكُفْرِهَا ثُمَّ تُدْفَنُ فِي
مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ،
فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْمُسْلِمِ
بِالْعَلَامَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَجَبَ التَّمْيِيزُ، وَمِنْ
الْعَلَامَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلُبْسُ
السَّوَادِ، فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ
مِنْ جُمْلَتِهَا الْخِتَانَ» إلَّا أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ
يُخْتَتَنُ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ إذَا
اخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ
لَا يُخْتَتَنُونَ، وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ
الْمُسْلِمِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غَيِّرُوا
الشَّيْبَ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْتَضِبُ بِالْحِنَّاءِ
وَالْكَتَمِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي رَأَيْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهَا ضِرَامُ عَرْفَجٍ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عُمْرِهِ؟ وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَازِي أَنْ
يَخْتَضِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ قَرْنِهِ،
وَأَمَّا مَنْ اخْتَضَبَ لِأَجْلِ التَّزَيُّنِ لِلنِّسَاءِ وَالْجَوَارِي
فَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ: كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ
تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا، وَأَمَّا السَّوَادُ
مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ
وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إذَا لَبِسَتْ أُمَّتِي السَّوَادَ فَابْغُوا الْإِسْلَامَ»
وَمِنْهُمْ مِنْ رَوَى فَانْعَوْا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ فَقَدْ صَحَّ
«أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(10/199)
بَشَّرَ الْعَبَّاسَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - بِانْتِقَالِ الْخِلَافَةِ إلَى أَوْلَادِهِ بَعْدَهُ وَقَالَ:
مِنْ عَلَامَاتِهِمْ لُبْسُ السَّوَادِ» ، وَالْكُفَّارُ لَا يَلْبَسُونَ
السَّوَادَ فَإِنْ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا كَمَا إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ
جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ
إلَيْهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ
الثِّيَابِ إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ مَعَهُ
ثَوْبٌ غَيْرُ هَذِهِ الثِّيَابِ وَلَا مَا يَغْسِلُهَا بِهِ وَلَا
يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي
الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَلَبَةُ
لِلثِّيَابِ النَّجِسَةِ أَوْ لِلثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ أَوْ كَانَا
مُتَسَاوِيَيْنِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَسَالِيخِ، وَعِنْدَ
التَّأَمُّلِ لَا فَرْقَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ
الضَّرُورَةِ أَيْضًا وَالضَّرُورَةُ هُنَا قَدْ تَحَقَّقَتْ لِأَنَّهُ لَا
يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا ثَوْبَ مَعَهُ
سِوَى هَذِهِ الثِّيَابِ فَجَوَّزْنَا لَهُ التَّحَرِّيَ لِلضَّرُورَةِ،
ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يَلْزَمُهُ
الِاجْتِنَابُ عَنْهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ
وَإِنْ كَانَ نَجِسًا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ صِفَةَ الْعَيْنِ
كَانَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ أَيَّ هَذِهِ الثِّيَابِ شَاءَ فِي غَيْرِ
الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَتَحَرَّى لِمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ
عَلَى الْخُصُوصِ، وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَكَانَ هَذَا وَالتَّحَرِّي
لِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَوَاءً بِخِلَافِ الْمَسَالِيخِ، فَإِنَّ
الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ
لِلْحَرَامِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي
وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهُ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ فِي
الْكِتَابِ وَقَالَ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً
لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ
الصَّلَاةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ
النَّجِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى
وَإِصَابَةُ الطَّاهِرِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ أَوْلَى وَفِي
الْمَسَالِيخِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ
الْحَرَامِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَرَامِ كَانَ عَلَيْهِ
الِاجْتِنَابُ أَيْضًا.
