المعتصر
من المختصر من مشكل الآثار كتاب جامع مما ليس
في المؤطا
في النهي عن اتخاذ الدواب كراسي
...
كتاب جامع مما ليس في الموطأ
في النهي عن اتخاذ الدواب كراسي
عن أبي هريرة مرفوعا "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر فإن الله إنما
سخرها لكم ليبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس وجعل لكم الأرض
فعليها فاقضوا حوائجكم" وعن سهل عن أبيه مرفوعا أنه قال: "اركبوا هذه
الدواب سالمة وابتدعوها ولا تتخذوها كراسي" وليس النهى مخالفا لجلوسه صلى
الله عليه وسلم على ظهر ناقته للخطبة عليها بعرفة يوم عرفة ويوم النحر بمنى
لأن النهى إنما هو للحديث الذي لا حاجة به فيه إلى ذلك وجلوسه على ظهر
ناقته للحاجة إلى استماع أمره ونهيه وتبليغ دينه وشرعه والأرض ليس كالظهر
في هذا فافترقا.
(2/244)
في مفاصل الإنسان
روي مرفوعا أن ابن آدم خلق على ثلاث مائة وستين مفصلا فإذا كبر الله وهلله
وحمده واستغفره وسبحه وعزل العظم والحجر والشوك عن الطريق وأمر بالمعروف
ونهي عن المنكر عدد ذلك ثلاث مائة قال الطحاوي: وأراه سقط من الحديث وستين
أمسى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار، قال: وهذا من معنى ما روى أنه قال صلى
الله عليه وسلم: "كتب الله على كل عضو حظه من الزنا فالعين تزنى وزناها
النظر واللسان يزنى وزناه الكلام واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني
وزناها المشي والسمع يزني وزناه الاستماع ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه"،
فكما كانت الأعضاء كلها معمومة بالأمر المذموم فكذلك هي معمومة بالأمر
المحمود وعن بريدة سمعت النبي صلى الله
(2/244)
عليه وسلم يقول: "في الإنسان ستين وثلاث
مائة مفصل فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه صدقة" قالوا: ومن يطيق ذلك يا
رسول الله؟ قال: "النخاعة في المسجد تدفنها والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم
تقدر على ذلك فركعتا الضحى تجزيك"، فعلم أن بالحديث الأول هو الصدقة على كل
مفصل من تلك المفاصل بما ذكر في هذا الحديث ويؤيده حديث الزنا.
(2/245)
في جري الشيطان مجرى الدم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به رجل وهو مع إحدى نسائه فدعاه
فقال: "يا فلان إنها زوجتي فلانة" فقال: يا رسول الله بمن كنت أظن فإني لم
أكن أظن بك فقال صلى الله عليه وسلم: "أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم"، يحتمل دخوله صلى الله عليه وسلم في عموم ابن آدم ويحتمل خروجه منه
لكن ارتفع الاحتمال بما روى ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه
من الجن فقيل: وإياك قال: وإياي ولكن الله عز وجل أعاني عليه فأسلم فلا
يأمرني إلا بخير وما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه يقول:
"بسم الله وضعت جنبي اللهم أغفر ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني
واجعلني في الندى الأعلى"، كان قبل أن يسلم شيطانه.
(2/245)
في التحدث عن بني إسرائيل
عن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو
آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، أي لا حرج في ترك الحديث عنهم فأباح
الحديث ليعلم ما كان فيهم من العجائب لأن الأنبياء كانت تسوسهم كلما مات
نبي قام نبي ليتعظوا ورفع الحرج عنهم في تركه بخلاف التحدث عنه صلى الله
عليه وسلم لأنهم مأمورون بالتبليغ عنه فلهذا قال: "بلغوا عني ولو آية".
(2/245)
في فضل بناته صلى
الله عليه وسلم
عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة خرجت
ابنته من مكة مع بني كنانة فخرجوا في أثرها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل
يطعن بعيرها حتى صرعها فألقت ما في بطنها وأهريقت دما فانطلق بها واشتجر
فيها بنو هاشم وبنوا أمية فقالت: بنوا أمية نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم
أبي العاص بن ربيعة فكانت تقول هند هذا في سبب أبيك فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجئ بزينب" قال: بلى يا رسول
الله قال: "فخذ خاتمي هذا فأعطها إياه" قال: فانطلق زيد فلم يزل يلطف ويبرك
بعيره حتى لقى راعيا فقال: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص بن ربيعة قال: فلمن
هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد فساق معه شيئا ثم قال: هل لك أن أعطيك شيئا
تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي فأدخل
غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: وأين
تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فقال لها:
أركبي بين يدي قالت: لا ولكن اركب أنت فركب وركبت وراءه حتى أتت النبي صلى
الله عليه وسلم فكان النبي عليه السلام يقول: "هي أفضل بناتي أصيبت بي"
فبلغ ذلك علي بن حسين فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تنقص فيه حق
فاطمة فقال عروة بن الزبير: ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأنتقص
فاطمة في حق هو لها وأما بعد فلك علي أن لا أحدث به أحدا.
وإنما بعث زيد بن حارثة إلى زينب وهو ليس بمحرم لها لأنه كان حينئذ في
تبنيه قبل أن ينسخ حكمه بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ} وأما تفضيل زينب على سائر بناته فإن ذلك كان ولا ابنة له
يومئذ تستحق الفضيلة غيرها لما كانت عليه من الإيمان والاتباع ولما نزل في
بدنها من أجله ثم بعد ما أقر الله تعالى عينه بفاطمة من توفيقه إياها
للأعمال الزاكية وما وهب لها من
(2/246)
الولد الذي صاروا له ولدا وغير ذلك مما لم
يشركها فيه أحد من بناته سواها وكانت في وقت استحقاق زينب الفضيلة صغيرة
ممن لا يجري لها ثواب بطاعاتها ولا عقاب بخلافها ثم بلغت بعد وسادت بما
فضلها الله أفضل الله أفضل من زينب وغيرها وفي تفضيلها آثار كثيرة.
منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يعودها فقال: "أي بنية
كيف تجدك"؟ قالت: والله يا رسول الله إني لوجعة وأنه ليزيدني وجعا إلى وجعي
أنه ليس عندي ما آكل فبكى صلى الله عليه وسلم وبكت فاطمة وبكى معهما عمران
بن حصين فقال لها: "أي بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين" قالت:
يا ليتها كانت وأين مريم بنت عمران فقال لها: "أي بنية إنها سيدة نساء
عالمها وأنت سيدة نساء عالمك والذي نفسي بيده لقد زوجتك سيدا في الدنيا
وسيدا في الآخرة ولا يبغضه إلا منافق".
ومنها عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط أربعة خطوط ثم قال:
"أتدرون ما هذا"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة
بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون"
فإن قيل: روى كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية وفضل
عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام قيل: يحتمل أن يكون هذا قبل
بلوغ فاطمة الرتبة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم فلا تضاد.
(2/247)
في اسم الله الأعظم
روى ابن بريدة عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني
أسألك بأنك أحد صمد لم تتخذ صاحبة ولا ولدا" فقال: لقد سأل الله باسمه الذي
إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى.
وعن أنس مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي وهو يقول: اللهم لك
الحمد لا إله إلا أنت يا منان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام
فقال لنفر من أصحابه: "أتدرون ما دعا به الرجل" قالوا: الله ورسوله
(2/247)
أعلم قال: "دعا ربه باسمه الأعظم الذي إذا
دعى به أجاب وإذا سأل به أعطى"، فهذه الآثار توافقت على أن اسم الله الأعظم
هو الله وهو مذهب أبي حنيفة وهو غير مشتق لا يقال: قدر روي أبو أمامة يرفعه
أن اسم الله الأعظم في سور ثلاث البقرة وآل عمران وطه فنظروا فوجدوا فيها
آية الكرسي وفي آل عمران {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} وفي طه {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} لأن هذه
الآيات فيها اسم الله فلم يكن مخالفا لما رويناه بحمد الله والذي في طه قد
يجوز أن يكون الحي القيوم هو الاسم الأعظم ويحتمل أن يكون اسم الله فيها في
قوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فيرجع ما في طه إلى ما في البقرة وآل عمران أنه
الله عز وجل.
وعن أسماء سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "أن في هاتين الآيتين
اسم الله الأعظم {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} " فكان في هذا الحديث بيان موضع اسم الله من سورة البقرة ومن
سورة آل عمران فليس في إحداهما ذكر الحي القيوم وفيهما جميعا الله عز وجل
فكان في ذلك ما يجب أن يقل أن الذي في سورة طه هو ذلك أيضا وكان فيه موافقة
لمذهب أبي حنيفة لأن قولهم: اللهم أصله يا الله فحذفت ياء وزيدت الميم.
(2/248)
في قو ضعفي
روي مرفوعا قال في الدعاء الذي علمه بريدة الأسلمى: "اللهم إني ضعيف فقو في
رضاك ضعفي" أي: قوما ضعف مني لان الضعف لا يقوم بنفسه ولا يرجع قوة أبدا.
(2/248)
في تكوير الشمس
والقمر
روي مرفوعا أن الشمس والقمر نوران1 يكوران في النار يوم
__________
1 هكذا في الأصل بالنون وفي مجمع بحار الأنوار يجاء بالشمس والقمر ثورين
يكوران في النار أي يلفان ويجمعان ويلقيان فيها ويروى بنون وهو تصحيف- ح.
(2/248)
القيامة أي أنهما يكونان في النار ليعذب
أهل النار بهما لا ليعذبا بالنار بغير ذنب وروى أنهما عقيران وليس العقر
عقوبة لهما وإنما هي استعارة وذلك أنهما كانا يسبحان في الفلك الذي كانا
فيه ثم أعادهما الله موكلين بالنار يوم القيامة فقطعهما عما كانا فيه من
السباحة فصارا كالرميين بالعقر لا على معنى عقرهما.
(2/249)
في التحلل من
المظالم
روي أبو هريرة مرفوعا "من كانت له مظلمة من أخيه من عرضه وماله فليتحلله من
قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه
بقدر مظلمته وإلا أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه" هذا في عقوبة المال أما
ما يجب به عقوبة البدن فالقصاص على بدنه لأنه قائم فيؤخذ بما يجب عليه فيه
من جزاء أو أدب يؤيده ما روى مرفوعا من قذف مملوكه بزنا بريئا مما قاله له
أقام عليه يوم القيامة حدا إلا أن يكون كما قال.
(2/249)
في قوله زعموا
روى مرفوعا بئس مطية الرجل زعموا لم تجئ هذه الكلمة في القرآن إلا في
الأخبار عن قوم مذمومين بأشياء مذمومة فكره للناس لزوم أخلاق المذمومين في
أخلاقهم الكافرين في أديانهم الكاذبين في أقوالهم لأن الأولى بهم لزوم
أخلاق المؤمنين الذين سبقوهم بالإيمان.
(2/249)
في من قتل نفسه
روي مرفوعا "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده في نار جهنم يجأبها في بطنه
في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في
نار جهنم خالدا مخلدا فيها". وروي أن رجلا هاجر إلى المدينة مع الطفيل بن
عمرو فمرض فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل
في منامه في هيئة حسنة ورآه يغطي يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي
بهجرتي إلى نبيه فقال له: أراك تغطي يديك فقال: قيل لي:
(2/249)
لن تصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر"
لا تضاد فيه لأنه يحتمل أن يكون الرجل فعل بنفسه ما فعل على أنه عنده علاج
تبقى له بقية يديه وتسلم نفسه فلم يكن بذلك مذموما كمن خاف أن تذهب نفسه إن
لم يقطعهما فمات فلا إثم عليه وإن لم يقطعهما حتى مات فلا إثم عليه أيضا
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليديه بالغفران إشفاق منه وأعمال الخوف
كدعاء عمران بن الحصين اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما
عمدت وما جهلت وما علمت والخطأ ليس بمؤاخذ به والتخليد المذكور ليس على
ظاهره بل خالدا حتى يخرج بالشفاعة مع سائر المؤمنين المذنبين لأن القتل لا
يحبط إيمانه ولا يبطل أعماله فلابد من مجازاته لقوله تعالى: {وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} وجماعة من السلف بإنفاذ الوعيد على قاتل نفسه
عمدا ومنهم من رآه على المشيئة.
(2/250)
في طول اليد بالصدقة
روى عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "تتبعني أطولكن
يدا" فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلا نزال نعمل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش
امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا يدا فعرفنا أنه إنما أراد الصدقة وكانت زينب
صناعة اليد تدبغ وتحرز وتتصدق به في سبيل الله لا يحتاج مع ما عرفته أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم من معنى الحديث إلى تفسيره والله أعلم.
(2/250)
في إنزاء الحمير على الخيل
روى عن علي بن أبي طالب قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة
فركبها فقال علي: لو حملنا الحمير على الخيل كان لنا مثل هذه فقال صلى الله
عليه وسلم: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"، وعنه نهانا النبي صلى الله
عليه وسلم أن نحمل الحمير على البراذين مع ما روى عن ابن عباس ما اختصنا
صلى الله عليه
(2/250)
وسلم بشيء دون الناس إلا بثلاث أسباغ
الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن لا ننري الحمير على الخيل لا تضاد فيه لأنه
نهى الناس جميعا عن ذلك بقوله: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" أي: قدر
الثواب في ربط الخيل في سبيل الله فيزهدون في ذلك لأن الحمار والبغل لا
ثواب في ارتباطه ولا سهمان لمن غزا عليه وإنما اختص بنو هاشم بالنهي لأن
الخيل كانت فيهم قليلة فأحب أن تكثر فيهم وترغيبا لهم زيادة على سائر الناس
والنهي ندب وإرشاد.
(2/251)
في ما شاء الله وشاء
فلان
روى مرفوعا النهى من قول الأمة ما شاء محمد وأمره إياهم أن يقولوا: ما شاء
الله ثم ما شاء محمد، وفيه آثار كثيرة مع ما في كتاب الله {أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ} ولم يقل: ثم لوالديك فعلم أن هذا منسوخ بالسنة وكان
مباحا قبل النسخ يعني المتواتر من السنة.
(2/251)
في من سن سنة حسنة
أو سيئة
قوله تعالى: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} الأظهر أنه صلى الله عليه
وسلم قرأها بالنصب لأنه قرأها على الناس إذ حضهم على صلة أرحامهم بالصدقة
بمعنى اتقوا الأرحام أن تقطعوها ومن قرأ بالجر حملها على تساؤلهم بينهم
بالله والرحم ولم تكن التلاوة على التساؤل بل على الحض على التواصل.
عن جرير كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة
عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر فرأيت وجه النبي صلى الله
عليه وسلم قد تغير لما رأى بهم من إضافة ثم دخل بيته ثم خرج فأمر بلال فأذن
وأقام فصلى الظهر ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع
تمره حتى قال: من شق التمرة"، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها
بل قد عجزت ثم تتابع الناس.
(2/251)
حتى رأيت كومين من طعام وثياب ورأيت وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ثم قال: "من سن في الإسلام
سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص من أجورهم شيئا ومن
سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده لا ينقص من
أزوارهم شيئا"، وفي رواية: "كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها وذلك سواء".
وفيه أن لمن سن سنة حسنة من الأجر مثل ما لمن عمل بها وقد ضعفه بعض وقال:
كيف يكون له مثل أجر من عمل بها من بعده ومع العامل من معاناة العمل ما ليس
مع الذي سنها فالمعقول أن يكون في الأجر فوقه واحتج بما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "من سن خيرا فاستن به فله أجره ومن أجور من تبعه
غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سن شرا فاستن به بعده فعليه وزره ومن أوزار
من أتبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا".
واحتج أيضا بما روي عن ابن مسعود يرفعه: لا تقتل نفس ظلما إلا كان علي ابن
آدم الأول كفل منها وهذا كله لا حجة فيه لأن قوله: "من أجور" ومثل أجر
بمعنى واحد ومن صلة كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} وحديث
ابن مسعود حجة لنا لأن الكفل المثل قال تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً
سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} أي: مثل منها وقال تعالى:
{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} يؤيد ما قلنا قوله صلى الله عليه
وسلم: "الدال على الخير كفاعله"، فإذا كان الدال يستحق كالفاعل لمجرد
دلالته كان الذي عمل أولى بذلك ولأن الذي سن دل الناس بعمله عليها ولأن
الثواب فضل من الله تعالى لا يأتي على قياس.
