بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع "كتاب البيوع"
الكلام في هذا الكتاب في
الأصل في مواضع في بيان ركن البيع ، وفي بيان
شرائط الركن، وفي بيان أقسام البيع، وفي بيان
ما يكره من البياعات وما يتصل بها ، وفي بيان
حكم البيع ، وفي بيان ما يرفع حكم البيع.
"وأما" ركن البيع: فهو مبادلة شيء مرغوب بشيء
مرغوب ، وذلك قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل
"أما" القول فهو المسمى بالإيجاب ، والقبول في
عرف الفقهاء والكلام في الإيجاب، والقبول في
موضعين: أحدهما في صيغة الإيجاب والقبول ،
والثاني في صفة الإيجاب والقبول ، "أما" الأول
فنقول وبالله التوفيق الإيجاب والقبول قد يكون
بصيغة الماضي ، وقد يكون بصيغة الحال "أما"
بصيغة الماضي فهي أن يقول البائع: بعت ويقول
المشتري: اشتريت، فيتم الركن ؛ لأن هذه الصيغة
وإن كانت للماضي وضعا، لكنها جعلت إيجابا
للحال في عرف أهل اللغة والشرع، والعرف قاض
على الوضع وكذا إذا قال البائع: خذ هذا الشيء
بكذا أو أعطيتكه بكذا أوهو لك بكذا أو بذلتكه
بكذا وقال المشتري: قبلت أو أخذت أو رضيت أو
هويت ونحو ذلك، فإنه يتم الركن؛ لأن كل واحد
من هذه الألفاظ يؤدي معنى البيع وهو المبادلة،
والعبرة للمعنى لا للصورة. "وأما" صيغة الحال
فهي أن يقول البائع للمشتري: أبيع منك هذا
الشيء بكذا ونوى الإيجاب فقال المشتري:
اشتريت، أو قال المشتري أشتري منك هذا الشيء
بكذا ونوى الإيجاب وقال البائع: أبيعه منك
بكذا، وقال المشتري: أشتريه ونويا الإيجاب؛
يتم الركن وينعقد وإنما اعتبرنا النية ههنا
وإن كانت صيغة أفعل للحال هو الصحيح؛ لأنه غلب
استعمالها للاستقبال إما حقيقة أو مجازا فوقعت
الحاجة إلى التعيين بالنية. ولا ينعقد بصيغة
الاستفهام بالاتفاق بأن يقول المشتري للبائع:
أتبيع مني هذا الشيء بكذا أو أبعته مني بكذا
فقال البائع: بعت، لا ينعقد ما لم يقل
المشتري: اشتريت، وكذا إذا قال البائع
للمشتري: اشتر مني هذا الشيء بكذا فقال:
اشتريت، لا ينعقد ما لم يقل البائع: بعت. وهل
ينعقد بصيغة الاستقبال وهي صيغة الأمر بأن
يقول المشتري للبائع: بع عبدك هذا مني بكذا
فيقول البائع بعت قال أصحابنا رحمهم الله ولا
ينعقد ما لم يقل المشتري: اشتريت وكذا إذا قال
البائع للمشتري: اشتر مني هذا الشيء بكذا،
فقال: اشتريت، لا ينعقد ما لم يقل البائع: بعت
عندنا. وقال الشافعي رحمه الله ينعقد "وجه"
قوله أن هذه الصيغة تصلح شطر العقد في الجملة،
ألا ترى أن من قال لآخر: تزوج ابنتي، فقال
المخاطب: تزوجت ، أو قال زوج ابنتك مني، فقال:
زوجت، ينعقد النكاح؟ فإذا
ج / 5 ص -134-
صلحت هذه
الصيغة شطرا في النكاح صلحت شطرا في البيع؛
لأن الركن في كل واحد منهما هو الإيجاب
والقبول، ولنا أن قوله: بع أو اشتر طلب
الإيجاب والقبول وطلب الإيجاب والقبول لا يكون
إيجابا وقبولا، فلم يوجد إلا أحد الشطرين فلا
يتم الركن، ولهذا لا ينعقد بلفظ الاستفهام
لكون الاستفهام سؤال الإيجاب والقبول لا
إيجابا وقبولا، كذا هذا وهذا هو القياس في
النكاح إلا أنا استحسنا في النكاح بنص خاص وهو
ما روى أبو يوسف" أن بلالا خطب إلى قوم من الأنصار فأبوا أن يزوجوه فقال: لولا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخطب إليكم
لم أخطب فقالوا له: أملكت"
ولم ينقل أن
بلالا رضي الله عنه قال: قبلت فتركنا القياس
هناك بالنص ، ولا نص في البيع، فوجب العمل
بالقياس ؛ ولأن هذه الصيغة مساومة حقيقة فلا
تكون إيجابا وقبولا حقيقة ، بل هي طلب الإيجاب
والقبول ، فلا بد للإيجاب والقبول من لفظ ؛
آخر يدل عليهما. ولا يمكن حمل هذه الصيغة على
المساومة في باب النكاح ؛ لأن المساومة لا
توجد في النكاح عادة، فحملت على الإيجاب
والقبول على أن الضرورة توجب أن يكون قول
القائل زوج ابنتك مني شطر العقد، فلو لم تجعل
شطر العقد ، لتضرر به الولي لجواز أن يزوج ولا
يقبل المخاطب فيلحقه الشين فجعلت شطرا لضرورة
دفع الضرر عن الأولياء ، وهذا المعنى في باب
البيع منعدم فبقيت سؤالا فلا يتم به الركن ما
لم يوجد الشطر الآخر. "وأما" صفة الإيجاب
والقبول فهو أن أحدهما لا يكون لازما قبل وجود
الآخر، فأحد الشطرين بعد وجوده لا يلزم قبل
وجود الشطر الآخر حتى إذا وجد أحد الشطرين من
أحد المتبايعين، فللآخر خيار القبول، وله خيار
الرجوع قبل قبول الآخر ؛ لما روي عن أبي هريرة
عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"البيعان بالخيار ما لم يفترقا عن بيعهما"،
والخيار الثابت لهما قبل التفرق عن بيعهما هو
خيار القبول ، وخيار الرجوع ؛ ولأن أحد
الشطرين لو لزم قبل وجود الآخر لكان صاحبه
مجبورا على ذلك الشطر، وهذا لا يجوز. "وأما"
المبادلة بالفعل فهي التعاطي ويسمى هذا البيع
بيع المراوضة وهذا عندنا وقال الشافعي رحمه
الله لا يجوز البيع بالتعاطي ؛ لأن البيع في
عرف الشرع كلام إيجاب وقبول ، فأما التعاطي
فلم يعرف في عرف الشرع بيعا، وذكر القدوري أن
التعاطي يجوز في الأشياء الخسيسة ، ولا يجوز
في الأشياء النفيسة ، ورواية الجواز في الأصل
مطلق عن هذا التفصيل وهي الصحيحة ؛ لأن البيع
في اللغة والشرع اسم للمبادلة ، وهي مبادلة
شيء مرغوب بشيء مرغوب، وحقيقة المبادلة
بالتعاطي وهو الأخذ والإعطاء، وإنما قول البيع
والشراء دليل عليهما، والدليل عليه قوله عز
وجل
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، والتجارة عبارة عن جعل الشيء للغير ببدل وهو تفسير التعاطي وقال
سبحانه وتعالى
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}،
أطلق سبحانه وتعالى اسم التجارة على تبادل ليس
فيه قول البيع وقال الله عز وجل إن الله {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ}
سمى سبحانه وتعالى مبادلة الجنة بالقتال في
سبيل الله تعالى اشتراء وبيعا لقوله تعالى في
آخر الآية
{فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ}
، وإن لم يوجد لفظ البيع ، وإذا ثبت أن حقيقة المبادلة بالتعاطي وهو
الأخذ والإعطاء ، فهذا يوجد في الأشياء
الخسيسة والنفيسة جميعا ، فكان التعاطي في كل
ذلك بيعا ، فكان جائزا.
"فصل" وأما شرائط الركن فلا
يمكن الوصول إلى معرفتها إلا بعد معرفة أقسام
البياعات ؛ لأن منها ما يعم البياعات كلها،
"ومنها" ما يخص البعض دون البعض ، فنقول:
البيع في القسمة الأولى ينقسم: قسمين قسم يرجع
إلى البدل ، وقسم يرجع إلى الحكم. "أما" الذي
يرجع إلى البدل فينقسم قسمين آخرين: أحدهما
يرجع إلى البدلين. والآخر يرجع إلى أحدهما وهو
الثمن ، أما الأول فنقول: البيع في حق البدلين
ينقسم أربعة أقسام: بيع العين بالعين وهو بيع
السلع بالسلع، ويسمى بيع المقايضة، وبيع العين
بالدين وهو بيع السلع بالأثمان المطلقة وهي
الدراهم والدنانير وبيعها بالفلوس النافقة
وبالمكيل الموصوف في الذمة والموزون الموصوف
والعددي المتقارب الموصوف، وبيع الدين بالعين
وهو السلم ، وبيع الدين بالدين وهو بيع الثمن
المطلق بالثمن المطلق وهو الصرف. "فأما" الذي
يرجع إلى أحد البدلين وهو الثمن فينقسم في حق
البدل، وهو الثمن خمسة أقسام: بيع المساومة
وهو مبادلة المبيع بأي ثمن اتفق ،
ج / 5 ص -135-
وبيع
المرابحة وهو مبادلة المبيع بمثل الثمن الأول
وزيادة ربح، وبيع التولية وهو المبادلة بمثل
الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان، وبيع
الاشتراك وهو التولية، لكن في بعض المبيع ببعض
الثمن، وبيع الوضيعة وهو المبادلة بمثل الثمن
الأول مع نقصان شيء منه، وأما القسم الذي يرجع
إلى الحكم فنذكره في باب حكم البيع إن شاء
الله تعالى. وإذا عرفت أقسام البياعات، فنذكر
شرائطها وهي أنواع بعضها شرط الانعقاد، وبعضها
شرط النفاذ وهو ما لا يثبت الحكم بدونه، وإن
كان قد ينعقد التصرف بدونه وبعضها شرط الصحة
وهو ما لا صحة له بدونه، وإن كان قد ينعقد
وينفذ بدونه، وبعضها شرط اللزوم، وهو ما لا
يلزم البيع بدونه، وإن كان قد ينعقد وينفذ
بدونه "أما" شرائط الانعقاد فأنواع: بعضها
يرجع إلى العاقد ، وبعضها يرجع إلى نفس العقد،
وبعضها يرجع إلى مكان العقد، وبعضها يرجع إلى
المعقود عليه، "أما" الذي يرجع إلى العاقد
فنوعان: أحدهما أن يكون عاقلا، فلا ينعقد بيع
المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن أهلية
المتصرف شرط انعقاد التصرف والأهلية لا تثبت
بدون العقل فلا يثبت الانعقاد بدونه، فأما
البلوغ فليس بشرط لانعقاد البيع عندنا، حتى لو
باع الصبي العاقل مال نفسه؛ ينعقد عندنا
موقوفا على إجازة وليه، وعلى إجازة نفسه بعد
البلوغ، وعند الشافعي شرط فلا تنعقد تصرفات
الصبي عنده أصلا وكذا ليس بشرط النفاذ في
الجملة، حتى لو توكل عن غيره بالبيع والشراء ؛
ينفذ تصرفه، وعنده لا ينفذ ، وهي مسألة كتاب
المأذون ، وكذا الحرية ليست بشرط لانعقاد
البيع ولا لنفاذه حتى ينفذ بيع العبد المأذون
بالإجماع ، وينعقد بيع العبد المحجور إذا باع
مال مولاه موقوفا على إجازته عندنا ، وكذا
الملك أو الولاية ليس بشرط لانعقاد البيع
عندنا، بل هو شرط النفاذ حتى يتوقف بيع
الفضولي، وعنده شرط حتى لا يتوقف أصلا،
والمسألة تأتي في موضعها. وكذا إسلام البائع
ليس بشرط لانعقاد البيع ولا لنفاذه ولا لصحته
بالإجماع، فيجوز بيع الكافر وشراؤه: وقال
الشافعي إسلام المشتري شرط جواز شراء الرقيق
المسلم والمصحف، حتى لا يجوز ذلك من الكافر.
"وجه" قوله أن في تملك الكافر المسلم إذلالا
بالمسلم ، وهذا لا يجوز ولهذا يجبر على بيعه
عندكم، ولنا عمومات البيع من غير فصل بين بيع
العبد المسلم من المسلم، وبين بيعه من الكافر
فهو على العموم، إلا حيث ما خص بدليل؛ ولأن
الثابت للكافر بالشراء ليس إلا الملك في
المسلم والكافر من أهل أن يثبت الملك له على
المسلم، ألا ترى أن الكافر يرث العبد المسلم
من أبيه؟، وكذا إذا كان له عبد كافر فأسلم بقي
ملكه فيه، وهو في الحقيقة ملك مبتدأ؛ لأن
الملك عرض لا بقاء له فدل أن الكافر من أهل
ثبوت الملك له في المسلم، وقوله فيه إذلال
بالمسلم، قلنا: الملك عندنا لا يظهر فيما فيه
إذلال بالمسلم، فإنه لا يظهر في حق الاستخدام
والوطء والاستمتاع بالجارية المسلمة، وإنما
يظهر فيما لا ذل فيه من الإعتاق والتدبير
والكتابة والبيع، وبه تبين أن الجبر على البيع
ليس لدفع الذل، إذ لا ذل على ما بينا، ولكن
لاحتمال وجود فعل لا يحل ذلك في الإسلام
لعداوة بين المسلم والكافر. وإذا جاز شراء
الذمي العبد المسلم، فيجوز إعتاقه وتدبيره
واستيلاده وكتابته ؛ لأن جواز هذه التصرفات
مبني على الملك، وقد وجد إلا أنه إذا دبره
يسعى العبد في قيمته ؛ لأنه لا سبيل إلى
إبقائه على ملكه، ولا سبيل إلى الإزالة
بالبيع؛ لأنه بيع المدبر ؛ وأنه لا يجوز
فتعينت الإزالة بالسعاية ، وكذا إذا كانت أمة
فاستولدها ؛ فإنها تسعى في قيمتها لما قلنا،
ويوجع الذمي ضربا لوطئه المسلمة ؛ لأنه حرام
عليه ، فيستحق التعزير ، وإذا كاتبه لا يعترض
عليه؛ لأنه أزال يده عنه ، حتى لو عجز ورد في
الرق يجبر على بيعه، وكذا الذمي إذا ملك شقصا
فالحكم في البعض كالحكم في الكل ، ولو اشتراه
مسلم من الكافر شراء فاسدا ؛ فإنه يجبر على
الرد ؛ لأن رد الفساد واجب حقا للشرع، ثم يجبر
الكافر على بيعه والله سبحانه وتعالى أعلم.
النطق ليس بشرط ، لانعقاد البيع والشراء ولا
لنفاذهما وصحتهما ، فيجوز بيع الأخرس وشراؤه
إذا كانت الإشارة مفهومة في ذلك ؛ لأنه إذا
كانت الإشارة مفهومة في ذلك، قامت الإشارة
مقام عبارته ، هذا إذا كان الخرس أصليا بأن
ولد أخرس ، فأما إذا كان عارضا بأن طرأ عليه
الخرس فلا ، إلا إذا دام به حتى وقع اليأس من
كلامه وصارت الإشارة مفهومة فيلحق بالأخرس
الأصلي. والثاني العدد في العاقد فلا يصلح
الواحد عاقدا من الجانبين في باب البيع إلا
الأب فيما يبيع مال نفسه من ابنه الصغير بمثل
ج / 5 ص -136-
قيمته أو
بما يتغابن الناس فيه عادة، أو يشتري مال
الصغير لنفسه بذلك عند أصحابنا الثلاثة
استحسانا، والقياس أن لا يجوز ذلك أيضا وهو
قول زفر رحمه الله وجه القياس أن الحقوق في
باب البيع ترجع إلى العاقد وللبيع حقوق متضادة
مثل التسليم والتسلم والمطالبة ، فيؤدي إلى أن
يكون الشخص الواحد في زمان واحد مسلما ومتسلما
طالبا ومطالبا، وهذا محال ولهذا لم يجز أن
يكون الواحد وكيلا من الجانبين في باب البيع
لما ذكرنا من الاستحالة. ويصلح رسولا من
الجانبين ؛ لأن الرسول لا تلزمه الحقوق ، فلا
يؤدي إلى الاستحالة ، وكدا القاضي يتولى العقد
من الجانبي ؛ لأن الحقوق لا ترجع إليه فكان
بمنزلة الرسول وبخلاف الوكيل في باب النكاح؛
لأن الحقوق لا ترجع إليه فكان سفيرا محضا
بمنزلة الرسول وجه الاستحسان قوله تبارك
وتعالى
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيملكه الأب ، وكذا البيع والشراء بمثل قيمته وبما يتغابن الناس فيه
عادة قد يكون قربانا على وجه الأحسن بحكم
الحال. والظاهر أن الأب لا يفعل ذلك إلا في
تلك الحال ؛ لكمال شفقته فكان البيع والشراء
بذلك قربانا على وجه الأحسن ، وقوله يؤدي إلى
الاستحالة قلنا: ممنوع ، فإنه يجعل كأن الصبي
باع أو اشترى بنفسه ، وهو بالغ ، فتعدد العاقد
حكما ، فلا يؤدي إلى الاستحالة. "وأما" الوصي
إذا باع مال نفسه من الصغير أو اشترى مال
الصغير لنفسه، فإن لم يكن فيه نفع ظاهر؛ لا
يجوز بالإجماع ، وإن كان فيه نفع ظاهر ؛ جاز
عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد لا يجوز
؛ لأن القياس يأبى جوازه أصلا من الأب والوصي
جميعا ؛ لما ذكرنا من الاستحالة إلا أن الأب
لكمال شفقته جعل شخصه المتحد حقيقة متعددا
ذاتا ورأيا وعبارة ، والوصي لا يساويه في
الشفقة فبقي الأمر فيه على أصل القياس ، ولأبي
حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما أن تصرف الوصي
إذا كان فيه نفع ظاهر لليتيم قربان ماله على
وجه الأحسن فيملكه بالنص.قوله لا يمكن إلحاق
الوصي بالأب لقصور شفقته ، قلنا: الوصي له
شبهان: شبه بالأب، وشبه بالوكيل ، أما شبهه
بالوكيل فلكونه أجنبيا، وشبهه بالأب لكونه
مرضي الأب فالظاهر أنه ما رضي به إلا لوفور
شفقته على الصغير فأثبتنا له الولاية عند ظهور
النفع عملا بشبه الأب وقطعنا ولايته عند عدمه
عملا بشبه الوكيل عملا بالشبهين بقدر الإمكان.
"فصل" وأما الذي يرجع إلى نفس العقد فهو أن يكون القبول موافقا للإيجاب ،
بأن يقبل المشتري ما أوجبه البائع وبما أوجبه
، فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه أو بعض ما
أوجبه أو بغير ما أوجبه أو ببعض ما أوجبه ؛ لا
ينعقد من غير إيجاب مبتدإ موافق بيان هذه
الجملة إذا أوجب البيع في العبد فقبل في
الجارية ، لا ينعقد ، وكذا إذا أوجب في
العبدين فقبل في أحدهما بأن قال: بعت منك هذين
العبدين بألف درهم فقال المشتري: قبلت في هذا
العبد وأشار إلى واحد معين لا ينعقد ؛ لأن
القبول في أحدهما تفريق الصفقة على البائع،
والصفقة إذا وقعت مجتمعة من البائع لا يملك
المشتري تفريقها قبل التمام ؛ لأن من عادة
التجار ضم الرديء إلى الجيد ترويجا للرديء
بواسطة الجيد فلو ثبت للمشتري ولاية التفريق
لقبل في الجيد دون الرديء فيتضرر به البائع ،
والضرر منفي ؛ ولأن غرض الترويج لا يحصل إلا
بالقبول فيهما جميعا فلا يكون راضيا بالقبول
في أحدهما ؛ ولأن القبول في أحدهما يكون
إعراضا عن الجواب بمنزلة القيام عن المجلس ،
وكذا لو أوجب البيع في كل العبد ، فقبل
المشتري في نصفه ، لا ينعقد ؛ لأن البائع
يتضرر بالتفريق ؛ لأنه يلزمه عيب الشركة ، ثم
إذا قبل المشتري بعض ما أوجبه البائع ؛ كان
هذا شراء مبتدأ من البائع، فإن اتصل به
الإيجاب من البائع في المجلس فينظر إن كان
للبعض الذي قبله المشتري حصة معلومة من الثمن
جاز ، وإلا فلا بيانه إذا قال: بعت منك هذين
الكرين بعشرين درهما فقبل المشتري في أحدهما
وأوجب البائع ؛ جاز ؛ لأن الثمن ينقسم على
المبيع باعتبار الأجزاء فيما له مثل، فكان بيع
الكرين بعشرين بيع كل كر بعشرة لتماثل قفزان
الكرين ، وكذلك إذا قال: بعت منك هذين العبدين
بألف درهم، فقبل المشتري في أحدهما، وبين ثمنه
فقال البائع: بعت يجوز ، فأما إذا لم يبين
ثمنه لا يجوز ، وإن ابتدأ البائع الإيجاب ،
بخلاف مسألة الكرين وسائر الأشياء المتماثلة،
لما ذكرنا أن الثمن في المثليات ينقسم على
المبيع باعتبار الأجزاء فكان حصة كل واحد
معلوما ، وفيما لا مثل له لا ينقسم الثمن على
المبيع باعتبار الأجزاء لانعدام تماثل الأجزاء
وإذا لم
ج / 5 ص -137-
ينقسم
بقيت حصة كل واحد منهما من الثمن مجهولة ،
وجهالة الثمن تمنع صحة البيع ، هذا إذا لم
يبين البائع حصة كل واحد من العبدين بأن قال:
بعت منك هذين العبدين بألف درهم ، فأما إذا
بين بأن قال: بعت منك هذين العبدين هذا بألف ،
وهذا بخمسمائة ، فقبل المشتري في أحدهما دون
الآخر ؛ جاز البيع لانعدام تفريق الصفقة من
المشتري ، بل البائع هو الذي فرق الصفقة حيث
سمى لكل واحد منهما ثمنا على حدة وعلم أنه لا
ضرر له فيه ، ولو كان فهو ضرر مرضي به ، وأنه
غير مدفوع ، وكذا إذا أوجب البيع في شيء بألف
فقبل فيه بخمسمائة لا ينعقد ، وكذا لو أوجب
بجنس ثمن فقبل بجنس آخر ، إلا إذا رضي البائع
به في المجلس وعلى هذا إذا خاطب البائع رجلين
فقال: بعتكما هذا العبد ، أو هذين العبدين ،
فقبل أحدهما دون الآخر ، لا ينعقد ؛ لأنه أضاف
الإيجاب في العبدين أو عبد واحد إليهما جميعا
فلا يصلح جواب أحدهما جوابا للإيجاب ، وكذا لو
خاطب المشتري رجلين فقال: اشتريت منكما هذا
العبد بكذا ، فأوجب في أحدهما لم ينعقد لما
قلنا.
"فصل" في الشرط الذي يرجع إلى
مكان العقد وأما الذي يرجع إلى مكان العقد
فواحد وهو اتحاد المجلس. بأن كان الإيجاب
والقبول في مجلس واحد ، فإن اختلف المجلس لا
ينعقد حتى لو أوجب أحدهما البيع فقام الآخر عن
المجلس قبل القبول أو اشتغل بعمل آخر يوجب
اختلاف المجلس ثم قبل لا ينعقد ؛ لأن القياس
أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر في المجلس ؛
لأنه كما وجد أحدهما انعدم في الثاني من زمان
وجوده فوجد الثاني ، والأول منعدم فلا ينتظم
الركن إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى انسداد باب
البيع فتوقف أحد الشطرين على الآخر حكما وجعل
المجلس جامعا للشطرين مع تفرقهما للضرورة ،
وحق الضرورة يصير مقضيا عند اتحاد المجلس ،
فإذا اختلف لا يتوقف ، وهذا عندنا ، وعند
الشافعي رحمه الله الفور مع ذلك شرط لا ينعقد
الركن بدونه. "وجه" قوله ما ذكرنا أن القياس
أن لا يتأخر أحد الشطرين عن الآخر، والتأخير
لمكان الضرورة ، وأنها تندفع بالفور. "ولنا"
أن في ترك اعتبار الفور ضرورة ؛ لأن القابل
يحتاج إلى التأمل ، ولو اقتصر على الفور لا
يمكنه التأمل ، وعلى هذا إذا تبايعا وهما
يمشيان أو يسيران على دابتين أو دابة واحدة في
محمل واحد ، فإن خرج الإيجاب والقبول منهما
متصلين انعقد ، وإن كان بينهما فصل وسكوت وإن
قل لا ينعقد ؛ لأن المجلس تبدل بالمشي والسير
وإن قل ، ألا ترى أنه لو قرأ آية سجدة وهو
يمشي على الأرض ، أو يسير على دابة لا يصلى
عليها مرارا يلزمه لكل قراءة سجدة؟ ، وكذا لو
خير امرأته وهي تمشي على الأرض أو تسير على
دابة لا يصلى عليها فمشت أو سارت ؛ يبطل
خيارها لتبدل المجلس وإن اختارت نفسها متصلا
بتخيير الزوج صح اختيارها ؛ لأن المجلس لم
يتبدل فكذا ههنا ، ولو تبايعا وهما واقفان
انعقد لاتحاد المجلس ولو أوجب أحدهما وهما
واقفان فسار الآخر قبل القبول أو سارا جميعا
ثم قبل لا ينعقد ؛ لأنه لما سارا وسارا فقد
تبدل المجلس قبل القبول ، فلم يجتمع الشطران
في مجلس واحد ، ولو وقفا فخير امرأته ، ثم سار
الزوج وهي واقفة فالخيار في يدها ، ولو سارت
هي والزوج واقف ؛ بطل خيارها ، فالعبرة
لمجلسها لا لمجلس الزوج. وفي باب البيع يعتبر
مجلسهما جميعا ؛ لأن التخيير من قبل الزوج
لازم ، ألا ترى: أنه لا يملك الرجوع عنه ، فلا
يبطل بالإعراض وأحد الشطرين في باب البيع لا
يلزم قبل قبول الآخر ، فاحتمل البطلان
بالإعراض، ولو تبايعا وهما في سفينة ؛ ينعقد
سواء كانت واقفة أو جارية ، خرج الشطران
متصلين أو منفصلين ، بخلاف المشي على الأرض
والسير على الدابة ؛ لأن جريان السفينة بجريان
الماء لا بإجرائه ألا ترى: أن راكب السفينة لا
يملك ، وقفها ، فلم يكن جريانها مضافا إليه ،
فلم يختلف المجلس فأشبه البيت ، بخلاف المشي ،
والسير ، أما المشي فظاهر ؛ لأنه فعله ، وكذا
سير الدابة مضاف إليه ألا ترى: أنه لو سيرها
سارت ، ولو ، وقفها ، وقفت فاختلف المجلس
بسيرها ، ولهذا لو كرر آية السجدة في السفينة
، وهي جارية لا يلزمه إلا سجدة ، واحدة كما لو
كررها في بيت ، واحد. وكذا لو خير امرأته في
السفينة ، وهي جارية فهي على خيارها ما لم
يوجد منها دليل الإعراض ، وعلى هذا إذا أوجب
أحدهما البيع ، والآخر غائب فبلغه فقبل لا
ينعقد بأن قال: بعت عبدي هذا من فلان الغائب
بكذا فبلغه فقبل ، ولو قبل عنه قابل ينعقد ،
والأصل في هذا أن أحد الشطرين من أحد العاقدين
في باب البيع يتوقف على الآخر في المجلس ، ولا
يتوقف على الشطر الآخر من العاقد الآخر فيما ،
وراء المجلس بالإجماع ، إلا إذا
ج / 5 ص -138-
كان عنه
قابل، أو كان بالرسالة أو بالكتابة أما
الرسالة فهي أن يرسل رسولا إلى رجل ، ويقول
للرسول: إني بعت عبدي هذا من فلان الغائب
بكذا، فاذهب إليه ، وقل له: إن فلانا أرسلني
إليك ، وقال لي: قل له: إني قد بعت عبدي هذا
من فلان بكذا فذهب الرسول، وبلغ الرسالة فقال
المشتري في مجلسه ذلك: قبلت انعقد البيع ؛ لأن
الرسول سفير ، ومعبر عن كلام المرسل ناقل
كلامه إلى المرسل إليه فكأنه حضر بنفسه فأوجب
البيع ، وقبل الآخر في المجلس. وأما الكتابة
فهي أن يكتب الرجل إلى رجل أما بعد فقد بعت
عبدي فلانا منك بكذا فبلغه الكتاب فقال في
مجلسه: اشتريت؛ لأن خطاب الغائب كتابه فكأنه
حضر بنفسه، وخاطب بالإيجاب ، وقبل الآخر في
المجلس، ولو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه ؛
لأن الكتاب لا يكون فوق الخطاب، ولو خاطب ثم
رجع قبل قبول الآخر صح رجوعه فههنا أولى ،
وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع ؛ لأن الخطاب
بالرسالة لا يكون فوق المشافهة ، وذا محتمل
للرجوع فههنا أولى ، وسواء علم الرسول رجوع
المرسل أو لم يعلم به بخلاف ما إذا وكل إنسانا
ثم عزله بغير علمه لا يصح عزله ؛ لأن الرسول
يحكي كلام المرسل، وينقله إلى المرسل إليه
فكان سفيرا ، ومعبرا محضا فلم يشترط علم
الرسول بذلك.فأما الوكيل فإنما يتصرف عن تفويض
الموكل إليه فشرط علمه بالعزل صيانة له عن
التعزير على ما نذكره في كتاب الوكالة ، وكذا
هذا في الإجارة، والكتابة أن اتحاد المجلس شرط
للانعقاد ، ولا يتوقف أحد الشطرين من أحد
العاقدين على وجود الشطر الآخر إذا كان غائبا
؛ لأن كل ، واحد منهما عقد معاوضة إلا إذا كان
عن الغائب قابل أو بالرسالة أو بالكتابة كما
في البيع. وأما في النكاح فهل يتوقف بأن يقول
رجل للشهود: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة بكذا،
وبلغها فأجازت أو قالت امرأة: اشهدوا أني زوجت
نفسي من فلان بكذا فبلغه فأجاز عند أبي حنيفة،
ومحمد لا يتوقف أيضا إلا إذا كان عن الغائب
قابل، وعند أبي يوسف يتوقف، وإن لم يقبل عنه
أحد، وكذا الفضولي من الجانبين بأن قال: زوجت
فلانة من فلان وهما غائبان فبلغهما فأجازا لم
يجز عندهما، وعند أبي يوسف يجوز، وهذه مسألة
كتاب النكاح. والفضولي من الجانبين في باب
البيع إذا بلغهما فأجازا لم يجز بالإجماع،
والله سبحانه، وتعالى أعلم. وأما الشطر في باب
الخلع فمن جانب الزوج يتوقف بالإجماع حتى لو
قال: خالعت امرأتي الغائبة على كذا فبلغها
الخبر فقبلت جاز. وأما من جانب المرأة فلا
يتوقف بالإجماع، حتى لو قالت: اختلعت من زوجي
فلان الغائب على كذا، فبلغه الخبر فأجاز لم
يجز، ووجه الفرق أن الخلع في جانب الزوج يمين؛
لأنه تعليق الطلاق بقبول المال فكان يمينا،
ولهذا لا يملك الرجوع عنه، وتصح فيه الإضافة
إلى الوقت، والتعليق بالشرط بأن يقول الزوج:
خالعتك غدا، وإن قدم فلان فقد خالعتك على كذا،
وإذا كان يمينا فغيبة المرأة لا تمنع صحة
اليمين كما في التعليق بدخول الدار، وغير ذلك.
وأما من جانب المرأة فهو معاوضة، ولهذا لا يصح
تعليقه بالشرط من جانبها، ولا تصح إضافته إلى،
وقت، وتملك الرجوع قبل إجازة الزوج، وإذا كان
معاوضة فالشطر في المعاوضات لا يتوقف كما في
البيع، وغيره. وكذا الشطر في إعتاق العبيد على
مال من جانب المولى يتوقف إذا كان العبد
غائبا، ومن جانب العبد لا يتوقف إذا كان
المولى غائبا؛ لأنه من جانبه تعليق العتق
بالشرط ، ومن جانب العبد معاوضة والأصل أن في
كل موضع لا يتوقف الشطر على ما، وراء المجلس ؛
يصح الرجوع عنه ، ولا يصح تعليقه بالشرط،
وإضافته إلى الوقت كما في البيع ، والإجارة ،
والكتابة ، وفي كل موضع يتوقف الشطر على ما
وراء المجلس لا يصح الرجوع عنه ، ويصح تعليقه
بالشرط، وإضافته إلى الوقت كما في الخلع من
جانب الزوج ، والإعتاق على مال من جانب المولى
، والله سبحانه ، وتعالى أعلم.
"فصل" وأما الذي يرجع إلى المعقود عليه فأنواع: "منها" أن يكون موجودا فلا
ينعقد بيع المعدوم ، وماله خطر العدم كبيع
نتاج النتاج بأن قال: بعت ولد ولد هذه الناقة
وكذا بيع الحمل ؛ لأنه إن باع الولد فهو بيع
المعدوم ، وإن باع الحمل فله خطر المعدوم ،
وكذا بيع اللبن في الضرع ؛ لأنه له خطر
لاحتمال انتفاخ الضرع. وكذا بيع الثمر ،
والزرع قبل ظهوره ؛ لأنهما معدوم ، وإن كان
بعد الطلوع جاز ، وإن كان قبل بدو صلاحهما إذا
لم يشترط الترك ، ومن مشايخنا من قال: لا يجوز
ج / 5 ص -139-
إلا إذا
صار بحال ينتفع به بوجه من الوجوه فإن كان
بحيث لا ينتفع به أصلا لا ينعقد. واحتجوا بما
روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
"نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها"،
ولأنه إذا لم يبد صلاحها لم تكن منتفعا بها
فلا تكون مالا فلا يجوز بيعها، وهذا خلاف
الرواية فإن محمدا ذكر في كتاب الزكاة في باب
العشر أنه لو باع الثمار في أول ما تطلع،
وتركها بأمر البائع حتى أدركت فالعشر على
المشتري، ولو لم يجز بيعها حين ما طلعت لما
وجب عشرها على المشتري، والدليل على جواز بيعه
ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من باع
نخلا مؤبرة فثمرته للبائع إلا أن يشترطها
المبتاع" جعل الثمرة للمشتري بالشرط من غير فصل بين ما إذا بدا صلاحها أو لا،
دل أنها محل البيع كيف ما كان، والمعنى فيه،
وهو أنه باع ثمرة موجودة، وهي بعرض أن تصير
منتفعا بها في الثاني، وإن لم يكن منتفعا بها
في الحال فيجوز بيعها كبيع جرو الكلب على
أصلنا، وبيع المهر، والجحش، والأرض السبخة،
والنهي محمول على بيع الثمار مدركة قبل
إدراكها بأن باعها ثمرا، وهي بسر أو باعها
عنبا، وهي حصرم دليل صحة هذا التأويل قوله
عليه الصلاة والسلام في سياق الحديث: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال صاحبه؟"
ولفظة المنع تقتضي أن لا يكون ما، وقع عليه البيع موجودا ؛ لأن المنع
منع الوجود ، وما يوجد من الزرع بعضه بعد بعض
كالبطيخ ، والباذنجان فيجوز بيع ما ظهر منه،
ولا يجوز بيع ما لم يظهر ، وهذا قول عامة
العلماء رضي الله عنهم. وقال مالك رحمه الله
إذا ظهر فيه الخارج الأول يجوز بيعه؛ لأن فيه
ضرورة ؛ لأنه لا يظهر الكل دفعة ، واحدة بل
على التعاقب بعضها بعد بعض فلو لم يجز بيع
الكل عند ظهور البعض لوقع الناس في الحرج.