وَإِذَا وَقَعَ تُحْرِيه فِي ثَوْبَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ هُوَ
الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ ثُمَّ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ
عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ لَا
يَجُوزُ لِأَنَّا حِينَ حَكَمْنَا بِجَوَازِ الظُّهْرِ فِيهِ حَكَمْنَا
بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ
بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَلَا يَعْتَبِرُ أَكْبَرَ رَأْيِهِ بَعْدَ
مَا جَرَى الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ
فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ
إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى الْعَصْرَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ
مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ تِلْكَ
الْجِهَةَ هِيَ جِهَةُ الْكَعْبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ
الْخَطَأُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَانَ تَحَرِّيهِ عِنْدَ الْعَصْرِ إلَى
جِهَةٍ أُخْرَى مُصَادِفًا مَحَلَّهُ، وَهُنَا مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ
بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ تَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى
(10/200)
غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ فِي
حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى
الدَّابَّةِ وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ
لَا يَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ، فَمِنْ ضَرُورَةِ
جَوَازِ الظُّهْرِ تَعَيُّنُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ
وَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ، وَالْأَخْذُ بِالدَّلِيلِ
الْحُكْمِيِّ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ، فَإِنْ اسْتَيْقَنَ
أَنَّ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ هُوَ النَّجِسُ أَعَادَ صَلَاةَ
الظُّهْرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ فِيمَا يُمْكِنُ
الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ
التَّحَرِّي وَلَكِنَّهُ أَخَذَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَلَّى فِيهِ
الظُّهْرَ فَهَذَا وَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءٌ لِأَنَّ
فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ
الْفَسَادُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الطَّاهِرَ هَذَا الثَّوْبُ
وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ،
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةً حَتَّى
صَلَّى وَهُوَ سَاهٍ فِي أَحَدِهِمَا الظُّهْرَ وَفِي الْآخَرِ الْعَصْرَ
وَفِي الْأَوَّلِ الْمَغْرِبَ وَفِي الْآخَرَ الْعِشَاءَ ثُمَّ نَظَرَ
فَإِذَا فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ
أَوْ الْآخَرُ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ
الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فِي
أَحَدِهِمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ وَبِنَجَاسَةِ
الثَّوْبِ الْآخَرِ فَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ
فَهِيَ جَائِزَةٌ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الثَّانِي
فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ مَا صَلَّى فِي
الثَّوْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَغْرِبِ لِمَكَانِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ
حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ
الْعَصْرِ وَالتَّرْتِيبُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ يَسْقُطُ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ
الْأَوَانِي إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي بَعْضِهَا مَاءٌ
طَاهِرٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ
الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي
الطَّاهِرَةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ
فَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ
وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ
لِلْأَوَانِي النَّجِسَةِ أَوْ كَانَا سَوَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَتَحَرَّى عِنْدَنَا، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ فِي تَحَرِّيهِ أَنَّهَا
طَاهِرَةٌ، وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ سَوَاءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ
مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَنَا أَنَّ
الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَوَانِي لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ
لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا يُضْطَرُّ إلَى
اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ عِنْدَ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ لِمَا
أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ
الضَّرُورَةُ مَسَّتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّتْرِ بَدَلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ
إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَمَّا
كَانَ تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَعَدَمِ
الْمَاءِ الطَّاهِرِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ
لَمَّا جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَأَنْ
(10/201)
يَجُوزَ التَّحَرِّي وَإِصَابَةُ
الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ بِتَحَرِّيهِ أَوْلَى.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَوَانِي لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً
لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهَا وَلَوْ فَعَلَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ
فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَفِي مَسْأَلَةِ
الثِّيَابِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ نَجِسَةً يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي
بَعْضِهَا وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ
لِلنَّجَاسَةِ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ: إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ
لِلْمَاءِ النَّجِسِ يُرِيقُ الْكُلَّ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا
احْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ إنْ أَرَاقَ فَهُوَ أَحْوَطُ
لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ وَإِنْ لَمْ
يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى
الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: يَخْلِطُ الْمَاءَيْنِ ثُمَّ
يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْوَطُ لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ
مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْخَلْطِ
يَسْقِي دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَهُوَ أَوْلَى،
وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي كَانَ يَقُولُ:
يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ
بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً
بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ
حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ
الْحَدَثَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَقَاسُوا بِمَنْ كَانَ مَعَهُ سُؤْرُ
الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا
وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ
مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَتَتَنَجَّسُ أَعْضَاؤُهُ
أَيْضًا خُصُوصًا رَأْسَهُ فَأَنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ
يُنَجَّسُ وَإِنْ مَسَحَهُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ لَا يَطْهُرُ، فَلَا
مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
بِنَجِسٍ، وَلِهَذَا لَوْ غَمَسَ الثَّوْبَ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ
فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ
احْتِيَاطًا
ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ التَّحَرِّيَ فِي الْفُرُوجِ لَا
يَجُوزُ بِحَالٍ، لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَحِلُّ
تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا، أَنَّ اسْتِعْمَالَ
التَّحَرِّي نَوْعُ ضَرُورَةٍ، وَالْفَرْجُ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَحِلُّ لَهُ
الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَمَنْ خَافَ الْهَلَاكَ مِنْ فَرْطِ الشَّبَقِ لَا
يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلِهَذَا
لَا يَحِلُّ الْفَرْجُ بِالتَّحَرِّي بِحَالٍ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: رَجُلٌ لَهُ
أَرْبَعُ جَوَارٍ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ
نَسِيَهَا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوَطْءِ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ
بِعَيْنِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ
وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُحَرَّمَةَ بِعَيْنِهَا وَهَذَا
لِأَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ لِلْحِلِّ
وَبِتَحَرِّيهِ لَا يَصِيرُ هَذَا الشَّرْطُ مَعْلُومًا بِيَقِينٍ،
بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنَّ
الْعِتْقَ فِي الْمُنَكَّرِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُعَيَّنِ إلَّا
بِالْبَيَانِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِاعْتِبَارِ
الْمِلْكِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ فِي الْمَحَلِّ، وَكَمَا لَا يَتَحَرَّى
لِلْوَطْءِ هُنَا لَا يَتَحَرَّى لِلْبَيْعِ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ
وَإِبَاحَتَهُ شَرْعًا لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ
فِي الْمَحَلِّ
(10/202)
فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ
لِلْبَيْعِ شَرْعًا وَلَا يُخَلِّي الْحَاكِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ
حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ
إلَّا ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَةِ
لِيَرْتَكِبَ الْحَرَامَ بِوَطْئِهَا فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ
حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ.
وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ
نَسِيَهَا وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ
ثَلَاثًا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ لَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ
مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ إنْ مُتْنَ كُلُّهُنَّ
إلَّا وَاحِدَةً لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا
غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى
إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لِأَنَّ بِمَوْتِ الثَّلَاثِ هُنَاكَ
يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الرَّابِعَةِ وَهُنَا الطَّلَاقُ وَقَعَ عَلَى
عَيْنٍ فَلَا يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَحَالُ
هَذِهِ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَ مَوْتِ ضَرَائِرِهَا كَحَالِهَا قَبْلَ
مَوْتِهِنَّ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا
غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ
بِحِلِّهَا وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُصَدَّقُ فِي
ذَلِكَ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَحْلِفُهُ مَا طَلَّقَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا
ثَلَاثًا ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا أَمَّا إذَا كَانَتْ تَدَّعِي هِيَ
الثَّلَاثَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَا تَدَّعِي فَفِي
الْحُرْمَةِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ
تُقْبَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي
إذَا اتَّهَمَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي يَمِينِهِ وَالْيَمِينُ
الْكَاذِبَةُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ وَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ حَلَّفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُنَّ فَرَّقَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُنَّ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ بَقِيَ حُكْمُ
الْحَيْلُولَةِ كَمَا كَانَ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي
بَعْضِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ.
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى -
أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَلَفَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ
فِي الرَّابِعَةِ ضَرُورَةً فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَمَا لَوْ
أَخْبَرَ أَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ
فِيمَا إذَا وَقَعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ
لَيْسَ إلَيْهِ الْبَيَانُ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَذَلِكَ لَا
يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ لِبَعْضِهِنَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِيقَاعُ
عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ بَاعَ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثَلَاثًا مِنْ الْجَوَارِي فَحَكَمَ الْحَاكِمُ
بِجَوَازِ بَيْعِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ
هِيَ الْمُعْتَقَةُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ مِمَّا بَاعَ شَيْءٌ بِشِرَاءٍ
أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّ
الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا مُعْتَبِرَ لِلْقَضَاءِ
عَنْ جَهْلٍ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي قَضَائِهِ لِأَنَّهُ
حَكَمَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ لَا يُعْرَفُ فِيهِ الْمِلْكُ
بِيَقِينٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
حُكْمُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي شَخْصٍ مُتَرَدِّدِ الْحَالِ بَيْنَ
الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ
بِجَوَازِ
(10/203)
بَيْعِ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ شَيْئًا مِنْهُنَّ بِالْمِلْكِ
إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَلَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا
لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صَحِيحٌ
وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالْمِلْكِ فَهِيَ إمَّا
زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا
كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ
جَارِيَتَهُ ثُمَّ لَمْ يَعْرِفُوا الْمُعْتَقَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ
بِعَيْنِهَا لِأَنَّا عَلِمْنَا قِيَامَ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي جَارِيَتِهِ وَحِلَّ وَطْئِهَا لَهُ وَلَمْ نَتَيَقَّنْ
بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَهُ أَنْ
يَتَمَسَّكَ بِمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ
بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا هُنَاكَ
بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوْلَى فِي بَعْضِهِنَّ فَلَيْسَ
لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ
خَارِجَةٌ عَنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ.
وَهَذَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ يَصِحُّ عَلَى الْمَعْلُومِ
دُونَ الْمَجْهُولِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ
الْمَوْلَى وَهُوَ مَعْلُومٌ فَالْجَهَالَةُ فِي جَانِبِ الْجَوَارِي لَا
يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِحُرْمَةٍ هِيَ حَقُّ الشَّرْعِ وَهُنَا الْمَقْضِيُّ
عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوَالِي مَجْهُولٌ وَلَا يُمْكِنُ
الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ
يَتَمَسَّكَ فِي جَارِيَتِهِ بِالْحِلِّ الَّذِي تَيَقَّنَ بِهِ حَتَّى
يَعْلَمَ خِلَافَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ
الَّذِي أَعْتَقَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا وَإِنْ قَرِبَ
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَامًا حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لِأَنَّ
أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ
وَالْحُرْمَةُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ
وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلَوْ اشْتَرَاهُنَّ جَمِيعًا
رَجُلٌ وَاحِدٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ
وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُعْتَقَةَ أَمَّا إذَا
اشْتَرَاهُنَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِيهِ
الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ وَبَيْعَ الْكُلِّ بِثَمَنٍ
وَاحِدٍ.
وَإِنْ اشْتَرَاهُنَّ بِعُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنَقُولُ: لَمَّا
اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ
عَلَيْهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ
وَاحِدًا سَوَاءً لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ هُنَا وَلَوْ
اشْتَرَاهُنَّ إلَّا وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهُنَّ لِأَنَّهُ لَا
يَتَيَقَّنُ بِالْحُرْمَةِ فِيمَا اُشْتُرِيَ فَلَعَلَّ الْمُعْتَقَةَ
تِلْكَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا فَلَا يَصِيرُ الْمَقْضِيُّ
عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا بِهَذَا فَإِنْ وَطِئَهُنَّ ثُمَّ
اشْتَرَى الْبَاقِيَةَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ شَيْءٍ مِنْهُنَّ وَلَا
بَيْعُهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ
أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِمَا سَبَقَ مِنْ
الْوَطْءِ تَأْثِيرٌ فِي تَمْيِيزِ الْمُعْتَقَةِ مِنْ غَيْرِ
الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِذَلِكَ إلَّا التَّذَكُّرُ
وَالْوَطْءُ لَيْسَ مِنْ التَّذَكُّرِ فِي شَيْءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ
الْمُشْتَرِي أَحَدَ أَصْحَابِ الْجَوَارِي لِأَنَّهُنَّ قَدْ اجْتَمَعْنَ
عِنْدَهُ فَصَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا ثُمَّ
أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لِإِيضَاحِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ
التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ فِي الْفُرُوجِ فَقَالَ: لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى
بَعْدَمَا أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا فَلَيْسَ
لِلْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّى
(10/204)
وَلَا يَأْمُرُ الْوَرَثَةَ بِذَلِكَ
أَيْضًا فِي تَعْيِينِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى لَا يَقُولَ لَهُمْ أَعْتِقُوا
الَّتِي أَكْبَرُ رَأْيِكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَأَعْتِقُوا أَيَّتَهنَّ
شِئْتُمْ وَكَيْف يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْعِتْقُ الْوَاقِعُ عَلَى
شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ إلَى شَخْصٍ آخَرَ بِحَالٍ
وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَيِّتَ
أَعْتَقَ فُلَانَةَ بِعَيْنِهَا أَعْتَقَهَا وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى
عِلْمِهِمْ فِي الْبَاقِيَاتِ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمُوَرِّثِ
وَخَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْمُوَرِّثِ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ هَذِهِ إلَّا
أَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِخْلَافٌ
عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
أَعْتَقَهُنَّ جَمِيعًا وَأَبْطَلَ مِنْ قِيمَتِهِنَّ قِيمَةَ وَاحِدَةٍ
بَيْنَهُنَّ بِالْحِصَصِ وَيَسْعَيْنَ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ
اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِنَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَيَخْرُجْنَ إلَى
الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيَّةِ أَسْلَمَتْ
تَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ
عَنْهُنَّ مَا يَتَيَقَّنُ بِسُقُوطِهِ وَهُوَ قِيمَةُ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ بِهَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذَكَرَ بَابًا مِنْ
كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَكَأَنَّهُ تَذَكَّرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ حِينَ
صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ فَأَثْبَتَهَا لَكِيلَا يَفُوتَ فَقَالَ رَجُلٌ
أَجَّرَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْخِدْمَةِ
فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَالْعِتْقُ
نَافِذٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ
إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ وَلَا تَأْثِيرَ
لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْيَدِ إلَّا فِي عَجْزِ الْمَوْلَى عَنْ
تَسْلِيمِهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنُفُوذِ
الْعِتْقِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ فِي الْآبِقِ وَالْجَنِينِ فِي
الْبَطْنِ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْعَبْدُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ
عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ الْإِجَارَةُ فِي حُكْمِ عُقُودٍ
مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَلْزَمُ
الْعَقْدُ إلَّا بِرِضَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ
الْعَقْدِ لَازِمًا بَعْدَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ وَعَلَى الطَّرِيقِ
الْآخَرِ الْعَقْدُ وَإِنْ انْعَقَدَ جُمْلَةً فَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ قَدْ تَحَقَّقَ هُنَا لِأَنَّ لُزُومَ تَسْلِيمِ
النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى
يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ
الْإِجَارَةِ أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ وَقُلِّدَ الْقَضَاءَ أَكَانَ
يُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ
فِي إجَارَةِ النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ كَدًّا وَتَعَبًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ
الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ إلَّا فِي مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى
وَالْمَنَافِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ
فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بِظُهُورِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ لَهُ
كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا أُعْتِقَتْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِمِلْكِهَا
أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ زِيَادَةِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنْ فَسَخَ
الْعَقْدَ فَأَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ
اُسْتُوْفِيَ عَلَى مِلْكِهِ بِعَقْدِهِ وَإِنْ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ
فَلِلْعَبْدِ أَجْرُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا هُوَ
مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ
عَلَى مِلْكِهِ وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَهَذَا
بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا بَعْدَ
الْعِتْقِ فَالصَّدَاقُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ
قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً
وَاسْتَحَقَّهُ
(10/205)
الْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَهُنَا
الْأَجْرُ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ
الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ
الطَّرِيقَيْنِ هُنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ بَعْدَ
الْعِتْقِ بِرِضَاهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْعَبْدِ إلَّا أَنَّ
الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ
بِعَقْدِهِ.
وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ
وِلَايَةُ أَنْ يَقْبِضَهَا إلَّا بِوَكَالَةِ الْمَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْمُضِيَّ عَلَيْهَا
لِأَنَّهُ أَسْقَطَ خِيَارَهُ كَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا
فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا لِلْمَوْلَى
قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ شَيْئًا فِي أَوَّلِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا
وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا خَصْلَةً وَاحِدَةً إذَا اخْتَارَ الْعَبْدُ
الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ
مَلَكَ الْأَجْرَ بِالْقَبْضِ وَمَا مَلَكَهُ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ
الْعَبْدِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ هُنَاكَ وَإِنَّمَا
يَمْلِكُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ
وَإِنْ فَسَخَ الْعَبْدُ الْإِجَارَةَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَعَلَى
الْمَوْلَى رَدُّ حِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
كَمَا لَوْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى أَكْسَبَ
سَبَبَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ مِنْ الْعَبْدِ
بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ
الرَّدُّ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَإِذَا اخْتَارَ
الْمُضِيَّ فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا بَاشَرَ الْمَوْلَى
وَالْمِلْكُ فِي جَمِيعِ الْأَجْرِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى بِذَلِكَ
الْعَقْدِ فَيَبْقَى وَلَا يَتَحَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْعَبْدِ
وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ
فَالْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ
وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَمَّا كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا
تُمْلَكُ قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَلَا تَجِبُ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا وَلَا
حَالًّا وَفِي الْأَجْرِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَلَامٌ أَنَّهُ
هَلْ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا أَمْ لَا؟ فَإِذَا
كَانَ هُنَاكَ حِصَّةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ فَهُنَا
أَوْلَى
[الْعَبْدِ إذَا وَلِيَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى.]