(2/252)
في عمل لا ينقطع بالموت
روى مرفوعا من رواية أبي هريرة: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة:
صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له" لا يعارضه قوله صلى الله عليه
وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده"
(2/252)
لأن السنة المستنة هي من العلم الذي ينتفع
به بعد موته وكذا لا يعارضه ما روى أن العبد يبعث على ما مات عليه لأن حديث
أبي هريرة عمل لم يمت عليه وهذا كان في عمل قطعه عنه الموت فبعث على نيته
كما في المحرم الذي وقع عن بعيره فرض فمات أنه يبعث محرما وكما روى مرفوعا
"ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته
وكان نومه عليه صدقة".
(2/253)
في لو
روي مرفوعا من رواية أبي هريرة: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل
خير أحرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن فاتك شيء فقل قدر الله وماشاء فعل
وإياك ولو فإنها تفتح عمل الشيطان" أعلم أن لو ليست بمكروهة مطلقا هي مباحة
في مواضع منها قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ومنها: ما روى مرفوعا: "مثل الدنيا مثل
أربعة رجل آتاه الله مالا وآتاه علما فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه
الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول: لو أن الله آتاني مثل ما آتى فلانا
لفعلت فيه مثل الذي يفعل فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته
علما فهو يمنعه من حقه وينفقه في الباطل ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما
فهو يقول: لو أن الله أتاني مثل ما آتى فلانا لفعلت مثل ما يفعل" فهما في
الوزر سواء فهي في الأولى مباحة وفي الثاني مكروهة وكذا في قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} ثم رد
ذلك بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ}
الآية وهي ههنا مباحة وكذا قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا
مَاتُوا} فهي مكروهة لأن الله تعالى حذر المؤمنين فقال: {لا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا} الآية وكذا
في قوله تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً
فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لأنه رد عليهم بقوله: {بَلَى قَدْ
جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} فعلم أن فيها مذمومة
وغير مذمومة وكانت العرب تذم لو وتقول احذر لو تريد به قول
(2/253)
الناس لو علمت أن هذا يلحقني لعملت خيرا
وعن سلمان الإيمان بالقدر أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم
يكن ليصيبك ولا تقولن لشيء أصابك لو فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا أو لم يكن
كذا وكذا والله أعلم.
(2/254)
في الحجاب ستر العورة
عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ميمونة قالت:
فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال
صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه" فقلنا: يا رسول الله أليس هو أعمى لا
يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أعمياوان أنتما ألستما
تبصرانه".
وعن عائشة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا
أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربية
الحديثة السن لا تضاد بينهما لأن حديث ميمونة كان بعد نزول الحجاب وهما
بالغتان وحديث عائشة يحتمل أن يكون قبل نزوله أن تكون صغيرة غير مكلفة وكما
يجب حجب الناس عنهن يجب حجبهن عن الناس قيل هذا من خصائص أزواجه صلى الله
عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدى عند ابن
أم مكتوم فإنه أعمى لا يبصر تضعين ثيابك"، ولا يعارض حديث عائشة هذا ما روي
عن أنس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما
في الجاهلية فقال: "إن الله قد أبد لكم بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم
النحر"، لأن اللهو في حديثها من جنس ما يحتاج إليه في الحروب فهو لهو محمود
في المسجد وفي غيره والذي في حديث أنس من اللهو الذي لا يقابل بمثله عدو
ولا منفعة فيه للإسلام فهو لهو مذموم، وروى مرفوعا: "لا يحل من اللهو إلا
ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ومن ترك الرمي بعد ما
تعلمه كانت نعمة فكفرها".
روت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه، وروى
أنس أنه كان في حائط بعض الأنصار مدليا رجليه في بئرها وبعض
(2/254)
فخذه مكشوف فدخل أبو بكر وعمر وهو على حاله
تلك لم ينتقل عنها حتى دخل عثمان فغطى فخذه وقال: "ألا استحي ممن استحيت
منه ملائكة السماء"، ورواية عائشة من طريق آخر أن أبا بكر استأذن على النبي
صلى الله عليه وسلم ورسول الله لابس مرط أم المؤمنين فأذن له فقضى حاجته ثم
خرج ثم استأذن عليه عمر فقضى حاجته ثم خرج فاستأذن عليه عثمان فاستوى جالسا
وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فلما خرج قالت له عائشة: مالك لم تفزع
لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال: "إن عثمان كثير الحياء ولو أذنت له
على تلك الحال خشيت أن لا يبلغ في حاجته".
قال الطحاوي: الحديثان صحيحان جميعا وكانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
في وقتين مختلفتين أو في مرتين مختلفتين قال في كل واحد من القولين وفيه
اجتماع الفضيلتين لعثمان باستحياء الملائكة منه وبحيائه في نفسه وفي
الحديثين أن الفخذ ليس بعورة وقد روى أن الفخذ عورة جماعة منهم علي بن أبي
طالب وابن عباس ومحمد بن جحش وابن جرهد وأبوه ولما اختلف في حكم الفخذ
نظرنا فوجدنا الفخذ من المرأة عورة لا يحل لذي رحمها المحرم منها ولا لغيره
من الناس سوى زوجها النظر إليه منها كما لا يحل لهم النظر منهم إلى فرجها
وبطنها بخلاف صدرها ورأسها وساقها فإن ذا الرحم المحرم ينظر إليها وإنما
الممنوع الأجانب منها فعقلنا بذلك أن فخذها عورة كفرجها وبطنها لا كرأسها
وساقها وإذا كان كذلك في المرأة كان في الرجل أيضا كذلك فكان فخذه من عورته
ثم نظرنا في الركبة فوجدنا الآثار تدل على أنها ليست بعورة.
عن أبي الدرداء قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو
بكر آخذا من طرف ثوبه حتى ابدى عن ركبته فقال: "أما صاحبكم فقد غامر" فسلم
فقال: أنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، الحديث وعن علي في حديث شار فيه
فنظر حمزة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى ركبته
ثم
(2/255)
صعد النظر فنظر إلى سرته ثم صعد فنظر إلى
وجهه ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبي- الحديث، وما روى عن أبي موسى الأشعري
أنه قال: لا أعرفن أحدا نظر من جارية إلا إلى ما فوق سرتها وأسفل من ركبتها
لا أعرفن أحدا فعل ذلك إلا عاقبته، ولا يقوله رأيا لأن الوعيد لا مدخل
للرأي فيه يضاد ما روينا آنفا ثم تأملنا فوجدنا الفخذ والساق عضوين موصولين
أحدهما مركب على الآخر وكانا إذا بسطا بدا منهما كالفلكة وهما عظمان أحدهما
في الفخذ والآخر في الساق وتلك الفلكة هي الركبة فكان ما كان منها في الفخذ
له حكمه في كونه عورة وما كان منها في الساق له حكمه في عدم كونه عورة
ولكنه غير مقدور على تفصيله من العظم الذي في الساق ولا على معرفة مقداره
فالأولى أن يحكم له بحكم العورة لا غيرها.
وأما السرة ففي حديث على ما قد دل أنها ليست من العورة وكذلك ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على
وجهه من بين ثدييه ثم على كبده ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
سرة أبي محذورة وهذا أولى مما قاله أبو موسى مع أنه خالفه الحسن بن علي
وابن عمر وأبو هريرة روى أنا أبا هريرة قال للحسن: أدن مني حتى أقبل منك
حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله منك فرفع ثوبه فقبل سرته ولأن
السرة أشبه بالصدر منها بالعورة.
والأقرب إلى الصواب أن ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفخذ هل هو
عورة أو ليس بعورة معناه أنه ليس بعورة يجب سترها كالقبل والدبر وأنه عورة
يجب سترها في مكارم الأخلاق ومحاسنها ولا ينبغي التهاون بذلك في المحافل
والجماعات ولا عند من يستحي من ذوي الأقدار والهيئات فعلى هذا تستعمل
الآثار كلها واستعمالها أولى من طرح بعضها والله أعلم.
وروى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما
نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت
(2/256)
يمينك" قال: قلت: يا رسول الله إذا كان
القوم بعضهم في بعض قال: "فإن استطعت أن لا يراها أحد" قال: قلت: يا رسول
الله إذا كان أحدنا خاليا قال: "فالله أحق أن يستحيا منه من الناس"، مع ما
روي عن عائشة أنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط لا
معارضة بينهما لأنه وإن كان غير محظور إلا أن رتبته العلية الفائقة لجميع
رتب المخلوقات منعته وما روي عن عائشة أنه لما قدم زيد بن حارثة المدينة
فقرع الباب قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا والله ما رأيته
عريانا قبله معناه أن أكثره عريان غير مكشوف العورة لأنه قام يتلقى رجلا
فلا يلقاه وهو مكشوف العورة وإنما رأت عائشة منه ما يجوز أن يراه ذلك الرجل
منه فلا منافاة.
(2/257)
في رفع العلم
روى جبير عن عوف بن مالك الأشجعي نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما
إلى السماء فقال: "هذا أوان يرفع العلم" فقال أنصاري يقال له لبيد: يا رسول
الله يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة" ثم ذكر ضلالة اليهود والنصارى
على ما في أيديهم من كتاب الله تعالى قال: فلقيت شداد بن أوس فحدثته بحديث
عوف فقال: صدق عوف ألا أخبرك بأول ذلك؟ يرفع الخشوع حتى لا ترى خاشعا، وبعض
رواة الحديث يقول فيه: وفينا كتاب الله وقد علمناه أبناءنا ونساءنا وبعضهم
يقول فيه: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرءه أبناءهم
إلى يوم القيامة وبعضهم يزيد فيه ثم قال: وذهابه بذهاب أوعيته.
قيل: كيف يرفع العلم في زمنه صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي قائم فيه
ليبلغه الناس بعضهم بعضا كما أمروا به فلو رفع العلم في زمنه صلى الله عليه
وسلم ينقطع الإبلاغ لكن الحديث صحيح وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى
وقت
(2/257)
يرفع العلم فيه بعد ذلك الوقت مثل قوله
تعالى: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ليوم لم يجئ بعد
يدل عليه احتجاجه صلى الله عليه وسلم لضلالة أهل الكتابين وعندهم التوراة
والإنجيل وإنما كان ذلك بعد ذهاب أنبيائهم فكذلك ما تواعد به رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمته في هذا الحديث إنما يكون بعد إيابه وبعد ذهاب من تبعه
وخلفه بالرشد والهداية من أصحابه، وقول شداد أول ما يرفع من ذلك الخشوع يدل
عليه لأن الخشوع من صفات الصحابة قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ}
الآية فلا يكون إلا بعد انقراضهم والمراد بأوعية العلم العلماء فإن الله
تعالى يقبض العلم بقبض العلماء يؤيده ما روى مرفوعا أنه لا تزال الأمة على
شريعة ما لم يظهر فيهم ثلاث يقبض منهم العلم ويكثر فيهم ولد الخبث ويكثر
فيهم الصقارون وهم قوم تحية بينهم التلاعن عند التلاقي.
(2/258)
في عائشة
روي مرفوعا قال صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: "يا أم سلمة لا تؤذيني في
عائشة فوالله ما منكن امرأة ينزل إلي الوحي وأنا في لحافها ليس عائشة"
قالت: فقلت: لا جرم والله لا أوذيك فيها أبدا، لا تضاد بينه وبين حديث توبة
كعب أنها نزلت وهو صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة لأنه يحتمل أن يكون أنزل
عليه ذلك من توبتهم في ليلتها وبينها وهو في غير لحافها.
(2/258)
في نفي شك إبراهيم عليه السلام
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من
إبراهيم عليه السلام إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى ويرحم الله لوطا لقد
كان يأوى إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي"، يعني:
إذا كنا لا نشك فإبراهيم أحق أن لا يشك فالمراد به نفي الشك عنه. قوله:
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بإجابة طلبتي، وقوله: "ويرحم الله لوطا
لقد كان يأوي إلى ركن شديد" لقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}
أي: كقوة أهل الدنيا التي يتناصف بها
(2/258)
بعضهم من بعض {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ
شَدِيدٍ} من أركان الدنيا ومنعة قومه ولهذا ما بعث نبي بعده إلا في ثروة من
قومه وقد كان له من الله الركن الشديد ولكنه ربما أخر عقوبات بعض المذنبين
إذ كان لا يخاف الفوت إلى أن يجئ وقت نزوله في مشيئته كما فعل بآل فرعون
وغيرهم ممن عصى وعاند الرسل وقوله: "ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف
لأجبت الداعي" للاستراحة من السجن ولكنه قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فاسْأَلْهُ} الآية والحق أن ذلك منه كان على التواضع لله أو قبل أن يعلمه
الله تعالى بفضله على جميع الأنبياء والمرسلين.
(2/259)
في النهي عن قوله: خبثت نفسي
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس
أحدكم إذا نام"، الحديث إلى قوله: "وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"، وروي عنه
أنه قال: "لا يقل أحدكم خبثت نفسي وليقل لقست نفسي"، وذلك لأن الخبث هو
الفسق منه قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} فيكره أن يصف
الإنسان نفسه بذلك من غير موجب كترك الصلاة واختيار النوم عليها وروي وإلا
أصبح لقس النفس كسلان واللفظان سواء في اللغة وهي الشراسة وسوء الخلق،
الصحيح الفرق بينهما على ما في الحديث والله أعلم.
(2/259)
في وعد النبي صلى
الله عليه وسلم أم سلمة هدية النجاشي
لما تزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال لها: "إني قد أهديت للنجاشي أواقي
من مسك وحلة وإني لا أراه إلا قد مات ولا أرى الهدية التى أهديت إليها إلا
سترد إلي فإذا أردت فهي لك"، فكان كما قال فلما ردت الهدية أعطى كل امرأة
من نسائه أوقية من ذلك المسك وأعطي الباقي أم سلمة وأعطاها الحلة، قال منكر
هذا الحديث: قد تحقق النبي صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي حتى نعاه
(2/259)
للناس يوم مات فيه وصلى عليه فكيف يقول:
"لا أراه إلا قد مات"، وفيه الوعد بالكل لأم سلمة فكيف يعطيها بعضها وفيه
خلف بعض الوعد وحاشاه من ذلك والجواب أنه يحتمل أن يكون الموعد قبل موته
فلما مات أعلمه الله تعالى بموته فنعاه وصلى عليه ويحتمل أن يكون أنفذ عدته
لأم سلمة فلم تقبلها إلا بإشراك بقية نسائه معها كراهية الاستئثار بها
لجلالة رتبتها وحسن عشرتها كما فعل الأنصار لما أقطع لهم من البحرين قالوا:
لا تفعل حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين.
(2/260)
النهي عن قوله: تعس الشيطان
عن أبي المليح عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فعثر بعيري
فقلت: تعس الشيطان فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم
حتى يصير ملء البيت ويقول بقوتي صرفته ولكن قل: بسم الله فإنه يصغر حتى
يصير مثل الذبابة".
وعن عثمان بن أبي العاص قلت: يا رسول الله إن الشيطان يأتيني فيلبس علي
قراءتي فقال: "ذلك يقال له: خنزب فإذا أتاك فأخسئه"، ففعلت فذهب عني، الناس
إنما أمروا بالاستعاذة من الشيطان فيما جعل له سلطان عليهم وهي الوسوسة
لتحبيب الشر وتكريه الخير وانساء ما يذكرون وتذكير ما ينسون وأما إعثار
دوابهم وإهلاك أموالهم فلا سبب له فيها فنهوا عن الدعاء عليه وعند ذلك لأنه
يوهم أن الفعل كان منه ببعيره حتى سقط والواقع بخلافه والتعس السقوط.
(2/260)
في قوله: لا تكون
مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف
جاء عقبة بن مسعود1 إلى علي بن أبي طالب فقال له: يا فريح2
__________
1 كذا والذي في مشكل الاثار 1/61 أبو مسعود عقبة بن عمرو وهو الصواب- ح.
2 في المشكل- يا فريح.
(2/260)
أما أنك تعي الناس فقال: أما أني أخبرهم أن
الآخر فالآخر شر قال: فحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
في المائة قال: سمعته يقول: "لا تكونن مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف" قال:
اخطأت واخطأت في أول فتواك1 إنما قال ذلك لمن هو يومئذ وهل الرجاء والفرح2
إلا بعد المائة، تأول علي ابن أبي طالب بأن المراد فناء ذلك القرن بغير نفي
منه أن يخلفهم قرون إلى يوم القيامة لأن العيان يدفع فناء الناس جميعا لأن
فيه انقراض الدنيا فإن قيل كان في التابعين مخضرمون ممن كان في الجاهلية
وبقي في الإسلام حتى جاوزوا هذه المدة منهم أبو عثمان النهدي قال: أتت علي
ثلاثون ومائة سنة ما من شيء إلا نقص سوى أملي ومنهم سويد بن غفلة توفي وهو
ابن تسع وعشرين ومائة سنة ومنهم زر بن حبيش توفي وهو ابن اثنتين وعشرين
ومائة سنة قد قيل: أن أبا عثمان النهدي توفي وهو ابن أربعين ومائة فالجواب
أن ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون أراد به ممن كان
أتبعه لا ممن سواهم ويحتمل أن يكون وفاة هؤلاء المعمرين في المائة السنة
التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجها وهو أولى ما حمل
عليه3.