"ولنا" أن ما لم يظهر منه معدوم فلا يحتمل
البيع، ودعوى الضرورة، والحرج ممنوعة فإنه
يمكنه أن يبيع الأصل بما فيه من الثمر، وما
يحدث منه بعد ذلك يكون ملك المشتري. وقد روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع
الحبل، وحبل الحبل، وروي حبل الحبلة"، وهي
بمعنى الأول، وإنما زيادة الهاء للتأكيد،
والمبالغة، وروي حبل الحبلة بحفظ الهاء من
الكلمة الأخيرة والحبلة هي الحبلى فكان نهيا
عن بيع، ولد الحبلى. وروي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه "نهى عن بيع
اللبن في الضرع، وبيع عسب الفحل"
؛ لأن
عسب الفحل ضرابه، وهو عند العقد معدوم، وقد
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن عسب الفحل"، ولا يمكن حمل النهي على نفس العسب، وهو الضراب؛ لأن ذلك جائز
بالإعارة فيحمل على البيع، والإجارة إلا أنه
حذف ذلك، وأضمره فيه كما في قوله تعالى
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، وغير ذلك. ولا يجوز
بيع الدقيق في الحنطة، والزيت في الزيتون،
والدهن في السمسم، والعصير في العنب، والسمن
في اللبن، ويجوز بيع الحنطة، وسائر الحبوب في
سنابلها؛ لأن بيع الدقيق في الحنطة، والزيت في
الزيتون، ونحو ذلك بيع المعدوم؛ لأنه لا دقيق
في الحنطة، ولا زيت في الزيتون؛ لأن الحنطة
اسم للمركب والدقيق اسم للمتفرق، فلا دقيق في
حال كونه حنطة، ولا زيت حال كونه زيتونا، فكان
هذا بيع المعدوم، فلا ينعقد بخلاف بيع الحنطة
في سنبلها؛ لأن ما في السنبل حنطة، إذ هي اسم
للمركب. وهي في سنبلها على تركيبها فكان بيع
الموجود حتى لو باع تبن الحنطة في سنبلها دون
الحنطة لا ينعقد؛ لأنه لا يصير تبنا إلا
بالعلاج، وهو الدق، فلم يكن تبنا قبله فكان
بيع المعدوم، فلا ينعقد، وبخلاف بيع الجذع في
السقف، والآجر في الحائط، وذراع من كرباس أو
ديباج أنه ينعقد حتى لو نزع، وقطع، وسلم إلى
المشتري يجبر على الأخذ، وههنا لا ينعقد أصلا
حتى لو طحن أو عصر، وسلم لا يجبر المشتري على
القبول؛ لأن عدم النفاذ هناك ليس لخلل في
الركن، ولا في العاقد، والمعقود عليه بل لمضرة
تلحق العاقد بالنزع، والقطع فإذا نزع، وقطع
فقد زال المانع فنفذ أما ههنا فالمعقود عليه
معدوم حالة العقد. ولا يتصور انعقاد العقد
بدونه فلم ينعقد أصلا فلا يحتمل النفاذ فهو
الفرق، وكذا بيع البزر في البطيخ الصحيح ؛
لأنه بمنزلة الزيت في الزيتون، وبيع النوى في
التمر، وكذلك بيع اللحم في الشاة الحية؛ لأنها
إنما تصير لحما بالذبح ، والسلخ فكان بيع
المعدوم فلا ينعقد، وكذا بيع الشحم الذي فيها
، وأليتها وأكارعها، ورأسها لما قلنا ، وكذا
بيع البحير في السمسم؛ لأنه إنما يصير بحيرا
بعد العصر. وعلى هذا يخرج ما إذا قال: بعتك
هذا الياقوت بكذا فإذا هو زجاج أو قال: بعتك
هذا الفص على أنه ياقوت بكذا فإذا هو زجاج
ج / 5 ص -140-
أو قال:
بعتك هذا الثوب الهروي بكذا فإذا هو مروي ، أو
قال: بعتك هذا الثوب على أنه مروي فإذا هو
هروي لا ينعقد البيع في هذه المواضع ؛ لأن
المبيع معدوم ، والأصل في هذا أن الإشارة مع
التسمية إذا اجتمعتا في باب البيع فيما يصلح
محل البيع ينظر إن كان المشار إليه من خلاف
جنس المسمى ، فالعبرة للتسمية ، ويتعلق العقد
بالمسمى ، وإن كان من جنسه لكن يخالفه في
الصفة فإن تفاحش التفاوت بينهما، فالعبرة
للتسمية أيضا عندنا ، ويلحقان بمختلفي الجنس ،
وإن قل التفاوت فالعبرة للمشار إليه، ويتعلق
العقد به، وإذا عرف هذا فنقول: الياقوت مع
الزجاج جنسان مختلفان ، وكذا الهروي مع المروي
نوعان مختلفان؛ فيتعلق العقد فيه بالمسمى وهو
معدوم فيبطل ولا ينعقد. وعلى هذا يخرج ما إذا
قال: بعتك هذا الياقوت بكذا فإذا هو زجاج أو
قال: بعتك هذا الفص على أنه ياقوت بكذا فإذا
هو زجاج أو قال: بعتك هذا الثوب الهروي بكذا
فإذا هو مروي، أو قال: بعتك هذا الثوب على أنه
مروي فإذا هو هروي لا ينعقد البيع في هذه
المواضع؛ لأن المبيع معدوم، والأصل في هذا أن
الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا في باب البيع
فيما يصلح محل البيع ينظر إن كان المشار إليه
من خلاف جنس المسمى، فالعبرة للتسمية، ويتعلق
العقد بالمسمى، وإن كان من جنسه لكن يخالفه في
الصفة فإن تفاحش التفاوت بينهما، فالعبرة
للتسمية أيضا عندنا، ويلحقان بمختلفي الجنس،
وإن قل التفاوت فالعبرة للمشار إليه، ويتعلق
العقد به، وإذا عرف هذا فنقول: الياقوت مع
الزجاج جنسان مختلفان، وكذا الهروي مع المروي
نوعان مختلفان؛ فيتعلق العقد فيه بالمسمى وهو
معدوم فيبطل ولا ينعقد. وكذا لو باع دارا على
أن بناءها آجر، فإذا هو لبن لا ينعقد؛ لأنهما
يتفاوتان في المنفعة تفاوتا فاحشا فكانا
كالجنسين المختلفين، وكذا لو باع ثوبا على أنه
مصبوغ بعصفر، فإذا هو مصبوغ بزعفران لا ينعقد؛
لأن العصفر مع الزعفران يختلفان في اللون
اختلافا فاحشا، وكذا لو باع حنطة في جولق فإذا
هو دقيق أو شرط الدقيق فإذا هو خبز لا ينعقد؛
لأن الحنطة مع الدقيق جنسان مختلفان وكذا
الدقيق مع الخبز ألا ترى: أن من غصب من آخر
حنطة وطحنها ينقطع حق الملك دل أنها تصير
بالطحن شيئا آخر فكان بيع المعدوم فلا ينعقد.
وإن قال: بعتك هذه الشاة على أنها ميتة فإذا
هي ذكية جاز بالإجماع ؛ لأن الميتة ليست بمحل
للبيع فلغت التسمية، وبقيت الإشارة إلى
الذكية. ولو قال: بعتك هذا الثوب القز فإذا هو
ملحم ينظر إن كان سداه من القز، ولحمته من
غيره لا ينعقد، وإن كان لحمته من القز ،
فالبيع جائز ؛ لأن الأصل في الثوب هو اللحمة؛
لأنه إنما يصير ثوبا بها فإذا كانت لحمته من
غير القز فقد اختلف الجنس فكانت العبرة
للتسمية، والمسمى معدوم فلم ينعقد البيع وإذا
كانت من القز فالجنس لم يختلف فتعتبر الإشارة
، والمشار إليه موجود فكان محلا للبيع إلا أنه
يثبت الخيار للمشتري؛ لأن كون السدى منه أمر
مرغوب فيه ، وقد فات فوجب الخيار ، وكذلك إذا
قال: بعتك هذا الثوب الخز بكذا، فإذا هو ملحم
فهو على التفصيل إلا أن لحمته إذا كانت خزا
وسداه من غيره حتى جاز البيع فقد قيل: إنه
ينبغي أن لا يثبت الخيار للمشتري ههنا ؛ لأن
الخز هكذا ينسج بخلاف القز. ولو باع جبة على
أن بطانتها وظهارتها كذا ، وحشوها كذا فإن
كانت الظهارة من غير ما شرط لا ينعقد البيع ،
وإن كانت البطانة والحشو مما شرط، وإن كانت
الظهارة مما شرط جاز البيع وإن كانت البطانة ،
والحشو من غير ما شرط ؛ لأن الأصل هو الظهارة
ألا ترى أنه ينسب الثوب إليها، ويختلف الاسم
باختلافها؟ وإنما البطانة تجري مجرى التابع
لها وكذا الحشو فكان المعقود عليه هو الظهارة،
وما سواها جاريا مجرى الوصف لها ففواته لا
يمنع الجواز ، ولكنه يوجب الخيار لأنه فات شيء
مرغوب فيه. ولو قال: بعتك هذه الدار على أن
فيها بناء فإذا لا بناء فيها فالبيع جائز ،
والمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن ،
وإن شاء ترك فرق بين هذا، وبين ما إذا قال:
بعتك هذه الدار على أن بناءها آجر ، فإذا هو
لبن أنه لا ينعقد. "ووجه" الفرق أن الآجر مع
اللبن يتفاوتان في المنفعة تفاوتا فاحشا
فالتحقا بمختلفي الجنس على ما بينا فيما تقدم.
"ومنها" أن يكون مالا لأن البيع مبادلة المال
بالمال ، فلا ينعقد بيع الحر ؛ لأنه ليس بمال،
وكذا بيع أم الولد ؛ لأنها حرة من وجه لما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أعتقها ولدها" وروي عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال في أم الولد: "لا تباع ولا توهب وهي
حرة من الثلث" نفى عليه الصلاة والسلام جواز
بيعها مطلقا وسماها حرة فلا تكون مالا على
الإطلاق خصوصا على أصل أبي
ج / 5 ص -141-
حنيفة
رضي الله عنه ؛ لأن الاستيلاد يوجب سقوط
المالية عنده حتى لا تضمن بالغصب ، والبيع
الفاسد والإعتاق ، وإنما تضمن بالقتل لا غير ؛
لأن ضمان القتل ضمان الدم لا ضمان المال
والمسألة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
ولا بيع المدبر المطلق عندنا وقال الشافعي
عليه الرحمة: "بيع المدبر جائز" واحتج بما روي
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي
عليه الصلاة والسلام أجاز بيع المدبر وعن
سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها دبرت مملوكة
لها فغضبت عليها فباعتها ؛ ولأن التدبير تعليق
العتق بالموت ، والمعلق بالشرط عدم قبل وجود
الشرط ، فلم يكن العتق ثابتا أصلا قبل الموت ،
فيجوز بيعه كما إذا علق عتق عبده بدخول الدار
، ونحو ذلك ثم باعه قبل أن يدخل الدار ، وكما
في المدبر المقيد. "ولنا" ما روى أبو سعيد
الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله
عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام
"نهى عن بيع المدبر" ومطلق النهي محمول على التحريم وروي عن عبد الله ابن سيدنا عمر رضي
الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث". وهذا نص في الباب ؛ ولأنه حر من وجه، فلا يجوز بيعه كأم الولد،
والدليل على أنه حر من وجه: الاستدلال بضرورة
الإجماع، وهو أنه يعتق بعد الموت بالإجماع،
والحرية لا بد لها من سبب، وليس ذلك إلا
الكلام السابق، وليس هو بتحرير بعد الموت ؛
لأن التحرير فعل اختياري، وأنه لا يتحقق من
الميت فكان تحريرا من حين وجوده، فكان ينبغي
أن تثبت به الحرية من كل وجه للحال إلا أنها
تأخرت من وجه إلى آخر جزء من أجزاء حياته
بالإجماع، ولا إجماع على التأخير من وجه فبقيت
الحرية من وجه ثابتة للحال فلا يكون مالا
مطلقا، فلا يجوز بيعه. وحديث جابر وسيدتنا
عائشة رضي الله عنهما حكاية فعل يحتمل أنه
أجاز عليه الصلاة والسلام بيع مد مقيدا أو باع
مدبرا مقيدا، ويحتمل أن يكون المراد منه
الإجارة ؛ لأن الإجارة بلغة أهل المدينة تسمى
بيعا ويحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين
كان بيع المدبر مشروعا ثم نسخ فلا يكون حجة مع
الاحتمال. "وأما" المدبر المقيد فهناك لا يمكن
أن يجعل الكلام السابق إيجابا من حين وجوده؛
لأنه علق عتقه بموت موصوف بصفة، واحتمل أن
يموت من ذلك المرض والسفر أو لا، فكان الخطر
قائما فكان تعليقا، فلم يكن إيجابا ما دام
الخطر قائما ومتى اتصل به الموت يظهر أنه كان
تحريرا من وجه من حين وجوده لكن لا يتعلق به
حكم والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا بيع
المكاتب لأنه حر يدا فلا تثبت يد تصرف الغير
عليه ولا بيع معتق البعض موسرا كان المعتق أو
معسرا عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم ؛
لأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة رضي الله
عنه وعندهما هو حر عليه دين. "وأما" عند
الشافعي رضي الله عنه فإن كان المعتق معسرا
فلشريكه الساكت أن يبيع نصيبه بناء على أصله
أن المعتق إن كان معسرا فالإعتاق منجز فبقي
نصيب شريكه على ملكه ، فيجوز له بيعه، وكل
جواب عرفته في هؤلاء فهو الجواب في الأولاد من
هؤلاء؛ لأن الولد يحدث على وصف الأم ، ولهذا
كان ولد الحرة حرا، وولد الأمة رقيقا وكما لا
ينعقد بيع المكاتب، وولده المولود في الكتابة
لا ينعقد بيع ولده المشترى في الكتابة،
ووالدته ؛ لأنهم تكاتبوا بالشراء. "وأما" من
سواهم من ذوي الأرحام إذا اشتراهم يجوز بيعهم
عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأنهم لم
يتكاتبوا بالشراء وعند أبي يوسف ومحمد: لا
يجوز لأنهم تكاتبوا وهي مسألة كتاب المكاتب.
ولا ينعقد بيع الميتة والدم ؛ لأنه ليس بمال،
وكذلك ذبيحة المجوسي والمرتد، والمشرك؛ لأنها
ميتة، وكذا متروك التسمية عمدا عندنا خلافا
للشافعي وهي مسألة. "كتاب الذبائح" وكذا ذبيحة
المجنون والصبي الذي لا يعقل ؛ لأنها في معنى
الميتة ، وكذا ما ذبح من صيد الحرم محرما كان
الذابح، أو حلالا، وما ذبحه المحرم من الصيد
سواء كان صيد الحرم أو الحل ؛ لأن ذلك ميتة.
ولا ينعقد بيع صيد الحرم محرما كان البائع أو
حلالا؛ لأنه حرام الانتفاع به شرعا، فلم يكن
مالا ، ولا بيع صيد المحرم سواء كان صيد الحرم
أو الحل؛ لأنه حرام الانتفاع به في حقه ، فلا
يكون مالا في حقه، ولو وكل محرم حلالا ببيع
صيد فباعه فالبيع جائز عند أبي حنيفة وعند أبي
يوسف ومحمد: باطل، وهو على اختلافهم في مسلم
وكل ذميا ببيع خمر فباعها. "وجه" قولهما أن
البائع هو الموكل معنى؛ لأن حكم البيع يقع له،
والمحرم ممنوع عن تمليك الصيد ، وتملكه. "وجه"
قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن البائع في
الحقيقة هو الوكيل ؛ لأن بيعه كلامه القائم به
حقيقة
ج / 5 ص -142-
ولهذا
ترجع حقوق العقد إليه إلا أن الموكل يقوم
مقامه شرعا في نفس الحكم مع اقتصار نفس التصرف
على مباشرته حقيقة، والمحرم من أهل ثبوت الملك
له في الصيد حكما لا يتملكه حقيقة ألا يرى أنه
يرثه؟ وهذا؛ لأن المنع إنما يكون عما للعبد
فيه صنع، ولا صنع له فيما يثبت حكما فلا يحتمل
المنع ولو باع حلال حلالا صيدا ثم أحرم أحدهما
قبل القبض يفسخ البيع ؛ لأن الإحرام كما يمنع
البيع والشراء يمنع التسليم والقبض؛ لأنه عقد
من وجه على ما عرف فيلحق به في حق الحرمة
احتياطا ولو وكل حلال حلالا ببيع صيد فباعه ثم
أحرم الموكل قبل قبض المشتري فعلى قياس قول
أبي حنيفة رحمه الله جاز البيع وعلى قياس
قولهما: يبطل لأن الإحرام القائم لا يمنع من
جواز التوكيل عنده، فالطارئ لا يبطله، وعندهما
القائم يمنع، فالطارئ يبطله حلالان تبايعا
صيدا في الحل، وهما في الحرم جاز عند أبي
حنيفة وعند محمد: لا يجوز. "وجه" قول محمد أن
كون الحرم مأمنا يمنع من التعرض للصيد سواء
كان المتعرض في الحرم أو الحل بعد أن كان
المتعرض في الحرم ألا ترى: أنه لا يحل للحلال
الذي في الحرم أن يرمي إلى الصيد الذي في
الحل، كما لا يحل له أن يرمي إليه إذا كان في
الحرم؟. "وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن
كونه في الحرم يمنع من التعرض لصيد الحل لكن
حسا لا شرعا بدليل أن الحلال في الحرم إذا أمر
حلالا آخر بذبح صيد في الحل جاز ولو ذبح حل
أكله، ومعلوم أن الأمر بالذبح في معنى التعرض
للصيد فوق البيع والشراء فلما لم يمنع من ذلك،
فلأن لا يمنع من هذا أولى، وهذا لأن المنع من
التعرض إنما كان احتراما للحرم فكل ما فيه ترك
احترامه يجب صيانة الحرم عنه وذلك بمباشرة سبب
الإيذاء في الحرم ولم يوجد في البيع والله
سبحانه وتعالى أعلم. ولا بيع لحم السبع؛ لأنه
لا يباح الانتفاع به شرعا فلم يكن مالا وروي
عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يجوز بيعه إذا
ذبح؛ لأنه صار طاهرا بالذبح. وأما جلد السبع،
والحمار، والبغل فإن كان مدبوغا أو مذبوحا
يجوز بيعه ؛ لأنه مباح الانتفاع به شرعا فكان
مالا، وإن لم يكن مدبوغا ولا مذبوحا لا ينعقد
بيعه ؛ لأنه إذا لم يدبغ ولم يذبح بقيت رطوبات
الميتة فيه فكان حكمه حكم الميتة. ولا ينعقد
بيع جلد الخنزير كيف ما كان ؛ لأنه نجس العين
بجميع أجزائه، وقيل: إن جلده لا يحتمل الدباغ،
وأما عظم الميتة وعصبها، وشعرها، وصوفها،
ووبرها، وريشها، وخفها وظلفها، وحافرها فيجوز
بيعها، والانتفاع بها عندنا وعند الشافعي رحمه
الله لا يجوز بناء على أن هذه الأشياء طاهرة
عندنا وعنده نجسة، واحتج بقوله سبحانه وتعالى
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}
وهذه من أجزاء الميتة فتكون حراما فلا يجوز
بيعها وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" "ولنا" قوله سبحانه وتعالى:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} قوله عز وجل
{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا}
الآية أخبر سبحانه وتعالى أنه جعل هذه الأشياء
لنا ومن علينا بذلك من غير فصل بين الذكية
والميتة فيدل على تأكد الإباحة ؛ ولأن حرمة
الميتة ليست لموتها فإن الموت موجود في السمك
، والجراد ، وهما حلالان قال عليه الصلاة
والسلام:
"أحل لنا ميتتان ودمان" بل لما فيها من الرطوبات السيالة ، والدماء النجسة ؛ لانجمادها
بالموت ، ولهذا يطهر الجلد بالدباغ حتى يجوز
بيعه لزوال الرطوبة عنه ولا رطوبة في هذه
الأشياء ، فلا تكون حراما ، ولا حجة له في هذا
الحديث ؛ لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ لغة ،
والمراد من العصب حال الرطوبة يحمل عليه
توفيقا بين الدلائل. وأما عظم الخنزير ، وعصبه
فلا يجوز بيعه ، لأنه نجس العين وأما شعره فقد
روي: أنه طاهر يجوز بيعه والصحيح أنه نجس لا
يجوز بيعه ؛ لأنه جزء منه إلا أنه رخص في
استعماله للخرازين للضرورة وأما عظم الآدمي
وشعره ، فلا يجوز بيعه لا لنجاسته؛ لأنه طاهر
في الصحيح من الرواية لكن احتراما له
والابتذال بالبيع يشعر بالإهانة ، وقد روي عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"لعن الله الواصلة، والمستوصلة"
وأما عظم الكلب، وشعره فقد اختلف المشايخ فيه
على الأصل الذي ذكرنا. وروي عن أبي حنيفة وأبي
يوسف رحمهما الله أنه لا بأس ببيع عظم الفيل ،
والانتفاع به وقال محمد رحمه الله عظم الفيل
نجس لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به ذكره في
العيون. ويجوز بيع كل ذي مخلب من الطير معلما
كان أو غير معلم بلا خلاف. وأما بيع كل ذي ناب
من السباع سوى الخنزير كالكلب ، والفهد ،
والأسد والنمر ، والذئب ، والهر ، ونحوها
فجائز عند أصحابنا ، وعند الشافعي
ج / 5 ص -143-
رحمه
الله: لا يجوز ثم عندنا: لا فرق بين المعلم ،
وغير المعلم في رواية الأصل فيجوز بيعه كيف ما
كان وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز
بيع الكلب العقور ، واحتج الشافعي رحمه الله
بما روي عن النبي المكرم عليه الصلاة والسلام
أنه قال:
"ومن السحت مهر البغي ، وثمن الكلب" ولو جاز بيعه لما كان ثمنه سحتا، ولأنه نجس العين، فلا يجوز بيعه
كالخنزير إلا أنه رخص الانتفاع به بجهة
الحراسة، والاصطياد للحاجة، والضرورة، وهذا لا
يدل على جواز البيع كما في شعر الخنزير.
"ولنا": أن الكلب مال، فكان محلا للبيع
كالصقر، والبازي، والدليل على أنه مال أنه
منتفع به حقيقة مباح الانتفاع به شرعا على
الإطلاق فكان مالا، ولا شك أنه منتفع به
حقيقة، والدليل على أنه مباح الانتفاع به شرعا
على الإطلاق أن الانتفاع به بجهة الحراسة،
والاصطياد مطلق شرعا في الأحوال كلها فكان
محلا للبيع ؛ لأن البيع إذا صادف محلا منتفعا
به حقيقة مباح الانتفاع به على الإطلاق مست
الحاجة إلى شرعه ؛ لأن شرعه يقع سببا، ووسيلة
للاختصاص القاطع للمنازعة إذ الحاجة إلى قطع
المنازعة فيما يباح الانتفاع به شرعا على
الإطلاق لا فيما يجوز. "وأما" الحديث فيحتمل
أنه كان في ابتداء الإسلام ؛ لأنهم كانوا
ألفوا اقتناء الكلاب فأمر بقتلها، ونهى عن
بيعها مبالغة في الزجر أو يحمل على هذا توفيقا
بين الدلائل قوله: أنه نجس العين، قلنا: هذا
ممنوع فإنه يباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق
اصطيادا ، وحراسة. ونجس العين لا يباح
الانتفاع به شرعا إلا في حالة الضرورة
كالخنزير. ولا ينعقد بيع الخنزير من المسلم ؛
لأنه ليس بمال في حق المسلمين فأما أهل الذمة
فلا يمنعون من بيع الخمر، والخنزير أما على
قول بعض مشايخنا فلأنه مباح الانتفاع به شرعا
لهم كالخل، وكالشاة لنا فكان مالا في حقهم
فيجوز بيعه. وروي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه كتب إلى عشاره بالشام أن ولوهم
بيعها، وخذوا العشر من أثمانها، ولو لم يجز
بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع، وعن
بعض مشايخنا: حرمة الخمر ، والخنزير ثابتة على
العموم في حق المسلم، والكافر؛ لأن الكفار
مخاطبون بشرائع هي حرمات هو الصحيح من مذهب
أصحابنا فكانت الحرمة ثابتة في حقهم لكنهم لا
يمنعون عن بيعها؛ لأنهم لا يعتقدون حرمتها ،
ويتمولونها. ونحن أمرنا بتركهم ، وما يدينون ،
ولو باع ذمي من ذمي خمرا ، أو خنزيرا ثم أسلما
أو أسلم أحدهما قبل القبض يفسخ البيع ؛ لأنه
بالإسلام حرم البيع ، والشراء ، فيحرم القبض ،
والتسليم أيضا؛ لأنه يشبه الإنشاء أو إنشاء من
وجه فيلحق به في باب الحرمات احتياطا ، وأصله
قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} والأمر بترك ما بقي من الربا هو النهي عن قبضته يؤيده قوله تعالى في
آخر الآية الشريفة:
{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ
أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا
تُظْلَمُونَ} وإذا حرم القبض ، والتسليم لم يكن في بقاء العقد فائدة ، فيبطله
القاضي كمن باع عبدا فأبق قبل القبض ، ولو كان
إسلامهما أو إسلام أحدهما بعد القبض مضى البيع
؛ لأن الملك قد ثبت على الكمال بالعقد ،
والقبض في حالة الكفر ، وإنما يوجد بعد
الإسلام دوام الملك. والإسلام لا ينافي ذلك
فإن من تخمر عصيره لا يؤمر بإبطال ملكه فيها ،
ولو أقرض الذمي ذميا خمرا ثم أسلم أحدهما فإن
أسلم المقرض سقطت الخمر ، ولا شيء له من قيمة
الخمر على المستقرض أما سقوط قيمة الخمر ،
فلأن العجز عن قبض المثل جاء من قبله فلا شيء
له ، وإن أسلم المستقرض . روي عن أبي يوسف عن
أبي حنيفة رحمه الله أنه تسقط الخمر ، وليس
عليه قيمة الخمر أيضا كما لو أسلم المقرض ،
وروى محمد، وزفر، وعافية بن زياد القاضي عن
أبي حنيفة رضي الله عنهم أن عليه قيمة الخمر ،
وهو قول محمد رحمه الله. "وجه" هذه الرواية أن
امتناع التسليم من المستقرض إنما جاء لمعنى من
قبله ، وهو إسلامه فكأنه استهلك عليه خمره ،
والمسلم إذا استهلك خمر الذمي يضمن قيمته.
"وجه" رواية أبي يوسف رحمه الله أنه لا سبيل
إلى تسليم المثل ؛ لأنه يمنع منه ، ولا إلى
القيمة ؛ لأن ذلك يوجب ملك المستقرض ،
والإسلام يمنع منه ، والله سبحانه وتعالى
أعلم. وأما القرد.فعن أبي حنيفة رضي الله عنه
روايتان. "وجه" رواية عدم الجواز أنه غير
منتفع به شرعا فلا يكون مالا كالخنزير. "وجه"
رواية الجواز: أنه إن لم يكن منتفعا به بذاته
يمكن الانتفاع بجلده ، والصحيح هو الأول ؛
لأنه لا يشترى للانتفاع بجلده عادة بل للهو به
، وهو حرام فكان هذا بيع الحرام للحرام ، وأنه
لا يجوز . ويجوز بيع الفيل
ج / 5 ص -144-
بالإجماع
؛ لأنه منتفع به حقيقة مباح الانتفاع به شرعا
على الإطلاق فكان مالا. ولا ينعقد بيع الحية،
والعقرب ، وجميع هوام الأرض كالوزغة ، والضب ،
والسلحفاة ، والقنفذ ، ونحو ذلك ؛ لأنها محرمة
الانتفاع بها شرعا ؛ لكونها من الخبائث فلم
تكن أموالا فلم يجز بيعها، وذكر في الفتاوى
أنه يجوز بيع الحية التي ينتفع بها للأدوية ،
وهذا غير سديد ؛ لأن المحرم شرعا لا يجوز
الانتفاع به للتداوي كالخمر، والخنزير وقال
النبي عليه الصلاة والسلام:
"لم يجعل
شفاؤكم فيما حرم عليكم"
فلا تقع
الحاجة إلى شرع البيع. ولا ينعقد بيع شيء مما
يكون في البحر كالضفدع، والسرطان إلا السمك،
وما يجوز الانتفاع بجلده، أو عظمه ؛ لأن ما لا
يجوز الانتفاع بجلده، ولا به، ولا بعظمه لا
يكون مالا فلا يكون محلا للبيع، وقد روي أن
النبي عليه الصلاة والسلام
"سئل عن الضفدع يجعل في دواء فنهى عنه، وقال: خبيثة من الخبائث"، وذكر أبو
بكر الإسكافي رحمه الله: أنه لا يجوز، وذكر في
الفتاوى: أنه يجوز ؛ لأن الناس ينتفعون به.
ولا ينعقد بيع النحل إلا إذا كان في كوارته
عسل فباع الكوارة بما فيها من العسل، والنحل،
وروى هشام عن محمد أنه يجوز بيعه منفردا من
غير كوارته إذا كان مجموعا، وهو قول الشافعي
رحمه الله ؛ لأن النحل حيوان منتفع به فيجوز
بيعه. "ولنا": أنه ليس بمنتفع به فلم يكن مالا
بنفسه بل بما يحدث منه، وهو معدوم حتى لو باعه
مع الكوارة، وفيها عسل يجوز بيعه تبعا للعسل،
ويجوز أن لا يكون الشيء محلا للبيع بنفسه
مفردا، ويكون محلا للبيع مع غيره كالشرب،
وأنكر الكرخي رحمه الله هذا فقال: إنما يدخل
فيه تبعا إذا كان من حقوقه كما في الشرب مع
الأرض، وهذا ليس من حقوقه، وعلى هذا بيع دود
القز لا ينعقد إلا إذا كان معه قز، وروى محمد
أنه يجوز بيعه مفردا، والحجج على نحو ما ذكرنا
في النحل، ولا ينعقد بيع بذر الدود عند أبي
حنيفة رحمه الله كما لا ينعقد بيع الدود،
وعندهما يجوز بيعه. "ووجه" الكلام فيه على نحو
ما ذكرنا في بيع النحل، والدود. ويجوز بيع
السرقين، والبعر؛ لأنه مباح الانتفاع به شرعا
على الإطلاق فكان مالا، ولا ينعقد بيع العذرة
الخالصة؛ لأنه لا يباح الانتفاع بها بحال، فلا
تكون مالا إلا إذا كان مخلوطا بالتراب،
والتراب غالب فيجوز بيعه؛ لأنه يجوز الانتفاع
به. وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال:
"كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه" ونبين ذلك، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه، ولا هبته
كالفأرة إذا وقعت في العجين، والسمن المائع،
وكذلك قال محمد في الزيت إذا وقع فيه ودك
الميتة:
"إنه إن كان
الزيت غالبا يجوز بيعه، وإن كان الودك غالبا
لا يجوز بيعه" لأن الحلال إذا كان هو الغالب يجوز الانتفاع به استصحابا، ودبغا على
ما ذكرنا في. "كتاب الطهارات" فكان مالا فيجوز
بيعه، وإذا كان الحرام هو الغالب لم يجز
الانتفاع به بوجه فلم يكن مالا فلا يجوز بيعه.
ويجوز بيع آلات الملاهي من البربط، والطبل ،
والمزمار، والدف، ونحو ذلك عند أبي حنيفة لكنه
يكره وعند أبي يوسف، ومحمد: لا ينعقد بيع هذه
الأشياء ؛ لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة
للفسق، والفساد فلا تكون أموالا فلا يجوز
بيعها ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن
الانتفاع بها شرعا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفا
لأشياء ، ونحو ذلك من المصالح فلا تخرج عن
كونها أموالا، وقولهما: إنها آلات التلهي ،
والفسق بها قلنا نعم لكن هذا لا يوجب سقوط
ماليتها كالمغنيات، والقيان، وبدن الفاسق،
وحياته، وماله، وهذا ؛ لأنها كما تصلح للتلهي
تصلح لغيره على ماليتها بجهة إطلاق الانتفاع
بها لا بجهة الحرمة، ولو كسرها إنسان ضمن عند
أبي حنيفة رحمه الله وعندهما لا يضمن، وعلى
هذا الخلاف بيع النرد، والشطرنج، والصحيح قول
أبي حنيفة رضي الله عنه ؛ لأن كل واحد منهما
منتفع به شرعا من، وجه آخر بأن يجعل صنجات
الميزان فكان مالا من هذا الوجه فكان محلا
للبيع مضمونا بالإتلاف ويجوز بيع ما سوى الخمر
من الأشربة المحرمة كالسكر، ونقيع الزبيب،
والمنصف، ونحوها عند أبي حنيفة، وعند أبي
يوسف، ومحمد: لا يجوز ؛ لأنه إذا حرم شربها لم
تكن مالا فلا تكون محلا للبيع كالخمر، ولأن ما
حرم شربه لا يجوز بيعه لما روي عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال:
"لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها ، وباعوها ، وإن الله إذا
حرم شيئا حرم بيعه ، وأكل ثمنه" ولأبي حنيفة رحمه الله أن حرمة هذه الأشربة ما ثبتت بدليل متيقن
مقطوع به لكونها محل الاجتهاد
ج / 5 ص -145-
والمالية
قبل حدوث الشدة كانت ثابتة بيقين فلا تبطل
بحرمة ثابتة بالاجتهاد فبقيت أموالا ، وبه
تبين أن المراد من الحديث محرم ، ثبتت حرمته
بدليل مقطوع به ، ولم يوجد ههنا بخلاف الخمر ؛
لأن حرمتها ثبتت بدليل مقطوع به فبطلت ماليتها
، والله سبحانه ، وتعالى أعلم. ولا ينعقد بيع
الملاقيح ، والمضامين الذي، ورد النهي عنه ؛
لأن المضمون ما في صلب الذكر ، والملقوح ما في
رحم الأنثى، وذلك ليس بمال، وعلى هذا أيضا
يخرج بيع عسب الفحل ؛ لأن العسب هو الضراب ،
وأنه ليس بمال، وقد يخرج على هذا بيع الحمل
أنه لا ينعقد؛ لأن الحمل ليس بمال. ولا ينعقد
بيع لبن المرأة في قدح عندنا، وقال الشافعي
رحمه الله يجوز بيعه. "وجه" قوله أن هذا مشروب
طاهر فيجوز بيعه كلبن البهائم، والماء. "ولنا"
أن اللبن ليس بمال فلا يجوز بيعه، والدليل على
أنه ليس بمال إجماع الصحابة رضي الله عنهم ،
والمعقول. أما إجماع الصحابة رضي الله تعالى
عنهم عنهم فما روي عن سيدنا عمر، وسيدنا علي
رضي الله تعالى عنهما أنهما حكما في ، ولد
المغرور بالقيمة ، وبالعقر بمقابلة الوطء، وما
حكما بوجوب قيمة اللبن بالاستهلاك ، ولو كان
مالا لحكما ؛ لأن المستحق يستحق بدل إتلاف
ماله بالإجماع، ولكان إيجاب الضمان بمقابلته
أولى من إيجاب الضمان بمقابلة منافع البضع؛
لأنها ليست بمال فكانت حاجة المستحق إلى ضمان
المال أولى، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي
الله عنهم، ولم ينكر عليهما أحد فكان إجماعا.
