المبسوط
للسرخسي دار المعرفة [بَابُ إجَارَةِ الرَّاعِي]
(قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا يَرْعَى لَهُ
غَنَمًا مَعْلُومًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ، ثُمَّ الرَّاعِي
قَدْ يَكُونُ أَجِيرَ وَاحِدٍ وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا فَإِنْ شَرَطَ
عَلَيْهِ رَبُّ الْغَنَمِ أَنْ لَا يَرْعَى غَنَمَهُ مَعَ غَنَمِ غَيْرِهِ
فَهُوَ جَائِزٌ) لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَجِيرَ وَاحِدٍ
وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ،
وَالشَّرْطُ الَّذِي يُبَيِّنُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَزِيدُ
الْعَقْدَ إلَّا وَكَادَةً فَإِنْ مَاتَ مِنْهَا شَاةٌ لَمْ يَضْمَنْهَا؛
لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْغَنَمِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ
أَجْرِهِ بِحِسَابِهَا
(15/160)
لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ
وَبِهَلَاكِ بَعْضِ الْغَنَمِ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ مِنْ
مَنَافِعِهِ وَلَا فِي تَسْلِيمِهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْعَى مَعَهَا
شَيْئًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْأَوَّلِ فَلَا
يَمْلِكُ إيجَابَ الْحَقِّ فِيهَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ
مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ
وَلَوْ ضَرَبَ مِنْهَا شَاةً فَفَقَأَ عَيْنَهَا كَانَ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَأْذَنْ لَهُ صَاحِبُهَا بِضَرْبِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا
بِضَرْبَتِهِ وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ فَغَرِقَتْ شَاةٌ مِنْهَا لَمْ
يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي سَقْيِهَا وَمَا تَلِفَ بِالْعَمَلِ
الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا يَضْمَنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الدِّقِّ
وَكَذَلِكَ لَوْ عَطِبَتْ مِنْهَا شَاةٌ فِي الْمَرْعَى أَوْ أَكَلَهَا
سَبُعٌ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا هَلَكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ
فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ
هَلَكَ مِنْ الْغَنَمِ نِصْفُهَا أَوْ أَكْثَرُ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ
تَامًّا مَا دَامَ يَرْعَاهَا؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَسْلِيمِ
نَفْسِهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا
يَرْعَى لِمَنْ شَاءَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا يَهْلِكُ بِفِعْلِهِ مِنْ سِبَاقٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ
يَدُهُ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِفْ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ ظَاهِرًا كَمَا فِي
الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ وَمَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ
فِعْلِهِ بِمَوْتٍ أَوْ سَرِقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيعٍ أَوْ أَكْلِ
سِبَاعٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا الْمَوْتَ
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ
عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمَوْتِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تُقَامُ لَهُ عَلَى
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَلَى أَصْلِهِمَا الْقَبْضَ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ
الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُهُ ضَمَانُ الْعَيْنِ عَلَيْهِ فَدَعْوَاهُ الْمَوْتَ
بَعْد ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدَّعِي
مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُصَدَّقُ مِنْ ذَلِكَ
إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْغَاصِبِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ
ضَمَانَ مَا هَلَكَ مِنْ فِعْلِهِ لَمْ يُفْسِدْ ذَلِكَ الْإِجَارَةَ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يَزِيدُهُ الشَّرْطُ
وَإِلَّا وَكَادَةً، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ ضَمَانَ مَا مَاتَ
فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ
الشَّرْعِ وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بِهَذَا الشَّرْطِ مَا لَيْسَ فِي
وُسْعِهِ وَهُوَ الْحِفْظُ عَنْ الْمَوْتِ وَاشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ فِي
وُسْعِ الْعَاقِدِ فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ
وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ
أَوْ يَأْكُلُهُ السَّبُعُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يُفْسِدُ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ
وَعِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَإِذَا كَانَ
الرَّاعِي أَجِيرَ وَاحِدٍ فَاشْتِرَاطُ هَذَا عَلَيْهِ مُفْسِدٌ
لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِدُونِ الْخِلَافِ
وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ وَبِبُطْلَانِ الشَّرْطِ
يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ، وَإِذَا أَتَى الرَّاعِي الْمُشْتَرَكُ
بِالْغَنَمِ إلَى أَهْلِهَا فَأَكَلَ السَّبُعُ مِنْهَا شَاةً وَهِيَ فِي
مَوْضِعِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى
أَهْلِهَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا وَلِأَنَّ عَلَيْهِ عَمَلَ الرَّعْيِ
وَقَدْ انْتَهَى ذَلِكَ حِينَ أَتَى بِهَا إلَى أَهْلِهَا فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ فِيمَا يَعْطَبُ
(15/161)
بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ
الْغَنَمَ مَعَ غُلَامِهِ وَأَجِيرِهِ وَوَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
كَبِيرًا فِي عِيَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ خَاصًّا؛ لِأَنَّ
يَدَ هَؤُلَاءِ فِي الْحِفْظِ وَالرَّعْيِ أَكِيدَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي
الرَّدِّ وَهَذَا بِالْعُرْفِ فَإِنَّ الرَّاعِيَ يَلْتَزِمُ حِفْظَ
الْغَنَمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ غَنَمَ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ
بِيَدِهِ تَارَةً وَبِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ تَارَةً
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا شَهْرًا لِيَرْعَى لَهُ فَأَرَادَ الرَّاعِي
أَنْ يَرْعَى لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ فَلِرَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يَمْنَعَهُ
مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ وَذَكَرَ الْمُدَّةَ
لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ
مَنَافِعُهُ فَيَكُونُ أَجِيرًا لَهُ خَاصًّا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رَبُّ
الْغَنَمِ بِمَا فَعَلَهُ حَتَّى رَعَى لِغَيْرِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ عَلَى
الثَّانِي وَيَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْأَوَّلِ
شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَوَّلِ بِكَمَالِهِ
وَتَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشَقَّةٍ فِي الرَّعْيِ لِغَيْرِهِ فَمَا يَأْخُذُ
مِنْ الثَّانِي عِوَضَ عَمَلِهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ
نَظِيرُهُ فِي الظِّئْرِ وَلَوْ كَانَ يَبْطُلُ مِنْ الشَّهْرِ يَوْمًا
أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يَرْعَاهَا حُوسِبَ بِذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ سَوَاءٌ
كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ بَطَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
بِتَسْلِيمِ مَنَافِعِهِ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي مُدَّةِ الْبَطَالَةِ
سَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَلَوْ سَأَلَ رَاعِيًا أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ هَذِهِ بِدَرَاهِمَ فِي
الشَّهْرِ أَوْ قَالَ: شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَهُ أَنْ
يَرْعَى لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِذِكْرِ الْعَمَلِ بَيَّنَ
مِقْدَارَ عَمَلِهِ بِبَيَانِ مَحِلِّهِ وَهُوَ الْغَنَمُ عَرَفْنَا أَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ مَنَافِعِهِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا
سَوَاءٌ رَعَى لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَرْعَ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ
لَا يَرْعَى مَعَهَا شَيْئًا غَيْرَهَا كَانَ جَائِزًا وَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهُ أَجِيرُ وَاحِدٍ لِأَنَّا
إنَّمَا جَعَلْنَاهُ مُشْتَرَكًا اسْتِدْلَالًا بِالْبِدَايَةِ بِذِكْرِ
الْعَمَلِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ إذَا صَرَّحَ
بِخِلَافِهِ بِالشَّرْطِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَنَمَهُ يَرْعَاهَا عَلَى
أَنَّ أَجْرَهُ أَلْبَانُهَا وَأَصْوَافُهَا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ
مَجْهُولٌ وَإِعْلَامُ الْأَجْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ،
وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ جُبْنًا مَعْلُومًا وَسَمْنًا لِنَفْسِهِ وَمَا
بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلرَّاعِي فَهُوَ كُلُّهُ فَاسِدٌ، وَالرَّاعِي
ضَامِنٌ؛ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِلْكَ
الْغَيْرِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ
الْأَصْلِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ بِعَقْدٍ
فَاسِدٍ، وَلَوْ أَنَّ رَاعِيًا مُشْتَرَكًا خَلَطَ غَنَمًا لِلنَّاسِ
بَعْضًا بِبَعْضٍ وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَهْلُهَا فَالْقَوْلُ فِيهِ
قَوْلُ الرَّاعِي مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَالْقَوْلُ فِي
تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا
كَالْمُودَعِ مَعَ الْغَاصِبِ فَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُهَا فَهُوَ
ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْغَنَمِ كُلِّهَا لِأَهْلِهَا؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ
عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ التَّمَيُّزُ اسْتِهْلَاكٌ فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ
وَبِمِثْلِ هَذَا الْخَلْطِ يَكُونُ الرَّاعِي ضَامِنًا وَتَكُونُ
الْغَنَمُ لَهُ بِالضَّمَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قِيمَتِهَا يَوْمَ
خَلَطَهَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ كَالْغَاصِبِ
وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مُشْتَرَكًا يَرْعَى فِي الْجِبَالِ فَاشْتَرَطَ
عَلَيْهِ صَاحِبُ الْغَنَمِ أَنْ يَأْتِيَهُ.
(15/162)
بِسِمَةِ مَا يَمُوتُ مِنْهَا وَإِلَّا
فَهُوَ ضَامِنٌ فَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهَا قَدْ
تَمُوتُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِسِمَتِهَا وَقَدْ
يَفْتَعِلُ فِيمَا يَأْتِي مِنْ السِّمَةِ بِأَنْ يَأْكُلَ بَعْضَ
الْغَنَمِ، ثُمَّ يَأْتِي بِسِمَتِهِ وَيَقُولُ: قَدْ مَاتَ فَإِنَّ
السِّمَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالذَّبْحِ وَالْمَوْتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا
الشَّرْطَ غَيْرُ مُفِيدٍ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالسِّمَةِ؛ لِأَنَّهُ
أَمِينٌ فِي الْعَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ أَتَى
بِالسِّمَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوْتِ وَلَا يَسَعُ
الْمُصَدِّقَ أَنْ يُصَدِّقَ غَنَمًا مَعَ الرَّاعِي حَتَّى يَحْضُرَ
صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ، وَالزَّكَاةُ
تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ وَيَتَأَدَّى بِأَدَائِهِ وَنِيَّتِهِ وَالرَّاعِي
فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَإِنْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ الزَّكَاةَ
مِنْ الرَّاعِي فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الرَّاعِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَمْنَعَ الْمُصَدِّقَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ، وَإِنْ خَافَ الرَّاعِي عَلَى
شَاةٍ مِنْهَا فَذَبَحَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يَوْمَ ذَبَحَهَا؛
لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَبْحِهَا بَلْ مَنَعَهُ مِنْ
ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي عِدَّةِ مَا سَلَّمَهُ إلَى الرَّاعِي
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاعِي لِإِنْكَارِهِ قَبْضَ الزِّيَادَةِ
وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْغَنَمِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ
بِبَيِّنَتِهِ، ثُمَّ يَكُونُ ضَامِنًا لِلْفَضْلِ بِجُحُودِهِ وَلَيْسَ
لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مِنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا
يَبِيعُ وَلَا يُقْرِضُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّعْيِ وَهَذَا لَيْسَ
مِنْ عَمَلِ الرَّعْيِ فَهُوَ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَكُونُ
ضَامِنًا إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْغَنَمِ
بَاعَ نِصْفَ غَنَمِهِ، فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ الرَّاعِيَ شَهْرًا عَلَى
أَنْ يَرْعَى لَهُ لَمْ يَحُطَّهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ
بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ الْغَنَمِ أَنْ
يَزِيدَ فِي الْغَنَمِ مَا يُطِيقُ الرَّاعِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
مَالِكٌ لِمَنَافِعِهِ فِي الْمُدَّةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ فِي
ذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ شَهْرًا يَرْعَى لَهُ هَذِهِ الْغَنَمَ بِأَعْيَانِهَا
لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ
إذَا كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ، وَالتَّعْيِينُ فِي حَقِّ
الرَّاعِي مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَيْهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
عَدَدِ الْغَنَمِ فَهُوَ مَا الْتَزَمَ إلَّا رَعْيَ مَا عَيَّنَهُ عِنْدَ
الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الْغَنَمِ أَنْ يُكَلِّفَهُ شَيْئًا آخَرَ
كَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ عَمَلًا آخَرَ وَلَكِنَّهُ
اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ
طَاقَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ؛ فَإِنَّهُ بَدَأَ
بِذِكْرِ الْمُدَّةِ وَتَعْيِينُهُ الْأَغْنَامَ لِبَيَانِ مَا قَصَدَ مِنْ
تَمَلُّكِ مَنَافِعِهِ بِالْإِجَارَةِ لَا لِقَصْرِ حُكْمِ الْعَقْدِ
عَلَيْهِ فَإِذَا بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْيِينِ
مُسْتَحَقَّةً لِرَبِّ الْغَنَمِ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فِي ذَلِكَ
بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَلَكِنْ لَا يُكَلَّفُ عَمَلًا آخَرَ؛ لِأَنَّهُ
تَبَيَّنَ مَقْصُودُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ الرَّعْيُ فَمَا لَيْسَ
مِنْ عَمَلِ الرَّعْيِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، ثُمَّ
قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ وَلَدَتْ الْغَنَمُ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَرْعَى أَوْلَادَهَا مَعَهَا وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِيهِمَا؛
لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ
(15/163)
كَشَاةٍ أُخْرَى وَلَكِنْ مِنْ عَادَتِهِ
الِاسْتِشْهَادُ بِالْأَوْضَحِ فَالْأَوْضَحُ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ
شَهْرًا وَلَكِنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ غَنَمًا مُسَمَّاةً عَلَى أَنْ يَرْعَى
لَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا شَاةً؛
لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا عَمَلُ الرَّعْيِ وَإِنَّمَا
الْتَزَمَ إقَامَةَ الْكُلِّ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاعَ مِنْهَا طَائِفَةً
فَإِنَّهُ يُنْقِصُهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ هُوَ الْعَمَلَ فَإِنَّمَا
يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِقَدْرِ مَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ كَالْخَيَّاطِ
وَالْقَصَّارِ
وَإِذَا وَلَدَتْ الْغَنَمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَى
أَوْلَادَهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فِي عَمَلِ
الرَّعْيِ كَشَاةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ حِينَ دَفَعَ
الْغَنَمَ إلَيْهِ أَنْ يُوَلِّدَهَا وَيَرْعَى أَوْلَادَهَا مَعَهَا
فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ
الْعَمَلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ، وَإِعْلَامُهُ بِبَيَانِ مَحِلِّهِ
وَهُنَا مَحَلُّ الْعَمَلِ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا تَلِدُ
مِنْهَا وَكَمْ تَلِدُ وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُفْسِدَةٌ
لِلْعَقْدِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فَأَجَازَهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ
النَّاسِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
بَيْنَهُمَا، وَالْجَهَالَةُ بِعَيْنِهَا لَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ فَكُلُّ
جَهَالَةٍ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ فِي
الْعَقْدِ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْخَيْلُ وَالْحَمِيرُ وَالْبِغَالُ
فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْغَنَمِ، وَلَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يُنْزِيَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
مِنْ عَمَلِ الرَّاعِي فَهُوَ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ضَامِنٌ؛ لِمَا
يَعْطَبُ مِنْهَا إنْ فَعَلَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ الرَّاعِي وَلَكِنَّ
الْفَحْلَ الَّذِي فِيهَا نَزَا عَلَى بَعْضِهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ
عَلَى الرَّاعِي فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْغَنَمِ قَدْ رَضِيَ
بِذَلِكَ حِينَ خَلَطَ الْفَحْلَ بِالْإِنَاثِ مِنْ غَنَمِهِ وَالرَّاعِي
لَا يُمْكِنُهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ،
وَلَوْ نَدَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فَخَافَ الرَّاعِي إنْ بَاعَ مَا نَدَّ
مِنْهَا أَنْ يَضِيعَ مَا بَقِيَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ فِي تَرْكِ مَا نَدَّ
مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا،
وَلِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ مَا نَدَّ مِنْهَا كَانَ مُضَيِّعًا؛ لِمَا بَقِيَ
وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ مَا نَدَّ أَوْ لَا
يَقْدِرُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَيِّعَ مَا فِي يَدِهِ فَلِهَذَا كَانَ فِي
سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا نَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ضَاعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَهُوَ
فِي تَرْكِ اتِّبَاعِهِ مُقْبِلٌ عَلَى حِفْظِ مَا بَقِيَ وَلَيْسَ
بِمُضَيَّعٍ؛ لِمَا نَدَّ وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ
التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَجِيءُ
بِتِلْكَ الْوَاحِدَةِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ
النَّاسِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالِاسْتِئْجَارِ
وَكَذَلِكَ إنْ تَفَرَّقَتْ فِرَقًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِهَا
كُلِّهَا فَأَقْبَلَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا فَهُوَ
فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إقْبَالٌ عَلَى حِفْظِ مَا هُوَ
مُتَمَكِّنٌ مِنْ حِفْظِهِ فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ
الرَّاعِي أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَرَعَاهَا فِي بَلَدٍ فَعَطِبَتْ فَقَالَ:
صَاحِبُهَا إنَّمَا اشْتَرَطْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَرْعَاهَا فِي مَوْضِعٍ
غَيْرَ ذَلِكَ وَقَالَ الرَّاعِي بَلْ شَرَطْتَ عَلَيَّ هَذَا الْمَوْضِعَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّائِمَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ
(15/164)
مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ أَصْلًا
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ
الرَّاعِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
بِبَيِّنَتِهِ، ثُمَّ لَا يَضْمَنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ
عَلَى الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا لَمْ يَضْمَنْ فِي
قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إلَّا أَنْ يُخَالِفَ وَلَا أَجْرَ لِلرَّاعِي إذَا
خَالَفَ بَعْدَ أَنْ تَعْطَبَ الْغَنَمُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ ضَامِنٌ
وَبِالضَّمَانِ يَتَمَلَّكُ الْمَضْمُونَ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ فِي الرَّعْيِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا
يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ سَلِمَتْ الْغَنَمُ
اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أَجْعَلَ لَهُ الْأَجْرَ لِحُصُولِ مَقْصُودِ رَبِّ
الْغَنَمِ وَهُوَ الرَّعْيُ مَعَ سَلَامَةِ أَغْنَامِهِ وَهُوَ بِتَعْيِينِ
ذَلِكَ الْمَكَانِ مَا قَصَدَ إلَّا هَذَا فَإِذَا حَصَلَ لَهُ هَذَا
بِعَيْنِهِ فِي مَكَان وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[بَابُ إجَارَةِ الْمَتَاعِ]
ِ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسهُ
يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَيْنٌ
مُنْتَفَعٌ بِهِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ
غَيْرَهُ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لُبْسُهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا؛
لِأَنَّ التَّعْيِينَ مَتَى أَفَادَ اُعْتُبِرَ وَهَذَا تَعْيِينٌ مُفِيدٌ؛
لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي لُبْسِ الثِّيَابِ فَلُبْسُ
الدَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ لَا يَكُونُ كَلُبْسِ الْعَطَّارِ بِخِلَافِ
سُكْنَى الدَّارِ فَالنَّاسُ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَإِنْ
أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ضَمِنَهُ إنْ أَصَابَهُ
شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي إلْبَاسِهِ غَيْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ
شَيْءٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَصِيرُ
مُسْتَوْفًى بِلُبْسِهِ فَمَا يَكُونُ مُسْتَوْفًى بِلُبْسِ غَيْرِهِ وَلَا
يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَاسْتِيفَاءُ غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
لَا يُوجِبُ الْبَدَلَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ، ثُمَّ غَصَبَ
مِنْهُ ثَوْبًا آخَرَ وَلَبِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ، فَكَذَلِكَ
إذَا أَلْبَس ذَلِكَ الثَّوْبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ اللَّابِسَ
كَتَعْيِينِ الْمَلْبُوسِ.
(فَإِنْ قِيلَ) هُوَ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ
وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ.
(قُلْنَا) تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَإِذَا
وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ فَيَدُهُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِذَا لَوْ هَلَكَ
لَمْ يَضْمَنْ، فَأَمَّا إذَا أَلْبَسهُ غَيْرَهُ فَيَدُهُ عَلَيْهِ
مُعْتَبَرَةٌ حُكْمًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ ضَامِنٌ، وَإِنْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ اللُّبْسِ
وَإِنَّ يَدَ اللَّابِسِ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَكُونَ
لِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَ غَيْرَ اللَّابِسِ وَلَا يَكُونُ إلَّا
بِطَرِيقِ تَفْوِيتِ يَدِهِ حُكْمًا؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ،
وَإِنْ سَلِمَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُلْبَسَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ
وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
اللَّابِسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَلْبُوسِ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَ التَّعْيِينِ
فِي الْمَلْبُوسِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، فَكَذَلِكَ تَرْكُ
تَعْيِينِ اللَّابِسِ.
(وَهَذِهِ جَهَالَةٌ) تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ صَاحِبَ
(15/165)
الثَّوْبِ يُطَالِبُهُ بِإِلْبَاسِ
أَرْفَقِ النَّاسِ فِي اللُّبْسِ وَصِيَانَةِ الْمَلْبُوسِ وَهُوَ يَأْبَى
أَنْ يُلْبِسَ إلَّا أَخْشَنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَجُّ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَلَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ
مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنْ اخْتَصَمَا فِيهِ قَبْلَ اللُّبْسِ
فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَبِسَهُ هُوَ وَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ
فَلَبِسَهُ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ
اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُهَا أَوْ
لِلْعَمَلِ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يُعْمَلُ عَلَيْهَا فَعَمِلَ عَلَيْهَا إلَى
اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ
أَجْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ
فَاسِدٍ وَوُجُوبُ الْمُسَمَّى بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَلَا
تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ
أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ قَدْ زَالَ وَبِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ
يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
كَالْمُضَافِ فَإِنَّمَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ
وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا
فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْمُسَمَّى وَجَعَلْنَا التَّعْيِينَ فِي
الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
إنْ ضَاعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ سَوَاءٌ لَبِسَ بِنَفْسِهِ
أَوْ أَلْبَسَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ عَيَّنَ هُنَاكَ
لُبْسَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِلْبَاسِ غَيْرِهِ
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ
فَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ
كَامِلًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَكَّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الثَّوْبِ إلَيْهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ
فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْعَقْدَ انْتَهَى بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالْإِذْنُ فِي اللُّبْسِ كَانَ
بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْ
ارْتَدَى بِهِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا؛
لِأَنَّ هَذَا لُبْسٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ
بِالْقَمِيصِ سَتْرُ الْبَدَنِ بِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بَعْضُ
السَّتْرِ، وَإِنْ اتَّزَرَ بِهِ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ ضَامِنٌ إنْ
تَخَرَّقَ؛ لِأَنَّ الِاتِّزَارَ بِالْقَمِيصِ غَيْرُ مُعْتَادٍ
وَبِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اللُّبْسِ
الْمُعْتَادِ فَكَانَ غَاصِبًا إذَا اتَّزَرَ بِهِ ضَامِنًا إنْ تَخَرَّقَ
بِخِلَافِ مَا إذَا ارْتَدَى بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِاتِّزَارَ مُفْسِدٌ لِلْقَمِيصِ فَمَا
أَتَى بِهِ أَضَرَّ بِالثَّوْبِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ
وَالِاتِّزَارُ غَيْرُ مُفْسِدٍ بَلْ ضَرَرُهُ كَضَرَرِ اللُّبْسِ أَوْ
دُونَهُ، وَإِنْ سَلِمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي
الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ وَالضَّمَانُ
وَالْأَجْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا لَوْ أَلْبَسهُ غَيْرَهُ وَجْهُ
الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِزِيَادَةِ
ضَرَرٍ مُفْسِدٍ لِلثَّوْبِ فَيَبْقَى الْأَجْرُ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ
مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَرَّقَ
فَهُنَاكَ لَمَّا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مَلَكَ الثَّوْبَ مِنْ
حِينِ ضَمِنَهُ وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ
وَإِذَا سَلِمَ فَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ
(15/166)
الثَّوْبَ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ
لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ دِرْعًا لِتَلْبَسَهُ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ فَلَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ بِالنَّهَارِ وَفِي أَوَّلِ اللَّيْلِ
وَآخِرِهِ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ فِي لُبْسِ ثَوْبِ الصِّيَانَةُ بِالنَّهَارِ
وَمِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى وَقْتِ النَّوْمِ وَمِنْ آخِرِ اللَّيْلِ
أَيْضًا فَقَدْ يُبَكِّرُونَ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ اللَّيَالِيِ، وَإِنْ
لَبِسَتْ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَهِيَ ضَامِنَةٌ؛ لِأَنَّهَا خَالَفَتْ
فَإِنَّ ثَوْبَ الصِّيَانَةِ لَا يُنَامُ فِيهِ عَادَةً وَهُوَ مُفْسِدٌ
لِلثَّوْبِ فَتَكُونُ ضَامِنَةً إنْ تَخَرَّقَ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ
تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا فِي غَيْرِ اللَّيْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛
لِأَنَّ الْخِلَافَ قَدْ ارْتَفَعَ بِمَجِيءِ النَّهَارِ وَإِنَّمَا
كَانَتْ ضَامِنَةً بِالْخِلَافِ لَا بِالْإِمْسَاكِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ
تُمْسِكَ الثَّوْبَ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَالْأَمِينُ إذَا ضَمِنَ
بِالْخِلَافِ عَادَ أَمِينًا بِتَرْكِ الْخِلَافِ كَالْمُودَعِ إذَا
خَالَفَ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَإِنْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا
بِاللَّيْلِ فَهِيَ ضَامِنَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَجْرٌ فِي تِلْكَ
السَّاعَةِ الَّتِي تَخَرَّقَ فِيهَا الثَّوْبُ وَعَلَيْهَا الْأَجْرُ
فِيمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ
لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَإِنْ سَلِمَ وَلَمْ يَتَخَرَّقْ فَعَلَيْهَا الْأَجْرُ كُلُّهُ
لِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ
لَا يُنَافِي الْعَقْدَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ
تَحَقَّقَ مِنْهَا اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهَا
الْأَجْرُ إلَّا فِي السَّاعَةِ الَّتِي ضَمِنَتْ بِالتَّخَرُّقِ
لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ غَاصِبَةٌ عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا
وَلِهَذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهَا الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الدِّرْعُ لَيْسَ
بِدِرْعِ الصِّيَانَةِ إنَّمَا هُوَ دِرْعُ بِذْلَةٍ يُنَامُ فِي مِثْلِهِ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ نَامَتْ فِيهِ وَعَلَيْهَا الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ
بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالنَّوْمُ فِي
مِثْلِهِ مُعْتَادٌ فَلَا تَكُونُ بِهِ مُخَالِفَةً، وَإِنْ كَانَتْ
اسْتَأْجَرَتْهُ لِمُخْرَجٍ تَخْرُجُ فِيهِ يَوْمًا بِدِرْهَمٍ
فَلَبِسَتْهُ فِي بَيْتِهَا فَعَلَيْهَا الْأَجْرُ لِأَنَّهَا اسْتَوْفَتْ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَلُبْسُهَا فِي بَيْتِهَا وَلُبْسُهَا إذَا
خَرَجَتْ سَوَاءٌ وَرُبَّمَا يَكُونُ لُبْسُهَا فِي بَيْتِهَا أَخَفَّ،
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَلْبَسْ وَلَمْ تَخْرُجْ؛ لِأَنَّهَا تَمَكَّنَتْ
مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ ضَاعَ الدِّرْعُ مِنْهَا
ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ وَجَدَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا
إذَا صَدَّقَهَا رَبُّ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُتَمَكِّنَةً
مِنْ اللُّبْسِ بَعْدَ مَا ضَاعَ الدِّرْعُ مِنْهَا، وَإِنْ لَبِسَتْهُ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي ضَمِنَتْهُ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ بِمُضِيِّ
الْمُدَّةِ.
وَإِنْ كَذَّبَهَا رَبُّ الدِّرْعِ فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِهَا
حِينَ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدِّرْعِ؛ لِأَنَّ
تَمَكُّنَهَا مِنْ اللُّبْسِ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ
مُتَمَكِّنَةً مِنْهُ فِيمَا مَضَى وَلِأَنَّ تَسْلِيمَهُ الثَّوْبَ
إلَيْهَا تَمْكِينٌ لَهَا مِنْ لُبْسِهِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ وَمَا
تَدَّعِيهِ مِنْ الضَّيَاعِ عَارِضٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَعَلَيْهَا أَنْ
تُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدِّرْعِ
لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى
الضَّيَاعِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا مَعْرِفَةُ
حَقِيقَةِ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ، وَإِنْ سُرِقَ مِنْهَا أَوْ
تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَصَابَهُ قَرْضُ فَأْرٍ وَحَرْقُ نَارٍ أَوْ لَحْسُ
(15/167)
سُوسٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ
فِي الْعَيْنِ أَمِينٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمَالِكِ؛ فَإِنَّهُ
يَتَقَرَّرُ حَقُّ الْمَالِكِ فِي الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلِهَذَا
لَوْ أَصَابَهُ عَهْدُهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ أَمِينًا
فِيهِ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى قَوْلِ مَنْ
يُضَمِّنُهُ؛ فَإِنَّهُ فِي الْحِفْظِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ
يَتَمَكَّنُ بِهِ مَا تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَكَانَ ضَامِنًا
وَلَوْ أَمَرَتْ خَادِمَهَا أَوْ ابْنَتَهَا فَلَبِسَتْهُ فَتَخَرَّقَ
كَانَتْ ضَامِنَةً كَمَا لَوْ أَلْبَسَتْ أَجْنَبِيَّةً أُخْرَى وَلَا
أَجْرَ عَلَيْهَا وَإِنْ سَلِمَ الثَّوْبُ بَعْدَ أَنْ صَدَّقَهَا رَبُّ
الثَّوْبِ، وَإِنْ كَذَّبَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ
يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَإِنْ أَجَّرَتْهُ مِمَّنْ تَلْبَسُهُ بِفَضْلٍ
أَوْ نُقْصَانٍ فَهِيَ ضَامِنَةٌ لِلْخِلَافِ وَالْأَجْرُ لَهَا
بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهَا التَّصَدُّقُ بِهِ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَوْ لَبِسَهُ خَادِمُهَا أَوْ
ابْنَتُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا
لَوْ غَصَبَهُ إنْسَانٌ وَالْأَجْرُ عَلَيْهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا؛
لِأَنَّهَا لَمْ تُخَالِفْ وَلَوْ تَخَرَّقَ مِنْ لُبْسِ الْخَادِمِ كَانَ
الضَّمَانُ فِي عُنُقِ الْخَادِمِ؛ لِأَنَّهَا غَاصِبَةٌ وَضَمَانُ
الْغَصْبِ يَجِبُ دَيْنًا فِي عُنُقِ الْمَمْلُوكِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ قُبَّةً لِيَنْصِبَهَا فِي بَيْتِهِ وَيَبِيتَ فِيهَا
شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْقُبَّةَ مِنْ الْمَسَاكِنِ فَإِنْ قِيلَ
لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا لَمْ
يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي يَنْصِبُ فِيهَا
الْقُبَّةَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ
زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ لِقَرْضِ الثِّيَابِ قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ كَوْنُ
الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهِ وَأَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فَالْإِنْسَانُ لَا
يَعْدَمُ الْأَرْضَ لِيَنْصِبَ فِيهَا الْقُبَّةَ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ
بِالْقُبَّةِ الِاسْتِظْلَالُ وَدَفْعُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
وَالْمَطَرِ، وَذَلِكَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْأَرْضِ، وَإِنْ
لَمْ يُسَمِّ الْبُيُوتَ الَّتِي يَنْصِبُهَا فِيهَا فَالْعَقْدُ جَائِزٌ
أَيْضًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُيُوتِ وَتَرْكُ
تَعْيِينِ غَيْرِ الْمُفِيدِ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَإِنْ سَمَّى
بَيْتًا فَنَصَبَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛
لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ غَيْرُ مُفِيدٍ فَالضَّرَرُ لَا يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْبُيُوتِ فَإِنْ نَصَبَهَا فِي الشَّمْسِ أَوْ الْمَطَرِ
كَانَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِمَا أَصَابَهَا مِنْ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فَالشَّمْسُ تُحْرِقُهَا وَالْمَطَرُ
يُفْسِدُهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ صَاحِبُهَا بِنَصْبِهَا فِي الْبَيْتِ
لِيَأْمَنَ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بَطَلَ
الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلِأَنَّهُ
تَمَلَّكَهَا بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ ضَمِنَ، وَإِنْ سُلِّمَتْ الْقُبَّةُ
كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ حِين اسْتَظَلَّ بِالْقُبَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ
ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ فَإِذَا سَلِمَتْ سَقَطَ
اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِاسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَنْصِبَهَا فِي دَارِهِ
فَنَصَبَهَا فِي دَارٍ فِي قَبِيلَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ
فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ
غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ الْمِصْرِ لِأَنَّ
فِيهِ إلْزَامَ مُؤْنَةٍ عَلَى صَاحِبِهَا وَهُوَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ وَهُوَ
لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ فَإِنْ أَخْرَجَهَا إلَى السَّوَادِ فَنَصَبَهَا
فَسَلِمَتْ أَوْ انْكَسَرَتْ
(15/168)
فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ
حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ الْمِصْرِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ
الْأَجْرُ كَانَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِ الْقُبَّةِ وَهُوَ غَيْرُ
مُلْتَزِمٍ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَاهُ غَاصِبًا ضَامِنًا لِتَكُونَ مُؤْنَةُ
الرَّدِّ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا لَا أَجْرَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَحًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ فَذَهَبَ بِهِ
إلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِ
الرَّحَا وَلَوْ كَانَتْ ذَلِكَ عَارِيَّةً كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ
عَلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ فَسْخٌ لِعَمَلِ النَّقْلِ
فَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُؤْنَةُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ مَنْفَعَةُ
النَّقْلِ وَمَنْفَعَةُ النَّقْلِ فِي الْعَارِيَّةِ لِلْمُسْتَعِيرِ
فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى رَبِّ الرَّحَا؛
لِأَنَّ بِالنَّقْلِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِهِ يَجِبُ الْأَجْرُ لِرَبِّ الرَّحَا فَلِهَذَا
كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ عِيدَانَ
حَجْلَةٍ أَوْ كِسْوَتَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ
مُنْتَفَعٌ بِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ
مُعْتَادٍ الِاسْتِئْجَارُ فِيهِ صَحِيحٌ وَعَلَى هَذَا اسْتِئْجَارُ
الْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ وَالصَّنَادِيقِ وَالسُّرَرِ وَالْقُدُورِ
وَالْقِصَاعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ قُدُورًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ
يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ فَإِنَّ الْقُدُورَ
مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بِحَسَبِهَا
فَإِنْ جَاءَهُ بِقِدْرٍ فَقَبِلَهُ عَلَى الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ فَهُوَ
جَائِزٌ وَالْأَجْرُ لَهُ لَازِمٌ إمَّا لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي
الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ؛ لِأَنَّ
الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ مِنْهُ سُتُورًا يُعَلِّقُهَا عَلَى بَابِهِ وَقْتًا
مَعْلُومًا
وَلَوْ كَفَلَ كَفِيلٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةِ الْأَجْرَ عَنْ
الْمُسْتَأْجِرِ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ
فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَمَانَاتِ لَا تَصِحُّ
وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً
فِيهِ، وَإِنْ أَعْطَاهُ بِالْأَجْرِ كَفِيلًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ
مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ
مِيزَانًا لِيَزِنَ بِهِ وَالسَّنَجَاتِ وَالْقَبَّانَ وَالْمَكَايِيلَ
فَهَذَا كُلُّهُ مُتَعَارَفٌ جَائِزٌ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ سَرْجًا لِيَرْكَبَهُ شَهْرًا فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ
فَرَكِبَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ
النَّاسُ فَمَنْ يُحْسِنُ الرُّكُوبَ عَلَى السَّرْجِ لَا يَضُرُّ بِهِ
رُكُوبُهُ وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ يَضُرُّ بِهِ رُكُوبُهُ
وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّعْيِينُ كَانَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ وَلَا أَجْرَ
عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ إكَافًا يَنْقُلُ عَلَيْهِ حِنْطَتَهُ
شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ وَحِنْطَتُهُ وَحِنْطَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ
وَالْجَوَالِقُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هُنَا تَعْيِينٌ غَيْرُ مُفِيدٍ،
وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْمَحْمِلِ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ الرَّحْلُ
يَسْتَأْجِرُهُ لِيَرْكَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَحْمِلَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ إنْ أَصَابَهُ
شَيْءٌ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِضْرَارِ بِالرَّحْلِ عِنْدَ
الرُّكُوبِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الْفُسْطَاطُ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مَكَّةَ
فَإِنْ أَسْرَجَ فِي الْخَيْمَةِ أَوْ الْفُسْطَاطِ أَوْ الْقُبَّةِ أَوْ
عَلَّقَ فِيهِ الْقِنْدِيلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
مُعْتَادٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ
الِاسْتِعْمَالَ الْمُعْتَادَ، وَإِنْ اتَّخَذَ فِيهِ مَطْبَخًا فَهُوَ
ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعَدًّا
لِذَلِكَ الْعَمَلِ وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ
(15/169)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ
بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ حُلِيَّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَحُلِيَّ
الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ
مَنْفَعَةِ الْحُلِيِّ دُونَ الْعَيْنِ وَلَا رِبًا بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ
وَبَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ الْحُلِيُّ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ
وَاسْتِئْجَارُهُ مُعْتَادٌ فَيَجُوزُ وَإِذَا شَرَطَتْ أَنْ تَلْبَسَهُ
فَأَلْبَسَتْ غَيْرَهَا ضَمِنَتْ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا كَمَا فِي
الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْحُلِيِّ عِنْدَ اللُّبْسِ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْحُلِيِّ أَنْتِ
لَبِسْتِيهِ وَقَدْ هَلَكَ الْحُلِيُّ فَقَدْ أَبْرَأهَا مِنْ الضَّمَانِ
وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ لَهُ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِي إسْقَاطِهِ وَيَكُونُ
لَهُ عَلَيْهَا الْأَجْرُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِرَبِّ الْحُلِيِّ
وَقَدْ أَقَرَّتْ هِيَ أَنَّ الْحُلِيَّ كَانَ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ
الْأَجْرَ عَلَيْهَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَإِنْ
بَدَا لَهَا فَحَبَسَتْهُ فَلَمْ تَرُدَّهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ
فَالْإِجَارَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ
لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ لِتَعَلُّقِ الْعَقْدِ بِالْخَطَرِ
فِيمَا بَعْدَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَنْ يَبْدُوَ لَهَا وَتَعْلِيقُ
الْإِجَارَةِ بِالْخَطَرِ لَا يَجُوزُ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ
وَأُجِيزُهَا وَأَجْعَلُ عَلَيْهَا الْأَجْرَ كُلَّ يَوْمٍ بِحِسَابِهِ؛
لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُتَعَارَفٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَإِنَّهَا إذَا
خَرَجَتْ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ عُرْسٍ لَا تَدْرِي كَمْ تَبْقَى هُنَاكَ
فَتَحْتَاجُ إلَى هَذَا الشَّرْطِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالضَّمَانِ عَنْ
نَفْسِهَا، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عَلَيْهَا عِنْدَ
الِاسْتِعْمَالِ وَالْخَطَرُ قَبْلَ ذَلِكَ فَيَزُولُ ذَلِكَ عِنْدَ
اسْتِعْمَالِهَا؛ فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الْأَجْرُ لِكُلِّ يَوْمٍ
تَحْسِبُهُ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[بَابُ إجَارَةِ الدَّوَابِّ]
ِّ (قَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً
لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا
تَعْيِينٌ مُفِيدٌ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ بَلْ مِنْ قِبَلِ
الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَالثَّقِيلُ الَّذِي يُحْسِنُ رُكُوبَ الدَّابَّةِ
يُرَوِّضُهَا رُكُوبُهُ، وَالْخَفِيفُ الَّذِي لَا يُحْسِنُ رُكُوبَهَا
يَعْقِرُهَا رُكُوبُهُ، فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ
وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي الثَّوْبِ، وَإِنْ رَكِبَ وَحَمَلَ
مَعَهُ آخَرَ فَسَلِمَتْ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ وَزَادَ فَإِذَا سَلِمَتْ
سَقَطَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الْأَجْرِ
لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَطِبَتْ بَعْدَ بُلُوغِهَا
الْمَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ
لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّ رُكُوبَهُ لَا يَخْتَلِفُ
بِأَنْ يُرْدِفَ مَعَهُ غَيْرَهُ أَوْ لَا يُرْدِفُ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ
بِاعْتِبَارِ رُكُوبِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ
خَالَفَ حِينَ أَرْدَفَ وَشَغَلَ نِصْفَ الدَّابَّةِ بِغَيْرِهِ فَبِحَسَبِ
ذَلِكَ يَكُونُ ضَامِنًا وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ تُطِيقُ
اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ
(15/170)
يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ
فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهَا وَأَمَّا
إذَا كَانَتْ تُطِيقُ فَالتَّلَفُ حَصَلَ بِرُكُوبِهِ وَهُوَ مَأْذُونٌ
فِيهِ وَبِرُكُوبِ غَيْرِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَتَوَزَّعُ
الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ نِصْفَيْنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ الْآخَرُ
أَثْقَلَ مِنْهُ أَوْ أَخَفَّ. (قَالَ:) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ الرَّجُلُ
فِي الْقَبَّانِ فِي هَذَا أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ يُوزَنُ أَيُوزَنُ قَبْلَ
الطَّعَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَ الْخَلَاءِ أَوْ بَعْدَهُ
وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ لَيْسَ مِنْ
ثِقَلِ الرَّاكِبِ وَخِفَّتِهِ؛ فَلِهَذَا يُوَزَّعُ الضَّمَانُ
نِصْفَيْنِ. (فَإِنْ قِيلَ) حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِ
الْقِيمَةِ فَقَدْ مَلَكَ نِصْفَ الدَّابَّةِ مِنْ حِينِ ضَمِنَ
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ نِصْفُ الْأَجْرُ.