__________
1 في المشكل قولك.
2 في المشكل الرخاء والفرج.
3 بل هو الصواب المنصوص في الروايات المبينة.
(2/261)
في الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم
روي مرفوعا: "من كذب علي متعمدا، وجاء من كذب علي مطلقا، وجاء من قال علي
كذبا، وجاء من حدث عني كذبا فليتبوأ مقعده من النار"، ذكر التعمد إنما هو
على التوكيد كما يقال: فعلت كذا بيدي ونظرت إلى كذا بعين وسمعت بأذني لأن
الكذب لا يكون إلا بالتعمد1 وهذا كقوله تعالى:
__________
1 المنصور عند أهل المعاني أن الكذب هو الإخبار بما لا يطابق الواقع وإن
كان المخبر بظنه واقعا وقد جاء استعماله في الأحاديث والآثار في الأخبار
بما خالف الواقع خطا فالصواب أن قوله متعمدا قيد يخرج المخطئ ثم يحمل
المطلق على المقيد- ح.
(2/261)
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} و {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية في أنها لا تكون إلا على التعمد
فلا يكون كاذبا ولا زانيا ولا سارقا ولا محاربا إلا بقصده ذلك وإنما يختلف
العمد وغيره في مثل القتل، وروي: من كذب علي متعمدا ليضل الناس به، وهو
منكر غير صحيح ولو صح فالمراد به التأكيد أيضا مثل قوله تعالى: {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ
بِغَيْرِ عِلْمٍ} وذكر في سائر المواضع في القرآن بغير ذكره معه هذه
الزيادة والله أعلم والمشيئة في ذكره وتركه1 وروى من حدث علي2 حديثا يرى
أنه كاذب فهو أحد الكاذبين، قال الله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}
والقول عن الرسل قول على الله والحق هنا كهو في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ} فكل من شهد بظن شهد بغير حق إذا لظن لا يغني من الحق
شيئا فكذا من حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالظن حدث عنه بغير حق فكان
باطلا والباطل كذب فهو أحد الكاذبين عليه الداخلين في قوله: "من كذب علي
فليتبوأ مقعده من النار" ونعوذ بالله من ذلك.
__________
1 عبارة مشكل الآثار 1/175 وذلك عندنا على توكيده حيث شاء أن يؤكد وتركه
ذلك حيث شاء تركه.
2 في مشكل الآثار ج1 ص175- من حدث عني وهو الظاهر- ح.
(2/262)
في السنين الجوادع
روي مرفوعا أن أمام الدجال سنون جوادع يكثر فيها الظن ويقل فيها التثبت
يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق يؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين
وينطق الرويبضة قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال:
(2/262)
"الفوسق يتكلم أمر العامة"، يحتمل أن يكون
لا يؤبه له لحموله لفسقه فلا يمكنه الكلام في أمر العامة ثم يمكنه ذلك في
الدهر المذموم.
(2/263)
في الساعة
عن أنس سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "ما أعددت
لها؟ " قال: أحب الله ورسوله قال: "أنت مع من أحببت"، وعن عائشة كان
الأعراب يجيئون ويسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة متى
الساعة؟ فنظر إلى أحدهم فقال: "أن بقي هذا لم يقبله الهرم حتى تقوم عليه
ساعته"، لما سألوا عما قد أخفى الله عنه حقيقته أجابهم بما أجابهم انتهاء
لما أمره به ربه من الانتهاء إليه بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} الآية.
(2/263)
في من أحسن في
الإسلام
روى مرفوعا "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في
الإسلام أخذ بالأول والآخر" أي من أسلم في زمن الإسلام ومن كفر في زمن
الإسلام المراد بالحسنة والسيئة هنا الإسلام والكفر كقوله تعالى: {مَنْ
جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} فلا يضاد ما روي أن الإسلام يجب ما
قبله والهجرة تجب ما قبلها.
(2/263)
في صدق أبي ذر
روي مرفوعا "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر"
أي أنه في أعلى مراتب الصدق فلا ينتفي بذلك أن يكون في الصحابة من هو في
الصدق مثله وإنما ينتفي به أن يكون غيره في مرتبة الصدق أعلى منها.
(2/263)
في الأمر والنهي
روي مرفوعا "إذا نهيتكم عن الشيء فانتهوا عنه وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا
(2/263)
منه ما استطعتم"، المنهيات يمكن تركها لكل
أحد والمأمورات قد يمكن فعلها وقد لا تستطاع فلم يكلفوا إلا بما يطيقونه
منها إذا التكليف بحسب الوسع والطاعة بقدر الطاعة قال عبد الله بن عمر: كنا
إذا بايعنا على السمع والطاعة كان صلى الله عليه وسلم يقول لنا: فيما
استطعتم فهذا هو الفرق بين أمره ونهيه وذلك لأن الأمر بالشيء استدعاء لفعله
وفعل الشيء بعينه قد يعجز عنه فأمر أن يأتي بما استطاع منه والنهي استدعاء
لتركه وتركه بفعل ضده أو أضداده من غير تعيين فلا يتصور العجز عنه.
(2/264)
في كسب الإماء
روي مرفوعا النهي عن كسب الإماء يعني: الكسب المذموم بدليل قوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قيل: هو الصلاح وقيل:
اكتساب المال، وروى أنه نهى كسب الأمة إلا أن يكون لها عمل واصب أو كسب
يعرف، فالمنهي الكسب المذموم لا المحمود فإن قيل: هل يجوز أن يضاف إلى كل
الإكساب ويراد به الخصوص؟ قلنا: إن الأشياء إذا كثرت اعدادها واتسعت جاز أن
يضاف إلى كلها ويراد به بعضها كقوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ
وَهُوَ الْحَقُّ} والمراد بعض القوم لا المصدق منهم وكذا قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} والمرد المصدقين منهم لا المكذبين.
(2/264)
في أن الله لا يمل
روي مرفوعا "خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب
الأعمال إلى الله مادام منها وإن قل". يعني: أن الله لا يمل إذا مللتم لأن
الملل ليس من صفاته سبحانه وهذا كما يوصف الرجل بالبراعة والفصاحة فيقال:
أنه لا ينقطع عن خصومه حتى ينقطعوا ليس المراد وصفه بالانقطاع بعد انقطاع
خصومه فكذا هذا يعني: أنكم تملون وتنقطعون والله تعالى بعد مللكم وانقطاعكم
على الحال التي كان عليها قبل ذلك من انتفاء الملل والانقطاع.
(2/264)
في تعبير الظلة في
المنام
عن ابن عباس أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل فأرى الناس يتكففون منها
بأيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك
أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ
به رجل آخر فانقطع ثم أنه وصل له فعلا قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت
لتدعني فلأعبرنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعبر" قال أبوبكر: أما
الظلة فظلة الإسلام وأما الذي تنطف السمن والعسل فحلاوته ولينه وأما ما
يكتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل وأما السبب الواصل من
السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه فأخذته فيعليك الله ثم أخذ به رجل من
بعدك فيعلو به ثم يأخذ رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل
له فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا" قال: فوالله يا رسول الله لتخبرني
بالذي أخطأت فقال: "لا تقسم". الخطأ في تعبيره هو أن جعل السمن والعسل شيئا
واحدا وهما عند أهل العبارة شيئان مختلفان من أصلين مختلفين يؤيده ما روي
أن عبد الله بن عمرو بن العاص رأى في المنام كان في إحدى أصبعيه عسلا وفي
الأخرى سمنا فكأنه يلعقهما فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: "تقرأ الكتابين التوراة والفرقان" قال: فكان يقرؤهما وقوله: "لا
تقسم" ليس لكراهة القسم لأنه مباح في كتاب الله وعلى لسان رسوله بل لأنه
أقسم عليه وليخبره بحقيقة الخطأ من حقيقة الصواب وذلك غير موكول إليه لأن
العبارة إنما هي بالظن والتحري لا بما سواهما قال تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} يعني: قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما فكان
تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس أيضا فهذا هو المعنى في
(2/265)
نهيه إياه عن القسم، يؤيده أن أبا بكر
الصديق قد أقسم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر بن الخطاب إذ عزم
على الخروج للشام فقال له الناس: اتدع عمر يخرج إلى الشام وهو ههنا يكفيك
الشام؟ فقال: أقسمت عليك لما خرجت فلو كان نهي النبي صلى الله عليه وسلم
إياه عن القسم كراهية اليمين لما أقسم على عمر وكان القسم من الصحابة
مشهورا لا ينكر على من أقسم.
قال القاضي أبو الوليد: سمعت شيخي أن أبا بكر أصاب في تعبيره جميعا وأن
خطأه كان في تقدمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبارة لها
وسؤاله أن يبيح له ذلك وهو تأويل حسن.
(2/266)
في الغرباء
روي مرفوعا "أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء" فقيل: من هم
يا رسول الله؟ فقال: "النزاع من القبائل"، وفي رواية نزاع الناس، وفي بعض
الآثار الذين يصلحون حين يفسد الناس الإسلام طرأ على أشياء ليست من أشكاله
فكان بذلك معها غريبا كما يقال لمن نزل على قوم لا يعرفونه: أنه غريب بينهم
ثم أنه يعود كذلك فيكون من نزع عما عليه الجملة المذمومة إلى ما كانت
الجملة المحمودة غريبا بينهم ومن ذلك ما روي عن ابن العاص أنه قال: ليأتين
على الناس زمان يجتمعون في المساجد وليس فيهم مؤمن.
(2/266)
في أهل البيت
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} دعا عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: "اللهم
هؤلاء أهلي"، وروي أنه جمع فاطمة والحسن والحسين ثم أدخلهم تحت ثوبه ثم جأر
إلى الله تعالى: رب هؤلاء أهلي قالت أم سلمة: يا رسول الله فتدخلني معهم
قال: "أنت من أهلي" يعني: من أزواجه كما في حديث الإفك: من يعذرني من رجل
بلغني إذاه في أهلى لا أنها أهل
(2/266)
الآية المتلوة في هذا الباب. يؤيده ما روي
عن أم سلمة أن هذه الآية نزلت في بيتي فقلت: يا رسول الله ألست من أهل
البيت؟ قال: "أنت على خير إنك من أزواج النبي وفي البيت علي وفاطمة والحسن
والحسين".
وما روي أيضا عن واثلة بن الأسقع أنه قال: أتيت عليا فلم أجده فقالت فاطمة:
انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريده قال: فجاء مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فدخلا ودخلت معهما فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن
والحسين وأقعد كل واحد منهما على فخذه وأدنى فاطمة من حجره وزوجها ثم لف
عليهم ثوبا وأنا منتبذ ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ثم قال:
"اللهم هؤلاء أهلي اللهم هؤلاء أهلي إنهم أهل حق" فقلت: يا رسول الله وأنا
من أهلك؟ قال: "وأنت من أهلي" - قال واثلة: فإنها من أرجى ما نرجو وواثلة
أبعد من أم سلمة لأنه ليس من قريش وأم سلمة موضعها من قريش موضعها فكان
قوله صلى الله عليه وسلم لو اثلة: "أنت من أهلي" لاتباعك إياي وإيمانك بي
وأهل الأنبياء متبعوهم يؤيده قوله تعالى لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فكما حرج ابنه بالخلاف من أهله
فكذلك يدخل المرء في أهله بالموافقة على دينه وإن لم يكن من ذوي نسبته
والكلام لخطاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تم عند قوله: {وَأَقِمْنَ
الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} استئناف تشريعا لأهل
البيت وترفيعا لمقدارهم ألا ترى أنه جاء على خطاب المذكر فقال: عنكم ولم
يقل: عنكن فلا حجة لأحد في إدخال الأزواج في هذه الآية، يدل عليه ما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح أتى باب فاطمة فقال: "السلام
عليكم أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
(2/267)
في الغول
روي عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له فكانت الغول تجئ فتأخذ فشكا ذلك إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "إذا رأيتها فقل: بسم الله أجيبي رسول
الله" فأخذها فحلفت أن لا تعود فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك"؟ قال: حلف أن لا يعود قال: "كذبت
وهي عائدة" ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا كلما أخذها حلفت أن لا تعود وتكذب
فأخذها فقالت له: إني أعلمك شيئا إذا فعلته لم يقربك شيء آية الكرسي تقرأها
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما فعل أسيرك"؟ فقال: قالت: آية
الكرسي اقرأها فإنه لا يقربك شيء فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت وهي
كذوب"، فيه إثبات الغول وقد روى جابر مرفوعا "لا غول ولا صفر ولا شؤم" ليس
بينهما تضاد لأنه يحتمل أنه كان ثم رفعه الله عن عباده وهذا أولى ما حملت
عليه الآثار المروية في هذا وفيما أشبهه ما وجدنا السبيل إلى ذلك.
(2/268)
في أهل فارس
روي مرفوعا لو كان الإيمان بالثريا أو لو كان الدين بالثريا لنا له أبناء
فارس أولنا له رجال من فارس أو رجال من الفرس، وبعض الرواة قال: رجال من
الأعاجم أو رجال من الفرس على الشك، وروي مثل ذلك في العلم، روي أبو هريرة
ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من كف يده تفرقوا1 يا بني فروخ إلى الذكر
فإن العرب قد أعرضت عنه والله والله إن منكم لرجالا لو أن العلم بالثريا
لنالو هذا على طريق المثل كما يقول الرجل لصاحبه: أنت مني كالثريا يريد في
البعد وأنت نصب عيني يريد في القرب لأن الثريا لا دين ولا إيمان ولا علم
بها ويحتمل أنه لو كان لابد من الوصول إليه بسبب يجعله الله بلطيف حكمته
لمن خلقه للإيمان لأن أهل فارس من أشد الناس طلبا له.
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر- تفرغوا- ح.
(2/268)
في أهل اليمن
روي مرفوعا "أتاكم أهل اليمن هم الين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يمان
والحكمة يمانية" قيل المراد بهم أهل تهامة وهو قول سفيان بن عيينة ولا يصح
لأن أكثرهم من مضر وروي أنه صلى الله عيه وسلم أشار بيده نحو اليمن فقال:
"الإيمان ههنا ألا وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين أصحاب الإبل حيث
يطلع قرن الشيطان في ربيعة ومضر"، فدل أن المضاف إليهم الإيمان والحكمة
والفقه أضدادهم الذين ليسوا من ربيعة ولا من مضر.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعيينة بن بدر: "أنا أفرس بالخيل منك"
فقال عيينة: إن تكن أفرس بالخيل فأنا أفرس بالرجال منك قال: وكيف؟ قال: أن
خير رجال لبسوا البرود ووضعوا سيوفهم على عواتقهم وعرضوا الرماح على مناسج
خيولهم رجال نجد فقال صلى الله عليه وسلم: "كذبت بل هم أهل اليمن الإيمان
يمان آل لخم وجذام وعاملة ومأكول حمير"، الحديث.
وروي أيضا أنه قال: "ليأتين أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم
يا رسول الله أقريش؟ قال: "لا أهل اليمن هم أرق أفئدة والين قلوبا" فقلنا:
هم خير منا يا رسول الله؟ فقال: "لو كان لأحد هم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك
مد أحدكم ولا نصيفه وإن فصل ما بيننا وبين الناس هذه الآية {لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} " الآية وفي هذا
ما يدل على خلاف ما ذهب إليه ابن عيينة وقال صلى الله عليه وسلم: "يقدم قوم
هم أرق منكم أفئدة" فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى فجعلوا يرتجزون ويقولون:
غدا نلقي الأحبة ... محمدا وحزبه
فدل على أن أهل اليمن المرادون هم الأشعريون وأمثالهم القادمون من حقيقة
اليمن دون من سواهم.