"وأما" المعقول فهو ؛ لأنه لا يباح الانتفاع
به شرعا على الإطلاق بل لضرورة تغذية الطفل،
وما كان حرام الانتفاع به شرعا إلا لضرورة لا
يكون مالا كالخمر، والخنزير، والدليل عليه أن
الناس لا يعدونه مالا، ولا يباع في سوق ما من
الأسواق دل أنه ليس بمال فلا يجوز بيعه، ولأنه
جزء من الآدمي، والآدمي بجميع أجزائه محترم
مكرم، وليس من الكرامة، والاحترام ابتذاله
بالبيع، والشراء، ثم لا فرق بين لبن الحرة،
وبين لبن الأمة في ظاهر الرواية، وعند أبي
يوسف رحمه الله أنه يجوز بيع لبن الأمة؛ لأنه
جزء من آدمي هو مال فكان محلا للبيع كسائر
أجزائه. "ولنا" أن الآدمي لم يجعل محلا للبيع
إلا بحلول الرق فيه، والرق لا يحل إلا في
الحي، واللبن لا حياة فيه فلا يحله الرق فلا
يكون محلا للبيع سفل، وعلو بين رجلين انهدما
فباع صاحب العلو علوه لم يجز؛ لأن الهواء ليس
بمال. ولو جمع بين ما هو مال، وبين ما ليس
بمال في البيع بأن جمع بين حر، وعبد أو بين
عصير، وخمر أو بين ذكية، وميتة، وباعهما صفقة
واحدة، فإن لم يبين حصة كل، واحد منهما من
الثمن لم ينعقد العقد أصلا بالإجماع، وإن بين
فكذلك عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في العصير،
والعبد، والذكية، ويبطل في الحر، والخمر،
والميتة، ولو جمع بين قن، ومدبر أو أم ولد،
ومكاتب أو بين عبده، وعبد غيره، وباعهما صفقة
واحدة؛ جاز البيع في عبده بلا خلاف. "وجه"
قولهما أن الفساد بقدر المفسد؛ لأن الحكم يثبت
بقدر العلة، والمفسد خص أحدهما، فلا يتعمم
الحكم مع خصوص العلة، فلو جاء الفساد إنما
يجيء من قبل جهالة الثمن، فإذا بين حصة كل،
واحد منهما من الثمن؛ فقد زال هذا المعنى
أيضا، ولهذا جاز بيع القن إذا جمع بينه، وبين
المدبر أو المكاتب أو أم الولد، وباعهما صفقة
واحدة، كذا هذا، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن
الصفقة واحدة، وقد فسدت في أحدهما فلا تصح في
الآخر. والدليل على أن الصفقة واحدة أن لفظ
البيع والشراء لم يتكرر، والبائع، واحد،
والمشتري واحد، وتفريق الثمن وهو التسمية لكل
واحد منهما لا يمنع اتحاد الصفقة، دل أن
الصفقة واحدة، وقد فسدت في أحدهما بيقين لخروج
الحر والخمر والميتة عن محلية البيع بيقين،
فلا يصح في الآخر لاستحالة كون الصفقة الواحدة
صحيحة وفاسدة، ولهذا لم يصح إذا لم يسم لكل
واحد منهما ثمنا فكذا إذا سمى؛ لأن التسمية
وتفريق الثمن لا يوجب تعدد الصفقة لاتحاد
البيع والعاقدين بخلاف الجمع بين العبد
والمدبر؛ لأن هناك الصفقة ما فسدت في أحدهما
بيقين بل بالاجتهاد الذي يحتمل الصواب والخطأ
فاعتبر هذا الاحتمال في تصحيح الإضافة إلى
المدبر؛ ليظهر في حق القن إن لم يمكن إظهاره
في حقه، ولأنه لما جمع بينهما في الصفقة قد
جعل قبول العقد في أحدهما شرط القبول في الآخر
بدليل أنه لو قبل العقد في أحدهما دون الآخر
لا يصح، والحر لا يحتمل قبول العقد فيه، فلا
يصح القبول في الآخر بخلاف المدبر؛ لأنه محل
لقبول العقد فيه في الجملة، فصح قبول العقد
فيه إلا أنه تعذر إظهاره فيه بنوع اجتهاد فيجب
إظهاره في القن؛ ولأن في تصحيح العقد في
ج / 5 ص -146-
أحدهما
تفريق الصفقة على البائع قبل التمام ؛ لأنه
أوجب البيع فيهما، فالقبول في أحدهما يكون
تفريقا، وهذا لا يجوز بخلاف ما إذا جمع بين
القن والمدبر، لأن المدبر محل لقبول البيع فيه
لكونه مملوكا له إلا أنه لم ينفذ للحال مع
احتمال النفاذ في الجملة بقضاء القاضي لحق
المدبر. وهذا يمنع محلية القبول في حق نفسه لا
في صاحبه فيجعل محلا في حق صاحبه، والدليل على
التفرقة بين الفصلين أن الحكم ههنا يختلف بين
أن يسمي لكل واحد منهما ثمنا أو لا يسمي،
وهناك لا يختلف دل أن الفرق بينهما لما ذكرنا،
وعلى هذا الخلاف إذا جمع بين شاة ذكية ، وبين
متروك التسمية عمدا ثم إذا جاز البيع في
أحدهما عندهما فهل يثبت الخيار فيه إن علم
بالحرام؟ يثبت ؛ لأن الصفقة تفرقت عليه ، وإن
لم يعلم لا ؛ لأنه رضي بالتفريق ، والله
سبحانه، وتعالى أعلم. "ومنها" أن يكون
مملوكا.لأن البيع تمليك فلا ينعقد فيما ليس
بمملوك كمن باع الكلأ في أرض مملوكة، والماء
الذي في نهره أو في بئره ؛ لأن الكلأ وإن كان
في أرض مملوكة فهو مباح، وكذلك الماء ما لم
يوجد الإحراز قال النبي: صلى الله عليه وسلم
"الناس شركاء في ثلاث"، والشركة العامة هي
الإباحة، وسواء خرج الكلأ بماء السماء من غير
مؤنة أو ساق الماء إلى أرض ولحقه مؤنة ؛ لأن
سوق الماء إليه ليس بإحراز فلم يوجد سبب الملك
فيه فبقي مباحا كما كان، وكذا بيع الكمأة،
وبيع صيد لم يوجد في أرضه لا ينعقد؛ لأنه مباح
غير مملوك لانعدام سبب الملك فيه، وكذا بيع
الحطب والحشيش والصيود التي في البراري،
والطير الذي لم يصد في الهواء ، والسمك الذي
لم يوجد في الماء. وعلى هذا يخرج بيع رباع
مكة، وإجارتها أنه لا يجوز عند أبي حنيفة رضي
الله عنه وروي عنه أنه يجوز، وبه أخذ الشافعي
رحمه الله لعمومات البيع من غير فصل بين أرض
الحرم، وغيرها، ولأن الأصل في الأراضي كلها أن
تكون محلا للتمليك إلا أنه امتنع تملك بعضها
شرعا لعارض الوقف كالمساجد، ونحوها، ولم يوجد
في الحرم فبقي محلا للتمليك. "ولنا" ما روي عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال: "إن
الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلقها لم تحل
لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت
لي ساعة من نهار لا يختلى خلاها ، ولا يعضد
شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يحتش حشيشها" أخبر
عليه الصلاة والسلام أن مكة حرام ، وهي اسم
للبقعة ، والحرام لا يكون محلا للتمليك. وروي
عن عبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله تعالى
عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"مكة حرام، وبيع رباعها حرام"، وهذا نص في الباب، ولأن الله تبارك وتعالى وضع للحرم حرمة، وفضيلة ،
ولذلك جعله سبحانه وتعالى مأمنا قال الله
تبارك وتعالى جل شأنه
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً}.فابتذاله بالبيع ، والشراء ، والتمليك ، والتملك امتهان ، وهذا لا
يجوز بخلاف سائر الأراضي ، وقيل: إن بقعة مكة
وقف حرم سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام
ولا حجة في العمومات ؛ لأنه خص منها الحرم
بالحديث المشهور، ويجوز بيع بناء بيوت مكة؛
لأن الحرم للبقعة لا للبناء. وروي عن أبي
حنيفة رضي الله عنه أنه قال: كره إجارة بيوت
مكة في الموسم من الحاج، والمعتمر، فأما من
المقيم والمجاور فلا بأس بذلك، وهو قول محمد
رحمه الله. ويجوز بيع أراضي الخراج، والقطيعة
، والمزارعة، والإجارة، والإكارة، والمراد من
الخراج أرض سواد العراق التي فتحها سيدنا عمر
رضي الله تعالى عنه ؛ لأنه من عليهم، وأقرهم
على أراضيهم فكانت مبقاة على ملكهم فجاز لهم
بيعها وأرض القطيعة هي الأرض التي قطعها
الإمام لقوم، وخصهم بها فملكوها بجعل الإمام
لهم فيجوز بيعها وأرض المزارعة أن يدفع
الإنسان أرضه إلى من يزرعها، ويقوم بها، وبهذا
لا تخرج عن كونها مملوكة، وأرض الإجارة هي
الأرض التي يأخذها الإنسان من صاحبها ليعمرها،
ويزرعها، وأرض الإكارة التي في أيدي الأكرة
فيجوز بيع هذه الأرض ؛ لأنها مملوكة لأصحابها.
وأما أرض الموات التي أحياها رجل بغير إذن
الإمام فلا يجوز بيعها عند أبي حنيفة رضي الله
عنه؛ لأنها لا تملك بدون إذن الإمام، وعندهما
يجوز بيعها؛ لأنها تملك بنفس الإحياء،
والمسألة تذكر في كتاب إحياء الموات. وذكر
القدوري رحمه الله أنه لا يجوز بيع دور بغداد،
وحوانيت السوق التي للسلطان عليها غلة ؛ لأنها
ليست بمملوكة لما روي أن المنصور أذن للناس في
بنائها، ولم يجعل البقعة ملكا لهم، والله
سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" وهو شرط انعقاد
البيع للبائع أن يكون مملوكا للبائع عند
ج / 5 ص -147-
البيع
فإن لم يكن لا ينعقد، وإن ملكه بعد ذلك بوجه
من الوجوه إلا السلم خاصة، وهذا بيع ما ليس
عنده
"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص
في السلم"، ولو
باع المغصوب فضمنه المالك قيمته نفذ بيعه ؛
لأن سبب الملك قد تقدم فتبين أنه باع ملك نفسه
، وههنا تأخر سبب الملك فيكون بائعا ما ليس
عنده فدخل تحت النهي، والمراد منه بيع ما ليس
عنده ملكا ؛ لأن قصة الحديث تدل عليه فإنه روي
أن
"حكيم بن حزام كان يبيع الناس أشياء لا
يملكها، ويأخذ الثمن منهم ثم يدخل السوق
فيشتري، ويسلم إليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال لا تبع ما ليس عندك"، ولأن بيع ما ليس عنده بطريق الأصالة عن نفسه تمليك ما لا يملكه
بطريق الأصالة، وأنه محال. وهو الشرط فيما
يبيعه بطريق الأصالة عن نفسه فأما ما يبيعه
بطريق النيابة عن غيره ينظر إن كان البائع
وكيلا وكفيلا فيكون المبيع مملوكا للبائع ليس
بشرط، وإن كان فضوليا فليس بشرط للانعقاد
عندنا بل هو من شرائط النفاذ فإن بيع الفضولي
عندنا منعقد موقوف على إجازة المالك، فإن أجاز
نفذ، وإن رد بطل، وعند الشافعي رحمه الله هو
شرط الانعقاد لا ينعقد بدونه، وبيع الفضولي
باطل عنده، وسيأتي إن شاء الله تعالى. "ومنها"
أن يكون مقدور التسليم عند العقد، فإن كان
معجوز التسليم عنده لا ينعقد، وإن كان مملوكا
له كبيع الآبق في جواب ظاهر الروايات حتى لو
ظهر يحتاج إلى تجديد الإيجاب والقبول إلا إذا
تراضيا فيكون بيعا مبتدأ بالتعاطي فإن لم
يتراضيا وامتنع البائع من التسليم لا يجبر على
التسليم، ولو سلم وامتنع المشتري من القبض لا
يجبر على القبض وذكر الكرخي رحمه الله أنه
ينعقد بيع الآبق حتى لو ظهر وسلم يجوز، ولا
يحتاج إلى تجديد البيع إلا إذا كان القاضي
فسخه بأن رفعه المشتري إلى القاضي فطالبه
بالتسليم وعجز عن التسليم ففسخ القاضي البيع
بينهما ثم ظهر العبد. وجه قول الكرخي رحمه
الله أن الإباق لا يوجب زوال الملك ألا ترى
أنه لو أعتقه أو دبره ينفذ، ولو، وهبه من ولده
الصغير يجوز وكان ملكا له فقد باع مالا مملوكا
له إلا أنه لم ينفذ للحال للعجز عن التسليم
فإن سلم زال المانع فينفذ، وصار كبيع المغصوب
الذي في يد الغاصب إذا باعه المالك لغيره أنه
ينعقد موقوفا على التسليم لما قلنا كذا هذا
وجه ظاهر الروايات أن القدرة على التسليم لذا
العاقد شرط انعقاد العقد؛ لأنه لا ينعقد إلا
لفائدة، ولا يفيد إذا لم يكن قادرا على
التسليم، والعجز عن التسليم ثابت حالة العقد،
وفي حصول القدرة بعد ذلك شك، واحتمال قد يحصل
وقد لا يحصل، وما لم يكن منعقدا بيقين لا
ينعقد لفائدة تحتمل الوجود والعدم على الأصل
المعهود أن ما لم يكن ثابتا بيقين أنه لا يثبت
بالشك، والاحتمال بخلاف ما إذا أبق بعد البيع
قبل القبض أنه لا ينفسخ ؛ لأن القدرة على
التسليم كانت ثابتة لذا العقد فانعقد ثم زالت
على وجه يحتمل عودها فيقع الشك في زوال
المنعقد بيقين. والثابت باليقين لا يزول بالشك
فهو الفرق، بخلاف بيع المغصوب من غير الغاصب
أنه ينعقد موقوفا على التسليم حتى لو سلم
ينفذ، ولأن هناك المالك قادر على التسليم
بقدرة السلطان والقاضي وجماعة المسلمين إلا
أنه ينفذ للحال لقيام يد الغاصب صورة فإذا سلم
زال المانع فينفذ بخلاف الآبق ؛ لأنه معجوز
التسليم على الإطلاق إذ لا تصل إليه يد أحد
لما أنه لا يعرف مكانه فكان العجز متقررا
والقدرة محتملة موهومة فلا ينعقد مع الاحتمال
فأشبه بيع الآبق بيع الطير الذي لم يوجد في
الهواء، وبيع السمك الذي لم يوجد في الماء،
وذلك باطل كذا هذا، ولو جاء إنسان إلى مولى
العبد فقال: إن عبدك عند فلان فبعه مني، وأنا
أقبضه منه فصدقه، وباعه منه لا ينفذ لما فيه
من عذر القدرة على القبض لكنه ينعقد حتى لو
قبضه ينفذ بخلاف الفصل المتقدم ؛ لأن القدرة
على القبض ههنا ثابتة في زعم المشتري إلا أن
احتمال المنع قائم فانعقد موقوفا على قبضه،
فإذا قبضه تحقق ما زعمه فينفذ بخلاف الفصل
الأول ؛ لأن العجز عن التسليم للحال متحقق
فيمنع الانعقاد. ولو أخذه رجل فجاء إلى مولاه
فاشتراه منه جاز الشراء ؛ لأن المانع هو العجز
عن التسليم ، ولم يوجد في حقه ، وهذا البيع لا
يدخل تحت النهي ؛ لأن النهي عن بيع الآبق ،
وهذا ليس بآبق في حقه ثم إذا اشترى منه لا
يخلو إما إن أحضر العبد مع نفسه ، وإما إن لم
يحضره فإن أحضره صار قابضا له عقيب العقد بلا
فصل ، وإن لم يحضره مع نفسه ينظر إن كان أخذه
ليرده على صاحبه ، وأشهد على ذلك لا يصير
قابضا له ما لم يصل إليه ؛ لأن قبضه قبض أمانة
، وقبض الأمانة
ج / 5 ص -148-
لا ينوب
عن قبض الضمان فلا بد من التجديد بالوصول إليه
حتى لو هلك العبد قبل الوصول يهلك على البائع،
ويبطل العقد؛ لأنه مبيع هلك قبل القبض، وإذا
وصل إليه صار قابضا له بنفس الوصول، ولا يشترط
القبض بالبراجم؛ لأن معنى القبض هو التمكين،
والتخلي، وارتفاع الموانع عرفا وعادة حقيقة،
وإن كان أخذه لنفسه لا ليرده على صاحبه صار
قابضا له عقيب العقد بلا فصل حتى لو هلك قبل
الوصول إليه يهلك على المشتري؛ لأن قبضه قبض
ضمان، وقبض الشراء أيضا قبض الضمان فتجانس
القبضان فتناوبا، ولو كان أخذه ليرده، ولكنه
لم يشهد على ذلك فهو على الاختلاف المعروف بين
أبي حنيفة، وصاحبيه عند أبي حنيفة عليه الرحمة
يصير قابضا له عقيب العقد؛ لأن هذا قبض ضمان
عنده، وعندهما لا يصير قابضا إلا بعد الوصول
إليه ؛ لأن هذا قبض أمانة عندهما، وهي من
مسائل كتاب الإباق واللقطة. وعلى هذا بيع
الطائر الذي كان في يده، وطار أنه لا ينعقد في
ظاهر الرواية، وعلى قياس ما ذكره الشافعي رحمه
الله ينعقد، وعلى هذا بيع السمكة التي أخذها
ثم ألقاها في حظيرة سواء استطاع الخروج عنها
أو لا بعد أن كان لا يمكنه أخذها بدون
الاصطياد، وإن كان يمكنه أخذها من غير اصطياد
يجوز بيعها بلا خلاف ؛ لأنه مقدور التسليم كذا
البيع، وعلى هذا يخرج بيع اللبن في الضرع؛ لأن
اللبن لا يجتمع في الضرع دفعة واحدة بل شيئا
فشيئا فيختلط المبيع بغيره على وجه يتعذر
التمييز بينهما فكان المبيع معجوز التسليم عند
البيع فلا ينعقد، وكذا بيع الصوف على ظهر
الغنم في ظاهر الرواية؛ لأنه ينمو ساعة فساعة
فيختلط الموجود عند العقد بالحادث بعده على
وجه لا يمكن التمييز بينهما فصار معجوز
التسليم بالجز والنتف واستخراج أصله، وهو غير
مستحق بالعقد، وروي عن ابن عباس رضي الله
عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام
"أنه نهى عن بيع الصوف على ظهر الغنم". وروي عن أبي يوسف أنه جوز بيعه، والصلح عليه؛ لأنه يجوز جزه قبل
الذبح فيجوز بيعه كبيع القصيل في الأرض.
"ووجه" الفرق بين القصيل، والصوف لظاهر
الرواية أن الصوف لا يمكن جزه من أصله من غير
ضرر يلحق الشاة بخلاف القصيل. ولا ينعقد بيع
الدين من غير من عليه الدين؛ لأن الدين إما أن
يكون عبارة عن مال حكمي في الذمة، وإما أن
يكون عبارة عن فعل تمليك المال وتسليمه، وكل
ذلك غير مقدور التسليم في حق البائع، ولو شرط
التسليم على المديون لا يصح أيضا؛ لأنه شرط
التسليم على غير البائع فيكون شرطا فاسدا
فيفسد البيع، ويجوز بيعه ممن عليه؛ لأن المانع
هو العجز عن التسليم، ولا حاجة إلى التسليم
ههنا، ونظير بيع المغصوب أنه يصح من الغاصب،
ولا يصح من غيره إذا كان الغاصب منكرا، ولا
بينة للمالك. ولا يجوز بيع المسلم فيه؛ لأن
المسلم فيه مبيع، ولا يجوز بيع المبيع قبل
القبض. وهل يجوز بيع المجمد؟ فنقول: لا خلاف
في أنه إذا سلم المجمدة أولا إلى المشتري أنه
يجوز أما إذا باع ثم سلم قال بعض مشايخنا: لا
يجوز؛ لأنه إلى أن يسلم بعضه يذوب فلا يقدر
على تسليم جميعه إلى المشتري، وقال بعضهم:
يجوز، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه
الله إذا باعه، وسلمه من يومه ذلك يجوز، وإن
سلمه بعد أيام لا يجوز، وبه أخذ الفقيه أبو
الليث عليه الرحمة؛ لأنه في اليوم لا ينقص
نقصانا له حصة من الثمن. "وأما" الذي يرجع إلى
النفاذ فنوعان أحدهما الملك أو الولاية أما
الملك.فهو أن يكون المبيع مملوكا للبائع فلا
ينفذ بيع الفضولي لانعدام الملك، والولاية
لكنه ينعقد موقوفا على إجازة المالك ، وعند
الشافعي رحمه الله هو شرط الانعقاد أيضا حتى
لا ينعقد بدونه، وأصل هذا أن تصرفات الفضولي
التي لها مجيز حالة العقد منعقدة موقوفة على
إجازة المجيز من البيع، والإجارة، والنكاح،
والطلاق، ونحوها فإن أجاز ينفذ ، وإلا فيبطل ،
وعند الشافعي رحمه الله تصرفاته باطلة. "وجه"
قول الشافعي رحمه الله أن صحة التصرفات
الشرعية بالملك أو بالولاية، ولم يوجد أحدهما
فلا تصح ، وهذا ؛ لأن صحة التصرف الشرعي هو
اعتباره في حق الحكم الذي، وضع له شرعا لا
يعقل للصحة معنى سوى هذا. "فأما" الكلام الذي
لا حكم له لا يكون صحيحا شرعا ، والحكم الذي
وضع له البيع شرعا وهو الملك لا يثبت حال
وجوده لعدم شرطه، وهو الملك أو الولاية فلم
يصح ، ولهذا لم يصح شراؤه فكذا بيعه. "ولنا"
عمومات البيع من نحو قوله تبارك، وتعالى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وقوله عز شأنه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
ج / 5 ص -149-
وقوله
سبحانه وتعالى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} شرع سبحانه وتعالى البيع والشراء والتجارة وابتغاء الفضل من غير فصل
بين ما إذا وجد من المالك بطريق الأصالة، وبين
ما إذا وجد من الوكيل في الابتداء أو بين ما
إذا، وجدت الإجارة من المالك في الانتهاء وبين
وجود الرضا في التجارة عند العقد أو بعده فيجب
العمل بإطلاقها إلا ما خص بدليل. وروي عن
النبي عليه الصلاة والسلام
"أنه دفع
دينارا إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه وأمره
أن يشتري له أضحية فاشترى شاتين، ثم باع
إحداهما بدينار، وجاء بدينار وشاة إلى النبي
عليه الصلاة والسلام فدعا له بالبركة، وقال:
عليه الصلاة والسلام بارك الله في صفقة يمينك"، ومعلوم أنه لم يكن حكيم مأمورا ببيع الشاة فلو لم ينعقد تصرفه لما
باع، ولما دعا له رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالخير، والبركة على ما فعل، ولأنكر عليه
؛ لأن الباطل ينكر، ولأن تصرف العاقل محمول
على الوجه الأحسن ما أمكن، وقد أمكن حمله على
الأحسن ههنا، وقد قصد البر به والإحسان إليه
بالإعانة على ما هو خير للمالك في زعمه لعلمه
بحاجته إلى ذلك لكن لم يتبين إلى هذه الحالة
لموانع، وقد يغلب على ظنه زوال المانع فأقدم
عليه نظرا لصديقه، وإحسانا إليه لبيان المحمدة
والثناء لتحمل مؤنة مباشرة التصرف الذي هو
محتاج إليه والثواب من الله عز وجل بالإعانة
على البر والإحسان قال الله تبارك وتعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وقال تعالى جل شأنه
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إلا أن في هذه التصرفات ضررا في الجملة؛ لأن للناس رغائب في الأعيان،
وقد يقدم الرجل على شيء ظهرت له الحاجة عنه
بإزالته عن ملكه لحصول غرضه بدون ذلك ونحو ذلك
فيتوقف على إجازة المالك حتى لو كان الأمر على
ما ظنه مباشر التصرف إجازة وحصل له النفع من
جهته، فينال الثواب والثناء وإلا فلا يجيزه،
ويثني عليه بقصد الإحسان وإيصال النفع إليه
فلا يجوز القول بإهدار هذا التصرف، وإلحاق
كلامه، وقصده بكلام المجانين، وقصدهم مع ندب
الله عز وجل إلى ذلك، وحثه عليه لما تلونا من
الآيات، وقوله صحة التصرف عبارة عن اعتباره في
حق الحكم قلنا نعم، وعندنا هذا التصرف مفيد في
الجملة، وهو ثبوت الملك فيما يتضرر المالك
بزواله موقوفا على الإجازة إما من كل وجه أو
من بوجه لكن لا يظهر شيء من ذلك عند العقد،
وإنما يظهر عند الإجازة، وهو تفسير التوقف
عندنا أن يتوقف في الجواب في الحال أنه صحيح
في حق الحكم أم لا، ولا يقطع القول به للحال،
ولكن يقطع القول بصحته عند الإجازة، وهذا
جائز، وله نظائر في الشرع، وهو البيع بشرط
الخيار للبائع أو المشتري على ما عرف. "وأما"
شراء الفضولي ففيه تفصيل نذكره إن شاء الله
تعالى في موضعه. ثم الإجازة إنما تلحق تصرف
الفضولي عندنا بشرائط. "منها" أن يكون له مجيز
عند وجوده فما لا مجيز له عند وجوده لا تلحقه
الإجازة؛ لأن ما له مجيز متصور منه الإذن
للحال، وبعد وجود التصرف فكان الانعقاد عند
الإذن القائم مفيدا فينعقد، وما لا مجيز له لا
يتصور الإذن به للحال، والإذن في المستقبل قد
يحدث، وقد لا يحدث فإن حدث كان الانعقاد
مفيدا، وإن لم يحدث لم يكن مفيدا فلا ينعقد مع
الشك في حصول الفائدة على الأصل المعهود أن ما
لم يكن ثابتا بيقين لا يثبت مع الشك، وإذا لم
ينعقد لا تلحقه الإجازة؛ لأن الإجازة للمنعقد،
وعلى هذا يخرج ما إذا طلق الفضولي امرأة
البالغ، أو أعتق عبده أو وهب ماله أو تصدق به
أنه ينعقد موقوفا على الإجازة؛ لأن البالغ
يملك هذه التصرفات بنفسه فكان لها مجيزا حال
وجودها فيتوقف على إجازة المالك، وبمثله لو
فعل ذلك على الصبي لا ينعقد؛ لأن الصبي ليس من
أهل هذه التصرفات بنفسه ألا ترى لو فعل ذلك
بنفسه لا تنعقد؟ فلم يكن لها مجيز حال وجودها
فلم تنعقد. وكذلك الصبي المحجور عليه إذا باع
مال نفسه أو اشترى أو تزوج امرأة أو زوج أمته
أو كاتب عبده أو فعل بنفسه ما لو فعل عليه،
وليه لجاز عليه يتوقف على إجازة، وليه ما دام
صغيرا أو على إجازته بنفسه بعد البلوغ إن لم
يوجد من وليه في حال صغره حتى لو بلغ الصبي
قبل إجازة الولي فأجاز بنفسه جاز ، ولا يتوقف
على نفس البلوغ من غير إجازة ؛ لأن هذه
التصرفات لها مجيز حال، وجودها ألا ترى أنه لو
فعلها ، وليه جازت فاحتمل التوقف على الإجازة
، وإنما يتوقف على إجازته بنفسه أيضا بعد
البلوغ كما يتوقف على إجازة ، وليه في حال
صغره ؛ لأنه لما بلغ فقد ملك الإنشاء فأولى أن
يملك الإجازة ، ولأن ، ولايته على نفسه فوق ،
ولاية ، وليه عليه في حال صغره فلما
ج / 5 ص -150-
جاز
بإجازة وليه فلأن يجوز بإجازة نفسه أولى ، ولا
يجوز بمجرد البلوغ؛ لأن الإجازة لها حكم
الإنشاء من وجه، وأنه فعل فاعل مختار، والبلوغ
ليس صنعه ، فلا يعقل إجازة ، وكذا إذا وكل
الصبي، وكيلا بهذه التصرفات ففعل الوكيل قبل
بلوغ الصبي أو بعده توقف على إجازته بعد
البلوغ إلا التوكيل بالشراء فإنه لا يتوقف بل
ينفذ على الوكيل؛ لأن الشراء وجد نفاذا على
الوكيل فلا يتوقف إلا إذا بلغ الصبي قبل أن
يشتري الوكيل فأجاز التوكيل، ثم اشترى الوكيل
بعد ذلك فيكون الشراء للصبي لا للوكيل ؛ لأن
إجازة الوكالة منه بعد البلوغ بمنزلة إنشاء
التوكيل. ولو وكله ابتداء لكان الشراء له لا
للوكيل كذا هذا، وبمثله إذا طلق الصبي امرأته
أو خالعها أو أعتق عبده على غير مال أو على
مال أو وهب ماله أو تصدق به أو زوج عبده امرأة
أو باع ماله بمحاباة أو اشترى شيئا بأكثر من
قيمته قدر ما لا يتغابن الناس في مثله عادة أو
غير ذلك من التصرفات مما فعله، وليه في حال
صغره لا يجوز عليه لا ينعقد حتى لو أجاز وليه
أو الصبي بعد البلوغ لا يحل ؛ لأن هذه
التصرفات ليس لها مجيز حال وجودها، فلا تحتمل
التوقف على الإجازة، إلا إذا أجازه الصبي بعد
البلوغ بلفظ يصلح للإنشاء بأن يقول بعد
البلوغ: أوقعت ذلك الطلاق، أو ذلك العتاق
فيجوز ، ويكون ذلك إنشاء الإجازة ولو وكل
الصبي وكيلا بهذه التصرفات، ففعل الوكيل ينظر
، إن فعل قبل البلوغ لا يتوقف، وهو باطل؛ لأن
فعل الوكيل كفعل الموكل، ولو فعل الصبي بنفسه
لا يتوقف ، فكذا إذا فعله الوكيل، وإن فعل بعد
البلوغ يتوقف على إجازته بمنزلة الفضولي على
البائع، وإن بلغ الصبي فأجاز التوكيل بعد
البلوغ قبل أن يفعل الوكيل شيئا ثم فعل جاز ؛
لأن إجازة التوكيل منه بمنزلة إنشائه، وكذا
وصية الصبي لا تنعقد؛ لأنها تصرف لا مجيز له
حال وجوده.ألا ترى: أنه لو فعل الولي لا يجوز
عليه؟ فلا يتوقف، وسواء أطلق الوصية أو أضافها
إلى حال البلوغ؛ لما قلنا حتى لو أوصى ثم مات
قبل البلوغ، أو بعده لا تجوز وصيته إلا إذا
بلغ، وأجاز تلك الوصية بعد البلوغ فتجوز؛ لأن
الإجازة منه بمنزلة إنشاء الوصية، ولو أنشأ
الوصية بعد البلوغ صح كذا هذا. وعلى هذا تصرف
المكاتب والعبد المأذون أن ما له مجيز حال
وجوده يتوقف على إجازة المولى، وما لا مجيز له
حالة وجوده يبطل، ولا يتوقف لما ذكرنا من
الفقه إلا أن بين المكاتب، والعبد المأذون،
والصبي فرقا من وجه، وهو أن المكاتب أو
المأذون إذا فعل ما يتوقف على الإجازة بأن زوج
نفسه امرأة ثم عتق ينفذ بنفس الإعتاق، وفي
الصبي لا ينفذ بنفس البلوغ ما لم توجد
الإجارة. "ووجه" الفرق أن العبد بعد الإذن
يتصرف بمالكية نفسه على ما عرف، فكان ينبغي أن
ينفذ للحال، إلا أنه توقف لحق المولى، فإذا
عتق فقد زال المانع فنفذ، بخلاف الصبي فإن في
أهليته قصورا لقصور عقله فانعقد موقوفا على
الإجازة، والبلوغ ليس بإجازة على ما مر.
"وأما" حكم شراء الفضولي فجملة الكلام فيه أن
الفضولي إذا اشترى شيئا لغيره فلا يخلو إما إن
أضاف العقد إلى نفسه، وإما إن أضافه إلى الذي
اشترى له فإن أضافه إلى نفسه كان المشترى له
سواء وجدت الإجازة من الذي اشترى له أو لم
توجد ؛ لأن الشراء إذا وجد نفاذا على العاقد
نفذ عليه، ولا يتوقف ؛ لأن الأصل أن يكون تصرف
الإنسان لنفسه لا لغيره قال الله تعالى عز من
قائل
{لَهَا مَا كَسَبَتْ}.
وقال عز
من قائل
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}
، وشراء الفضولي كسبه حقيقة، فالأصل أن يكون له إلا إذا جعله لغيره أو
لم يجد نفاذا عليه لعدم الأهلية فيتوقف على
إجازة الذي اشترى له بأن كان الفضولي صبيا
محجورا أو عبدا محجورا فاشترى لغيره يتوقف على
إجازة ذلك الغير ؛ لأن الشراء لم يجد نفاذا
عليه فيتوقف على إجازة الذي اشترى له ضرورة
فإن أجاز نفذ ، وكانت العهدة عليه لا عليهما ؛
لأنهما ليسا من أهل لزوم العهدة ، وإن أضاف
العقد إلى الذي اشترى له بأن قال الفضولي
للبائع: بع عبدك هذا من فلان بكذا، فقال: بعت
، وقبل الفضولي البيع فيه لأجل فلان أو قال
البائع: بعت هذا العبد من فلان بكذا ، وقبل
المشتري الشراء منه لأجل فلان فإنه يتوقف على
إجازة المشتري له ؛ لأن تصرف الإنسان، وإن كان
له على اعتبار الأصل إلا أن له أن يجعله لغيره
بحق الوكالة ، وغير ذلك ، وههنا جعله لغيره
فينعقد موقوفا على إجازته. ولو قال الفضولي
للبائع: اشتريت منك هذا العبد بكذا لأجل فلان
، فقال: بعت أو قال البائع للفضولي: بعت منك
هذا العبد بكذا لفلان فقال: اشتريت لا يتوقف ،
وينفذ الشراء عليه ؛ لأنه لم توجد الإضافة إلى
فلان
ج / 5 ص -151-
في
الإيجاب والقبول ، وإنما وجدت في أحدهما ،
وأحدهما شطر العقد فلا يتوقف لما ذكرنا أن
الأصل أن لا يتوقف ، وإنما توقف لضرورة
الإضافة من الجانبين فإذا لم يوجد يجب العمل
بالأصل ، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء أنه إذا
اشترى شيئا يقع شراؤه للموكل ، وإن أضاف العقد
إلى نفسه لا إلى الموكل ؛ لأنه لما أمره
بالشراء فقد أنابه مناب نفسه فكان تصرف الوكيل
كتصرفه بنفسه ، ولو اشترى بنفسه كان المشترى
له كذا هذا ، والله تعالى أعلم، ولو اشترى
الفضولي شيئا لغيره ، ولم يضف المشترى إلى
غيره حتى لو كان الشراء له فظن المشتري،
والمشترى له أن المشترى يكون للمشترى له فسلم
إليه بعد القبض بالثمن الذي اشتراه به، وقبل
المشترى له صح ذلك. ويجعل ذلك تولية كأنه ولاه
منه بما اشترى، ولو علم المشتري بعد ذلك أن
الشراء نفذ عليه والمشترى له فأراد أن يسترد
من صاحبه بغير رضاه لم يكن له ذلك ؛ لأن
التولية منه قد صحت، فلا يملك الرجوع كمن
اشترى منقولا، فطلب جاره الشفعة، فظن المشتري
أن له شفعة فسلم إليه، ثم أراد أحدهما أن ينقض
ذلك من غير رضا الآخر لم يكن له ذلك؛ لأنه لما
سلم إليه صار ذلك بيعا بينهما، ولو اختلفا
فقال المشترى له: كنت أمرتك بالشراء، وقال
المشتري: اشتريته لك بغير أمرك فالقول قول
المشترى له ؛ لأن المشتري لما قال: اشتريته لك
كان ذلك إقرارا منه بأنه اشتراه بأمره ؛ لأن
الشراء له لا يكون إلا بأمره عادة فكان القول
قوله ثم إن أخذه بقضاء القاضي لا يحل له ذلك
إلا إذا كان صادقا في كلامه فيما بينه وبين
الله جل شأنه وإن أخذه بغير قضاء طاب له؛ لأنه
أخذه برضاه فصار ذلك بيعا منهما بتراضيهما
"ومنها" قيام البائع والمشتري حتى لو هلك
أحدهما قبل الإجازة من المالك لا تلحقه
الإجازة. "ومنها" قيام المالك حتى لو هلك
المالك قبل إجازته لا يجوز بإجازة ورثته.
"ومنها" قيام المبيع حتى لو هلك قبل إجازة
المالك لا يجوز بإجازة المالك غير أنه إن هلك
في يد المالك يملك بغير شيء، وإن هلك بعد
التسليم إلى المشتري فالمالك بالخيار إن شاء
ضمن البائع ، وإن شاء ضمن المشتري لوجود سبب
الضمان من كل واحد منهما، وهو التسليم من
البائع والقبض من المشتري ؛ لأن تسليم مال
الغير وقبضه بغير إذن صاحبه كل واحد منهما سبب
لوجوب الضمان، وأيهما اختار تضمينه برئ الآخر،
ولا سبيل عليه بحال ؛ لأنه لما ضمن أحدهما فقد
ملك المضمون فلا يملك تمليكه من غيره لما فيه
من الاستحالة، وهو تمليك شيء واحد في زمان
واحد من اثنين على الكمال، فإن اختار تضمين
المشتري رجع المشتري بالثمن على البائع، وبطل
البيع، وليس له أن يرجع عليه بما ضمن كما في
المشتري من الغاصب، وإن اختار تضمين البائع
ذكر الطحاوي رحمه الله أنه ينظر إن كان قبض
البائع قبض ضمان بأن كان مغصوبا في يده نفذ
بيعه ؛ لأنه لما ضمنه فقد ملك المغصوب من وقت
الغصب فتبين أنه باع ملك نفسه فينفذ، وإن كان
قبضه قبض أمانة بأن كان وديعة عنده فباعه
وسلمه إلى المشتري لا ينفذ بيعه ؛ لأن الضمان
إنما وجب عليه بسبب متأخر عن البيع ، وهو
التسليم فيملك المضمون من ذلك الوقت لا من وقت
البيع فيكون بائعا مال غيره بغير إذنه فلا
ينفذ ، وذكر محمد رحمه الله في ظاهر الرواية.