(قُلْنَا) هُوَ بِهَذَا الضَّمَانِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِمَّا يَشْغَلُهُ
بِرُكُوبِ نَفْسِهِ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا
يَضْمَنُ مَا شَغَلَهُ بِرُكُوبِ الْغَيْرِ وَلَا أَجْرَ بِمُقَابَلَةِ
ذَلِكَ لِيَسْقُطَ عَنْهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ أَوْ
الْجِنَازَةِ أَوْ لِيُشَيِّعَ عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَتَلَقَّاهُ فَهُوَ
فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ، وَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ
الْمَسَافَةِ فَإِذَا سَمَّى مَوْضِعًا مَعْلُومًا صَارَ مِقْدَارُ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِهِ مَعْلُومًا وَإِلَّا فَهُوَ مَجْهُولٌ لَا
يَصِيرُ مَعْلُومًا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّشْيِيعِ أَوْ التَّلَقِّي،
وَإِنْ تَكَارَاهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى الْكُوفَةِ لِيَرْكَبَهَا فَلَهُ أَنْ
يَبْلُغَ عَلَيْهَا مَنْزِلَهُ بِالْكُوفَةِ اسْتِحْسَانًا وَفِي
الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ انْتَهَى
الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْغَايَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا بَعْدَ
ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعُرْفِ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَبَلَّغُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الدَّابَّةِ
الَّتِي تَكَارَاهَا فِي الطَّرِيقِ إلَى مَنْزِلِهِ وَلَا يَتَكَارَى
لِذَلِكَ دَابَّةً أُخْرَى وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ
بِالنَّصِّ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوِرَامَ الْمُعْتَادَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ
يُسَمَّى بِالْعُرْفِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وِرَامُ الطَّرِيقِ
فِي الْإِجَارَةِ فَيُسْتَحَقُّ بِالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ مَتَاعًا فَإِنْ حَطَّ الْمَتَاعَ فِي نَاحِيَةٍ
مِنْ الْكُوفَةِ وَقَالَ: هَذَا مَنْزِلِي فَإِذَا هُوَ أَخْطَأَ فَأَرَادَ
أَنْ يَحْمِلَهُ ثَانِيَةً إلَى مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ بِالْعُرْفِ قَدْ انْتَهَى حِينَ حَطَّ رَحْلَهُ وَقَالَ:
هَذَا مَنْزِلِي فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مُدَّعٍ فِي قَوْلِهِ قَدْ أَخْطَأْت
فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْوِرَامَ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ
لِكَيْ لَا يَحْتَاجَ إلَى حَطِّ رَحْلِهِ وَنَقْلِهِ إلَى دَابَّةٍ
أُخْرَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِين حَطَّ رَحْلَهُ، وَكَذَلِكَ
لَوْ تَكَارَى حِمَارًا مِنْ الْكُوفَةِ يَرْكَبُهُ إلَى الْحِيرَةِ
ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَلَهُ أَنْ يَبْلُغَ عَلَيْهِ إلَى أَهْلِهِ
بِالْكُوفَةِ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ تَكَارَى مِنْ الْكُوفَةِ إلَى
الْحِيرَةِ، فَأَمَّا إذَا تَكَارَى دَابَّةً بِالْكُوفَةِ مِنْ مَوْضِعٍ
كَانَتْ فِيهِ الدَّابَّةُ إلَى الْكُنَاسَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا
فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَلِغَ فِي رَجْعَتِهِ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكَارَى
عِنْدَ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
كَانَ لِلْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ فِيمَا تَكَارَاهَا فِي الْمِصْرِ مِنْ
مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَيُؤْخَذُ
(15/171)
فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَرُبَّمَا يَكُونُ
مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَنْزِلِهِ مِنْ الْمَسَافَةِ مِثْلُ مَا
سَمَّى أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى سَبِيلِ الْوِرَامِ مِثْلَ
الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَوْ فَوْقَهُ فَيُقَالُ لَهُ كَمَا اكْتَرَيْت
مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّيْت فَاكْتَرِ
الدَّابَّةَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَنْزِلِكَ، وَإِنْ
اسْتَأْجَرَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ
عَلَيْهَا فَإِنْ اخْتَصَمُوا رَدَدْت الْإِجَارَةَ لِجَهَالَةِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا أَوْ رَكِبَهَا إلَى
ذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ
التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ وَقَدْ
قَرَّرْنَا هَذَا فِي الثَّوْبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا
وَلَمْ يُسَمِّ مَا اسْتَأْجَرَهُ لَهُ.
وَإِذَا سَمَّى مَا يَحْمِلُ عَلَى الدَّابَّةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَ
ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ
بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ فَالْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
قِيَاسُ الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا هُنَاكَ
أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ هُنَا وَفِي
كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا فَلَا أَجْرَ
عَلَيْهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ عَلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْمَحْمُولِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَكْرَيْتُكَ
مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَالَ
الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ
يَرْكَبْهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي احْتِمَالِ
الْفَسْخِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ فَالنَّصُّ
الْوَارِدُ بِالتَّحَالُفِ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ وَارِدًا فِي
الْإِجَارَةِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْضِي بِالْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ
أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الْعَقْدَ مِنْ الْكُوفَةِ
إلَى الْقَصْرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ
بِبَيِّنَتِهِ وَالْمُسْتَأْجِرَ بِبَيِّنَتِهِ أَثْبَتَ الْعَقْدَ مِنْ
الْقَصْرِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَوَجَبَ قَبُولُ
بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَمِلْنَا بِالْبَيِّنَتَيْنِ كَانَتْ
لَهُ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَجْهُ
قَوْلِهِ الْآخَرَ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَجْرِ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
فَالْمُسْتَأْجِرُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ
أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهُ زَادَهُ عَقِبَهُ الْأَجِيرُ فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً بِسَرْجٍ لِيَرْكَبَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ
عَلَيْهَا إكَافًا فَرَكِبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا زَادَ وَفِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ جَمِيعَ قِيمَتِهَا فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِمَا يَضْمَنُ بِقَدْرِ
مَا زَادَ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحِمَارَ يُرْكَبُ تَارَةً بِسَرْجٍ
وَتَارَةً بِإِكَافٍ وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الثِّقَلُ
وَالْخِفَّةُ مَا كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَادَةً وَفِي
مِثْلِهِ الضَّمَانُ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا
لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا
أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(15/172)
يَقُولُ: الِاخْتِلَافُ هُنَا فِي
الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْإِكَافَ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الْحِمَارِ
الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا يَأْخُذُهُ السَّرْجُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ
اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا
تِبْنًا أَوْ حَطَبًا تَوْضِيحُهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ
الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ الَّذِي لَا يَأْلَفُ
الْإِكَافَ يَضُرُّهُ الرُّكُوبُ بِإِكَافٍ وَرُبَّمَا يَجْرَحُهُ ذَلِكَ
فَيَكُونُ مُخَالِفًا فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ
وَزْنِ الْحِنْطَةِ حَدِيدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَغَ عَنْ الْحِمَارِ
سَرْجَهُ وَأَسْرَجَهُ بِسَرْجِ بِرْذَوْنٍ لَا تُسْرَجُ بِمِثْلِهِ
الْحَمِيرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِكَافِ، وَإِنْ أَسْرَجَهُ بِسَرْجٍ
مِثْلِهِ أَوْ أَخَفَّ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ
يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُعْتَبَرُ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ بِإِكَافٍ
فَأَوْكَفَهُ بِإِكَافٍ مِثْلِهِ أَوْ أَسْرَجَهُ مَكَانَ الْإِكَافِ؛
لِأَنَّ السَّرْجَ أَخَفُّ عَلَى الْحِمَارِ مِنْ الْإِكَافِ فَلَا يَكُونُ
خِلَافًا مِنْهُ.
وَلَوْ تَكَارَى حِمَارًا عُرْيَانًا فَأَسْرَجَهُ، ثُمَّ رَكِبَهُ فَهُوَ
ضَامِنٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِ السَّرْجَ بِغَيْرِ إذْنِ
صَاحِبِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ قَالَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - وَهَذَا عَلَى أَوْجُهٍ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى
بَلَدٍ لَمْ يَضْمَنْ إذَا أَسْرَجَهُ؛ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يُرْكَبُ
مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ عَادَةً إلَّا بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ وَالثَّابِتُ
بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَرْكَبَهُ
فِي الْمِصْرِ فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، فَكَذَلِكَ
الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُرْكَبُ فِي الْمِصْرِ عُرْيَانَا،
وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ يَرْكَبُونَ الْحِمَارَ فِي
الْمِصْرِ عُرْيَانَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا إذَا أَسْرَجَهُ
بِغَيْرِ شَرْطٍ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ
فَجَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: هُوَ ضَامِنٌ مَا لَمْ يَدْفَعْهَا إلَى
صَاحِبِهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيهَا فَإِذَا ضَمِنَ
بِالْخِلَافِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ عَادَ أَمِينًا كَالْمُودَعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ
لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ قَامَتْ
يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ؛
لِأَنَّهُ يُمْسِكُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ فَلَا
تَكُونُ يَدُهُ قَائِمَةً مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ فَلَا تَبْرَأُ عَنْ
الضَّمَانِ، وَإِنْ عَادَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ
بِهَا لِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ فَهُنَاكَ
يَدُهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي هَذَا فَقَالَ: يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ كَيَدِ الْمَالِكِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى
الْمَالِكِ كَالْمُودَعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ وَبِدَلِيلِ أَنَّ
مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْإِجَارَةِ دُونَ الْعَارِيَّةِ
وَلَكِنَّا نَقُولُ: رُجُوعُهُ بِالضَّمَانِ لِلْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ
بِسَبَبِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ يَدَهُ
لَيْسَتْ بِيَدِ نَفْسِهِ كَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ،
فَكَذَلِكَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لِمَا لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فِي
النَّقْلِ
فَأَمَّا يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا
الْكَلَامِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اسْتَأْجَرَتْ
(15/173)
ثَوْبَ صِيَانَةٍ لِتَلْبَسَهُ أَيَّامًا
فَلَبِسَتْهُ بِاللَّيْلِ كَانَتْ ضَامِنَةً، ثُمَّ إذَا جَاءَ النَّهَارُ
بَرِئَتْ مِنْ الضَّمَانِ وَيَدُهَا يَدُ نَفْسِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ
هُنَاكَ الضَّمَانُ عَلَيْهَا بِاللُّبْسِ لَا بِالْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّ
لَهُ حَقَّ الْإِمْسَاكِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَاللُّبْسُ الَّذِي لَمْ
يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ لَمْ يَبْقَ إذَا جَاءَ النَّهَارُ وَهُنَا
الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ
الْمَشْرُوطِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَكَانَ وَلَمْ
يَرْكَبْهَا كَانَ ضَامِنًا وَلَوْ حَبَسَهَا فِي الْمِصْرِ أَيَّامًا
وَلَمْ يَرْكَبْهَا كَانَ ضَامِنًا وَالْإِمْسَاكُ لَا يَنْعَدِمُ، وَإِنْ
عَادَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مَا دَامَ يُمْسِكُهَا لِمَنْفَعَةِ
نَفْسِهِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي التَّفْصِيلِ بَيْنَمَا إذَا
اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا أَوْ ذَاهِبًا لَا جَائِيًا قَدْ
تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ وَلَوْ لَمْ
يُجَاوِزْ الْمَكَانَ وَلَكِنَّهُ ضَرَبَهَا فِي السَّيْرِ أَوْ كَبَحَهَا
بِاللِّجَامِ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ
صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُسْتَحْسَنُ أَنْ
لَا يُضَمِّنَهُ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ فِي ذَلِكَ وَضَرَبَ كَمَا يَضْرِبُ
النَّاسُ الْحِمَارَ فِي مَوْضِعِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ
يَسْتَفِيدُ الْإِذْنَ فِيمَا هُوَ مُعْتَادٌ وَالضَّرْبُ وَالْكَبْحُ
بِاللِّجَامِ فِي السَّيْرِ مُعْتَادٌ وَرُبَّمَا لَا تَنْقَادُ
الدَّابَّةُ إلَّا بِهِ فَيَكُونُ الْإِذْنُ فِيهِ ثَابِتًا بِالْعُرْفِ
وَلَوْ أَذِنَ فِيهِ نَصًّا لَمْ يُضَمِّنْ الْمُسْتَأْجِرَ بِهِ،
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُتَعَارَفًا وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِغَيْرِ إذْنِ
مَالِكِهَا، وَذَلِكَ تَعَدٍّ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَبَيَانُ أَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ لَهُ بِالْعَقْدِ سَيْرُ الدَّابَّةِ لَا صِفَةُ
الْجَوْدَةِ فِيهِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الضَّرْبِ وَالْكَبْحِ فِي
أَصْلِ تَسْيِيرِ الدَّابَّةِ وَإِنَّمَا يَسْتَخْرِجُ بِذَلِكَ مِنْهَا
نِهَايَةَ السَّيْرِ وَالْجَوْدَةِ فِي ذَلِكَ وَثُبُوتُ الْإِذْنِ
بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَفْتَقِرُ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الضَّرْبُ فَإِنَّمَا أُبِيحَ
لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّ حَقَّ الْمَالِكِ فِي الْآخَرِ يَتَقَرَّرُ
بِدُونِهِ وَمِثْلُهُ يُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَتَعْزِيرِ
الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ وَرَمْيُ الرَّجُلِ إلَى الصَّيْدِ وَمَشْيُهُ فِي
الطَّرِيقِ مُبَاحٌ شَرْعًا، ثُمَّ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ
بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِيهَا نَصًّا فَإِنَّ بَعْدَ
الْإِذْنِ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَالِكِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعًا سَمَّاهُ إلَى
مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَأَجَّرَهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِمَّا
اسْتَأْجَرَهَا لَمْ يَطِبْ لَهُ الْفَضْلُ إلَّا أَنْ يَزِيدَ مَعَهَا
حَبْلًا أَوْ جُوَالِقَ أَوْ لِجَامًا فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ زِيَادَةَ
الْأَجْرِ بِإِزَاءِ مَا زَادَ وَلَوْ عَلَفهَا لَمْ يَطِبْ لَهُ
الْفَضْلُ؛ لِأَنَّ الْعَلَفَ لَيْسَ بِعَيْنٍ يَنْتَفِعُ بِهِ
الْمُسْتَأْجِرُ لِنَجْعَلَ الزِّيَادَةَ بِمُقَابَلَتِهِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا بِغَيْرِ لِجَامٍ فَأَلْجَمَهَا أَوْ بِلِجَامٍ
فَنَزَعَهُ وَأَبْدَلَهُ بِلِجَامٍ آخَرَ مِثْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ اللِّجَامَ لَا يَضُرُّ بِالدَّابَّةِ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهَا مِنْ
حَيْثُ إنَّ السَّيْرَ يُخَفَّفُ بِهِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا
خِلَافًا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا إذَا أَلْجَمَهَا بِلِجَامٍ لَا
يُلْجَمُ مِثْلُهَا بِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُخَالِفًا ضَامِنًا.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِحُمُولَةٍ فَسَاقَ رَبُّ الدَّابَّةِ
فَعَثَرَتْ فَسَقَطَتْ الْحُمُولَةُ وَفَسَدَتْ وَصَاحِبُ
(15/174)
الْمَتَاعِ يَمْشِي مَعَ رَبِّ الدَّابَّةِ
أَوْ لَيْسَ مَعَهُ فَالْمُكَارَى ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْمُكَارَى أَجِيرٌ
مُشْتَرَكٌ وَالتَّلَفُ حَصَلَ بِجِنَايَةِ يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
انْقَطَعَ حَبْلُهُ فَسَقَطَ الْحِمْلُ فَهَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا شَدَّهُ بِحَبْلٍ لَا يَحْتَمِلُهُ كَانَ هُوَ
الْمُسْقِطَ لِلْحِمْلِ وَلَوْ مَطَرَتْ السَّمَاءُ فَفَسَدَ الْحِمْلُ
أَوْ أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ فَفَسَدَ أَوْ سُرِقَ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ
حَصَلَ لَا بِفِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَرَوَى
بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ صَاحِبُ
الْحِمْلِ مَعَهُ فَسُرِقَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكَارَى؛ لِأَنَّ الْحِمْلَ
فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا
عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَمَا دَامَ الْمَتَاعُ فِي يَدِ
صَاحِبِهِ لَمْ يَضْمَنْ الْأَجِيرُ إذَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنْ
حَمَلَ عَلَيْهَا عَبْدًا صَغِيرًا فَسَاقَ بِهِ رَبُّ الدَّابَّةِ
فَعَثَرَتْ وَعَطِبَ الْعَبْدُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا
جِنَايَةٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَتَاعَ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ
أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِ النُّفُوسِ ضَمَانُ
الْجِنَايَةِ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ
الْعَقْدِ. (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا
وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا جَنَتْ يَدُهُ
بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ
الْعَقْدِ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْمَتَاعِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ الْعَقْدِ
حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهِ حَالًّا دُونَ الْعَاقِلَةِ وَبَيَانُ هَذَا
الْكَلَامِ أَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ يُقَيَّدُ الْعَمَلُ
بِصِفَةِ السَّلَامَةِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى
الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ
بَدَلٌ مَضْمُونٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ
بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا صَاحِبُ
الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ وَرَكِبَهَا فَسَاقَهَا رَبُّ الدَّابَّةِ فَعَثَرَتْ
فَعَطِبَ الرَّجُلُ وَأُفْسِدَ الْمَتَاعُ لَمْ يَضْمَنْ رَبُّ الدَّابَّةِ
شَيْئًا إمَّا لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ نَفْسَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْمَتَاعَ؛ لِأَنَّ مَتَاعَهُ
فِي يَدِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ
فَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ رَبِّ الدَّابَّةِ.
وَإِذَا تَكَارَى مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى
أَنَّهُ مَتَى مَا بَدَا لَهُ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ حَاجَةٌ رَكِبَهَا
لَا يَمْنَعُهُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ سَمَّى بِالْكُوفَةِ نَاحِيَةً مِنْ
نَوَاحِيهَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى مَكَانًا
فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ الرُّكُوبُ
مُسْتَغْرَقًا بِجَمِيعِ الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا
بِبَيَانِ الْمَكَانِ فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ
تَكَارَاهَا يَوْمًا يَقْضِي حَوَائِجَهُ فِي الْمِصْرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛
لِأَنَّ الرُّكُوبَ هُنَا مُسْتَدَامٌ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ
وَلِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا جَازَ
عَقْدُ السَّلَمِ إذَا شَرَطَ الْإِيفَاءَ فِي الْمِصْرِ وَأَنْ يُبَيِّنَ
مَوْضِعًا مِنْهُ فَإِذَا كَانَ نَوَاحِي الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ
كَانَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ إلَى أَيِّ نَوَاحِي الْمِصْرِ شَاءَ وَإِلَى
الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقَابِرَ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ
(15/175)
اسْتَأْجَرَهَا لِلرُّكُوبِ فِي الْمِصْرِ،
وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى وَاسِطَ يَعْلِفُهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا
فَرَكِبَهَا حَتَّى أَتَى وَاسِطَ فَلَمَّا رَجَعَ حَمَلَ عَلَيْهَا
رَجُلًا مَعَهُ فَعَطِبَتْ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الذَّهَابِ؛
لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ بِعَلَفِهَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَقَدْ
اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا
فِي الذَّهَابِ وَنِصْفُ أَجْرِ مِثْلِهَا فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى فِي الرُّجُوعِ مَنْفَعَةَ نِصْفِهَا وَهُوَ مَا شَغَلَهَا
بِرُكُوبِ نَفْسِهِ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ أَجْرِ الْمِثْلِ وَقَدْ
ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا
وَأَرْدَفَ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُ
اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ يَجِبُ
الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ وَفِي الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ
إلَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ بِقَدْرِ مَا
اسْتَوْفَى.
(قَالَ:) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ عِنْدِي فِي
الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا فَبِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ يُوجَبُ
أَجْرُ الْمِثْلِ وَفِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُعْتَبَرُ التَّمَكُّنُ
فِيمَا شَغَلَهُ بِرُكُوبِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا
فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ بِحَسَبِ مَا
اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُ مِثْلِهَا إذَا
أَرْدَفَ فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ نِصْفَ أَجْرِ مِثْلِهَا فَقَدْ
أَوْجَبْنَا مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ جَمِيعَ مَا يَخُصُّ رُكُوبَهُ،
وَكَذَلِكَ عِنْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى هُنَاكَ
بِمُقَابَلَةِ رُكُوبِهِ فَهُوَ نَظِيرُ نِصْفِ أَجْرِ الْمِثْلِ هُنَا،
ثُمَّ يَكُونُ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ، وَإِنْ حَمَلَ
عَلَيْهَا مَتَاعًا مَعَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا زَادَ؛ لِأَنَّهُ
مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ وَيَحْسِبُ مَا عَلَفَهَا بِهِ لِأَنَّهُ
عَلَفَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ
وَيَكُونُ قِصَاصًا بِمَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَاحِبُهَا مِنْ الْأَجْرِ.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً عَشَرَةَ أَيَّامٍ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ
فَحَبَسَهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا حَتَّى رَدَّهَا يَوْمَ الْعَاشِرِ قَالَ:
يَسَعُ صَاحِبَهَا أَنْ يَأْخُذَ الْكِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ لَمْ يَرْكَبْهَا لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يَسْتَحِقُّهَا بِمَا هُوَ
الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ
وَتَمْكِينُهُ مِنْ رُكُوبِهَا فِي الْمُدَّةِ فَيَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ
كَالْمَرْأَةِ إذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا طَابَ لَهَا
جَمِيعُ الصَّدَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ
يَطَأْهَا.
وَإِنْ تَكَارَاهَا يَوْمًا وَاحِدًا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا
حَبَسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ
فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا.
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً لِعَرُوسٍ تُزَفُّ عَلَيْهَا إلَى بَيْتِ
زَوْجِهَا فَحَبَسَ الدَّابَّةَ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَدَّهَا وَلَمْ
يَرْكَبْ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَسْلِيمُ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي
الطَّرِيقِ لِنَقْلِ الْعَرُوسِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ حَبْسِ
الدَّابَّةِ فِي الْبَيْتِ، وَإِنْ حَمَلُوا عَلَيْهَا غَيْرَ الْعَرُوسِ
فَإِنْ تَكَارَاهَا لِعَرُوسٍ بِعَيْنِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا كِرَاءَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مُخَالِفٌ، وَإِنْ تَكَارَاهَا لِعَرُوسٍ
بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ
اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ قَدْ اُسْتُوْفِيَ
وَالتَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ،
وَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى
(15/176)
أَنْ يَرْكَبَ مَعَ فُلَانٍ يُشَيِّعُهُ
فَحَبَسَهَا مِنْ غُدْوَةٍ إلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ بَدَا
لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَرَدَّ الدَّابَّةَ عِنْدَ الظُّهْرِ فَإِنْ
كَانَ حَبَسَهَا قَدْرَ مَا يَحْبِسُ النَّاسُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ،
وَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِإِمْسَاكِهِ
إيَّاهَا فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا
يَحْبِسُ النَّاسُ صَارَ مُسْتَثْنًى لَهُ بِالْعُرْفِ وَلَا أَجْرَ
عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ
وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا حَبَسَهَا فِي الْمِصْرِ وَلِأَنَّ صَاحِبَ
الدَّابَّةِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ تَسِيرَ الدَّابَّةُ مَعَهُ إلَى
الطَّرِيقِ، وَإِنْ رَكِبَهَا بَعْدَ الْحَبْسِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ
أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا بِالْخِلَافِ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ
لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ إذَا عَطِبَتْ لِاسْتِنَادِ مِلْكِهِ فِيهَا إلَى
وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا إلَى حُلْوَانَ فَنَتَجَتْ
فِي الطَّرِيقِ وَضَعُفَتْ مِنْ حَمْلِ الرَّجُلِ لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ
فَعَلَى الْمُكَارِي أَنْ يَأْتِيَ بِدَابَّةٍ أُخْرَى تَحْمِلُهُ
وَمَتَاعَهُ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ
فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لَوْ هَلَكَتْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يَأْتِيَ بِأُخْرَى، فَكَذَلِكَ إذَا ضَعُفَتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ
الْكِرَاءُ وَقَعَ عَلَى هَذِهِ بِعَيْنِهَا فَحِينَئِذٍ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهِ مَنَافِعُهَا وَلَا يَتَأَتَّى اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْ دَابَّةٍ
أُخْرَى بَلْ يَكُونُ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ.
وَإِنْ تَكَارَى ثَلَاثَ دَوَابَّ، ثُمَّ إنَّ رَبَّ الدَّوَابِّ أَجَّرَ
دَابَّةً مِنْ غَيْرِهِ وَأَعَارَ أُخْرَى وَوَهَبَ أُخْرَى أَوْ بَاعَ
فَوَجَدَ الْمُسْتَكْرِي الدَّوَابَّ فِي أَيْدِيهِمْ فَإِنْ كَانَ بَاعَ
مِنْ عُذْرٍ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ وَانْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى
رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ بَاعَ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ وَالْمُسْتَكْرِي أَحَقُّ بِالدَّوَابِّ
لِتَقَدُّمِ عَقْدِهِ وَثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِ الْمَنَافِعِ لَهُ وَالْيَدُ
فِي الْعَيْنِ بِذَلِكَ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ مَا وَجَدَهُ فِي يَدِ
الْمُسْتَعِيرِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ
الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ لَيْسَتْ بِيَدِ الْخُصُومَةِ
وَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا؛
لِأَنَّهُ يَدَّعِي مِلْكَ عَيْنِهَا فَيَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي
حَقًّا فِيهَا وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَالْمُسْتَأْجِرُ أَحَقُّ بِهَا
حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْإِجَارَةَ وَهَذَا جَوَابٌ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّهُ
لَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَحَقُّ بِهَا فَمِنْ
أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ: مُرَادُهُ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي يَكُونُ خَصْمًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدَّعِي مَا
يَزْعُمُ الثَّانِي أَنَّهُ لَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا لَهُ فِي مِلْكِهِ
وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ
خَصْمًا لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَحْضُرَ رَبُّ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ
الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَ عَيْنِهَا لِنَفْسِهِ.
وَلَوْ تَكَارَى غُلَامًا وَدَابَّةً إلَى الْبَصْرَةِ بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَقَدْ شَرَطَ لَهُمْ دِرْهَمًا إلَى
الْكُوفَةِ فَأَبَقَ الْغُلَامُ وَنَفَقَتْ الدَّابَّةُ فَعَلَيْهِ مِنْ
الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَصَابَ مِنْ خِدْمَةِ الْغُلَامِ وَرُكُوبِ
الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
الْقَدْرِ، ثُمَّ انْعَدَمَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ
بِالْهَلَاكِ وَالْإِبَاقِ وَقَدْ
(15/177)
كَانَ أَمِينًا فِيهِمَا وَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ وَحْدَهَا وَقَالَ: الْمُكَارِي
اسْتَأْجِرْ غُلَامًا عَنِّي كَيْ نَتْبَعَكَ وَنَتْبَعَ الدَّابَّةَ
وَأَجْرُهُ عَلَيَّ وَأَعْطَاهُ نَفَقَةً يُنْفِقُ عَلَى الدَّابَّةِ
فَفَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ وَسُرِقَتْ النَّفَقَةُ مِنْ الْغُلَامِ فَإِنْ
أَقَامَ الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْغُلَامَ
وَأَقَرَّ الْغُلَامُ بِالْقَبْضِ لَزِمَ الْمُكَارَى النَّفَقَةُ ضَاعَتْ
أَوْ لَمْ تَضَعْ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي
اسْتِئْجَارِ الْغُلَامِ وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَقَدْ أَثْبَتَهُ
بِالْبَيِّنَةِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ. اسْتَأْجَرَهُ
بِنَفْسِهِ ثُمَّ الْغُلَامَ وَكِيلَ الْمُكَارِي فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ
مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ كَإِقْرَارِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلَوْ
تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ
فَلَمَّا بَلَغَ بَغْدَادَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ وَقَالَ:
هِيَ زُيُوفٌ أَوْ سَتُّوقَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ فِي
ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَ
حَقِّهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
فِيمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ زُيُوفٌ؛ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ
الدَّرَاهِمِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُنَاقِضًا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ
فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ سَتُّوقٌ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ
فَالسَّتُّوقُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ
بِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ
الْجِيَادِ فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَدَّعِي لِكَوْنِهِ
مُتَنَاقِضًا.
وَإِذَا مَاتَ الْمُكَارَى فِي الطَّرِيقِ فَاسْتَأْجَرَ الْمُسْتَكْرِي
رَجُلًا يَقُومُ عَلَى الدَّابَّةِ فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ
مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى الدَّابَّةِ،
وَإِنْ نَفَقَتْ الدَّابَّةُ فِي الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ مِنْ الْكِرَاءِ
بِقَدْرِ مَا سَارُوا وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمَا
تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى أَوْ فِي مِقْدَارِ
مَا لَزِمَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَرَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ
وَالْمُسْتَكْرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ إحْدَاهُمَا إلَى بَغْدَادَ وَالْأُخْرَى
إلَى حُلْوَانَ فَإِنْ كَانَتْ الَّتِي إلَى بَغْدَادَ بِعَيْنِهَا
وَاَلَّتِي إلَى حُلْوَانَ بِعَيْنِهَا جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ
يَجُزْ لِجَهَالَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ وَعَلَيْهِ فِيمَا رَكِبَ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ.
وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا إلَى بَغْدَادَ فَأَرَادَ الْمُكَارِي أَنْ
يَحْمِلَ مَتَاعًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بِكِرَاءٍ مَعَ مَتَاعٍ
فَلِلْمُسْتَكْرِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ
اسْتَحَقَّ مَنَافِعَهُ وَقَامَ هُوَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ الْمَالِكِ
وَالْمَالِكُ مَقَامَ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَمَلَهُ وَبَلَّغَ
الدَّابَّةَ بَغْدَادَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَكْرِي أَنْ يَحْبِسَ عَنْهُ
شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ
بِكَمَالِهِ وَاسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَإِذَا اخْتَلَفَ
الْمُؤَاجِرَانِ فِي مِقْدَارِ الْكِرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ
وَبَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ، وَإِنْ
أَقَامَ الْمُؤَاجِرَانِ الْبَيِّنَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ
مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ؛ لِأَنَّ.
(15/178)
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ حَقَّ
نَفْسِهِ وَحَقَّ صَاحِبِهِ وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى
إثْبَاتِ حَقِّهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُكَذَّبٌ بِبَيِّنَةِ صَاحِبِهِ فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ
حُجَّةً فِي نَصِيبِهِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ
سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَرَكِبَهَا عَلَى ذَلِكَ فَعَطِبَتْ فَعَلَيْهِ
الْأَجْرُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ إيَّاهَا فِي مُدَّةِ
خِيَارِهِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ؛ فَإِنَّهُ
مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتْلِفٌ فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ
مَا اسْتَوْفَى وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْعَقْدِ خِيَارُهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ
فَالْمُسْتَكْرِي ضَامِنٌ لَهَا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ
فِي رُكُوبِهَا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ رِضَى صَاحِبِهَا بِهِ فَإِذَا شَرَطَ
الْخِيَارَ يَعْدَمُ تَمَامُ الرِّضَاءِ.