وروى أن أبا عبيدة بن الجراح قال: يا رسول الله أجد خير منا أسلمنا معك
وجاهدنا معك؟ قال: "نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"،
(2/269)
وعن أبي سعيد الخدري خرجنا مع رسول الله
صلى الله عيه وسلم عام الحديبية فقال: "ليأتين أقوام تحقرون أعمالكم"
الحديث إلى قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ
بَعْدُ} الآية- وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أمتك خير؟
قال: "أنا واقراني" قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: "ثم القرن الثاني" قال: قلنا:
ثم ماذا؟ قال: "القرن الثالث" قال: قلنا؟ ثم ماذا؟ قال: "ثم يأتي قوم
يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويؤتمنون ولا يؤدون"، يحتمل أن
يكون المراد بالحديث الأول قوم تقدم إيمانهم وحال بينهم وبين الإتيان إليه
صلى الله عليه وسلم مانع من العدو وغيره ثم أتوه بعد ذلك فلحقوا بمن تقدمهم
في الإتيان إليه وفي القتال معه وكان ذلك قبل الفتح المذكور في الآية
فتساووا جميعا عند التصديق له بظهر الغيب فإنهم فضلوا بذلك من آمن به وكان
معه يرى إقامة الله عز وجل الحجج التي لا يتهيأ لذي فهم إنكارها والخروج
عنها فلا معارضة بينه وبين الحديث الآخرولا خارجا عن الآية المذكورة والله
أعلم غير أن هذا أما بلغه فهمنا منه؟
(2/270)
في أبي بن كعب وزيد
بن ثابت ومعاذ ابن جبل
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: اقرأهم- يعني من أمته- لكتاب
الله أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل،
ليس في هذا الحديث ما يوجب كونهم فوق الخلفاء الراشدين وفوق إجلاء الصحابة
فيما ذكروا به وإنما المعنى إن من جلت رتبته في معنى من المعاني جاز أن
يقال: أنه أفضل الناس في ذلك العنى وإن كان فيهم مثله أو من هو فوقه من ذلك
ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يقتلك أشقاها" يعني:
البرية فقتله عبد الرحمن بن ملجم وكان من أهل التوحيد وأشقى منه المشرك
ولكن لعظيم جرمه وفتكه في الإسلام ما فتكه أطلق عليه الأشقى ومنه ما روي في
وصف الخوارج بالصلاة والصوم ثم قال: "إنهم يمرقون من
(2/270)
الدين مروق السهم من الرمية هم شرار الخلق
والخليقة" مع علمنا أن المشرك وقاتل الأنبياء والقائل بأن له ولدا وصاحبة
شر من هؤلاء وكذلك يجوز إطلاق القول فيمن برع في العلم أنه أعلم الناس وإن
كان لا يعرف جميعا ولا مقدار علومهم.
(2/271)
في سباب المسلم وقتاله
روى مرفوعا "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" الفسوق الخروج عن الأمر المحمود
إلى الأمر المذموم منه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وأما
قتاله ليس بكفر بالله حتى يكون مرتدا ولكنه على تغطية إيمانه واستهلاكه
إياه لأنه بقتله أخاه لا يصير كافرا فبقتاله أولى ومنه قوله: "يكفرن العشير
ويكفرن الإحسان" أي: يغطينه فيسترنه ومنه {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}
ومنه {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} نزلت في شيء وقع بين الأوس والخزرج إنما كان على معنى
تغطيتهم ما كانوا عليه من الأخوة والائتلاف.
(2/271)
في النملة والنحلة
والهدهد والصرد
روى مرفوعا "أربع من الدواب لا يقتلن النملة والنحلة والهدهد والصرد" وروى
نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع النملة الحديث، وذلك لأن
الهدهد لا يؤكل ولا مضرة منه على الناس فكان قتله عبثا، روى من قتل عصفورة
فما فوقها بغير حقها سأله الله عز وجل عن قتلها قيل: يا رسول الله وما
حقها؟ قال: "تذبحها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمي بها"، وروي ما قتل عصفور
قط عبثا فما فوقه إلا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة فلان قتلني فلا هو
انتفع بي ولا هو تركني فأعيش في حشاراتها. وكذلك قاتل الصرد لا يقدر أن
يجمع من أشكاله ما يتهيأ له ينبسط في أكل لحومها فيعود إلى العبث الموعود
عليه وأما النحلة فقتلها قطع لمنافعها وعدم الانتفاع بها فزاد جرم
(2/271)
قاتلها على جرم قاتل الهدهد والصرد وأما
النملة فلا منفعة معها ولا مضرة وورد أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر
بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم
تسبح.
وروى مرفوعا خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله تعالى فإذا هم بنملة
رافعة بعض قوائمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا فقد استجيب لكم
من أجل هذه النملة". فمن قتل ما هذا سبيله فقد قطع المعنى المحمود منه ودخل
تحت الوعيد المذكور، وروي في النملة إباحة قتلها إذا آذت لما روي نزل نبي
من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فخرج من تحتها فأوحى هلا1
أخذت نملة واحدة، وفي قوله: "أربع لا يقتلن" دليل على أن غيرهن ليس في
معناهن للحصر في العدد وقوله: نهى عن قتل أربع وإن لم يكن فيه حصر لكن
المقصود بالنهي قتلهن فقط حيث لم يعطف عليهن غيرهن.
__________
1 في المشكل ج- 1-373 من تحتها ثم أمر بها فاحرقت في النار فأوحى الله
تعالى إليه فهلا- ح.
(2/272)
في الكبائر
قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية من
فضل الله ونهاية كرمه تكفير السيئات باجتناب الكبائر والوعد بإدخالهم مدخلا
كريما بلا عمل كان منهم فوجب ذلك لهم بوعده وجوده فمن الكبائر ما روي عن
ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لخالقك ندا وقد
خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك" قلت: ثم أي؟ قال:
"أن تزاني حليلة جارك"، ثم نزل القرآن تصديقا له صلى الله عليه وسلم
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} فظهر أن الثلاثة من
الكبائر وأكبرها الشرك ثم قتل الولد ثم المزاناة بحليلة الجار.
وروي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه
(2/272)
وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال:
"الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "عقوق الوالدين" قال: ثم ماذا؟ قال:
"اليمين الغموس"، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن
عمرو بن العاص أن الشرك أكبر الكبائر ثم العقوق ثم الغموس فاحتمل أن يكون
قتل الولد وعقوق الوالدين في درجة والغموس ومزاناة حليلة الجار في درجة
تتلوها توفيقا بين الحديثين ويكون أجاب النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود
بأحدهما واجبا عبد الله بن عمرو بن العاص بالآخر منهما ومثل هذا من صحيح
الكلام يقال: فلان من أشجع الناس فيقال: ثم من؟ فيقول: فلان لآخر ثم هناك
آخر مثله قد سكت عنه فلم يذكره فلا تضاد.
وروى عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قالوا: بلى قال: "الإشراك بالله وعقوق
الوالدين قال: وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور" - شك
الجريري أحد رواة الحديث- فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت، فكان الذي في
هذا الحديث في الدرجة الأولى من الكبائر كالذي فيها في الحديثين كما يقال:
من أشجع الناس؟ فيقول: فلان وفلان وأحدهما في الشجاعة فوق الآخر.
وروى أبو أمامة عن عبيد الله بن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن
من أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف
بالله يمين صبر فادخل فيها مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه يوم
القيامة".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع
الموبقات" قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس
المحرمة إلا بالحق وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف الغافلات
المؤمنات"، ولم يذكر غير هذه الستة وسقط فيه السابع وليس في حديث أبي هريرة
تغليظ بعضها على بعض فهي مرتبة على حديث ابن مسعود وابن عمر
(2/273)
وروى أبو أيوب الأنصاري أنه قال: من مات
يعبد الله ولا يشرك به شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويجتنب
الكبائر فله الجنة فسأله رجل ما الكبائر؟ فقال: الإشراك بالله وقتل النفس
التي حرم الله والفرار يوم الزحف.
وسأل رجل من الصحابة يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: "تسع أعظمهن الإشراك
بالله وقتل المؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وأكل
الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين واستحلال بيت الله الحرام قبلتكم أمواتا
وأحياء" ثم قال: "لا يموت رجل لم يعمل هذه الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة إلا وافق محمدا صلى الله عليه وسلم في دار محبوبة مصاريعها من ذهب".
وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل
والديه؟ قال: "نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"، وموضعه
موضع العقوق فيما تقدم.
وقد روى أن الكبائر من أول سورة النساء إلى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية وفي هذا زيادة على ما ذكرنا ويحتمل
أن لا تكون كبائر سواها ويحتمل أن تكون سواها لم يطلع الله تعالى عباده
عليها ليكونوا على حذر من الوقع فيها بالاحتراز عن السيئات كلها خوفا من
الوقوع في الكبائر وذلك من نحو ما روى مرفوعا الحلال بين والحرام بين
وبينهما أمور مشتبهات فلم يبينها ليجتنب الشبهات كلها ومن هذا المعنى إبهام
ليلة القدر ليجتهدوا في العمل رجاء موافقتها.
وعن ابن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أكبر الذنب- وفي
رواية أن أكبر الكبائر- أن يسب الرجل والديه" قيل: يا رسول الله وكيف يسب
والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه"، وهذا يبعد أن
يكون من أكبر الكبائر لأن الشرك أكبر من ذلك.
(2/274)
وعنه جاء أعرابي فقال: يا رسول الله ما
الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله" قال: ثم ماذا؟ قال: "ثم عقوق الوالدين" قال:
ثم ماذا؟ قال: ثم "اليمين الغموس"، وكلا الحديثين بإسناد لا طعن فيه ولا
استرابة بأحد من رواته.
فعاد بذلك أكبر الكبائر الإشراك بالله ثم عقوق الوالدين تاليا للشرك ولكن
قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أكبر من العقوق لا سيما الإبن الذي جعل
الله له من الحق عليه رزقه وكسوته وإن الزنا أكبر من ذلك أيضا لا سيما
الزنا بحليلة الجار فعاد الأمر إلى أن أكبر الذنوب الشرك ثم يتلوه قتل
النفس وإن تفاضلت أحوال المقتولين ثم يتلو ذلك الزنا وإن كان بعضه أشد من
بعض ثم يتلوه عقوق الوالدين ثم شهادة الزور واليمين الغموس والله أعلم.
(2/275)
في ثناء الله على
العبد
روي مرفوعا " إذا رضي الله عن العبد بالأعمال الصالحة أثنى عليه سبعة أضعاف
من الخير لم يعملها" وقال في السخط مثله يعني إذا رضى الله تعالى عن العبد
بأعماله الصالحة يثني عليه سبعة أضعاف من الخير لم يعملها مما قد علم الله
أنه سيعملها في المستقبل وإن كان قد يعمل من الخير في المستأنف أكثر منها
لأنه لم يستوجب الثناء بما لم يعمل بعد فتفضل الله تعالى عليه لمحبته إياه
بأن يثنى عليه من ذلك بالعدد المذكور في الحديث والسخط مثل ذلك.
(2/275)
في القرآن
عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو جعل القرآن في إهاب
ثم ألقى في النار ما احترق"، يحتمل أن يراد بالإهاب قارئه الذي وعاه ويحتمل
الورق الذي يكتب فيه لو ألقى في النار لانتزع الله تعالى منه القرآن تنزيها
له حتى يحترق الإهاب خاليا من القرآن والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
(2/275)
في الريح والرياح
عن القاسم بن سلام ما كان فيها من الرحمة فإنه جماع وما كان من
(2/275)
العذاب فإنه على واحدة والأصل فيه قوله صلى
الله عليه وسلم: "إذا هاجت الريح اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" حكاه
أبو عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصل له وكان اللائق بجلالة
قدره أن لا يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يعرفه أهل العلم
بالحديث عنه وقد ذكر الله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ} فكانت الريح الطيبة رحمة والعاصف عذابا فدل على انتفاء ما رواه
أبو عبيد والله يغفر له.
ومن رواية أبي بن كعب مرفوعا "لا تسبوا الريح إذا رأيتم منها ما تكرهون"
وقولوا: "اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به
ونعوذك من شرها وشر ما فيها وشر ما أمرت به".
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "
اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر
ما فيها وشر ما أرسلت به" وإذا تجلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل
وأدبر فإذا أمطرت سرى عنه فسألته فقال: لعله كما قال قوم عاد {فَلَمَّا
رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية وعن أنس مرفوعا أنه
كان إذا هاجت ريح شديدة قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك من خير
ما أمرت به وأعوذ بك من شر ما أمرت به".
فدل جميع ما روينا أن الريح قد تأتي بالرحمة وقد تأتي بالعذاب وأنه لا فرق
بينهما إلا في الرحمة والعذاب وأنها ريح واحدة لا رياح- وعن وعن ابن عباس
مرفوعا نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور، والصبا ريح واحدة والدبور كذلك
وروى أن رجلا قرأ: وأرسلنا الريح لواقح فقال عاصم: {وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} لو كانت الريح لكانت ملقحة فذكر ذلك للأعمش
(2/276)
فقال: أنه لا تلقح من الرياح إلا الجنوب
فإذا تفرقت صارت رياحا وفيما روينا دليل على أن المختار عند اختلاف القراء
في الريح والرياح الريح لا الرياح.
(2/277)
في الغرف والقباب
...
في الغرق والقباب
روى أن العباس ابتنى غرفة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقها" فقال:
أنا أنفق مثل ثمنها في سبيل الله فرد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات
ورد العباس عليه ثلاث مرات محمل الكراهة اتخاذ الغرفة التي يستعلى منها على
منازل الناس لقصر منازلهم ويحتمل أن يكون ذلك لكراهية البنيان الذي لا
يحتاج إليه علوا كان أو سفلا.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قبة مشرفة فقال: "ما
هذه"؟ فقال له أصحابه: هذه لرجل من الأنصار فسكت وحملها في نفسه حتى إذا
جاء صاحبها في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب والإعراض
عنه شكا ذلك إلى أصحابه فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وما أدري ما حدث بي وما صنعت قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرأى قبتك فقال: "لمن هي"؟ فأخبرناه فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها
بالأرض فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها فقال: "ما فعلت
القبة التي كانت هنا"؟ فقالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه
فهدمها فقال: "أما أن كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما- إلا ما".
ليس المذموم كل بناء وإنما المراد منه ما بني في ظلم واعتداء يدل عليه قوله
صلى الله عليه وسلم: "من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس في غير
ظلم ولا اعتداء كان أجره جاريا ما انتفع به أحد من خلق الرحمن"، وهو
المستثنى وما روي في حديث اعتزاله لنسائه صلى الله عليه وسلم أن عمر استأذن
(2/277)
عليه وهو في مشربه له وهي الغرفة الحديث
بطوله إلى قوله ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت اتشبث في الجذع
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ومن رواية أبي
سريحة أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة.
فقال: "ما تذكرون وما تقولون"؟ قال: قلنا: يا رسول الله الساعة قال: "أنها
لن تقوم حتى تروا عشر آيات خسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب
ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان والدجال ونزول عيسى ابن مريم وطلوع الشمس من
مغربها ونارا تخرج من قعر عدن تقيل إذا قالوا وتروح معهم إذ راحوا"، وخرجه
من طرق لا يضاد ما روينا في أن اتخاذ الغرف والأسافل مباح في غير ظلم ولا
اعتداء.
(2/278)
في الدخان
روي مرفوعا في تفسير قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ذكر في ذلك ما روي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه
وسلم أن قريشا استعصت وكفرت فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل
له: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} فأخذتهم
سنة حصت عليهم كل شيء حتى العظام والميتة وحتى كان الرجل يرى ما بينه وبين
السماء كهيئة الدخان من الجهد فقالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا
الْعَذَابَ} الآية ثم قرأ {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ
عَائِدُونَ} فكشف عنهم فعادوا في كفرهم ثم قرأ {يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} فعادوا في كفرهم فأخذهم الله عز وجل يوم بدر ولو
كان يوم القيامة لم يكشف عنهم فكان فيه أن الدخان من الآيات التي مضت في
عهده صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس قد مضين الدخان
والقمر والروم واللزام والبطشة الكبرى.
وما روي عن أبي هريرة مرفوعا بادروا بالأعمال فتنا قبل طلوع الشمس من
مغربها والدخان والدجال والدابة والقيامة مع ما روينا عن أبي سريحة في
(2/278)
إباحة الغرف تأويله على أنه دخان آخر لأن
الله قال: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} ثم أتبع ذلك بقوله:
{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي: عقوبة لهم
لما هم عليه من الشك واللعب ومحال أن تكون هاتان العقوبتان لغيرهم أو يؤتى
بها بعد خروجهم من الدنيا وسلامتهم من ذلك الدخان وإنما سماه دخانا مبينا
مجازا وليس بدخان حقيقة وإنما كان سمته قريش دخانا بالتوهم كما روي في قصة
الدجال أنه يامر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت وليس ذلك بمطر ولا نبات
على الحقيقة وإنما يتخيل للناس أنه مطر ونبات ووجه قوله: {يَوْمَ تَأْتِي
السَّمَاءُ} إن الأشياء التي تحل بالناس من الله تعالى تضاف إلى السماء من
ذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ}
فأخبر أن الأمور التي تكون في الأرض مدبرة من السماء إليها وما ذكر في حديث
حذيفة وأبي هريرة من الدخان فهو دخان حقيقي مما يكون بقرب القيامة نسأل
الله خير عواقبه في الدنيا والآخرة.