وقال: يجوز البيع بتضمين البائع وقيل: هذا
محمول على ما إذا سلمه البائع ، أولا ، ثم
باعه ؛ لأنه إذا سلمه أولا فقد صار مضمونا
عليه بالتسليم فتقدم سبب الضمان البيع فتبين
أنه باع مال نفسه فينفذ ، ثم إن كان قيام
الأربعة التي ذكرنا شرطا للحوق الإجازة ؛ لأن
الإجازة إنما تلحق القيام ، وقيام العقد بهذه
الأربعة ، ولأن الإجازة لها حكم الإنشاء من
وجه، ولا يتحقق الإنشاء بدون العاقدين
والمعقود عليه لذلك كان قيامها شرطا للحوق
الإجازة فإن وجد صحت الإجازة ، وصار البائع
بمنزلة الوكيل إذ الإجازة اللاحقة بمنزلة
الوكالة السابقة ، ويكون الثمن للمالك إن كان
قائما ؛ لأنه بدل ملكه، وإن هلك في يد البائع
يهلك أمانة كما إذا كان وكيلا في الابتداء ،
وهلك الثمن في يده ، ولو فسخه البائع قبل
الإجازة انفسخ واسترد المبيع إن كان قد سلم ،
ويرجع المشتري بالثمن على البائع إن كان قد
نقده، وكذا إذا فسخه المشتري ينفسخ، وكذا إذا
فسخه الفضولي فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع
، والنكاح فإن الفضولي من جانب الرجل في باب
النكاح إذا زوجت المرأة نفسها لا يملك الفسخ
عنده. "ووجه" الفرق له أن البيع الموقوف لو
اتصلت به الإجازة فالحقوق ترجع إلى العاقد فهو
بالفسخ يدفع العهدة عن نفسه فله ذلك، بخلاف
ج / 5 ص -152-
النكاح؛
لأن الحقوق في باب النكاح لا ترجع إلى العاقد،
بل هو سفير ومعبر، فإذا فرغ عن السفارة
والعبارة التحق بالأجانب، وأما قيام الثمن في
يد البائع هل هو شرط لصحة الإجازة أم لا
فالأمر لا يخلو إما إن كان الثمن دينا
كالدراهم، والدنانير، والفلوس النافقة،
والموزون الموصوف، والمكيل الموصوف في الذمة،
وإما إن كان عينا كالعروض فإن كان دينا فقيامه
في يد البائع ليس بشرط للحوق الإجازة؛ لأن
الدين لا يتعين بالتعيين فكان قيامه بقيام
الذمة، وإن كان عينا فقيامه شرط للحوق الإجازة
فصار الحاصل أن قيام الأربعة شرط صحة الإجازة
إذا كان الثمن دينا وإذا كان عينا فقيام الخمس
شرط فإن وجدت الإجازة عند قيام الخمس جاز،
ويكون الثمن للبائع لا للمالك؛ لأن الثمن إذا
كان عينا كان البائع مشتريا من وجه، والشراء
لا يتوقف على الإجازة بل ينفذ على المشتري إذا
وجد نفاذا عليه بأن كان أهلا، وهو أهل،
والمالك يرجع عليه بقيمة ماله إن لم يكن له
مثل، وبمثله إن كان له مثل؛ لأنه عقد لنفسه،
ونفذ الثمن من مال غيره فيتوقف النقد على
الإجازة فإذا جازه مالكه بعد النقد فيرجع عليه
بمثله، أو بقيمته، بخلاف ما إذا كان الثمن
دينا؛ لأنه إذا كان دينا كان العاقد بائعا من
كل وجه، ولا يكون مشتريا لنفسه أصلا فتوقف على
إجازة المالك، فإذا أجاز كان مجيزا للعقد فكان
بدله له، ولو هلكت العين في يد الفضولي بطل
العقد، ولا تلحقه الإجازة، ويرد المبيع إلى
صاحبه، ويضمن للمشتري مثله إن كان له مثل
وقيمته إن لم يكن له مثل؛ لأنه قبضه بعقد
فاسد، ولو تصرف الفضولي في العين قبل الإجازة
ينظر إن تصرف فيه قبل القبض فتصرفه باطل؛ لأن
الملك في العقد الفاسد يقف على القبض، وإن
تصرف فيه بعد ما قبض بإذن المشتري صريحا أو
دلالة يصح تصرفه؛ لأنه تصرف في ملك نفسه،
وعليه مثله أو قيمته؛ لأن المقبوض بالبيع
الفاسد مضمون به، ولا تلحقه الإجازة؛ لأنه ملك
بجواز تصرفه فيه فلا يحتمل الإجازة بعد ذلك،
ولو تصرف المشتري في المبيع قبل الإجازة، لا
يجوز تصرفه سواء كان قبض المبيع أو لم يقبضه؛
لعدم إذن مالكه والله تعالى أعلم. "وأما"
الولاية.فالولاية في الأصل نوعان: نوع يثبت
بتولية المالك، ونوع يثبت شرعا لا بتولية
المالك، أما الأول فهو ولاية الوكيل فينفذ
تصرف الوكيل ، وإن لم يكن المحل مملوكا له
لوجود الولاية المستفادة من الموكل. وأما
الثاني فهو ولاية الأب، والجد أب الأب ،
والوصي ، والقاضي ، وهو نوعان: أيضا ولاية
النكاح، وولاية غيره من التصرفات أما ولاية
النكاح فموضع بيانها كتاب النكاح. وأما ولاية
غيره من المعاملات فالكلام فيه في مواضع: في
بيان سبب هذه الولاية، وفي بيان شرائطها، وفي
بيان ترتيب الولاية أما الأول: فسبب هذا النوع
من الولاية في التحقيق شيئان: أحدهما الأبوة ،
والثاني القضاء ؛ لأن الجد من قبل الأب أب لكن
بواسطة، ووصي الأب والجد استفاد الولاية
منهما، فكان ذلك ولاية الأبوة من حيث المعنى،
ووصي القاضي يستفيد الولاية من القاضي فكان
ذلك ولاية القضاء معنى، أما الأبوة فلأنها
داعية إلى كمال النظر في حق الصغير لوفور شفقة
الأب ، وهو قادر على ذلك لكمال رأيه وعقله،
والصغير عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، وثبوت
ولاية النظر للقادر على العاجز عن النظر أمر
معقول مشروع ؛ لأنه من باب الإعانة على البر،
ومن باب الإحسان ، ومن باب إعانة الضعيف ،
وإغاثة اللهفان ، وكل ذلك حسن عقلا ، وشرعا ،
ولأن ذلك من باب شكر النعمة ، وهي نعمة القدرة
إذ شكر كل نعمة على حسب النعمة فشكر نعمة
القدرة معونة العاجز، وشكر النعمة واجب عقلا ،
وشرعا فضلا عن الجواز ، ووصي الأب قائم مقامه
؛ لأنه رضيه واختاره فالظاهر أنه ما اختاره من
بين سائر الناس إلا لعلمه بأن شفقته على ورثته
مثل شفقته عليهم ، ولولا ذلك لما ارتضاه من
بين سائر الناس فكان الوصي خلفا عن الأب ،
وخلف الشيء قائم مقامه كأنه هو ، والجد له
كمال الرأي ، ووفور الشفقة إلا أن شفقته دون
شفقة الأب فلا جرم تأخرت ولايته عن ولاية الأب
وولاية وصيه ، ووصي وصيه أيضا ؛ لأن تلك ولاية
الأب من حيث المعنى على ما ذكرنا ، ووصي الجد
قائم مقامه ؛ لأنه استفاد الولاية من جهته ،
وكذا وصي وصيه ، وأما القضاء فلأن القاضي
لاختصاصه بكمال العلم والعقل والورع والتقوى
والخصال الحميدة أشفق الناس على اليتامى فصلح
وليا ، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"السلطان ولي من لا، ولي له" إلا أن شفقته دون شفقة الأب والجد ؛ لأن شفقتهما تنشأ عن القرابة ،
وشفقته لا، وكذا وصيه
ج / 5 ص -153-
فتأخرت
ولايته عن ولايتهما.
"فصل" وأما شرائطها فأنواع: بعضها يرجع إلى الولي، وبعضها يرجع إلى المولى
عليه، وبعضها يرجع إلى المولى فيه أما الذي
يرجع إلى الولي فأشياء."منها" أن يكون حرا فلا
تثبت له ولاية العبد لقوله سبحانه وتعالى
{ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}، ولأنه لا ولاية له على نفسه فكيف تثبت له الولاية على غيره؟.
"ومنها" أن يكون عاقلا.فلا ولاية للمجنون لما
قلنا. "ومنها" إسلام الولي إذا كان المولى
عليه مسلما، فإن كان كافرا لا تثبت له عليه
الولاية لقوله: عز وجل
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}، ولأن تنفيذ الولاية للكافر على المسلم يشعر بالذل به، وهذا لا يجوز.
"وأما" الذي يرجع إلى المولى عليه.فالصغر فلا
تثبت الولاية على الكبير ؛ لأنه يقدر على دفع
حاجة نفسه، فلا حاجة إلى إثبات الولاية عليه
لغيره ، وهذا ؛ لأن الولاية على الحر تثبت مع
قيام المنافي للضرورة ولا ضرورة حالة القدرة
فلا تثبت. "وأما" الذي يرجع إلى المولى فيه
فهو أن لا يكون من التصرفات الضارة بالمولى
عليه لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ضرر، ولا ضرار في الإسلام"، وقال عليه الصلاة والسلام:
"من لم يرحم صغيرنا فليس منا"، والإضرار بالصغير ليس من المرحمة في شيء فليس له أن يهب مال الصغير
من غيره بغير عوض؛ لأنه إزالة ملكه من غير عوض
فكان ضررا محضا، وكذا ليس له أن يهب بعوض عند
أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعند محمد له ذلك.
"وجه" قوله أن الهبة بعوض معاوضة المال بالمال
فكان في معنى البيع فملكها كما يملك البيع.
"ولهما" أنها هبة ابتداء بدليل أن الملك فيها
يقف على القبض ، وذلك من أحكام الهبة ، وإنما
تصير معاوضة في الانتهاء، وهو لا يملك الهبة
فلم تنعقد هبته فلا يتصور أن تصير معاوضة ،
بخلاف البيع ؛ لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء،
وهو يملك المعاوضة ، وليس له أن يتصدق بماله ،
ولا أن يوصي به ؛ لأن التصدق والوصية إزالة
الملك من غير عوض مالي ، فكان ضررا فلا يملكه،
وليس له أن يطلق امرأته ؛ لأن الطلاق من
التصرفات الضارة المحضة، وليس له أن يعتق عبده
سواء كان بعوض أو بغير عوض ، أما بغير عوض ؛
فلأنه ضرر محض ، وكذا بعوض ؛ لأنه لا يقابله
العوض للحال ؛ لأن العتق معلق بنفس القبول ،
وإذا أعتق بنفس القبول يبقى الدين في ذمة
المفلس ، وقد يحصل ، وقد لا يحصل فكان الإعتاق
ضررا محضا للحال ، وكذا ليس له أن يقرض ماله ؛
لأن القرض إزالة الملك من غير عوض للحال، وهو
معنى قولهم: القرض تبرع ، وهو لا يملك سائر
التبرعات ، كذا هذا ، بخلاف القاضي فإنه يقرض
مال اليتيم. "ووجه" الفرق أن الإقراض من
القاضي من باب حفظ الدين ؛ لأن توى الدين
بالإفلاس أو بالإنكار، والظاهر أن القاضي
يختار أملى الناس، وأوثقهم ، وله ولاية التفحص
عن أحوالهم فيختار من لا يتحقق إفلاسه ظاهرا
وغالبا، وكذا القاضي يقضي بعلمه فلا يتحقق
التوى بالإنكار ، وليس لغير القاضي هذه
الولاية فبقي الإقراض منه إزالة الملك من غير
أن يقابله عوض للحال فكان ضررا فلا يملكه، وله
أن يدين ماله من غيره، وصورة الاستدانة أن
يطلب إنسان من غير الأب أو الوصي أن يبيعه
شيئا من أموال الصغير بمثل قيمته حتى يجعل أصل
الشيء ملكه ، وثمن المبيع دينا عليه ليرده ،
فإن باعه منه بزيادة على قيمته فهو عينه ،
وإنما ملك الإدانة، ولم يملك القرض ؛ لأن
الإدانة بيع ماله بمثل قيمته ، وليس له أن
يزوج عبده ؛ لأنه يتعلق المهر برقبته، وفيه
ضرر، وليس له أن يبيع ماله بأقل من قيمته قدر
ما لا يتغابن الناس فيه عادة، ولو باع لا ينفذ
بيعه ؛ لأنه ضرر في حقه، وكذا ليس له أن يؤاجر
نفسه أو ماله بأقل من أجرة المثل قدر ما لا
يتغابن الناس فيه عادة، وليس له أن يشتري
بماله شيئا بأكثر من قيمته قدر ما لا يتغابن
الناس فيه عادة لما قلنا، ولو اشترى ينفذ
عليه، ويكون المشترى له ؛ لأن الشراء وجد
نفاذا على المشتري، وله أن يقبل الهبة والصدقة
والوصية ؛ لأن ذلك نفع محض فيملكه الولي، وقال
عليه الصلاة والسلام: "خير الناس من ينفع الناس"، وهذا يجري مجرى الحث على النفع، والحث على النفع ممن لا يملك النفع
عبث ، وله أن يزوج أمته ؛ لأنه نفع ، وله أن
يبيع ماله بأكثر من قيمته ويشتري له شيئا بأقل
من قيمته لما قلنا ، وله أن يبيعه بمثل قيمته
، وبأقل من قيمته مقدار ما يتغابن الناس فيه
عادة ، وله أن يشتري له شيئا بمثل قيمته
وبأكثر من قيمته قدر ما يتغابن الناس فيه عادة
، وكذا له أن يؤاجر نفسه وماله بأكثر من أجر
مثله أو بأجر مثله أو بأقل منه قدر ما يتغابن
الناس
ج / 5 ص -154-
فيه عادة
، وكذا له أن يستأجر له شيئا بأقل من أجر
المثل أو بأجر المثل أو بأكثر منه قدر ما
يتغابن الناس فيه عادة، ولو آجر نفسه أو ماله
ثم بلغ الصبي في المدة فله الخيار في إجارة
النفس إن شاء مضى عليها، وإن شاء أبطلها، ولا
خيار له في إجارة المال. "ووجه" الفرق أن
إجارة مال الصغير تصرف في ماله على وجه النظر
فيقوم الأب فيه مقامه، فلا يثبت له خيار
الإبطال بالبلوغ، فأما إجارة نفسه فتصرف على
نفسه بالأضرار، وكان ينبغي أن لا يملكه الأب
إلا أنه ملكها من حيث إنها نوع رياضة، وتهذيب
للصغير، وتأديب له، والأب يلي تأديب الصغير
فوليها على أنها تأديب فإذا بلغ فقد انقطعت
ولاية التأديب، وهو الفرق، وله أن يسافر بماله
وله أن يدفع ماله مضاربة، وله أن يبضع، وله أن
يوكل بالبيع والشراء والإجارة والاستئجار؛ لأن
هذه الأشياء من توابع التجارة، فكل من ملك
التجارة يملك ما هو من توابعها، ولهذا ملكها
المأذون، وله أن يعير ماله استحسانا والقياس
أن لا يجوز. "وجه" القياس أن الإعارة تمليك
المنفعة بغير عوض فكان ضررا. "وجه" الاستحسان
أن هذا من توابع التجارة، وضروراتها فتملك
بملك التجارة، ولهذا ملكها المأذون، وله أن
يودع ماله؛ لأن الإيداع من ضرورات التجارة،
وله أن يأذن له بالتجارة عندنا إذا كان يعقل
البيع، والشراء؛ لأن الإذن بالتجارة دون
التجارة فإذا ملك التجارة بنفسه فلأن يملك
الإذن بالتجارة أولى، وله أن يكاتب عبده؛ لأن
المكاتبة عقد معاوضة فكان في معنى البيع، وله
أن يرهن ماله بدينه؛ لأن الرهن من توابع
التجارة لأن التاجر يحتاج إليه، ولأنه قضاء
الدين، وهو يملك قضاء دينه من ماله فيملك
الرهن بدينه أيضا، وله أن يرهن ماله بدين نفسه
أيضا؛ لأن عين المرهون تحت يد المرتهن إلا أنه
إذا هلك يضمن مقدار ما صار مؤديا من ذلك دين
نفسه، وله أن يجعل ماله مضاربة عند نفسه،
وينبغي أن يشهد على ذلك في الابتداء، ولو لم
يشهد يحل له الربح فيما بينه، وبين الله
تعالى، ولكن القاضي لا يصدقه، وكذلك إذا شارك
ورأس ماله أقل من مال الصغير، فإن أشهد فالربح
على ما شرط، وإن لم يشهد يحل فيما بينه وبين
الله تعالى، ولكن القاضي لا يصدقه، ويجعل
الربح على قدر رأس مالهما، وما عرفت من الجواب
في الأب فهو الجواب في وصيه حال عدمه، وفي
الجد ووصيه حال عدمه إلا أن بين الأب ووصيه،
وبين الجد ووصيه فرقا من وجوه مخصوصة."منها"
أن الأب أو الجد إذا اشترى مال الصغير لنفسه
أو باع مال نفسه من الصغير بمثل قيمته أو بأقل
جاز، ولو فعل الوصي ذلك لا يجوز عند محمد
أصلا، وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف إن كان خيرا
لليتيم جاز، وإلا فلا. "ومنها" أن لهما ولاية
الاقتصاص لأجل الصغير في النفس وما دونها،
وللوصي ولاية الاقتصاص فيما دون النفس، وليس
له ولاية الاقتصاص في النفس. "ومنها" أن له
ولاية الصلح في النفس وما دونها على قدر الدية
من غير حط بلا خلاف، وليس لهما ولاية العفو،
وفي جواز الصلح من الوصي روايتان، وقد ذكرنا
الوجه في ذلك في كتاب الصلح. ثم، ولي اليتيم
هل يأكل من مال اليتيم؟ فنقول: لا خلاف في أنه
إذا كان غنيا لا يأكل لقوله تعالى {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} فأما إذا كان فقيرا فهل له أن يأكل على سبيل الإباحة أو ليس له أن
يأكل إلا قرضا؟ اختلف فيه الصحابة رضي الله
عنهم روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
أن له أن يأكل على سبيل الإباحة لكن بالمعروف
من غير إسراف، وهو قول سيدتنا عائشة رضي الله
عنها وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه يأكل
قرضا فإذا أيسر قضى، وهو إحدى الروايتين عن
ابن عباس رضي الله عنهما احتج هؤلاء بقوله
تعالى
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} أمر
سبحانه وتعالى بالإشهاد على الأيتام عند دفع
المال إليهم. ولو كان المال في أيدي الأولياء
بطريق الأمانة لكان لا حاجة إلى الإشهاد ؛ لأن
القول قول الولي إذا قال: دفعت المال إلى
اليتيم عند إنكاره، وإنما الحاجة إلى الإشهاد
عند الأخذ قرضا ليأكل منه ؛ لأن في قضاء الدين
القول قول صاحب الدين لا قول من يقضي الدين،
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه فسر قوله
عز وجل
{وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ} قال: قرضا احتج الأولون بظاهر قوله عز شأنه
{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
أطلق الله عز شأنه لولي اليتيم أن يأكل من مال
اليتيم بالمعروف، وهو الوسط من غير إسراف.
وروي
"أن رجلا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لي
مال، ولي يتيم فقال عليه الصلاة والسلام: كل
من مال يتيمك
ج / 5 ص -155-
غير مسرف
ولا متأثل مالك بماله" وذكر محمد
ومالك في الموطإ أن الأفضل هو الاستعفاف من
ماله ؛ لما روي أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه فقال له: أوصي إلي يتيم فقال عبد
الله: لا تشتر من ماله شيئا ، ولا تستقرض من
ماله شيئا والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما ترتيب الولاية فأولى الأولياء الأب ثم وصيه ثم وصي وصيه ثم الجد
ثم وصيه ثم وصي وصيه ثم القاضي ثم من نصبه
القاضي وهو وصي القاضي وإنما تثبت الولاية على
هذا الترتيب ؛ لأن الولاية على الصغار باعتبار
النظر لهم لعجزهم عن التصرف بأنفسهم ، والنظر
على هذا الترتيب ؛ لأن ذلك مبني على الشفقة
وشفقة الأب فوق شفقة الكل ، وشفقة وصيه فوق
شفقة الجد ؛ لأنه مرضي الأب ومختاره فكان خلف
الأب في الشفقة وخلف الشيء قائم مقامه كأنه هو
، وشفقة الجد فوق شفقة القاضي ؛ لأن شفقته
تنشأ عن القرابة والقاضي أجنبي ولا شك أن شفقة
القريب على قريبه فوق شفقة الأجنبي، وكذا شفقة
وصيه؛ لأنه مرضي الجد وخلفه فكان شفقته مثل
شفقته، وإذا كان ما جعل له الولاية على هذا
الترتيب كانت الولاية على هذا الترتيب ضرورة ؛
لأن ترتيب الحكم على حسب ترتيب العلة والله
سبحانه وتعالى أعلم. وليس لمن سوى هؤلاء من
الأم والأخ والعم وغيرهم ولاية التصرف على
الصغير في ماله ؛ لأن الأخ والعم قاصرا الشفقة
وفي التصرفات تجري جنايات لا يهتم لها إلا ذو
الشفقة الوافرة، والأم وإن كانت لها وفور
الشفقة لكن ليس لها كمال الرأي لقصور عقل
النساء عادة فلا تثبت لهن ولاية التصرف في
المال ولا لوصيهن؛ لأن الوصي خلف الموصي قائم
مقامه فلا يثبت له إلا قدر ما كان للموصي وهو
قضاء الدين والحفظ لكن عند عدم هؤلاء. ولوصي
الأم والأخ أن يبيع المنقول والعقار لقضاء دين
الميت، والباقي ميراث للصغير ثم ينظر إن كان
واحد ممن ذكرنا حيا حاضرا فليس له ولاية
التصرف أصلا في ميراث الصغير؛ لأن الموصي لو
كان حيا لا يملكه في حال حياته فكذا الوصي،
وإن لم يكن فله ولاية الحفظ لا غير إلا أنه
يبيع المنقول لما أن بيع المنقول من باب
الحفظ؛ لأن حفظ الثمن أيسر وليس له أن يبيع
العقار لاستغنائه عن الحفظ لكونه محفوظا بنفسه
وكذا لا يبيع الدراهم والدنانير؛ لأنها محفوظة
وليس له أن يشتري شيئا على سبيل التجارة وله
أن يشتري ما لا بد منه للصغير من طعامه وكسوته
وما استفاد الصغير من المال من جهة أخرى سوى
الإرث بأن وهب له شيء أو أوصي له به فليس له
ولاية التصرف فيه أصلا عقارا كان أو منقولا ؛
لأنه لم يكن للموصى عليه ولاية فكذا الوصي.
"وأما" وصي المكاتب فله أن يبيع المنقول
والعقار لقضاء دين المكاتب ولقضاء دين
الكتابة؛ لأن المكاتب كان يملكه بنفسه فكذا
وصيه، وما فضل من كسبه يكون ميراثا لورثته.
"أما" الأحرار منهم: فلا شك ، وكذا الولد
المولود في الكتابة ومن كوتب معه ؛ لأنه عتق
في آخر جزء من أجزاء حياته بعتق أبيه، وإذا
صار الفاضل من كسبه ميراثا لورثته فهل يملك
التصرف في مالهم؟ ذكر في الزيادات: أنه لا
يملك إلا الحفظ ، وجعله بمنزلة وصي الأم والأخ
والعم، وفي كتاب القسمة: ألحقه بوصي الأب فإنه
أجاز قسمته في العقارات، والقسمة في معنى
البيع فمن جازت قسمته يجوز بيعه فكان فيه
روايتان وهذا إذا مات قبل أداء بدل الكتابة
فأما إذا أدى بدل الكتابة في حال حياته وعتق
ثم مات كان وصيه كوصي الحر بلا خلاف. والثاني:
أن لا يكون في المبيع حق لغير البائع فإن كان
لا ينعقد كالمرهون والمستأجر؛ لأن فيه إبطال
حق المرتهن والمستأجر وهذا لا يجوز. وقد
اختلفت عبارات الكتب في هذه المسألة في بعضها
أن البيع فاسد، وفي بعضها أنه موقوف وهو
الصحيح؛ لأن ركن البيع صدر من أهله مضافا إلى
مال متقوم مملوك له مقدور التسليم من غير ضرر
يلزمه. والدليل على أنه مقدور التسليم أنه
يمكنه أن يفتك الرهن بقضاء الدين فيسلمه إلى
المدين وكذا احتمال الإجازة من المرتهن
والمستأجر ثابت في البابين جميعا إلا أنه لم
ينفذ للحال لتعلق حقهما فتوقف ويمكن التوفيق
بين الروايتين بأن يحمل قوله: فاسد على أنه لا
حكم له ظاهر وهو تفسير الموقوف عندنا فإذا
توقف على إجازتهما فإن أجازا جاز ونفذ، وهل
يملكان المطالبة بالفسخ؟ ذكره القدوري رحمه
الله في شرحه وقال: أما المستأجر: فلا يملك.
وأما المرتهن: فيجوز أن يقال: يملك فرق بينهما
من حيث إن حق المستأجر في
ج / 5 ص -156-
المنفعة
لا في العين، إذ الإجارة عقد على المنفعة لا
على العين والبيع عقد على العين فلم يكن البيع
تصرفا في محل حق المستأجر، فلا يثبت له
الخيار، وحق المرتهن في العين؛ لأنه يستوفي
الدين من بدل العين بالبيع عند عدم الافتكاك
من الرهن ولهذا لو أجاز البيع كان الثمن رهنا
عنده فكان البيع تصرفا في محل حقه فيثبت له
الخيار. وهل يثبت للمشتري خيار الفسخ؟ فإن لم
يعلم أنه مرهون أو مؤجر يثبت؛ لأن العقد
المطلق يقتضي التسليم للحال وقد فات فيثبت له
خيار الفسخ، وإن علم فلا خيار له؛ لأنه رضي
بالتسليم في الجملة. ولو باع عبده الذي وجب
عليه القود نفذ؛ لأنه لا حق لولي القتيل في
نفس القاتل وإنما له ولاية استيفاء القصاص
وأنها لا تبطل بالبيع فيجوز البيع، ولا يصير
المولى بالبيع مختارا للفداء سواء علم
بالجناية أو لم يعلم؛ لأن حق الولي في القصاص
والبيع لا يبطل القصاص، وكذلك لو أعتقه أو
دبره أو كاتب أمه فاستولدها لما قلنا، وكذا لو
باع عبده الذي هو حلال الدم بالردة؛ لأن الردة
توجب إباحة الدم لا غير والبيع لا يبطلها،
وكذا لو أعتقه أو دبره، وكذا لو باع عبده الذي
وجب قطع يده بالسرقة أو وجب عليه حد من الحدود
كحد الزنا والقذف والشرب؛ لأن الواجب بهذه
الجنايات ولاية استيفاء القطع، والحد والبيع
لا يبطلها. ولو باع عبده الذي وجب دفعه
بالجناية يجوز علم المولى بالجناية أو لا ولا
سبيل لولي الجناية على العبد ولا على المشتري؛
لأنه لا حق له في نفس العبد وإنما يخاطب
المولى بالدفع إلا أن يختار الفداء، غير أنه
إن كان عالما بالجناية يلزمه أرش الجناية
بالغا ما بلغ؛ لأن إقدامه على البيع بعد العلم
بالجناية اختيار للفداء إذ لو لم يختر لما
باعه لما فيه من إبطال حق ولي الجناية في
الدفع. والظاهر أنه لا يرضى به وعلى تقدير
الاختيار كان البيع إبطالا لحقهم إلى بدل وهو
الفداء فكان الإقدام على البيع اختيارا للفداء
بخلاف ما إذا كان عليه قتل أو قطع بسبب السرقة
أو حد؛ لأن البيع لا يوجب بطلان هذه الحقوق
فلم يكن الإقدام على البيع اختيارا للفداء فلا
تسقط هذه الحقوق بل بقيت على حالها، وإن كان
عالما بالجناية يلزمه الأقل من قيمته ومن أرش
الجناية؛ لأنه إذا لم يكن عالما بالجناية كان
البيع استهلاكا للعبد من غير اختياره فعليه
الأقل من قيمته ومن أرش الجناية؛ لأنه ما أتلف
على ولي الجناية إلا قدر الأرش إلا إذا كان
أقلهما عشرة آلاف درهم فينقص منها عشرة دراهم؛
لأن قيمة قتل العبد خطأ إذا بلغ عشرة آلاف
درهم ينقص منها عشرة دراهم، وكذلك لو أعتقه
المولى أو دبره أو كاتب أمه فاستولدها جاز ولا
سبيل لولي الجناية على العبد والمدبر وأم
الولد، غير أنه إن علم بالجناية كان ذلك
اختيارا منه للفداء. وإن لم يعلم فعليه الأقل
من قيمته ومن الدين، وما زاد على هذا نذكره في
كتاب جنايات العبيد في آخر كتاب الجنايات إن
شاء الله تعالى.
"فصل" وأما
شرائط الصحة فأنواع: بعضها يعم البياعات كلها،
وبعضها يخص البعض دون البعض أما الشرائط
العامة. "فمنها" ما ذكرنا من شرائط الانعقاد
والنفاذ.لأن ما لا ينعقد ولا ينفذ البيع بدونه
لا يصح بدونه ضرورة، إذ الصحة أمر زائد على
الانعقاد والنفاذ، فكل ما كان شرط الانعقاد
والنفاذ كان شرط الصحة ضرورة ، وليس كل ما
يكون شرط الصحة يكون شرط النفاذ والانعقاد
عندنا فإن البيع الفاسد ينعقد وينفذ عند اتصال
القبض به عندنا وإن لم يكن صحيحا. "ومنها" أن
يكون المبيع معلوما وثمنه معلوما علما يمنع من
المنازعة.فإن كان أحدهما مجهولا جهالة مفضية
إلى المنازعة فسد البيع ، وإن كان مجهولا
جهالة لا تفضي إلى المنازعة لا يفسد ؛ لأن
الجهالة إذا كانت مفضية إلى المنازعة كانت
مانعة من التسليم والتسلم فلا يحصل مقصود
البيع، وإذا لم تكن مفضية إلى المنازعة لا
تمنع من ذلك ؛ فيحصل المقصود وبيانه في مسائل:
إذا قال: بعتك شاة من هذا القطيع أو ثوبا من
هذا العدل فالبيع فاسد ؛ لأن الشاة من القطيع
والثوب من العدل مجهول جهالة مفضية إلى
المنازعة لتفاحش التفاوت بين شاة وشاة ، وثوب
وثوب ، فيوجب فساد البيع، فإن عين البائع شاة
أو ثوبا وسلمه إليه ورضي به جاز ويكون ذلك
ابتداء بيع بالمراضاة ؛ ولأن البياعات للتوسل
إلى استيفاء النفوس إلى انقضاء آجالها
والتنازع يفضي إلى التفاني فيتناقض؛ ولأن
الرضا شرط البيع والرضا لا يتعلق إلا بالمعلوم
والكلام في هذا الشرط في موضعين أحدهما: أن
العلم بالمبيع والثمن علما مانعا من المنازعة
شرط صحة البيع ، والثاني: في بيان ما يحصل به
العلم بهما. "أما" الأول: فبيانه في مسائل،
وكذا إذا قال: بعتك أحد هذه الأثواب الأربعة
ج / 5 ص -157-
بكذا
وذكر خيار التعيين أو سكت عنه أو قال: بعتك
أحد هذين الثوبين أو أحد هذه الأثواب الثلاثة
بكذا وسكت عن الخيار، فالبيع فاسد ؛ لأن
المبيع مجهول ، ولو ذكر الخيار بأن قال: على
أنك بالخيار تأخذ أيها شئت بثمن كذا وترد
الباقي فالقياس أن يفسد البيع وفي الاستحسان
لا يفسد. "وجه" القياس أن المبيع مجهول ؛ لأنه
باع أحدهما غير عين وهو غير معلوم فكان المبيع
مجهولا فيمنع صحة البيع، كما لو باع أحد
الأثواب الأربعة وذكر الخيار. "وجه" الاستحسان
الاستدلال بخيار الشرط والجامع بينهما مساس
الحاجة إلى دفع الغبن، وكل واحد من الخيارين
طريق إلى دفع الغبن ، وورود الشرع هناك يكون
ورودا ههنا، والحاجة تندفع بالتحري في ثلاثة
لاقتصار الأشياء على الجيد والوسط والرديء
فيبقى الحكم في الزيادة مردودا إلى أصل
القياس؛ ولأن الناس تعاملوا هذا البيع لحاجتهم
إلى ذلك فإن كل أحد لا يمكنه أن يدخل السوق
فيشتري ما يحتاج إليه خصوصا الأكابر والنساء
فيحتاج إلى أن يأمر غيره ولا تندفع حاجته
بشراء شيء واحد معين من ذلك الجنس لما عسى لا
يوافق الآمر فيحتاج إلى أن يشتري أحد اثنين من
ذلك الجنس فيحملهما جميعا إلى الآمر فيختار
أيهما شاء بالثمن المذكور ويرد الباقي ،
فجوزنا ذلك لتعامل الناس ولا تعامل فيما زاد
على الثلاثة فبقي الحكم فيه على أصل القياس
وقوله: المعقود عليه مجهول قلنا: هذا ممنوع
فإنه إذا شرط الخيار بأن قال: على أن تأخذ
أيهما شئت فقد انعقد البيع موجبا للملك عند
اختياره لا للحال، والمعقود عليه عند اختياره
معلوم مع أن هذه جهالة لا تفضي إلى المنازعة؛
لأنه فوض الأمر إلى اختيار المشتري يأخذ أيهما
شاء فلا تقع المنازعة. وهل يشترط بيان المدة
في هذا الخيار؟ اختلف المشايخ فيه لاختلاف
ألفاظ محمد في هذه المسألة في الكتب فذكر في
الجامع الصغير: على أن يأخذ المشتري أيهما شاء
وهو فيه بالخيار ثلاثة أيام وذكر في الأصل:
على أن يأخذ أيهما شاء بألف ولم يذكر الخيار
فقال بعضهم: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة
خيار الشرط وهو ثلاثة أيام فما دونها عند أبي
حنيفة رحمه الله، وعندهما: الثلاث وما زاد
عليها بعد أن يكون معلوما، وهو قول الكرخي
والطحاوي رحمهما الله وقال بعضهم يصح من غير
ذكر المدة. "وجه" قول الأولين: أن المبيع لو
كان ثوبا واحدا معينا وشرط فيه الخيار كان
بيان المدة شرط الصحة بالإجماع، فكذا إذا كان
واحدا غير معين، والجامع بينهما أن ترك
التوقيت تجهيل لمدة الخيار وأنه مفسد للبيع؛
لأن للمشتري أن يردهما جميعا، والثابت بخيار
التعيين رد أحدهما وهذا حكم خيار الشرط فلا بد
من ذكر مدة معلومة. "وجه" قول الآخرين: إن
توقيت الخيار في المعين إنما كان شرطا ؛ لأن
الخيار فيه يمنع ثبوت الحكم للحاجة إلى دفع
الغبن بواسطة التأمل فكان في معنى الاستثناء
فلا بد من التوقيت ليصح استثناء ذلك في الوقت
عن ثبوت حكم البيع فيه، وخيار التعيين لا يمنع
ثبوت الحكم بل يثبت الحكم في أحدهما غير عين،
وإنما يمنع تعين المبيع لا غير، فلا يشترط له
بيان المدة والله سبحانه وتعالى أعلم والدليل
على التفرقة بينهما أن خيار الشرط لا يورث على
أصل أصحابنا، وخيار التعيين يورث بالإجماع ،
إلا أن للمشتري أن يردهما جميعا لا حكما لخيار
الشرط المعهود ليشترط له بيان المدة بل لأن
البيع المضاف إلى أحدهما غير لازم فكان محلا
للفسخ كالبيع بشرط خيار معهود على ما نذكر إن
شاء الله تعالى. هذا يخرج ما إذا اشترى ثوبين
أو عبدين أو دابتين على أن المشتري أو البائع
بالخيار في أحدهما ثلاثة أيام ولم يعين الذي
فيه الخيار من الذي لا خيار فيه ولا بين حصة
كل واحد منهما من الثمن أن البيع فاسد فيهما
جميعا لجهالة المبيع والثمن. "أما" جهالة
المبيع: فلأن العقد في أحدهما بات وفي الآخر
خيار ولم يعين أحدهما من الآخر فكان المبيع
مجهولا، وأما جهالة الثمن: فلأنه إذا لم يسم
لكل واحد منهما ثمنا فلا يعرف ذلك إلا بالحزر
والظن فكان الثمن مجهولا والمبيع مجهولا
وجهالة أحدهما تمنع صحة البيع فجهالتهما أولى.