وَلَوْ تَكَارَى حِمَارًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ فَأَوْثَقَهُ فِي الرَّحَا
وَسَاقَهُ الْأَجِيرُ فَتَعَسَّفَ عَلَيْهِ الْأَجِيرُ حَتَّى عَطِبَ مِنْ
عَمَلِهِ فَالْأَجِيرُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهُ بِالتَّعَسُّفِ
فِي سَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ
الْمُسْتَأْجِرِ لِيَنْتَقِلَ فِعْلُهُ إلَيْهِ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ عَلَى
الْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَوْرًا يَطْحَنُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ عَشَرَةَ
أَقْفِزَةٍ فَوَجَدَهُ لَا يَطْحَنُ إلَّا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ
فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَرْطَ
عَقْدِهِ فَإِذَا شَاءَ أَبْطَلَ الْإِجَارَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ
عَلَيْهِ وَفِيمَا عَمِلَ مِنْ الطَّحْنِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ مِنْ
الْأَيَّامِ وَلَا يَحُطُّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الثَّوْرِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ
اسْتَوْفَى ذَلِكَ وَاشْتِرَاطُ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ
لَيْسَ لِإِيرَادِ الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ بَلْ لِبَيَانِ جَلَادَةِ
الثَّوْرِ فِي عَمَلِ الطَّحْنِ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْتَقِضُ عَنْهُ شَيْءٌ
مِنْ الْأَجْرِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ الْأَيَّامِ.
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ فَوَجَدَهَا لَا تُبْصِرُ
بِاللَّيْلِ أَوْ جَمُوحًا أَوْ عَثُورًا أَوْ تَعَضُّ فَإِنْ كَانَتْ
الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ
عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا سَارَ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ
عَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى بَغْدَادَ عَلَى دَابَّةٍ
غَيْرِهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَا إذَا
قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْبِ هَذِهِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى
الْمُسْتَأْجِرِ الْعَيْبَ غَيْرُ مَقْبُولٍ إلَّا بِحُجَّةٍ.
وَلَوْ تَكَارَى بَعِيرًا لِيَعْمَلَ عَلَيْهِ عَمَلًا عَلَى النِّصْفِ
(قَالَ:) كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ
يَنْقُلُ الْحِمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ
الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ بَعِيرِهِ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ
نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْإِكْرَاءِ وَلِلَّذِي يَعْمَلُ عَلَيْهِ أَجْرُ
مِثْلِهِ عَلَى صَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهِ
عِوَضًا وَقَدْ سُلِّمَتْ مَنَافِعُهُ لِصَاحِبِ الْبَعِيرِ وَلَمْ
يُسَلِّمْ لَهُ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ
لَهُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمَتَاعَ لِيَبِيعَهُ
فَمَا اكْتَسَبَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ
لِنَفْسِهِ فِيمَا اكْتَسَبَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ
مِثْلِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَعِيرِ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِ
بَعِيرِهِ عِوَضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ.
رَجُلٌ تَكَارَى غُلَامًا لِيَذْهَبَ لَهُ بِكِتَابٍ إلَى بَغْدَادَ
فَقَالَ الْغُلَامُ قَدْ
(15/179)
ذَهَبْتُ بِالْكِتَابِ وَقَالَ الَّذِي
أُرْسِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ لَمْ يَأْتِنِي بِهِ فَعَلَى الْغُلَامِ
الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا يَدَّعِي؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي إبْقَاءَ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ
الْكِتَابَ إلَيْهِ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ
بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَهُ الْأَجْرُ عَلَى الْمُرْسِلِ دُونَ مَنْ
حَمَلَ الْكِتَابَ إلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ الْمُرْسَلُ إلَيْهِ أَعْطَيْتُهُ
أُجْرَةً عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا
لَوْ كَانَ الْمُرْسِلُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي إيفَاءَ الْأَجْرِ، وَإِنْ
أَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَتَى بَغْدَادَ
بِالْكِتَابِ فَلَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى
بِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ إلَى بَغْدَادَ مَعَ
الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ إنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ
بِالْكِتَابِ وَيَأْتِيَ بِالْجَوَابِ فَلَهُ أَجْرُ حِصَّةِ الذَّهَابِ
دُونَ الرُّجُوعِ لِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ أَمْرَهُ
وَلَا عَامِلٍ لَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ مَعَهُ
وَإِذَا عَادَ بِالْكِتَابِ حِينَ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلَ فَلَا أَجْرَ لَهُ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ
مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَهُ مَا يَخُصُّ الذَّهَابَ مِنْ
الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ عَامِلٌ لَهُ كَمَا أَمَرَ بِهِ
فَتَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ بِقَدْرِهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ
الْكِتَابَ هُنَاكَ عِنْدَ أَهْلِ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ
مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ طَعَامًا إلَى بَغْدَادَ فَحَمَلَهُ،
ثُمَّ عَادَ بِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ هُنَاكَ بِنَقْلِ
الطَّعَامِ مِنْ مَكَان وَقَدْ نَقَصَ ذَلِكَ حِينَ عَادَ بِالطَّعَامِ
فَلَمْ يَبْقَ تَسْلِيمُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُنَا
الْأَجْرُ لَهُ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ إذْ لَيْسَ لِلْكِتَابِ حَمْلٌ
وَمُؤْنَةٌ فَلَا يَصِيرُ بِالرُّجُوعِ نَاقِصًا عَمَلَهُ سَوَاءٌ عَادَ
بِالْكِتَابِ أَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِ الْأَمْرِ لَمْ
يَحْصُلْ بِعَمَلِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ
ذَهَبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْأَمْرِ
أَنْ يَصِلَ الْكِتَابُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَيَصِلَ الْجَوَابُ
إلَيْهِ وَحِينَ عَادَ بِالْكِتَابِ صَارَ الْحَالُ كَمَا قَبْلَ ذَهَابِهِ
مِنْ حَيْثُ إنَّ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْأَمْرِ غَيْرُ حَاصِلٍ،
فَأَمَّا إذَا تَرَكَ الْكِتَابَ هُنَاكَ فَبَعْضُ مَقْصُودِهِ حَاصِلٌ؛
لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ إذَا حَضَرَ وَقَفَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ
وَيَبْعَثُ بِالْجَوَابِ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلِحُصُولِ بَعْضِ
الْمَقْصُودِ هُنَاكَ أَلْزَمْنَاهُ حِصَّةَ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّةً إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَلَمْ يَقُلْ أَرْكَبُهَا
بِسَرْجٍ وَلَا إكَافٍ فَجَاءَ بِهَا الْمُكَارِي عُرْيَانَةً فَرَكِبَهُ
بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ فَعَطِبَتْ (قَالَ:) إنْ كَانَ يُرْكَبُ فِي ذَلِكَ
الطَّرِيقِ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ بِإِكَافٍ أَوْ بِسَرْجٍ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُرْكَبُ إلَّا بِسَرْجٍ فَرَكِبَ
بِإِكَافٍ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ
اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ فَإِذَا
خَالَفَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا.
وَلَوْ تَكَارَى مِنْ الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ (وَجُعْفِيٌّ)
قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّ الْقَبِيلَتَيْنِ هِيَ
أَوْ إلَى الْكُنَاسَةِ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّ الْكُنَاسَتَيْنِ أَوْ إلَى
بَجِيلَةَ وَلَمْ يُسَمِّ أَيَّهُمَا هِيَ الظَّاهِرَةُ أَوْ الْبَاطِنَةُ
فَعَلَيْهِ
(15/180)
أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ مَجْهُولٌ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَاسْتِيفَاءُ
الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يُوجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ
وَمِثْلُهُ بُحَارَا إذَا تَكَارَاهَا إلَى السَّهْلَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ
أَيَّ السَّهْلَتَيْنِ هِيَ سَهْلَةِ قُوتٍ أَوْ سَهْلَةِ أَمِيرٍ أَوْ
تَكَارَاهَا إلَى حَسْوَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيَّ الْقَرْيَتَيْنِ.
وَلَوْ تَكَارَى عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِنِصْفِ مَا
يَكْتَسِبُهُ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ
لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ
بِعَمَلِهِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ
لَهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ وَلَمْ يَسْتَأْجِرْهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ
عَطِبَ الْغُلَامُ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ
حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ،
وَإِنْ سَلِمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا
أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ ضَامِنٌ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ
أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِتَمَحُّضِ مَنْفَعَةٍ إذَا
سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُعْتُبِرَ وَجَبَ الْأَجْرُ، وَإِنْ
لَمْ يُعْتَبَرْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ
غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةَ قَبُولِ الْهِبَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ اكْتِسَابٌ مَحْضٌ إذَا سَلِمَ مِنْ
الْعَمَلِ فَهُوَ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ إذَا بَاشَرَهُ
الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِدَفْعِ
الضَّرَرِ عَنْ الْمَوْلَى وَفِيمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لَا حَجْرَ.
وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ عَلَى إنْ بَلَّغَهُ إلَيْهَا فَلَهُ
رِضَاهُ فَبَلَّغَهُ إلَيْهَا فَقَالَ: رِضَائِي عِشْرُونَ دِرْهَمًا
فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَجْرُ
الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَأَبْرَأهُ عَنْ الزِّيَادَةِ،
وَإِنْ تَكَارَاهَا بِمِثْلِ مَا يُكَارِي بِهِ أَصْحَابُهُ أَوْ بِمِثْلِ
مَا يَتَكَارَى بِهِ النَّاسُ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ
الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَمِنْ بَيْنِ
مُسَامَحٍ وَمُسْتَقْضٍ.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ مِنْ
فَارِسَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَيْهِ نَقْدُ الْكُوفَةِ
وَوَزْنُهَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْأَجْرِ هُوَ النَّقْدُ،
وَإِنْ تَأَخَّرَ الْوُجُوبُ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَالْعَقْدُ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ إلَى
وَزْنِ الْكُوفَةِ وَنَقْدِهَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعُرْفِ فِي
تَقْيِيدِ مُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا
عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ
فِيهِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى فَارِسَ وَلَمْ يُسَمِّ مَكَانًا
مَعْلُومًا مِنْهَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
فَقَدْ سُمِّيَ وِلَايَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى
فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعًا مِنْهَا فَالْمُنَازَعَةُ تَتَمَكَّنُ
بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُكَارِي يُطَالِبُهُ بِالرُّكُوبِ إلَى
أَدْنَى ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ وَهُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ إلَى أَقْصَى
تِلْكَ الْوِلَايَةِ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ
التَّسْمِيَةِ وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا إذَا تَكَارَى دَابَّةً إلَى
فَرْغَانَةَ أَوْ إلَى سَعْدٍ.
وَإِنْ تَكَارَى إلَى الرَّيَّ وَلَمْ يُسَمِّ
(15/181)
مَدِينَتَهَا وَلَا رُسْتَاقًا بِعَيْنِهِ
فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ أَيْضًا وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ وَجَعَلَ الرَّيَّ اسْمًا لِلْمَدِينَةِ
خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَارَاهَا إلَى سَمَرْقَنْدَ أَوْ
أُوزْجَنْدَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: اسْمُ الرَّيِّ
يَتَنَاوَلُ الْمَدِينَةَ وَنَوَاحِيَهَا فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ
الْمَقْصَدَ يُمَكِّنُ جَهَالَةً فِيهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ
رَكِبَهَا إلَى أَدْنَى الرَّيِّ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا لَا يُزَادُ
عَلَى مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُكَارِيَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إلَى أَدْنَى
الرَّيِّ فَإِنْ رَكِبَهَا إلَى أَقْصَى الرَّيِّ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهَا
لَا يَنْتَقِضُ مَا مَا سَمَّى لِأَنَّ الْمُسْتَكْرِيَ قَدْ الْتَزَمَ
الْمُسَمَّى إلَى أَقْصَى الرَّيِّ فَلَا يُنْتَقَصُ عَنْهُ وَيُزَادُ
عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَجْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْمُكَارِيَ إذَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إلَى أَدْنَى الرَّيِّ فَلَا
يَصِيرُ رَاضِيًا إلَى أَقْصَى الرَّيِّ وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا إذَا
اسْتَأْجَرَهَا إلَى بُخَارَى فَهُوَ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ بِنَوَاحِيهَا
فَأَوَّلُ حُدُودِ بُخَارَى كَرْمِينِيَةُ وَآخِرُهُ فِرْبَرُ
وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَالتَّخْرِيجُ فِيهِ كَتَخْرِيجِ
مَسْأَلَةِ الرَّيِّ.
وَإِنْ تَكَارَاهَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ وَعَلَى أَنَّهُ
أَدْخَلَهُ بَغْدَادَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَهُ عَشَرَةٌ وَإِلَّا فَلَهُ
دِرْهَمٌ فَهَذَا مِنْ الْجِنْسِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّسْمِيَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ
وَالثَّانِيَةُ فَاسِدَةٌ وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ التَّسْمِيَتَانِ وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْخَيَّاطِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ بِالْكُوفَةِ مِنْ الْغَدَاةِ إلَى
الْعَشِيِّ.
(قَالَ:) يَرُدُّهَا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ
الزَّوَالِ عَشِيٌّ قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {أَنْ سَبِّحُوا
بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] : قَبْلَ الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ فِي
قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] : إنَّ الْغَدَاةَ قَبْلَ
الزَّوَالِ، وَالْعَشِيَّ مَا بَعْدَهُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى أَحَدَ صَلَاتَيْ
الْعِشَاءِ إمَّا الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ» إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ
جَعَلَ الْعَشِيَّ غَايَةً وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ
فَإِنْ رَكِبَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى
بِزَوَالِ الشَّمْسِ فَهُوَ غَاصِبٌ فِي الرُّكُوبِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ
تَكَارَاهَا يَوْمًا رَكِبَهَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى
غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ اسْمٌ لِهَذَا الْوَقْتِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الصَّوْمَ يُقَدَّرُ بِالْيَوْمِ شَرْعًا وَكَانَ مِنْ
طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فِيمَا
إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَوْمًا إلَّا أَنَّ الْأَجِيرَ مَا لَمْ
يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَشْتَغِلُ بِالْعَمَلِ عَادَةً فَتَرَكْنَا
الْقِيَاسَ فِيهِ لِهَذَا وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي اسْتِئْجَارِ
الدَّابَّةِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا لَيْلَةً رَكِبَهَا عِنْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَيَرُدُّهَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّ بِغُرُوبِ
الشَّمْسِ يَدْخُلُ اللَّيْلُ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْفِطْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ
إذَا تَكَارَاهَا نَهَارًا وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -
يَقُولُ: إنَّمَا يَرْكَبُهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَإِنَّ النَّهَارَ اسْمُ الْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ
«قَالَ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةُ النَّهَارِ
عُجْمًا» فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْفَجْرُ وَلَا الْمَغْرِبُ
(15/182)
وَإِنَّمَا سُمِّيَ نَهَارًا لِجَرَيَانِ
الشَّمْسِ فِيهِ كَالنَّهْرِ يُسَمَّى نَهْرًا لِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ
وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ يَعْرِفُ الْفَرْقَ
بَيْنَ الْيَوْمِ وَالنَّهَارِ فَإِنَّ الْعَوَامَّ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ
وَيَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَيْنِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا فَالْجَوَابُ فِي
النَّهَارِ كَالْجَوَابِ فِي الْيَوْمِ، وَإِنْ تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ
يَذْهَبُ عَلَيْهَا إلَى حَاجَتِهِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ إلَّا أَنْ
يُبَيِّنَ الْمَكَانَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ
مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْمَكَانِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
فِي الدَّابَّةِ إذَا هَلَكَتْ وَهِيَ فِي يَدِهِ عَلَى إجَارَةٍ
فَاسِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ
وَلِأَنَّهُ فِي الْوَجْهَيْنِ مُسْتَعْمِلٌ لِلدَّابَّةِ بِإِذْنِ
الْمَالِكِ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الدَّابَّةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
وَقَدْ هَلَكَتْ عِنْدَهُ فَضَمِنَ قِيمَتَهَا رَجَعَ عَلَى الَّذِي
أَجَّرَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ
عَقْدِ الضَّمَانِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ
بِسَبَبِهِ وَلَا يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ؛
لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ يَقَعُ لِمَنْ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ
الضَّمَانُ وَهُوَ الْأَجْرُ وَلَا أَجْرَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى أَحَدٍ
لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْأَجْرُ فَيَكُونُ
الْأَجْرُ لَهُ خَاصَّةً.
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً يَطْحَنُ عَلَيْهَا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يَطْحَنُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ
فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ
الدَّابَّةِ فِي الْمُدَّةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ وَلَا يَضْمَنُ إنْ
عَطِبَتْ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا فَاحِشًا؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ مُخَالِفًا
ضَامِنًا.
وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ وَرَكِبَهَا وَخَالَفَ الْمَكَانَ
الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا إلَيْهِ.
(قَالَ:) الْكِرَاءُ لَازِمٌ لَهُ فِي مَسِيرِهِ قَبْلَ الْخِلَافِ؛
لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَمَا
أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلدَّابَّةِ فِيمَا خَالَفَ وَلَا
أَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لَهَا.
وَإِنْ تَكَارَاهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا إنْسَانًا فَحَمَلَ امْرَأَةً
يُقِيلُهَا بِرَحْلٍ أَوْ بِسَرْجٍ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ فَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ إنْسَانٌ وَهِيَ إنْسَانٌ، وَإِنْ
كَانَتْ ثَقِيلَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الدَّابَّةِ لَا
يُطِيقُ حَمْلَهَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إتْلَافًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ
وَقَدْ تَطَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ وَضَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي
النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ لِأَنَّ النَّقْلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي
الرِّجَالِ مَذْمُومٌ وَفِي النِّسَاءِ مَحْمُودٌ.
وَإِنْ تَكَارَى يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ فَأَرَاهُ الدَّابَّةَ
عَلَى أَرْيِهَا وَقَالَ: ارْكَبْهَا إذَا شِئْتَ فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ
تَنَازَعَا فِي الْكِرَاءِ وَالرُّكُوبِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ
دُفِعَتْ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْآجِرَ
سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ
الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَيْهِ وَعَلَى رَبِّ
الدَّابَّةِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ رَكِبَهَا؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي
اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبَ الْأَجْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ
يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ.
وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى الْحِيرَةِ فِي حَاجَةٍ لَهُ فَقَالَ: دُونَكَ
الدَّابَّةُ
(15/183)
فَارْكَبْهَا كَانَ فِي قَدْرِ مَا
يَرْجِعُ مِنْ الْحِيرَةِ فَقَالَ: لَمْ أَرْكَبْهَا وَلَمْ أَنْطَلِقْ
إلَى الْحِيرَةِ.
(قَالَ:) إذَا حَسِبَهَا فِي قَدْرِ مَا يَذْهَبُ إلَى الْحِيرَةِ
وَيَرْجِعُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَذْهَبْ؛ لِمَا بَيَّنَّا
أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْحِيرَةِ
وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى
أَرْيِهَا فِي الْبَيْتِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَقَالَ: لَمْ أَذْهَبْ
بِهَا إنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إلَى الْحِيرَةِ فَقَالَ: رَجَعْتُ
وَلَمْ أَذْهَبْ لَمْ يُصَدَّقْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ تَوَجُّهَهُ إلَى
الْحِيرَةِ وَمَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ مِقْدَارُ مَا يَذْهَبُ
وَيَجِيءُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ أَتَى الْحِيرَةَ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ
رَجَعْتُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ بِهِ الظَّاهِرُ، وَإِنْ رَدَّهَا
مِنْ سَاعَةٍ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَحِقُّ رَبُّ الدَّابَّةِ الْأَجْرَ بِالظَّاهِرِ
وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ
قُلْنَا اسْتِحْقَاقُهُ بِالْعَقْدِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ؛
لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا بِالظَّاهِرِ
وَلِأَنَّهُ بِهَذَا الظَّاهِرِ يَدْفَعُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ إنِّي
رَجَعْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْحِيرَةَ.
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنْ
يُعْطِيَهُ الْأَجْرَ إذَا رَجَعَ مِنْ بَغْدَادَ فَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ
بِبَغْدَادَ فَالْأَجْرُ إلَى بَغْدَادَ دَيْنٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ، ثُمَّ انْتَقَضَتْ
الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ وَسَقَطَ الْأَجَلُ أَيْضًا فَكَانَ أَجْرُ ذَلِكَ
الْمِقْدَارِ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
(15/184)
[بَابُ انْتِقَاضِ الْإِجَارَةِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي
الْغَرْزِ إنَّ النَّاسُ قَائِلُونَ غَدًا مَاذَا قَالَ عُمَرُ، وَإِنَّ
الْبَيْعَ عَنْ صَفْقَةٍ، أَوْ خِيَارٍ وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ) ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِجَارَةَ
يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْخِيَارُ
كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ
الْإِجَارَةَ مِنْ الْمَوَاعِيدِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ نَوْعَانِ لَازِمٌ
بِنَفْسِهِ وَغَيْرُ لَازِمٍ إذَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ
الصَّفْقَةَ هِيَ اللَّازِمَةُ النَّافِذَةُ يُقَالُ هَذِهِ صَفْقَةٌ لَمْ
يَشْهَدْهَا خَاطِبٌ إذَا أُنْفِذَ أَمْرٌ دُونَ رَأْيِ رَجُلٍ فَيَكُونُ
حُجَّةً عَلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ
خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي كُلِّ بَيْعٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ
بِالْمَشْرُوطِ إذَا كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا شَرْعًا فَلَا خِلَافَ
بَيْنَنَا. فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ عَقْدُ
الْإِجَارَةِ إذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ لَازِمَةٌ كَالْبَيْعِ إلَّا أَنَّ
عِنْدَنَا قَدْ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ بِالْعُذْرِ، وَعِنْدَهُ لَا
يَفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ
الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ حُكْمًا فَإِنَّ الْعَقْدَ
عَلَيْهَا كَالْعَقْدِ عَلَى الْعَيْنِ فَكَمَا لَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ
إلَّا بِعَيْبٍ. فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَعِنْدَنَا جَوَازُ هَذَا
الْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ وَلُزُومُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى
الْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الضَّرَرِ أَخَذْنَا فِيهِ
بِالْقِيَاسِ وَقُلْنَا الْعَقْدُ فِي حُكْمِ الْمُضَافِ فِي حَقِّ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْإِضَافَةُ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ
تَمْنَعُ اللُّزُومَ فِي الْحَالِ كَالْوَصِيَّةِ، ثُمَّ الْفَسْخُ
بِسَبَبِ الْعَيْبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ لَا لِعَيْنِ الْعَيْبِ. فَإِذَا
تَحَقَّقَ الضَّرَرُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي
الْفَسْخِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَيْبُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (أَلَا
تَرَى) أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ فَسَكَنَ مَا
بِهِ مِنْ الْوَجَعِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ، أَوْ
اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْطَعَ يَدَهُ لِلْآكِلَةِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي
ذَلِكَ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَهْدِمَ بِنَاءً لَهُ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِضَرَرٍ
يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ مِنْ حَيْثُ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ
بَدَنِهِ أَوْ إتْلَافِ مَا لَهُ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِلْمَنْفَعَةِ
لَا لِلضَّرَرِ، وَقَدْ يَرَى
(16/2)
الْإِنْسَانُ الْمَنْفَعَةَ فِي شَيْءٍ،
ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ الضَّرَرُ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَّخِذَ لَهُ وَلِيمَةً، ثُمَّ بَدَا
لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ أَنْ يُلْزِمَهُ اتِّحَادَ
الْوَلِيمَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ
الضَّرَرِ فِي إتْلَافِ مَالِهِ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ لِلْمَنْفَعَةِ
لَا لِضَرَرٍ إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ مِنْ الْعُذْرِ فِي اسْتِئْجَارِ
الْبَيْتِ أَنْ يَنْهَدِمَ الْبَيْتُ، أَوْ يُهْدَمَ مِنْهُ مَا لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ نَوْعِ الْعَيْبِ فِي
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ بِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ تَقَبُّضَ الدَّارِ الْمَنَافِعَ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ
فَحُصُولُ هَذَا الْعَارِضِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ كَحُصُولِهِ فِي يَدِ
الْآجِرِ فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَبِيعَهُ فَلَيْسَ هَذَا
بِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا
قَدْرَ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحَجْرُ عَلَى نَفْسِهِ
عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ
بَاعَهُ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الرِّوَايَةِ أَنَّ
الْبَيْعَ مَوْقُوفٌ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَيْسَ
لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى
الْمُؤَاجِرِ دَيْنٌ فَحُبِسَ فِي دَيْنِهِ فَبَاعَهُ فَهَذَا عُذْرٌ؛
لِأَنَّ عِلَّتَهُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْ ذَلِكَ
بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْحَبْسُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ عَنْ
الْعَيْنِ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ
الْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقٌّ فِي مَالِيَّتِهِ
فَيَكُونُ الْمَدْيُونُ مَجْبُورًا عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ
مَالِيَّتِهِ مَحْبُوسًا لِأَجْلِهِ إذَا امْتَنَعَ؛ فَلِهَذَا كَانَ
ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، ثُمَّ ظَاهِرُ مَا يَقُولُ هُنَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُهُ بِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى
الْقَاضِي لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ وَبَيْعَهُ وَهُوَ
الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى
إمْضَاءِ الْقَاضِي كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.
وَإِنْ انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْزِلٌ آخَرُ
فَأَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ؛
لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ
فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَكْتَرِيَ مَنْزِلًا آخَرَ أَوْ
يَشْتَرِيَ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ الْمِصْرِ؛
لِأَنَّهُ لَا يُخْرِجُ الْمَنْزِلَ مَعَ نَفْسِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ
فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَنْزِلِ فِي يَدِ
الْمُسْتَأْجِرِ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا بَيْتًا فِي
السُّوقِ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي فَلَحِقَ الْمُسْتَأْجِرَ دَيْنٌ، أَوْ
أَفْلَسَ فَقَامَ مِنْ السُّوقِ فَهَذَا عُذْرٌ وَلَهُ أَنْ يُنْقِضَ
الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلِانْتِفَاعِ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ
بِإِيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ مَا تَرَكَ تِلْكَ التِّجَارَةَ، أَوْ
أَفْلَسَ ضَرَرًا لَمْ يَلْزَمْهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ إذَا
أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ
الِامْتِنَاعُ مِنْ السَّفَرِ تَضَرَّرَ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ
بِالْعَقْدِ، وَبَعْدَ خُرُوجِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ
بِالْبَيْتِ فَإِنْ قَالَ رَبُّ الْبَيْتِ إنَّهُ يَتَعَلَّلُ وَلَا
يُرِيدُ الْخُرُوجَ حَلَّفَ الْقَاضِي الْمُسْتَأْجِرَ عَلَى ذَلِكَ؛
لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ مَا
كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ التِّجَارَةِ فِي الْحَانُوتِ إلَّا إذَا
أَرَادَ
(16/3)
التَّحَوُّلَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.
وَقِيلَ بِحُكْمِ الْقَاضِي حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ رَآهُ قَدْ
اسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ قَبِلَ قَوْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] وَقِيلَ
يَقُولُ لَهُ مَعَ مَنْ يَخْرُجُ فَالْإِنْسَانُ لَا يُسَافِرُ إلَّا مَعَ
رُفْقَةٍ، ثُمَّ يَسْأَلُ رُفَقَاءَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ فُسِخَ
الْعَقْدُ وَخَرَجَ الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ قَدْ بَدَا لِي فِي
ذَلِكَ وَخَاصَمَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُ
الْمُسْتَأْجِرَ بِاَللَّهِ إنَّهُ كَانَ فِي خُرُوجِهِ قَاصِدًا
لِلسَّفَرِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْبَيْتِ يَدَّعِي بُطْلَانَ الْفَسْخِ
لِعَدَمِ الْعُذْرِ، وَذَلِكَ يَنْبَنِي، وَمَا فِي ضَمِيرِهِ فِي ضَمِيرِ
الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ
يَمِينِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ إلَى
تِجَارَةٍ أُخْرَى فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرًا
لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ تَرُوجُ نَوْعُ التِّجَارَةِ فِي
وَقْتٍ وَتَبُورُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا، وَلَكِنْ
وَجَدَ بَيْتًا هُوَ أَرْخَصُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ
اشْتَرَى مَنْزِلًا وَأَرَادَ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ إلَّا مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْتِزَامُ
الْأَجْرِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ
بِالْفَسْخِ هُنَا الرِّبْحُ لَا دَفْعُ الضَّرَرِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَيْنِهَا إلَى بَغْدَادَ فَبَدَا
لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ
ضَرَرًا فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ تَحَمُّلُ مَشَقَّةِ السَّفَرِ.
وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَوْلَا قَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّفَرُ
قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» لَقُلْتُ الْعَذَابُ قِطْعَةٌ مِنْ السَّفَرِ،
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَنَّهُ يَتَعَلَّلُ فَالسَّبِيلُ
لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لَهُ اصْبِرْ فَإِنْ خَرَجَ فَقَادَ الدَّابَّةَ
مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ. فَإِذَا
قَادَهَا مَعَهُ فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ
الْخُرُوجَ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ لَهُ، أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ فَرَجَعَ،
وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ، أَوْ لَزِمَهُ غُرْمٌ، أَوْ خَافَ أَمْرًا، أَوْ
عَثَرَتْ الدَّابَّةُ، أَوْ أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا يُسْتَطَاعُ الرُّكُوبُ
مَعَهُ فَبَعْضُ هَذَا عَيْبٌ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عُذْرٌ
لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْخُرُوجِ وَلَا فَائِدَةَ
لِلْمُؤَاجِرِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ الْمُسْتَأْجِرُ.
وَإِنْ عَرَضَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشُّخُوصَ
مَعَ دَابَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ
بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْخُرُوجِ لَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ الدَّابَّةِ، وَأَنَّهُ يُرْسِلُ مَعَهُ
رَسُولًا يَتْبَعُ الدَّابَّةَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَسَهُ غَرِيمُهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ إذَا امْتَنَعَ رَبُّ الدَّابَّةِ مِنْ
الْخُرُوجِ فَيَكُونُ هَذَا عُذْرًا، وَإِنْ مَرِضَ فَهُوَ عُذْرٌ لَهُ؛
لِأَنَّهُ يَقُولُ غَيْرِي لَا يُشْفِقُ عَلَى دَابَّتِي وَلَا يَقُومُ
بِتَعَاهُدِهَا كَقِيَامِي. فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ
لِمَرَضٍ يَلْحَقُهُ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ
بِالْعَقْدِ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ إذَا
اكْتَرَتْ الْمَرْأَةُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ
فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَدَتْ قَبْل أَنْ تَطُوفَ
(16/4)
لِلزِّيَارَةِ فَهَذَا عُذْرٌ
لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ النِّفَاسِ،
وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ الْمُكَارِي بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ
غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ
كَانَ الْبَاقِي مُدَّةَ النِّفَاسِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ عَشَرَةَ
أَيَّامٍ، أَوْ أَقَلَّ فَهَذَا لَيْسَ بِعُذْرٍ لِلْمُكَارِي؛ لِأَنَّ مَا
بَقِيَ مِثْلُ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهُ عَادَةً
وَكَانَ الْمُكَارِي مُلْتَزِمًا ضَرَرَ التَّأْخِيرِ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ
عَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهَذَا عُذْرٌ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ فَاتَ وَلَا سَبَبَ لِلْفَسْخِ أَقْوَى مِنْ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرٌ؛
لِأَنَّ الْمُكَارِيَ الْتَزَمَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ قَادِرٌ
عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بِدَابَّةٍ أُخْرَى يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا.
وَلَوْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ
الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا سَارَ وَيَبْطُلُ عَنْهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ
لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ.
وَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْإِبِلِ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ
أَنْ يَرْكَبَهَا عَلَى حَالَةٍ حَتَّى يَأْتِيَ مَكَّةَ وَذُكِرَ فِي
كِتَابِ الشُّرُوطِ أَنَّ هَذَا إذَا كَانَ فِي مَفَازَةٍ بِحَيْثُ لَا
يَقْدِرُ بِهِ عَلَى سُلْطَانٍ وَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ وَهُوَ
الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْإِجَارَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ
لِدَفْعِ الضَّرَرِ يَجُوزُ إيفَاؤُهَا بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ
الِانْتِقَاضِ لِدَفْعِ الضُّرِّ. وَإِذَا كَانَ فِي الْمَفَازَةِ لَوْ
قُلْنَا بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الرُّكُوبُ
فَيَتَضَرَّرُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْمَشْيِ وَلَا يَقْدِرُ
عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِصْرَ فَهُوَ لَا
يَتَضَرَّرُ بِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ وَمَوْتُ أَحَدِ الْمُتَكَارِيَيْنِ
مُوجِبٌ انْتِقَاضَ الْعَقْدِ.
فَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ لَمْ يَضْمَنْ إنْ عَطِبَتْ مِنْ رُكُوبِهِ
وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ
لَمَّا بَقِيَ لِلتَّعَذُّرِ صَارَ الْحَالُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَارِي
كَالْحَالِ قَبْلَهُ. فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ دَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي؛
لِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ الْعُذْرِ قَدْ زَالَ وَبَقِيَتْ الدَّابَّةُ فِي
يَدِهِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ وَهُوَ عَيْبٌ فَدَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي
فَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْقَاضِي الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ
إمَّا؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهَدًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، أَوْ؛
لِأَنَّهُ يَرَى النَّظَرَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ
أَجَّرَهَا مِنْ غَيْرِهِ لِيَرُدَّهَا إلَى الْكُوفَةِ وَصَاحِبُهَا
رَضِيَ بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ فَالْأَوْلَى لَهُ إذَا كَانَ
الْمُسْتَأْجِرُ ثِقَةً أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ الْكِرَاءَ إلَى الْكُوفَةِ،
وَإِنْ رَأَى النَّظَرَ فِي بَيْعِهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْبَعْثَ
بِثَمَنِهَا إلَى الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْفَعَ وَأَيْسَرَ لَهُمْ
فَإِنَّ الثَّمَنَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ
الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهَا شَيْئًا لَمْ يُحْسَبْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ
أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَيُحْسَبُ لَهُ إذَا
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ
فِي حَقِّ الْغَائِبِ فَالْإِنْفَاقُ بِأَمْرِهِ كَالْإِنْفَاقِ بِأَمْرِ
صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ الْقَوْلُ فِيمَا
يَدَّعِي مِنْ الْإِنْفَاقِ.
فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ رُدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ،
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَوْفِيَةِ الْكِرَاءِ رُدَّ
عَلَيْهِ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ
(16/5)
دَيْنَهُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا
مَالُ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ مَحْبُوسَةٌ فِي يَدِهِ إلَى أَنْ
يُرَدَّ عَلَيْهِ مَا أَنْفَقَ بِأَمْرِ الْقَاضِي أَوْ بِمَا عَجَّلَ مِنْ
الْكِرَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ أَخْذِهَا وَبَيْعِهَا حَتَّى
يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ لَهُ فَلِهَذَا قَبِلَ بَيِّنَتَهُ عَلَى
ذَلِكَ وَنَفَذَ قَضَاؤُهُ عَلَى الْوَرَثَةِ مَعَ غَيْبَتِهِمْ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ أَوْ أَصَابَهَا
نَزٌّ لَا تَصْلُحُ مَعَهُ الزِّرَاعَةُ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ
تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ
يَتْرُكَ الزَّرْعَ أَوْ افْتَقَرَ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى مَا يَزْرَعُ
فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّ الزَّارِعَ فِي الْحَالِ مُتْلِفٌ لِبَذْرِهِ
وَلَا يَدْرِي أَيَحْصُلُ الْخَارِجُ، أَوْ لَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ
إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيفَاءِ الْعَقْدِ إلَّا بِإِتْلَافِ
مَالِهِ فَهُوَ عُذْرٌ لَهُ، وَإِنْ وَجَدَ أَرْضًا أَرْخَصَ مِنْهَا، أَوْ
أَجْوَدَ لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ بِالْفَسْخِ يَقْصِدُ هُنَا
تَحْصِيلَ الرِّبْحِ لَا دَفْعَ الضَّرَرِ.