(2/279)
في الاقتداء بأبي بكر وعمر
روى حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من
بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"، الاقتداء
بهما هو امتثال ما هما عليه وأن يحذى حذوهما في الدين ولا يخرجوا منه إلى
غيره.
والاهتداء بهدي عمار يعني في الأعمال التي يتقرب بها إلى الله لأن الاهتداء
هو التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة وعمار من أهلها وليس ذلك بمخرج لغيره
من الصحابة عن تلك المنزلة لأن القصد بمثل هذا إلى الواحد من أهله لا ينفي
بقية أهله أن يكونوا فيه مثله كما يقال موضع فلان من العبادة الموضع الذي
ينبغي أن يتمسك به وليس في ذلك ما ينفي أن يكون هناك آخرون في العبادة مثله
أو فوقه ممن يجب أن يكونوا في الاهتداء بهم كالاهتداء به فيه ومما يدل على
ان الهدى العمل الصالح قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى رجلا
(2/279)
يصلي يكثر الركوع والسجود عليكم هديا قاصدا
قالها ثلاثا فإنه لن يشاد هذا الدين أحدا إلا غلبه فكان الهدى القاصد في
هذا ما يقدر على مداومته من الأعمال الصالحة المتقرب بها إلى الله.
وقوله: "وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" مأخوذ من قوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} وكان ابن أم عبد منهم روي أنه كان يشبه
بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته قال حذيفة: المحفوظ من الصحابة1
أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة فلما كان بهذه المنزلة من الهدى والدل
في الدنيا وقرب الوسيلة في الآخرة كان حريا أن يتمسك بعهده الذي عاهد الله
عليه ودام إلى أن توفى ولا يمنع أن يكون في الصحابة من هذه منزلته في
الدنيا والأخرى غيره.
__________
1 كذا وفي المشكل 2/87 لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
وهو الصواب- ح.
(2/280)
في شرة العابد
وفترته
روى مرفوعا "أن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فأما إلى سنة وأما إلى بدعة فمن
كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك شرة
العابد حدته" فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادة ما دون الحدة
التي لا بد لهم من التقصير عنها والخروج منها إلى غيرها وأمرهم بالتمسك من
الأعمال الصالحة بما يدومون عليه إلى أن يلقوا ربهم فقد كان أحب الأعمال
إليه صلى الله عليه وسلم ما يدوم عليه صاحبه. وذكر عند طاوس الاجتهاد فقال:
تلك حدة الإسلام وشرته ولكل شرة فترة.
(2/280)
في استحقاق المجلس
روي مرفوعا "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" معناه إذا قام
لأمر عرض له على أن يعود إليه وأما إذا قام معرضا ثم بدا له فرجع إليه فلا
يكون أحق به.
(2/280)
المجازاة
روى مرفوعا أن الرجل ليكون من أهل الصلاة والزكاة والحج والعمرة حتى ذكر
سهام الحير وما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله المصلي إذا وفى بما يلزمه
من الخشوع والإقبال التام فهو عاقل لصلاته غير غافل عنها وكذلك المزكي إذا
اجتهد في المستحقين والصائم إذا ترك الرفث والحنا والغيبة والحاج والمعتمر
إذا أقبلا على ما ينبغي وتركا المحظورات فقد عقل ما أتى به ووفى حقه من
نفسه وكذلك سائر أعمال البر فكان جزاؤه على قدر تعقله وتوجهه بخلاف من جهله
حتى أغفله ولم يوفه ما أمر به من حقه وقيل على قدر عقله أي على قدر معرفته
بالله عز وجل أن أهل الإيمان يتفاضلون في ذلك على قدر معرفته بالله عز وجل
لأن أهل الإيمان يتفاضلون في ذلك على قدر عقولهم مع هداية اله تعالى لهم
وشرحه لصدورهم قال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
فمعرفة الرجل بالله على قدر عقله الذي به يميز الأدبة التي نصبها لمعرفته
ويفهم معانيها بتوفيق الله تعالى حتى ثبت الإيمان في قلبه ثبوت الجبال
الرواسي وكفى في هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ} و {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ} .
(2/281)
في التغني بالقرآن
روى مرفوعا ما يأذن الله لشيء ما يأذن الله لنبي يتغنى بالقرآن الأذن هنا
الاستماع منه {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي ما يستمع لشيء ما يستمع
لنبي يتغنى بالقرآن من تحسينه به صوتا طلبا لرقة قلبه لما يرجو فيه من ثواب
ربه إياه عليه وروي مرفوعا ليس منا من لم يتغن بالقرآن قيل أريد به
الاستغناء عن الأشياء كلها فكل الصيد في جوف الفرى ولا يتوجه إلى عاجل خيره
في الدنيا وقيل أريد به تحسين الصوت ليرق قلبه فقيل لابن أبي مليكة من لم
يكن له خلق حسن قال يحسنه ما استطاع والحمل على الاستغناء أولى لأنه سيق
لذم تاركه ومن قرأ القرآن بغير تحسين صوته مريدا بقراءته
(2/281)
وجه الله متدبرا فيه فهو مثاب غير مذموم
اتفاقا.
وما روي أن في زمان الطاعون قال عبس الغفاري يا طاعون خذني إليك ثلاثا فقيل
له ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت فإنه عند
انقطاع عمله لا يرد فيستعتب؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "بادروا بالموت ست أمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا
بالدماء وقطيعة الرحم ونشوا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن
كان أقلهم فقها"، لا يضاد ما روينا لأن النشو المذكور اتخذوا أئمة في
الصلوات لصوتهم فقط وليسوا أهلالها إذ السنة تقديم الأعلم ثم الأقدم هجرة
ثم الأسن وإن لم يكن لهم حسن الصوت ورغبوا عن ذلك إلى حسن الصوت راغبين عن
السنة فذموا فلذا بادر الموت وليس من ذلك من يحسن صوته ليرق قلبه أو قلوب
سامعيه في شيء حتى لو اجتمع مستحقان للإمامة وأحدهما حسن الصوت يقدم على
الذي ليس معه حسن الصوت فلا تعارض كيف وقد وصفه الله تعالى بأنه لا ينطق عن
الهوى وعن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا يا أبا موسى
فيقرأ عنده وكان حسن الصوت.
(2/282)
في قوله: ليس منا من فعل كذا
روى مرفوعا "من حمل السلاح فليس منا ومن رمانا بالليل فليس منا وليس منا من
لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه وليس منا من غشنا وليس منا
من حلق وسلق" يعني تكلم بما لا يحل له من الكلام من، {سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى
الجاهلية" وقال في الحيات ما سالمناهن منذ حاربناهن فمن تركهن خيفتهن فليس
منا وقال: "من رغب عن سنتي فليس منا ومن حلف بالأمانة فليس منا ومن خبب
امرأة امرئ مسلم فليس منا والوتر حق فمن لم يوتر فليس مني" قالها ثلاثا
وقال: سيكون أمراء بعدي فمن دخل عليهم وصدقهم على كذبهم وأعانهم على ظلمهم
فليس مني
(2/282)
ولست منه ولن يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم
بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض وقوله: من
وطئ حبلى فليس منا لما اختار الله تعالى لنبيه الأمر المحمود ونفى عنه
المذموم كان من عمل الأمور المحمودة منه ومن عمل المذمومة ليس منه كما قال
حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ
عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فدل ذلك على أن كل من
يعمل على شريعة نبيه الذي عليه اتباعه فإنه منه ومن عمل عملا تمنع منه
شريعته فليس منه لخروجه عما دعاه إليه وعما هو عليه إلى ضد ذلك.
عن ابن سمعود أنزل الله تعالى على رسوله المفصل بمكة فكنا حججا نقرؤه لا
ينزل غيره فيه أن الحجرات ليست منه وأنها مدنية لأن فيها النهى عن رفع
الصوت عنده صلى الله عليه وسلم وإنما كان في الحين الذي ظن ثابت ابن قيس
أنها نزلت فيه فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من سبب رجوعه
إلى مجلسه ولأن فيها {لا تُقَدِّمُوا} الآية وسبب نزوله اختلاف أبي بكر
وعمر في إشارتهما بتولية الأقرع والقعقاع ولأن فيها {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} وسبب نزوله الذي بعثه
مصدقا على ما روي من شأنه ولم يبعث مصدقا بمكة ولأن فيها {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} وسبب نزولها ما وقع بين
الأوس والخزرج وإذا انتفى أن تكون الحجرات من المفصل كان أوله "ق" ومما يدل
عليه سؤال أوس بن حذيفة من الصحابة كيف كنتم تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه
ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب
المفصل فنظرنا فيه فإذا ثلاث سور من أول القرآن البقرة وآل عمران والنساء
والخمس المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة والسبع يونس وهود ويوسف
والرعد وإبراهيم والحجر والنحل والتسع بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه
(2/283)
والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان
والإحدى عشرة الطواسين والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ
وفاطر ويس والثلاثة عشر الصافات وصاد والزمر وحم يعني آل حم وسورة محمد صلى
الله عليه وسلم والفتح والحجرات وحزب المفصل فتحقق أن المفصل ما بعد
الحجرات إلى آخر القرآن- وما روي عن زرارة أنه قال: كان أول المفصل عند ابن
مسعود الرحمن وذلك لاختلاف تأليف السور من الصحابة الذين تولوا كتابة
القرآن في عهد عثمان وهو الحجة ويحتمل أن في تأليف ابن مسعود بعد سورة
الرحمن ق والذاريات وما سواهما من السور التي بينهما وتكون الحجرات خارجة
من ذلك راجعة إلى مثل ما بقي عليه في تخريب الصحابة1 كما بينا في حديث أوس
بن حذيفة.
__________
1 راجع لترتيب ابن مسعود وغيره النوع الثامن عشر من الإتقان- ح.
(2/284)
في ترك بسملة براءة
عن ابن عباس قلت لعثمان: ما حملكم على الإقران بين الأنفال وهي من المثانى
وبين براءة وهي من المئين ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
ووضعتموها في السبع الطول؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه
الشيء ودخل عليه بعض من يكتب فيقول: "ضعوا هذا في السورة التي ذكر فيها كذا
وكذا"، وإذا أنزلت عليه الآيات قال: "ضعوا هذه الآيات في سورة كذا وكذا"،
وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا
وكانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وتوفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يبين لنا أنها منها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر
بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطول.
(2/284)
ففيه ظن عثمان أنهما سورة واحدة وتحقيق ابن
عباس أنهما سورتان وأيده حديث أوس بن حذيفة فوجب أن تكونا سورتين وتباينهما
في الوقتين نزولا يدل أيضا على أنهما سورتان لا سورة واحدة لأن الأنفال
نزلت في بدر في سنة أربع وبراءة آخر سورة نزلت- روي عن البراء آخر آية
نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وآخر
سورة نزلت براءة وفيه أن براءة سورة كاملة بائنة من الأنفال لأن مثل هذا لا
يقوله البراء رأيا.
وعن ابن عباس كان جبريل إذا أنزل بسم الله الرحمن الرحيم علم صلى الله عليه
وسلم أن السورة قد انقضت.
وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت مكان
التوراة السبع الطول وأعطيت مكان الإنجيل المثانى وأعطيت مكان الزبور
المئين وفضلت بالمفصل"، ففيه أن كل واحدة منها غير صاحبتها لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعطى مكان كل واحدة منها شيئا آخر غير الأول وقيل: أنما
ترك البسملة بين الأنفال وبراءة لأنها رحمة وسورة براءة نقض عهود وبراءات
ووعيد وأبانة نفاق فاستحق بذلك ما استحق من العذاب وهو مردود لثبوت البسملة
في أول ويل لكل همزة وتبت فعلم أنها تكتب قبل سورة العذاب وسورة الرحمة،
وقيل: نزلت لأنها من خطاب المشركين ورد بقصة سليمان في كتابه إلى المشركين
وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فكان
فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام
على من أتبع الهدى.
(2/285)
في بر الوالدين
عن أبي عبد الرحمن السلمى قال: أن رجلا منا أمرته أمه أن يتزوج فلما تزوج
أمرته أن يفارقها فارتحل إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك فقال:
(2/285)
ما أنا آمرك أن تطلق وما أنا بالذي آمرك أن
تمسك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الوالدة أوسط باب الجنة فاحفظ ذلك الباب أو ضيعه" -أو كما قال صلى الله
عليه وسلم- لم يقطع بالجواب والحق أن يطيعها.
عن ابن عمر كانت عندي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عبد الله طلق امرأتك"،
فطلقها فإذا كان بر الوالد ذلك ففي الوالدة وحقها أكثر وأوجب.
وعن أبي هريرة جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أولى الناس
بحسن الصحبة مني قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال:
"أبوك"، قيل للأم ثلثا البر، وروى مرفوعا في جواب أي الناس أحق مني بحسن
الصحبة؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" ثلاث
مرات قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"، فعلى هذا للأم ثلاثة أمثال ما للأب وهو
أصح من الأول لأن راوية شجاع وهو أحفظ من سفيان بن عيينة1.
__________
1 شجاع هو ابن الوليد كما في المشكل وقد تكلموا فيه حتى قال له ابن معين
مرة يا كذاب راحع ترجمته في التهذيب 4/313 وابن عيينة احفظ من مائة مثل
الشجاع وعبارة الطحاوي قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه
شجاع لأن ابن عيينة إنما كان يحدث من حفظه وشجاع كان يحدث من كتابه وهذه
عبارة لا بأس بها- ح.
(2/286)
في استعمال الفضة
والذهب
عن أنس كان نصل سيف رسول الله صلى الله ليه وسلم وقبيعته فضة وما بين ذلك
حلق فضة فيه جواز استعمالها كما في الخاتم وإنما يكره فيما يستعملها العجم
من الأكل والشرب فيها واتخاذها آنية كما تتخذ من الصفر والحديد لا غير.
عن عمر وأبي بكر والزبير أن سيوفهم كانت محلاة بالفضة ويؤيده
(2/286)
إهداء رسول الله صلى الله عليه وسلم جمل
أبي جهل وهو بمكة عام الحديبية وكان في رأسه برة من فضة جمل بها وأن عرفجة
أصيب أنفه يوم الكلاب في الجاهلية فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره
النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب ففعل وكان بعد تحريم الذهب
على الذكران لأنه ما شكا النتن إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليبيح له
ما أباح إذ لو كان حلالا لما احتاج إلى التشكي.
واختلف في شد الأسنان بالذهب إذا تحركت فعن أبي حنيفة قولان الكراهة
والإباحة وفي إباحته بالفضة قول واحد وعن جماعة من السلف أنهم ضببوا
أسنانهم بالذهب منهم المغيرة أمير الكوفة والحسن وموسى بن طلحة وعبيد الله
بن الحسن قاضي البصرة وأبو حمزة وأبو نوفل ويزيد الرشك وغيرهم ولا نعلم فيه
خلافا إلا ما ذكرناه عن أبي حنيفة وقوله في الإباحة أولى لما روينا في قصة
عرفجة.
وروي شريك عن حميد قال رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله عليه وسلم فيه فضة
أو قد شد بفضة يحتمل أنه كان فعله صلى الله عليه وسلم فكان من أعظم الحجة
على إباحته وإن كان من أنس فقد دل على إباحة الشرب في مثله كما هو مذهب أبي
حنيفة وأصحابه لأنه صار إليه رجل جليل فقيه من الصحابة وهو أنس بن مالك
خلافا للشافعي في كراهته وخلاف ما روي عن ابن عمر وابنه سالم والأولى قول
أنس لاحتمال ما كان في القدح فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسا على
إباحة علم الحرير في ثوب الكتان والقطن وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن
الشرب في آنية الذهب والفضة ولم ينه عن الآنية المفضضة كما نهى عن لباس
الحرير ولم ينه عما كان فيه شيء من الحرير. وعن ابن عمر أنه اشترى جبة فيها
خيط أحمر فردها فسمعت ذلك أسماء فقالت بؤس لابن عمر يا جارية ناوليني جبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي جبة مكفوفة الجيب والكمين والفرج
بالديباج فكرة ابن عمر الجبة
(2/287)
لما كان خيط الحرير كما كره الآنية وخالفته
أسماء واحتجت عليه بجبته صلى الله عليه وسلم ولم تكن تحاجه إلا وقد وقفت
على استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها بعد نهيه عن لباس الحرير.