وكذا إذا عين الذي فيه الخيار لكن لم يبين حصة
كل واحد منهما من الثمن؛ لأن الثمن مجهول،
وكذا إذا بين ثمن كل واحد منهما لكن لم يعين
الذي فيه الخيار من صاحبه ؛ لأن المبيع مجهول
ولو عين وبين جاز البيع فيهما جميعا ؛ لأن
المبيع والثمن معلومان ويكون البيع في أحدهما
باتا من غير خيار وفي الآخر فيه خيار ؛ لأنه
هكذا فعل فإذا أجاز من له الخيار البيع فيما
له فيه الخيار أو مات أو مضت مدة الخيار من
غير فسخ حتى تم البيع ولزم
ج / 5 ص -158-
المشتري
ثمنهما ليس له أن يأخذ أحدهما أو كلاهما ما لم
ينقد ثمنهما جميعا ؛ لأن الخيار لما سقط ولزم
العقد صار كأنه اشتراهما جميعا شراء باتا ،
ولو كان كذلك كان الأمر على ما وصفنا ، فكذا
هذا ولو اشترى ثوبا واحدا أو دابة واحدة بثمن
معلوم على أن المشتري أو البائع بالخيار في
نصفه ونصفه بات جاز البيع؛ لأن النصف معلوم
وثمنه معلوم أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو باع عددا من جملة المعدودات المتفاوتة
كالبطيخ والرمان بدرهم والجملة أكثر مما سمى
فالبيع فاسد لجهالة المبيع جهالة مفضية إلى
المنازعة، فإن عزل ذلك القدر من الجملة بعد
ذلك أو تراضيا عليه فهو جائز ؛ لأن ذلك بيع
مبتدأ بطريق التعاطي وإليه أشار في الكتاب
فقال: وإنما وقع البيع على هذا المعزول حين
تراضيا وهذا نص على جواز البيع بالمراوضة، ولو
قال بعت هذا العبد بقيمته فالبيع فاسد ؛ لأنه
جعل ثمنه قيمته وإنها تختلف باختلاف تقويم
المقومين فكان الثمن مجهولا، وكذلك إذا اشترى
من هذا اللحم ثلاثة أرطال بدرهم ولم يبين
الموضع فالبيع فاسد. وكذلك إذا بين الموضع بأن
قال زن لي من هذا الجنب رطلا بكذا أو من هذا
الفخذ على قياس قول أبي حنيفة في السلم وعلى
قياس قولهما يجوز ، وكذا روي عن محمد رحمه
الله أنه يجوز وكذا إذا باع بحكم المشتري أو
بحكم فلان ؛ لأنه لا يدري بماذا يحكم فلان
فكان الثمن مجهولا وكذا إذا قال بعتك هذا
بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير ؛ لأن الثمن مجهول.
وقيل: هو البيعان في بيع وقد روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيعين في بيع" وكذا إذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم إلى سنة أو بألف وخمسمائة
إلى سنتين ؛ لأن الثمن مجهول، وقيل: هو
الشرطان في بيع وقد روي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم "نهى عن شرطين
في بيع" ولو باع شيئا بربح ده يازده ولم يعلم المشتري رأس ماله فالبيع فاسد
حتى يعلم فيختار أو يدع هكذا روى ابن رستم عن
محمد ؛ لأنه إذا لم يعلم رأس ماله كان ثمنه
مجهولا وجهالة الثمن تمنع صحة البيع فإذا علم
ورضي به جاز البيع ؛ لأن المانع من الجواز هو
الجهالة عند العقد وقد زالت في المجلس وله حكم
حالة العقد فصار كأنه كان معلوما عند العقد
وإن لم يعلم به حتى إذا افترقا تقرر الفساد.
ولو هلك المبيع قبل العلم بعد القبض فعليه
قيمته ؛ لأن هذا حكم البيع الفاسد وقد تقرر
الفساد بالهلاك ؛ لأن بالهلاك خرج البيع عن
احتمال الإجازة والرضا ؛ لأن الإجازة إنما
تلحق القائم دون الهالك فتقرر الفساد فلزمته
القيمة ، وروى ابن شجاع عن محمد أن البيع جائز
ومعناه أنه موقوف على الإجازة وإليه أشار أبو
يوسف رحمه الله فإنه قال: صح وهذه أمارة البيع
الموقوف فإن مات البائع قبل أن يرضى المشتري
وقد قبض أو لم يقبض انتقض البيع ولو كان
المبيع عبدا فقبضه ثم أعتقه أو باعه أو مات
قبل العلم جاز العتق والبيع وعليه قيمته ؛
لوجود الهلاك حقيقة بالموت وبالإعتاق في
المبيع فخرج البيع عن احتمال الإجازة فتأكد
الفساد فيلزمه القيمة ، ولو أعتقه بعد ما علم
برأس المال فعليه الثمن ؛ لأن إقدامه على
الإعتاق دليل الإجازة، ولو عتق بالقرابة قبل
العلم بالثمن بعد القبض فعليه قيمته ؛ لأنه لا
صنع له في القرابة فلم يوجد دليل الإجازة فكان
العتق بها بمنزلة هلاك العبد قبل العلم وهناك
تجب القيمة كذا ههنا وكذا إذا باع الشيء برقمه
أو رأس ماله ولم يعلم المشتري رقمه ورأس ماله
فهو كما إذا باع شيئا بربح ده يازده ولم يعلم
ما اشترى به. ولو قال: بعتك قفيزا من هذه
الصبرة صح وإن كان قفيزا من صبرة مجهولا لكن
هذه جهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لأن الصبرة
الواحدة متماثلة القفزان بخلاف الشاة من
القطيع وثوب من الأربعة ؛ لأن بين شاة وشاة
تفاوتا فاحشا وكذا بين ثوب وثوب والله سبحانه
وتعالى أعلم. ولو باع شيئا بعشرة دراهم أو
بعشرة دنانير وفي البلد نقود مختلفة انصرف إلى
النقد الغالب ؛ لأن مطلق الاسم ينصرف إلى
المتعارف خصوصا إذا كان فيه صحة العقد وإن كان
في البلد نقود غالبة فالبيع فاسد ؛ لأن الثمن
مجهول إذ البعض ليس بأولى من البعض وعلى هذا
يخرج أصل أبي حنيفة عليه الرحمة أن جملة الثمن
إذا كانت مجهولة عند العقد في بيع مضاف إلى
جملة فالبيع فاسد إلا في القدر الذي جهالته لا
تفضي إلى المنازعة ، وجملة الكلام فيه أن
المبيع لا يخلو إما إن كان من المثليات من
المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة وإما
أن يكون من غيرها من الذرعيات والعدديات
المتفاوتة ولا يخلو إما إن سمى جملة الكيل
والوزن والعدد والذرع في البيع وإما إن لم يسم
، أما المكيلات: فإن لم يسم جملتها بأن قال
بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها
ج / 5 ص -159-
بدرهم لم
يجز البيع إلا في قفيز منها بدرهم ويلزم البيع
فيه عند أبي حنيفة ولا يجوز في الباقي إلا إذا
علم المشتري جملة القفزان قبل الافتراق بأن
كالها فله الخيار إن شاء أخذ كل قفيز منها
بدرهم وإن شاء ترك، وإن لم يعلم حتى افترقا عن
المجلس تقرر الفساد، وعند أبي يوسف ومحمد
يلزمه البيع في كل الصبرة كل قفيز منها بدرهم
سواء علم أو لم يعلم، وعلى هذا الخلاف إذا
قال: كل قفيز منها بدرهمين أو كل ثلاثة أقفزة
منها بثلاثة دراهم، وعلى هذا الخلاف الوزن
الذي لا ضرر في تبعيضه كالزيت وتبر الذهب
والفضة، والعددي المتقارب كالجوز واللوز إذا
لم يسم جملتها. "وأما" الذرعيات: فإن لم يسم
جملة الذرعان بأن قال بعت منك هذا الثوب أو
هذه الأرض أو هذه الخشبة كل ذراع منها بدرهم
فالبيع فاسد في الكل عند أبي حنيفة رحمه الله
إلا إذا علم المشتري جملة الذرعان في المجلس
فله الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك، وإن لم
يعلم حتى إذا تفرقا تقرر الفساد، وعند أبي
يوسف ومحمد يجوز البيع في الكل ويلزمه كل ذراع
منه بدرهم، وعلى هذا الخلاف إذا قال: كل
ذراعين بدرهمين أو كل ثلاثة أذرع بثلاثة
دراهم، وعلى هذا الخلاف العدديات المتفاوتة
كالأغنام والعبيد بأن قال: بعت منك هذا القطيع
من الغنم كل شاة منها بعشرة دراهم ولم يسم
جملة الشياه، وعلى هذا الخلاف الوزني الذي في
تبعيضه ضرر كالمصوغ من الأواني والقلب ونحو
ذلك. "وجه" قولهما في مسائل الخلاف أن جملة
البيع معلومة وجملة الثمن ممكن الوصول إلى
العلم بالكيل والوزن والعدد والذرع فكانت هذه
جهالة ممكنة الرفع والإزالة ومثل هذه الجهالة
لا تمنع صحة البيع كما إذا باع بوزن هذا الحجر
ذهبا، ولأبي حنيفة رحمه الله أن جملة الثمن
مجهولة حالة العقد جهالة مفضية إلى المنازعة
فتوجب فساد العقد كما إذا باع الشيء برقمه ولا
شك أن جهالة الثمن حالة العقد مجهولة ؛ لأنه
باع كل قفيز من الصبرة بدرهم وجملة القفزان
ليست بمعلومة حالة العقد فلا تكون جملة الثمن
معلومة ضرورة، وكذلك هذا في الموزون والمعدود
والمذروع. وقولهما يمكن رفع هذه الجهالة مسلم
لكنها ثابتة للحال إلى أن ترتفع، وعندنا إذا
ارتفعت في المجلس ينقلب العقد إلى الجواز ؛
لأن المجلس وإن طال فله حكم ساعة العقد،
والبيع بوزن هذا الحجر ذهبا ممنوع على أصل أبي
حنيفة رحمه الله وإنما اختلف جواب أبي حنيفة
بين المثليات وغيرها من وجه حيث جوز البيع في
واحد في باب الأمثال ولم يجز في غيرها أصلا ؛
لأن المانع من الصحة جهالة الثمن لكونها مفضية
إلى المنازعة، وجهالة قفيز من صبرة غير مانعة
مع الصحة؛ لأنها لا تفضي إلى المنازعة ألا ترى
لو اشترى قفيزا من هذه الصبرة ابتداء جاز؟
فإذا تعذر العمل بعموم كلمة. "كل" صرفت إلى
الخصوص؛ لأنه ممكن على الأصل المعهود في صيغة
العام إذا تعذر العمل بعمومها أنها تصرف إلى
الخصوص عند إمكان الصرف إليه بخلاف الأشياء
المتفاوتة؛ لأن جهالة شاة من قطيع وذراع من
ثوب جهالة مفضية إلى المنازعة ألا ترى أن بيع
ذراع من ثوب وشاة من قطيع لا يجوز ابتداء
فتعذر العمل بعموم كلمة "كل" ففسد البيع في
الكل، ولو قال: بعت منك هذا القطيع من الغنم
كل شاتين بعشرين درهما فالبيع فاسد في الكل
بالإجماع، وإن علم المشتري عدد الجملة في
المجلس واختار البيع فرق بين المعدود المتفاوت
وبين المذروع والمكيل والموزون والمعدود
المتقارب أن الواحد والاثنين هناك على
الاختلاف، وإذا علم في المجلس واختار البيع
يجوز بلا خلاف، وههنا لا يجوز في الاثنين بلا
خلاف، وإن علم واختار البيع. "ووجه" الفرق أن
المانع هناك جهالة الثمن وهي محتملة الارتفاع
والزوال ثمة بالعلم في المجلس فكان المانع
يحتمل الزوال، والجهالة ههنا لا تحتمل
الارتفاع أصلا؛ لأن ثمة كل واحد منهما مجهول
لا يدرى كم هو، ولو قال: بعت منك هذه الصبرة
بمائة درهم كل قفيز بدرهم ولم يسم جملة الصبرة
ولكنه سمى جملة الثمن، لم يذكر هذا في الأصل
وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يجوز وهو صحيح؛
لأن المانع جهالة الثمن ولم توجد حيث سماها
وصارت تسمية جملة الثمن بمنزلة تسمية جملة
المبيع، ولو سمى جملة المبيع لجاز على ما
نذكره كذا هذا الذي ذكرنا إذا لم يسم جملة
المبيع من المكيلات والموزونات والمذروعات
والمعدودات ، فأما إذا أسماها بأن قال: بعت
منك هذه الصبرة على أنها مائة قفيز كل قفيز
بدرهم، أو قال على أنها مائة قفيز بمائة درهم
سمى لكل واحد من القفزان ثمنا على حدة أو سمى
للكل ثمنا واحدا هما سواء ، فلا شك في جواز
البيع ؛ لأن جملة المبيع معلومة وجملة الثمن
ج / 5 ص -160-
معلومة
ثم إن وجدها كما سمى فالأمر ماض ولا خيار
للمشتري وإن وجدها أزيد من مائة قفيز فالزيادة
لا تسلم للمشتري بل ترد إلى البائع ولا يكون
للمشتري إلا قدر ما سمى وهو مائة قفيز ولا
خيار له وإن وجدها أقل من مائة قفيز فالمشتري
بالخيار إن شاء أخذها بحصتها من الثمن وطرح
حصة النقصان وإن شاء تركها وأصل هذا أن
الزيادة فيما لا ضرر في تبعيضه لا تجري مجرى
الصفة بل هي أصل فلا بد وأن يقابله الثمن، ولا
ثمن للزيادة فلا يدخل في البيع فكان ملك
البائع فيرد إليه، والنقصان فيه نقصان الأصل
لا نقصان الصفة فإذا وجدها أنقص مما سمى ؛ نقص
من الثمن حصة النقصان وإن شاء ترك ؛ لأن
الصفقة تفرقت عليه؛ لأنها وقعت على مائة قفيز
ولم تسلم له فأوجب خللا في الرضا فيثبت له
خيار الترك وكذا الجواب في الموزونات التي ليس
في تنقيصها ضرر ؛ لأن الزيادة فيها لا تجري
مجرى الصفة بل هي أصل بنفسها وكذلك المعدودات
المتقاربة. "وأما" المذروعات من الثوب والأرض
والخشب وغيرها فإن سمى لجملة الذرعان ثمنا
واحدا ولم يسم لكل ذراع منها على حدة بأن قال:
بعت منك هذا الثوب على أنه عشرة أذرع بعشرة
دراهم فالبيع جائز؛ لأن المبيع وثمنه معلومان
ثم إن وجده مثل ما سمى لزمه الثوب بعشرة دراهم
ولا خيار له، وإن وجده أحد عشر ذراعا فالزيادة
سالمة للمشتري، وإن وجده تسعة أذرع لا يطرح
لأجل النقصان شيئا من الثمن وهو بالخيار: إن
شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، فرق
بينهما وبين المكيلات والموزونات التي ليس في
تنقيصها ضرر والعدديات المتقاربة. "ووجه"
الفرق أن زيادة الذرع في الذرعيات جارية مجرى
الصفة كصفة الجودة والكتابة والخياطة ونحوها
والثمن يقابل الأصل لا الصفة ؛ والدليل على
أنها جارية مجرى الصفة أن وجودها يوجب جودة في
الباقي وفواتها يسلب صفة الجودة ويوجب الرداءة
فتلحق الزيادة بالجودة والنقصان بالرداءة حكما
والجودة والرداءة صفة، والصفة ترد على الأصل
دون الصفة، إلا أن الصفة تملك تبعا للموصوف
لكونها تابعة قائمة به فإذا زاد صار كأنه
اشتراه رديئا فإذا هو جيد، كما إذا اشترى عبدا
على أنه ليس بكاتب أو ليس بخياط فوجده كاتبا
أو خياطا أو اشترى عبدا على أنه أعور فوجده
سليم العينين أو اشترى جارية على أنها ثيب
فوجدها بكرا ؛ تسلم له ولا خيار للبائع كذا
هذا وإذا نقص صار كأنه اشتراه على أنه جيد
فوجده رديئا أو اشترى عبدا على أنه كاتب أو
خباز أو صحيح العينين فوجده غير كاتب ولا خباز
ولا صحيح العينين أو اشترى جارية على أنها بكر
فوجدها ثيبا ؛ لا يطرح شيئا من الثمن لكن يثبت
له الخيار كذا هذا بخلاف المكيلات والموزونات
التي لا ضرر فيها إذا نقصت والمعدودات
المتقاربة ؛ لأن الزيادة فيها غير ملحقة
بالأوصاف ؛ لأنها أصل بنفسها حقيقة. والعمل
بالحقيقة واجب ما أمكن إلا أنها ألحقت بالصفة
في المذروعات ونحوها ؛ لأن وجودها يوجب الجودة
والكمال للباقي وفواتها يوجب النقصان والرداءة
له ، وهذا المعنى ههنا منعدم فبقيت أصلا
بنفسها حقيقة وإن سمى لكل ذراع منها ثمنا على
حدة بأن قال: بعت منك هذا الثوب على أنه عشرة
أذرع كل ذراع بدرهم فالبيع جائز لما قلنا ، ثم
إن وجده مثل ما سمى فالأمر ماض ولزمه الثوب كل
ذراع بدرهم وإن وجده أحد عشر ذراعا فهو
بالخيار: إن شاء أخذ كله بأحد عشر درهما، وإن
شاء ترك وإن وجده تسعة أذرع فهو بالخيار: إن
شاء طرح حصة النقصان درهما وأخذه بتسعة دراهم،
وإن شاء ترك؛ لتفرق الصفقة عليه وهذا يشكل على
الأصل الذي ذكرنا أن زيادة الذرع في المذروعات
تجري مجرى الصفة لها ؛ لأن الثمن يقابل الأصل
دون الوصف فينبغي أن تكون الزيادة سالمة
للمشتري ولا خيار له ولا يطرح لأجل النقصان
شيئا كما في الفصل الأول ؛ لأن الثمن يقابل
الأصل دون الصفة بمنزلة زيادة الجودة ونقصان
الرداءة على ما ذكرنا. وحل هذا الإشكال أن
الذرع في المذروعات إنما يجري مجرى الصفة على
الإطلاق إذا لم يفرد كل ذراع بثمن على حدة.
"فأما" إذا أفرد به فلا يجري مجرى الصفة مطلقا
بل يكون أصلا من وجه وصفة من وجه: فمن حيث إن
التبعيض فيها يوجب تعييب الباقي ؛ كانت
الزيادة صفة بمنزلة صفة الجودة، ومن حيث إنه
سمى لكل ذراع ثمنا على حدة ؛ كان كل ذراع
معقودا عليه فكانت الزيادة أصلا من وجه صفة من
وجه: فمن حيث إنها صفة كانت للمشتري ؛ لأن
الثمن يقابل الأصل
ج / 5 ص -161-
لا الصفة
وإنما يدخل في البيع تبعا على ما بينا ومن حيث
إنها أصل لا يسلم له إلا بزيادة ثمن اعتبارا
للجهتين جميعا بقدر الإمكان فله الخيار في أخذ
الزيادة وتركها ؛ لأنه لو لزمه الأخذ ، لا
محالة يلزمه زيادة ثمن ؛ لم يكن لزومها ظاهرا
عند العقد واختل رضاه فوجب الخيار وفي النقصان
إن شاء طرح قدر النقصان وأخذ الباقي اعتبارا
لجهة الأصالة وإن شاء ترك ؛ لأن الصفقة تفرقت
عليه وأوجب خللا في الرضا وذا يوجب الخيار هذا
إذا كانت الزيادة والنقصان ذراعا تاما فأما
إذا كانت دون ذراع لم يذكر هذا في ظاهر
الروايات وذكر في غير رواية الأصول اختلاف
أقاويل أصحابنا الثلاثة في كيفية الخيار فيه:
فأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فرقا بين
الزيادة والنقصان غير أن أبا حنيفة جعل زيادة
نصف ذراع بمنزلة زيادة ذراع كامل فقال: إن شاء
أخذه بأحد عشر درهما وإن شاء ترك، وجعل نقصان
نصف ذراع كلا نقصان لكن جعل له الخيار فقال:
إن شاء أخذه بعشرة دراهم وإن شاء ترك ولا يطرح
من الثمن شيئا لأجل النقصان ومحمد جعل على
القلب من ذلك فجعل زيادة نصف ذراع كلا زيادة
فقال: يأخذ المشتري بجميع الثمن ولا خيار له،
وجعل نقصان نصف ذراع كنقصان ذراع كامل وقال:
إن شاء أخذ بتسعة دراهم ، وإن شاء ترك. "وأما"
أبو يوسف رحمه الله فسوى بين الزيادة والنقصان
فقال في زيادة نصف ذراع: يزاد على الثمن نصف
درهم وله الخيار: إن شاء أخذه بعشرة دراهم
ونصف، وإن شاء ترك وقال في نقصان نصف ذراع:
ينقص من الثمن نصف درهم وله الخيار: إن شاء
أخذه بتسعة دراهم ونصف، وإن شاء ترك والقياس
ما قاله أبو يوسف وهو اعتبار الجزء بالكل إلا
أنهما كأنهما استحسنا لتعامل الناس؛ فجعل أبو
حنيفة زيادة نصف ذراع بمنزلة ذراع تام ونقصان
نصف ذراع كلا نقصان؛ لأن الناس في العادات في
بياعاتهم وأشريتهم لا يعدون نقصان نصف ذراع
نقصانا بل يحسبونه ذراعا تاما، فبنى الأمر في
ذلك على تعامل الناس وجعل محمد الأمر في ذلك
على القلب من ذلك لما أن الباعة يسامحون في
زيادة نصف على القدر المسمى في البيع عادة ولا
يعدونه زيادة؛ فكانت تلك الزيادة ملحقة بالعدم
عادة كأنه لم يزد وكذا يسامحون فيعدون نقصان
نصف ذراع في العادات نقصان ذراع كامل ؛ فتركنا
القياس بتعامل الناس، ويجوز أن يكون اختلاف
جوابهما لاختلاف عادات الناس والله سبحانه
وتعالى أعلم وعلى هذا جميع المذروعات من الأرض
والخشب وغيرهما أنه إن لم يسم لكل ذراع ثمنا
بأن قال: بعت منك هذه الأرض على أنها ألف ذراع
بألف درهم فالبيع جائز ؛ لما قلنا ثم إن وجدها
مثل ما سمى فالأمر ماض ويلزمه الأرض كل ذراع
بدرهم وإن وجدها أزيد فالزيادة سالمة له ولا
خيار وإن وجدها أنقص فهو بالخيار إن شاء أخذها
بجميع الثمن وإن شاء ترك لما ذكرنا أن زيادة
الذرع في الذرعيات جارية مجرى الصفات والثمن
يقابل الأصل دون الصفة وإن سمى لكل ذراع ثمنا
على حدة بأن قال: كل ذراع بكذا؛ فالبيع جائز
لما ذكرنا ثم إن وجدها مثل ما سمى فالأمر ماض
، وإن وجدها أزيد فهو بالخيار: إن شاء أخذ
الزيادة بثمنها، وإن شاء ترك ؛ لأنه يلزمه
زيادة ثمن لم يلتزمه لذا العقد وإن وجده أنقص
تسقط حصته من الثمن وله الخيار لتفرق الصفقة
على ما ذكرنا في الثوب وعلى هذا الخشب وغيره
من الذرعيات وعلى هذا الموزونات التي في
تبعيضها ضرر بأن قال: بعت منك هذه السبيكة من
الذهب على أنها مثقالان بكذا فالبيع جائز ثم
إن وجد على ما سمى فالأمر ماض وإن وجده أزيد
أو أنقص فهو على التفصيل الذي ذكرنا في
الذرعيات وعلى هذا إذا باع مصوغا من نحاس أو
صفر أو ما أشبه ذلك على أن فيه كذا منا بكذا
درهما فوجده أكثر أو أقل فهو على التفصيل الذي
ذكرنا ؛ لأن الوزن في مثله يكون ملحقا بالصفة
بمنزلة الذرع في الذرعيات ؛ لأن تبعيضه يوجب
تعييب الباقي وهذا حد الصفة في هذا الباب ولو
باع مصوغا من الفضة على أن وزنه مائة بعشرة
دنانير ولم يسم لكل عشرة ثمنا على حدة بأن
قال: بعشرة دنانير ولم يقل: كل وزن عشرة
بدينار وتقابضا وافترقا؛ فالبيع جائز ثم إن
وجده على ما سمى ؛ فالأمر ماض ولا خيار وإن
وجده أزيد بأن كان مائتي درهم مثلا فالكل
للمشتري بعشرة دنانير ولا يزاد في الثمن شيء ؛
لأن الزيادة فيه بمنزلة الصفة والصفات المحضة
لا يقابلها الثمن ، وإن وجده تسعين أو ثمانين
فهو بالخيار على ما ذكرنا وإن سمى لكل عشرة
ثمنا على حدة بأن قال: بعت منك على أن وزنه
مائة بعشرة دنانير ، كل
ج / 5 ص -162-
وزن عشرة
بدينار وتقابضا فالبيع جائز، ثم إن وجده على
ما سمى فالأمر ماض ولا خيار، وإن وجد وزنه
أزيد بأن كان مائة وخمسين؛ نظر في ذلك إن علم
ذلك قبل التفرق فله الخيار: إن شاء زاد في
الثمن خمسة دنانير وأخذ كله بخمسة عشر دينارا،
وإن شاء ترك؛ لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة
العقد، وإن علم بعد التفرق بطل البيع في ثلث
المصوغ لانعدام التقابض فيه وله الخيار في
الباقي: إن شاء رضي به بعشرة دنانير، وإن شاء
رد الكل واسترد الدنانير؛ لأن الشركة في
الأعيان عيب وإن وجد وزنه خمسين وعلم ذلك قبل
التفرق أو بعده فله الخيار: إن شاء رده، وإن
شاء رضي به واسترد من الثمن خمسة دنانير وكذلك
لو باع مصوغا من ذهب بدراهم فهو على هذا
التفصيل ولو باع مصوغا من الفضة بجنسها أو باع
مصوغا من الذهب بجنسه مثل وزنه على أن وزنه
مائة بمائة ثم وجده أزيد مما سمى فإن علم
بالزيادة قبل التفرق؛ فله الخيار: إن شاء زاد
في الثمن قدر وزن الزيادة وأخذ الكل، وإن شاء
ترك؛ لأن المجلس له حكم حالة العقد، وإن علم
بها بعد التفرق بطل البيع في الزيادة؛ لأن
التقابض شرط بقاء الصرف على الصحة ولم يوجد في
قدر الزيادة وإن وجد أقل مما سمى فله الخيار:
إن شاء رضي بحصته من الثمن واسترد فضل الثمن،
وإن شاء رد الكل واسترد جميع الثمن سواء سمى
الجملة أو سمى لكل وزن درهما درهما؛ لأن عند
اتحاد الوزن والجنس لا يجوز البيع إلا سواء
بسواء فصار كأنه سمى ذلك وإن لم يسم حقيقة إلا
الجملة. "وأما" العدديات المتفاوتة كالغنم
والعبيد ونحوها بأن قال: بعت منك هذا القطيع
من الغنم على أنها مائة شاة بكذا فإن وجده على
ما سمى؛ فالبيع جائز، وإن وجده أزيد فالبيع
فاسد في الكل سواء ذكر للكل ثمنا واحدا بأن
قال: بعت منك هذا القطيع على أنها مائة شاة
بألف درهم أو ذكر لكل شاة فيها ثمنا على حدة
بأن قال: كل شاة بعشرة دراهم؛ لأن كل شاة أصل
في كونها معقودا عليها والزيادة لم تدخل تحت
العقد؛ لأنه لا يقابلها ثمن؛ فلم تكن مبيعة
وهي مجهولة فكان الباقي مجهولا ضرورة جهالة
الزيادة فيصير بائعا مائة شاة من مائة شاة
وواحدة فكان المبيع مجهولا، وجهالة المبيع
تمنع صحة البيع سمى له ثمنا أو لم يسم. وإن
وجده أقل مما سمى: فإن كان لم يسم لكل واحدة
منها ثمنا فالبيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول؛ لأنه
يحتاج إلى طرح ثمن شاة واحدة من جملة الثمن
المسمى وهو مجهول التفاوت فاحش بين شاة وشاة
فصار ثمن الباقي مجهولا ضرورة جهالة حصة الشاة
الناقصة، وإن سمى لكل واحدة منها ثمنا على
حدة؛ فالبيع جائز بحصة الباقي منها؛ لأن حصته
الزائدة معلومة وحصة الباقي معلومة فالفساد من
أين؟ من أصحابنا من قال: هذا مذهبهما، فأما
عند أبي حنيفة عليه الرحمة فالبيع فاسد في
الكل بناء على أن المذهب عنده أن الصفقة إذا
أضيفت إلى ما يحتمل العقد وإلى ما لا يحتمله؛
فالفساد يشيع في الكل، وأكثر أصحابنا على أن
هذا بلا خلاف وهكذا ذكر في الأصل ولم يذكر
الخلاف وهو الصحيح؛ لأن العقد المضاف إلى
موجود يجوز أن يفسد لمعنى يوجب الفساد ثم
يتعدى الفساد إلى غيره. وأما المعدوم فلا
يحتمل العقد أصلا؛ لأنه ليس بشيء فلا يوصف
العقد المضاف إليه بالفساد ليتعدى إلى غيره،
بل لم تصح الإضافة إليه فيبقى مضافا إلى
الموجود فيصح لكن للمشتري الخيار إن شاء أخذ
الباقي بما سمى من الثمن وإن شاء ترك لتفرق
الصفقة عليه وعلى هذا جميع العدديات المتفاوتة
ولو قال: بعت منك هذا القطيع من الغنم على
أنها مائة، كل شاتين منها بعشرين درهما فالبيع
فاسد. وإن وجده على ما سمى؛ لأن ثمن كل واحدة
من الشاتين مجهول؛ لأنه لا يعرف حصة كل شاة
منها من الثمن إلا بعد ضم شاة أخرى إليها ولا
يعلم أية شاة يضم إليها ليعلم حصتها؛ لأنه إن
ضم إليها أردأ منها كانت حصتها أكثر وإن ضم
إليها أجود منها كانت حصتها أقل لذلك فسد
البيع والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا يخرج
قول أبي حنيفة رحمه الله فيمن باع عشرة أذرع
من مائة ذراع من هذه الدار أو من هذا الحمام
أو من هذه الأرض أن البيع فاسد وقال أبو يوسف
ومحمد: جائز ولو باع عشرة أسهم من مائة سهم؛
جاز بالإجماع والكلام فيه يرجع إلى معرفة معنى
الذراع فقالا: إنه اسم في العرف للسهم الشائع
ولو باع عشرة أسهم من مائة سهم من هذه
الأشياء؛ جاز فكذا هذا وأبو حنيفة رحمه الله
يقول: الذراع في الحقيقة اسم لما يذرع به
وإنما سمي المذروع ذراعا مجازا إطلاقا لاسم
الفعل على المفعول.فكان
ج / 5 ص -163-
بيع عشرة
أذرع من دار معناه: بيع قدر عشرة أذرع مما
يحله الذراع الحقيقي ؛ لأنه لا يحل إلا محلا
معينا فكان المبيع قدر عشرة أذرع ، معين من
الدار وهو الذي يحله الذراع الحقيقي وذلك
مجهول في نفسه قبل الحلول فكان المبيع مجهولا
جهالة مفضية إلى المنازعة فيوجب فساد البيع
بخلاف السهم ؛ لأنه اسم للشائع وهو جزء معلوم
من الثلث والربع والعشر ونحو ذلك ، فبيع عشرة
أسهم من مائة سهم من الدار هو بيع عشرة أجزاء
من مائة جزء منها وهو عشرها ، فقد باع جزءا
معلوما منها فيجوز بخلاف الذراع فإن قدر عشرة
أذرع لا يصير معلوما إلا بالحلول على ما مر
فقبله يكون مجهولا فكان المبيع مجهولا فلم يصح
فوضح الفرق بينهما لأبي حنيفة. وعلى هذا يخرج
ضربة الغائص وهو أن يقول الغائص للتاجر: أغوص
لك غوصة فما أخرجته فهو لك بكذا وهو فاسد ؛
لأن المبيع مجهول وروي أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم
"نهى عن ضربة الغائص" وعلى
هذا يخرج أجناس هذه المسائل وبيع رقبة الطريق
وهبته منفردا جائز وبيع مسيل الماء وهبته
منفردا فاسد. "ووجه" الفرق أن الطريق معلوم
الطول والعرض ؛ فكان المبيع معلوما فجاز بيعه
بخلاف المسيل فإنه مجهول القدر ؛ لأن القدر
الذي يشغل الماء من النهر غير معلوم ؛ فكان
المبيع مجهولا فلم يجز. "وأما" العلم بأوصاف
المبيع والثمن فهل هو شرط لصحة البيع بعد
العلم بالذات والجهل بها هل هو مانع من الصحة؟
قال أصحابنا: ليس بشرط الصحة ، والجهل بها ليس
بمانع من الصحة لكنه شرط اللزوم فيصح بيع ما
لم يره المشتري لكنه لا يلزم وعند الشافعي
رحمه الله كون المبيع معلوم الذات والصفة من
شرائط الصحة حتى لا يجوز بيع ما لم يره
المشتري عنده. "وجه" قوله أن جهالة الذات إنما
منعت صحة العقد لإفضائها إلى المنازعة؛ لأن
الأعيان تختلف رغبات الناس فيها لاختلاف
ماليتها فالبائع إذا سلم عينا فمن الجائز أن
يطلب المشتري عينا أخرى أجود منها باسم الأولى
فيتنازعان وجهالة الوصف مفضية إلى المنازعة
أيضا ؛ لأن الغائب عن المجلس إذا أحضره البائع
فمن الجائز أن يقول المشتري: هذا ليس عين
المبيع بل مثله من جنسه فيقعان في المنازعة
بسبب عدم الرؤية ولأن عدم الرؤية يوجب تمكن
الغرر في البيع
"ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر"
وبيان تمكن الغرر أن الغرر هو الخطر وفي هذا البيع خطر من وجوه:
أحدها: في أصل المعقود عليه، والثاني: في وصفه
؛ لأن دليل الوجود إذا كان غائبا هو الخبر،
وخبر الواحد يحتمل الصدق والكذب فيتردد
المعقود عليه بأصله ووصفه بين الوجود والعدم،
والثالث في وجود التسليم وقت وجوبه؛ لأن وقت
الوجوب وقت نقد الثمن وقد يتفق النقد وقد لا
يتفق، والغرر من وجه واحد يكفي لفساد العقد
فكيف من وجوه ثلاثة؟ وروي عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال:
"لا تبع ما ليس عندك" وعند كلمة حضرة والغيبة تنافيها، والخلاف في البيع والشراء خلاف
واحد. "ولنا" عمومات البيع من غير فصل ونص خاص
وهو ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
قال:
"من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه"
ولا خيار شرعا إلا في بيع مشروع ولأن ركن
البيع صدر من أهله مضافا إلى محل هو خالص ملكه
فيصح كشراء المرئي؛ وهذا لأن وجود التصرف
حقيقة بوجود ركنه، ووجوده شرعا لصدوره من أهله
وحلوله في محله، وقوله: جهالة الوصف تفضي إلى
المنازعة ممنوع؛ لأنه صدقه في خبره حيث اشتراه
فالظاهر أنه لا يكذبه ودعوى الغرر ممنوعة فإن
الغرر هو الخطر الذي استوى فيه طرف الوجود
والعدم بمنزلة الشك، وههنا ترجح جانب الوجود
على جانب العدم بالخبر الراجح صدقه على كذبه ؛
فلم يكن فيه غرر على أنا إن سلمنا أن الغرر
اسم لمطلق الخطر لكن لم قلتم: إن كل غرر يفسد
العقد؟ وأما الحديث فيحتمل أن يكون الغرر هو
الخطر ويحتمل أن يكون من الغرر فلا يكون حجة
مع الاحتمال أو نحمله على الغرر في صلب العقد
بالتعليق بشرط أو بالإضافة إلى وقت عملا
بالدلائل كلها. وأما الحديث الثاني فيحتمل أن
يكون المراد منه بيع ما ليس بمملوك له عن نفسه
لا بطريق النيابة عن مالكه أو بيع شيء مباح
على أن يستولي عليه فيملكه فيسلمه وهذا يوافق
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"بيع السمك في الماء غرر".
وعلى هذا الخلاف: إذا باع شيئا لم يره البائع
أنه يجوز عندنا، وعنده لا يجوز، وإذا جاز
عندنا فهل يثبت الخيار للبائع؟ فعن أبي حنيفة
روايتان نذكر ذلك في موضعه إن شاء الله
ج / 5 ص -164-
تعالى.
وعلى هذا الخلاف شراء الأعمى وبيعه جائز
عندنا، وقال الشافعي: إذا ولد أعمى لا يجوز
بيعه وشراؤه، وإن كان بصيرا فرأى الشيء ثم عمي
فاشتراه جاز وما قاله مخالف للحديث والإجماع.