وَإِنْ مَرِضَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ
بِنَفْسِهِ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَعْمَلُ أُجَرَاؤُهُ
فَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا الْبَقَاءُ يُمْكِنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا قَصَدَهُ بِالْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِيَتِيمٍ أَجَّرَهَا وَصِيُّهُ فَكَبِرَ
الْيَتِيمُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ
الْوَصِيِّ عَلَى مَالِهِ كَعَقْدِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ
فِي إيفَاءِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
أَجَّرَ نَفْسَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كَدٌّ وَتَعَبٌ وَهُوَ يَتَضَرَّرُ
بِإِيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِخِدْمَةٍ أَوْ لِعَمَلٍ آخَرَ فَمَرِضَ
الْعَبْدُ فَهَذَا عُذْرٌ فِي جَانِبِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلِأَنَّهُ
يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ
رَبُّ الْعَبْدِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ
عَلَيْهِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يُكَلِّفُهُ مِنْ
إيفَاءِ الْعَمَلِ إلَّا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَهُوَ يَرْضَى بِذَلِكَ،
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دُونَ حَقِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا وَاحِدٌ
مِنْهُمَا حَتَّى بَرِئَ الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لَازِمَةٌ
لِزَوَالِ الْعُذْرِ وَيُطْرَحُ عَنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ
وَهُوَ مَا يَتَعَطَّلُ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبَقَ الْعَبْدُ، أَوْ كَانَ
سَارِقًا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ إمَّا لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ،
وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ فَسْخُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ
فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ أَرَادَ
الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُسَافِرَ وَيَتْرُكَ ذَلِكَ الْعَمَلَ فَهُوَ
عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى السَّفَرِ
لِحَاجَتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ.
وَإِنْ أَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ
هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا
الْتَزَمَهُ بِالْعَبْدِ وَهُوَ تَرْكُ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ
إلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمُسْتَأْجِرُ أَجِيرًا
أَرْخَصَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا عُذْرًا؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَحْصِيلَ
الرِّبْحِ لَا دَفْعَ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ حَاذِقٍ
بِذَلِكَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ
الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ لَا تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ
الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فَاسِدًا فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ
حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ
(16/6)
الْعَيْبِ تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ
الْمُعَاوَضَةِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ
لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجُلَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا انْتَقَضَتْ
حِصَّتُهُ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَجِّرَيْنِ اعْتِبَارًا
لِمَوْتِ أَحَدِهِمَا بِمَوْتِهِمَا فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا.
وَإِنْ ارْتَدَّ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ
وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ
بِمَوْتِهِ حَكَمَ حِينَ يُقْضَى بِلَحَاقِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ
حَقِيقَةً، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمَا فِي ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا،
وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ شَيْءٌ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ فِيمَا
بَقِيَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ اللِّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ
يَتَّصِلْ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَيْبَةِ فَلَا يُوجِبُ
انْفِسَاخَ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرِ. فَإِذَا
زَالَ بِرُجُوعِهِ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لَازِمَةً فِيمَا بَقِيَ مِنْ
الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْإِجَارَةِ]
ِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الْإِجَارَةِ فِي
مَبْلَغِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَالْمُدَّعِي هُوَ
الْمُؤَاجِرُ أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِثْلِ مَا
ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي وَالْآخَرُ بِأَقَلَّ، أَوْ أَكْثَرَ لَا تُقْبَلُ
الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَمِنْ
أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ هَذَا قَبْلَ
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ
بِالْعَقْدِ وَمَعَ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْبَدَلِ لَا
يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ فَالْحَاجَةُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْضَى بِالْأَقَلِّ كَمَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ
إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي سِتَّةً وَشَهِدَ بِهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ
وَالْآخَرُ بِخَمْسَةٍ (قَالَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي
أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا هُنَا؛ لِأَنَّ
الْأُجْرَةَ بَدَلٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ
فَيَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَ شَهَادَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا
بَيِّنَةٌ، وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى الْإِجَارَةِ وَاخْتَلَفَا فِي
الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ تَحَالَفَا، أَوْ تَرَادَّا
لِاحْتِمَالِ الْعَقْدِ الْفَسْخَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ دَابَّةٌ
فَقَالَ الْمُسْتَكْرِي مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةٍ،
وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ إلَى الصَّرَاةِ وَالصَّرَاةِ الْمُنَصِّفِ
تَحَالَفَا، وَبَعْدَمَا حَلَفَا أَنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِأَحَدِهِمَا
أُخِذَتْ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ أَحَقُّ
بِالْعَمَلِ بِهَا مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا
بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّابَّةِ عَلَى الْآجِرِ
وَبَيِّنَةِ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى فَضْلِ الْمَسِيرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا إلَى بَغْدَادَ
بِاثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْمَكَانِ
وَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْأَجْرِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ
الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّهُ
يُثْبِتُ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْأَجْرُ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ،
وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ
(16/7)
الدَّعْوَى دُونَ الْإِقْرَارِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا إلَى بَغْدَادَ فَقَالَ قَدْ أَعَرْتَنِي
الدَّابَّةَ وَقَالَ صَاحِبُهَا بَلْ اكْتَرَيْتُهَا مِنْكَ بِدِرْهَمٍ
وَنِصْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا -
أَجْرَ أَمَّا الضَّمَانُ فَلِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ
رَكِبَهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهَا، وَأَمَّا - الْأَجْرُ فَلِأَنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ مُنْكِرٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْمُؤَاجِرُ شَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ
أَحَدُهُمَا بِدِرْهَمٍ وَالْآخَرُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى
لَهُ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا
وَمَعْنًى وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُنْتَهًى
فَيُقْضَى بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ
قَوْلَ مَنْ يَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّهُ يُقْضَى
بِالْأَقَلِّ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُنَاكَ الشَّاهِدَانِ مَا
اتَّفَقَ عَلَى شَيْءٍ لَفْظًا فَالْخَمْسَةُ غَيْرُ السِّتَّةِ
وَعِنْدَهُمَا الْقَضَاءُ بِالْأَقَلِّ بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَقَةِ فِي
الْمَعْنَى وَبِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْمُدَّعِي مُكَذِّبٌ أَحَدَهُمَا
وَهُنَا اتَّفَقَا الشَّاهِدَانِ عَلَى الدِّرْهَمِ لَفْظًا فَالْمُدَّعِي
يَدَّعِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا آخَرَ مَعَ ذَلِكَ وَهُوَ
نِصْفُ دِرْهَمٍ وَأَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ فَلَمْ
يَشْهَدْ بِهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا لَهُ؛
فَلِهَذَا أَقْضَيْنَا لَهُ بِالدِّرْهَمِ.
وَلَوْ رَكِبَ رَجُلًا دَابَّةَ رَجُلٍ إلَى الْحِيرَةِ فَقَالَ رَبُّ
الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتَهَا إلَى الْجِبَايَةِ بِدِرْهَمٍ فَجَاوَزْتَ
ذَلِكَ وَقَالَ الَّذِي رَكِبَ أَعَرْتَنِيهَا وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ
فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ
فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الدَّابَّةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَكْرَاهُ إلَى
الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ إكْذَابٌ
مِنْهُ لِشُهُودِهِ فَإِنَّهُ ادَّعَى الْإِكْرَاءَ إلَى الْجِبَايَةِ.
وَإِنْ ادَّعَى رَبُّ الدَّابَّةِ أَنَّهُ أَكْرَاهَا إلَى السَّالِحِينَ
بِدِرْهَمِ وَنِصْفٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَآخَرُ شَهِدَ
أَنَّهُ أَكْرَاهَا إلَى السَّالِحِينَ بِدِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ
عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ إذَا كَانَ قَدْ رَكِبَهَا؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ
اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لَفْظًا وَالْمُدَّعِي يَدَّعِيهِ
أَيْضًا.
وَلَوْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ تَكَارَيْتُهَا مِنْكَ إلَى الْقَادِسِيَّةِ
بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ بَلْ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فِي
السَّوَادِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِدِرْهَمٍ، وَقَدْ رَكِبَهَا
إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ فَصَارَ
ضَامِنًا مَعْنَاهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُنْكِرُ الْإِذْنَ لَهُ فِي
الرُّكُوبِ فِي طَرِيقِ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ رَكِبَ فَصَارَ ضَامِنًا،
وَإِنَّمَا ادَّعَى رَبُّ الدَّابَّةِ الْعَقْدَ عَلَى الرُّكُوبِ فِي
طَرِيقٍ آخَرَ وَلَمْ يَرْكَبْ الْمُسْتَأْجِرُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ
فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِذَلِكَ.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَكْرَاهُ دَابَّتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا إلَى
بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ. وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّتَيْنِ بَلْ هَذِهِ
مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُمَا لَهُ
إلَى بَغْدَادَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إذَا كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِمَا سَوَاءً،
وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هُمَا لَهُ إلَى بَغْدَادَ بِعَشَرَةٍ؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُثْبِتُ بَيِّنَةَ الزِّيَادَةِ
فِي حَقِّهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الدَّابَّتَيْنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَكْرَاهُ
أَحَدَيْهِمَا بِعَيْنِهَا بِدِينَارٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ
الْمُسْتَأْجِرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
(16/8)
اسْتَكْرَاهُمَا جَمِيعًا بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ فَلَهُ دَابَّتَانِ بِدِينَارٍ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ
جِنْسَ الْأَجْرِ هُنَا مُخْتَلِفٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ
بِبَيِّنَتِهِ حَقَّهُ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَةِ قَوْلِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ جِنْسُ الْأَجْرِ
مُتَّحِدٍ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِرَبِّ
الدَّابَّةِ إلَى الْإِثْبَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ
الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْعَقْدِ فِي الدَّابَّةِ الْأُخْرَى
وَبَيِّنَتُهُ تُثْبِتُ ذَلِكَ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ تَنْفِي
فَالْمُثْبَتُ أَوْلَى.
وَإِنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ تَكَارَاهَا
إلَى بَغْدَادَ بِدِينَارٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ صَاحِبُهَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَكْرَاهَا إيَّاهُ إلَى الْبَصْرَةِ بِعِشْرِينَ
دِرْهَمًا، وَقَدْ رَكِبَهَا إلَى بَغْدَادَ قَضَيْتُ عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ
دِرْهَمًا وَنِصْفِ دِينَارٍ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْأَجْرِ لَمَّا اخْتَلَفَ
فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ، وَقَدْ أَثْبَتَ رَبُّ
الدَّابَّةِ بِبَيِّنَةٍ إلَى الْبَصْرَةِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا
وَأَثْبَتَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَيِّنَةٍ الْعَقْدَ مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى
بَغْدَادَ بِنِصْفِ دِينَارٍ؛ فَلِهَذَا قُضِيَ بِهِمَا.
وَإِنْ ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الْإِجَارَةَ وَجَحَدَهَا صَاحِبُ
الدَّابَّةِ فَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا إلَى
بَغْدَادَ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا
وَيَحْمِلَ عَلَيْهَا هَذَا الْمَتَاعَ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَدَّعِي
كَذَلِكَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي
مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ
شَاهِدَيْهِ فَإِنْ (قِيلَ) أَلَيْسَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى
الرُّكُوبِ لَفْظًا وَمَعْنًى وَيُفْرِدُ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ
وَهُوَ حَمْلُ الْمَتَاعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِمَا اتَّفَقَ
عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ قُلْنَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ
الدَّابَّةِ لَا عَيْنُ الرُّكُوبِ فَالرُّكُوبُ فِعْلُ الرَّاكِبِ
وَحَمْلُ الْمَتَاعِ كَذَلِكَ فِعْلُهُ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِلْكُ
رَبِّ الدَّابَّةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ
فِيمَا شَهِدَ بِهِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمَا لَفْظًا
بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ وَنِصْفٍ مَعَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاجَةُ
إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ
اخْتِلَافِهِمَا، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا فِي حُمُولَتَيْنِ؛ لِأَنَّ
الْمُدَّعِيَ يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ.
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ وَجَحَدَ
الصَّبَّاغُ ذَلِكَ فَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ لِيَصْبُغَهُ
أَحْمَرَ بِدِرْهَمٍ. وَقَالَ الْآخَرُ لِيَصْبُغَهُ أَصْفَرَ فَقَدْ
اخْتَلَفَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الثَّوْبِ وَالْأَصْفَرِ
مِنْهُ غَيْرِ الْأَحْمَرِ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا أَحَدَ
الشَّاهِدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ مَا يَضْمَنُ فِيهِ الْأَجِيرُ]
ُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ سَلَّمَ إلَى قَصَّارٍ ثَوْبًا
فَدَقَّهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَتَخَرَّقَ، أَوْ عَصَرَهُ فَتَخَرَّقَ، أَوْ
جَعَلَ فِيهِ النُّورَةَ، أَوْ وَسَمَهُ فَاخْتَرَقَ فَهُوَ ضَامِنٌ
لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ
(16/9)
الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا
جَنَتْ يَدُهُ فَإِنْ كَانَ أَجِيرُ الْمُشْتَرَكِ الْقَصَّارَ فَعَلَ
ذَلِكَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ
الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا
بِالْخِلَافِ وَلَمْ يُخَالِفْ، ثُمَّ عَمَلُهُ كَعَمَلِ الْأُسْتَاذِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأُسْتَاذَ يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْأَجْرُ فَيَكُونُ
الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ الْقَصَّارِ، أَوْ سَرَقَ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا،
وَقَدْ بَيَّنَّا.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا وَضَعَ
الْقَصَّارُ السِّرَاجَ فِي الْحَانُوتِ فَاحْتَرَقَ بِهِ الثَّوْبُ مِنْ
غَيْرِ فِعْلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ
التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَضْمَنُ
بِهِ الْحَرْقُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَلَا
يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ إطْفَائِهِ.
وَ (قَالَ) فِي الصَّبَّاغِ يَصْبُغُ الثَّوْبَ أَحْمَرَ فَيَقُولُ رَبُّ
الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ بِأَصْفَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ؛
لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ
قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثَوْبَهُ وَضَمِنَ
لِلصَّبَّاغِ مَا زَادَ عَلَى الْعُصْفُرِ فِي ثَوْبِهِ؛ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ فِيمَا صَبَغَهُ بِهِ حِينَ لَمْ يَثْبُتْ إذْنُ
صَاحِبِ الثَّوْبِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ أَسْوَدَ
فَاخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ لِلصَّبَّاغِ عَلَيْهِ شَيْءٌ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْغَصْبِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَلَّاحِ إذَا أَخَذَ
الْأَجْرَ فَإِنْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ رِيحٍ، أَوْ مَوْجٍ، أَوْ
شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهَا أَوْ جَبَلٍ صَدَمَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى
الْمَلَّاحِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَإِنْ غَرِقَتْ
مِنْ مَدِّهِ، أَوْ مُعَالَجَتِهِ أَوْ جَذْفِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ
هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَالْمَلَّاحُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَإِنْ
كَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ الطَّعَامُ وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الطَّعَامِ فَنُقِضَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ
يَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا
يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ
فَدَخَلَ الْمَاءُ فِيهَا فَأَسَدَهُ.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْمَلَّاحِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَإِلَّا
فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ
الطَّعَامِ فِي السَّفِينَةِ أَوْ وَكِيلُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى
الْمَلَّاحِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَالِفْ مَا أُمِرَ بِهِ
وَيَصْنَعُ شَيْئًا مِمَّا يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ
الْمَتَاعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالْعَمَلُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ
بِنَفْسِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْمَلَّاحِ بِخِلَافِ مَاذَا لَمْ
يَكُنْ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَهُ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ
مُسَلَّمًا وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ رَدَّ الْمَوْجُ السَّفِينَةَ إلَى
الْمَوْضِعِ الَّذِي حُمِلَ الطَّعَامُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ
الطَّعَامِ مَعَهُ فَلَا أَجْرَ لِلْمَلَّاحِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ
الطَّعَامِ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا صَارَ؛
لِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ صَارَ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ وَيُقَرَّرُ الْأَجْرُ
بِحَبْسِهِ. فَأَمَّا إذَا خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَهَذَا الْعَمَلُ
لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ بَلْ يَكُونُ الْعَامِلُ
فِيهِ مُتَعَدِّيًا خَاصًّا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ.
وَإِذَا حَجَمَ الْحَجَّامُ بِأَجْرٍ، أَوْ بَزَغَ الْبَيْطَارُ، أَوْ
حَقَنَ الْحَاقِنُ بِأَجْرٍ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا بِأَمْرِهِ أَوْ بَطَّأَ
قُرْحَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ
(16/10)
عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ
فَخَرَقَ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَمَلُ السَّلِيمُ
عَنْ الْعَيْبِ، وَذَلِكَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ
بِالْعَقْدِ وَهُنَا الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِجِدِّهِ
لَا عَمَلٌ غَيْرُ سَارِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ
فَالْجُرْحُ فَتْحُ بَابِ الرُّوحِ وَالْبُرْءُ بَعْدَهُ بِقُوَّةِ
الطَّبِيعَةِ عَلَى دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي
مَقْدُورِ الْبَشَرِ فَلَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ،
وَإِنَّمَا الَّذِي فِي وُسْعِهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِجِدِّهِ، وَقَدْ
أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يُخَالِفَ لِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ
أَوْ يَفْعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا حِينَئِذٍ، تَوْضِيحُ
الْفَرْقِ أَنَّ السِّرَايَةَ لَا تَقْتَرِنُ بِالْجُرْحِ، وَلَكِنَّهُ
يَكُونُ بَعْدَهَا بِزَمَانِ ضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ
الْجِرَاحَةِ وَتَوَالِي الْآلَامِ عَلَى الْمَجْرُوحِ.
وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ
وَيَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِ الْعَمَلِ. فَأَمَّا بِخِرَقِ الثَّوْبِ يَكُونُ
مُقْتَرِنًا بِالدَّقِّ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْعَمَلُ مِنْ ضَمَانِ
الْقَصَّارِ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ بِعَمَلِهِ؛ لِأَنَّ
عَمَلَهُ مَضْمُونٌ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ، وَلَوْ وَطْئًا
الْأَجِيرُ الْخَاصُّ لِلْقَصَّارِ عَلَى الثَّوْبِ مِمَّا لَا يُوطَأُ
عَلَيْهِ فِي دَقِّهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ
غَيْرُ مَأْذُونٍ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فِي الْوَطْءِ عَلَى هَذَا
الثَّوْبِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا
يُوطَأُ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي
الْوَطْءِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ
كَانَ الثَّوْبُ وَدِيعَةً عِنْدَ الْقَصَّارِ فَالْأَجِيرُ ضَامِنٌ،
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوطَأُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ
فِي بَسْطِهِ وَالْوَطْءِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ
إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِي بَيَانِ الْقِصَارَةِ دُونَ
وَدَائِعِ النَّاسِ عِنْدَهُ.
وَلَوْ حَمَلَ الْإِنْسَانُ حِمْلًا فِي بَيْتِ الْقَصَّارِ مِنْ ثِيَابِ
الْقِصَارَةِ فَعَثَرَ وَسَقَطَ فَتَخَرَّقَ بَعْضُهَا كَانَ ضَمَانُ
ذَلِكَ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا
الْعَمَلِ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ
وَلَوْ دَخَلَ بِنَارِ السِّرَاجِ بِأَمْرِ الْقَصَّارِ فَوَقَعَتْ
شَرَارَةٌ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ الْقِصَارَةِ، أَوْ وَقَعَ السِّرَاجُ مِنْ
يَدِهِ فَأَصَابَ دُهْنُهُ ثَوْبًا مِنْ الْقِصَارَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى
الْأُسْتَاذِ دُونَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي
إدْخَالِ النَّارِ بِالسِّرَاجِ، وَكَذَلِكَ أَجِيرٌ لِرَجُلٍ يَخْدُمُهُ
إنْ وَقَعَ مِنْ يَدِهِ شَيْءٌ فَتَكَسَّرَ وَأَفْسَدَ مَتَاعًا مِمَّا
يَخْتَلِفُ فِي خِدْمَةِ صَاحِبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي
مِلْكِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ.
وَلَوْ أَنَّ غُلَامَ الْقَصَّارِ انْفَلَتَتْ مِنْهُ الْمِدَقَّةُ فِيمَا
يَدُقُّ مِنْ الثِّيَابِ فَوَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ مِنْ الْقِصَارَةِ
فَخَرَقَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَصَّارِ دُونَ الْغُلَامِ؛ لِأَنَّهُ
مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْأُسْتَاذِ فِي دَقِّ الثَّوْبَيْنِ جَمِيعًا،
وَلَوْ وَقَعَ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ مِنْ غَيْرِ الْقِصَارَةِ كَانَ
ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْغُلَامِ دُونَ الْقَصَّارِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مَأْذُونٍ فِي دَقِّ ذَلِكَ الثَّوْبِ فَيَكُونُ هُوَ جَانِيًا فِي ذَلِكَ
الثَّوْبِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا وَتَعَذَّرَ الْخَطَأُ لَا يَسْقُطُ
عَنْهُ ضَمَانُ الْمَحَلِّ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْمِدَقَّةُ عَلَى
مَوْضُوعِهَا، ثُمَّ وَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى
الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهَا كَمَا لَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحَلِّ
(16/11)
الْمَأْذُونِ فِيهِ صَارَ الْعَمَلُ
مُسَلَّمًا وَخَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْأَجِيرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ أَصَابَ
إنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ الْغُلَامُ ضَامِنًا، وَقَدْ بَيَّنَّا
الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ
الْأَمْوَالِ فِيمَا سَبَقَ.
وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَتَاعِهِ فِيمَا يَحْمِلُهُ فَوَقَعَ
عَلَى إنْسَانٍ فِي الْبَيْتِ فَقَتَلَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى
الْغُلَامِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي بَنِي آدَمَ مُوجِبَةُ الْأَرْشِ
عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ فِيهِ بِخِلَافِ
مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ إنْ انْكَسَرَ شَيْءٌ مِنْ
أَدَوَاتِ الْقَصَّارِ بِعَمَلِ الْغُلَامِ مِمَّا يَدُقُّ بِهِ أَوْ
يَدُقُّ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ
الْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَدُقُّ بِهِ وَلَا يُدَقُّ
عَلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ.
وَعَلَى هَذَا لَوْ دَعَا رَجُلٌ قَوْمًا إلَى مَنْزِلِهِ فَمَشَوْا عَلَى
بِسَاطِهِ فَتَخَرَّقَ، أَوْ جَلَسُوا عَلَى وِسَادَةٍ فَتَخَرَّقَتْ،
وَإِنْ كَانَ الضَّيْفُ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا فَلَمَّا جَلَسَ شَقَّ
السَّيْفُ بِسَاطًا أَوْ وِسَادَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ
مَأْذُونٌ فِيمَا فَعَلَ مِنْ الْمَشْيِ وَالْجُلُوسِ وَتَقَلُّدِ
السَّيْفِ، وَلَوْ وَطِئَ عَلَى آنِيَةٍ مِنْ أَوَانِيهِ، أَوْ ثَوْبًا لَا
يُبْسَطُ مِثْلُهُ وَلَا يُوطَأُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مَأْذُونٍ فِي الْوَطْءِ وَالْجُلُوسِ عَلَى مِثْلِهِ.
وَإِنْ حَمَلَ الْأَجِيرُ شَيْئًا فِي خِدْمَةِ أُسْتَاذِهِ فَسَقَطَ
فَفَسَدَ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَى وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ
فَأَفْسَدَهَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَثَرَ فَسَقَطَ
عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ بِسَاطًا أَوْ وِسَادَةً اسْتَعَارَهُ لِلْبَسْطِ
فَلَا ضَمَانَ فِي ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ وَلَا عَلَى أَجِيرِهِ؛
لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي بَسْطِهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ.
وَإِذَا جَفَّفَ الْقَصَّارُ ثَوْبًا عَلَى حَبْلٍ فَمَرَّتْ بِهِ
حَمُولَةٌ فِي الطَّرِيقِ فَخَرَقَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَصَّارِ؛
لِأَنَّهُ مُتْلَفٌ لَا بِعَمَلِهِ وَالضَّمَانُ عَلَى سَائِقِ
الْحَمُولَةِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ وَهُوَ مُتَعَدِّي فِي ذَلِكَ فَسَوْقُ
الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ يَتَقَيَّدُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.
فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ كَانَ ضَامِنًا.
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ
حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَلَمَّا بَلَغَ
الْمَقْصِدَ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا
لِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ ثُلُثَ
قِيمَتِهَا بِقَدْرِ مَا زَادَ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ
وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَايَةِ فِي بَنِي آدَمَ
أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ عَدَدُ الْجُنَاةِ فِي حَقِّ ضَمَانِ
النَّفْسِ وَأُوضِحَ الْفَرْقُ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَالَ لَوْ أَنَّ
حَائِطًا مَائِلًا لِرَجُلٍ ثُلُثَاهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ يُقَدَّمُ
إلَيْهِمَا فِيهِ فَوَقَعَ عَلَى رَجُلٍ فَجَرَحَهُ وَقَتَلَهُ كَانَ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرَحْهُ،
وَلَكِنَّهُ قَتَلَهُ نَقْلُ الْحَائِطِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا
بِقَدْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ مِلْكِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ ضِعْفُ
نَقْلِ مِلْكِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، وَفِي الْجُرْحِ الْمُعْتَبَرِ أَصْلُ
الْجِرَاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَارِجٌ لَهُ بِمِلْكِهِ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ الْجَارِحِ بِيَدِهِ. فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ
يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ نَقْلِ الزِّيَادَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشِّجَاجِ
فِي الْعَبْدِ يَكُونُ ضَمَانُ النَّفْسِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجُرْحِ لَا مِقْدَارِهِ وَعَدَدِهِ وَعَلَى هَذَا
لَوْ أَمَرَ
(16/12)
رَجُلًا أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشَرَةَ
أَسْوَاطٍ فَضَرَبَ أَحَدَ عَشَرَ سَوْطًا فَهُوَ مُتَعَدِّي فِي السَّوْطِ
الْحَادِيَ عَشَرَ فَيَضْمَنُ نُقْصَانَ ذَلِكَ الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ
مَضْرُوبًا عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ وَنِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ إذَا
مَاتَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فِي ضَرْبِ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ عَامِلٌ
لِصَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ هَذَا بِنَفْسِهِ،
وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ السِّيَاطِ كُلِّهَا فَتَوَزَّعَ بَدَلُ
نَفْسِهِ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْحَيَاةِ لَا عَدَدِ
الْجِنَايَاتِ
وَإِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ أُمَّتَهُ إلَى مَكْتَبٍ، أَوْ
عَمَلٍ آخَرَ فَضَرَبَهُ الْأُسْتَاذُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ
ذَلِكَ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
فِعْلَهُ بِإِذْنِهِ كَفِعْلِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ
تَعَدِّيًا مِنْهُ وَفِعْلُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ تَعَدِّيًا مِنْهُ
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ مَا إذَا ضَرَبَ الدَّابَّةَ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا ضَرْبًا
مُعْتَادًا فَقَالَا الضَّرْبُ مُعْتَادٌ هُنَاكَ عِنْدَ السَّيْرِ
مُتَعَارَفٌ فَيُجْعَلُ كَالْمَأْذُونِ فِيهِ وَهُنَا الضَّرْبُ عِنْدَ
التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَإِنَّمَا الضَّرْبُ عِنْدَ سُوءِ
الْأَدَبِ يَكُونُ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التَّعْلِيمِ فِي شَيْءٍ فَالْعَقْدُ
الْمَعْقُودُ عَلَى التَّعْلِيمِ لَا يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي الضَّرْبِ؛
فَلِهَذَا يَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ نَصًّا،
وَكَذَلِكَ إنْ سَلَّمَ ابْنَهُ فِي عَمَلٍ إلَى رَجُلٍ فَإِنْ ضَرَبَهُ
بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا،
وَإِنْ ضَرَبَهُ بِإِذْنِ الْأَبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدِّي فِي ضَرْبِهِ بِإِذْنِ الْأَبِ، وَلَوْ كَانَ
الْأَبُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَهُ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ كَانَ ضَامِنًا فِي
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي
قَوْلِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُمَا
يَدَّعِيَانِ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَقُولَانِ إذَا كَانَ الْأُسْتَاذُ لَا
يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ إذْنِ الْأَبِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَبُ ضَامِنًا
إذَا ضَرَبَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَقُولُ ضَرْبُ الْأُسْتَاذِ لِمَنْفَعَةِ الصَّبِيِّ لَا لِمَنْفَعَةِ
نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَأْذَنُ
وَلِيُّهُ.
فَأَمَّا ضَرْبُ الْأَبِ إيَّاهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بِغَيْرِ
سُوءِ أَدَبِ وَلَدِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَضَرْبِ
الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ لَمَّا كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ يُقَيَّدُ
بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.
وَإِذَا تَوَهَّنَ رَاعِي الرَّمَكَةِ رَمَكَةً مِنْهَا فَوَقَعَ الْوَهْنُ
فِي عُنُقِهَا فَجَذَبَهَا فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ
جِنَايَةِ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا أَمَرَهُ بِالتَّوَهُّنِ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا كَفِعْلِ
صَاحِبِهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّوَهُّنَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الرَّاعِي
فِي شَيْءٍ وَلَا يَدُلُّ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ عَلَى
الْمَأْمُورِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ الدَّقِّ مِنْ الْقَصَّارِ.
وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَخْتِنَ عَبْدَهُ، أَوْ ابْنَهُ فَأَخْطَأَ
فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ كَانَ ضَامِنًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ
الْخَتَّانِ مَعْلُومٌ بِمَحَلِّهِ. فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا
وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ مَاذَا يَضْمَنُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي النَّوَادِرِ قَالَ إنْ بَرَأَ
فَعَلَيْهِ كَمَالُ بَدَلِ نَفْسِهِ فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ نِصْفُ بَدَلِ
نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرَأَ
(16/13)
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ وَهُوَ
عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي الْبَدَنِ فَيَتَقَدَّرُ
بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ. وَإِذَا مَاتَ فَقَدْ حَصَلَ تَلَفُ
النَّفْسِ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ
الْجِلْدَةِ وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ
فَكَانَ ضَامِنًا نِصْفَ بَدَلِ النَّفْسِ.
وَلَوْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْطَعَ أُصْبُعَهُ لِوَجَعٍ أَصَابَهُ فِيهَا
فَقَطَعَهَا فَمَاتَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَاطِعِ شَيْءٌ إلَّا
فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
فَإِنَّهُ يَقُولُ يَضْمَنُ الدِّيَةَ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ قَالَ ذَلِكَ
اُقْتُلْنِي فَقَتَلَهُ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ صَحَّ
هُنَا؛ لِأَنَّ لِلْآذِنِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْتَقِلُ
عَمَلُ الْمَأْذُونِ إلَيْهِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ
بِخِلَافِ قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي فَالْإِذْنُ هُنَاكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛
لِأَنَّ الْآذِنَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ
لَوْ أَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ، أَوْ بِعَبْدٍ
لَهُ فَهَذَا، وَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ.
وَلَوْ أَمَرَ حَجَّامًا لِيَقْطَعَ سِنًّا فَفَعَلَ فَقَالَ أَمَرْتُك
أَنْ تُقْلِعَ سِنًّا غَيْرَ هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْحَجَّامُ
ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ وَلَوْ أَنْكَرَهُ
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي
السِّنِّ الَّذِي قَلَعَهُ
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ فَجَعَلَ
فِي جَوَالِقَ عِشْرِينَ مَخْتُومًا، ثُمَّ أَمَرَ رَبَّ الدَّابَّةِ
فَكَانَ هُوَ الَّذِي وَضَعَهَا عَلَى الدَّابَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ هُوَ الْمُبَاشِرُ بِحَمْلِ الزِّيَادَةِ
عَلَى دَابَّتِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ
الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّ الْغُرُورَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِي
عَقْدِ ضَمَانٍ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا الرُّجُوعَ لِلْمَغْرُورِ عَلَى
الْغَارِّ، وَإِنْ حَمَلَاهَا جَمِيعًا وَوَضَعَاهَا عَلَى الدَّابَّةِ
ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رُبْعَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ نِصْفَ
الْمَحْمُولِ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَنِصْفَهُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ
وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَمْلِ شَائِعٌ فِي النِّصْفَيْنِ
فَبِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ لَا ضَمَانَ
عَلَى أَحَدٍ وَبِاعْتِبَارِ النِّصْفِ الَّذِي حَمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ
لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نِصْفِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالنِّصْفِ
وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدِّي فِيهِ
فَكَانَ ضَامِنًا رُبْعَ قِيمَتِهَا.
وَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ فِي عِدْلَيْنِ فَرَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عِدْلًا فَوَضَعَاهُمَا جَمِيعًا عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ يَضْمَنْ
الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ
حَمْلَ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ، وَقَدْ حَمَلَ هَذَا الْمِقْدَارَ
فَيُجْعَلُ حَمْلُهُ مِمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ وَالزِّيَادَةُ
إنَّمَا حَمَلَهَا رَبُّ الدَّابَّةِ.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ أَنَّ الْقَصَّارَ اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ
الثَّوْبِ حَتَّى دَقَّ الثَّوْبَ مَعَهُ فَتَخَرَّقَ وَلَا يَدْرِي مِنْ
أَيِّ الْفِعْلَيْنِ تَخَرَّقَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الْقَصَّارُ ضَامِنٌ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ
الِاحْتِمَالِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ ضَامِنٌ
جَمِيعَ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِهِ فَبِاعْتِبَارِ الْيَدِ
هُوَ ضَامِنٌ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِعَمَلِهِ،
أَوْ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ التَّلَفَ بِعَمَلِ
صَاحِبِ الثَّوْبِ كَانَ الْقَصَّارُ ضَامِنًا
. وَإِذَا سَاقَ الرَّاعِي الْغَنَمَ، أَوْ الْبَقَرَ فَتَنَاطَحَتْ
(16/14)
فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَوْ وَطِئَ
بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ سِيَاقَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ وَهِيَ
لِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي
السَّوْقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ
ضَامِنًا فِيمَا يَتْلَفُ بِعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ
لِقَوْمٍ شَتَّى فَهُوَ ضَامِنٌ مُشْتَرَكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُشْتَرَكٍ
أَمَّا الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَأَمَّا
غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ فَلِأَنَّهُ سَائِقُ الدَّابَّةِ الَّتِي وَطِئَتْ
وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ بِالسَّبَبِ وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ
فَلَا أَجْرَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ
فَلَا يَكُونُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ.
. وَإِذَا سَاقَ الرَّاعِي الْمَاشِيَةَ فَعَطِبَتْ وَاحِدَةٌ أَوْ
وَقَعَتْ فِي نَهْرٍ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ
مُشْتَرَكٌ وَالتَّلَفُ حَصَلَ بِعَمَلِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَلَبِسَ مِنْ الثِّيَابِ
أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ اسْتَأْجَرَهَا فَإِنْ لَبِسَ مِنْ
ذَلِكَ مِثْلَ مَا يَلْبَسُ النَّاسُ إذَا رَكِبُوا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ
كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَ بِقَدْرِ مَا زَادَ؛ لِأَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ.
وَإِنْ تَكَارَى نَاقَةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا امْرَأَةً فَوَلَدَتْ
الْمَرْأَةُ فَحَمَلَهَا هِيَ وَوَلَدَهَا عَلَى النَّاقَةِ بِغَيْرِ
أَمْرِ صَاحِبِهَا فَعَطِبَتْ النَّاقَةُ فَهُوَ ضَامِنٌ بِحِسَابِ مَا
زَادَ عَلَيْهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَقْصُودٌ بِالْحَمْلِ
بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَهُوَ فِي مِقْدَارِهِ مُخَالِفٌ فَيُضْمَنُ
بِحِسَابِ مَا يُخَالِفُ كَمَا لَوْ زَادَ مَتَاعًا مَعَهَا، وَلَوْ
نَتَجَتْ النَّاقَةُ فَحَمَلَ وَلَدَ النَّاقَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ
ضَامِنٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ تَكَارَى
بِغَيْرِ الْمُحْمَلِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ زَامِلَةً فَهُوَ ضَامِنٌ؛
لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِيمَا صَنَعَ فَالزَّامِلَةُ أَضَرُّ بِالْبَعِيرِ
مِنْ الْمُحْمَلِ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلًا مَكَانَ الْمُحْمَلِ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ ذَلِكَ خِلَافًا، وَقَدْ
بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّرْجِ مَعَ الْإِكَافِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ إجَارَةِ رَحَا الْمَاءِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَحَا مَاءٍ
وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ مَتَاعُهَا كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ
مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ
وَاسْتِئْجَارُهُ مُتَعَارَفٌ فَإِنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا فَلَمْ
يَعْمَلْ رُفِعَ عَنْهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ لِزَوَالِ تَمَكُّنِهِ
مِنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَإِنَّهُ
إنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيَطْحَنَ فِيهَا بِالْمَاءِ دُونَ الثَّوْرِ
وَبِانْقِطَاعِ الْمَالِ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَبِدُونِ
التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فَلَهُ أَنْ
يُنْقِضَ الْإِجَارَةَ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ
يُنْقِضْهَا حَتَّى عَادَ الْمَاءُ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ
مِنْ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ وَاحِدٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يُنْقِضَهَا لِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فِيمَا
بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ
مُتَفَرِّقَةٍ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، وَإِنْ
اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ أَنَّهُ لَمْ
(16/15)
يَسْتَوْفِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى فَرَبُّ الرَّحَا
يَدَّعِي زِيَادَةً فِي ذَلِكَ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ ذَلِكَ، وَلَوْ
قَالَ الْمُؤَاجِرُ لَمْ يَنْقَطِعْ الْمَاءُ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْحَالِ
فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُنْقَطِعًا فِي الْحَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ
مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي
الْحَالِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيمَا مَضَى.