وعن ابن عباس إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت يعني
من الحرير فأما السدى أو المعلم فلا وقد أباح الشرب من الآنية المفضضة
جماعة من التابعين إلا أنهم قالوا لا يضع فاه على الفضة.
(2/288)
في النصيحة
روي مرفوعا "الدين النصيحة" ثلاثا قيل لمن يا رسول الله قال "لله عز وجل
ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" لا يخالف هذا قوله تعالى: {إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} لأن النصيحة من الإسلام ويجوز إطلاق
الإسلام عليه لمكانها منه كما يقال الناس العرب وفيهم غير العرب لجلالة
العرب وامتيازهم عن سائر الناس بالخواص التي فيهم فجاز أن يقال هم الناس
ومن ذلك المال النخل لجلالة النخل في الأموال فمثله الدين النصيحة وإن كان
في الدين سواها ومعنى النصح لكتابه أي لمن تعلمونه إياه في تعليمهم ما
يحتاجون إلى علمه من محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وفي التعليم على هذا
الوجه من المشقة ما فيه فأمروا بذلك قال ابن عمر لقد عشنا برهة من دهر
وأحدنا يؤتي الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم
فنتعلم حلالها وحرامها وآخرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما
تتعلمون أنتم اليوم القرآن ثم لقد رأيت اليوم رجالا يؤتي أحدهم القرآن قبل
الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ولا يدري ما آخره ولا زاجره ولا ما
ينبغي أن يوقف عنده منه وينثره نثر الدقل.
(2/288)
في المؤمن لا يلدغ
مرتين
روي مرفوعا "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" ولا يلدغ بالجزم في
(2/288)
أكثر الروايات معناه لا تثنى على مؤمن
عقوبة في ذنب أتاه وقيل لا يلدغ بالرفع لأن تخصيص المؤمن يبطل تأويل الجزم
لأن الكافر لا تثنى عليه عقوبة ذنبه وكذلك المنافق أيضا وإنما المقصود أن
المؤمن إذا كان منه ذنب أحزنه ذلك وخاف منه فكان سببا لترك عوده فيه أبدا
فمعنى الحديث لا يذنب ذنبا يخاف عقوبته ثم يعود فيه بعد ذلك أبدا ومعنى لا
يلدغ أي لن يلدغ وكذلك في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} وقوله تعالى: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} وهذا أشبه الوجهين.
وسئل ابن وهب عن تفسيره فقال الرجل يقع في الشيء يكرهه فلا يعود فيه فهذا
يتمشى على الرفع دون الجزم ويدل عليه قوله تعالى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَصُوحاً} والتوبة النصوح أن يجتنب الرجل العمل السوء يتوب إلى
الله منه ثم لا يعود فيه أبدا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الندم
توبة"، لأن الندم مما يمنع العود إلى مثله.
(2/289)
في مائة إبل لا تجد فيها راحلة
روي مرفوعا الناس كإبل مائة لا نجد فيها راحلة هذا عام أريد به الخصوص
كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ} لأن في الناس من يحمل الكل عن غيره كمثل الراحلة التي
تبين بما تحمل عمن سواها من الإبل التي ليست من الرواحل فهي كالذين لا غناء
معهم ولا منفعة عندهم لمن سواهم من الناس والحمد لله في الناس من هو في
هداية الناس وإرشادهم وتعليمهم إياهم أمر دينهم وفي تسديدهم ونفعهم والقيام
لقضاء حوائجهم وحمل أثقالهم كثير وروى الناس كالإبل المائة هل ترى فيهم
راحلة ومتى ترى فيها راحلة فيحتمل أن يكون استفهام نفي كمعنى الأول ويحتمل
أن يكون على وجود ذلك في الوقت البعيد والله أعلم بمراد رسوله من ذلك وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا نعلم شيئا خيرا من مائة من مثله إلا المؤمن"
ومعناه كمعنى الأول.
(2/289)
في النهي عن تسمية
العنب بالكرم
روى مرفوعا "لا تقولوا للعنب الكرم فإنما الكرم الرجل المسلم ولكن قولوا
حدائق الأعناب" مع تسمية العنب كرما في قوله لأصدقة في شيء من الزرع أو
النخل أو الكرم حتى يكون خمسة أوسق فيحتمل أن يكون هذا قبل النهى والأشياء
قبل ورود النهي على الباحة قولا كان أو فعلا فإذا نهى عنها حظر من فعلها
وقولها.
(2/290)
في اللعب في العيد
عن عامر بن قيس ما كان على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم شيء الأوقد
رأيته يعمل بعده إلا شيئا واحدا فإنه كان يقلس "له" يوم الفطر يعني يلعب لا
خلاف بين أهل اللغة أنه اللعب واللهو اللذان ليسا بمكروهين كمثل ما أطلق في
الأعراس منها وذلك ليعلم أهل الكتابين أن في دين الإسلام سماحة وما روى عن
أنس أنه قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما
في الجاهلية فقال: "أن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الفطر
ويوم الأضحى"، لا يخالف ما روينا لأنه يحتمل أن يكون أراد بذلك منهم أن
يجعلوا فيهما من اللعب مما كانوا يفعلونه في ذينك اليومين في الجاهلية وذلك
عندنا والله أعلم على اللعب المباح مثله كما أبيح في أعراسهم اللعب المباح
فقط.
روى جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم
فيخطب قائما خطبتين فكان الجواري إذا نكحوا يمرون يضربون بالكبر والمزامير
فيبثوا1 الناس ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعاتبهم الله
تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً} فما نهاهم عن اللهو المباح فيما كان ذلك منهم فيه
فكذلك اللعب الذي أباح في الأعياد غير داخل في اللهو المنهي في غير الأعياد
فلا تضاد فيما روينا.
__________
1 كذا ولعله فيثور- ح.
(2/290)
في شيء مباح حرم
بمسئلته
...
في شيء مباح حرم بمسألته
عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا "أن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن
حراما فحرم من أجل مسألته" وذلك لأن الله تعالى قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي
الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي: ما نفرط لأن القرآن كان ينزل بعد ذلك كما كان
ينزل قبله فكانوا ممنوعين عن الاستعجال بالسؤال عما أخبر الله تعالى أنه لا
يفرط فيه كما نهى صلى الله عليه وسلم عن استعجال الوحي بقوله تعالى: {وَلا
تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وأمر
بالانتظار فيه ومما يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب لما أنزل الله تحريم
الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت: {يَسْأَلونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيان
شفاء فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . أي: عن السؤال
عن مثل هذا حتى يكون الله نزله على رسوله ابتداء لأن الكتاب لا يفرط فيه
فلما كان السؤال ممنوعا عنه كان السائل ظالما لنفسه لأنه تقدم بسؤاله أمر
الله الذي لا ينبغي له أن يتقدمه وكان فيما عاقب به اليهود بظلمهم قوله:
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ} فكان السائل غير مأمون أن يحرم عليه بظلمه ذلك ما قد كان
حلالا له لأن الأشياء كلها على طيبها وعلى حلها حتى يحدث الله فيها التحريم
وإذا عاد المسؤول حراما بمسألته عليه عاد حراما على جميع الناس فكان أعظم
الجرم فيهم.
وليس سؤال عمر أن يبين لهم في الخمر من هذا المعنى المذكور في حديث سعد
لأنه كان فيمن سأل عما كان حلالا فحرم من أجل مسألته وعمر إنما سأل عن شيء
تقدم تحريمه ألا تره يقول لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بين فسؤاله
إنما كان لأن يبين الله في الخمر ما تسكن إليه نفوس القوم الذين عظم في
قلوبهم تحريمها فبين الله تعالى أنه إنما حرمها لمصلحتهم لأنها رجس وفيها
الإثم الكبير وتمنع من الصلاة وتوقع العداوة بينهم إذ كانت سببا لما نزل
بسعد عند
(2/291)
شربه هو ونفر من الأنصار إياها وتفاخرهم عن
ذلك حتى قال بعضهم: المهاجرون أفضل وقال بعضهم: الأنصار أفضل فأخذ رجل لحي
جمل ففزر به أنف سعد فكان أنفه مفزورا، ففي سؤال عمر إعلام الله أن في
تحريم الخمر خيرا لهم لا عقوبة وذلك نعمة من الله عليهم سببها سؤال عمر
فافترق المعنيان.
(2/292)
في النهي عن قوله عبدي وأمتي
روي مرفوعا "لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي فكلكم عبيد الله وكلكم إماء الله
ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي" لا يقال: قد قال تعالى:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ} وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً} لأن
المنهي إنما هو إضافة ملاكهم إلى أنفسهم بأنهم عبيدهم لأن فيه استكبارهم
عليهم وما في القرآن فإنما هو بإضافة غيرهم إليهم.
وروى أبو هريرة أراه مرفوعا لا يقولن أحدكم ربي لمالكه وليقل سيدي لا يخالف
هذا قوله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} يعني
مليكه الذي هو رئيس عليه لأن يوسف عليه السلام إنما خاطبه على ما عند
المخاطب لأنه كان يسميه ربالا أنه عند يوسف كذلك مثل قول موسى عليه السلام
للسامري {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} فخاطبه على ما كان عنده لا على ما هو
عند موسى وليس للمملوك أن يجعل مالكه ربا وجاز ذلك في البهائم والأمتعة كما
ورد في حديث ضالة الإبل دعها حتى يلقاها ربها وقيل: إنما نهى المملوك من
بني آدم عن هذا القول لأنهم دخلوا في عموم {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ
بَنِي آدَمَ} إلى قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فكان المملوك
ممن أخذ عليه الميثاق في ذلك بخلاف البهائم.
(2/292)
في حملة الفقه
روي مرفوعا رب حامل فقه إلى من هو افقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه الفقه
هو الفهم ومنه قوله تعالى: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} يؤيده قوله عليه
(2/292)
الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيرا
يفقهه في الدين"، ولا يقال لكل فهيم فقيه لأن الفقه لما جل مقداره وتجاوز
عن مقادير الأشياء من العلو خص أهله بأن قيل لهم فقهاء رفعا لهم عمن سواهم
فلا يطلق لغيرهم يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الفقه يمان"، فسمى
ذلك فقها وأبانه عن سائر الأشياء المفهومة سواه فثبت أن كل فقيه فهيم وليس
كل فهيم فقيها.
(2/293)
في رحى الإسلام
روي مرفوعا "تدور أو تزول رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو لست وثلاثين أو لسبع
وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن بقوا يبقى لهم دينهم سبعين سنة" روي
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن ناجية وعبد الرحمن ابن القاسم
عن أبيه عن عبد الله بن مسعود وروي مسروق عنه أنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "أن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن اصطلحوا
بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا وإن يقتتلوا يركبوا سنن
من قبلهم"، قوله: تدور أو تزول يريد به الأمور التي عليها يدور الإسلام
وشبه ذلك بالرحى فسماه باسمها وكان قوله صلى الله عليه وسلم: "بعد خمس أو
ست أو سبع" ليس على الشك ولكن على أن يكون ذلك فيما يشاؤه الله عز وجل من
تلك السنين فشاء عز وجل إن كان ذلك في سنة خمس وثلاثين فتهيأ فيها على
المسلمين حصرا ما مهم وقبض يده عما يتولاه عليهم مع جلالة مقداره لأنه من
الخلفاء الراشدين المهديين حتى كان ذلك سببا لسفك دمه وحتى كان ذلك سببا
لوقوع الاختلاف وتفرق الكلمة واختلاف الآراء فكان ذلك مما لو هلكوا عليه
لكان سبيل من هلك لعظمه ولما حل بالإسلام منه ولكن ستر الله وتلافى وخلف
نبيه في أمته من يحفظ دينهم عليهم.
ثم تأملنا ما بقي من هذه الآثار فوجد في حديث مسروق فإن يصطلحوا فيما بينهم
على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا ووجدنا مكان
(2/293)
ذلك في حديثي عبد الرحمن والبراء بن ناجية
عن ابن مسعود فإن بقوا يبقى لهم دينهم سبعين عاما فكان ذلك قد جاء مختلفا
وكان ما في حديث مسروق أشبههما بما حدث عليه أمور الناس مما في حديثي
الآخرين لأن في حديث مسروق فإن يصطلحوا على غير قتال فتكون المدة التي
يأكلون الدنيا فيها سبعين عاما ثم ينقطع ولكن لم ينقطع مع القتال فكان رحمة
من الله لهم وسترا منه عليهم فجرى على ذلك أن يأكلوا الدنيا بلا توقيت
عليهم فيه وكان ما في حديثي عبد الرحمن والبراء يوجب خلاف ذلك ويوجب انقطاع
أكلهم الدنيا بعد سبعين عاما وقد وجدناهم بحمد الله أكلوها بعد ذلك سبعين
عاما وزيادة كما رواه مسروق فيه لا كما رواه صاحباه لأنه لا خلف لما يقوله
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2/294)
في الحلف في
الجاهلية
روي مرفوعا "لا حلف في الإسلام وإيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام
إلا قوة" لا يعارض هذا ما روي عن أنس بن مالك قال: حالف رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له: أليس قد قال صلى الله
عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام"؟ قال: فقد حالف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا لأن سفيان بن عيينة فسر ذلك
بالمؤاخاة بينهم فلم يجعل ذلك حلفا وأيضا فإن مؤاخاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار إنما كان حين قدومه المدينة وقوله: "لا
حلف في الإسلام" إنما قال ذلك: يوم الفتح على ما روي عمرو بن العاص فكان
ذلك ناسخا لفعله فلم يكن منه بعد قوله: "لا حلف في الإسلام" حلف إلى أن
قبضه الله عز وجل.
وعن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية قال:
كان المهاجرون حين فدموا المدينة يوارثون الأنصار دون ذوي الأرحام
(2/294)
للأخوة التي أخى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بينهم إلى أن نسخها غيرها يعني قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} قال: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: من النصر والنصيحة والرفادة فأخبر ابن عباس أن
الذي بقي للأحلاف هو النصر والنصيحة والوصية وإن الميراث قد ذهب وعن ابن
المسيب خلافه قال إنما نزلت هذه الآية في الذين يتبنون رجالا غير أبنائهم
يرثونهم فأنزل الله عز وجل أن لهم نصيبا في الوصية وجعل الميراث للرحم
والعصبة وأبى أن يجعل لهم ميراثا وأن تعاقدوا عليه وما روي عن ابن عباس
أولى لأن فيها {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} وكان في التحالف إيمان
ولم يكن في التبني والتدعي إيمان.
(2/295)
في الدعابة
روي أن أبا بكر الصديق خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان1 رجلا مضحاكا مزاحا
فقال: لأغيظنك فذهب إلى ناس جلبوا ظهرا فقال: ابتاعوا مني غلاما عربيا
فارها هو ذو لسان ولعله يقول: أنا حر فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا
تفسدوا علي غلامي فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص فأقبل بها يسوقها وأقبل
بالقوم حتى عقلها ثم قال لهم: دونكم هذا فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك
قال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر قالوا: قد أخبرنا خبرك فطرحوا الحبل في عنقه
فذهبوا به، فجاء أبو بكر فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل علقمة بن مجزز المدلجي على
جيش فبعث سرية واستعمل عليها عبد الله بن حذافة السهمي وكان
__________
1 هنا حذف في القصة لا يتم فهمها إلا به ولفظه كما في رواية لأحمد وسويبط
بن حرملة وكلاهما بدري وكان سويبط على الزاد فقال له نعيمان أطعني قال حتى
يجيء أبو بكر وكان نعيمان ح.
(2/295)
رجلا فيه دعابة وبين أيديهم نار قد أججت
فقال لأصحابه: أليس طاعتي عليكم واجبة قالوا: بلى قال: فقوموا واقتحموا هذه
النار فقام رجل حتى يدخلها فضحك وقال: إنما كنت ألعب فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: "أما إذ قد فعلوا هذا فلا تطيعوهم في معصية
الله".