"أما" الأول: فإنه روي عن سيدنا عمر رضي الله
عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال
لحبان بن منقذ
"إذا بايعت فقل: لا خلابة ولي الخيار ثلاثة
أيام" وكان حبان ضريرا. "وأما" الإجماع فإن العميان في كل زمان من لدن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعوا من
بياعاتهم وأشريتهم بل بايعوا في سائر الأعصار
من غير إنكار وإذا جاز شراؤه وبيعه فله الخيار
فيما اشترى ولا خيار له فيما باع في أصح
الروايتين كالبصير ثم بماذا يسقط خياره؟ نذكره
في موضعه وعلى هذا الخلاف إذا اشترى شيئا
مغيبا في الأرض كالجزر والبصل والفجل ونحوها
أنه يجوز عندنا، وعنده لا يجوز ويثبت له
الخيار إذا قلعه، وعنده لا يجوز أصلا. وأما
بيان ما يحصل به العلم بالمبيع والثمن فنقول:
العلم بالمبيع لا يحصل إلا بالإشارة إليه؛ لأن
التعين لا يحصل إلا بها إلا إذا كان دينا
كالمسلم فيه فيحصل العلم به بالتسمية، والعلم
بالثمن لا يحصل إلا بالتسمية، والإشارة إليه
عندنا مجاز عن تسمية جنس المشار إليه ونوعه
وصفته وقدره على ما يعرف في موضعه إن شاء الله
تعالى غير أن المبيع إن كان أصلا لا بد من
الإشارة إليه بطريق الأصالة ليصير معلوما، وإن
كان تبعا يصير معلوما بالإشارة إلى الأصل ؛
لأن البيع كما لا يفرد بعلة على حدة ، لا يفرد
بشرط على حدة إذ لو أفرد ؛ لانقلب أصلا وهذا
قلب الحقيقة، وبيان ذلك في مسائل: إذا باع
جارية حاملا من غير مولاها أو بهيمة حاملا؛
دخل الحمل في البيع تبعا للأم كسائر أطرافها،
وإن لم يسمه ولا أشار إليه ، ولو باع عقارا
دخل ما فيها من البناء والشجر بنفس البيع ولا
يدخل الزرع والثمر إلا بقرينة، وجملة الكلام
في بيع العقار أن المبيع لا يخلو من أن يكون
أرضا أو كرما أو دارا أو منزلا أو بيتا، وكل
ذلك لا يخلو: إما إن لم يذكر في بيعه الحقوق
ولا المرافق ولا ذكر كل قليل وكثير منها، وإما
إن ذكر شيئا من ذلك فإن كان المبيع أرضا ولم
يذكر شيئا من القرائن؛ دخل ما فيها من الأبنية
والأشجار ولم يدخل الزرع والثمار عند عامة
العلماء، وقال مالك رحمه الله: ثمار سائر
الأشجار كذلك وكذلك ثمر النخل إذا أبر فأما
إذا لم يؤبر؛ يدخل. واحتج بما روي عن النبي
عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" قيد عليه
الصلاة والسلام ملك البائع في الثمرة بوصف
التأبير ولو لم يكن يختلف الحكم؛ لم يكن
للتقييد فائدة. "ولنا" ما روي عن محمد رحمه
الله في كتاب الشفعة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"من اشترى
أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع إلا أن يشترطها
المبتاع"
جعل عليه الصلاة والسلام الثمرة للبائع مطلقا عن وصف وشرط فدل أن
الحكم لا يختلف بالتأبير وعدمه ولأن النخل اسم
لذات الشجرة فلا يدخل ما عداه إلا بقرينة
زائدة ولهذا لم يدخل ثمار سائر الأشجار ولا
حجة له فيما روي؛ لأن تقييد الحكم بوصف لا يدل
على أن الحكم في غير الموصوف بخلافه ، بل يكون
الحكم فيه مسكوتا موقوفا على قيام الدليل وقد
قام، وهو ما روينا ولا يحمل المطلق على المقيد
عندنا ؛ لما فيه من ضرب النصوص بعضها في بعض
وهذا لا يجوز لما عرف في أصول الفقه. وكذلك إن
كان كرما يدخل في بيعه ما فيه من الزراعة
والعرائش والحوائط من غير ذكر قرينة، ولا تدخل
الفواكه والبقول والأصل أن كل ما ركب في الأرض
يدخل وما لم يركب فيها أو ركب لا للبقاء بل
لوقت معلوم لا يدخل، وكذا يدخل الطريق إلى
الطريق الأعظم والطريق إلى سكة غير نافذة من
غير ذكر قرينة. وإن ذكر شيئا من القرائن فإن
ذكر الحقوق أو المرافق دخل فيها الشرب ومسيل
الماء والطريق الخاص الذي يكون في ملك إنسان
وهو حق المرور في ملكه ولا يدخل الزرع والثمر
؛ لأنها أعيان قائمة بنفسها فلا يتناولها اسم
الحقوق والمرافق بخلاف الشرب والمسيل والتطرق
فإنها عبارة عن حق الشرب والسقي والتسييل
والمرور ؛ فيتناولها الاسم، وإن ذكر القليل
والكثير بأن قال: بعتها منك بكل قليل وكثير هو
فيها ومنها فهل يدخل الزرع والثمر؟ ينظر: إن
قال في آخره: من حقوقها ؛ فلا يدخلان ؛ لأن
قوله: من حقوقها خرج تفسيرا لأول الكلام فكأنه
نص على البيع بحقوقها ، وإن لم يقل في آخره من
حقوقها ؛ دخل فيه الزرع والثمر وكل ما كان
متصلا به ؛ لأن اسم القليل والكثير فيه ومنه
يتناول ذلك. وأما المنفصل عنها كالثمار
المجذوذة والزرع المحصود والحطب
ج / 5 ص -165-
واللبن
والقصب الموضوع فلا يدخل في البيع إلا
بالتسمية، فرق بين البيع والإجارة أن الشرب
والمسيل والطريق الخاص في ملك إنسان يدخل في
الإجارة من غير ذكر الحقوق والمرافق وفي البيع
لا يدخل بدونه. والقياس أن لا يدخل في البابين
جميعا إلا بالتسمية إلا أنهم استحسنوا في
الإجارة؛ لأنها تعقد للانتفاع بالمستأجر ولا
يمكن الانتفاع به بدون الحقوق فصارت الحقوق
مذكورة بذكر المستأجر دلالة بخلاف البيع فإنه
يعقد للملك، والانتفاع ليس من ضرورات الملك
فإنه يثبت الملك فيما لا ينتفع به، وكذا فرق
بين البيع والرهن: فإن من رهن عند رجل أرضا
فيها زرع وأشجار عليها ثمار وسلمها إليه أنه
يدخل في الرهن كل ما كان متصلا بها من غير
تسمية الحقوق والقليل والكثير. "ووجه" الفرق
أن تمييز الرهن من غيره شرط صحة الرهن على ما
نذكر في كتابه فمتى أقدما على عقد الرهن فقد
قصدا صحته ولا صحة له إلا بدخول ما كان متصلا
بالمرهون فدخل فيه تصحيحا للتصرف؛ إذ لا صحة
بدونه بخلاف البيع فإن تمييز المبيع من غيره
ليس بشرط لصحة البيع، فلا ضرورة في الدخول
بغير التسمية فلا يدخل بدونها هذا إذا كان
المبيع أرضا أو كرما. فإن كان دارا يدخل في
بيعها جميع ما كان منها من بيت ومنزل وعلو
وسفل وجميع ما تجمعه الحدود الأربعة من غير
ذكر قرينة، وتدخل أغاليق الدار ومفاتيح
أغاليقها، أما الأغاليق فلأنها ركبت للبقاء لا
لوقت معلوم فتدخل كالميزاب وأما المفاتيح فلأن
مفتاح الغلق من الغلق؛ ألا ترى أنه لو اشترى
الغلق دخل المفتاح فيه من غير تسمية فيدخل في
البيع بدخول الغلق ويدخل طريقها إلى طريق
العامة وطريقها إلى سكة غير نافذة، كما يدخل
في الأرض والكرم ويدخل الكنيف والشارع
والجناح؟ كل ذلك يدخل من غير قرينة وهل تدخل
الظلة؟ ينظر إن لم يكن مفتحها إلى الدار؛ لا
تدخل بالاتفاق، وإن كان مفتحها إلى الدار؛ لا
تدخل أيضا عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله تدخل. "وجه" قولهما أن
الظلة إذا كانت مفتحها إلى الدار كانت من
أجزاء الدار فتدخل ببيع الدار كالجناح والكنيف
ولأبي حنيفة أن ظلة الدار خارجة عن حدودها
فإنها اسم لما يظل عند باب الدار خارجا منها
فلا تدخل تحت بيع الدار كالطريق الخارج وبهذا
لو حلف لا يدخل هذه الدار فدخل ظلتها لا يحنث
وأما ما كان لها من بستان فينظر إن كان داخل
حد الدار يدخل وإن كان يلي الدار لا يدخل من
غير تسمية، وقال بعضهم: إن كانت الدار صغيرة
يدخل وإن كانت كبيرة لا يدخل؛ لأنها إذا كانت
صغيرة يمكن أن يجعل تبعا للدار وإذا كانت
كبيرة لا يمكن، وقال بعضهم: يحكم الثمن فإن
صلح لهما يدخل وإلا فلا يدخل وأما مسيل الماء
والطريق الخاص في ملك إنسان وحق إلقاء الثلج
فإن ذكر الحقوق والمرافق يدخل، وكذا إن ذكر كل
قليل وكثير هو فيها ومنها سواء ذكر في آخره من
حقوقها أو لم يذكر وتدخل الظلة أيضا بلا خلاف
إذا كان مفتحها إلى الدار. وإذا كان المبيع
بيتا فيدخل في بيعه حوائطه وسقفه وبابه
والطريق إلى الطريق العامة والطريق إلى سكة
غير نافذة من غير ذكر قرينة وأما الطريق الخاص
في ملك إنسان فلا يدخل إلا بذكر أحد القرائن
الثلاث ولا يدخل بيت العلو إن كان على علوه
بيت وإن ذكر القرائن؛ لأن العلو بيت مثله فكان
أصلا بنفسه فلا يكون تبعا له وإن لم يكن على
علوه بيت؛ كان له أن يبني على علوه وإن كان
البيت في داره فباعه من رجل لا يدخل في البيع
طريقه في الدار إلا بذكر الحقوق ثم إن كان
البيت يلي الطريق الأعظم يفتح له بابا إليه.
وإن كان لا يلي الطريق الأعظم لا يبطل البيع
وله أن يستأجر الطريق إليه أو يستعير من صاحب
الدار فرق بين هذا وبين القسمة إذا أصاب أحد
الشريكين في الدار بيت أو منزل أو ناحية منها
بغير طريق أنه ينظر إن أمكنه فتح الباب إلى
الطريق ليس له أن يتطرق في نصيب شريكه سواء
ذكروا في القسمة الحقوق والمرافق أو لا وكذا
إذا كان مسيل مائه في نصيب شريكه قبل القسمة
انقطع ذلك الحق إن أمكنه تسييل في نصيب نفسه؛
ليس له أن يسيل في نصيب شريكه، وإن لم يمكنه
تسييل الماء ولا فتح الباب في نصيب نفسه
ويمكنه ذلك في نصيب شريكه فإنه ينظر إن ذكروا
في القسمة الحقوق أو المرافق فالطريق والمسيل
يدخلان في القسمة ولا تبطل القسمة وإن لم
يذكروا ذلك فلا يدخلان وتبطل القسمة. "ووجه"
الفرق أن القسمة لتتميم المنفعة وتكميلها
ج / 5 ص -166-
فإذا أدت
إلى تفويتها بطلت، والبيع للملك لا للانتفاع
بالمملوك على ما ذكرنا ويجوز بيع بيت العلو
دون السفل إذا كان على العلو بناء، وإن لم يكن
عليه بناء لا يجوز؛ لأنه بيع الهواء على
الانفراد وإنه لا يجوز ثم إذا باع العلو وعليه
بناء حتى جاز البيع فطريقه في الدار لا يدخل
الطريق إلا بذكر الحقوق ويجوز بيع السفل سواء
كان مبنيا أو غير مبني؛ لأنه بيع الساحة وذلك
جائز وإن لم يكن عليه بناء، وإن كان المبيع
منزلا يدخل في بيعه بيت السفل ولا يدخل بيت
العلو ولا الطريق الخاص إلا بذكر الحقوق أو
المرافق أو بذكر القليل والكثير؛ لأن المنزل
أعم من البيت وأخص من الدار فكان بين الدار
والبيت فيعطى له حكم بين حكمين فلم يدخل العلو
في بيع المنزل من غير قرينة اعتبارا للخصوص
ويدخل فيه بقرينة اعتبارا للعموم عملا
بالجهتين بقدر الإمكان والله سبحانه وتعالى
أعلم. ثم إذا لم تدخل الثمرة بنفس البيع؛ يجبر
البائع على قطعها من الشجرة وليس له أن يتركها
على الشجرة إلى وقت الإدراك وكذا الزرع عندنا،
وعند الشافعي لا يجبر وله أن يترك الثمرة على
الشجرة إلى وقت الإدراك ويترك الزرع إلى أن
يستحصد. "وجه" قوله أن الجبر على القطع والقلع
لوجوب التسليم، ووقت وجوب التسليم هو وقت
الإدراك؛ لأنه لا يقطع ولا يقلع إلا بعد
الإدراك عادة فلا يجب عليه التسليم قبله كما
إذا انقضت مدة الإجارة والزرع لم يستحصد أنه
لا يجبر على القلع بل يترك إلى أن يستحصد.
"ولنا" أن البيع يوجب تسليم المبيع عقيبه بلا
فصل؛ لأنه عقد معاوضة تمليك بتمليك وتسليم
بتسليم فالقول بتأخير التسليم يغير مقتضى
العقد وقوله: العادة أن الثمرة تترك على
الشجرة إلى وقت الإدراك، قلنا: العادة هذا قبل
البيع أما بعده فممنوع بل تقطع بعده ولا تترك؛
لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فلا بد من
إزالة الشغل وذلك بقطع الثمرة هكذا نقول في
مسألة الإجارة: إنه يجب تسليم الأرض عند
انتهاء المدة وإنما تترك بإجارة جديدة بأجرة
أخرى وهذا حجة عليه؛ لأنه لو ترك بالعقد الأول
لما وجبت أجرة أخرى وسواء أبر أو لم يؤبر بأن
كان المبيع نخلا بعد أن ظهرت الثمرة من الشجرة
وبانت منها؛ ليس له أن يتركها على شجرة
المشتري إلا برضاه لما قلنا ولو تركها على
الشجرة إلى أن أدركت فإن كان الترك بإذن
المشتري طاب له الفضل، وإن كان بغير إذن
المشتري ينظر إن كان قد تناهى عظمها يطيب له
الفضل أيضا؛ لأنها لا تزداد بعد ذلك بل تنتقص
وإن كان صغارا لم يتناه عظمها لا يطيب له
الفضل؛ لأنه تولد من أصل مملوك لغيره ولو
استأجر البائع الشجرة ليترك الثمر عليها إلى
وقت الجذاذ؛ لم تجز هذه الإجارة؛ لأن جواز
الإجارة مع أن القياس يأباها لكونها بيع
المعدوم لتعامل الناس والناس ما تعاملوا هذا
النوع من الإجارة كما لم يتعاملوا استئجار
الأشجار لتجفيف الثياب وتجفيف اللحم، لكن لو
فعل يطيب له الفضل؛ لأنه ترك بإذن المشتري
وهذا بخلاف الإجارة إذا انقضت مدتها والزرع
بقل لم يستحصد بعد أن يترك فيه إلى وقت الحصاد
بالأجرة؛ لأن الترك بالأجرة هناك مما جرى به
التعامل فكان جائزا هذا إذا لم يسم الثمرة في
بيع الشجر. فأما إذا سمى دخل الثمر مع الشجر
في البيع وصار للثمرة حصة من الثمن وينقسم
الثمن عليها يوم العقد؛ لأنه لما سماها فقد
صارت مبيعا مقصودا لورود فعل البيع عليه حتى
لو هلك التمر قبل القبض بآفة سماوية أو بفعل
البائع تسقط حصته من الثمن عن المشتري كما لو
هلك الشجر قبل القبض والمشتري بالخيار: إن شاء
أخذ الشجر بحصته من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأن
الصفقة تفرقت عليه ولو جذه البائع والمجذوذ
قائم بعينه ينظر إن جذه في حينه ولم ينقصه
الجذاذ فلا خيار للمشتري ويقبضهما بجميع
الثمن. ولو قبضهما بعد جذاذ البائع ثم
ج / 5 ص -167-
وجد
بأحدهما عيبا؛ له أن يرد المعيب خاصة؛ لأنه
قبضهما وهما متفرقان وقت القبض فصارا كأنهما
كانا متفرقين وقت العقد بخلاف ما إذا جذه
المشتري بعد القبض ثم وجد بأحدهما عيبا؛ أنه
ليس له أن يرد المعيب خاصة بل يردهما جميعا أو
يمسكهما؛ لأنهما كانا مجتمعين عند البيع وعند
القبض جميعا، فإفراد أحدهما بالرد يكون تفريق
الصفقة بعد وقوعها مجتمعة وهذا لا يجوز هذا
إذا لم ينقصه الجذاذ بأن جذه البائع في حينه
وأوانه فأما إذا أنقصه بأن جذه في غير حينه
تسقط عن المشتري حصة النقصان؛ لأنه لما نقصه
الجذاذ فقد أتلف بعض المبيع قبل القبض فتسقط
عن المشتري حصته من الثمن وله الخيار في
الباقي لتفرق الصفقة عليه وإذا قبضهما المشتري
بعد جذاذ البائع ثم وجد بأحدهما عيبا له أن
يرد المعيب خاصة؛ لأنه قبضهما وهما متفرقان
فصارا كأنهما كانا متفرقين عند العقد. وعلى
هذا يخرج ما إذا اشترى شجرة: أنه هل يدخل في
شرائها أصلها وعروقها وأرضها؟ فجملة الكلام
فيه أن هذا لا يخلو من ثلاثة أوجه. "إما" إن
اشتراها بغير أرضها للقلع "وإما" إن اشتراها
بقرارها من الأرض للترك لا للقلع "وإما" إن
اشتراها ولم يذكر شيئا فإن اشتراها بغير أرضها
للقلع دخل فيها أصلها ويجبر المشتري على القلع
وله أن يقلعها بأصلها لكن قلعا معتادا متعارفا
وليس له أن يحفر الأرض إلى ما يتناهى إليه
العروق؛ لأن المعروف بالعرف كالمشروط بالشرط
إلا إذا شرط البائع القطع على وجه الأرض فلا
يدخل فيه أصلها، أو لم يشترط لكن في القطع من
أصلها ضرر بالبائع بأن كان بقرب حائطه أو على
حافة نهره فيخاف الخلل على الحائط أو الشق في
النهر فقطعها على وجه الأرض دون أصلها ؛ لأن
الضرر لا يستحق بالعقد فإن قلع أو قطع ثم نبت
من أصلها أو عروقها شجرة أخرى فهي للبائع لا
للمشتري ؛ لأنه رضي أن يكون المبيع القدر
المقطوع فيكون الباقي للبائع إلا إذا قطع من
أعلى الشجرة فالنابت يكون للمشتري ؛ لأنه نماء
ملكه وإن اشتراها بقرارها من الأرض للترك لا
للقلع ؛ فيدخل فيها أرضها ولا يجبر على القلع؛
لأنه ملك الشجرة مع موضعها فلم يكن ملك البائع
مشغولا به فلا يملك إجباره على القلع وله أن
يغرس مكانها أخرى؛ لأنه يغرس في ملك نفسه.
"وأما" إذا اشتراها من غير شرط القلع ولا
الترك.لم يذكر هذا في ظاهر الرواية وذكر في
غير رواية الأصول اختلافا بين أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله فقال: على قول أبي يوسف لا تدخل
الأرض في البيع وعلى قول محمد تدخل. "وجه" قول
محمد أن المسمى في البيع هو الشجرة وهي اسم
للقائم على أرضها بعروقها فأما بعد القلع فهي
خشب لا شجر فلا بد وأن تدخل الأرض فيه؛ ولهذا
دخلت في الإقرار بالإجماع بأن أقر لرجل بشجر
في أرضه حتى كانت الشجرة مع أرضها للمقر له
كذا هذا ولأبي يوسف أن الأرض أصل والشجرة
تابعة لها ؛ ألا ترى أنها تدخل في بيع الأرض
من غير شرط تبعا للأرض؟ فلو دخلت في بيع
الشجرة لاستتبع التبع الأصل وهذا قلب الحقيقة
وإنما دخلت في الإقرار بالشجرة؛ لأن الإقرار
إخبار عن كائن فلا بد من كون سابق على الإقرار
وهو قيامها في الأرض التي هي قرارها وذلك دليل
كون الأرض للمقر له بسبب سابق فكان الإقرار
بكون الشجرة له إقرارا بكون الأرض له أيضا،
ومثل هذه الدلالة لم توجد في البيع فلا يدخل
والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو اشترى صدفة
فوجد فيها لؤلؤة فهي للمشتري؛ لأنها تتولد من
الصدفة بمنزلة البيضة تتولد من الدجاجة فكانت
بمنزلة أجزائها فتدخل في بيعها كما تدخل
البيضة في بيع الدجاجة وكذلك إذا اشترى سمكة
فوجد فيها لؤلؤة ؛ لأن السمك يأكل الصدفة فصار
كما لو اشترى سمكة فوجد فيها سمكة أخرى ؛ أن
الثانية تكون له، ولو اشترى دجاجة فوجد فيها
لؤلؤة فهي للبائع ؛ لأن اللؤلؤ لا يتولد من
الدجاج ولا هو من علفها فلا يدخل في بيعها.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن كل شيء يوجد في
حوصلة الطير إن كان مما يأكله الطير فهو
للمشتري؛ لأنه يكون بمنزلة العلف له. وإن كان
مما لا يأكله الطير فهو للبائع وعلى هذا يخرج
ما إذا باع رقيقا وله مال أن ماله لا يدخل في
البيع ويكون للبائع إلا أن يشترطه المبتاع؛
لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
قال: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا
أن يشترط المبتاع" وهذا نص في الباب ولأن
العبد وما في يده لمولاه؛ لأنه مملوك لا يقدر
على شيء والمولى ما باع ما في يد العبد؛ لأن
الداخل تحت البيع هو العبد فلا يدخل في بيعه
ما ليس منه والقياس أن لا تدخل ثياب بدنه كما
لا يدخل اللجام والسرج والعذار في بيع الدابة؛
لما قلنا لكنهم استحسنوا في ثياب البذلة
والمهنة وهي التي يلبسها في اليوم والليلة
لتعامل الناس وتعارفهم وأما الثياب النفيسة
التي لا يلبسها إلا وقت العرض للبيع فلا تدخل
في البيع لانعدام التعارف في ذلك فبقي على أصل
القياس وهذا مما يختلف باختلاف عرف الناس
وعاداتهم في كل بلد فبني الأمر فيه على ذلك،
وكذا لو أعتق عبده على مال فماله لمولاه لما
قلنا وكذا لو أعتق مدبره أو أم ولده؛ لأنه
مرقوق مملوك فلا يكون له مال ولو كاتب عبده
فما كان له من المال وقت الكتابة يكون لمولاه؛
لأنه كسب القن وما اكتسب بعد الكتابة يكون له؛
لأنه كسب المكاتب ولأنه حر يدا فكان كسبه له
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ج / 5 ص -168-
"ومنها" أن يكون مقدور التسليم من غير ضرر
يلحق البائع فإن لم يمكن تسليمه إلا بضرر
يلزمه فالبيع فاسد ؛ لأن الضرر لا يستحق
بالعقد ولا يلزم بالتزام العاقد إلا ضرر تسليم
المعقود عليه ، فأما ما وراءه فلا ، وعلى هذا
يخرج ما إذا باع جذعا له في سقف أو آجرا له في
حائط أو ذراعا في ديباج أو كرباس أنه لا يجوز؛
لأنه لا يمكنه تسليمه إلا بالنزع والقطع وفيه
ضرر بالبائع والضرر غير مستحق بالعقد فكان هذا
على هذا التقدير بيع ما لا يجب تسليمه شرعا
فيكون فاسدا فإن نزعه البائع أو قطعه وسلمه
إلى المشتري قبل أن يفسخ المشتري البيع؛ جاز
البيع حتى يجبر المشتري على الأخذ ؛ لأن
المانع من الجواز ضرر البائع بالتسليم فإذا
سلم باختياره ورضاه فقد زال المانع فجاز البيع
ولزم، وفرق بين هذا وبين بيع الألية في الشاة
الحية والنوى في التمر والزيت في الزيتون
والدقيق في الحنطة والبزر في البطيخ. ونحوها
أنه لا ينعقد أصلا حتى لو سلم؛ لم يجز وقد
ذكرنا وجه الفرق فيما تقدم والأصل المحفوظ أن
ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر يرجع إلى قطع
اتصال ثابت بأصل الخلقة فبيعه باطل وما لا
يمكن تسليمه إلا بضرر يرجع إلى قطع اتصال عارض
فبيع فاسد إلا أن يقطع باختياره ويسلم فيجوز
والقياس على هذا الأصل أن يجوز بيع الصوف على
ظهر الغنم ؛ لأنه يمكن تسليمه من غير ضرر
يلزمه بالجز إلا أنهم استحسنوا عدم الجواز
للنص وهو ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن
الجز من أصله لا يخلو عن الإضرار بالحيوان
وموضع الجز فيما فوق ذلك غير معلوم فتجري فيه
المنازعة فلا يجوز ولو باع حلية سيف فإن كان
يتخلص من غير ضرر يجوز وإن كان لا يتخلص إلا
بضرر فالبيع فاسد إلا إذا فصل وسلم، وعلى هذا:
بناء بين رجلين والأرض لغيرهما فباع أحدهما
نصيبه من البناء لغير شريكه لم يجز ؛ لأنه لا
يمكن تسليمه إلا بضرر وهو نقض البناء، وكذا
زرع بين رجلين أو ثمار بينهما في أرض لهما حق
الترك فيها إلى وقت الإدراك فباع أحدهما نصيبه
قبل الإدراك لم يجز؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا
بضرر صاحبه ؛ لأنه يجبر على القلع للحال وفيه
ضرر به، ولو باع بعد الإدراك جاز لانعدام
الضرر وكذا إذا كان الزرع كله لرجل ولم يدرك
فباع الزرع لم يجز؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا
بقطع الكل وفيه ضرر، ولو كان بعد الإدراك جاز
لانعدام الضرر، دار أو أرض بين رجلين مشاع غير
مقسوم فباع أحدهما بيتا منها بعينه قبل القسمة
أو باع قطعة من الأرض بعينها قبل القسمة لم
يجز لا في نصيبه ولا في نصيب صاحبه.أما في
نصيبه خاصة فظاهر ، وأما في نصيب صاحبه فلأن
فيه إضرارا بصاحبه بإحداث زيادة شركة ولو باع
جميع نصيبه من الدار والأرض جاز ؛ لأنه لم
يحدث زيادة شركة، وإنما قام المشتري مقام
البائع، ولو باع اللؤلؤة في الصدفة ذكر الكرخي
رحمه الله أنه لا يجوز ؛ لأنه لا يمكن تسليمها
إلا بشق الصدفة وإنه ضرر فيما وراء المعقود
فصار كبيع الجذع في السقف. وروي عن أبي يوسف
أنه يجوز ؛ لأنه لا يتضرر بشق الصدفة ؛ لأن
الصدف لا ينتفع به إلا بالشق ولو باع قفيزا من
هذه الصبرة أو عشرة دراهم من هذه النقرة جاز ؛
لأنه لا يتضرر بالفصل والتمييز وكذا لو باع
القوائم على رءوس الأشجار أو باع الثمار على
رءوس الأشجار بشرط القطع أو مطلقا جاز لما
قلنا وكذا لو باع بناء الدار دون العرصة أو
الأشجار القائمة على الأرض دون الأرض أو الزرع
أو البقول القائمة قبل الجذ أنه يجوز ؛ لأنه
يمكنه تسليم هذه الأشياء من غير ضرر والله
سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" الخلو عن الشروط
الفاسدة وهي أنواع.منها: شرط في وجوده غرر نحو
ما إذا اشترى ناقة على أنها حامل؛ لأن المشروط
لا يحتمل الوجود والعدم ولا يمكن الوقوف عليه
للحال؛ لأن عظم البطن والتحرك يحتمل أن يكون
لعارض داء أو غيره فكان في وجوده غرر فيوجب
فساد البيع لما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه
"نهى عن بيع وغرر" والمنهي عنه
فاسد وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي
الله عنهما أن البيع بهذا الشرط جائز ؛ لأن
كونها حاملا بمنزلة شرط كون العبد كاتبا أو
خياطا ونحو ذلك وذا جائز فكذا هذا ولو اشترى
جارية على أنها حامل إلا رواية فيه عن أصحابنا
واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز البيع
قياسا على البهائم وإليه أشار محمد رحمه الله
في البيوع فإنه قال: لو باع وتبرأ من حملها ؛
جاز البيع وليس هذا كالشرط وظاهر قوله: وليس
هذا كالشرط يشير إلى أن شرط الخيار فيه مفسد.
وقال بعضهم: يجوز ؛ لأن الحبل في الجواري عيب
بدليل أنه لو اشترى
ج / 5 ص -169-
جارية
فوجدها حاملا له أن يردها فكان ذكر الحبل في
الجواري إبراء عن هذا العيب بخلاف البهائم ؛
لأن الحبل فيها زيادة ؛ ألا ترى أنه لو اشترى
بهيمة فوجدها حاملا ليس له حق الرد فكان ذكر
الحبل فيها شرطا ، في وجوده غرر ؛ فيفسد البيع
وبعضهم فصل فيه تفصيلا فقال: إن اشتراها
ليتخذها ظئرا فالبيع فاسد ؛ لأنه شرط زيادة في
وجودها خطر وهي مجهولة أيضا فأشبه اشتراط
الحبل في بيع الناقة وإن لم يرد بالشراء ذلك
جاز البيع ؛ لأن ذكره يكون إبراء عن هذا العيب
على ما بينا. ولو اشترى ناقة وهي حامل على
أنها تضع حملها إلى شهر أو شهرين فالبيع فاسد
؛ لأن في وجود هذا الشرط غررا ، وكذا لو اشترى
بقرة على أنها تحلب كذا كذا رطلا لما قلنا ولو
اشترى بقرة على أنها حلوبة لم يذكر هذا في
ظاهر الرواية، وروى الحسن في المجرد عن أبي
حنيفة رحمه الله أنه يجوز وهو قياس روايته في
شرط الحبل."ووجهه" أن شرط كونها حلوبة شرط
زيادة صفة فأشبه شرط الطبخ والخبز في الجواري
، وروى ابن سماعة في نوادره عن محمد رحمهما
الله أنه لا يجوز وهو اختيار الكرخي رحمه
الله."ووجهه" أن هذا شرط زيادة فيجري في
وجودها غرر وهو مجهول وهو اللبن فلا يصلح شرطا
في البيع، وكونها حلوبة إن كان صفة لها لكنها
لا توصف به إلا بوجود اللبن وفي وجوده غرر
وجهالة على ما ذكرنا فيوجب فساد البيع، ولو
اشترى بقرة على أنها لبون ذكر الطحاوي أن هذا
الشرط لا يفسد البيع والجواب فيه كالجواب في
الحلوبة والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو اشترى
قمرية على أنها تصوت أو طيرا على أنه يجيء من
مكان بعيد أو كبشا على أنه نطاح أو ديكا على
أنه مقاتل فالبيع فاسد عند أبي حنيفة رحمه
الله وهو إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله ؛
لأنه شرط فيه غرر والوقوف عليه غير ممكن؛ لأنه
لا يحتمل الجبر عليه فصار كشرط الحبل ولأن هذه
صفات يتلهى بها عادة والتلهي محظور فكان هذا
شرطا محظورا فيوجب فساد البيع وروي عن محمد
رحمه الله أنه إذا باع قمرية على أنها تصوت
فإذا صوتت جاز البيع؛ لأنها لما صوتت علم أنها
مصوتة فلم يتحقق غرر العدم، وعلى هذه الرواية
قالوا في المحرم إذا قتل قمرية مصوتة: إنه
يضمن قيمتها مصوتة. ولو اشترى جارية على أنها
مغنية على سبيل الرغبة فيها فالبيع فاسد؛ لأن
التغنية صفة محظورة لكونها لهوا فشرطها في
البيع يوجب فساده، ولو اشترى جارية على أنها
مغنية على وجه إظهار العيب جاز البيع ؛ لأن
هذا بيع بشرط البراءة عن هذا العيب فصار كما
لو باعها بشرط البراءة عن عيب آخر فإن وجدها
لا تغني لا خيار له ؛ لأن الغناء في الجواري
عيب فصار كما لو اشترى على أنه معيب فوجده
سليما. ولو اشترى كلبا أو فهدا على أنه معلم
قال أبو يوسف: يجوز البيع وهو إحدى الروايتين
عن محمد؛ لأن هذا شرط يمكن الوقوف عليه بأن
يأخذ المصيد فيمسكه على صاحبه وذا ليس بشرط
محظور؛ لأن تعليم الكلب والاصطياد به مباح
فأشبه شرط الكتابة في العبد والطبخ في
الجارية. وروي عن محمد أن البيع فاسد؛ لأنه
شرط فيه غرر ؛ إذ لا يمكن الوقوف عليه إلا
بالاصطياد والجبر عليه غير ممكن. ولو اشترى
برذونا على أنه هملاج فالبيع جائز ؛ لأنه شرط
يمكن الوقوف عليه بالتسيير فلم يكن في وجوده
غرر ولا خطر أيضا، وإن شئت أفردت لجنس هذه
المسائل شرطا على حدة وخرجتها إليه فقلت:
ومنها أن لا يكون المشروط محظورا فافهم.
"ومنها" شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة
للبائع أو للمشتري أو للمبيع إن كان من بني
آدم كالرقيق وليس بملائم للعقد ولا مما جرى به
التعامل بين الناس نحو ما إذا باع دارا على أن
يسكنها البائع شهرا ثم يسلمها إليه أو أرضا
على أن يزرعها سنة أو دابة على أن يركبها شهرا
أو ثوبا على أن يلبسه أسبوعا أو على أن يقرضه
المشتري قرضا أو على أن يهب له هبة أو يزوج
ابنته منه أو يبيع منه كذا ونحو ذلك أو اشترى
ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا أو حنطة على
أن يطحنها أو ثمرة على أن يجذها أو ربطة قائمة
على الأرض على أن يجذها أو شيئا له حمل ومؤنة
على أن يحمله البائع إلى منزله ونحو ذلك ؛
فالبيع في هذا كله فاسد ؛ لأن زيادة منفعة
مشروطة في البيع تكون ربا لأنها زيادة لا
يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا.