وَإِنْ كَانَ جَارِيًا فِي الْحَالِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا
فِيمَا مَضَى، وَفِي الْخُصُومَاتِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ
الظَّاهِرُ تَوْضِيحُهُ إنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَاءَ جَارِيًا عِنْدَ
الْعَقْدِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ أَصْلٌ
مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ. فَإِذَا عَلِمْنَا انْقِطَاعَ الْمَاءِ فِي
الْحَالِ بِقَدْرِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَاعْتَبَرْنَا الدَّعْوَى
وَالْإِنْكَارَ فَرَبُّ الرَّحَا يَدَّعِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ جَارِيًا فِي الْحَالِ فَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ
مُمْكِنٌ فَجَعَلْنَا رَبَّ الرَّحَا مُسَلِّمًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ
عَلَى عَمَلِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ
وَلَا مِنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ
جَمِيعَ ذَلِكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَطَحَنَ فِيهَا فِي
الشَّهْرِ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَرَبِحَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَإِنْ
كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الرَّحَا وَالطَّعَامِ،
أَوْ أَجِيرُهُ، أَوْ عَبْدُهُ فَالرِّبْحُ لَهُ طَيِّبٌ؛ لِأَنَّ
الْفَضْلَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الطَّعَامِ هُوَ
الَّذِي يَلِي ذَلِكَ لَمْ يُطْلَبْ الرِّبْحُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ قَدْ عَمِلَهُ فِيهَا عَمَلًا تَنْتَفِعُ بِهَا الرَّحَا مِنْ
كَرْيِ النَّهْرِ، أَوْ نَقْرِ الرَّحَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ
يُجْعَلُ الْفَضْلُ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فَيَطِيبُ لَهُ فَقَدْ جَعَلَ
نَقْرَ الرَّحَا مُعْتَبَرًا بِجَعْلِ الْفَضْلِ بِمُقَابَلَتِهِ وَلَمْ
يَجْعَلْ كَنْسَ الْبَيْتِ فِيمَا سَبَقَ مُعْتَبَرًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
كَنْسَ الْبَيْتِ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْبَيْتِ، وَلِأَنَّ
التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِاعْتِبَارِهِ.
فَأَمَّا نَقْرُ الرَّحَا وَكَرْيُ النَّهْرِ بَعْدَ زِيَادَةِ
الْمُسْتَأْجِرِ، وَبِهِ يُتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ. وَإِذَا
اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا عَلَى نَهْرٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءً
وَيَتَّخِذَ عَلَيْهِ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنَّ الْحِجَارَةَ وَالْمَتَاعَ
وَالْحَدِيدَ وَالْبِنَاءَ مِنْ عِنْدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ جَائِزٌ؛
لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ
انْقَطَعَ مَاءُ النَّهْرِ فَلَمْ يَطْحَنْ وَلَمْ يَفْسَخْ الْإِجَارَةَ
فَالْأَجْرُ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ
الْأَرْضِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَالْمُسْتَأْجِرُ
مُسْتَوْفِي بِمَا يَشْغَلُ الْأَرْضَ بِمَتَاعِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ
فَهُنَاكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الرَّحَا لِعَمَلِ الطَّحْنِ
وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ يَزُولُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّ هُنَا
لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِلْعُذْرِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ
اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِدُونِ جَرَيَانِ الْمَاءِ.
وَفِي إلْزَامِ الْعَقْدِ إيَّاهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ ضَرَرٌ
فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ بِمَتَاعِهَا فَانْقَطَعَ الْمَاءُ شَهْرًا
فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ قَلَّ
الْمَاءُ حَتَّى أَضَرَّ بِهِ فِي الطَّحْنِ وَهُوَ يَطْحَنُ مَعَ ذَلِكَ
فَإِنْ كَانَ ضَرَرًا فَاحِشًا فَهُوَ عَيْبٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ
فَيَتَمَكَّنُ
(16/16)
لِأَجْلِهِ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ، وَإِنْ
لَمْ يَفْسَخْ كَانَ الْأَجْرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ لِبَقَاءِ تَمَكُّنِهِ
مِنْ الِانْتِفَاعِ وَرِضَاهُ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَاحِشٍ
فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَأْجَرَ الرَّحَا فِي
الِابْتِدَاءِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمَاءَ يَزْدَادُ تَارَةً
وَيَنْتَقِصُ أُخْرَى فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالنُّقْصَانِ الْيَسِيرِ،
وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمْكِنْ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَفْوٌ.
وَإِذَا خَافَ رَبُّ الرَّحَا أَنْ يَنْقَطِعَ الْمَاءُ فَتُفْسَخُ
الْإِجَارَةُ فَأَكْرَى الْبَيْتَ وَالْحَجَرَيْنِ وَالْمَتَاعَ خَاصَّةً
فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَإِنْ انْقَطَعَ
الْمَاءُ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ
اسْتِئْجَارَ هَذِهِ الْأَعْيَانِ كَانَ لِمَقْصُودٍ مَعْلُومٍ، وَقَدْ
فَاتَ ذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ، وَفِي إيفَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ
انْقِطَاعِ الْمَاءِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْزَمْهُ
بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ كَمَا لَوْ
اسْتَأْجَرَ الرَّحَا يَطْحَنُ بِجَمَلِهِ فَيَنْفُقُ جَمَلُهُ وَلَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ جَمَلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ
الْإِجَارَةَ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ فَانْكَسَرَ أَحَدُ الْحَجَرَيْنِ أَوْ
الدَّوَّارَةُ، أَوْ الْبَيْتُ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ
لِزَوَالِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَإِنْ أَصْلَحَ ذَلِكَ رَبُّ
الرَّحَا قَبْلَ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ
بَعْدَ ذَلِكَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ
يُرْفَعُ عَنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ
مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ
الْعُطْلَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ الْمُؤَاجِرُ الْبَطَالَةَ
أَصْلًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْمَاءِ؛
لِأَنَّا عَرَفْنَا تَمَكُّنَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عِنْدَ
تَسْلِيمِ الرَّحَا، ثُمَّ يَدَّعِي هُوَ عَارِضًا مَانِعًا فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَنَّ غَاصِبًا
حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِالرَّحَا.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ فِيهَا الْحِنْطَةَ
وَلَا يَطْحَنَ غَيْرَهَا فَطَحَنَ فِيهَا شَعِيرًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ
الْحُبُوبِ سِوَى الْحِنْطَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالرَّحَا
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ
ضَمِنَهُ مَا نَقَصَهَا؛ لِأَنَّ التَّقَيُّدَ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ
مُفِيدًا وَالْخِلَافُ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عُدْوَانٌ مِنْهُ
فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ ضَامِنٌ مِنْ النُّقْصَانِ وَلَا يَجْتَمِعُ
الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَحًا وَبَيْتًا مِنْ أَجِيرٍ وَبَعِيرًا
مِنْ آخَرَ صَفْقَةً وَاحِدَةً كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ
جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ كُلِّ عَيْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ
عَلَى الِانْفِرَادِ صَحِيحٌ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَ الْأَجْرَ بَيْنَهُمْ
عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْكُلِّ
فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا بِالْحِصَّةِ، وَلَوْ اشْتَرَكَ أَرْبَابُ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا لِلنَّاسِ بِأَجْرٍ فَمَا طَحَنُوا
فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَإِنْ أَجَّرُوا الْجَمَلَ بِعَيْنِهِ
فَطَحَنَ فَأَجْرُ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى
بِمُقَابَلَتِهِ مَنْفَعَةَ الْجَمَلِ وَلِلْآخَرَيْنِ أَجْرُ مِثْلِهِمَا
لِنَفْسِهِمَا وَمَتَاعُهُمَا عَلَى صَاحِبِ الْجَمَلِ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ
الْأَجْرِ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا
لِمَنَافِعِهِمَا، وَقَدْ شُرِطَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ أَجْرٌ وَلَمْ
(16/17)
يُسَلِّمْ لَهُمَا ذَلِكَ الْأَجْرَ فَإِنْ
قَبِلُوا الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يَطْحَنُوهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ
يُؤَجِّرْ وَإِلَّا الْجَمَلَ بِعَيْنِهِ فَمَا اكْتَسَبُوهُ صَارَ
أَثْلَاثًا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ
وَبِذَلِكَ اسْتَوْجَبُوا الْأَجْرَ.
وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ بَيْتٌ عَلَى نَهْرٍ قَدْ كَانَ فِيهِ رَحَا مَاءٍ
فَذَهَبَ وَجَاءَ آخَرُ بَرِحَا آخَرَ وَمَتَاعِهَا فَنَصَبَهَا فِي
الْبَيْتِ وَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا مِنْ النَّاسِ الْحِنْطَةَ
وَالشَّعِيرَ فَطَحَنَاهُ فَمَا كَسَبَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
فَهُوَ جَائِزٌ وَمَا طَحَنَاهُ، وَمَا تَقَبَّلَاهُ فَأَجْرُهُ
بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي
ذِمَّتِهَا، وَلَيْسَ لِلرَّحَا وَلَا لِلْبَيْتِ أُجْرَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ابْتَغَى عَنْ مَتَاعِهِ أَجْرًا سِوَى مَا قَالَ
(أَلَا تَرَى) أَنَّ قَصَّارَيْنِ لَوْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا
فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا بِأَدَاةِ الْآخَرِ فَمَا كَسَبَا فَهُوَ
بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ جَائِزًا وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِأَجْرِ أَدَاتِهِ.
وَلَوْ أَجَّرَ الرَّحَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى طَعَامٍ مَعْلُومٍ كَانَ
الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الرَّحَا؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ
مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ وَلِصَاحِبِ الْبَيْتِ أَجْرُ مِثْلِ بَيْتِهِ
وَنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِ الرَّحَا إذَا كَانَ قَدْ عَمِلَ فِي ذَلِكَ؛
لِأَنَّ مَنْفَعَةَ بَيْتِهِ وَنَفْسِهِ سُلِّمَتْ لِصَاحِبِ الرَّحَا
وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ مَا شُرِطَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ
(قَالَ) وَلَا أُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ أَجْرِ مِثْلِ الرَّحَا فِي قَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي
كِتَابِ الشَّرِكَةِ.
وَلَوْ انْكَسَرَ الْحَجَرُ الْأَعْلَى مِنْ الرَّحَا فَنَصَبَ رَجُلٌ
مَكَانَهُ حَجَرًا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَجَعَلَ يَتَقَبَّلُ
الطَّعَامَ وَيَطْحَنُ فَهُوَ مُسِيءٌ فِي ذَلِكَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ
مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْفَلِ وَمَتَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ وَالْأَجْرُ
لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ، وَإِنْ كَانَ وَضَعَ الْحَجَرَ
الْأَعْلَى بِرِضَاءِ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَانِ فَهُوَ كَمَا شُرِطَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا كَانَ
يَتَقَبَّلَانِ الطَّعَامَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا كَمَا شُرِطَ.
وَلَوْ بَنَى عَلَى نَهْرٍ بَيْتًا وَنَصَبَ فِيهَا رَحَا مَاءٍ بِغَيْرِ
رِضَى صَاحِبِ النَّهْرِ، ثُمَّ يَقْبَلُ الطَّعَامَ فَكَسَبَ فِي ذَلِكَ
مَالًا كَانَ لَهُ فِي الْكَسْبِ وَكَانَ ضَامِنًا لِمُنَاقِصِ الْبَيْتِ
وَسَاحَتِهِ وَمَوْضِعِهِ وَالنَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِذَلِكَ
بِفِعْلِهِ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ
مَمْلُوكٍ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُفْسِدْ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ بِعَمَلِهِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ نَهْرٌ اشْتَرَكَ هُوَ وَرَجُلَانِ عَلَى إنْ
جَاءَ أَحَدُهُمَا بِرَحَا وَالْآخَرُ بِمَتَاعِهَا عَلَى أَنْ يَبْنُوا
الْبَيْتَ جَمِيعًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنَّ مَا كَسَبُوا مِنْ
شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ فَهُوَ جَائِزٌ، وَهَذَا مِثْلُ الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى إذَا كَانُوا يَتَقَبَّلُونَ الطَّعَامَ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ
أَثْلَاثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ]
َ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ مِنْ
الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ فَحَمَلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمِلًا فِيهِ
(16/18)
رَجُلَانِ، وَمَا يُصْلِحُهُمَا مِنْ
الْوَطْءِ وَالدُّثُرِ وَإِحْدَاهُمَا زَامِلَةٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَذَا
مَخْتُومًا وَالسَّوِيقُ، وَمَا يَصْلُحُهُمَا مِنْ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ
وَالْمَعَالِيقِ، وَقَدْ رَأَى الرَّجُلَيْنِ وَلَمْ يَرَ الْوَطْءَ
وَالدُّثُرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ وَشَرَطَ حَمْلَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ
الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ
لِجَهَالَةِ وَزْنِ الْوَطْءِ وَالدُّثُرِ وَجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْمَاءِ
وَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمَعَالِيقِ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْإِبِلِ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ
ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَفِي اشْتِرَاطِ
إعْلَامِ وَزْنِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْحَرَجِ، ثُمَّ
الْمَقْصُودُ عَلَى أَحَدِ الْحَمْلَيْنِ الرَّجُلَانِ، وَقَدْ رَآهُمَا
الْحَمَّالُ وَعَلَى الْحَمَّالِ الْآخَرِ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ، وَمَا
سِوَى ذَلِكَ تَبَعٌ إذَا صَارَ مَا هُوَ الْأَصْلُ مَعْلُومًا فَالْجَهْلُ
فِي الْبَيْعِ عَفْوٌ وَمِقْدَارُ الْبَيْعِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا
بِطَرِيقِ الْعُرْفِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ
لَهُ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ مِنْ صَالِحِ مَا يَحْمِلُ النَّاسُ فَهُوَ
جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ عُرْفًا،
وَلَوْ بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَالْهَدَايَا كَانَ أَحَبَّ
إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ.
وَإِذَا أَرَادَا الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى
لِكُلِّ مَحْمِلٍ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ أَوْ إدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ
مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ وَيَكْتُبُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْحَمَّالَ قَدْ
رَأَى الْوَطْءَ وَالدُّثُرَ وَالْقِرْبَتَيْنِ وَالْإِدَاوَتَيْنِ
وَالْخَيْمَةَ وَالْقُبَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ
الْكِتَابَ عَلَى أَوْثَقِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ عُقْبَةَ
الْأَجِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَيَكْتُبُ، وَقَدْ رَأَى الْحَمَّالُ
الْأَجِيرَ، وَفِي تَفْسِيرِ عُقْبَةِ الْأَجِيرِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا
أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدَ الصَّبَاحِ
وَالْمَسَاءِ فَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَيَرْكَبُ أَجِيرُهُ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ عُقْبَةَ الْأَجِيرِ وَالثَّانِي أَنْ يَرْكَبَ
أَجِيرُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَرْسَخًا، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا هُوَ
مُتَعَارَفٌ عَلَى خَشَبَةٍ خَلْفَ الْمَحْمِلِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ عُقْبَةَ
الْأَجِيرِ.
وَفِي كِتَابِ الشُّرُوطِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ يَرَى أَنْ يُشْتَرَطَ مِنْ هَدَايَا مَكَّةَ كَذَا وَكَذَا
مِنَّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْمَحْمُولُ مِنْ
الْهَدَايَا يَخْتَلِفُ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ بِاخْتِلَافِ
مِقْدَارِ الْوَزْنِ.
وَإِنْ تَكَارَى شِقَّ مَحْمِلٍ، أَوْ شِقَّ زَامِلَةٍ فَاخْتَلَفَا
فَقَالَ الْحَمَّالُ إنَّمَا عَيَّنْت عِيدَانَ الْمَحْمِلِ. وَقَالَ
الْمُسْتَكْرِي بَلْ عَيَّنْت الْإِبِلَ فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ كَمَا
يُتَكَارَى بِهِ لِإِبِلٍ إلَى مَكَّةَ فَهُوَ عَلَى الْإِبِلِ، وَإِنْ
كَانَ كَمَا يُتَكَارَى بِهِ شِقُّ مَحْمِلِ خَشَبٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْحَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَمَا يُتَكَارَى بِهِ
الْأَوَّلُ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُسْتَكْرِي، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا
يَسِيرًا كَمَا يُتَكَارَى بِهِ الْخَشَبُ فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ
لِلْحَمَّالِ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ
يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى قِرْبَةَ مَاءٍ بِدَانَقٍ
فَقَالَ إنَّمَا اشْتَرَيْت الْقِرْبَةَ دُونَ الْمَاءِ لَا يُصَدَّقُ،
وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا قَالَ السَّقَّاءُ بِعْت
الْمَاءَ دُونَ الْقِرْبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى مَبْطَخَةً، ثُمَّ
قَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت الْأَرْضَ. وَقَالَ الْبَائِعُ إنَّمَا
بِعْت الْبِطِّيخَ
(16/19)
فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الثَّمَنِ فِي ذَلِكَ
فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ.
وَإِذَا تَكَارَى مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ إبِلًا مُسَمَّاةً بِغَيْرِ
أَعْيَانِهَا فَقَالَ الْحَمَّالُ أُخْرِجُك فِي عَشْرِ ذِي الْقَعْدَةِ
فَقَالَ الْمُسْتَكْرِي أَخْرِجْنِي فِي خَمْسٍ مَضَيْنَ أَوْ عَلَى عَكْسِ
ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ فِي خَمْسٍ مَضَيْنَ فِي الْوَجْهَيْنِ
جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ خَمْسٍ
مَضَيْنَ فَإِنْ أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ
يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ ضَرَرَ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ
فَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ مُؤْنَةَ الْعَلَفِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِذَا طَلَبَ الْمُسْتَكْرِي فِي عَشْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَهُوَ يُرِيدُ
أَنْ يُلْزِمَ الْحَمَّالَ ضَرَرَ السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِيَكُونَ
هُوَ مُتَرَفِّهًا فِي نَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ مِنْ ذَلِكَ،
وَلِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمُتَعَارَفُ
وَالْمُتَعَارَفُ الْخُرُوجُ مِنْ الْكُوفَةِ بِخَمْسٍ مَضَيْنَ.
فَإِذَا أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى نِصْفِ ذِي الْقَعْدَةِ
وَأَبَى ذَلِكَ الْمُسْتَكْرِي فَلَيْسَ لِلْحَمَّالِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
يَخَافُ الْفَوْتَ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ وَيَلْحَقُ الْمُسْتَكْرِيَ
مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ بِاسْتِدَامَةِ السَّفَرِ، وَإِنْ قَالَ
الْمُسْتَأْجِرُ أَخْرِجْنِي لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ. وَقَالَ
الْحَمَّالُ أُخْرِجُك بِخَمْسٍ مَضَيْنَ فَإِنَّهُ يَرْتَكِبُ مُؤْنَةَ
الْعَلَفِ فَإِنِّي أُؤَخِّرُهُ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
وَلَا أُؤَخِّرُهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ إدْرَاكُ
الْحَجِّ إذَا خَرَجَ بِعَشَرَةٍ مَضَيْنَ وَالْغَالِبُ هُوَ الْفَوَاتُ
إذَا أَخَّرَ الْخُرُوجَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ
الْعَقْدِ صِفَةُ السَّلَامَةِ لَا نِهَايَةُ الْجَوْدَةِ، وَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا شَرْطًا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الشَّرْطُ أَمْلَكُ» : أَيْ يُوَفَّى بِهِ وَلَا
بَأْسَ بِأَنْ يُسَلَّفَ فِي كِرَاءِ مَكَّةَ قَبْلَ الْحَجِّ سَنَةً أَوْ
بِأَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحَجِّ مَعْلُومٌ لَا يُجْهَلُ، وَهَذَا
بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا إنَّ الْإِجَارَةَ الْمُضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ تَصِحُّ.
(وَعَلَى قَوْلِ) الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَصِحُّ الدَّارُ
وَالْحَانُوتُ وَالدَّوَابُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَهَذَا
بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ إنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ
الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ
ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ
الْمُضَافَةِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ، ثُمَّ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ حَتَّى أَنَّ مَا يَتَحَمَّلُ
التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَجُوزُ إضَافَتُهُ إلَى وَقْتٍ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَمَا لَا فَلَا
كَالْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ، ثُمَّ الْإِجَارَةُ لَا تَحْتَمِلُ
التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَلَا تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
اللُّزُومُ وَلَا يَمْلِكُ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ.
وَإِنْ شُرِطَ التَّعْجِيلُ فَلَوْ انْعَقَدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا
لَانْعَقَدَ بِصِفَةِ اللُّزُومِ وَيَمْلِكُ الْأَجْرَ بِهِ إذَا شُرِطَ
التَّعْجِيلُ فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ
أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَقَدْ تَمَسُّ
الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِئْجَارِ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِ رُبَّمَا لَا يَجِدُ
ذَلِكَ، أَوْ لَا يَجِدُهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ
يُسَلَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ
(16/20)
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ وَإِنْ
أَطْلَقَ الْعَقْدَ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضَافِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهُ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ، أَوْ تُقَامُ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ.
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ
وَبَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ
الْمُدَّةِ لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْكَيْلِ فِيمَا
يُكَالُ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ، وَبِهِ فَارَقَ التَّعْلِيقَ
بِالشَّرْطِ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي
الْحَالِ وَالْإِضَافَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي لُزُومِ
الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ رِوَايَتَانِ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ
أَنَّهُ يَلْزَمُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَفْسَخَ إلَّا بِعُذْرٍ
فَإِنَّ الْأَجْرَ لَا يُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا
الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا شُرِطَ التَّعْجِيلُ فِي عَقْدِ
الْإِجَارَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ تَأَخَّرَ الْمِلْكُ
بِقَضِيَّةِ الْمُسَاوَاةِ فَيَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ بِالشَّرْطِ وَهُنَا
تَأَخَّرَ الْمِلْكُ لِنَصِيبِهِمَا عَلَى التَّأْخِيرِ بِإِضَافَةِ
الْعَقْدِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ
بِالشَّرْطِ.
وَلَوْ تَكَارَى إبِلًا إلَى مَكَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ
الْمَوْزُونِ مَعْلُومِ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَجَعَلَ لَهُ أَجَلًا
مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمَوْضِعَ الَّذِي
يُوَفِّيهِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ
عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ
الْمَكَانِ فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا،
وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ أَخْذَهُ هُنَاكَ وَأَبَى
الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَنْ
يُوَفِّيَهُ بِالْكُوفَةِ حَيْثُ تَكَارَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَلَى
قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي إجَارَةِ الدَّارِ يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ
مَوْضِعُ الدَّارِ وَهُنَا ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ
يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ سَيْرِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ
فَيَتَعَذَّرُ تَعْيِينُ مَوْضِعِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
لِلْإِيفَاءِ وَرُبَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ مَوْضِعُ السَّبَبِ
وَهُوَ الْعَقْدُ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِمَّا لَهُ
حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِإِيفَائِهِ الْمَوْضِعَ
الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
بِعَيْنِهِ كَالْمَبِيعِ بِخِلَافِ مَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ
فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَيْهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ،
وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبُيُوعِ.
وَلَوْ تَكَارَى مِنْهُ حِمْلًا وَزَامِلَةً وَشَرَطَ حِمْلًا مَعْلُومًا
عَلَى الزَّامِلَةِ فَمَا أُكِلَ مِنْ ذَلِكَ الْحِمْلِ أَوْ نَقَصَ مِنْ
الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ
ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ حِمْلًا مُسَمًّى
عَلَى الْبَعِيرِ فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ
مَا اسْتَحَقَّهُ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ لِلْحَمَّالِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ
ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَحْمِلِ فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ فِيهِ إنْسَانَيْنِ
مَعْلُومَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ غَيْرَهُمَا إلَّا بِرِضَاءِ
الْحَمَّالِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الرَّاكِبِ، وَإِنْ خَرَجَ بِالْبَعِيرَيْنِ يَقُودُهُمَا وَلَا
يَرْكَبُهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا جَائِيًا فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ
كَامِلًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ بِهِمَا مَعَ عَبْدِهِ يَقُودُهُمَا لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ خُطُوَاتُ الدَّابَّةِ فِي
الطَّرِيقِ، وَقَدْ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى
(16/21)
الْمُسْتَأْجِرِ نُقُودُ الدَّابَّةِ
مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ مَا قَضَى
الْمَنَاسِكَ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ
بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا بَقِيَ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ
فَيَسْقُطُ الْأَجْرُ بِحِسَابِهِ وَيَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ بِحِسَابِ مَا
اسْتَوْفَى، ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكِرَاءِ خَمْسَةُ
أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ وَيَبْطُلُ عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفٌ
وَبَيَانُ تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى
مَكَّةَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ مَرْحَلَةً فَذَلِكَ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ
كَذَلِكَ وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ تَكُونُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمِ
التَّرْوِيَةِ يَخْرُجُ إلَى مِنًى، وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ يَخْرُجُ إلَى
عَرَفَاتٍ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ يَعُودُ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ
الزِّيَارَةِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِلرَّمْيِ فَيُحْسَبُ لِكُلِّ
يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ.
فَإِذَا جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ سِتِّينَ مَرْحَلَةً كُلَّ سَنَةٍ
مِنْ ذَلِكَ عَشْرٌ. فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ
وَالرُّجُوعِ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ
وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ سِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ سَبْعَةٌ
وَعِشْرُونَ جُزْءًا لِلذَّهَابِ إلَى مَكَّةَ وَسِتَّةُ أَجْزَاءٍ
لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَعْشَارٍ وَنِصْفُ عُشْرٍ
كُلُّ عُشْرٍ سِتَّةٌ وَرُبَّمَا يُشْتَرَطُ الْمَمَرُّ عَلَى الْمَدِينَةِ
فَيَزْدَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَرَاحِلَ فَإِنَّ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى
مَكَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثِينَ مَرْحَلَةً فَإِنْ كَانَ
شَرَطَ ذَلِكَ فِي الذَّهَابِ تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ
وَسِتِّينَ جُزْءًا وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا
مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ ثَلَاثُونَ لِلذَّهَابِ
وَسِتَّةٌ لِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ الْمَمَرَّ
عَلَى الْمَدِينَةِ فِي الرُّجُوعِ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ
جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ سَبْعَةٌ
وَعِشْرُونَ لِلذَّهَابِ وَلِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ،
وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّهَابَ مِنْ طَرِيقِ
الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوعُ كَذَلِكَ فَالْقِسْمَةُ عَلَى سِتَّةٍ
وَسِتِّينَ جُزْءًا.
وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ
سِتَّةٍ وَسِتِّينَ لِلذَّهَابِ ثَلَاثُونَ وَلِقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ
سِتَّةُ أَجْزَاءٍ فَحَاصِلُ مَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ سِتَّةُ أَجْزَاءٍ
مِنْ إحْدَى عَشَرَ جُزْءًا مِنْ الْأَجْرِ وَحَرْفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ السُّهُولَةَ وَالْوُعُورَةَ فِي الْمَرَاحِلِ
لِقِسْمَةِ الْكِرَاءِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْلَكُ ضَبْطُهُ
وَالْكِرَاءُ لَا يَتَفَاوَتُ بِاعْتِبَارِهِ عَادَةً، وَإِنَّمَا
يَتَفَاوَتُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ؛ فَلِهَذَا قَسَمَهُ عَلَى
الْمَرَاحِلِ بِالسَّوِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَإِنْ تَكَارَى قَوْمٌ مَشَاةَ بَعِيرٍ إلَى مَكَّةَ وَاشْتَرَطُوا عَلَى
الْمُكَارِي أَنْ يَحْمِلَ مَنْ مَرِضَ لَهُمْ أَوْ أَعْيَا فَهَذَا
فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى
الْمُنَازَعَةِ، وَلَوْ اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ عُقْبَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا تُمْكِنُ بَعْدَهُ
الْمُنَازَعَةُ.
وَإِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُبَدِّلَ مَحْمِلَهُ لِيَحْمِلَ
مَحْمِلًا غَيْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ فَلَهُ ذَلِكَ
لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْيِينَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ
مُعْتَبَرًا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَى الْمَحْمِلِ كَنِيسَةً،
أَوْ قُبَّةً فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْ الْمُكَارِي لِمَا
فِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْبَعِيرِ، وَذَلِكَ لَا
يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ
(16/22)
عَلَيْهِ كَنِيسَةً بِعَيْنِهَا فَأَرَادَ
أَنْ يَحْمِلَ كَنِيسَةً أَعْظَمَ مِنْهَا، أَوْ قُبَّةً فَلَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ مُفِيدٌ، وَفِي التَّبْدِيلِ زِيَادَةُ
ضَرَرٍ عَلَى دَابَّتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ كَنِيسَةً دُونَهَا
فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَخَفُّ عَلَى الْبَعِيرِ مِنْ الْمَشْرُوطِ،
وَإِنْ أَرَادَ الْحَمَّالُ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ
عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسَلُّمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ بِأَنْ يَبْعَثَ بِالْإِبِلِ مَعَ أَجِيرِهِ، أَوْ
مَعَ غُلَامِهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ
عَامَّةِ ذَلِكَ فَهَذَا عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
الِاسْتِيفَاءِ إلَّا بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَفِيهِ مِنْ
الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اكْتَرَى الْإِبِلَ
لِحَمْلِ الطَّعَامِ إلَى مَكَّةَ فَبَلَغَهُ كَسَادٌ أَوْ خَوْفٌ، أَوْ
بَدَا لَهُ تَرْكُ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ فَهَذَا عُذْرٌ لَهُ؛
لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا
بِضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عُذْرٌ لِفَسْخِ
الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ
فِي بَيْتِهِ عَمَلًا مُسَمًّى فَفَرَغَ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ فِي
بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يَضَعْهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى فَسَدَ
الْعَمَلُ، أَوْ هَلَكَ وَلَهُ الْأَجْرُ) ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ صَارَ
مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مَحْمِلَ الْعَمَلِ فِي يَدِ
الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ فِي
يَدِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَكَمَا صَارَ مُسَلَّمًا تَقَرَّرَ الْأَجْرُ فِي
ذِمَّتِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآجِرِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ
فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ صَاحِبِهِ هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَهُ يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَمِيصًا وَخَاطَ
بَعْضَهُ، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ الثَّوْبَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا
خَاطَ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى
صَاحِبِ الثَّوْبِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ فِي
ذَلِكَ الْجُزْءِ عِنْدَ حُصُولِ كَمَالِ الْمَقْصُودِ فَلَوْ كَانَ
اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ فِي بَيْتِ الْأَجِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ
مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ
الثَّوْبِ فَإِنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ
وَلَا يُقَالُ قَدْ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ
اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِمِلْكِهِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِيمَا اتَّصَلَ
بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الثَّوْبِ فِي يَدِهِ فَيَدُهُ
لَا تَثْبُتُ عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ أَيْضًا وَخُرُوجُهُ مِنْ ضَمَانِ
الْعَامِلِ وَتَعَذَّرَ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِاعْتِبَارِ
ثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى الْمُعَوِّلِ.
وَاسْتَشْهَدَ بِمَا قَالَ إنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبْنِي لَهُ
حَائِطًا فَبَنَى بَعْضَهُ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَلَهُ أَجْرُ
مَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ حَفْرُ
الْبِئْرِ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْخَبَّازَ لِيَخْبِزَ لَهُ فِي
بَيْتِهِ دَقِيقًا مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَخَبَزَهُ، ثُمَّ سَرَقَ
فَلَهُ الْأَجْرُ تَامًّا، وَإِنْ سَرَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ فَلَهُ مِنْ
الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ، وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي بَيْتِ
الْخَبَّازِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ
(16/23)
وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَرَقَ فِي
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ
مُشْتَرَكٌ فَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ،
وَإِنْ احْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَهُوَ
ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَيَتَخَيَّرُ صَاحِبُ
الْخُبْزِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ
الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ،
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْقَصَّارِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا إلَى مَوْضِعٍ
مَعْلُومٍ فَسَرَقَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلَهُ الْأَجْرُ
بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هَهُنَا
مَنَافِعُهُ لِإِحْدَاثِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ فَبِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ
يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ لَهُ
مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَالْمَعْقُودُ
عَلَيْهِ هُنَاكَ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْمَحَلِّ بِعَمَلِهِ
وَثُبُوتُ الْيَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِثُبُوتِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَمَا
لَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَحَلِّ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ
مُسَلِّمًا الْعَمَلَ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْأَجْرُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا
فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ فَلَهُ أَنْ
يَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْأَجْرَ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي
بَيْتِ نَفْسِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَوْ هَلَكَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ كَالْحَمَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ
فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْعَمَلِ فَإِنْ حَبَسَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ
ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي الْحَبْسِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ
الْحَبْسِ.
وَالْعُمَّالُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ
ضَامِنُونَ لِمَا جَنَتْ أَيْدِيهمْ مِثْلَ مَا يَضْمَنُونَ مَا عَمِلُوا
فِي بُيُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ سَوَاءٌ عَمِلَ
فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ تَقْتَضِي
سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْعَمَلُ الْمَعِيبُ لَا يَكُونُ
مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا
لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ
يَدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ
يَوْمِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَإِنْ
لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا فِي وَلِيمَةٍ
فَأَفْسَدَ الطَّعَامَ فَأَحْرَقَهُ وَلَمْ يُنْضِجْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛
لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَلَوْ لَمْ
يُفْسِدْ الطَّبَّاخُ، وَلَكِنَّ رَبَّ الدَّارِ اشْتَرَى رَاوِيَةً مِنْ
مَاءٍ فَأَمَرَ صَاحِبَ الْبَعِيرِ فَأَدْخَلَهَا الدَّارَ فَسَاقَ
الْبَعِيرَ فَعَطِبَ فَخَرَّ عَلَى الْقُدُورِ فَكَسَرَهَا فَأَفْسَدَ
الطَّعَامَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَهَا
بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ وَسَوْقُ
الْإِنْسَانِ الدَّابَّةَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا
مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي مِلْكِ
نَفْسِهِ.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبَّاخِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ
التَّلَفَ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بَلْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى صَاحِبِ
الدَّارِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَعِيرُ سَقَطَ عَلَى ابْنِ
رَبِّ الدَّارِ وَهُوَ صَبِيٌّ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا
يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ أَدْخَلَ الطَّبَّاخُ
النَّارَ لِيَطْبُخَ بِهَا فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ
(16/24)
وَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ النَّارَ وَيَعْمَلَ بِهَا
فَعَمَلُهُ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ
فِيمَا احْتَرَقَ لِلسُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ
وَمَنْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ.
فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ.
[بَابُ إجَارَةِ الْفُسْطَاطِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ
بِهِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَيَحُجُّ وَيَخْرُجُ مِنْ
الْكُوفَةِ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فَهُوَ جَائِزٌ) ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ اسْتِئْجَارُهُ
وَالْفُسْطَاطُ مِنْ الْمَسَاكِنِ فَاسْتِئْجَارُهُ كَاسْتِئْجَارِ
الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ الْخَيْمَةُ وَالْكَنِيسَةُ وَالرِّوَاقُ
وَالسُّرَادِقُ وَالْمَحْمِلُ وَالْجُرُبُ وَالْجَوَالِقُ وَالْحِبَالُ
وَالْقِرَبُ وَالْبُسُطُ فَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ مُعْتَادٌ
اسْتِئْجَارُهُ فَإِنْ تَكَارَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى
مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَلَمْ يُسَمِّ مَتَى يَخْرُجُ بِهِ فَهُوَ
فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حِينَ
يَخْرُجُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَرُبَّمَا تَتَمَكَّنُ
بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِيهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ
بِالْخُرُوجِ إلَى مَكَّةَ فَمِنْ بَيْنِ مُسْتَعْجِلٍ وَمُؤَخِّرٍ،
وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ وَقْتُ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ مِنْ
الْكُوفَةِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ.