ليس في شيء من الحديثين دليل على إباحة المذكور فيهما وضحك النبي صلى الله
عليه وسلم حولا هو وأصحابه كمثل ما كانت الصحابة يتحدثون بأمور الجاهلية
ويضحكون بمحضره صلى الله عليه وسلم من غير نهي منه إياهم عن ذلك مع أن تلك
الأفعال ما كانت مباحا لهم فعلها في الإسلام، عن جابر جالست النبي صلى الله
عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويذكرون أشياء من
أمور الجاهلية فربما يتبسم معهم- ثم قد روي مرفوعا "لأ يأخذ أحدكم متاع
صاحبه لاعبا فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه"، قال الطحاوي: ولو صار
مباحا لنسخه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج غازيا فأخذ بعض
أصحابه كنانة آخر فغيبوها ليمزحوا معه فطلبها الرجل فغيبوها فراعه ذلك
فجعلوا يضحكون منه فخرج صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أضحككم"؟ فقالوا:
والله إنا أخذنا كنانة فلان لنمزح معه فراعه ذلك فذلك الذي أضحكنا فقال صلى
الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما".
(2/296)
في حديث النفس
روي مرفوعا "تجاوز الله لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو أن
تعمل به يد" وذكر من طرق وأنفسها بالنصب على معنى حدثتها به من غير
اختيارها إياه ولا اجتلابها له منها قالوا أو مما يدل عليه أيضا ما روي أن
الصحابة قالوا: يا رسول الله أن أحدنا يحدث نفسه بالشيء لأن يكون حممة أحب
إليه من أن يتكلم به فقال: "الحمد لله الذي لم يقدره منكم إلا على الوسوسة
والحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة"، قالوا: وإن كان قد قيل فيه أن أحدنا
يحدث نفسه أو أنا نحدث أنفسنا فإن جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم
هو المعتمد عليه
(2/296)
وإليه قصدنا وهو ما ذكره عنه ابن مسعود ذلك
صريح الإيمان ومحض الإيمان يعني التوقي من أن يقول ذلك باللسان ومنع نفسه
منه إيمان وما ذكره ابن عباس الحمد لله الذي لم يقدره منكم إلا على الوسوسة
يعني التي لا تؤاخذون بها وتثابون على توقيكم من النطق بها وفي الحديث دليل
على صحة النصب وهو قوله تجاوز الله والتجاوز لا يكون إلا عما لو لم يتجاوز
عنه لعوقبوا عليه وذلك مما يعقل أنه لا يكون من الخواطر المعفو عنها بل أنه
من الأشياء المجتلبة بالهم بها فالوجه أنه على ما يهم به العبد من المعاصي
ليعملها فتجاوز الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يؤاخذهم به
ولم يعاقبهم عليه ومن ذلك ما روي مرفوعا "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي
بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا وإذا هم عبدي
بسيئة فلم يعملها فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها بمثلها وإن هو تركها
فاكتبوها حسنة" وزاد بعض الرواة في الحسنة "فاكتبوها إلى سبع مائة ضعف وزاد
في السيئة فإن تركها من خشيتي" فانتفى ما قال أهل اللغة أنفسها بالرفع.
(2/297)
في صدق الله وعتقة
...
في صدقة الله وعتقه
عن أبي وائل أنه كره للرجل أن يدعو فيقول: اللهم تصدق علي بالجنة وقال:
إنما يتصدق من يريد الثواب ومن أباح ذلك فهو محتج بقوله تعالى: {هَبْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} وإذا جازت الهبة من الله جاز دعاؤه بها والهبة من
الآدميين قد يطلب فيها الثواب عليها فكانت الصدقة التي لا يصلح للآدميين
الثواب عليها منه أجوز وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر في قصر الصلاة:
"هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"، سمى التخفيف صدقة وفيه دليل
على الإباحة، وروي عن أبي وائل أنه كان يكره أن يقال: اللهم اعتقني من
النار قال: إنما يعتق من يرجو الثواب، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم: "من
أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، ففيه إضافة العتاق
إلى الله فيجوز الدعاء للمسلمين بذلك.
(2/297)
في المحدثين من الأولياء
روي مرفوعا قد كان في الأمم قبلكم قوم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر
بن الخطاب المحدث الملهم بالنطق بالحكمة كما كان لسان عمر ينطق بما كان
ينطق به منها وقد قال عمر: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت:
يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل {وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وقلت: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت
أمهات المؤمنين فنزلت آية الحجاب وبلغني شيء من المعاتبة من أمهات المؤمنين
فاستقريتهم أقول: لتكففن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله
أزواجا خيرا منكن فنزلت {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} الآية.
وعن ابن عباس أنه كان يقرأ وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدث ولا يقال
على هذا فالمحدث مرسل لأن المعنى وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا ألهمنا من
محدث إلا إذا تمنى وهو من باب.
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد بل يحمل فكأنه قال متقلد سيفا وحاملا رمحا والله أعلم.
(2/298)
في مال الوارث أحب إليه من ماله
عن ابن مسعود يرفعه "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا: يا رسول الله
ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال: "فإن ما له ما قدم ومال
وارثه ما أخر"، وفي رواية قال: اعلموا ما تقولون؟ قالوا: وما نعلم إلا ذلك
يا رسول الله قال: "ما منكم من رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله" قالوا:
كيف يا رسول الله؟ قال: "إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر"، فيه أن
ما ترك الرجل فلم يقدمه فيما يكون ثوابا له عند ربه وزلفى لديه ليس من ماله
أي ليس من ماله الذي هو أعلى أمواله في نفعها له إذ منفعته فيما قدمه
لآخرته لا فيما أخره
(2/298)
فكأنه ليس من ماله وجاز أن يضاف إلى وارثه
الذي عسى يقدمه لآخرته فينتفع به الوارث في معاده وفي هذا المعنى ما روي
مطرف بن عبد الله عن أبيه أنه انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقرأ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} فقال: "يقول ابن آدم ما لي مالي ومالك من
مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت". فعلم أن ماله
إذا لم ينتفع به صار كمال غيره إذ لا منفعة له فيه حينئذ كما لا منفعة له
في مال غيره.
(2/299)
في حفظ أبي هريرة
عن أبي هريرة أنه قال: يقولون: أن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد ويقولون:
ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون بمثل أحاديثه وسأخبركم عن ذلك إن
أخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضهم وأما أخواني من المهاجرين فكان
يشغلهم صفقهم بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء
بطني فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا ولقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوما: "إيكم بسط ثوبه فأخذ من حديثي هذا ثم جمعه إلى صدره فإنه لا
ينسى شيئا سمعه"، فبسطت بردة علي حتى فرغ من حديثه ثم جمعتا إلى صدري فما
نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به ولولا آيتان أنزلهما الله تعالى في كتابه
ما حدثت بشيء أبدا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى آخر الآيتين، فيه أنه لم ينس شيئا سمعه من
النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل ما روي أنه حدث بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا عدوى"، ثم سكت عنه فلما وقف عليه أنكره وما روي أنه لما حدث بالخمسة
التي أعطيها دون سائر الأنبياء ومنها أنه أعطي دعوة فادخرها شفاعة لأمته
فقال له صاحبه: قد نسيت أفضلها أو خيرها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وأنا أرجو أن تنال من أمتي من لا يشرك بالله شيئا"، الدالان على نسيانه
كان ذلك مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أني كون منه في أمره ما
ذكره آنفا.
وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما: "أن بسط أحدكم ثوبه
(2/299)
حتى أقضى مقالتي هذه ثم يجمع ثوبه إلى صدره
فما ينسى من مقالتي شيئا أبدا"، قال أبو هريرة: فبسطت نمرة ليس علي ثوب
غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته ثم جمعته إلى صدري فوالذي
بعث محمد أبالحق ما نسيت من مقالته تلك كلمة إلى يومي هذا، وعن أبي هريرة
قال: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني أو ما كان
أحد أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإني كنت أعي بقلبي
وكان يعيه بقلبه ويكتب بيده استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن
له فيه، فدل هذا على أنه لو كان لا ينسى شيئا مما يعيه بقلبه لما فضله عبد
الله بن عمر وبكثرة الحديث من أجل كتابته بل كان هو الفاضل لاستغنائه عن
الاشتغال بالكتاب فكان الذي مع أبي هريرة مما انتفى عنه النسيان فيه هو ما
كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الموطن الواحد لا فيما كان منه
قبله ولا فيما كان منه بعده.
(2/300)
في الآبار
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم في رؤوس النخل فقال: "ما يصنع
هؤلاء"؟ فقيل له: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فقال: "ما أظن هذا يغني
شيئا"، أو لو تركوه لصلح، أو لا لقاح، أو ما أرى اللقاح شيئا- على ما روي
عنه من ذلك كله فتركوه فشيص فأخبر به صلى الله عليه وسلم فقال: "ما أنا
بزارع ولا صاحب نخل لقحوا"، أو قال: "إن كان ينفعهم فليفعلوه فإني إنما
ظننت ظنا والظن يخطئ ويصيب، أو لا تأخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله
شيئا فخذوه فإني لن أكذب على الله"، لا اختلاف بين الروايات ولا تعارض فإنه
قال من ذلك لقوم بعد قوم يحكى كل واحد منهم ما سمع وما كان صلى الله عليه
وسلم من بلد فيه نخل ولا كان يعاني ذلك فاتسع له أن ينفي بالظن ما توهم
استحالته من أن الإناث من غير الحيوان تنفعل من الذكر أن شيئا ولم يكن ذلك
أخبارا منه عن وحي.
(2/300)
في مناقب علي رضي الله عنه
روى أبو الطفيل واثلة بن الأسقع قال: جمع الناس علي بن أبي طالب في الرحبة
فقال: أنشد بالله عز وجل كل امرئ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
غدير خم يقول ما سمع فقام أناس من الناس فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يوم غدير خم: "ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو
قائم"؟ ثم أخذ بيد علي فقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه"، قال أبو الطفيل: فخرجت وفي نفسي منه شيء فلقيت زيد بن أرقم
فأخبرته فقال: وما تتهم أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يلتفت إلى من أنكر خروج علي إلى الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ومروره
في طريقه بغدير خم وقال: قدم علي من اليمن بالبدن لأنه وإن لم يكن معه في
خروجه إلى الحج فكان معه في رجوعه على طريقه الذي كان مروره به بغدير خم
يحتمل أنه كان هذا الكلام في الرجعة يؤيده الحديث الصحيح أنه كان هذا القول
من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه إلى المدينة من حجه.
عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع
ونزل بغدير خم أمر بدوحاته فقممن وذكر الحديث بطوله ثم أخذ بيد علي فقال:
"من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، فقلت لزيد:
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا
رآه بعينيه وسمعه بأذنيه والمولى بمعنى الولي وقد فسره الحديث الآخر من كنت
وليه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
وعن علي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن لك كنزا في الجنة
وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية"،
قيل: أراد قرني الجنة يعني: طرفيها وقيل: أراد قرني الأمة فأضمرها وإن لم
(2/301)
يتقدم لها ذكر كقوله تعالى: {مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} يريد الأرض و {حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ} يريد الشمس فمعناه أن عليا في هذه الأمة كذى القرنين في أمته
في دعائه إياها إلى الله عز وجل.
يؤيده ما روي عن علي أنه قال: سلوني قبل أن لا تسألوني ولن تسألوا بعدي
مثلي فقام إليه ابن الكواء فقال: ما كان ذو القرنين أملك كان أم نبي؟ فقال:
لم يكن ملكا ولا نبيا ولكنه كان عبدا صالحا أحب الله وأحبه الله وناصح
فنصحه ضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله عز وجل وضرب على قرنه الأيسر
فمات وفيكم مثله وإليه ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وقوله: فيكم مثله يعني
في دعائه إلى الله عز وجل وقيامه بالحق إلى يوم القيامة كما كان ذو القرنين
والشيء يشبه بالشيء في معنى وإن كان لا يشبهه في غيره منه قوله تعالى:
{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يعني في العدد وأما
قوله: فلا تتبع النظرة بالنظرة يريد أن الأولى تفجأه فلا اختيار له فيها
فهي له والآخرة باختياره فهو مأخوذ بها مكتوبة عليه فليست له.
(2/302)
في الاستعاذة من
القمر
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا القمر يا عائشة
استعيذي بالله من شر هذا هل تدرين ما هذا هذا الغاسق إذا وقب"، استعظمه بعض
فقال: أي شر للقمر وهو خلق مطيع لله تعالى حتى يستعاذ منه والجواب أنه مطيع
لا شر له ولكن الله تعالى جعل الليل والنهار آيتين فمحا آية الليل وجعل آية
النهار مبصرة وكانت آية الليل هي القمر وآية النهار هي الشمس ويكون القمر
للمحو الذي محاه الله فيه سببا للظلمة وأهل المعاصي ينبئون بالليل لما
يخافون من إظهار المعاصي بالنهار فيظهرون المعاصي من أنفسهم بالليل لأنهم
عليها فيه ولله تعالى خلق وهم الشياطين ينبثون في الليل دون النهار كما روي
في الآثار المسندة بطرقها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة
(2/302)
بالاستعاذة من شر القمر مريدا استعاذتها من
شر الأشياء التي تحدث في الليل من شياطين الإنس والجن مما القمر سبب لها
مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها {وَالْعِيرَ الَّتِي
أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: أهل العير ومثله قوله صلى الله عليه وسلم عند نزول
قرية: "اللهم إني أسألك من خير هذه القرية ومن خير أهلها وأعوذ بك من شرها
وشر أهلها"، والقرية نفسها لا خير لها ولا شر لها فأضافهما إليها لكونهما
فيها فكذا الإضافة إلى القمر هنا.
(2/303)
في الشباب
روى أنس مرفوعا قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فإذا بقصر من ذهب
فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لشاب من قريش فظننت أني هو فقلت: من هو؟
فقالوا: عمر بن الخطاب فيا أبا حفص لولا ما أعلم من غيرتك لدختله"، فقال
عمر: من كنت أغار عليه يا رسول الله لم أكن أغار عليك، فيه ما يدل على فساد
قول من ذهب إلى أن الشاب من كانت سنه أربعين سنة فما دونها بعد بلوغه
والنظر الصحيح في قوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} يفيد أن نهاية
الطفولية مبينة في قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ
الْحُلُمَ} فما بعد الحلم ضد لما قبله وهو مبدأ الشباب أذلا ثاني للطفولية
غيره فعلم أن من احتلم شاب ثم ينتهي الشباب بقوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ} وبين بلوغ الأشد في آية أخرى بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فهذه نهاية الشباب بدليل قوله
تعالى بعده: {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} ولكن يحتمل أن تكون بين بلوغهم
الأشد وبين ن يكونوا شيوخا مدة والله أعلم بمقدارها كما في قوله تعالى:
{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يعني: آدم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يعني: أولاده
وبين الخلقين زمان ما شاء الله فتكون السن التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيها يوم رأى الرؤيا فوق الأربعين ودون الحال التي يكونون فيها
شيوخا والله أعلم، واسنان الكهولة داخلة في سن الشباب لأنه يقال: شاب كهل
فيجعل كهلا وهو شاب ولا يقال: شيخ كهل إنما يكون شيخا بعد الخروج
(2/303)
من التكهل وهو آخر مدة الشباب ومنه قولهم:
اكتهل الزرع إذا بلغ الحال التي يحصد مثله عليها ويدل عليه قوله صلى الله
عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين
إلا النبيين والمرسلين"، رواه أنس وعلي بن أبي طالب والنبي صلى الله عليه
وسلم قال: "لا تخبرهما بذلك يا علي"، قال: فما حدث بها حتى ماتا.
(2/304)
في من له الأجر
مرتين
روي مرفوعا "ثلاثة يؤتون أجورهم مرتين رجل آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى
الله عليه وسلم فآمن به وعبد أدى حق الله عز وجل وحق مولاه ورجل أدب جارية
فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" المراد بالنبي الذي كان نبينا صلى الله
عليه وسلم يعقبه هو عيسى فمن كان آمن به ثم آمن بالنبي استحق الأجر مرتين
وإلا فيستحق أجرا واحدا بدخوله في الإسلام وما كان قبل عيسى من دين موسى
وغيره فلا يستحق ذلك لأن عيسى قد كان طرأ على موسى فإذا لم يكن أتبعه خرج
بذلك من دين موسى وخرج من طاعة الله تعالى فإنه كان متعبدا بدين عيسى وعصى
ذلك فعلم أنه إنما يتسحق الأجر مرتين إذا كان متعبدا على الدين الذي كان
تعبده الله من دين النبي الذي كان قبله وهو عيسى حتى دخل منه في دين النبي
صلى الله عليه وسلم يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته: "أن الله
تبارك وتعالى اطلع على عباده فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا أهل الكتاب"،
وهم عندنا والله أعلم الذين بقوا على ما بعث به عيسى ممن لم يبد له ولم
يدخل فيه ما ليس منه وبقي على ما تبعده الله عليه حتى قال النبي صلى الله
عليه وسلم يومئذ هذا القول.