والبيع الذي فيه الربا فاسد أو فيه شبهة الربا
، وإنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا على ما
نقرره إن شاء الله تعالى وكذا لو باع جارية
على أن يدبرها المشتري أو على أن يستولدها
فالبيع فاسد ؛ لأنه شرط فيه منفعة للمبيع وإنه
مفسد ، وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها
ج / 5 ص -170-
المشتري
فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى
الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه جائز
وبه أخذ الشافعي رحمه الله. "ووجه" هذه
الرواية أن شرط الاعتقاد مما يلائم العقد ؛
لأن الإعتاق إنهاء الملك وإنهاء الملك تقرير
له فكان ملائما والدليل على أن الإعتاق إنهاء
للملك أن البيع ثبت مقتضى الأمر بالإعتاق في
قول الرجل: أعتق عبدك عني على ألف درهم فأعتق
حتى يقع العتق عن الآمر ولا عتق إلا بالملك
ولا ملك إلا بالتمليك فلو كان الإعتاق إزالة
الملك لما تصور وجود الإعتاق مقتضاه؛ لأنه ضده
والشيء لا يقتضي ضده ، وإذا كان إنهاء الملك ؛
كان تقريرا له فكان ملائما للعقد فلا يوجب
فساده ولظاهر الرواية وجهان: أحدهما: يعم الكل
والثاني يخص أبا حنيفة عليه الرحمة أما الأول:
فهو أن شرط العتق شرط لا يلائمه العقد ؛ لأن
العقد يقتضي الملك ، والملك يقتضي إطلاق
التصرف في المملوك تحصيلا وتركا. وشرط الإعتاق
يقتضي الاستحقاق واللزوم لا محالة فلا يلائمه
بل يضاده وأما الثاني: فلأن هذا الشرط يلائم
العقد من وجه ولا يلائمه من وجه وهذا يوجب
الفساد على ما نذكر تقريره ثم إذا باع بهذا
الشرط فأعتقه المشتري ؛ انقلب العقد جائزا
بالإعتاق عند أبي حنيفة استحسانا حتى يجب على
المشتري الثمن سواء أعتقه بعد القبض أو قبله
هكذا روى ابن شجاع عن أبي حنيفة رحمهما الله
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا ينقلب
جائزا حتى تلزمه قيمة الجارية وهو القياس،
وهكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله
تعالى."ووجهه" ظاهر؛ لأن البيع وقع فاسدا من
حين وجوده وبالإعتاق لا ينعدم الفساد بل
يتقرر؛ لأنه إنهاء للملك وإنه تقرير فيوجب
تقرر الفساد للفاسد، والفاسد يفيد الملك
بالقيمة لا بالثمن ولهذا لو هلك العبد في يده
قبل الإعتاق تلزمه القيمة وكذا لو باعه من رجل
أو وهبه فعليه قيمته كذا ههنا ولأبي حنيفة
رحمه الله ما ذكرنا أن شرط الإعتاق يلائم
العقد من وجه ولا يلائمه من وجه؛ لأنه إنهاء
من وجه وإزالة من وجه: فمن حيث إنه إنهاء كان
يلائمه ؛ لأنه تقرير لكن من حيث إنه إزالة لا
يلائمه؛ لأنه تغيير موجب العقد فيجب العمل
بالشبهين فعملنا بشبه الإزالة، فقلنا بفساد
العقد في الابتداء وعملنا بشبه الإنهاء فقلنا
بجوازه في الانتهاء عملا بالشبهين بقدر
الإمكان، فإن قيل: لم لا يعمل بهما على القلب
مما قلتم؟ قيل: لأنه لا يمكن ؛ لأنا لم نجد
جائزا انقلب فاسدا في أصول الشريعة ووجدنا
فاسدا انقلب جائزا كما في بيع الرقم ونحوه
بخلاف ما إذا باع أو وهب ؛ لأن ذلك ليس إنهاء
الملك وبخلاف ما إذا باع بشرط التدبير أو
الاستيلاد فدبرها المشتري أو استولدها أن
البيع لا ينقلب إلى الجواز ؛ لأن التدبير
والاستيلاد لا يوجبان إنهاء الملك بيقين
لاحتمال قضاء القاضي بجواز بيع المدبر وبجواز
بيع أم الولد في الجملة فكان ذلك شرطا لا
يلائم العقد أصلا ؛ فأوجب لزوم الفساد وكذا لو
باع عبدا أو جارية بشرط أن لا يبيعه وأن لا
يهبه وأن لا يخرجه عن ملكه فالبيع فاسد ؛ لأن
هذا شرط ينتفع به العبد والجارية بالصيانة عن
تداول الأيدي فيكون مفسدا للبيع. "وأما" فيما
سوى الرقيق إذا باع ثوبا على أن لا يبيعه
المشتري أو لا يهبه أو دابة على أن لا يبيعها
أو يهبها أو طعاما على أن يأكله ولا يبيعه:
ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع فإنه
قال: لو شرط أحد المزارعين في المزارعة على أن
لا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة
والشرط باطل ، وهكذا روى الحسن في المجرد عن
أبي حنيفة رحمه الله وفي الإملاء عن أبي يوسف
أن البيع بهذا الشرط فاسد."ووجهه" أنه شرط لا
يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف
بين الناس فيكون مفسدا كما في سائر الشرائط
المفسدة والصحيح ما ذكر في المزارعة ؛ لأن هذا
الشرط لا منفعة فيه لأحد فلا يوجب الفساد وهذا
لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها
الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا
يقابلها عوض ولم يوجد في هذا الشرط ؛ لأنه لا
منفعة فيه لأحد إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه
لا يؤثر في العقد فالعقد جائز والشرط باطل،
ولو باع ثوبا على أن يحرقه المشتري أو دارا
على أن يخربها فالبيع جائز والشرط باطل ؛ لأن
شرط المضرة لا يؤثر في البيع على ما ذكرنا ولو
باع جارية على أن لا يطأها المشتري: ذكر ذلك
في الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
اختلافا ولم يذكر قول أبي حنيفة عليه الرحمة
فقال: البيع فاسد والشرط باطل عند أبي يوسف.
وعند محمد البيع جائز والشرط باطل ولو باع
بشرط أن
ج / 5 ص -171-
يطأها
جاز البيع والشرط في قولهم جميعا. وروي عن أبي
حنيفة رحمه الله أن البيع فاسد في الموضعين
جميعا. "وجه" قول محمد أن هذا شرط لا منفعة
فيه لأحد فلا يؤثر في فساد البيع كما لو باع
ما سوى الرقيق على أن لا يبيع أو لا يهب إلا
أنه نوى مضرة للمشتري فكان باطلا والبيع
صحيحا. "وجه" قول أبي يوسف إن هذا شرط يخالف
مقتضى العقد ؛ لأن حل الوطء أمر يقتضيه العقد
وهذا الشرط ينفيه بخلاف ما إذا باع بشرط أن
يطأها ؛ لأن ذلك شرط يقرر مقتضى العقد ؛ لأن
إباحة الوطء مما يقتضيه العقد ولأبي حنيفة
رحمه الله على ما روي عنه أن شرط الوطء مما لا
يقتضيه العقد أيضا بل ينفيه؛ لأن البيع يقتضي
الحل لا الاستحقاق وقضية الشرط الاستحقاق
واللزوم وهما مما لا يقتضيه العقد بل ينفيه.
"وأما" الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب
فساده كما إذا اشترى بشرط أن يتملك المبيع أو
باع بشرط أن يتملك الثمن أو باع بشرط أن يبخس
المبيع أو اشترى على أن يسلم المبيع أو اشترى
جارية على أن تخدمه أو دابة على أن يركبها أو
ثوبا على أن يلبسه أو حنطة في سنبلها وشرط
الحصاد على البائع ونحو ذلك فالبيع جائز ؛ لأن
البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط فكان
ذكرها في معرض الشرط تقريرا لمقتضى العقد فلا
توجب فساد العقد. ولو اشترى شيئا بشرط أن
يوفيه في منزله فهذا لا يخلو: إما أن يكون
المشتري والبائع بمنزلهما في المصر وإما أن
يكون أحدهما في المصر والآخر خارج المصر فإن
كان كلاهما في المصر فالبيع بهذا الشرط جائز
عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا إلا إذا كان
في تصحيح هذا الشرط تحقيق الربا، كما إذا
تبايعا حنطة بحنطة وشرط أحدهما على صاحبه
الإيفاء في منزله، وعند محمد البيع بهذا الشرط
فاسد وهو القياس؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد
وفيه منفعة للمشتري فأشبه ما إذا اشترى بشرط
الحمل إلى منزله أو بشرط الإيفاء في منزله
وأحدهما في المصر والآخر خارج المصر."ولهما"
أن الناس تعاملوا البيع بهذا الشرط إذا كان
المشتري في المصر فتركنا القياس لتعامل الناس
ولا تعامل فيما إذا لم يكونا في المصر ولا في
شرط الحمل إلى المنزل فعملنا بالقياس فيه
وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم
للعقد لا يوجب فساد العقد أيضا لأنه مقرر لحكم
العقد من حيث المعنى مؤكدا إياه على ما نذكر
إن شاء الله تعالى فيلحق بالشرط الذي هو من
مقتضيات العقد وذلك نحو ما إذا باع على أن
يعطيه المشتري بالثمن رهنا أو كفيلا والرهن
معلوم والكفيل حاضر فقبل. وجملة الكلام في
البيع بشرط إعطاء الرهن أن الرهن لا يخلو: إما
أن يكون معلوما أو مجهولا فإن كان معلوما
فالبيع جائز استحسانا والقياس أن لا يجوز ؛
لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في
الأصل وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى
العقد؛ فكان مفسدا إلا أنا استحسنا الجواز ؛
لأن هذا الشرط لو كان مخالفا مقتضى العقد صورة
فهو موافق له معنى ؛ لأن الرهن بالثمن شرع
توثيقا للثمن وكذا الكفالة فإن حق البائع
يتأكد بالرهن والكفالة فكان كل واحد منهما
مقررا لمقتضى العقد معنى فأشبه اشتراط صفة
الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد فكذا
هذا ولو قبل المشتري المبيع على هذا الشرط ثم
امتنع من تسليم الرهن لا يجبر على التسليم عند
أصحابنا الثلاثة وعند زفر يجبر عليه. "وجه"
قوله إن الرهن إذا شرط في البيع فقد صار حقا
من حقوقه والجبر على التسليم من حقوق البيع
فيجبر عليه. "ولنا" أن الرهن عقد تبرع في
الأصل واشتراطه في البيع لا يخرجه عن أن يكون
تبرعا والجبر على التبرع ليس بمشروع فلا يجبر
عليه ولكن يقال له: إما أن تدفع الرهن أو
قيمته أو تؤدي الثمن أو يفسخ البائع البيع ؛
لأن البائع لم يرض بزوال المبيع عن ملكه إلا
بوثيقة الرهن أو بقيمته ؛ لأن قيمته تقوم
مقامه ولأن الدين يستوفى من مالية الرهن وهي
قيمته وإذا أدى الثمن فقد حصل المقصود فلا
معنى للفسخ ولو امتنع المشتري من هذه الوجوه ؛
فللبائع أن يفسخ البيع لفوات الشرط والغرض وإن
كان الرهن مجهولا فالبيع فاسد ؛ لأن جواز هذا
الشرط مع أن القياس يأباه لكونه ملائما للعقد
مقررا لمقتضاه معنى لحصول التوثق والتأكد
للثمن ولا يحصل ذلك إلا بالتسليم وأنه لا
يتحقق في المجهول. ولو اتفقا على تعيين رهن في
المجلس جاز البيع ؛ لأن المانع هو جهالة الرهن
وقد زال فكأنه كان معلوما معينا من الابتداء ؛
لأن المجلس له حكم حالة واحدة وإن افترقا عن
المجلس ؛ تقرر الفساد ، وكذا إذا لم يتفقا على
تعيين الرهن ولكن المشتري نقد الثمن ؛ جاز
ج / 5 ص -172-
البيع
أيضا ؛ لأن المقصود من الرهن هو الوصول إلى
الثمن وقد حصل فيسقط اعتبار الوثيقة. وكذلك
البيع بشرط إعطاء الكفيل أن الكفيل إن كان
حاضرا في المجلس وقبل؛ جاز البيع استحسانا وإن
كان غائبا فالبيع فاسد وكذا إذا كان حاضرا ولم
يقبل؛ لأن الجواز على مخالفة القياس ثبت لمعنى
التوثيق وتوكيد الثمن لما فيه من تقرير موجب
العقد على ما بينا فإذا كان الكفيل غائبا أو
حاضرا ولم يقبل؛ لم تصح الكفالة فلم يحصل معنى
التوثيق فبقي الحكم على ما يقتضيه القياس،
وكذا إذا كان الكفيل مجهولا فالبيع فاسد؛ لأن
كفالة المجهول لا تصح ولو كان الكفيل معينا
وهو غائب ثم حضر وقبل الكفالة في المجلس جاز
البيع؛ لأنه جازت الكفالة بالقبول في المجلس،
وإذا حضر بعد الافتراق تأكد الفساد. ولو شرط
المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم
من غرمائه أو على أن يضمن الثمن لغريم من
غرماء البائع فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة
والضمان شرط لا يقتضيه العقد والشرط الذي لا
يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه
تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراز عن
الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائما للعقد بخلاف
الكفالة والرهن وكذلك إن كان مما لا يقتضيه
العقد ولا يلائم العقد أيضا لكن للناس فيه
تعامل فالبيع جائز كما إذا اشترى نعلا على أن
يحدوه البائع أو جرابا على أن يخرزه له خفا أو
ينعل خفه والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر
رحمه الله "وجه" القياس أن هذا شرط لا يقتضيه
العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وإنه مفسد كما
إذا اشترى ثوبا بشرط أن يخيطه البائع له قميصا
ونحو ذلك. "ولنا" أن الناس تعاملوا هذا الشرط
في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس
بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع، ولو اشترى
جارية على أنها بكر أو طباخة أو خبازة، أو
غلاما على أنه كاتب أو خياط، أو باع عبدا بألف
درهم على أنها صحاح أو على أنها جياد نقد بيت
المال أو اشترى على أنها مؤجلة فالبيع جائز ؛
لأن المشروط صفة للمبيع أو الثمن صفة محضة لا
يتصور انقلابها أصلا ولا يكون لها حصة من
الثمن بحال ، ولو كان موجودا عند العقد يدخل
فيه من غير تسمية وإنها صفة مرغوب فيها لا على
وجه التلهي ، والمشروط إذا كان هذا سبيله ؛
كان من مقتضيات العقد ، واشتراط شرط يقتضيه
العقد لا يوجب فساد العقد كما إذا اشترى بشرط
التسليم وتملك المبيع والانتفاع به ونحو ذلك
بخلاف ما إذا اشترى ناقة على أنها حامل أن
البيع يفسد في ظاهر الرواية ؛ لأن الشرط هناك
عين وهو الحمل فلا يصلح شرطا. وكون الناقة
حاملا وإن كان صفة لها لكن لا تحقق له إلا
بالحمل وهو عين في وجوده غرر، ومع ذلك مجهول
فأوجب ذلك فساد البيع ويخرج على هذا أيضا ما
ذكرنا من مسائل إذا اشترى ناقة على أنها تحلب
كذا وكذا رطلا أو على أنها حلوبة أو على أنها
لبون أن البيع بهذه الشروط فاسد ؛ لأن المشروط
في هذه المواضع عين فلا يصلح شرطا وعلى هذا
يخرج ما إذا اشترى جارية على أنها مغنية على
سبيل الرغبة فيها ؛ لأن جهة الغناء جهة التلهي
فاشتراطها في البيع يوجب الفساد وكذا إذا
اشترى قمرية على أنها تصوت أو طوطيا على أنه
يتكلم أو حمامة على أنها تجيء من مكان بعيد أو
كبشا على أنه نطاح أو ديكا على أنه مقاتل ؛
لأن هذه الجهات كلها جهات التلهي ، بخلاف ما
إذا اشترى كلبا على أنه معلم أو اشترى دابة
على أنها هملاج ؛ لأنه صفة لا حظر فيها بوجه
والله عز شأنه الموفق. ويجوز البيع بشرط
البراءة عن العيب عندنا سواء عم العيوب كلها
بأن قال: بعت على أني بريء من كل عيب أو خص
بأن سمى جنسا من العيوب وقال الشافعي رحمه
الله تعالى: إن خص صح وإن عم لا يصح وإذا لم
يصح الإبراء عنده هل يصح العقد؟ له فيه قولان:
في قول يبطل العقد أيضا، وفي قول يصح العقد
ويبطل الشرط وعلى هذا الخلاف الإبراء عن
الحقوق المجهولة ، ولو شرط: على أني بريء من
العيب الذي يحدث روي عن أبي يوسف رحمه الله أن
البيع بهذا الشرط فاسد. "وجه" قول الشافعي
رحمه الله أن الإبراء عن كل عيب إبراء عن
المجهول فلا يصح ، ولا شك أنه إبراء عن
المجهول والدليل على أن الإبراء عن كل عيب
إبراء عن المجهول غير صحيح أن الإبراء إسقاط
فيه معنى التمليك بدليل أنه يرتد بالرد وهذا
آية التمليك ؛ إذ الإسقاط لا يحتمل ذلك وتمليك
المجهول لا يصح كالبيع ونحوه. "ولنا" أن
الإبراء ، وإن كان فيه معنى التمليك لكن
الجهالة لا تمنع صحة التمليك لعينها بل
لإفضائها إلى المنازعة ؛ ألا ترى أنها لا تمنع
في موضع لا يفضي إلى المنازعة؟ كما
ج / 5 ص -173-
إذا باع
قفيزا من هذه الصبرة أو عشرة دراهم من هذه
النقرة، وهذا النوع من الجهالة ههنا لا يفضي
إلى المنازعة ؛ لأن قوله: كل عيب يتناول
العيوب كلها فإذا سمى جنسا من العيوب لا جهالة
له أصلا مع ما أن التمليك في الإبراء؛ يثبت
ضمنا وتبعا للإسقاط؛ لأن اللفظ ينبئ عن
الإسقاط لا عن التمليك فيعتبر التصرف إسقاطا
لا تمليكا، والجهالة لا تمنع صحة الإسقاطات.
والدليل على جواز الإبراء عن الحقوق المجهولة
ما روي "أن رجلين اختصما إلى النبي عليه
الصلاة والسلام في مواريث قد درست فقال لهما
عليه الصلاة والسلام: استهما وأوجبا الحق
وليحلل كل واحد منكما صاحبه" وعلى هذا إجماع
المسلمين من استحلال معاملاتهم في آخر أعمارهم
في سائر الأعصار من غير إنكار. وأما بيع الثمر
على الشجر بعد ظهوره وبيع الزرع في الأرض بشرط
الترك فجملة الكلام فيه أنه لا يخلو: إما إن
كان لم يبد صلاحه بعد أن صار منتفعا به بوجه
من الوجوه، وإما إن كان قد بدا صلاحه بأن صار
منتفعا به وكل ذلك لا يخلو من أن يكون بشرط
القطع أو مطلقا، أو بشرط الترك حتى يبلغ فإن
كان لم يبد صلاحه فباع بشرط القطع جاز وعلى
المشتري أن يقطع للحال وليس له أن يترك من غير
إذن البائع ومن مشايخنا من قال: لا يجوز بيعه
قبل بدو صلاحه وهو خلاف ظاهر الرواية على ما
ذكرنا ولو باع مطلقا عن شرط جاز أيضا عندنا،
وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز. "وجه" قوله
أن المطلق ينصرف إلى المتعارف والمتعارف هو
الترك فكان هذا بيعا بشرط الترك دلالة فصار
كما لو شرط الترك نصا. "ولنا" أن الترك ليس
بمشروط نصا؛ إذ العقد مطلق عن الشرط أصلا فلا
يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل خصوصا إذا
كان في التقييد فساد العقد، وإن اشترى بشرط
الترك؛ فالعقد فاسد بالإجماع؛ لأنه شرط لا
يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ولا
يلائم العقد ولا جرى به التعامل بين الناس،
ومثل هذا الشرط مفسد للبيع لما ذكرنا ولأنه لا
يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجرة والأرض وهما
ملك البائع فصار بشرط الترك شارطا الإعارة
فكان شرطه صفقة في صفقة وإنه منهي هذا إذا لم
يبد صلاحه وكذا إذا بدا صلاحه فباع بشرط القطع
أو مطلقا.فأما إذا باع بشرط الترك فإن لم
يتناه عظمه فالبيع فاسد بلا خلاف ؛ لما قلنا
وكذا إذا تناهى عظمه فالبيع فاسد عند أبي
حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: يجوز استحسانا
لتعارف الناس وتعاملهم ذلك، ولهما ما ذكرنا أن
شرط الترك شرط فيه منفعة للمشتري والعقد لا
يقتضيه وليس بملائم للعقد أيضا ومثل هذا الشرط
يكون مفسدا كما إذا اشترى حنطة على أن يتركها
في دار البائع شهرا قوله: الناس تعاملوا ذلك
قلنا: دعوى تعامل الناس شرط الترك في المبيع
ممنوعة، وإنما التعامل بالمسامحة بالترك من
غير شرط في عقد البيع ولو اشترى مطلقا عن شرط
فترك فإن كان قد تناهى عظمه ولم يبق إلا النضج
لم يتصدق بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير
إذنه لأنه لا يزداد بعد التناهي وإنما يتغير
إلى حال النضج وإن كان لم يتناه عظمه ينظر إن
كان الترك بإذن البائع ؛ جاز وطاب له الفضل ،
وإن كان بغير إذنه ؛ تصدق بما زاد في إذنه على
ما كان عند العقد ؛ لأن الزيادة حصلت بجهة
محظورة فأوجبت خبثا فيها فكان سبيلها التصدق،
فإن استأجر المشتري من البائع الشجر للترك إلى
وقت الإدراك طاب له الفضل ؛ لأن الترك حصل
بإذن البائع ولكن لا تجب الأجرة؛ لأن هذه
الإجارة باطلة ؛ لأن جوازها ثبت على خلاف
القياس لتعامل الناس فما لم يتعاملوا فيه لا
تصح فيه الإجارة؛ ولهذا لم تصح إجارة الأشجار
لتجفيف الثياب وإجارة الأوتاد لتعليق الأشياء
عليها وإجارة الكتب للقراءة ونحو ذلك حتى لم
تجب الأجرة ؛ لما قلنا كذا هذا، ولو أخرجت
الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى فهي للبائع
سواء كان الترك بإذنه أو بغير إذنه ؛ لأنه
نماء ملك البائع فيكون له ولو حللها له البائع
جاز وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجودة
عنده حتى لا يعرف ينظر إن كان قبل التخلية بطل
البيع ؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم
بالاختلاط للجهالة وتعذر التمييز فأشبه العجز
عن التسليم بالهلاك وإن كان بعد التخلية لم
يبطل؛ لأن التخلية قبض، وحكم البيع يتم
ويتناهى بالقبض والثمرة تكون بينهما لاختلاط
ملك أحدهما بالآخر اختلاطا لا يمكن التمييز
بينهما فكان الكل مشتركا بينهما والقول قول
المشتري في المقدار؛ لأنه صاحب يد لوجود
التخلية فكان الظاهر شاهدا له فكان القول
قوله، ولو اشترى ثمرة بدا صلاح
ج / 5 ص -174-
بعضها
دون بعض بأن أدرك البعض دون البعض بشرط الترك
فالبيع فاسد على أصلهما؛ لأنه لو كان أدرك
الكل فاشتراها بشرط الترك ؛ فالبيع فاسد
عندهما فبإدراك البعض أولى. "وأما" على أصل
محمد رحمه الله وهو اختيار العادة فإن كان
صلاح الباقي متقاربا جاز؛ لأن العادة في
الثمار أن لا يدرك الكل دفعة واحدة بل يتقدم
إدراك البعض على البعض ويلحق بعضها بعضا فصار
كأنه اشتراها بعد إدراك الكل ولو كان كذلك؛
لصح الشراء عنده بشرط الترك كذا هذا ، وإن كان
يتأخر إدراك البعض عن البعض تأخيرا فاحشا
كالعنب ونحوه يجوز البيع فيما أدرك ولا يجوز
فيما لم يدرك ؛ لأن عند التأخر الفاحش يلتحقان
بجنسين مختلفين. "ومنها" شرط الأجل في المبيع
العين والثمن العين وهو أن يضرب لتسليمها أجل
؛ لأن القياس يأبى جواز التأجيل أصلا ؛ لأنه
تغيير مقتضى العقد ؛ لأنه عقد معاوضة تمليك
بتمليك وتسليم بتسليم والتأجيل ينفي وجوب
التسليم للحال فكان مغيرا مقتضى العقد إلا أنه
شرط نظر لصاحب الأجل لضرورة العدم ترفيها له
وتمكينا من اكتساب الثمن في المدة المضروبة
ولا ضرورة في الأعيان فبقي التأجيل فيها
تغييرا محضا لمقتضى العقد فيوجب فساد العقد،
ويجوز في المبيع الدين وهو السلم بل لا يجوز
بدونه عندنا على ما نذكره في موضعه وكذا يجوز
في الثمن الدين وهو بيع الدين بالدين؛ لأن
التأجيل يلائم الديون ولا يلائم الأعيان؛
لمساس حاجة الناس إليه في الديون لا في
الأعيان على ما بينا. "ومنها" شرط خيار مؤبد
في البيع. "ومنها" شرط خيار مؤقت بوقت مجهول
جهالة متفاحشة كهبوب الريح ومجيء المطر وقدوم
فلان وموت فلان ونحو ذلك أو متقاربة كالحصاد
والدياس وقدوم الحاج ونحوها. "ومنها" شرط خيار
غير مؤقت أصلا والأصل فيه أن شرط الخيار يمنع
انعقاد العقد في حق الحكم للحال فكان شرطا
مغيرا مقتضى العقد وإنه مفسد للعقد في الأصل
وهو القياس إلا أنا عرفنا جوازه استحسانا
بخلاف القياس بالنص وهو ما روي
"أن حبان بن منقذ كان يغبن في التجارات فشكا أهله إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال له إذا بايعت فقل: لا
خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام" فبقي ما وراء المنصوص عليه على أصل القياس. "ومنها" شرط خيار مؤقت
بالزائد على ثلاثة أيام عند أبي حنيفة وزفر،
وقال أبو يوسف ومحمد: هذا الشرط ليس بمفسد
واحتجا بما روي أن عبد الله ابن سيدنا عمر رضي
الله عنهما شرط الخيار شهرين ولأن النص الوارد
في خيار ثلاثة أيام معلول بالحاجة إلى دفع
الغبن بالتأمل لدفع الغبن والناس يتفاوتون في
البصارة بالسلع فمن الجائز أن يكون المشروط له
الخيار أبصر منه ففوض الخيار إليه للتأمل
والنظر وهذا لا يوجب الاقتصار على الثلاث
كالحاجة إلى التأجيل، ولأبي حنيفة أن هذا
الشرط في الأصل مما يأباه القياس، والنص أما
القياس فما ذكرنا أنه شرط مغير مقتضى العقد
ومثل هذا الشرط مفسد للعقد في الأصل. وأما
النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه "نهى عن بيع الغرر" وهذا بيع الغرر ؛ لأنه تعلق انعقاد العقد على غرر سقوط الخيار إلا
أنه ورد نص خاص بجوازه فيتبع مورد النص، وإنه
ورد بثلاثة أيام فصار ذلك مخصوصا عن النص
العام وترك القياس فيه فيعمل بعموم النص
ومقتضى القياس فيما وراء هذا والعمل بقول سيد
البشر عليه أفضل الصلاة والسلام أولى من العمل
بقول عبد الله ابن سيدنا عمر وقولهما: النص
معلول بالحاجة إلى دفع الغبن قلنا: لو كان
كذلك فالثلاث مدة صالحة لدفع الغبن لكونها
صالحة للتأمل، وما وراء ذلك لا نهاية له.
"وأما" شرط خيار مؤقت بالثلاث فما دونها فليس
بمفسد استحسانا لحديث حبان بن منقذ ولمساس
الحاجة إليه لدفع الغبن والتدارك عند اعتراض
الندم وسواء كان الشرط للعاقد أو لغيره بأن
شرط الخيار لثالث عند أصحابنا الثلاثة رحمهم
الله وقال زفر رحمه الله: لا يجوز شرط الخيار
لغير العاقد. "وجه" قوله أن اشتراط الخيار
للعاقد.مع أن القياس يأباه ثبت بالنص فبقي
اشتراطه لغيره على أصل القياس. "ولنا" أن النص
معلول بالحاجة إلى التأمل في ذلك فإن صلح؛
أجازه وإلا فسخ، وإذا جاز هذا الشرط ثبت
الخيار للمشروط له وللعاقد أيضا ولما نذكر
ولكل واحد منهما ولاية الإجازة والفسخ وسواء
كان العاقد مالكا أو وصيا أو وليا أو وكيلا
فيجوز شرط الخيار فيه لنفسه أو لصاحبه الذي
عاقده. "أما" الأب أو الوصي فلأن اشتراط
الخيار منهما من باب النظر للصغير فيملكانه.
"وأما"
ج / 5 ص -175-
الوكيل؛
فلأنه يتصرف بأمر الموكل وقد أمره بالبيع،
والشراء مطلقا فيجري على إطلاقه، وكذلك
المضارب، أو الشريك شركة عنان، أو مفاوضة يملك
شرط الخيار؛ لما قلنا. ولو اشترى شيئا على أنه
إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع
بينهما فالقياس أن لا يجوز هذا البيع، وهو قول
زفر رحمه الله وفي الاستحسان جائز. "وجه"
القياس: أن هذا بيع علقت إقالته بشرط عدم نقد
الثمن إلى ثلاثة أيام، وتعليق الإقالة بالشرط
فاسد، فكان هذا بيعا دخله شرط فاسد؛ فيكون
فاسدا كسائر الأنواع التي دخلتها شروط فاسدة.
"وجه" الاستحسان: أن هذا البيع في معنى البيع
بشرط الخيار ؛ لوجود التعليق بشرط في كل واحد
منهما، وتحقق الحاجة المستدعية للجواز ، أما
التعليق فإنه علق إقالة هذا البيع وفسخه بشرط
عدم النقد إلى ثلاثة أيام، وفي البيع بشرط
الخيار علق انعقاده في حق الحكم بشرط سقوط
الخيار. وأما الحاجة فإن المشتري كما يحتاج
إلى التأمل في المبيع أنه هل يوافقه أم لا؟
فالبائع يحتاج إلى التأمل أنه هل يصل الثمن
إليه في الثلاث أم لا؟ وكذا المشتري يحتاج إلى
التأمل أنه هل يقدر على النقد في الثلاث أم
لا؟ فكان هذا بيعا مست الحاجة إلى جوازه في
الجانبين جميعا فكان أولى بالجواز من البيع
بشرط الخيار، فورود الشرع بالجواز هناك يكون
ورودا ههنا دلالة. ولو اشترى على أنه إن لم
ينقد الثمن إلى أربعة أيام لم يجز عند أبي
حنيفة، كما لا يجوز شرط الخيار أربعة أيام، أو
أكثر بعد أن يكون معلوما إلا أن أبا يوسف يقول
ههنا: لا يجوز كما قال أبو حنيفة فأبو حنيفة
مر على أصله، ولم يجز في الموضعين، ومحمد مر
على أصله وأجاز فيهما، وأبو يوسف فرق بينهما.