وَالْمُتَعَارَفُ كَالْمَشْرُوطِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ
الْوَقْتُ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ الْقَافِلَةُ مَعَ جَمَاعَةِ النَّاسِ
وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ
تَخَرَّقَ الْفُسْطَاطُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَلَا عُنْفٍ لَمْ يَضْمَنْ
الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ فَإِنَّ
نَقِيضَهُ يُقَرِّرُ حَقَّ صَاحِبِهِ فِي الْأَجْرِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِي
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يَكُونُ
ضَامِنًا لِمَا يَتَخَرَّقُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ، وَإِنْ
ذَهَبَ بِهِ وَرَجَعَ فَقَالَ اسْتَغْنَيْت عَنْهُ فَلَمْ أَسْتَعْمِلْهُ
فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ
بِهِ، وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَقَرُّرِ
الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُهُ وَانْكَسَرَ عَمُودُهُ
فَلَمْ يَسْتَطِعْ نَصْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُهُ
بِدُونِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛
لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَرَقَ
فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَسْتَعْمِلْهُ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إلَّا مِقْدَارُ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ.
وَلَوْ أَسْرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْفُسْطَاطِ أَوْ فِي الْخَيْمَةِ
حَتَّى اسْوَدَّ مِنْ الدُّخَانِ، أَوْ احْتَرَقَ أَوْ عَلَّقَ فِيهِ
قِنْدِيلًا فَإِنْ كَانَ صَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدَّى فِيهِ، أَوْ اتَّخَذَهُ مَطْبَخًا، أَوْ
أَوْقَدَ فِيهِ نَارًا حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْبَخِ مِنْ
(16/25)
السَّوَادِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ؛
لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ. فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزْ
ذَلِكَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ
الْمَسَاكِنِ وَإِدْخَالُ السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ وَإِيقَادُ النَّارِ
فِي الْمَسْكَنِ مُتَعَارَفٌ لَا بُدَّ لِلسَّاكِنِ مِنْهُ، وَلَكِنْ إذَا
جَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ فَهُوَ مُتَعَدِّي فِيمَا صَنَعَ
فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَفْسَدَ وَكَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إذَا كَانَ
مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْئًا يُنَافِي السُّكْنَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ دُونَ
ذَلِكَ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْمِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ
لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بَقِيَّةِ
الْمُدَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ أَنْ لَا يُوقِدَ فِيهِ
وَلَا يُسْرِجَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِدَ فِيهِ وَلَا يُسْرِجَ؛ لِأَنَّ
هَذَا أَضَرُّ مِنْ السُّكْنَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَاجٍ، وَقَدْ
اسْتَثْنَاهُ صَاحِبُهُ بِالشَّرْطِ وَالتَّقْيِيدُ مَتَى كَانَ مُفِيدًا
فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ مَا
اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ فَلَا
يَمْنَعُ ذَلِكَ تَقَرُّرَ الْأَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان إذَا جَاوَزَ. وَإِذَا
اسْتَأْجَرَ قُبَّةً تُرْكِيَّةً بِالْكُوفَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ
مَعْلُومٍ لِيَسْتَوْقِدَ فِيهَا وَيَبِيتَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ إنْ احْتَرَقَتْ مِنْ الْوُقُودِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَادَ فِيهَا
مُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا بِالْإِيقَادِ فِيهَا فَإِنْ
بَاتَ فِيهَا عَبْدُهُ، أَوْ ضَيْفُهُ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ
الْمَسَاكِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ ضَيْفَهُ
وَعَبْدَهُ فِيمَا سَكَنَ فِيهِ هُوَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى
الْقُبَّةِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَقَعَدَ
وَأَعْطَاهُ أَخَاهُ فَحَجَّ وَنَصَبَ وَاسْتَظَلَّ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ
وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ
الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ الْمَسَاكِنِ، وَفِي الْمَسْكَنِ لَا
يَتَعَيَّنُ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ وَسُكْنَى غَيْرِهِ
فِي الضَّرَرِ عَلَى الْفُسْطَاطِ سَوَاءٌ فَهُوَ كَتَسْلِيمِ الْبُيُوتِ
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ الْفُسْطَاطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ
أَسْكَنَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى
غَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ
عَبْدًا يَخْدُمُهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَأَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ
بِخِدْمَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي الِاسْتِخْدَامِ
وَالْأَضْرَارِ عَلَى الْغُلَامِ أَبْيَنُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي
السُّكْنَى فِي الْفُسْطَاطِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ هُنَاكَ
الْمُسْتَأْجِرُ لِلِاسْتِخْدَامِ فَهَذَا أَوْلَى.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُسْطَاطَ يُحَوَّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى
مَوْضِعٍ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَوَاضِعِ
النَّصْبِ فَإِنْ نَصَبَهُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ يَخْرِقُهُ وَنَصْبُهُ
مِنْ مَوْضِعِ النَّدْوَةِ وَالنَّزِّ يُفْسِدُهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا
مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَبِحَبْسِهِ يَخْتَلِفُ الضَّرَرُ
فَكَانَ التَّعْيِينُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ اسْتَأْجَرَهَا
لِيَرْكَبَهَا، أَوْ الثَّوْبِ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَلْبَسَهُ هُوَ. فَإِذَا
دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ صَارَ مُخَالِفًا ضَامِنًا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ
الْمَسْكَنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ مِنْ
(16/26)
مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ بِخِلَافِ
الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ.
فَإِذَا كَلَّفَهُ فَوْقَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الْعَبْدُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ
الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتَخْدِمُهُ، أَوْ غَيْرُهُ فَلَا
فَائِدَةَ فِي التَّعْيِينِ هُنَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَ
بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ مَوْضِعَ النَّصْبِ
لِلْفُسْطَاطِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَسُكْنَاهُ
وَسُكْنَى غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ إلَى
غَيْرِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ فَاخْتِيَارُ مَوْضِعِ نَصْبِ الْفُسْطَاطِ لَا
يَكُونُ بِرَأْيِهِ بَلْ يَكُونُ بِرَأْيِ الَّذِي خَرَجَ بِهِ، وَذَلِكَ
خِلَافُ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ
عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَخْرُجُ بِهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ
يَلْبَسُ الثَّوْبَ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - الْعَقْدُ جَائِزٌ كَمَا فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى
الدَّارِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُ الْفُسْطَاطِ كُلُّهَا فَصَنَعَهَا
الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ نَصَبَ الْفُسْطَاطَ حَتَّى رَجَعَ
فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ
فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْفُسْطَاطِ لَا مَنْفَعَةُ
الْأَطْنَابِ. فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
بِأَطْنَابِ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْأَجْرُ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّحَا
إذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَطَحَنَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمَلِهِ وَجَبَ
عَلَيْهِ الْأَجْرُ، ثُمَّ يُمْسِكُ أَطْنَابَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ
فَيُمْسِكُهُ إذَا رَدَّ الْفُسْطَاطَ.
وَلَوْ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ الْأَطْنَابُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ
الْكِرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَلَا يُعْتَبَرُ
تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ
مِمَّا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْكَسَرَ عَمُودُ
الْفُسْطَاطِ. فَأَمَّا إذَا انْكَسَرَتْ أَوْتَادُهُ فَلَمْ يَضُرَّ بِهِ
حَتَّى رَجَعَ كَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ كَامِلًا، وَلَيْسَ الْأَوْتَادُ
مِثْلُ الْأَطْنَابِ وَالْعَمُودِ؛ لِأَنَّ الْأَوْتَادَ مِنْ قِبَلِ
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأَطْنَابُ وَالْعَمُودُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ
الْفُسْطَاطِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ
إنَّهُ بَنَى هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عُرْفِ دِيَارِهِمْ. فَأَمَّا فِي
عُرْفِ دِيَارِنَا الْأَوْتَادُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ
وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ مِنْ الْأَوْتَادِ مَا يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ
فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يَتَكَلَّفُ بِحَمْلِ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ
إلَى مَوْضِعٍ فَهَذَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ
مُتَّخَذًا مِنْ حَدِيدٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ
فَمِثْلُهُ يَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ كَالْعَمُودِ فَمُرَادُهُ
مِمَّا قَالَ الْأَوْتَادُ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ
فَبِانْكِسَارِهَا لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعَمُودِ
وَالْأَطْنَابِ.
وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا يُخْرِجُهُ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ
بِالْكُوفَةِ حَتَّى رَجَعَ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنَّمَا أَذِنَ
لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ فِي الطَّرِيقِ لِيُقَرِّرَ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ
وَيُفَوِّتَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودَ إذَا أَمْسَكَهُ بِالْكُوفَةِ
وَإِمْسَاكُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ مُوجِبُ الضَّمَانِ
عَلَيْهِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ نَصْبُهَا
(16/27)
وَسُكْنَاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا
يَتَأَتَّى إذَا خَلَّفَهَا بِالْكُوفَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ
يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ التَّمَكُّنَ
مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ
فَهُوَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ قَبْضَ الْفُسْطَاطِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَقَامَ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَدْفَعْ الْفُسْطَاطَ إلَى
صَاحِبِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ لَا عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ وَدَفَعَ الْفُسْطَاطَ إلَى غُلَامِهِ فَقَالَ
ادْفَعْهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَدْفَعْ حَتَّى رَجَعَ الْمَوْلَى فَهُوَ
مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِهِ وَكَوْنُهُ فِي
يَدِ غُلَامِهِ وَمَا لَوْ خَلَّفَهُ فِي بَيْتِهِ بِالْكُوفَةِ سَوَاءٌ،
وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى
صَاحِبِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ بِالْإِمْسَاكِ فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَبِالتَّسْلِيمِ إلَى
الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا، وَلَوْ حَمَلَهُ الرَّجُلُ إلَى صَاحِبِ
الْفُسْطَاطِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالرَّجُلُ
مِنْ الضَّمَانِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ
تَمَكَّنَ مِنْ فُسْطَاطِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَأْمُورِ
الْمُسْتَأْجِرِ كَفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ رَدَّهُ
بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ؛
لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي
إخْرَاجِ الْفُسْطَاطِ وَلَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ.
فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ ثَانِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ
قَبُولِهِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْفُسْطَاطُ عِنْدَ هَذَا الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَهُ
إلَى صَاحِبِهِ فَلِصَاحِبِ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ غَاصِبٌ فَإِنْ
ضَمِنَ الْوَكِيلُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ
فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ
يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ رَجَعَ
الْوَكِيلُ بِهِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ قَائِمَةٌ مَقَامَ
يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي
يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَإِنْ ذَهَبَ بِالْفُسْطَاطِ إلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ بِهِ فَقَالَ
الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ احْمِلْهُ إلَى مَنْزِلِي فَلَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَتَاعِ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَ لِرَبِّ الْمَتَاعِ مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ
الرَّدِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ
بِالْفُسْطَاطِ وَخَلَّفَهُ بِالْكُوفَةِ فَضَمِنَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ
الْأَجْرُ فَالْحُمُولَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الْغَاصِبِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالرَّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ
بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى
بَلْدَةٍ أُخْرَى فَقَبَضَهَا وَذَهَبَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فَإِنْ
حَبَسَهَا بِالْكُوفَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْبِسُهَا النَّاسُ إلَى أَنْ
يَرْتَحِلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَبَسَهَا مِمَّا لَا يَحْبِسُ
النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا وَلَا
كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي
أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي الْإِمْسَاكِ، وَفِي هَذَا الْخِلَافِ ضَرَرٌ
عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ لَا يَتَقَرَّرُ
بِإِمْسَاكِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا إلَّا
أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ الْإِمْسَاكِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا
لَهُ بِالْعُرْفِ فَيُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلَانِ
(16/28)
فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ
ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِي
بِالْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَرْجِعَ إلَى
الْكُوفَةِ وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ الْفُسْطَاطَ
مِنْ صَاحِبِهِ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ
يَدْفَعَ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ، أَوْ الْبَصْرِيُّ إلَى
الْكُوفِيِّ، أَوْ يَخْتَصِمَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ. فَأَمَّا
إذَا دَفَعَهُ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ فَذَهَبَ بِهِ إلَى
الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ فَلِرَبِّ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ
الْبَصْرِيَّ قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مُسْتَعْمِلٌ فِي
غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْصِبْهُ فَهُوَ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ
الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ يَكُونُ ضَامِنًا
قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ وَعَلَيْهِمَا حِصَّةُ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ
وَلَا أَجْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ أَمَّا الْبَصْرِيُّ
فَلِأَنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْ الْكُوفَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ
ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَأَمَّا الْكُوفِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ
مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حِينَ
ذَهَبَ الْبَصْرِيُّ بِالْفُسْطَاطِ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ
يُضَمِّنَ الْكُوفِيَّ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ
إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ
النِّصْفَ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّسْلِيمِ
إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ عَلَى خِلَافِ مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ
فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَيُضَمِّنَ الْبَصْرِيَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْكُوفِيُّ لَمْ آمُرْهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى
الْبَصْرَةِ، وَلَكِنِّي دَفَعْته إلَيْهِ لِيُمْسِكَهُ حَتَّى يَرْتَحِلَ
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
الْقِسْمَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَنْ يَتْرُكَهُ
فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُهُ إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَ الْإِذْنَ مُوجِبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ
سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ يَدَّعِي
ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَرَجَعَ
بِهِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى
الْبَصْرِيِّ نِصْفُهُ وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ
اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ
بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَفِي نَصِيبِ الْبَصْرِيِّ بِتَسْلِيطِهِ إيَّاهُ
عَلَى ذَلِكَ.
وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ
الْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ هَلَكَ
قِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَصْرِيُّ
ضَامِنًا وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى
أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ
جَمِيعًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ هُنَا قَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النَّصْبِ وَاخْتِيَارِ الْمَوْضِعِ لِذَلِكَ
بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ هُنَاكَ لَمْ يَرْضَ
بِرَأْيِهِ فِي اخْتِيَارِ مَوْضِعِ النَّصْبِ، وَإِنْ غَصَبَهُ
الْكُوفِيُّ فَعَلَى الْكُوفِيِّ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَجْرِ ذَاهِبًا
وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى
الْبَصْرِيِّ أَجْرُهُ ذَاهِبًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَجْرٌ فِي الرُّجُوعِ؛
لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ
مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
(16/29)
حِينَ ذَهَبَ مِنْ طَرِيقِ الْبَصْرَةِ،
وَيَكُونُ الْكُوفِيُّ ضَامِنًا لِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ
غَاصِبٌ لِلنِّصْفِ مِنْ الْبَصْرِيِّ فَيَكُونُ ضَامِنًا.
وَإِنْ ارْتَفَعَا إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ فَلِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ
رَأْيٌ فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْظُرْ فِيمَا يَقُولَانِ حَتَّى يُقِيمَا
عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ غَائِبٌ وَهُمَا
يَدَّعِيَانِ عَلَى الْقَاضِي وُجُوبَ النَّظَرِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ
الْغَائِبِ فِي مَالِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ
سَبَبُهُ فَإِنْ فَعَلَ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدَا بَيِّنَةً
فَدَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَابِ
الْأَوَّلِ الَّذِي قُلْنَا إذَا لَمْ يَرْتَفِعَا إلَى الْقَاضِي. وَإِذَا
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا ادَّعَيَا قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ؛
لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا سَبَبَ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ فِي هَذَا الْمَالِ
وَوُجُوبُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَهَذِهِ بَيِّنَةٌ تَكْشِفُ الْحَالَ
فَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ أَوْ الْقَاضِي كَأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي
مُوجِبِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَصْرِيُّ عَلَى مَا
يُرِيدُ مِنْ الرَّجْعَةِ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعُذْرَ
الَّذِي بِهِ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ فِي
ضَمِيرِهِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ
يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ فِي حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ احْتِيَاطًا فِي حَقِّ الْغَائِبِ.
وَإِذَا حَلَفَ الْبَصْرِيُّ فَالْقَاضِي يُخْرِجُ الْفُسْطَاطَ مِنْ
يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ تَرْكُ الْفُسْطَاطِ
فِي يَدِهِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَاجِرُ
نَصِيبَهُ مِنْ كُوفِيٍّ مَعَ الْكُوفِيِّ الْأَوَّلِ لِيَتَوَصَّلَ
صَاحِبُ الْفُسْطَاطِ إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ
الْكِرَاءُ بِجَمِيعِ الْفُسْطَاطِ فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ أَرَادَ
الْكُوفِيُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَصِيبَ الْبَصْرِيِّ فَهُوَ أَوْلَى
الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ كَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِ
الْفُسْطَاطِ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ إجَارَتَهُ مِنْهُ تَجُوزُ
بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ.
وَذَلِكَ جَائِزٌ وَفِعْلُ الْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ
لِلْغَائِبِ كَفِعْلِ الْغَائِبِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ
حِينَئِذٍ يُؤَاجِرُهُ مِنْ كُوفِيٍّ آخَرُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ
مَنْ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُشَاعِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ
ذَلِكَ فَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ. فَإِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي
بِاجْتِهَادِهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ
يَسْتَأْجِرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَدْفَعُ الْفُسْطَاطَ إلَى
الْكُوفِيِّ. وَقَالَ نِصْفُهُ مَعَك بِالْإِجَارَةِ الْأُولَى وَنِصْفُهُ
مَعَك وَدِيعَةً حَتَّى يَبْلُغَ صَاحِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ
مِنْ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْغَائِبِ بِاتِّصَالِ عَيْنِ مِلْكِهِ إلَيْهِ
وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالشُّيُوعُ طَارِئٌ فَلَا يَمْنَعُ
بَقَاءَ الْإِجَارَةِ وَلَا أَجْرَ عَلَى الْبَصْرِيِّ فِي الرَّجْعَةِ؛
لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فُسِخَ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ
عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ
إلَى الْقَاضِي كَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ
فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ.
وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا
وَجَائِيًا وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ بِمَكَّةَ وَرَجَعَ إلَى
الْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ ذَاهِبًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ
الْفُسْطَاطِ يَوْمَ خَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ فِي غَيْرِ
(16/30)
الْمَوْضِعِ الَّذِي رَضِيَ صَاحِبُهُ
بِتَرْكِهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمَا حَتَّى حَجَّ مِنْ قَابِلٍ
فَرَجَعَ بِالْفُسْطَاطِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ اسْتَأْجَرَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ
بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ غَاصِبًا ضَامِنًا فِي
اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَكُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ
فُسْطَاطًا، أَوْ مَتَاعًا، أَوْ حَيَوَانًا إذَا فَسَدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَلَا أَجْرَ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ مُنْذُ يَوْمِ كَانَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مَا قَبْلَهُ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَصَمَا يَوْمَ اخْتَصَمَا
وَهُوَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ الْفَسَادِ، أَوْ الْغَصْبِ مَعَ
يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي
الْحَالِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيمَا مَضَى
وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّهُ
بِبَيِّنَتِهِ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى خِلَافِ
ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِبَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ
الْأَجْرِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِمَا عِشْرِينَ مَخْتُومًا فَحَمَلَ عَلَى
كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ فَإِنَّمَا يُقْسَمُ
الْأَجْرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ
لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ دَابَّتَيْنِ،
وَلَوْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ عَيْنِهِمَا بِأَنْ يَتْبَعَا وَجَبَ قِيمَتُهُ
عَلَى قِيمَتِهِمَا. فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَتِهَا
وَقِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى
ذَلِكَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا حَمَلَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ (أَلَا تَرَى)
أَنَّهُ لَوْ سَاقَهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا شَيْئًا وَجَبَ
الْأَجْرُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ
دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ يَعْمَلُ بِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ،
وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ وَكُلُّ مَوْزُونٍ، أَوْ مَكِيلٍ) ؛ لِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْإِجَارَةِ اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ وَلَا
أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا لِانْعِدَامِ
مَحَلِّهِ فَمَحَلُّ الْإِجَارَةِ مَنْفَعَةٌ تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ
بِالِاسْتِيفَاءِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَمْوَالِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ
تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ وَبِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ
وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا صَارَ لَغْوًا بَقِيَ
مُجَرَّدُ الْإِذْنِ فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ إيَّاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا
أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضٌ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَزِنَ بِهَا يَوْمًا إلَى
اللَّيْلِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ حِنْطَةً مُسَمَّاةً يُعَيِّرُ بِهَا مَكَايِيلَ لَهُ يَوْمًا
إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِيلَ مَا رَوَاهُ الْكَرْخِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ
بِهَا مِكْيَالًا بِغَيْرِ عَيْنِهَا، وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيُعَيِّرَ بِهَا مَكِيلًا لَا
بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا
(16/31)
وَقِيلَ بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ
مَا قَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ
الِانْتِفَاعِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ. وَإِذَا كَانَ لَا
يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْهَا
فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِئْجَارُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ
مَقْصُودَةٍ مِنْهَا أَوْلَى وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا
سُمِّيَ عَمَلًا يَعْمَلُ بِالْمُسْتَأْجَرِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَإِنَّ
الْوَزْنَ بِالدَّرَاهِمِ عَمَلٌ مَقْصُودٌ كَالْوَزْنِ بِالْحَجَرِ،
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَجَرًا لِيَزِنَ بِهِ يَوْمًا جَازَ. فَكَذَلِكَ
الدَّرَاهِمُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ
كَوْنُهُ مُتَضَمِّنًا اسْتِهْلَاكَ الْعَيْنِ لَوْ صَحَّ، وَقَدْ
انْعَدَمَ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ مَنْفَعَةٍ تُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ
الْعَيْنِ وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي النَّاسِ، أَوْ كَالْإِنَاءِ
يَسْتَأْجِرُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ أَوْ الثَّوْبِ لِيَلْبَسَهُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبًا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ،
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا عُلِمَ
النَّصِيبُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ ذُكِرَ
فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ
وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ كَمْ نَصِيبُهُ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ
الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ. وَقَالَ
يَجُوزُ فَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ
حَيْثُ لَمْ يُجَوِّزْ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي النَّصِيبِ
الْمَجْهُولِ وَمَسْأَلَةُ الْإِجَارَةِ لَهُ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى
إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِي النَّصِيبِ
الشَّائِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا. فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا أَوْلَى
وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَمَرَّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَيْضًا
فَإِنَّهُ جَوَّزَ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِ الْعَاقِدِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْأَجِيرِ عِنْدَ الْعَقْدِ؛
لِأَنَّ إعْلَامَهُ مُمْكِنٌ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْمُوجِبِ وَمِنْ
أَصْلِهِ أَيْضًا جَوَازُ الْإِجَارَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ
وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ. وَقَالَ فِي الْبَيْعِ الثَّمَنُ يَجِبُ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ فَلَوْ صَحَّ الْعَقْدُ وَجَبَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ
مَجْهُولٍ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَصِيبُ الْمُؤَاجِرِ مَعْلُومٌ فَإِنَّمَا
يَجِبُ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْلُومِ وَمِنْ أَصْلِهِ جَوَازُ
الْإِجَارَةِ فِي الْمُشَاعِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةً مِنْ هَذِهِ الدَّارِ،
أَوْ أَجَّرَ مِائَتَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ جَائِزٌ فِي
قَوْلِهِمَا وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ
مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ
يَقَعُ عَلَيْهَا الذَّرْعُ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّارِ فَكَمَا
لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِهَذَا اللَّفْظِ. فَكَذَلِكَ
الْإِجَارَةُ وَعِنْدَهُمَا ذِكْرُ الذِّرَاعِ كَذِكْرِ السَّهْمِ حَتَّى
يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ صَحِيحًا. فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَهُوَ
بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ أَيْضًا فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ وَلَا
يَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى أَنْ
تَكُونَ الثَّمَرَةُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ عَيْنٌ لَا
يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا
(16/32)
بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ
بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ الْإِجَارَةِ
مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ
الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ عَرْضٌ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَالثَّمَرَةُ تَقُومُ بِنَفْسِهَا كَالشَّجَرَةِ
فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّجَرَةَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ.
فَكَذَلِكَ الثَّمَرَةُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا
يَقْدِرُ عَلَى إبْقَائِهِ فَرُبَّمَا تُصِيبُ الثَّمَرَةَ آفَةٌ، وَلَيْسَ
فِي وُسْعِ الْبَشَرِ اتِّخَاذُهَا، وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْغَنَمِ
وَصُوفُهَا وَسَمْنُهَا وَوَلَدُهَا كُلُّ ذَلِكَ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ
فَلَا يُتَمَلَّكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ وَرَطْبَةٌ، أَوْ شَجَرٌ، أَوْ
قَصَبٌ، أَوْ كَرْمٌ، أَوْ مَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ
فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لِمَنْفَعَةِ الزِّرَاعَةِ
وَهَذِهِ الْمَنْفَعَةُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ
الْمَوَانِعِ فَقَدْ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ
عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْمُسْتَأْجِرِ مَا فِيهَا
فَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْإِجَارَةِ.
وَلَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْآجَامِ وَالْأَنْهَارِ لِلسَّمَكِ وَلَا
لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ
السَّمَكَ صَيْدٌ مُبَاحٌ فَكُلُّ مَنْ أَخَذَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ،
وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُؤَاجِرِ بِالْإِجَارَةِ مَا كَانَ
مُسْتَحَقًّا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ
عَلَى إيفَائِهِ بِهِ فَإِنْ أَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَهِيَ لَيْسَتْ
بِصَالِحَةٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَجَّرَهَا لِلسَّمَكِ فَرُبَّمَا يَجِدُهُ
الْمُسْتَأْجِرُ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْآخَرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ
تَحْصِيلِ ذَلِكَ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا شَهْرَيْنِ لِيَسْقِيَ مِنْهَا أَرْضَهُ
وَغَنَمَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْعَيْنُ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَمَلَّكَ
بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ أَصْلُ الْإِبَاحَةِ مَا لَمْ
يُحْرِزْهُ الْإِنْسَانُ بِإِنَائِهِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ
كَافَّةً قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النَّاسُ شُرَكَاءُ
فِي الثَّلَاثِ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ» فَالْمُسْتَأْجِرُ
فِيهِ وَالْآخَرُ سَوَاءٌ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ أَجْرٌ
بِسَبَبِهِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيُجْرِيَ فِيهِ شِرْبًا لَهُ إلَى أَرْضِهِ
رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ
قَالَ أَرَأَيْت لَوْ اسْتَأْجَرَ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحٍ لِيَسِيلَ
مَا أَسْطَحَهُ فِيهِ أَكَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى هِشَامٌ
عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا
مُعَيَّنًا مَعْلُومًا لِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ
تَزُولُ بِتَعْيِينِ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ
فَالِاسْتِئْجَارُ لِأَجْلِهِ يَصِحُّ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ
مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ
وَكَثْرَتِهِ وَإِعْلَامُ مِقْدَارِ الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَرُبَّمَا
لَا يَأْخُذُ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَرُبَّمَا
يَزْدَادُ عَلَيْهِ فَلِلْجَهَالَةِ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ كُلَّ شَهْرٍ بِطَعَامِهِ
لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ طَعَامَهُ مَجْهُولٌ وَهُوَ عَلَى رَبِّ الْعَبْدِ.
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَانَ فَاسِدًا وَالْمَجْهُولُ
مَتَى ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ يَصِيرُ الْكُلُّ مَجْهُولًا بِهِ،
وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَعَلَفُهَا،
وَكَذَلِكَ كُلُّ إجَارَةٍ
(16/33)
فِيهَا رِزْقٌ، أَوْ عَلَفٌ فَهِيَ
فَاسِدَةٌ إلَّا فِي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا،
وَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أَسْتَحْسِنُ جَوَازَ
ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَاشْتِرَاطُ تَطْيِينِ الدَّارِ وَمَرَمَّتِهَا أَوْ غَلْقِ بَابٍ
عَلَيْهَا، أَوْ إدْخَالِ جِذْعٍ فِي سَقْفِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَقَدْ شَرَطَ الْأَجْرِ
لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ
بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَاشْتِرَاطُ كَرْيِ نَهْرِهَا أَوْ ضَرْبِ مُسَنَّاةٍ
عَلَيْهَا، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا، أَوْ أَنْ يُسَرِّقَهَا
الْمُسْتَأْجِرُ فَهَذَا كُلُّهُ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ
هَذِهِ الْأَعْمَالِ تَبْقَى بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ
وَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلْآجِرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى شَرْطِ أُجْرَةٍ
مَجْهُولَةٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ
عَلَيْهِ رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ
إذَا انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ، وَأَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ مَكْرُوبَةً
فَهَذَا كُلُّهُ مَجْهُولٌ ضَمَّهُ إلَى الْمَعْلُومِ وَشَرَطَهُ
لِنَفْسِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ.
رَجُلٌ دَفَعَ أَرْضَهُ إلَى رَجُلٍ يَغْرِسُ فِيهَا شَجَرًا عَلَى أَنْ
تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْغَارِسِ
نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ
الْغِرَاسِ مِنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ وَالْغِرَاسُ مَجْهُولٌ فَلَا
يَصِحُّ ذَلِكَ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ
-. فَأَمَّا الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُخْتَصَرِ يَقُولُ
تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَ الْأَرْضِ عِوَضًا
عَنْ جَمِيعِ الْغِرَاسِ وَنِصْفَ الْخَارِجِ عِوَضًا لِعَمَلِهِ فَعَلَى
هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ اشْتَرَى الْعَامِلُ نِصْفَ الْأَرْضِ بِجَمِيعِ
الْغِرَاسِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فَإِنْ فَعَلَ
فَالشَّجَرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّجَرِ كَانَ
فَاسِدًا وَمُذَرَّعَتُهُ فِي أَرْضِهِ بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّ صَاحِبَ
الْأَرْضِ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلْغِرَاسِ
بِاتِّصَالِهِ بِأَرْضِهِ مُسْتَهْلِكًا بِالْعُلُوقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ
قِيمَةُ الشَّجَرِ وَأَجْرُ مَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى مِنْ عَمَلِهِ
عِوَضًا وَهُوَ نِصْفُ الْخَارِجِ وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهِ
أَجْرُ مِثْلِهِ.
فَإِنْ (قِيلَ) كَانَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى
نِصْفَ الْأَرْضِ شِرَاءً فَاسِدًا وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ الْأَرْضِ
شِرَاءً فَاسِدًا غَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ فِيهَا
حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - (قُلْنَا) هَذَا أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ الْأَشْجَارَ لِنَفْسِهِ
وَهُنَا الْعَامِلُ فِي الْغَرْسِ يَقُومُ مَقَامَ رَبِّ الْأَرْضِ
وَيَعْمَلُ لَهُ بِالْأَجْرِ فَكَأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ عَمِلَ ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْعَامِلُ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ،
وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّأْوِيلَ لِإِمْكَانِ إيجَابِ أَجْرِ
الْعَمَلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ كَانَ
عَامِلًا فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ
فَلِذَلِكَ أَلْزَمَهُ قِيمَةَ الْغَرْسِ حِينَ عُلِّقَتْ، وَلَوْ كَانَ
مُشْتَرِيًا لِلنِّصْفِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْغَرْسِ حِينَ
عُلِّقَتْ وَنِصْفُ قِيمَةِ الشَّجَرِ وَقْتَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهَا
أَشْجَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فِي أَرْضٍ أَحَدُهُمَا.
فَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ نَصِيبَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ
(16/34)
بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ
وَلَا آمُرُهُ بِقَلْعِ الْأَشْجَارِ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ
عَلَيْهِمَا وَبِظَاهِرِ هَذَا يَتَمَسَّكُ مَنْ يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ
الْأُولَى أَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا نِصْفَ الْغَرْسِ؛ لِأَنَّهُ
أَشَارَ إلَى أَنَّ الْأَشْجَارَ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً، وَلَكِنَّهُ لَا
يُقْلَعُ لِمَا يَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَأْوِيلُ هَذَا اللَّفْظِ فَسَادُ
الْقَلْعِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَضَيَاعُ عَمَلِ الْأَجِيرِ بِالْقَلْعِ
وَبُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْأَجْرِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَكَلَ الْغَلَّةَ
عَلَى هَذَا حُسِبَ عَلَى الْغَارِسِ مَا أَكَلَ مِنْ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ
الشَّجَرَةَ مِلْكُ رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الثَّمَرَ
بِمِلْكِ الشَّجَرِ فَمَا أَكَلَهُ الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ
مَحْسُوبًا عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ.
(قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ فِي
تَقْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ اسْتَأْجَرَهُ
لِيَجْعَلَ أَرْضَهُ بُسْتَانًا بِآلَاتِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ
أَجْرُهُ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْبُسْتَانِ
فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ صَبَّاغًا لِيَصْبُغَ ثَوْبَهُ بِصِبْغِ
نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمَصْبُوغِ لِلصَّبَّاغِ، وَذَلِكَ
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيرِ الطَّحَّانِ وَنَهَى عَنْهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
الْغَرْسَ آلَةٌ تَصِيرُ الْأَرْضُ بِهَا بُسْتَانًا كَالصَّبْغِ
لِلثَّوْبِ. فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ بَقِيَتْ الْآلَةُ مُتَّصِلَةً
بِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا
كَمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي
ثَوْبِهِ إلَّا أَنَّ الْغِرَاسَ أَعْيَانٌ تَقُومُ بِنَفْسِهَا فَلَا
يَدْخُلُ أَجْرُ الْعَمَلِ فِي قِيمَتِهَا فَيَلْزَمُهُ مَعَ قِيمَةِ
الْأَشْجَارِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى مِنْ عَمَلِهِ
عِوَضًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ،
وَلَوْ دَفَعَ الْغَزْلَ إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَهُوَ
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا
اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ
الطَّعَامِ فِي سَفِينَةٍ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ بِنِصْفِهِ غَيْرُ جَائِزٍ،
وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ صَارَ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ
الْعَمَلِ يَقَعُ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا
يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ. فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لَمْ يَمْلِكْ
شَيْئًا مِنْ الْمَعْمُولِ فَبَقِيَ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ
بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ذَلِكَ
لِتَمَامِ رِضَاهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ.
وَلَوْ كَانَ طَعَامًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ اسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ لِيَحْمِلَهُ أَوْ يَطْحَنَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا
وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ هَذَا
الْعَمَلَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ
فَاسْتِئْجَارُهُ عَلَى ذَلِكَ كَاسْتِئْجَارِهِ أَجْنَبِيًّا آخَرَ
وَشَرِكَتُهُ فِي الْمَحَلِّ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ كَمَا
لَوْ اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ بَيْتًا لِيَحْفَظَ
فِيهِ الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ، أَوْ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا
الطَّعَامَ الْمُشْتَرَكَ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ فَهَذَا مِثْلُهُ
(وَحُجَّتُنَا) الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فِي النَّهْيِ عَنْ قَفِيزِ
الطَّحَّانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ
صَارَ شَرِيكًا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَقَدُّمَ الشَّرِكَةِ فِي
الْمَحَلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ، وَهَذَا؛ لِأَدَنّ الْعَقْدَ
يُلَاقِي الْعَمَلَ وَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ
(16/35)
مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا
لِنَفْسِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ مُنَافَاةٌ وَالْأَجِيرُ
مَنْ يَكُونُ عَامِلًا لِغَيْرِهِ.
وَفِيمَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا
بِخِلَافِ الْبَيْتِ وَالدَّابَّةِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى
الْمَنْفَعَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهَا وَلَا شَرِكَةَ لَهُ فِي
ذَلِكَ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حِفْظُ الطَّعَامِ
الْمُشْتَرَكِ فِي الْبَيْتِ وَلَوْ سَلَّمَ الْبَيْتَ إلَيْهِ فِي
الْمُدَّةِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ فِيهِ شَيْئًا
بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَالْعَقْدُ هُنَا يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ فِي
الْمُشْتَرَكِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِدُونِ الْعَمَلِ وَلَا
يَعْمَلُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، ثُمَّ هُنَا، وَإِنْ أَقَامَ الْعَمَلَ
فَلَا أَجْرَ لَهُ بِخِلَافِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- فِي إجَارَةِ الْمُشَاعِ فَإِنَّ هُنَاكَ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ
يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ
فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَاكَ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لَا لِانْعِدَامِ
الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا. فَإِذَا تَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ وَجَبَ الْأَجْرُ وَهُنَا بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَصْلًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي
الْمَحَلِّ الْمُشْتَرَكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي الْعَمَلِ
الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ وَبِدُونِ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ فِي الْعَقْدِ
الْفَاسِدِ وَعَلَى هَذَا نَسْجُ الْغَزْلِ وَرَعْيُ الْغَنَمِ الَّتِي
تَكُونُ بَيْنَهُمَا فَكُلُّ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَمَلِ
فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِلَافِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَحَا مَاءٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ انْقَطَعَ الْمَاءُ
عَنْهَا فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ
مُخَالِفٌ مُوجِبَ الْعَقْدِ فَهُوَ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّ
مُوجِبَ الْعَقْدِ أَنْ لَا يَجِبَ الْأَجْرُ إلَّا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُخَالِفُ مُوجِبَ
الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا
يَتَنَاوَلُ وَقْتَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ حَتَّى لَا يَجِبَ الْأَجْرُ
فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى
بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الرَّحَا فِي وَقْتِ جَرَيَانِ الْمَاءِ وَلَا
يَدْرِي فِي كَمْ يَكُونُ الْمَاءُ جَارِيًا وَجَهَالَةُ الْمَنْعِ
تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كُتُبًا لِيَقْرَأَ فِيهَا شَعْرًا أَوْ فِقْهًا، أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِعْلُ
الْقَارِئِ وَالنَّظَرُ فِي الْكِتَابِ وَالتَّأَمُّلُ فِيهِ لِيَفْهَمَ
الْمَكْتُوبَ فَإِنْ فَعَلَهُ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ
أَجْرٌ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ فَهْمَ مَا فِي الْكِتَابِ
لَيْسَ فِي وُسْعِ صَاحِبِ الْكِتَابِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ،
وَلَكِنْ لِمَعْنًى فِي الْبَاطِنِ مِنْ حِدَّةِ الْخَاطِرِ وَنَحْوُ
ذَلِكَ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يُوجِبُ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى
إيفَائِهِ فَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْكِتَابِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ
لِيُوجِبَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا
سَمَّى الْمُدَّةَ أَوْ لَمْ يُسَمِّ وَلَا أَجْرَ لَهُ، وَإِنْ قَرَأَ،
وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمُصْحَفِ وَالْكَلَامُ فِيهِ أَبْيَنُ فَإِنَّ
قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُصْحَفِ وَالنَّظَرَ فِيهِ طَاعَةٌ وَكَانَ
هَذَا كُلُّهُ نَظِيرَهُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ كَرْمًا لِيَفْتَحَ لَهُ
بَابَهُ فَيَنْظُرَ فِيهِ لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ،
أَوْ اسْتَأْجَرَ مَلِيحًا لِيَنْظُرَ إلَى وَجْهِهِ فَيَسْتَأْنِسَ
بِذَلِكَ، أَوْ اسْتَأْجَرَ جُبًّا مَمْلُوءًا مِنْ
(16/36)
الْمَاءِ لِيَنْظُرَ فِيهِ إذَا سَوَّى
عِمَامَتَهُ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذِهِ
الْعُقُودِ. فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيُعَلِّمَ وَلَدَهُ الْقُرْآنَ
أَوْ الْفِقْهَ، أَوْ الْفَرَائِضَ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ ذَلِكَ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ
طَاعَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ
إقَامَتُهُ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا
الْكَلَامَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى
الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى
تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ
الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا
تَأْكُلُوا بِهِ» «. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لِمُدَرِّسِ الْعِلْمِ إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرُّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَمَّا أَقْرَأَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - رَجُلًا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ
قَوْسًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ لَا
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ» .
وَلِأَنَّ مَنْ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ خَلِيفَةُ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَعْمَلُ فَإِنَّهُ
بُعِثَ مُعَلِّمًا وَهُوَ مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي أَجْرٍ عَلَى
التَّعْلِيمِ. فَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلُفُهُ وَعَمَلُهُ ذَلِكَ قُرْبَةٌ
وَمَنْفَعَةُ عَمَلٍ يَحْصُلُ لَهُ فَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّسْلِيمِ
إلَى غَيْرِهِ وَبِدُونِ التَّسْلِيمِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ وَبَعْضُ
أَئِمَّةِ بَلْخِي - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - اخْتَارُوا قَوْلَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالُوا إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ
مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَنَوْا هَذَا الْجَوَابَ عَلَى
مَا شَاهَدُوا فِي عَصْرِهِمْ مِنْ رَغْبَةِ النَّاسِ فِي التَّعْلِيمِ
بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَمُرُوءَةِ الْمُتَعَلِّمِينَ فِي مُجَازَاتِ
الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا
فَنَقُولُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ هَذَا الْبَابُ
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ
(أَلَا تَرَى) أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي
زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ مَنَعَهُنَّ مِنْ ذَلِكَ عُمَرُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ مَا رَوَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَوَابًا وَلَوْ
اسْتَأْجَرُوا مَنْ يَؤُمُّهُمْ فِي رَمَضَانَ، أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ؛
لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ
عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرُوا مَنْ يُؤَذِّنُ لَهُمْ
فَالْمُؤَذِّنُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الدُّعَاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْفَعَةُ عَمَلِهِ
تَحْصُلُ لَهُ؛ لِأَنَّ بِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ يَزْدَادُ ثَوَابُهُ عَلَى
أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ
بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «كَانَ مِنْ آخِرِ
مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ
قَالَ صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَإِنْ اتَّخَذْتَ
مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا» وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ إنِّي أُحِبُّك فَقَالَ عُمَرُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنِّي أُبْغِضُك فِي اللَّهِ قَالَ وَلِمَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّك تَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ
أَجْرًا.
(16/37)
وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ وَشَيْءٍ مِنْ
اللَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعَاصِي
بَاطِلٌ فَإِنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ شَرْعًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلٌ
بِهِ يَكُونُ عَاصِيًا شَرْعًا، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى
الْحِدَاءِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ لِقِرَاءَةِ الشِّعْرِ؛ لِأَنَّ
هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجَارَةِ
عُرْفُ النَّاسِ، وَلِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ
بِمُضِيٍّ فِي الْمُسْتَأْجَرِ وَهُوَ السَّمَاعُ وَالتَّأَمُّلُ
وَالتَّفَهُّمُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْأَجْرِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرَ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ يَلْهُو بِهِ
فَضَاعَ، أَوْ انْكَسَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ
وَاسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ، وَإِنْ بَطَلَ
فَالْإِذْنُ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَاقٍ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بِيعَةً يُصَلِّي فِيهَا
لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا
ذِمِّيٌّ مِنْ ذِمِّيٍّ، وَكَذَلِكَ الْكَنِيسَةُ وَبَيْتُ النَّارِ
فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي هَذِهِ الْبِقَاعِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي
الْمَسَاجِدِ وَاسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ مَسْجِدًا
يُصَلِّي فِيهِ مَكْتُوبَةً أَوْ نَافِلَةً لَا يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ لَا
يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِنَاءً عَلَى
اعْتِقَادِهِمْ، وَفِي اعْتِقَادِنَا هَذَا مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ وَشِرْكٌ
فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، ثُمَّ اسْتِئْجَارُ الْمَسْجِدِ مِنْ
الْمُسْلِمِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَاسْتِئْجَارِ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لَهُ،
وَقَدْ بَيَّنَّا إنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى
الطَّاعَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَهْلُ
الذِّمَّةِ ذِمِّيًّا لِيُصَلِّي بِهِمْ، أَوْ لِيَضْرِبَ لَهُمْ
النَّاقُوسَ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.
. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيَبِيعَ
فِيهِ الْخَمْرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَنْعَقِدُ
الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجُوزُ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يُجَوِّزُ هَذَا الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى
مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْخَمْرِ فِيهِ
فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ فِيهِ شَيْئًا آخَرَ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا،
وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمَقْصُودِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ
مَعْنًى آخَرَ فِيهِ، وَمَا صَرَّحَا بِهِ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَنَّ ذِمِّيًّا اسْتَأْجَرَ مُسْلِمًا يَحْمِلُ لَهُ خَمْرًا فَهُوَ عَلَى
هَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَا
يُجَوِّزَانِ الْعَقْدَ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ يُحْمَلُ لِلشُّرْبِ وَهُوَ
مَعْصِيَةٌ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا تَجُوزُ وَالْأَصْلُ
فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ فِي
الْخَمْرِ عَشْرًا» وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ حَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ
إلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يَجُوزُ
الِاسْتِئْجَارُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حَمْلُ الْخَمْرِ فَلَوْ كَلَّفَهُ
بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ،
وَلِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ قَدْ يَكُونُ لِلْإِرَاقَةِ وَلِلصَّبِّ فِي
الْخَلِّ لِيَتَخَلَّلَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ
مَيْتَةً، وَذَلِكَ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُمَا
يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْمَيْتَةُ تُحْمَلُ عَادَةً لِلطَّرْحِ
وَإِمَاطَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا الْخَمْرُ يُحْمَلُ عَادَةً لِلشُّرْبِ
وَالْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ اُبْتُلِينَا
بِمَسْأَلَةٍ وَهُوَ أَنَّ مُسْلِمًا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَنْقُلَ
جِيفَةَ مَيْتَةٍ
(16/38)
مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى
بَلَدٍ. فَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا أَجْرَ
لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْمِلُ حِمْلَ الْجِيفَةِ إلَى الْمَقْبَرَةِ
لِإِمَاطَةِ الْأَذَى. فَأَمَّا حَمْلُهُمَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ
فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (وَقُلْت) أَنَا
إنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِمَا أُمِرَ بِحَمْلِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ
أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ لِمَعْنَى
الْغُرُورِ وَاسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ الدَّابَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِ، أَوْ
السَّفِينَةَ لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا خَمْرًا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي
بَيَّنَّا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
فَهُوَ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَرْعَى لَهُ خَنَازِيرَ؛
لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ
بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ فِي حَقِّنَا، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ
لِيَبِيعَ لَهُ مَيْتَةً، أَوْ دَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ
بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ فَحُكْمُهُمْ فِيهَا كَحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُؤَاجِرَ الْمُسْلِمُ دَارًا مِنْ الذِّمِّيِّ
لِيَسْكُنَهَا فَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ، أَوْ عَبَدَ فِيهَا
الصَّلِيبَ، أَوْ أَدْخَلَ فِيهَا الْخَنَازِيرَ لَمْ يَلْحَقْ الْمُسْلِمَ
إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَاجِرْهَا لِذَلِكَ
وَالْمَعْصِيَةُ فِي فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِعْلُهُ دُونَ قَصْدِ رَبِّ
الدَّارِ فَلَا إثْمَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي ذَلِكَ كَمَنْ بَاعَ
غُلَامًا مِمَّنْ يَقْصِدُ الْفَاحِشَةَ بِهِ، أَوْ بَاعَ جَارِيَةً
مِمَّنْ لَا يَشْتَرِيهَا، أَوْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى لَمْ
يَلْحَقْ الْبَائِعَ إثْمٌ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي
يَأْتِي بِهَا الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّخَذَ فِيهَا بِيعَةً،
أَوْ كَنِيسَةً أَوْ بَاعَ فِيهَا الْخَمْرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي السَّوَادِ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ،
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِيمَا سَبَقَ
وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ثَوْبَةَ بْنِ نَمِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا إخْصَاءَ وَلَا كَنِيسَةَ
فِي الْإِسْلَامِ» وَلِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ
الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ بِالشَّامِ عَلَى أَنْ
يُحَصِّلَ عَنْ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ وَعَلَى أَنْ لَا يُحْدِثُوا
كَنِيسَةً فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ بَيْتًا لِيُصَلِّي فِيهِ
الْمَكْتُوبَةَ، أَوْ التَّرَاوِيحَ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ دِينًا تَمْكِينُ الْمُسْلِمِ مِنْ مَوْضِعٍ يُصَلِّي فِيهِ
عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا
فَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْتُلَ لَهُ رَجُلًا أَوْ يَشُجَّهُ، أَوْ
يَضْرِبَهُ ظَالِمًا لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ
الْعَقْدَ إقَامَةُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ يَحِقُّ عَلَى كُلٍّ؛ لِأَنَّهُ
اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَوْ جَازَ الْعَقْدُ لَصَارَ
إقَامَةُ الْعَمَلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَا هُوَ ظُلْمٌ لَا
يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى أَحَدٍ شَرْعًا، وَلَوْ أَعْطَاهُ سِلَاحًا
لِذَلِكَ فَضَاعَ أَوْ انْكَسَرَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ
بِإِذْنِ صَاحِبِهِ
، وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَضْرِبَ حَدًّا قَدْ
لَزِمَهُ، أَوْ لِيَقْبِضَ مِنْ رَجُلٍ، أَوْ لِيَقْطَعَ يَدَ رَجُلٍ أَوْ
لِيُقَوِّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ شَهْرًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ
فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ
مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ حَتَّى يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ بِتَسَلُّمِ
النَّفْسِ وَهُوَ مَعْلُومٌ، ثُمَّ يَحْكُمَ أَنَّهُ مَلَكَ مَنَافِعَهُ
لِيَسْتَعْمِلَهُ فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ وَغَيْرِ
(16/39)
ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِإِقَامَةِ
الْحُدُودِ، أَوْ الْقِصَاصِ خَاصَّةً لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ
مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ
أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
فَإِنْ (قِيلَ) إقَامَةُ الْحَدِّ طَاعَةٌ فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ
عَلَى إقَامَتِهِ عِنْدَ فَسَادِ الْعَقْدِ (قُلْنَا) مَعْنَى الطَّاعَةِ
فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ؛ وَلِهَذَا صَحَّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ
كَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ وَلَوْ اسْتَصْحَبَهُ عَلَى أَنْ
يَجْعَلَ لَهُ رِزْقًا كُلَّ شَهْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا إنْ بَيَّنَ
مِقْدَارَ مَا يُعْطِيهِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ
عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ
ذَلِكَ فَهُوَ فِي هَذَا كَالْقَاضِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ رِزْقًا
بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنُوبُ عَنْ
الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ قَسَّامُ الْقَاضِي إذَا
اسْتَأْجَرَهُ لِيُقَسِّمَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ
قَاسِمٌ يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ إقَامَةُ
هَذَا الْعَمَلِ عَلَى أَحَدٍ دِينًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ قُضِيَ لِرَجُلٍ بِالْقِصَاصِ فِي قَتْلٍ فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا
يَقْتُلُ لَهُ لَمْ أَجْعَلْ لَهُ أَجْرًا، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ
قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَقْتُلُ مُرْتَدًّا، أَوْ حَرْبِيًّا
أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَلَوْ
اسْتَأْجَرَهُ لِيَقْطَعَ طَرِيقًا جَازَ وَأَمَّا أَنَا فَلَا أُفَرِّقُ
بَيْنَهُمَا وَأُجَوِّزُ الْعَقْدَ فِيهِمَا وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِمَحَلِّهِ وَإِقَامَتُهُ جَائِزٌ
شَرْعًا فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَذَبْحِ الشَّاةِ وَقَطْعِ
الطُّرُقِ وَكَسْرِ الْحَطَبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ (حَرْفَانِ) أَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا
فِي الْكِتَابِ فَقَالَ مَا قِيلَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَمَلٍ يَعْنِي
أَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقُ الرُّوحِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ
كَمَا أَنَّ إدْخَالَ الرُّوحِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ. فَكَذَلِكَ الْإِزْهَاقُ بِخِلَافِ
الذَّبْحِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ
لِيَتَمَيَّزَ بِهِ الطَّاهِرُ مِنْ النَّجِسِ، وَذَلِكَ بِقَطْعِ
الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ وَالْقَطْعُ
كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إبَانَةُ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ
يَحْصُلُ بِصُنْعِ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي
الْمَحَلِّ مَعَ التَّجَافِي وَمِثْلُهُ مِنْهُ مَا يَحِلُّ شَرْعًا
وَمِنْهُ مَا يَحْرُمُ كَالْمُثْلَةِ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ مِنْهُ
إيقَاعُ الْفِعْلِ وَالْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرْبَتَيْنِ
فَلِلْجَهَالَةِ وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَمْ يَجُزْ
الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالذَّبْحِ فَإِنَّهُ
يَكُونُ بِإِمْرَارِ السِّلَاحِ عَلَى الْمَحَلِّ لَا بِصِفَةِ التَّجَافِي
عَنْهُ وَكَسْرِ الْحَطَبِ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَحَلِّ
بِالتَّجَافِي، وَلَكِنَّ الْكُلَّ فِيهِ سَوَاءٌ فِي صِفَةِ الْحِلِّ
شَرْعًا؛ فَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَغْزُو عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
الْغَزْوَ طَاعَةٌ فَهُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ
افْتَرَضَ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ
فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى إقَامَةِ
(16/40)
مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي
وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ
فِرْعَوْنَ» .
وَلَوْ شَارَطَ كَحَّالًا أَنْ يُكَحِّلَ عَيْنَهُ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ
جَازَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي كُلِّ دَاءٍ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ
مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ
مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ
. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَحْلًا لِيُنْزِيَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَثَرِ
الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّيْسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ
وَلَا قِيمَةَ لَهُ وَصَاحِبُ الْفَحْلِ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا
يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ
الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ
وَإِنْ سَلَّمَ غُلَامًا إلَى مُعَلِّمٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَشَرَطَ
عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ
مَجْهُولٌ إذْ لَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ
تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي
ذَلِكَ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالتَّحْذِيقُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَلْ
ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ فِي خِلْقَةِ الْمُتَعَلِّمِ، ثُمَّ فِيمَا
سُمِّيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يُحَذِّقَهُ كَمَا شَرَطَ أَمْ لَا وَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ مَا لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ.
، وَلَوْ أَجَّرَ أَرْضِهِ بِدَرَاهِمَ وَشَرَطَ خَرَاجَهَا عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَجْهُولٌ لَا
يُعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ مُرَادُهُ
فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ فَالْمَالُ فِي ذَلِكَ يُقْسَمُ عَلَى
الْجَمَاجِمِ وَالْأَرَاضِي فَتَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرَاضِي إذَا قُلْتِ
الْجَمَاجِمُ وَتَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْجَمَاجِمِ. فَأَمَّا فِي جِرَاحِ
الْوَظِيفَةِ لَا جَهَالَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَقِيلَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ
هَذَا إنَّ وُلَاةَ الظَّلَمَةِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ
يَزْدَادُ ذَلِكَ تَارَةً وَيَتَنَقَّصُ أُخْرَى فَيَكُونُ مَجْهُولًا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَرَاجَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَرِيعُ الْأَرْضِ
كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ
لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ
أَعْطَاهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ
خَرَاجَهَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ. فَإِذَا شَرَطَهُ
عَلَى الْمُزَارِعِ يَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ
تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ جَرِيبٍ
دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ مِمَّا يُخْرِجُهُ، وَذَلِكَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ فِي
الصِّفَةِ، وَلَوْ أَجَّرَهَا وَشَرَطَ الْعُشْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ
الْعُشْرَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ.
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَأَنْ أَجَّرَهُ وَهُوَ مَجْهُولُ
الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ
فَلَا يَصِيرُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ
نَظِيرُ الْعُشْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ كَذَا
دِرْهَمًا وَدِينَارًا، أَوْ فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ نَقْدُ
الْبَلَدِ وَوَزْنُهُمْ فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُمْ مُخْتَلِفًا فَهُوَ
فَاسِدٌ حَتَّى يُبَيِّنَ الْوَزْنَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْرَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ
وَبِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ وَمُرَادُهُ فِي الدَّرَاهِمِ
(16/41)
الْمَوْزُونَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي
الْوَزْنِ. فَأَمَّا مَا يُعَدُّ وَلَا يُوزَنُ كَالْعِطْرِ يَفِي. فَإِذَا
سُمِّيَ الْعَدَدُ فِيهِ جَازَ كَمَا فِي الْفُلُوسِ، وَإِنْ أَشَارَ إلَى
دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ
فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قَالَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي
الْمِائَةِ خَمْسَةٌ كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الْوَزْنُ
بِمَا ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِيمَا يَزِنُ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا
فَكَأَنَّهُ قَالَ مِائَةٌ إلَّا خَمْسَةً
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا، أَوْ فِقْهًا
مَعْلُومًا كَانَ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ
يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ الِاسْتِئْجَارُ
عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ وَقِيلَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْكِتَابَةِ
كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الصِّيَاغَةِ؛ لِأَنَّ بِعَمَلِهِ يُحْدِثُ لَوْنَ
الْحَبْرِ فِي الْبَيَاضِ أَوْ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى النَّقْشِ،
وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.
(قَالَ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَصَحُّ عِنْدِي
أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ وَهِيَ
الْكِتَابَةُ بِخِلَافِ التَّعْلِيمِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ
إلَّا بِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَإِيجَادُ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ
الْمُعَلِّمِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ عَمَلًا فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ
بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ
بَيَّنَّا هَذَا.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ يَعْمَلُ
لِلْيَتِيمِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
فَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ لِلْيَتِيمِ مَعَ
نَفْسِهِ بِحَالٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ
ظَاهِرَةٍ وَلَا مَنْفَعَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ مِمَّا
لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لِنَفْسِهِ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْيَتِيمِ
بِمُقَابَلَتِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ
أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْيَتِيمَ، أَوْ عَبْدَ الْيَتِيمِ بِمَالِ
نَفْسِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ
يَجُوزَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ
فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ
وَالْأَبُ يَسْتَأْجِرُ نَفْسَهُ، أَوْ عَبْدَهُ لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ
لِوَلَدِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ
الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ فَيَجُوزُ عَقْدُهُ
مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِوَلَدِهِ
فِيهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ عَبْدًا لِلْيَتِيمِ
لِيَعْمَلَ لِيَتِيمٍ آخَرَ مِنْ حُجْرَةٍ وَهُوَ وَصِيُّهُمَا فَهَذَا لَا
يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا أَضَرَّ بِالْآخَرِ وَهُوَ لَا
يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا يَجُوزُ
لِلصَّبِيِّ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ
كَالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
إلَى وَلِيِّهِ وَلَهُ الْأَجْرُ إنْ عَمِلَ اسْتِحْسَانًا، وَفِي
الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَوُجُوبُ
الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِهِ. فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ، وَفِي
الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْهُ
تَمَحُّضُ مَنْفَعَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَإِنَّا لَوْ
اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ
لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ وَالصَّبِيُّ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَمَّا
يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لَهُ
(16/42)
كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فَإِنْ
فَعَلَ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا
لِمَا قُلْنَا فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْعَمَلِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ، ثُمَّ الْأَجْرُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ
مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ
الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ
الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا
يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ. وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْأَجْرَ فَهُوَ
لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ
يَدِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ إتْلَافَ بَدَلِ مَنْفَعَةٍ كَإِتْلَافِ
مَنَافِعِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ
. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا لِيُجْرِيَ فِيهِ الْمَاءَ
بِأَرْضِهِ، أَوْ إلَى رَحَا مَاءٍ فَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ
النَّهْرِ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ لَيْسَ فِي
وُسْعِهِ وَمِقْدَارُ مَا يَجْرِي مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ
يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ
بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وُضُوءَهُ وَبَوْلَهُ، أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ
لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ مِيزَابِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ
يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا
لِيَسْقِيَ مِنْهَا غَنَمَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ
فَالْوَجْهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ
مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَكُونَ عَطَنًا لِمَوَاشِيهِ وَيُبِيحُ لَهُ
سَقْيَ الْمَوَاشِي مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَرْعَى لَا
تَجُوزُ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا
لِيَضْرِبَ فِيهِ خَيْمَةً فَيَسْكُنَ وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ
بِالْمَرْعَى، وَلَوْ أَجَّرَهُ بَكَرَةً وَحَبْلًا وَدَلْوًا يَسْقِي
بِهَا غَنَمَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَقْتًا
فَيَجُوزَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي
الْمُدَّةِ.
فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مَوْضِعَ جِذْعٍ يَضَعُهُ عَلَى حَائِطِهِ
لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛
لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَوْ
اسْتَعَارَهُ لِذَلِكَ جَازَ. فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ، وَلَكِنَّا
أَفْسَدْنَاهُ لِلْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِثِقَلِ
الْجِذْعِ وَخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ مَا يَبْنِي وَقِلَّتِهِ، وَكَذَلِكَ
لَوْ اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً فَهُوَ فَاسِدٌ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْجَهَالَةِ، وَقَدْ
يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا فِي دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهِ كُلَّ شَهْرٍ
بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ
وَلِلشُّيُوعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ
شَائِعًا لَا يَجُوزُ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَعِنْدَهُمَا اسْتِئْجَارُ
جُزْءٍ شَائِعٍ صَحِيحٌ. فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَعْلُومٌ
بِالْعُرْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا؛
لِأَنَّ مِقْدَارَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَسَطْحُ
السُّفْلِ حَقُّ صَاحِبِ السُّفْلِ كَالْأَرْضِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيْتًا جَازَ. فَكَذَلِكَ
إذَا اسْتَأْجَرَ سَطْحَ السُّفْلِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ
لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ
(16/43)
ثُمَّ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَجْهُولٌ
وَالضَّرَرُ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ ذَلِكَ
وَكَثْرَتِهِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ
بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ
الْبِنَاءِ وَثِقَلِهِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ كُوَّةٍ يَنْقُبُهَا فِي حَائِطٍ لَهُ
يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا الضَّوْءُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ
مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِمَا
لَيْسَ مِنْ مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ. فَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا لِيَمْتَدَّ فِي حَائِطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ شَيْئًا
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ وَبِهَذَا
اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - اسْتِئْجَارَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَفِي تَأَمُّلِهِ
تَنْصِيصٌ عَلَى هَذَا، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَى الْحَائِطِ يَخْتَلِفُ
بِخِفَّةِ مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى الْوَتَدِ أَوْ بِثِقَلِهِ فَهُوَ
مَجْهُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ
اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ مِيزَابٍ فِي حَائِطٍ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى
الْحَائِطِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ وَكَثْرَتِهِ
فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَنْصِبَهُ فِي
حَائِطٍ يَسِيلُ فِيهِ مَاؤُهُ فَهَذَا جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ
مُنْتَفَعٌ بِهِ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ.
. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى
اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ خِيَاطَةً أَوْ صِبَاغَةً، أَوْ خُبْزًا، أَوْ غَيْرَ
ذَلِكَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ الْعَقْدُ
عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْيَوْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ
النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ
فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ
وَهُوَ مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا
لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى
أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا؛
لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَا
هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ دُونَ الْمُدَّةِ وَأَبُو
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ جَمَعَ فِي الْعُقْدَتَيْنِ
تَسْمِيَةَ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةَ وَحُكْمُهُمَا مُخَالِفٌ فَمُوجِبُ
تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ اسْتِحْقَاقُ مَنَافِعِهِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ
بِالْعَقْدِ وَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ
عَلَيْهِ الْوَصْفَ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الْمَعْمُولِ لَا مَنَافِعِهِ
وَيَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا
بِالِاعْتِبَارِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى
الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ مُضِيِّ
الْيَوْمِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقُولَ مَنَافِعُك فِي بَقِيَّةِ
الْيَوْمِ حَقِّي بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْوَقْتِ، وَأَنَا
أَسْتَعْمِلُك. وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْيَوْمِ
فَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ قَدْ انْتَهَى
الْعَقْدُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَقْصُودَ
الْمُسْتَأْجِرِ فَالْمُدَّةُ مَقْصُودُ الْأَجِيرِ فَلَيْسَ الْبِنَاءُ
عَلَى مَقْصُودِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى مَقْصُودِ
الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
وَهُوَ إقَامَةُ جَمِيعِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى.
وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ
اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الْقَمِيصَ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ
فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ بِحَرْفِ فِي
(16/44)
يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذِكْرِ
الْمُدَّةِ الِاسْتِعْجَالُ لَا تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ،
وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ لَا جَمِيعِهِ وَعَلَى هَذَا
الْخِلَافِ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْمُدَّةَ وَالْمَسَافَةَ
وَالْعَمَلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَنْقُلُ لَهُ طَعَامًا
مَعْلُومًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ
فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ
مَرِضَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي مَرِضَ
فِيهَا مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ
الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مِقْدَارٍ مِنْ الشَّهْرِ يَمْرَضُ
لِيَدْخُلَ فِي الْعَقْدِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ،
ثُمَّ هَذَا الشَّهْرُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ انْتِهَاؤُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، وَهَذَا الشَّرْطُ
يُخَالِفُ ذَلِكَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ
إنْ سَكَنَهُ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؛
لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ بِعُذْرٍ لَا يَلْزَمُهُ
الْأَجْرُ، ثُمَّ مِقْدَارُ أَجْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فِي الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ مَجْهُولٌ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ عَشَرَةُ
دَرَاهِمَ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى
بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ بَلَغَ قَرْيَةَ كَذَا، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ
الْأَجْرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّى، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يُخَالِفُ
مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلَ كَذَا بِأَجْرٍ
مَعْلُومٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كَذَا
مِنْ الْحِمْلِ فَحَمَلَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَمْ
يَحْمِلْ الْأَوَّلَ فَأَجَّرَهَا كَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ
عَلَى مَا شَرَطَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا
حِنْطَةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَأَجْرُهَا
مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ إنْ
اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَسْكَنَهُ بَزَّازًا فَأَجْرُهُ
خَمْسَةٌ، وَإِنْ أَسْكَنَهُ قَصَّارًا فَأَجْرُهُ عَشَرَةٌ وَجْهُ
قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَالْبَدَلُ
بِمُقَابَلَتِهِ مَجْهُولٌ فَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِسَكَنِ الْقَصَّارِ
وَالْبَزَّازِ وَهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ»
أَرَأَيْت لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْبَيْتَ فَلَمْ يَسْكُنْهُ أَصْلًا
حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَمَاذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ أَوْ
عَشَرَةٌ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ
مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ
بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ،
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي
الْبَدَلِ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ
اللَّهُ - يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنْ يَلْزَمَهُ
نِصْفُ
(16/45)
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّسْمِيَتَيْنِ؛
لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هُنَا، وَقَدْ
تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلَيْسَ أَحَدُ
الْبَدَلَيْنِ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ
فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ
مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ الْتَزَمَ زِيَادَةَ الْبَدَلِ
بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ. وَإِذَا سَكَنَهُ قَصَّارًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
يُوهِنُ الْبِنَاءَ. فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهَا أَحَدًا فَقَدْ انْعَدَمَ
ذَلِكَ الضَّرَرُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَسْكَنَ بَزَّازًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا
خَمْسَةٌ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُسْكِنَهُ قَصَّارًا.
فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهُ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا
خَمْسَةٌ.
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا
يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِيجَارَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ
نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ، وَذَلِكَ يُضَادُّ الْعَقْدَ، وَإِنْ
لَمْ يَسْكُنْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَنْصِيصٌ
عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ الْفَاسِدَةَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ
لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ مَا لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً كَمَا
فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ بِأَجْرِ
مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِمَّا سَمَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ
بِالْمُسَمَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْكُنَ فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ
رَاضِيًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَتْ.
وَإِنْ جَعَلْت أَجْرَ الدَّارِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ سَنَةً، أَوْ
يَوْمًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ إنْ
سَكَنَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّمَا
سَمَّى إذَا كَانَ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ
أَجَّرَهَا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الْأَذَانِ
وَالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا
الْعَمَلِ لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا، وَلِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ
فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ تَكَارَى بِرْذَوْنًا لِيَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ فَإِنْ جَازَ
فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ
فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ
مِنْ أَصْحَابِ الدِّيوَانِ اسْمُهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ، وَقَدْ
يُفِقْ فَرَسَهُ فَطَلَبَ السُّلْطَانُ الْعَرْضَ فَاسْتَأْجَرَ الْفَرَسَ
عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقَّفْ عَلَى ضَيْعَةٍ فَالْأَجْرُ عَشَرَةٌ،
وَإِنْ وَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَجْرُ خَمْسَةٌ فَهَذَا فَاسِدٌ
لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ فَلَا يَدْرِي الْجَوَازَ وَلَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ
أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ أَنْ يُفِقْ فِي رُكُوبِهِ أَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ؛ لِأَنَّ
الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ
كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ.
وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا رَكِبَ الْأَمِيرُ رَكِبَ
مَعَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ رَكْبَةٍ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ
بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ
وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ رَزَقَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَغْدَادَ شَيْئًا، أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا
أَعْطَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ
وَالْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ فِي أَصْلِ الْأَجْرِ
وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا يَرْكَبُ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى
بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهَا إنْ بَلَّغَتْهُ
(16/46)
إلَى بَغْدَادَ فَلَهُ أَجْرُ عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ
أَجْرُ مِثْلِهَا بِقَدْرِ مَا سَارَ عَلَيْهَا لِمَعْنَى الْمُخَاطَرَةِ
وَالضَّمَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ إجَارَةِ حَفْرِ الْآبَارِ وَالْقُبُورِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ
لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَوْضِعًا وَلَمْ يَصِفْهَا
فَهُوَ فَاسِدٌ) لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَمَلُ الْحَفْرِ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ
وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ الْبِئْرُ فِي
الْعَرْضِ وَالْعُمْقِ، وَلَوْ سَمَّى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي الْأَرْضِ
وَمِمَّا يُدِيرُ هَكَذَا ذِرَاعًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ؛ لِأَنَّ
الْعَمَلَ صَارَ مَعْلُومًا بِتَسْمِيَةِ الذَّرِعَانِ عِنْدَ أَهْلِ
الصَّنْعَةِ وَالْمَوْضِعُ مَعْلُومٌ بِتَسْمِيَةِ دَارِهِ فَإِنْ حَفَرَ
ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ، ثُمَّ وَجَدَ جَبَلًا أَشَدَّ عَمَلًا وَأَشَدَّ
مُؤْنَةً فَأَرَادَ تَرْكَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ
عَلَى الْحَفْرِ إذَا كَانَ يُطَاقُ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ الْعَمَلَ
مَعَ عَمَلِهِ عَلَى أَنَّ أَطْبَاقَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فَلَيْسَ فِي
إبْقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ
فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفَسْخِ.
وَفِي الْكِتَابِ (قَالَ) إذَا كَانَ يُطَاقُ، وَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا
وَيُطَاقُ فِيهِ حَفْرًا، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إذَا
كَانَ يُطَاقُ حَفْرًا بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ وَلَا يَحْتَاجُ الْأَجِيرُ
إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ
إقَامَةَ الْعَمَلِ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ. فَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى
اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ فَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ
بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ
أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ فِي سَهْلٍ، أَوْ طِينٍ بِدِرْهَمٍ وَكُلَّ ذِرَاعٍ
فِي جَبَلٍ أَوْ مَاءٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَسَمَّى طُولَ الْبِئْرِ خَمْسَةَ
عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ مِنْ
الْعَمَلِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا
مَعْلُومًا وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّسْمِيَةِ جَهَالَةٌ تُفْضِي
إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ،
وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي
جَبَلِ مَرْوَةَ فَحَفَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ جَبَلًا صَمًّا
صَفَا فَإِنْ كَانَ يُطَاقُ حَفْرُهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَالْمَرْوَةُ
اللِّينُ مِنْ الْحَجَرِ الَّذِي يَضْرِبُ إلَى الْخُضْرَةِ وَالصَّفَا مَا
يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ الْحَفْرَ
بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ. فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُطَاقُ الْحُفْرَةُ
بِتِلْكَ الْآلَةِ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ، وَإِنْ كَانَ لَا
يُطَاقُ فَلَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ
بِحِسَابِ مَا حَفَرَ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالسِّرْدَابُ
وَالْبَالُوعَةُ إذَا ظَهَرَ الْمَاءُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا
شَرَطَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ الْحَفْرُ مَعَهُ فَهَذَا
عُذْرٌ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ لَمْ
يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَحَفَرَهَا،
ثُمَّ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا فَلَهُ مِنْ
(16/47)
الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ؛ لِأَنَّهُ
يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَصِيرُ عَمَلُهُ
مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ
فِي الْأَجْرِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِالتَّلَفِ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ
مِنْ ضَمَانِهِ.