(2/304)
في تعلم كتاب
السريانية
روي عن زيد بن ثابت أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحسن
السريانية أنه يأتيني كتب" قال: قلت: لا قال: "فتعلمها" قال: فتعلمتها في
سبع
(2/304)
عشر يوما، وفي رواية أمرني رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أتعلم كتاب يهود فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وقال صلى
الله عليه وسلم: "والله إني ما آمن يهود على كتابة فلما تعلمت كنت أكتب إلى
يهود إذا كتب إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابتهم"، إنما أمره بتعلم
السريانية لعدم أمنه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم وخيانتهم وليكون كتابه
إذا ورد على اليهود بقراءة عامتهم فيأمن من كتمان ما فيه وتحريفه لا سيما
إن كان الذي يقرأه لهم من عبدة الأوثان الذين في قلوبهم للنبي صلى الله
عليه وسلم ما لا خفاء به ولأهل الكتاب في قلوبهم ما فيها.
(2/305)
في لولا الهجرة لكنت
امرءا من الانصار
...
في لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار
روي مرفوعا "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" سموا أنصارا من النصرة
لاستحقاقهم إياها بنصرهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وكانت
الهجرة قبل ذلك استحقها أهلها بمثل ذلك وبهجرهم دارهم التي كانوا من أهلها
لله عز وجل ولرسوله إلى الدار التي اختارها الله لرسوله ولهم فجعلها لهم
موطنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الفريقين بالشيئين جميعا
وأعلاهم فيهما منزلة، وعن حذيفة بن اليمان خيرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت النصرة وكان صلى الله عليه وسلم لو اختار
النصرة لنفسه وترك الهجرة صار الناس جميعا أنصارا ولم يبق أحد منهم مهاجرا
فلم يجعل نفسه من الأنصار لتبقى الهجرة والنصرة جميعا.
(2/305)
في كراهية طلب
العقوبة في الدنيا
روي أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا قد صار مثل الفرخ فقال:
"هل كنت تدعو الله بشيء أو قال تسأله إياه"؟ قال: يا رسول الله كنت أقول:
اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال: "سبحان الله لا
تستطيعه أولا تطيقه فهلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار". لا يعارض هذا ما روي مرفوعا "إذا أراد الله
(2/305)
بعبد خيرا عجل الله له العقوبة في الدنيا
وإذا أراد الله بعبد شرا امسك عنه ذنبه حتى يوفيه يوم القيامة" لان رسول
الله صلى الله عليه وسلم اختار لأمته إشفاقا عليهم ورأفة بهم أن يدعوا الله
بالمعافاة في الدنيا وإن يؤتهم في الآخرة ما يؤمنهم من العذاب وهذا على
الأحوال كلها فلا تضاد بين الحديثين.
(2/306)
في لكع ابن لكع
والكريم ابن الكريم
روي مرفوعا يوشك أن يغلب على الدنيا لكع ابن لكع ابن لكع وأفضل الناس مؤمن
بين كريمين اللكع العبدأ واللئيم والكرم التقوى، وروى مرفوعا أن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهم قال تعالى: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} رد الكرم إلى التقوى وإلى
المنازل الرفيعة من الله لا إلى ما سوى ذلك ومعنى قوله: بين كريمين مؤمن
بين أب مؤمن تقي هو أصله وابن مؤمن تقي هو فرعه فيكون له من الإيمان موضعه
إيمان نفسه وموضعه بإيمان أبيه وإن كان دونه يرفعه الله إلى منزلته لتقربه
عينه على ما روي أن الله عز وجل ليرفع ذرية المؤمن إلى منزلته وإن كانوا
دونه في العمل وقرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ويكون له موضعه أيضا بإيمان
ابنه على ما روي أن الرجل إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاثة ولد صالح يدعو
له أو علم منه أو صدقة جارية ومن جمع هذه الثلاثة فقد جمع خير الدنيا
والآخرة.
(2/306)
في الأكل متكئا
روي أنه ما رئى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا قط ولا يطأ عقبه
رجلان وقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا"، وسبب منع إيطاء
عقبه هو ما روي جابر في حديثه الطويل الذي ذكر فيه دخول رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيته قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فخرجوا
بين يديه وكان يقول: "خلوا ظهري للملائكة"، وفي هذا ما قد دل على
(2/306)
إن غيره في ذلك بخلافه وإنه لا بأس به وعن
خالد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأناس يتبعونه فاتبعته معهم
فاتقى القوم بي فأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني أما قال:
بعسيب أو قضيب أو سواك أو شيء كان معه فوالله ما أوجعني وبت بليلة وقلت:
والله ما ضربني رسول الله إلا لشيء علمه الله في فحدثتني نفسي أن آتي رسول
الله إذا أصبحت فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنك راع فلا
تكسر قرون رعيتك فلما صلى الغداة أو قال: أصبحنا قال صلى الله عليه وسلم:
"أن ناسا يتبعوني وأنه لا يعجبني أن يتبعوني اللهم فمن ضربت أو سببت فاجعله
له كفارة وأجرا- أو قال مغفرة".
وسبب ترك الأكل متكئا هو ما روي أن الله تعالى أرسل إليه ملكا ومعه جبريل
فقال الملك: أن الله يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا وبين أن تكون ملكا فالتفت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير فأشار جبريل بيده أن
تواضع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل أكون عبدا نبيا"، فما أكل
بعد ذلك طعاما متكئا ويحتمل أن يكون تركه الأكل متكئا لأنه لم تجر به عادة
العرب وإنما هو من زي العجم، وعن عمر رضي الله عنه اخشوشنو واخلولقوا
وتمعددوا فإنكم معد وإياكم والتنعم وزي العجم أما إذا كان في حال إعياء
وتعب بدن أو علة تدعوه إلى الاتكاء فلا بأس به، التمعدد هو العيش الخشن
وكان عادة الأنبياء قبله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان العجم عليه.
(2/307)
في البطانة
روي مرفوعا "ما بعث الله عز وجل من نبي ولا استخلف من خليفة إلا وله
بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة لا تألوه خبالا فمن وقى شر
بطانة السوء فقد وقى" وهو من التي تغلب عليه منهما، وفي بعض الآثار بطانة
تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالا والمعصوم من عصمه
الله الأنبياء صلوات الله عليهم لما لزمهم الشرائع افتقروا إلى مخالطة
الناس
(2/307)
فمن أظهر إليهم منهم خيرا استبطنوه ووالوه
فمن كان باطنه منهم كظاهره فهي البطانه المحمودة التي تأمره بالخير كما وصف
الله تعالى في كتابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
ومن لم يكن باطنه كظاهره فهي البطانة المذمومة التي لا تألوه خبالا إلى أن
يطلعهم الله تعالى من أمرهم ما يوجب مباعدتهم كما في قوله تعالى: {وَمِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ
نَعْلَمُهُمْ} وقوله: وهو من التي تغلب عليه منهما المراد به غير الأنبياء
من الخلفاء لأن الانبياء معصومون لا يكونون إلا مع من تحمد خلائقه وهذا
شائع في اللغة أن يخاطب الجماعة والمراد به بعضهم نحو قوله تعالى: {يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} وقوله
عليه السلام: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا" وقرأ آية المحنة ثم
قال: "فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له"، ونحن نعلم أن من عوقب
بالشرك فليس ذلك كفارة له وإنما المراد بعض الأشياء التي في الآية لا كلها
فكذا قوله: وهو من التي تغلب عليه منهما.
(2/308)
في واعظ الله
روي مرفوعا ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبي الصراط سور فيه أبواب
مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس
ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد- كأنهم
يعنون1 رجلا فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن فتحته تلجه
فالصراط الإسلام والستور حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك
الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق كأنه يعني الصراط واعظ
الله في قلب كل مسلم المراد بالواعظ حجج الله التي تنهاه عن الدخول في
المحرمات باستقرارها في نفسه وبصائره التي يجعلها في قلبه وعلومه التي
أودعها إياه لأن
__________
1 هكذا في الأصل والظاهر كأنه يعني.
(2/308)
ذلك كله ينهاه عما لا يسوغ له ولأن الواعظ
من الناس هو الناهي عن المنكرات فكذا هذا.
(2/309)
في ابتلاء الأنبياء والأولياء
روى عن سعد قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم
الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه أو على حسب دينه فإن
كان صلب الدين اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر ذلك فما يبرح
البلاء بالعبد حتى يمسي وليست عليه خطيئة"، وصف النبي صلى الله عليه وسلم
الدين بالصلابة والرقة راجع إلى غير الأنبياء وفيه أن من سواهم يحط عنهم
ببلائهم خطاياهم إذا صبروا واحتسبوا والأنبياء لا خطايا لهم في الصحيح من
الأقوال، وعن عبد الله قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه وهو
يوعك وعكا شديدا فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكا شديدا أن لك أجرين؟ قال:
"أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات ورق الشجر"، لما
لم ينكر صلى الله عليه وسلم على عبد الله وقال: "أجل" دل على أن ذلك الأجر
يكتب له لما لم تكن له خطايا تحط عنه بما كان يصيبه من الوعك في بدنه.
وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو موعوك عليه
قطيفة فوضع يده عليها فوجد حرارتها فوق القطيفة فقال أبو سعيد: ما أشد
حرارتك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء
ويضاعف لنا الأجر"، فدل على أنه وسائر الأنبياء يضاعف لهم الأجر إذ لا ذنوب
لهم ولا خطايا فتحط عنهم، وروي مرفوعا لا تصيب المؤمن نكبة ولا وجع إلا رفع
الله له بها درجة وحط عنه بها سيئة، فيه إثبات الأجر لمن أصابه نكبة أو وجع
مع حط الخطايا عنه.
لا معنى لمن أنكر هذا بأنه لا فعل له ولا نية فكيف يؤجر فإن المسلمين
(2/309)
لم يزالوا يعزون بعضهم بعضا على مصائبهم
بأوليائهم بأن يعظم الله أجورهم وليس لهم فيها فعل سوى الصبر والاحتساب
فكذا الأمراض والأوجاع وكذلك أنكروا ما روي مرفوعا ما من مسلم يبتلى في
جسده إلا كتب له في مرضه كل عمل صالح كان يعمله في صحته وقالوا: كيف يكتب
الأجر لرجل من غير عمل يستحق به؟ قلنا: الأجر إنما يكتب له بحسن النية مع
الصبر والرضا بالقضاء.
ولا يعارض ما ذكرنا قول ابن مسعود أن الوجع لا يكتب به أجر ولكن الله يكفر
به الخطايا لأنه يحتمل أنه أراد اختلاف أحكام الناس فيه فمنهم من له خطايا
تستغرق أجره عليها فيكون ثوابه حط خطاياه لا غير ومن لا خطايا له كالأنبياء
أو كمن سواهم ممن يتجاوز أجره على مرضه حطيطة خطاياه فيكتب له من الأجر ما
يتجاوز قدر خطايها التي حطت عنه وزاد بعض الرواة على نص ابن مسعود من قوله
الأجر بالعمل يعني العمل لا يحط الخطايا ولكن يكتب به الأجر كان لعامله
خطايا أو لم تكن بخلاف الأمراض والأوجاع فإنها تحط بها الخطايا إن كانت
ويكتب بها الأجران لم تكن هناك خطايا ولكن الآثار متظاهرة بخلاف ذلك منها
قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه"، وقوله: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له في اليوم مائة مرة
غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"، وقوله: "من خرج إلى الصلاة فإنه في
صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة وأنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة وتمحى عنه
بالأخرى سيئة"، ودل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من تكفير الخطايا بما
يصيب الإنسان قوله: "لا يصيب المؤمن وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى إلا كفر
عنه به"، وقوله: "ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كانت له كفارة"، وعن
أبي سعيد الخدري أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت هذه الأمراض التي تصيب
أبداننا وأجسامنا ما لنا بها قال: "الكفارات" قال أبي بن كعب: وإن قل
(2/310)
ذلك يا رسول الله قال: "وإن شوكة فما
وراءها"، فدعا أبي بن كعب على جسده أن لا تزال حمى مصارعة بجسده ما أبقى في
الدنيا لا تحول بينه وبين حج ولا عمرة ولا جهاد ولا شهود صلاة في مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فكان كذلك إلى إن مات، وما روي مرفوعا "ما يصيب
المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها سيئة"، فلا
يخالف ما روينا بل يؤكده لأنه يحط الخطايا إن كانت أو يرفع بها في الدرجات
ويكتب الأجر لمن لا خطايا له ولا ذنوب عليه فلا منافاة.
(2/311)
في التفريق بين
الأمة
روي عن علاقة بن عرفجة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون هنات
وهنات فمن أراد أن يفرق بين أمة محمد وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من
كان"، الهنة كناية عن شيء مكروه وجمعها هنات فأخبر أنه سيكون بعده أمور
مكروهة وبين بعضها بقوله: "فمن فرق بين أمة محمد" الحديث، فكشف لهم بذلك
هنة منها وأمرهم بما يفعلونه عند ذلك وسكت عن الباقيات ليرجعوا فيها إلى ما
قد شرعه في التفريق أو يشرع له في المستقبل.
(2/311)
في أعجب الناس إيمانا
عن ابن عباس أصبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل من ماء هل من ماء هل
من شن" فأتى بالشن فوضع بين يديه صلى الله عليه وسلم ففرق أصابعه فنبع
الماء من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى فأمر بلالا
فهتف بالناس الوضوء فلما فرغ وصلى بهم الصبح ثم قعد قال: "يا أيها الناس من
أعجب الخلق إيمانا" قالوا: الملائكة قال: "وكيف لا تؤمن الملائكة وهم
يعاينون الأمر" قالوا: النبيون يا رسول الله قال: "وكيف لا يؤمن النبيون
والوحي ينزل عليهم من السماء" قالوا: فأصحابك قال: "وكيف لا يؤمن أصحابي
وهم يرون ما يرون ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يخرجون من بعدي يؤمنون بي ولم
يروني يصدقوني ولم يروني
(2/311)
أولائك أخواني"، وروى عنه أنه قال: "أن
خيار أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أعوج ليسوا مني ولست منهم"، فيه أنه
سيأتي بعد المذمومين قوم ممدوحون إذ بقى من أمته المهدي والعصابة التي
تقاتل الدجال وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان ومنهم من
يقتله الدجال على ذلك لتكذيبه به وثباته على الحق.
(2/312)
في إسلام حصين
روي أن حصينا الخزاعي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد كان عبد
المطلب خيرا القومه منك كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ماشاء الله أن يقول" ثم أن حصينا قال: يا محمد
ماذا تأمرني أن أقول قال: "تقول اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وأسألك أن
تعزم لي على رشد أمري" قال: ثم أن حصينا أسلم ثم أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: إني سألتك المرة الأولى وإني الآن أقول: ما تأمرني أن أقول قال:
قل: "اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما جهلت وما
علمت"، المراد بالخطأ هو الذي يخطئ به المرء جهة الصواب من قوله تعالى:
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} ليس المراد ضد العمد فإنه لا يؤاخذ به
قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وكذا
المراد بقوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه المكسوب بقصدهم إليها وتعمدهم
إياها وقوله: "وما جهلت" أي: ما عملته جاهلا بقصدي إليه مع معرفتي به
وجنايتي على نفسي بدخولي فيه وعملي إياه.
(2/312)
في استعمال ما فيمن يعقل
روي مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى قرية يريد نزولها قال:
"اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الرياح وما ذرين ورب الأرضين وما
أقللن ورب الشياطين وما أضللن أسألك من خير هذه القرية ومن خير أهلها وأعوذ
بك من شرها ومن شر أهلها وشر ما فيها"، إنما قال: "رب الشياطين وما أضللن"
لأن ما قد تستعمل في بني آدم نحو قوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}
(2/312)
يريد آدم ومن ولد وقوله: {إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} .
(2/313)
في ثلاثة لا يستجاب لهم
عن أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يدعون الله فلا
يستجاب لهم رجل أعطى ما له سفيها وقد قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ورجل داين بدين ولم يشهد ورجل له امرأة سيئة
الخلق فلا يطلقها"، لما أمرنا بالإشهاد عند التبايع ونهينا عن إيتاء
السفهاء أموالنا حفظا عليها وعلمنا الطلاق عند الحاجة. كان من ترك ما أرشده
الله إليه هو المفرط المقصر فلا يلومن إلا نفسه وكان من سواهم ممن ليس
يعارض للإرشاد مرجوا له الإجابة فيما يدعو ربه فيه وداخلا تحت قوله عز وجل:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ما لم يستعجل الإجابة.
(2/313)
في فعل الله بمن أراد له خيرا |