(قَالَ) وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ إذَا وَلِيَ إجَارَةَ
نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَلِي
الْقَبْضَ هُنَا إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ
الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ
وَهُوَ الَّذِي يُطَالَبُ بِرَدِّ مَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ الْمَقْبُوضِ
عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ
ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمَوْلَى بِهِ عَيْنًا كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ
الْمَوْلَى أَوْ مُسْتَهْلَكًا لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ
وَالْفَسْخِ وَهُوَ مَنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ لَزِمَهُ هَذَا الدَّيْنُ بِسَبَبٍ كَانَ
هُوَ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَامِلًا لِمَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ
بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ سُؤَالًا
فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَهُوَ
الَّذِي يَلِيهَا؟ ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: لِأَنَّهَا تَمَّتْ فِي حَالِ
رِقِّهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ
الْعَقْدَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ أَمَةً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ
مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا
(10/206)
لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي
زَوَّجَهَا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا أَجَرَهُ الْوَصِيُّ فِي عَمَلٍ
مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ مَبْلَغَ
الرِّجَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُضِيِّ عَلَى الْإِجَارَةِ
وَفَسْخِهَا وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا أَجَرَ ابْنَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ
الِابْنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ كَدًّا وَتَعَبًا
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بَعْدَ
بُلُوغِهِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ يَصِيرُ عُذْرًا لَهُ فِي
الْفَسْخِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَرَ دَارِهِ أَوْ عَبْدَهُ سِنِينَ
مَعْلُومَةً فَأَدْرَكَ الْغُلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ
الْإِجَارَةَ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُسَوِّي
بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ: نَفَذَ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ
حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ
الْفَصْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي إجَارَةِ
الدَّارِ وَالْعَبْدِ مَعْنَى الْكَدِّ وَالْعَارِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ
إذَا أَدْرَكَ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِخِلَافِ إجَارَةِ
النَّفْسِ، وَالثَّانِي أَنَّ إجَارَةَ الدَّارِ وَالْعَبْدِ يَمْلِكُ
بِالْوِلَايَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ مِنْ الْقَرَابَاتِ مِمَّنْ
يَعُولُ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إجَارَةِ دَارِهِ وَعَبْدِهِ
فَإِذَا نَفَذَ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَتِهِمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا
بَاشَرَاهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِالْوِلَايَةِ فَأَمَّا صِحَّةُ إجَارَةِ
النَّفْسِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ
الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْوَلَدِ فِي ذَلِكَ لِيَتَأَدَّبَ
وَيَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَعُولُ
الْيَتِيمَ بِمِلْكِ ذَلِكَ مِنْهُ وَبِبُلُوغِهِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى
لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِذَا أَجَرَ الْعَبْدُ
الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ
لِلْخِدْمَةِ فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ
حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَالْأَجْرُ وَالضَّمَانُ
لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إذَا سَلِمَ الْعَبْدُ أَنْ
يُعَجِّلَ لَهُ الْأَجْرَ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَحْضُ
مَنْفَعَةٍ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ
اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ
كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ فَإِنَّ
الضَّمَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ
يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ
اسْتَعْمَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ.
وَبِهِ فَارَقَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ وَمَاتَ فِي
خِلَالِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ
لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَنْعَدِمُ
السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَجْرِ فِيمَا مَضَى وَإِنْ هَلَكَ الصَّبِيُّ
مِنْ اسْتِعْمَالِهِ غَرِمَ دِيَتَهُ وَإِذَا سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ
الْعَمَلِ حَتَّى وَجَبَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى يَقْبِضُهُ
الْعَبْدُ فَيَدْفَعُهُ إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ
وَلَكِنْ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى فَيَلْزَمُهُ
دَفْعُهُ إلَى الْمَوْلَى وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ
السَّنَةِ لِلْعَبْدِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ
لِأَنَّهَا نَفَذَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ بِغَيْرِ إجَارَةِ الْمَوْلَى
فَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةً
(10/207)
لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ
الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى نَفَذَ الْعِتْقُ وَلَا خِيَارَ
لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَقْدُهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ
أَجَازَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ هُنَا إنْ كَانَ قَبَضَ الْأَجْرَ فِي حَالِ رِقِّهِ
لِأَنَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ حِصَّةَ مَا بَقِيَ وَلِلْمَوْلَى حِصَّةَ مَا
مَضَى بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ كَانَ نَافِذًا
فَالْأَجْرُ كُلُّهُ بِالْقَبْضِ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَهُنَا
الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا لِأَنَّ مُبَاشِرَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ
فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً فَحِصَّةُ مَا اُسْتُوْفِيَ
مِنْ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَمْلُوكًا مِنْ الْآجِرِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى
وَحِصَّةُ مَا لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا
وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعِتْقِ
بِاعْتِبَارِ إبْقَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا أُوفِيَ فِيمَا بَقِيَ
مِنْ الْمُدَّةِ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلِهَذَا
كَانَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
(10/208)
|