وَلَوْ كَانَتْ بِئْرَ مَاءٍ فَشَرَطَ عَلَيْهِ مَعَ حَفْرِهَا طَيَّهَا
بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَفَعَلَ وَفَرَغَ مِنْهَا، ثُمَّ انْهَارَتْ
فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا، وَإِنْ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَطْوِيَهَا
بِالْأَجْرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ
الْعَمَلِ يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ وَيَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى
صَاحِبِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ
الْعَمَلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَهَا فِي الْجَبَّانَةِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ
وَلَا فِي فِنَائِهِ فَحَفَرَهَا فَانْهَارَتْ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى
يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَيَّاطِ
وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَا
اتَّصَلَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَصِيرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ
قَابِضًا وَلَا بُدَّ لِدُخُولِ الْعَمَلِ فِي ضَمَانِهِ مِنْ أَنْ
يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ
إلَيْهِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِنَاءَ حَقُّ
الْمَرْءِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ
وَالْفِنَاءُ فِي يَدِهِ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ. فَإِذَا
كَانَ الْحَفْرُ فِيهِ يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ
الْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ
قَبْرًا، ثُمَّ دُفِنَ فِيهِ إنْسَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُسْتَأْجِرُ بِجِنَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ؛
لِأَنَّهُ حَفَرَ الْقَبْرَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمَّا
لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ لَا يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ، وَإِنْ
جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ فَحَالَ الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبْرِ
فَانْهَارَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ دَفَنُوا فِيهِ إنْسَانًا آخَرَ فَلَهُ
الْأَجْرُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَى
صَاحِبِهِ، وَإِنْ دَفَنَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ مَيْتَةً، ثُمَّ قَالَ
لِلْأَجِيرِ اُحْثُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَبَى الْأَجِيرُ فِي الْقِيَاسِ
لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَحَثْيُ
التُّرَابِ كَنْسٌ، وَلَيْسَ بِحَفْرٍ وَهُوَ ضِدُّ مَا الْتَزَمَهُ
بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا يَضَعُ أَهْلُ مَلِكِ
الْبِلَادِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَحْثِي التُّرَابَ
خَيَّرْته فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ، وَإِنْ كَانَ
الْأَجِيرُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ أُجْبِرْهُ
عَلَيْهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ
الْمُتَعَارَفُ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُجْعَلُ
كَالْمَشْرُوطِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي
يَضَعُ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ وَهُوَ يَنْصِبُ اللَّبِنَ عَلَيْهِ لَمْ
يُجْبَرْ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ
الْعُرْفُ إنَّ أَقْرِبَاءَ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ الَّذِينَ
يَضَعُونَهُ فِي لَحْدِهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى الْأَجِيرِ يُعَدُّ مِنْ
الِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْفِرُ فِيهِ
فَوَافَقَ فِيهِ جَبَلًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَحَفَرَهُ
لَمْ يَزِدْ عَلَى أَجْرِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ
مَعَ عَمَلِهِ بِاخْتِلَافِ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ فِي الصَّلَابَةِ
وَالرَّخَاوَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ يَحْفِرُ قَبْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ
فِي أَيِّ الْمَقَابِرِ يَحْفِرُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ
لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ
إذَا حَفَرَ فِي النَّاحِيَةِ
(16/48)
الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا أَهْلُ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ أَجْعَلُ لَهُ الْأَجْرَ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَادَةِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ دَرْبٍ فِيهِمْ مَقْبَرَةً عَلَى حِدَةٍ
لِأَهْلِهَا. فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَحَلَّةٍ
إلَى مَحَلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَقْبَرَةِ بِنَاءً عَلَى
عُرْفِ دِيَارِنَا، وَإِنْ سَمَّى لَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا فَحَفَرَ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ
فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ إنْ
أَمَرُوهُ بِحَفْرِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُسَمُّوا مَوْضِعًا فَحَفَرَ فِي
غَيْرِ مَقْبَرَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، أَوْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ
فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَحِينَئِذٍ
يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ حِينَ
دَفَنُوا الْمَيِّتَةَ فِيهِ.
وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ تَطْيِينَ الْقَبْرِ، أَوْ تَجْصِيصَهُ فَلَيْسَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَالتَّجْصِيصُ
لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْعَادَةِ الَّذِي يُطَيِّنُ
الْقَبْرَ غَيْرُ الَّذِي يَحْفِرُهُ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَحْفِرَ
لَهُمْ الْقَبْرَ وَلَمْ يُسَمُّوا لَهُ طُولَهُ وَلَا عَرْضَهُ وَلَا
عُمْقَهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ
تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَالْعَمَلُ بِحَسَبِهِ
يَتَفَاوَتُ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأُجْبِرُهُ فَأُقَدِّرُهُ بِوَسَطِ
مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ
كَالشُّرُوطِ بِالنَّصِّ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْوَسَطَ فِي
الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَخَيْرُ
الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَإِنْ وَصَفُوا لَهُ مَوْضِعًا فَوَجَدَ وَجْهَ
الْأَرْضِ لِينًا فَلَمَّا حَفَرَ ذِرَاعًا وَجَدَ جَبَلًا أُجْبِرُهُ
عَلَى أَنْ يَحْفِرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْفِرُ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ
الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوا لَهُ لَحْدًا
وَلَا شِقًّا فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِنْ كَانَ
بِالْكُوفَةِ فَعَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى اللَّحْدِ، وَإِنْ كَانَ فِي
بَلَدٍ عَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى الشِّقِّ فَهُوَ عَلَى الشِّقِّ؛ لِأَنَّ
بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْمُتَعَارَفَ وَالْمُتَعَارَفُ مَا
عَلَيْهِ عِظَمُ الْعَمَلِ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَكْرِيَ لَهُ نَهْرًا، أَوْ قَنَاةً فَأَرَاهُ
مِفْتَحَهَا وَمَصَبَّهَا وَعَرْضَهَا وَسَمَّى لَهُ كَمْ يُمْكِنُ فِي
الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ اشْتَرَطَ طَيَّهَا بِالْأَجْرِ
وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْأَجِيرِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ
لِلْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَهَذَا بَيْعُ شَرْطٍ فِي الْإِجَارَةِ، وَذَلِكَ
مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، وَإِنْ شَرَطَ الْآجُرَّ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ
الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدَ الْآجُرِّ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ
فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ
يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْآجُرِّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ جَائِزٌ
عَلَى مَا يَعْمَلُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ عَدَدَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ
إلَيْهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْآجُرِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ
الصَّنْعَةِ فَيَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ، وَإِنْ سَمَّى عَدَدَ الْآجُرِّ
وَكَيْلَ الْجِصِّ وَعَرْضَ الطَّيِّ وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ
أَوْثَقُ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْمُنَازَعَةِ أَبْعَدُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْفِرُونَ لَهُ سِرْدَابًا لَمْ يَجُزْ
حَتَّى يُسَمِّيَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَقَعْرَهُ فِي الْأَرْضِ
فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذَلِكَ، وَبَعْدَ
الْإِعْلَامِ إذَا عَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْأَجْرُ
بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ؛ لِأَنَّ
(16/49)
اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ يَقْبَلُ
الْعَمَلَ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَكُوا مَعَ
عَمَلِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي عَمَلِهِمْ فَكَانَ
ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهُمْ بِتَرْكِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَإِنْ
لَمْ يَعْمَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَهُ الْأَجْرُ مَعَهُمْ بِعَقْدِ
الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فَلَا
أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لَا
يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَمَلَ بِعُذْرٍ أَوْ
بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ حِصَّتِهِ،
وَيَكُونُ عَمَلُهُمْ فِي حِصَّتِهِ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِالتَّسْمِيَةِ
فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ زَادَ عَمَلُهُ
عَلَى مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي تِلْكَ
الزِّيَادَةِ.
رَجُلٌ تَكَارَى رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا
فِي عَرْضٍ مَعْلُومٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَعَمَ الْحَفَّارُ أَنَّهُ
شَرَطَ أَنْ يَحْفِرَهَا خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا
بَعْدُ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ وَاحْتِمَالِهِ
لِلْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَفَرَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ
بِحِسَابِ مَا قَالَ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ
وَهُوَ مُنْكِرٌ وَيَحْلِفُ الْأَجِيرُ عَلَى دَعْوَى الْمُسْتَأْجِرِ؛
لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَفْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ أُخْرَى مِمَّا
الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ
وَيَتَشَارَكَانِ فِيمَا بَقِيَ
وَلَوْ قَالَ احْفِرْ لِي فِي هَذَا الْمَكَانِ فَحَفَرَ فَانْتَهَى إلَى
جَبَلٍ لَا يُطَاقُ أَيْ لَا يُطَاقُ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ فَالْأَجِيرُ
بِالْخِيَارِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ
بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ إجَارَةِ الْبِنَاءِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا
يَبْنِي لَهُ حَائِطًا بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَأَعْلَمَهُ طُولَهُ
وَعَرْضَهُ وَعُمْقَهُ وَارْتِفَاعَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ) ؛
لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ عُرْفًا وَيَقْدِرُ
الْأَجِيرُ عَلَى إيفَائِهِ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا أَلْفَ آجُرَّةٍ
مِنْ هَذَا الْآجُرِّ وَكَذَا كَذَا مِنْ الْجِصِّ وَلَمْ يُسَمِّ الطُّولَ
وَالْعَرْضَ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ الْآجُرِّ
وَالْجِصِّ وَالْعَمَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْحَائِطِ فِي
الطُّولِ وَالْعَرْضِ، وَفِي أَسْفَلِ الْحَائِطِ يَكُونُ الْعَمَلُ
أَسْهَلَ وَكُلُّ مَا يَرْتَفِعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ الْعَمَلُ
أَشَقَّ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) هَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا
تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَبُنْيَانُ مِقْدَارِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ
يَصِيرُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ
مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَلَوْ سَمَّى مَعَ ذَلِكَ الطُّولَ
وَالْعَرْضَ كَانَ أَجْوَدَ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْجَهَالَةِ أَبْعَدُ، وَإِنْ
سَمَّى كَذَا كَذَا آجُرًّا وَلَبِنًا وَلَمْ يُسَمِّ الْمُلَبَّنَ وَلَمْ
يُرِهِ إيَّاهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ، وَلَكِنَّهُ
(16/50)
اسْتَحْسَنَ فَقَالَ إنْ كَانَ مُلَبَّنُ
ذَلِكَ الْبَلَدِ الْآجُرَّ وَاللَّبِنُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَالْمَعْلُومُ
بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا
فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ قِيَاسُ
النَّقْدِ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَنَّاءً لِيَبْنِيَ لَهُ دَارًا الْأَسَاسُ
وَالسَّرَادِيبُ وَالسُّفْلُ وَالْعُلُوُّ بِالطَّاقَاتِ وَالْأَسَاطِينُ
وَالْحِيطَانُ عَلَى مِثْلِ مَا يَبْنِي بِالْكُوفَةِ كُلَّ أَلْفِ
آجُرَّةٍ وَأَرْبَعَةَ أَكْرَارِ جِصٍّ بِكَذَا فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَسَاسَ وَالسُّفْلَ أَهْوَنُ مِنْ الْعُلُوِّ
وَالطَّاقَاتُ أَشَدُّ مِنْ الْحَائِطِ الْمُسْتَطِيلِ فَكَانَ
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ
إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْبَنَّاءُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَعْرِفُ مُرَادَ
صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ (فَقَالَ) صِفَةُ الْبِنَاءِ
مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَبْنِي دَارِهِ
عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ
يَتَكَلَّفُ التَّفَاوُتُ فَهُوَ يَسِيرٌ لَا تُجْزِئُ الْمُنَازَعَةُ
بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ (قَالَ) وَاجْعَلْ الزَّنَابِيلَ وَالدِّلَاءَ
وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ لِلْعُرْفِ، وَلِأَنَّ
الْبَنَّاءَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَ
مِنْ الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ كَالْآجُرِّ
وَالْجِصِّ وَلَا طَعَامَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ؛
لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ الْأَجْرَ وَالطَّعَامَ وَرَاءَ
الْأَجْرِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ يَوْمًا بِيَوْمٍ،
وَإِنْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ الزِّنْبِيلَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى
الْمُسْتَقْبِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ، وَقَدْ
اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ
كَاسْتِئْجَارِ الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا
الْمَاءُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ،
وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ أَنْ يُسْقِيَهُ إنْ كَانَتْ فِي الدَّارِ
بِئْرٌ، أَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ قَرِيبَةً مِنْ الدَّارِ بِاعْتِبَارِ
الْعُرْفِ، وَلَكِنْ الْمَرْءُ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَالزِّنْبِيلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ
مُعْتَبَرٌ فِيهَا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ
النَّاسِ بِالْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَإِنْ تَكَارَى رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ
جَائِزٌ فَيَعْمَلُ لَهُ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْغَدَاةَ إلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ تَكَارَاهُ يَوْمًا وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ طُلُوعِ
الْفَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ
صَارَ مُسْتَثْنًى، وَلِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ
يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ وَآخِرُ الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ
امْتِدَادِ الصَّوْمِ إلَيْهِ (قَالَ) وَالْعُمَّالُ بِالْكُوفَةِ
يَعْمَلُونَ إلَى الْعَصْرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ
يَشْتَرِطُوهُ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ، وَقَدْ نَصَّ
عِنْدَ الْعَقْدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ
قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا عَنْ شَرْطٍ، وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ
الدَّارِ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْهَوَادِي وَكَنْسِ السُّطُوحِ
وَتَطْيِينِهَا وَسَمَّى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ
عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِاللَّبِنِ فَعَلَى الْبَنَّاءِ
بَلُّ الطِّينِ وَنَقْلُهُ إلَى الْحَائِطِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا
بَعِيدًا فَيَكُونَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ
زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ أَرَاهُ
الْمَكَانَ فَلَا خِيَارَ لَهُ
(16/51)
لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ
الضَّرَرِ
. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا بِالرَّهْصِ وَشَرَطَ
عَلَيْهِ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالِارْتِفَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ
الْعَمَلَ بِمَا سَمَّى يَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ
عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ إجَارَةِ الرَّقِيقِ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا]
(قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِذْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ
كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ
مُتَعَارَفٌ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
- يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهُوَ عَمَلٌ مُبَاحٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ
فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مِنْ
السَّحَرِ إلَّا أَنْ تَنَامَ النَّاسُ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ؛
لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ
وَابْتِدَاءُ الِاسْتِخْدَامِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ مُتَعَارَفٌ فَمَنْ
يَبْتَكِرُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْرِجَ الْخَادِمُ وَيُهَيَّأَ أَمْرَ
طَهُورِهِ وَيَرْفَعَ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَبْسُطَ ثَوْبَ تَعَبُّدِهِ،
وَكَذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ قَدْ يَجْلِسُونَ
سَاعَةً خُصُوصًا فِي زَمَنِ طُولِ اللَّيَالِي، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى
خَادِمٍ يَبْسُطُ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَطْوِي ثِيَابَهُ وَيُطْفِئُ
السِّرَاجَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ إلَى هَذَا
الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَخْدُمُهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ فَمَا يَكُونُ
أَعْمَالُ الْخِدْمَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ
الْمَمَالِيكِ وَالْخَدَمِ وَلَا يُكَلِّفُونَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ.
فَكَذَلِكَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الِاسْتِخْدَامُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا
يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ
امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا لِقَوْلِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ
بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»
، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ
عَلَيْهَا إذَا خَلَا بِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي
غَيْرِ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ
إذَا عَمِلَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ. وَإِذَا
اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلِ يُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ شَهْرًا
فَشَهْرًا، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا
نَظِيرَهُ.
وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ إلَى رَجُلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً
فِي تَعْلِيمِ النَّسْخِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَوْلَى كُلَّ شَهْرٍ
شَيْئًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَعَلَّمَ
عِنْدَهُ وَتَعْلِيمُ الْأَعْمَالِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ
فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ
كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ
ذَلِكَ وَيَقُومُ عَلَى غُلَامِهِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ؛
لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ الْغُلَامَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي حَوَائِجِهِ
وَاسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِمَا سَمَّى مِنْ الْبَدَلِ
وَتَعْلِيمِ الْعَمَلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ عِوَضًا عِنْدَ
الِانْفِرَادِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ
تَعْلِيمُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ
وَالْحِسَابِ
(16/52)
فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ
فِي ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ لَيْسَ فِي وُسْعِ
الْمُعَلِّمِ فَالْحَاذِقَةُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ دُونَ
الْمُعَلِّمِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ إلَى عَامِلٍ
بِأَجْرٍ مُسَمًّى سَنَةً فَأَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ
مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِجَمِيعِ
الْأُجْرَةِ إلَّا دِرْهَمًا وَبَاقِي السَّنَةِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا
أَرَادَ الْأُسْتَاذُ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا
يَتَضَرَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ الْأُسْتَاذُ مِنْ
ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ.
(قَالَ) وَإِنْ أَرَادَ الْأُسْتَاذُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ جَعْلَ السَّنَةِ
كُلِّهَا إلَّا الشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِدِرْهَمٍ وَالشَّهْرَ الْأَخِيرَ
بِبَقِيَّةِ الْأَجْرِ، وَهَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا
عَقْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ
مَعْلُومٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
يُخَالِفُ الْأَجْرَيْنِ فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا دَنَانِيرَ وَالْآخَرَ
دَرَاهِمَ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّوَثُّقِ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِهَذَا
التَّحَرُّزَ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْحُكَّامِ كَيْ لَا يَجْعَلُوا عَقْدًا
وَاحِدًا لِاتِّصَالِ الْمُدَّةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَاتِّحَادِ جِنْسِ
الْأَجْرِ.
وَإِذَا دَفَعَ غُلَامَهُ إلَى عَامِلٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَلَمْ
يَشْتَرِطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَجْرًا، أَوْ دَفَعَهُ
عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا عَلَّمَهُ الْعَمَلَ قَالَ
الْأُسْتَاذُ لِي الْأَجْرُ. وَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِي الْأَجْرُ
فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا تَصْنَعُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ
الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت
عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِلْأُسْتَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ
الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَى الْأُسْتَاذِ أَجْرَ مِثْلِهِ
لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مُطْلَقًا بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ
حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ
يُوَافِقُ الْعُرْفَ قَوْلُهُ وَالْبَنَّاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ.
(قَالَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - يَقُولُ الْعَمَلُ الَّذِي يُشْتَرَطُ لِلْأُسْتَاذِ فِيهِ
الْأَجْرُ فِي دِيَارِنَا عَمَلُ الْمَغَازِلِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ
الْحَسَبَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُنَقِّبُ الْجَوَاهِرَ،
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَعَلِّمُ
بَعْضَ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَتَعَلَّمَ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ فَالْأَجْرُ لِلْأُسْتَاذِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ
مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ. فَإِذَا
اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ غُلَامًا فِي عَمَلٍ مُسَمًّى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا
فَالْعَقْدُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ
كَلِمَةَ كُلَّ إلَى مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ
وَكُلَّ شَهْرٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ.
فَإِذَا دَخَلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمٌ وَاحِدٌ وَاسْتَعْمَلَهُ
فِيهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَى
مِنْهُمَا دَلَالَةً، وَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ
يُخْرِجَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ
الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِتَعَذُّرِ
اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْهَا حَتَّى رَجَعَ
الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ
لِزَوَالِ الْعُذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ
عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِيمَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ
لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ فِيمَا
بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ
(16/53)
عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ
وَشَهْرًا بِسِتَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ
الْعَقْدَيْنِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ
الشَّهْرُ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا إنْ
كَانَ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ أَوَّلًا فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَجِبُ
خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا
يَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ
الْمَذْكُورَ آخِرًا إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ
ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ شَهْرَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ
فَالشَّهْرَانِ الْأَوَّلَانِ بِدِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ
إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا
بَدَأَ بِتَفْسِيرِهِ بِالشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِدِرْهَمٍ، وَإِنْ
اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ
بِهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْ خِدْمَةِ الْحَضَرِ
فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ
شُقَّةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِمُطْلَقِ
الْعَقْدِ فَإِنْ (قِيلَ) هُوَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ
الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ
بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ
لِلْخِدْمَةِ (قُلْنَا) إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ
بِعَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ
أَجِيرِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى فِي
الْعَقْدِ اسْتِخْدَامُهُ فِي الْكُوفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ
يُجَاوِزَ ذَلِكَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ وَلَا
يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَجِيرَهُ، وَإِنْ سَافَرَ بِهِ
فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِالْإِخْرَاجِ
وَالِاسْتِخْدَامِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا
أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ،
وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ الْعَبْدِ بِالْكُوفَةِ وَلَا
يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُوفَةِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ لِيَسْتَخْدِمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ
مُسَمًّى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِدْمَةَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى
الْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ؛
لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَلِأَنَّهُ
بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِخْدَامَ فَقَطْ وَالسَّفَرُ بِهِ وَرَاءَ
الِاسْتِخْدَامِ وَهُوَ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ سَافَرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ
مَوْلَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ
فَعَطِبَ فَهُوَ ضَامِنٌ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ظَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدَّابَّةِ إنْ اسْتَأْجَرَهَا
إنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَفِي الْعَبْدِ أَوْلَى
وَهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْعَبْدُ مُخَاطَبٌ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى
فَيَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهِ عِنْدَ الِاسْتِخْدَامِ
عَادَةً فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ
الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا
تَتَفَاوَتُ فِي السَّيْرِ إلَّا بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ
يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُتَعَارَفًا.
وَإِنْ دَفَعَ الْأَجْرَ عِنْدَ غُرَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إلَى
الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَجَّرَهُ لَمْ يَبْرَأُ
مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ تَتَعَلَّقُ
بِالْعَاقِدِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَالِكَ لِلْأَجْرِ
فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ
(16/54)
إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ
الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛
لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ وَإِلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ
وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ
وَبِأَمْرِهِ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ، وَأَنْ يَخِيطَ وَيَخْبِزَ
وَيَعْجِنَ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ وَيُعَلِّقَ عَلَى دَابَّتِهِ
وَيَنْزِلَ بِمَتَاعِهِ مِنْ ظَهْرِ بَيْتٍ، أَوْ يَرْقَى بِهِ إلَيْهِ
وَيَحْلُبَ شَاتَه وَيَسْتَقِيَ لَهُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا كُلُّهُ
يُعَدُّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْخِدْمَةِ مَعْلُومٌ عِنْدَ
النَّاسِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَفِي اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ كُلِّ
ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُقْعِدَهُ خَيَّاطًا وَلَا فِي صِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ، وَإِنْ
كَانَ حَاذِقًا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ، وَهَذَا
الْعَمَلُ مِنْ التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْخِدْمَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَيْسَ
عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إطْعَامُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِذَلِكَ، أَوْ
يَكُونَ فِيهِ عُرْفًا ظَاهِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِخِدْمَةِ
أَضْيَافِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِدْمَتِهِ فَالْإِنْسَانُ يَسْتَأْجِرُ
الْخَادِمَ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَخِدْمَةُ
أَضْيَافِهِ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ
غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ
فِيهِ عَادَةً كَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاقِلٌ
لَا يَنْقَادُ إذَا كُلِّفَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَبَعْدَ الطَّاقَةِ لَا
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ
وَالثَّانِي.
وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْتَأْجِرُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا اخْدِمِينِي
وَعِيَالِي فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعِيَالِ مِنْ حَوَائِجِهِ،
وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ
الْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَأْجِرَةُ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ
اخْدِمْنِي وَزَوْجِي فَلَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهَا وَهُوَ
أَظْهَرُ فَخِدْمَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَتْهُ
لِيَنُوبَ عَنْهَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهَا
وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ
وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا حُرًّا كَانَ، أَوْ عَبْدًا لِمَا فِيهِ
مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ0 لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ
بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقَّةٌ
عَلَيْهَا دِينًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ عُرْفًا عَلَى مَا
رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
زَوَّجَ فَاطِمَةُ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَعَلَ
أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ
عَلَيْهِ» ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ نَفَقَتَهَا لِتَقُومَ
بِخِدْمَةِ بَيْتِهِ فَلَا تَسْتَحِقُّ مَعَ ذَلِكَ أَجْرًا آخَرَ، وَإِنْ
سَمَّى.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِتُرْضِعَ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، أَوْ
لِتَرْعَى دَوَابَّهُ، أَوْ تَعْمَلَ عَمَلًا سِوَى خِدْمَةِ الْبَيْتِ
فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا
وَلَا مَطْلُوبٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهَا.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ؛
لِأَنَّ خِدْمَتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ فِي
كِتَابِ الْآثَارِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهُ
يَلْحَقُهُ مَذَلَّةٌ بِأَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي
فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَالْحُرَّةِ إذَا أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظُّئُورَةِ
وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ، وَلَوْ خَدَمَهَا كَانَ لَهُ
الْأَجْرُ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَرْعَى غَنَمَهَا،
أَوْ يَقُومُ عَلَى عَمَلٍ لَهَا فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ
آخَرَ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ
(16/55)
لِيَخْدُمَهُ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَجُزْ
وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى
الِابْنِ دِينًا وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عُرْفًا فَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ
أَجْرًا وَيُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدُ الْأَجْرَ
عَلَى خِدْمَةِ أَبِيهِ وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ إنْ
اسْتَأْجَرَتْهُ الْأُمُّ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا أَوْجَبُ عَلَيْهِ
فَإِنَّهَا أَحْوَجُ إلَى ذَلِكَ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
أَحَدُهُمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُرْعِيَهُ غَنَمًا، أَوْ يَعْمَلَ غَيْرَ
الْخِدْمَةِ جَازَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ
مَطْلُوبٌ فِي الْعُرْفِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ، أَوْ أُمَّهُ أَوْ جَدَّهُ، أَوْ
جَدَّتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ
اسْتِخْدَامِ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِذْلَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَصِيرَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ قَبْلَهُمْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ
وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هُوَ وَلَا يَتْرُكُ هُوَ لِيَسْتَخْدِمَ وَالِدَهُ
وَلَا الْوَالِدَةَ تَخْدُمُهُ، وَلَكِنْ إنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
فَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِخْدَامِ لَوْ لَمْ يُوجِبْ
عَلَيْهِ الْأَجْرَ كَانَ مَعْنَى الْإِذْلَالِ فِيهِ أَكْبَرَ، وَلِأَنَّا
لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنْ لَا تَصِيرُ
خِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى
أَقَامَ الْعَمَلَ.
وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا فَاسْتَأْجَرَهُ أَبُوهُ لِخِدْمَتِهِ
وَأَبُوهُ حُرٌّ غَنِيٌّ عَنْ خِدْمَتِهِ، أَوْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ
جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَحَدٍ مِنْ
أَقَارِبِهِ سِوَى مَوْلَاهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ،
وَلِأَنَّ خِدْمَتَهُ لِمَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ
الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ حَتَّى
لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَبِيهِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا.
فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ خِدْمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا
وَالِابْنُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ بَطَلَ
ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَمْنُوعٌ مِنْ إذْلَالِ أَبِيهِ،
وَإِنْ كَانَ عَبْدًا؛ وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ، وَفِي
اسْتِخْدَامِهِ إذْلَالُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ الذُّلُّ فِي أَنْ يَخْدُمَ
ابْنَهُ، وَلَيْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ فَإِنْ عَمِلَ جَعَلْت
لَهُ الْأَجْرَ لِمَا قُلْنَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا وَالِابْنُ مُسْلِمًا أَوْ الِابْنُ
كَافِرًا وَالْأَبُ مُسْلِمًا فَاسْتَأْجَرَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ؛
لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الِابْنِ دِينًا مَعَ
اخْتِلَافِ الدِّينِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ
ابْنِهِ لِلْخِدْمَةِ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الدِّينِ وَيَجُوزُ
الِاسْتِئْجَارُ لِلْخِدْمَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ
كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ بِمِلْكِ
الْيَمِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَرْضَى بِهِ الْخَادِمُ وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُصَانُ عَنْ
مِثْلِهِ. فَأَمَّا هَذَا عَقْدٌ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ
وَالِاسْتِخْدَامُ عَنْ تَرَاضٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ
بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا
لِخِدْمَتِهِ حُرًّا، أَوْ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ
لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ،
وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ
لِمَعْنًى وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا، أَوْ مُسْتَأْمَنًا
لِخِدْمَتِهِ كَانَ جَائِزًا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ
فِي أُمُورِ دِينِهِ مِنْ أَمْرِ الطَّهُورِ وَنَحْوِهِ فَرُبَّمَا لَا
يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ
(16/56)
فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا
تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل
عمران: 118] أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي الْإِفْسَادِ مِنْ دِينِكُمْ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى ضَرْبِ اللَّبِنِ وَغَيْرِهِ]
ِ (قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا
لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي دَارِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُلَبَّنُ مَعْلُومًا
فَهُوَ جَائِزٌ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْمُلَبَّنِ.
فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا مُنَازَعَةَ
بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَسَدَّ لَبِنَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ
أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَمَلُ
مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا لَمْ يَصِرْ لَبِنًا فَمَا دَامَ
عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ طِينٌ لَمْ يَصِرْ لَبِنًا بَعْدُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ فَسَدَ وَصَارَ وَجْهَ
الْأَرْضِ فَإِنْ أَقَامَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ اللَّبَّانُ فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ فَسَدَ
بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَا حَتَّى يَجِفَّ. فَإِذَا جَفَّ وَأَشْرَحَ
فَحِينَئِذٍ لَهُ الْأَجْرُ وَمَذْهَبُهُمَا اسْتِحْسَانٌ اعْتَبَرَا فِيهِ
الْعُرْفَ وَاللَّبَّانُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ
وَمِثْلُ هَذَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَإِخْرَاجِ
الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ وَغُرَفُ الْقُدُورِ فِي الْقِصَاعِ يَكُونُ
مُسْتَحَقًّا عَلَى الطَّبَّاخِ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْوَلِيمَةِ
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ
الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَصِيرُ الطِّينُ لَبِنًا، وَقَدْ فَعَلَ
فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ عَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ
لَبِنًا وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طِينًا فَالطِّينُ يَنْتَشِرُ عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِتَسْوِيَةِ أَطْرَافِهِ،
وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ.
فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَفَافُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ
وَالتَّشْرِيحُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ جَمْعُ اللَّبِنِ، وَلَيْسَ بِعَمَلٍ
لِيَخْدُمَهُ فِي الْعَيْنِ فَهُوَ كَالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْبِنَاءِ،
وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّبَّانِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْقُلُ اللَّبِنَ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ
أَنْ يُشَرِّحَهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّشْرِيحُ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَا
مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ
الْعَمَلِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عَلَى
اللَّبَّانِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَهَذَا كُلُّهُ
إذَا كَانَ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ. فَأَمَّا فِي
غَيْرِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُشَرِّحْهُ وَيُسَلِّمْهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ
لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ حَتَّى إذَا فَسَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ
إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْخَيَّاطِ وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ
الْمُسْتَأْجِرِ.
وَلَوْ تَكَارَى خَبَّازًا يَخْبِزُ لَهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ
حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ التَّنُّورِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا ظَاهِرٌ
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ
مَا سَبَقَ فَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ
فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ
(16/57)
بِنَفْسِهِ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُ
لِأَجْلِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ التَّشْرِيحِ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ
فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى
مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ التَّشْرِيحِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْخُبْزَ لَوْ
تُرِكَ فِي التَّنُّورِ يَفْسُدُ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ صَارَ
مُسْتَحَقًّا عَلَى الْخَبَّازِ، وَذَلِكَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ
التَّنُّورِ وَوِزَانَةُ الْإِقَامَةِ فِي اللَّبِنِ. فَأَمَّا اللَّبِنُ
بَعْدَ الْإِقَامَةِ لَوْ تُرِكَ وَلَمْ يَفْسُدْ فَلَا يَسْتَحِقُّ
التَّشْرِيحَ عَلَى اللَّبَّانِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ
يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا بِمُلَبَّنٍ مَعْلُومٍ وَيَطْبُخُ لَهُ آجُرًّا
عَلَى أَنَّ الْحَطَبَ مِنْ عِنْدِ رَبِّ اللَّبِنِ فَهُوَ جَائِزٌ؛
لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ الْعَامِلِ
بِآلَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَإِنْ أَفْسَدَ اللَّبِنَ بَعْد مَا أَدْخَلَهُ
الْأَتُونَ وَتَكَسَّرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَفْرُغْ مِنْهُ بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْأَتُونِ
لَمْ يَتِمَّ عَمَلُهُ فِي طَبْخِ الْآجُرِّ فَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ
الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ، وَلَوْ طَبَخَهُ حَتَّى
يَصِحَّ، ثُمَّ كَفَّ النَّارَ عَنْهُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي
الْإِخْرَاجِ فَإِخْرَاجُهُ عَلَى الْأَجِيرِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ
الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كَذَلِكَ فَسَدَ.
وَإِنْ انْكَسَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ؛ لِأَنَّ
الْعَمَلَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ، وَإِنْ
أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَتُونِ وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِ رَبِّ اللَّبِنِ وَجَبَ
لَهُ الْأَجْرُ وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ لِوُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ
الْعَمَلِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ
كَانَ الْأَتُونُ فِي مِلْكِ اللَّبَّانِ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى
يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ
الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً
لِيَخْرُجَ مِنْ ضَمَانِهِ.
. وَإِذَا شَقَّ رَجُلٌ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا شَقَّ
مِنْهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا
صَاحِبُهَا؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِوِعَاءٍ فَشَقُّ
الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ صَبِّ مَا فِيهَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ قَطْعَ حَبْلَ الْقِنْدِيلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ
الْإِلْقَاءِ وَالْكَسْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ، وَلَوْ صَبَّ مَا فِيهَا
كَانَ مُتْلِفًا ضَامِنًا لَهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا؛
لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ
الْبِئْرِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ
شَيْئًا يَحْمِلُهُ رَجُلٌ فَشَقَّهُ آخَرُ فَإِنْ حَمَلَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا رِضَاءٌ بِمَا صَنَعَ اسْتِحْسَانًا؛
لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتْرُكُ اسْتِئْنَافَهُ إلَّا
رَاضِيًا بِصُنْعِهِ وَالرِّضَاءُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ يَثْبُتُ
كَسُكُوتِ الْبِكْرِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَقْدِ وَمَنْ بَاعَ مَجْهُولَ
الْحَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك وَهُوَ سَاكِتٌ
وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا
الضَّمَانِ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ وَالصَّبِيُّ فِيمَا يُؤَاخَذُ بِهِ
مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْبَالِغِ.
وَإِذَا شَقَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَلَمْ يَسِلْ مَا فِيهَا، ثُمَّ مَالَ
الْجَانِبُ الْآخَرُ فَوَقَعَ وَانْخَرَقَ أَيْضًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُمَا
جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِصَبِّ مَا فِي
الرِّوَايَةِ حِينَ شَقَّهَا وَصَبُّ مَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
يَكُونُ إيقَاعًا لِلْأُخْرَى بِطَرِيقِ إزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ
الِاسْتِمْسَاكُ وَهُوَ تَسَبُّبٌ مِنْهُ لِإِلْقَاءِ الْأُخْرَى وَهُوَ
مُتَعَدٍّ
(16/58)
فِي هَذَا السَّبَبِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ
مَضَى وَسَاقَ بَعِيرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ
الرِّضَى بِفِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ
كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ فَعَلَ (قَالَ) أَرَأَيْت
لَوْ شَقَّ فِيهِ ثُقْبًا صَغِيرًا فَقَالَ صَاحِبُهَا بِئْسَمَا صَنَعْت،
ثُمَّ مَضَى وَسَاقَهَا فَزَلَقَ رَجُلٌ بِمَا سَالَ مِنْهُ أَكَانَ
يَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِهَا حِينَ سَاقَ بَعِيرَهُ،
وَلِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا أَخَذَ بِهِ الثَّانِي
مِنْ سَوْقِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ
مَسْأَلَةِ الْإِجَارَاتِ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ -
عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
قِيَاسًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْ لَا يَفُوتَ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَهُ
فِي كِتَابِ الْبَحْرِ حِينَ ذَكَرَ بَابًا مِنْ الْإِجَارَاتِ فِي آخِرِ
التَّجَزُّؤِ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي نُسَخِ
أَبِي حَفْصٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - زِيَادَةَ مِثْلِهِ هُنَا.
(قَالَ) إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى
أَنْ يَطْحَنَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَفِيزًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا بَاطِلٌ
إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ قَفِيزًا، وَلَكِنْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ
لِي يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ وَأَضَافَ هَذَا
الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ
بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ بَيْنَ
الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ
الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، ثُمَّ أَجَابَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا
فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى رُجُوعِهِمَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقِيلَ بَلْ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمَا
بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ
الْعَمَلِ بِكَمَالِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ
لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ
عَلَى الْعَمَلِ سَوَاءٌ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ،
أَوْ لَمْ يَفْرُغْ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَقْصُودِهِ فِي
الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَشَرَطَ
عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ
عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ
الْمُدَّةِ لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهَا وَالْعَمَلُ مَقْصُودٌ لَا بُدَّ
مِنْ اعْتِبَارِهِ أَيْضًا، وَعِنْدَ اعْتِبَارِهِمَا يَصِيرُ
الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ مَجْهُولًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا؛ لِأَنَّ
بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَجِدُ
بِهِ فِي الْمَعْمُولِ وَجَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُفْسِدٌ
لِلْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. |