"ووجه" الفرق له: أن القياس يأبى الجواز في
الموضعين جميعا إلا أن الجواز في شرط الخيار
عرفناه بأثر ابن سيدنا عمر رضي الله عنهما
فبقي هذا على أصل القياس والله سبحانه عز شأنه
أعلم. ويتصل بالشروط المفسدة ما إذا باع
حيوانا واستثنى ما في بطنه من الحمل: إن البيع
فاسد ؛ لأن بيع الحمل بانفراده لا يجوز ؛ فكان
استثناؤه بمنزلة شرط فاسد أدخل في البيع فوجب
فساد البيع ، وكذلك هذا في عقد الإجارة
والكتابة والرهن ، بخلاف النكاح والخلع،
والصلح عن دم العمد، والهبة ، والصدقة ؛ لأن
استثناء الحمل في هذه العقود لا يبطلها ،
وكذلك في الإعتاق؛ لما أن استثناء ما في البطن
بمنزلة شرط فاسد، والبيع وأخواته تبطلها
الشروط الفاسدة ؛ فكان الشرط فاسدا، والعقد
فاسدا فأما النكاح ونحوه فلا تبطله الشروط
الفاسدة فجاز العقد وبطل الشرط ؛ فيدخل في
العقد الأم والولد جميعا، وكذا في العتق، وكذا
إذا باع حيوانا واستثنى شيئا من أطرافه؛
فالبيع فاسد. ولو باع صبرة واستثنى قفيزا منها
؛ فالبيع جائز في المستثنى منه، وكذا إذا باع
صبرة واستثنى جزءا شائعا منها: ثلثها، أو
ربعها، أو نحو ذلك، ولو باع قطيعا من الغنم
واستثنى شاة منها بغير عينها ؛ فالبيع فاسد،
ولو استثنى شاة منها بعينها ؛ فالبيع جائز،
والأصل في هذا أن من باع جملة واستثنى منها
شيئا فإن استثنى ما يجوز إفراده بالبيع ؛
فالبيع في المستثنى منه جائز، وإن استثنى ما
لا يجوز إفراده بالبيع ؛ فالبيع في المستثنى
منه فاسد. ولو باع الثمرة على رءوس النخل
واستثنى منها صاعا ذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي أنه يجوز؛ لأنه استثنى ما يجوز إفراده
بالبيع فأشبه ما إذا باع جزءا مشاعا منه من
الثلث والربع، وكذا لو كان الثمر مجذوذا فباع
الكل واستثنى صاعا يجوز ، وأي فرق بين المجذوذ
وغير المجذوذ؟ وذكر الطحاوي في مختصره أنه لا
يجوز، وإليه أشار محمد في الموطإ ، فإنه قال:
لا بأس بأن يبيع الرجل ثمرة ويستثني منها
بعضها إذا استثنى شيئا في جملته ربعا ، أو
خمسا ، أو سدسا قيد الجواز بشرط أن يكون
المستثنى مشاعا في الجملة، فلو ثبت الجواز في
المعين لم يكن لتقييده بهذا الشرط معنى، وكذا
روى الحسن بن زياد أنه قال: لا يجوز، وكذا ذكر
القدوري رحمه الله في مختصره ثم فساد العقد
بما ذكرنا من الشروط مذهب أصحابنا، وقال ابن
أبي ليلى: البيع جائز، والشرط باطل. وقال ابن
شبرمة: البيع جائز والشرط جائز، والصحيح
قولنا؛ لما روى أبو حنيفة عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيع وشرط" والنهي
يقتضي فساد المنهي فيدل على فساد كل بيع وشرط
إلا ما خص عن عموم النص؛ ولأن هذه الشروط
بعضها فيه منفعة زائدة ترجع إلى العاقدين، أو
إلى غيرهما، وزيادة منفعة مشروطة في عقد البيع
تكون ربا والربا حرام، والبيع الذي فيه ربا
فاسد وبعضها فيه غرر "ونهى رسول الله صلى الله عليه
ج / 5 ص -176-
وسلم عن
بيع فيه غرر" والمنهي عنه فاسد ، وبعضها شرط التلهي وأنه محظور، وبعضها يغير مقتضى
العقد وهو معنى الفساد ، إذ الفساد هو التغيير
والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم قران الشرط
الفاسد بالعقد وإلحاقه به سواء عند أبي حنيفة
رحمه الله حتى لو باع بيعا صحيحا، ثم ألحق به
شيئا من هذه الشروط المفسدة يلتحق به ويفسد
العقد، وعندهما لا يلتحق به، ولا يفسد العقد،
وأجمعوا على أنه لو ألحق بالعقد الصحيح شرطا
صحيحا كالخيار الصحيح في البيع البات ونحو ذلك
يلتحق به. "وجه" قولهما: إن إلحاق الشرط
الفاسد بالعقد يغير العقد من الصحة إلى الفساد
فلا يصح؛ فبقي العقد صحيحا كما كان؛ لأن العقد
كلام لا بقاء له، والالتحاق بالمعدوم لا يجوز
فكان ينبغي أن لا يصح الإلحاق أصلا، إلا أن
إلحاق الشرط الصحيح بأصل العقد ثبت شرعا
للحاجة إليه حتى صح قرانه بالعقد؛ فيصح إلحاقه
به فلا حاجة إلى إلحاق الشرط الفاسد ليفسد
العقد، ولهذا لم يصح قرانه بالعقد، ولأبي
حنيفة رحمه الله أن اعتبار التصرف على الوجه
الذي أوقعه المتصرف واجب إذا كان هو أهلا
والمحل قابلا، وقد أوقعه مفسدا للعقد، إذ
الإلحاق لفساد العقد فوجب اعتباره كما أوقعه
فاسدا في الأصل، وقولهما الإلحاق تغيير للعقد؛
قلنا: إن كان تغييرا فلهما ولاية التغيير، ألا
ترى أن لهما ولاية التغيير بالزيادة في الثمن،
والمثمن، والحط عن الثمن وبإلحاق الشرط الصحيح
وإن كان تغييرا؛ ولأنهما يملكان الفسخ
فالتغيير أولى؛ لأن التغيير تبديل الوصف،
والفسخ رفع الأصل والوصف، والله سبحانه وتعالى
أعلم. "ومنها" الرضا لقول الله تعالى:
{إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ}
عقيب قوله عز اسمه:
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" فلا يصح بيع المكره إذا باع مكرها وسلم مكرها ؛ لعدم الرضا ، فأما
إذا باع مكرها وسلم طائعا فالبيع صحيح على ما
نذكره في كتاب الإكراه؛ ولا يصح بيع الهازل ؛
لأنه متكلم بكلام البيع لا على إدارة حقيقته
فلم يوجد الرضا بالبيع، فلا يصح بخلاف طلاق
الهازل أنه واقع ؛ لأن الفائت بالإكراه ليس
إلا الرضا، والرضا ليس بشرط لوقوع الطلاق،
بخلاف البيع على أن الهزل في باب الطلاق ملحق
بالجد شرعا قال صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث
جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح والعتاق"
ألحق الهازل بالجاد فيه. ومثل هذا لم يرد في
البيع، وعلى هذا يخرج بيع المنابذة،
والملامسة، والحصاة الذي كان يفعله أهل
الجاهلية: كان الرجلان يتساومان السلعة فإذا
أراد أحدهما إلزام البيع نبذ السلعة إلى
المشتري؛ فيلزم البيع رضي المشتري أم سخط، أو
لمسها المشتري، أو وضع عليها حصاة فجاء
الإسلام فشرط الرضا وأبطل ذلك كله، وعلى هذا
يخرج بيع التلجئة وهي ما لجأ الإنسان إليه
بغير اختياره اختيار الإيثار وجملة الكلام
فيه: أن التلجئة في الأصل لا تخلو إما أن تكون
في نفس البيع، وإما أن تكون في الثمن فإن كانت
في نفس البيع، فإما أن تكون في إنشاء البيع،
وإما أن تكون في الإقرار به، فإن كانت في
إنشاء البيع بأن تواضعوا في السر لأمر ألجأهم
إليه على أن يظهر البيع، ولا بيع بينهما حقيقة
وإنما هو رياء وسمعة نحو أن يخاف رجل السلطان
فيقول الرجل: إني أظهر أني بعت منك داري وليس
ببيع في الحقيقة وإنما هو تلجئة فتبايعا ؛
فالبيع باطل في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة،
وهو قول أبي يوسف، ومحمد؛ لأنهما تكلما بصيغة
البيع لا على قصد الحقيقة، وهو تفسير الهزل،
والهزل يمنع جواز البيع؛ لأنه يعدم الرضا
بمباشرة السبب فلم يكن هذا بيعا منعقدا في
الحكم. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن البيع
جائز؛ لأن ما شرطاه في السر لم يذكراه في
العقد، وإنما عقدا عقدا صحيحا بشرائطه فلا
يؤثر فيه ما تقدم من الشرط، كما إذا اتفقا على
أن يشترطا شرطا فاسدا عند البيع، ثم باعا من
غير شرط، والجواب أن الحكم ببطلان هذا البيع
لمكان الضرورة، فلو اعتبرنا وجود الشرط عند
البيع لا تندفع الضرورة، ولو أجاز أحدهما دون
الآخر لم يجز، وإن أجازاه جاز كذا ذكر محمد؛
لأن الشرط السابق وهو: المواضعة منعت انعقاد
العقد في حق الحكم بمنزلة شرط خيار
المتبايعين، فلا يصح إلا بتراضيهما، ولا يملكه
المشتري بالقبض حتى لو كان المشترى عبدا فقبضه
وأعتقه لا ينفذ إعتاقه، بخلاف المكره على
البيع والتسليم إذا باع وسلم فأعتقه المشتري
أنه ينفذ إعتاقه؛ لأن بيع المكره انعقد سببا
للحكم ؛ لوجود الرضا بمباشرة السبب عقلا؛ لما
فيه من صيانة نفسه عن الهلاك فانعقد السبب إلا
أنه فسد ؛ لانعدام
ج / 5 ص -177-
الرضا
طبعا فتأخر الملك فيه إلى وقت القبض، أما ههنا
فلم يوجد الرضا بمباشرة السبب في الجانبين
أصلا؛ فلم ينعقد السبب في حق الحكم فتوقف على
أحدهما فأشبه البيع بشرط خيار المتبايعين، هذا
إذا كانت التلجئة في إنشاء البيع، فأما إذا
كانت في الإقرار به فإن اتفقا على أن يقرا
ببيع لم يكن فأقرا بذلك ثم اتفقا على أنه لم
يكن فالبيع باطل حتى لا يجوز بإجازتهما ؛ لأن
الإقرار إخبار، وصحة الإخبار بثبوت المخبر به
حال وجود الإخبار، فإن كان ثابتا كان الإخبار
صدقا وإلا فيكون كذبا، والمخبر به ههنا وهو
البيع ليس بثابت فلا يحتمل الإجازة ؛ لأنها
تلحق الموجود لا المعدوم، هذا كله إذا كانت
التلجئة في نفس البيع إنشاء كان، أو
إقرارا.فأما إذا كانت في الثمن فهذا أيضا لا
يخلو من أحد وجهين: إما إن كانت في قدر الثمن،
وإما إن كانت في جنسه فإن كانت في قدره بأن
تواضعا في السر والباطن على أن يكون الثمن
ألفا ويتبايعان في الظاهر بألفين فإن لم يقولا
عند المواضعة ألف منهما رياء وسمعة فالثمن ما
تعاقدا عليه؛ لأن الثمن اسم للمذكور عند
العقد، والمذكور عند العقد ألفان، فإن لم
يذكرا أن أحدهما رياء وسمعة صحت تسمية
الألفين، وإن قالا عند المواضعة ألف منهما
رياء وسمعة فالثمن ثمن السر، والزيادة باطلة
في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة، وهو قول أبي
يوسف ومحمد. وروي عن أبي يوسف أن الثمن ثمن
العلانية، وجه هذه الرواية: أن الثمن هو
المذكور في العقد، والألفان مذكوران في العقد
وما ذكرا في المواضعة لم يذكراه في العقد فلا
يعتبر. "وجه" ظاهر الرواية: أن ما تواضعا عليه
في السر هو ما تعاقدا عليه في العلانية إلا
أنهما زادا عليه ألفا أخرى، والمواضعة السابقة
أبطلت الزيادة؛ لأنهما في هزلانها حيث لم
يقصداها فلم يصح ذكر الزيادة في البيع؛ فيبقى
البيع بما تواضعا عليه وهو الألف، وإن كانت في
جنسه بأن اتفقا في السر على أن الثمن ألف درهم
لكنهما يظهرا أن البيع بمائة دينار، فإن لم
يقولا في المواضعة: إن ثمن العلانية رياء
وسمعة فالثمن ما تعاقدا عليه ؛ لما قلنا، وإن
قالا ذلك فالقياس: أن يبطل العقد، وفي
الاستحسان يصح بمائة دينار. "وجه" القياس: أن
ثمن السر لم يذكراه في العقد، وثمن العلانية
لم يقصداه فقد هزلا به فسقط، وبقي بيعا بلا
ثمن فلا يصح. "وجه" الاستحسان: أنهما لم يقصدا
بيعا باطلا، بل بيعا صحيحا فيجب حمله على
الصحة ما أمكن، ولا يمكن حمله على الصحة إلا
بثمن العلانية فكأنهما انصرفا عما شرطاه في
الباطن؛ فتعلق الحكم بالظاهر كما لو اتفقا على
أن يبيعاه بيع تلجئة فتواهبا بخلاف الألف،
والألفين؛ لأن الثمن المذكور المشروط في السر
مذكور في العقد، وزيادة فتعلق العقد به هذا
إذا تواضعا في السر، ولم يتعاقدا في السر فأما
إذا تعاقدا في السر بثمن ثم تواضعا على أن
يظهرا العقد بأكثر منه أو بجنس آخر، فإن لم
يقولا: إن العقد الثاني رياء، وسمعة فالعقد
الثاني يرفع العقد الأول، والثمن هو المذكور
في العقد الثاني؛ لأن البيع يحتمل الفسخ
والإقالة فشروعهما في العقد الثاني إبطال
للأول فبطل الأول، وانعقد الثاني بما سمي
عنده، وإن قالا: رياء، وسمعة فإن كان الثمن من
جنس آخر فالعقد هو العقد الأول؛ لأنهما لم
يذكرا الرياء، والسمعة فقد أبطلا المسمى في
العقد الثاني فلم يصح العقد الثاني فبقي العقد
الأول، وإن كان من جنس الأول فالعقد هو العقد
الثاني؛ لأن البيع يحتمل الفسخ فكان العقد هو
العقد الثاني، لكن بالثمن الأول والزيادة
باطلة؛ لأنهما أبطلاها حيث هزلا بها هذا إذا
تواضعا، واتفقا في التلجئة في البيع فتبايعا
وهما متفقان على ما تواضعا، فأما إذا اختلفا
فادعى أحدهما التلجئة، وأنكر الآخر، وزعم أن
البيع بيع رغبة فالقول قول منكر التلجئة؛ لأن
الظاهر شاهد له فكان القول قوله مع يمينه على
ما يدعيه صاحبه من التلجئة إذا طلب الثمن، وإن
أقام المدعي البينة على التلجئة تقبل بينته؛
لأنه أثبت الشرط بالبينة فتقبل بينته كما لو
أثبت الخيار بالبينة، ثم هذا التفريع على ظاهر
الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يعتبر
المواضعة السابقة، فأما على رواية أبي يوسف
عنه فلا يجيء هذا التفريع؛ لأنه يعتبر العقد
الظاهر فلا يلتفت إلى هذه الدعوى؛ لأنها وإن
صحت لا تؤثر في البيع الظاهر، وذكر القاضي في
شرحه مختصر الطحاوي الخلاف بين أبي حنيفة،
وصاحبيه فقال على قول أبي حنيفة: القول قول من
يدعي جواز البيع، وعلى قولهما القول قول من
يدعي التلجئة، والعقد فاسد، ولو اتفقا على
التلجئة ثم قالا عند البيع: كل شرط كان بيننا
فهو باطل تبطل التلجئة، ويجوز البيع ؛ لأنه
شرط فاسد زائد فاحتمل السقوط بالإسقاط، ومتى
سقط صار العقد جائزا، إلا إذا اتفقا عند
المواضعة، وقالا: إن ما نقوله عند البيع أن
ج / 5 ص -178-
كل شرط
بيننا فهو باطل فذلك القول منا باطل، فإذا
قالا ذلك لا يجوز العقد؛ لأنهما اتفقا على أن
ما يبطلانه من الشرط عند العقد باطل إلا إذا
حكيا في العلانية ما قالا في السر فقالا: إنا
شرطنا كذا، وكذا، وقد أبطلنا ذلك ثم تبايعا
فيجوز البيع، ثم كما لا يجوز بيع التلجئة لا
يجوز الإقرار بالتلجئة بأن يقول لآخر: إني أقر
لك في العلانية بمالي، أو بداري، وتواضعا على
فساد الإقرار لا يصح إقراره حتى لا يملكه
المقر له، والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
الذي يخص بعض البياعات دون بعض فأنواع أيضا:
"منها" أن يكون الأجل معلوما في بيع فيه أجل
فإن كان مجهولا يفسد البيع سواء كانت الجهالة
متفاحشة: كهبوب الريح، ومطر السماء، وقدوم
فلان، وموته، والميسرة، ونحو ذلك، أو متقاربة:
كالحصاد، والدياس، والنيروز، والمهرجان، وقدوم
الحاج، وخروجهم، والجذاذ، والجزار، والقطاف،
والميلاد، وصوم النصارى، وفطرهم قبل دخولهم في
صومهم، ونحو ذلك ؛ لأن الأول فيه غرر الوجود،
والعدم، والنوع الثاني مما يتقدم، ويتأخر
فيؤدي إلى المنازعة فيوجب فساد البيع، ولو باع
العين بثمن دين إلى أجل مجهول جهالة متقاربة،
ثم أبطل المشتري الأجل قبل محله، وقبل أن يفسخ
العقد بينهما لأجل الفساد جاز العقد عند
أصحابنا الثلاثة. وعند زفر لا يجوز، ولو لم
يبطل حتى حل الأجل، وأخذ الناس في الحصاد، ثم
أبطل لا يجوز العقد بالإجماع، وإن كانت
الجهالة متفاحشة فأبطل المشتري الأجل قبل
الافتراق، ونقد الثمن جاز البيع عندنا، وعند
زفر لا يجوز، ولو افترقا قبل الإبطال لا يجوز
بالإجماع، وعلى هذا إذا باع بشرط الخيار، ولم
يوقت للخيار وقتا معلوما بأن قال: أبدا، أو
أياما، أو لم يذكر الوقت حتى فسد البيع
بالإجماع، ثم إن صاحب الخيار أبطل خياره قبل
مضي ثلاثة أيام قبل أن يفسد العقد بينهما جاز
البيع عندنا خلافا لزفر رحمه الله، وإن أبطل
بعد مضي الأيام الثلاثة لا يجوز العقد عند أبي
حنيفة رحمه الله، وزفر، وعند أبي يوسف، ومحمد
يجوز، وإن وقت وقتا معلوما بأن قال: أربعة
أيام، أو شهر فأبطل الخيار قبل مضي ثلاثة
أيام، وقبل أن يفسخ العقد بينهما لأجل الفساد
جاز عندنا. وعند زفر لا يجوز، وعندهما هذا
الخيار جائز، ولو مضت الأيام الثلاثة، ثم أبطل
صاحب الخيار خياره لا يجوز البيع بالإجماع،
وعلى هذا لو عقدا عقد السلم بشرط الخيار حتى
فسد السلم، ثم إن صاحب الخيار أبطل خياره قبل
الافتراق جاز السلم عندنا إذا كان رأس المال
قائما في يده، ولو افترقا قبل الإبطال، ثم
أبطل لا يجوز بالإجماع، وعلى هذا إذا اشترى
ثوبا برقمه، ولم يعلم المشتري رقمه حتى فسد
البيع، ثم علم رقمه.فإن علم قبل الافتراق
واختار البيع جاز البيع عندنا، وعند زفر لا
يجوز، وإن كان بعد الافتراق لا يجوز بالإجماع،
والأصل عند زفر: أن البيع إذا انعقد على
الفساد لا يحتمل الجواز بعد ذلك برفع المفسد،
والأصل عندنا: أنه ينظر إلى الفساد، فإن كان
قويا بأن دخل في صلب العقد وهو البدل، أو
المبدل لا يحتمل الجواز برفع المفسد كما قال
زفر: إذا باع عبدا بألف درهم ورطل من خمر فحط
الخمر عن المشتري وإن كان ضعيفا لم يدخل في
صلب العقد بل في شرط جائز يحتمل الجواز برفع
المفسد كما في البيع بشرط خيار لم يوقت أو وقت
إلى وقت مجهول كالحصاد، والدياس أو لم يذكر
الوقت، وكما في بيع الدين بالدين إلى أجل
مجهول على ما ذكرنا، ثم اختلف مشايخنا في
العبارة عن هذا العقد.قال مشايخ العراق: إنه
انعقد فاسدا لكن فسادا غير متقرر، فإن أبطل
الشرط قبل تقرره بأن لم يدخل وقت الحصاد، أو
اليوم الرابع ينقلب إلى الجواز، وإن لم يبطل
حتى دخل تقرر الفساد، وهو قول بعض مشايخنا بما
وراء النهر، وقال مشايخ خراسان، وبعض مشايخنا:
بما وراء النهر العقد موقوف إن أسقط الشرط قبل
وقت الحصاد، واليوم الرابع تبين أنه كان جائزا
من الأصل، وإن لم يسقط حتى دخل اليوم الرابع،
أو أوان الحصاد تبين أنه وقع فاسدا من حين
وجوده، وذكر عن الحسن بن زياد رحمه الله أنه
قال: قال أبو حنيفة: لو أن رجلا اشترى عبدا
على أنه بالخيار أكثر من ثلاثة أيام فالبيع
موقوف.فإن قال المشتري قبل مضي الثلاث أنا
أبطل خياري واستوجب المبيع قبل أن يقول البائع
شيئا كان له ذلك وتم البيع، وعليه الثمن، ولم
يكن للبائع أن يبطل البيع، وإن قال البائع قد
أبطلت البيع قبل أن يبطل المشتري خياره بطل
البيع، ولم يكن للمشتري أن يستوجبه بعد ذلك،
وأن يبطل خياره فقد نص على التوقف، وفسره حيث
جعل للبائع حق الفسخ قبل إجازة المشتري، وهذا
أمارة البيع الموقوف: أن يكون لكل
ج / 5 ص -179-
واحد من
العاقدين حق الفسخ، "وجه" قول زفر أن هذا بيع
انعقد بوصف الفساد من حين وجوده فلا يتصور أن
ينقلب جائزا ؛ لما فيه من الاستحالة، ولهذا لم
ينقلب إلى الجواز إذا دخل اليوم الرابع، أو
وقت الحصاد، والدياس. "ولنا" طريقان أحدهما أن
هذا العقد موقوف للحال لا يوصف بالفساد، ولا
بالصحة؛ لأن الشرط المذكور يحتمل أن يكون
مفسدا حقيقة، ويحتمل أن لا يكون، فإذا سقط قبل
دخول أوان الحصاد، واليوم الرابع تبين أنه ليس
بمفسد؛ لأنه تبين أنه ما شرط الأجل، والخيار
إلا إلى هذا الوقت فتبين أن العقد وقع صحيحا
مفيدا للملك بنفسه من حين وجوده كما لو أسقط
الأجل الصحيح، والخيار الصحيح، وهو خيار ثلاثة
أيام بعد مضي يوم، وإن لم يسقط حتى مضت الأيام
الثلاثة، ودخل الحصاد تبين أن الشرط كان إلى
هذا الوقت، وأنه شرط مفسد، والثاني أن العقد
في نفسه مشروع، لا يحتمل الفساد على ما عرف،
وكذا أصل الأجل، والخيار؛ لأنه ملائم للعقد،
وأنه يوصف العقد بالفساد للحال لا لعينه بل
لمعنى مجاور له زائد عليه، وعلى أصل الأجل،
والخيار، وهو الجهالة، وزيادة الخيار على
المدة المشروعة فإن سقط قبل دخول، وقت الحصاد
أو اليوم الرابع فقد أسقط المفسد قبل تقرره
فزال الفساد؛ فبقي العقد مشروعا كما كان من
غير، وصف الفساد، وإذا دخل الوقت فقد تقرر
المفسد، فتقرر الفساد، والفساد بعد تقرره لا
يحتمل الزوال وقوله: العقد ما وقع فاسدا من
حين وجوده قلنا على الطريق الأول: ممنوع بل هو
موقوف، وعلى الطريق الثاني: مسلم لكن لا لعينه
بل لغيره، وهو الشرط المجاور المفسد، وقد أسقط
المفسد قبل تقرره فزال الفساد الثابت ؛ لمعنى
في غيره فبقي مشروعا، والله سبحانه وتعالى
الموفق. ولو باع بثمن حال، ثم أخر إلى الآجال
المتقاربة جاز التأخير، ولو أخر إلى الآجال
المتفاحشة لم يجز، والدين على حاله حال فرق
بين التأجيل، والتأخير، لم يجوز التأجيل إلى
هذه الآجال أصلا، وجوز التأخير إلى المتقارب
منها، ووجه الفرق: أن التأجيل في العقد جعل
الأجل شرطا في العقد، وجهالة الأجل المشروط في
العقد، وإن كانت متقاربة توجب فساد العقد؛
لأنها تفضي إلى المنازعة، فأما التأخير إلى
الآجال المجهولة متقاربة فلا تفضي إلى
المنازعة؛ لأن الناس يؤخرون الديون إلى هذه
الآجال عادة، ومبنى التأخير على المسامحة،
فالظاهر أنهم يسامحون، ولا ينازعون، وما جرت
العادة منهم بالتأخير إلى آجال تفحش جهالتها
بخلاف التأجيل؛ لأن ما جعل شرطا في البيع
مبناه على المضايقة، فالجهالة فيها وإن قلت
تفضي إلى المنازعة؛ ولهذا لا يجوز البيع إلى
الآجال المتقاربة، وجازت الكفالة إليها؛ لأن
مبنى الكفالة على المسامحة، فإن المكفول له لا
يضيق الأمر على الكفيل عادة؛ لأن له سبيل
الوصول إلى الدين من جهة الأصيل فالتأجيل
إليها لا يفضي إلى المنازعة بخلاف البيع، فإن
الجهالة في باب البيع مفضية إلى المنازعة
فكانت مفسدة للبيع. ولو اشترى عينا بثمن دين
على أن يسلم إليه الثمن في مصر آخر فهذا لا
يخلو إما أن يكون الثمن مما حمل له، ولا مؤنة،
وإما أن يكون مما له حمل، ومؤنة، وعلى كل ذلك
لا يخلو من أن ضرب له الأجل أو لم يضرب فإن لم
يضرب له الأجل فالبيع فاسد سواء كان الثمن له
حمل، ومؤنة أو لم يكن؛ لأنه إذا لم يضرب له
الأجل كان شرط التسليم في موضع على سبيل
التأجيل، وأنه أجل مجهول فيوجب فساد العقد.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الثمن إذا كان
لا حمل له، ولا مؤنة فالبيع جائز؛ لأن شرط
التأجيل في مكان آخر ليس بتأجيل حقيقة، بل هو
تخصيص التسليم بمكان آخر فيجوز البيع، ويجبر
المشتري على تسليم الثمن في أي موضع طالبه،
وإن ضرب له أجلا على أن يسلم إليه الثمن بعد
محل الأجل في مصر آخر فإن كان الأجل مقدار ما
لا يمكن الوصول إلى الموضع المشروط في قدر تلك
المدة فالبيع فاسد أيضا؛ لأنه إذا كان لا يمكن
الوصول فيه إلى الموضع المشروط صار كأن لم
يضرب، وإن كان ضرب أجلا يمكن الوصول فيه إلى
المكان المشروط فالبيع صحيح، والتأجيل صحيح ؛
لأنه إذا ضرب له أجلا يمكن الوصول فيه إلى ذلك
المكان علم أن شرط التسليم في ذلك المكان لم
يكن على سبيل التأجيل، بل على تخصيص ذلك
المكان بالتسليم فيه.فإذا حل الأجل وطالبه
البائع بالثمن في غير المكان المشروط ينظر إن
كان الثمن مما ليس له حمل، ولا مؤنة يجبر
المشتري على تسليمه في أي موضع طالبه البائع
بعد حل الأجل، وإن كان الثمن له حمل، ومؤنة لا
يجبر على تسليمه إلا في الموضع المشروط، وكذلك
لو أراد المشتري أن يسلمه في
ج / 5 ص -180-
غير
المكان المشروط ، وأبى البائع ذلك إلا في
الموضع المشروط فهو على هذا التفصيل، ولو كان
الثمن عينا فشرط تسليمه في مصر آخر فالبيع
فاسد سواء شرط الأجل ، أو لم يشرط ؛ لأن فيه
غررا ، والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها"
القبض في بيع المشتري المنقول فلا يصح بيعه
قبل القبض ؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم "نهى عن بيع ما لم يقبض"، والنهي يوجب
فساد المنهي ؛ ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ
بهلاك المعقود عليه ؛ لأنه إذا هلك المعقود
عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ
الثاني؛ لأنه بناه على الأول، وقد
"نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فيه غرر"،
وسواء باعه من غير بائعه، أو من بائعه؛ لأن
النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير
بائعه وبين البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر
لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني، والأول على
حاله. ولا يجوز إشراكه، وتوليته؛ لأن كل ذلك
بيع، ولو قبض نصف المبيع دون النصف فأشرك رجلا
لم يجز فيما لم يقبض، وجاز فيما قبض؛ لأن
الإشراك نوع بيع، والمبيع منقول فلم يكن غير
المقبوض محلا له شرعا فلم يصح في غير المقبوض،
وصح في قدر المقبوض، وله الخيار؛ لتفرق الصفقة
عليه، ولا تجوز إجارته ؛ لأن الإجارة تمليك
المنفعة بعوض، وملك المنفعة تابع لملك العين،
ولا يجوز فيه تمليك العين فلا يجوز تمليك
المنفعة ؛ ولأن الإجارة عقد يحتمل الفسخ
فيتمكن فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه،
ولأن ما روينا من النهي يتناول الإجارة ؛
لأنها نوع بيع، وهو بيع المنفعة. ويجوز إعتاقه
بعوض، وغير عوض، وكذا تدبيره، واستيلاده بأن
كانت أمة فأقر أنها كانت ولدت له؛ لأن جواز
هذه التصرفات يعتمد قيام ملك الرقبة، وقد وجد
بخلاف البيع فإن صحته تفتقر إلى ملك الرقبة
واليد جميعا؛ لافتقاره إلى التسليم، وكذا
الإجارة بخلاف الإعتاق، والتدبير، ولأن المانع
هو القبض، وبهذه التصرفات يصير قابضا على ما
نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، ولأن
الفساد لتمكن الغرر، وهو غرر انفساخ العقد
بهلاك المعقود عليه؛ لما نذكره، وهذه التصرفات
مما لا يحتمل الانفساخ فلم يوجد فلزم الجواز
بدليله، وهل تجوز كتابته؟ لا رواية فيه عن
أصحابنا فاحتمل أن يقال: لا يجوز قياسا على
البيع ؛ لأن كل، واحد منهما مما يحتمل الفسخ،
والإقالة، وجائز أن يقال: يجوز فرقا بينها،
وبين البيع ؛ لأنها أوسع إضرارا من البيع.
وروي عن أبي يوسف إذا كاتبه المشتري قبل القبض
فللبائع أن يبطله فإن لم يبطله حتى نقد
المشتري الثمن جازت الكتابة ذكرها في العيون،
ولو وهبه من البائع فإن لم يقبله لم تصح الهبة
والبيع على حاله؛ لأن الهبة لا تصح بدون
القبول فإن قبله البائع لم تجز الهبة؛ لأنها
تمليك المبيع قبل القبض، وأنه لا يجوز كالبيع،
وانفسخ البيع بينهما، ويكون إقالة للبيع فرق
بين الهبة من البائع، وبين البيع منه حيث جعل
الهبة منه إقالة دون البيع منه. "ووجه" الفرق:
أن بين الهبة، والإقالة مقاربة فإن كل واحد
منهما يستعمل في إلحاق ما سلف بالعدم يقال:
وهبت منك جريمتك كما يقال: أقلت عثرتك، أو
جعلت ذلك كالعدم في حق المؤاخذة به، ألا ترى
أنه يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر؟ فأمكن
جعل الهبة مجازا عن الإقالة عند تعذر العمل
بالحقيقة، بخلاف البيع فإنه لا مقاربة بينه
وبين الإقالة؛ فتعذر جعله مجازا عنها فوقع
لغوا، وكذلك لو تصدق به عليه فهو على التفصيل
الذي ذكرنا. ولو وهب لغير البائع، أو تصدق به
على غير البائع، وأمر بالقبض من البائع، أو
رهنه عند آخر، وأمره أن يقبض من البائع فقبضه
بأمره، وأقرضه، وأمره بالقبض لم تجز هذه
العقود كلها عند أبي يوسف، وعند محمد جازت.
"وجه" قول محمد: إن صحة هذه العقود بالقبض،
فإذا أمره بالقبض فقد أنابه مناب نفسه في
القبض فصار بمنزلة الوكيل له، فإذا قبض بأمره
يصير قابضا عنه أولا بطريق النيابة، ثم لنفسه
فيصح، ولأبي يوسف أن جواز هذه العقود مبني على
الملك المطلق، وهو ملك الرقبة واليد جميعا؛
لأن به يقع الأمن عن غرر الانفساخ بهلاك
المعقود عليه، وغرر الانفساخ ههنا ثابت فلم
يكن الملك مطلقا فلم يجز، ولو أوصى به لرجل
قبل القبض، ثم مات جازت الوصية؛ لأن الوصية
أخت الميراث، ولو مات قبل القبض صار ذلك
ميراثا لورثته، كذا الوصية، ولو قال المشتري
للبائع: بعه لي لم يكن نقضا بالإجماع، وإن
باعه لم يجز بيعه، ولو قال: بعه لنفسك كان
نقضا بالإجماع، ولو قال: بعه مطلقا كان نقضا
عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يكون
نقضا. "وجه" قوله: أن إطلاق الأمر بالبيع
ينصرف إلى البيع للآمر
ج / 5 ص -181-
لا
للمأمور؛ لأن الملك له لا للمأمور فصار كأنه
قال له: بعه لي، ولو نص عليه لا يكون نقضا
للبيع ؛ لأنه أمره ببيع فاسد فكذا هذا، ولهما
أن مطلق الأمر بالبيع يحمل على بيع صحيح صح،
ولو حملناه على البيع للآمر لما صح ؛ لأنه
يكون أمرا ببيع من لا يملك بنفسه فلا يصح؛
فيحمل على البيع لنفسه كأنه نص عليه فقال: بعه
لنفسك، ولا يتحقق البيع لنفسه إلا بعد انفساخ
البيع الأول فيتضمن الأمر بالبيع لنفسه انفساخ
البيع الأول فينفسخ مقتضى الأمر كما في قول
الرجل لغيره: أعتق عبدك عني على ألف درهم، ولو
قال المشتري للبائع أعتقه فأعتقه البائع
فإعتاقه جائز عن نفسه عند أبي حنيفة وعند أبي
يوسف إعتاقه باطل. "وجه" قول أبي يوسف أن مطلق
الأمر بالإعتاق ينصرف إلى الإعتاق عن الآمر لا
عن نفسه؛ لأن الملك للآمر، والإعتاق عنه
بمنزلة القبض، والبائع لا يصلح نائبا عن
المشتري في القبض عنه، فلا يصلح نائبا عنه في
الإعتاق، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الأمر
بالإعتاق يحمل على، وجه يصح، ولو حمل على
الإعتاق عن الآمر لم يصح؛ لما ذكرتم فيحمل على
الإعتاق عن نفسه، فإذا أعتق يقع عنه. "وأما"
بيع المشتري العقار قبل القبض فجائز عنه عند
أبي حنيفة، وأبي يوسف استحسانا، وعند محمد،
وزفر،والشافعي رحمهم الله لا يجوز قياسا،
واحتجوا بعموم النهي الذي روينا؛ ولأن القدرة
على القبض عند العقد شرط صحة العقد لما ذكرنا،
ولا قدرة إلا بتسليم الثمن، وفيه غرر، ولهما
عمومات البياعات من الكتاب العزيز من غير
تخصيص، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر
الواحد عندنا، أو نحمله على المنقول توفيقا
بين الدلائل صيانة لها عن التناقض؛ ولأن الأصل
في ركن البيع إذا صدر من الأهل في المحل هو
الصحة، والامتناع لعارض الغرر، وهو غرر انفساخ
العقد بهلاك المعقود عليه. ولا يتوهم هلاك
العقار فلا يتقرر الغرر فبقي بيعه على حكم
الأصل، وكما لا يجوز بيع المشتري المنقول قبل
القبض لا يجوز بيع الأجرة المنقولة قبل القبض
إذا كانت عينا، وبدل الصلح المنقول إذا كان
عينا، والأصل أن كل عوض ملك بعقد ينفسخ فيه
العقد بهلاكه قبل القبض لا يجوز التصرف فيه
كالمبيع، والأجرة، وبدل الصلح إذا كان منقولا
معينا، وكل عوض ملك بعقد لا ينفسخ العقد فيه
بهلاكه قبل القبض يجوز التصرف فيه كالمهر،
وبدل الخلع، وبدل العتق، وبدل الصلح عن دم
العمد، وفقه هذا الأصل ما ذكرنا: أن الأصل هو
الصحة في التصرف الصادر من الأهل المضاف إلى
المحل، والفساد بعارض غرر الانفساخ، ولا يتوهم
ذلك في هذه التصرفات؛ لأنها لا تحتمل الفسخ
فكان القول بجواز هذه التصرفات عملا بالأصل،
وأنه واجب. وكذلك الميراث يجوز التصرف فيه قبل
القبض؛ لأن معنى الغرر لا يتقرر فيه؛ ولأن
الوارث خلف الميت في ملك الموروث، وخلف الشيء
قائم مقامه كأنه هو فكأن المورث قائم، ولو كان
قائما لجاز تصرفه فيه كذا الوارث، وكذلك
الموصى به بأن أوصى إلى إنسان بشيء، ثم مات
الموصي فللموصى له أن يتصرف قبل القبض ؛ لأن
الوصية أخت الميراث، ويجوز التصرف في الميراث
قبل القبض فكذا في الموصى به. وهل يجوز بيع
المقسوم بعد القسمة قبل القبض؟ ينظر إن كان ما
وقع عليه القسمة مما يجبر عليه الشركاء إذا
طلبها واحد منهم جاز لواحد منهم أن يبيع نصيبه
بعد القسمة قبل القبض سواء كان منقولا، أو غير
منقول؛ لأن القسمة في مثله إفراز، وإن كان مما
لا يجبر عليه الشركاء عند طلب واحد منهم
كالأشياء المختلفة، والرقيق على قول أبي حنيفة
لا يجوز بيعه قبل القبض إن كان منقولا، وإن
كان عقارا فعلى الاختلاف الذي ذكرنا؛ لأن قسمة
هذه الأشياء فيها معنى المبادلة فتشبه البيع،
والله عز اسمه أعلم. "وأما" بيع الدين قبل
القبض فنقول، وبالله التوفيق: الديون أنواع.
"منها" ما لا يجوز بيعه قبل القبض، ومنها ما
يجوز أما الذي لا يجوز بيعه قبل القبض فنحو
رأس مال السلم لعموم النهي؛ ولأن قبضه في
المجلس شرط، وبالبيع يفوت القبض حقيقة، وكذا
المسلم فيه ؛ لأنه مبيع لم يقبض، وكذا لو باع
رأس مال السلم بعد الإقالة قبل القبض لا يجوز
استحسانا، والقياس: أن يجوز وهو قول زفر.
"وجه" القياس: أن عقد السلم ارتفع بالإقالة ؛
لأنها فسخ، وفسخ العقد رفعه من الأصل، وجعله
كأنه لم يكن، وإذا ارتفع العقد من الأصل عاد
رأس المال إلى قديم ملك رب المال فكان محلا
للاستبدال كما كان قبل السلم؛ ولهذا يجب قبل
قبض رأس المال بعد
ج / 5 ص -182-
الإقالة
في مجلس الإقالة. "وجه" الاستحسان: عموم النهي
الذي روينا إلا من حيث خص بدليل، وفي الباب نص
خاص، وهو ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه
عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لرب
السلم
"لا تأخذ إلا
سلمك، أو رأس مالك"، وفي رواية
طخذ سلمك، أو رأس مالك" نهى النبي عليه الصلاة
والسلام رب السلم عن الأخذ عاما، واستثنى أخذ
السلم، أو رأس المال فبقي أخذ ما وراءهما على
أصل النهي، وكذا إذا انفسخ السلم بعد صحته
لمعنى عارض نحو ذمي أسلم إلى ذمي عشرة دراهم
في خمر، ثم أسلما، أو أسلم أحدهما قبل قبض
الخمر حتى بطل السلم، ووجب على المسلم إليه رد
رأس المال لا يجوز لرب السلم الاستبدال
استحسانا لما روينا، ولو كان السلم فاسدا من
الأصل ووجب على المسلم إليه رد رأس المال
لفساد السلم يجوز الاستبدال؛ لأن السلم إذا
كان فاسدا في الأصل لا يكون له حكم السلم فكان
رأس مال السلم بمنزلة سائر الديون من القرض،
وثمن المبيع، وضمان الغصب، والاستهلاك. "وأما"
بدل الصرف فلا يجوز بيعه قبل القبض في
الابتداء، وهو حال بقاء العقد، ويجوز في
الانتهاء، وهو ما بعد الإقالة، بخلاف رأس مال
السلم فإنه لا يجوز بيعه في الحالين. "ووجه"
الفرق: أن القياس جواز الاستبدال بعد الإقالة
في الناس جميعا؛ لما ذكرنا أن الإقالة فسخ،
وفسخ العقد رفعه من الأصل كأن لم يكن، ولو لم
يكن العقد لجاز الاستبدال فكذا إذا رفع، وألحق
بالعدم فكان ينبغي أن يجوز الاستبدال فيهما
جميعا إلا أن الحرمة في باب السلم ثبتت نصا
بخلاف القياس، وهو ما روينا، والنص ورد في
السلم فبقي جواز الاستبدال بعد الإقالة في
الصرف على الأصل، وكذا الثياب الموصوفة في
الذمة المؤجلة لا يجوز بيعها قبل القبض للنهي
سواء كان ثبوتها في الذمة بعقد السلم، أو
غيره؛ لأن الثياب كما تثبت في الذمة مؤجلة
بطريق السلم تثبت دينا في الذمة مؤجلة لا
بطريق السلم بأن باع عبدا بثوب موصوف في الذمة
مؤجل فإنه يجوز بيعه، ولا يكون جوازه بطريق
السلم بدليل أن قبض العبد ليس بشرط، وقبض رأس
مال السلم شرط جواز السلم، وكذا إذا أجر داره
بثوب موصوف في الذمة مؤجل جازت الإجارة، ولا
يكون سلما، وكذا لو ادعى عينا في يد رجل
فصالحه من دعواه على ثوب موصوف في الذمة مؤجل
جاز الصلح، ولا يكون هذا سلما، ولا يجوز
الاستبدال به كما لا يجوز بالمسلم فيه، وإن لم
يكن ثبوته بعقد السلم فهذه جملة الديون التي
لا يجوز بيعها قبل القبض، وما سواها من ثمن
المبيع، والقرض، وقيمة المغصوب، والمستهلك،
ونحوها فيجوز بيعها ممن عليه قبل القبض، وقال
الشافعي رحمه الله: ثمن المبيع إذا كان عينا
لا يجوز بيعه قبل القبض قولا واحدا، وإن كان
دينا لا يجوز في أحد قوليه أيضا بناء على أن
الثمن والمثمن عنده من الأسماء المترادفة
يقعان على مسمى واحد فكان كل واحد منهما مبيعا
فكان بيع المبيع قبل القبض، وكذا النهي عن بيع
ما لم يقبض عام لا يفصل بين المبيع، والثمن
وأما على أصلنا فالمبيع، والثمن من الأسماء
المتباينة في الأصل يقعان على معنيين متباينين
على ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه، ولا
حجة له في عموم النهي ؛ لأن بيع ثمن المبيع
ممن عليه صار مخصوصا بحديث عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما على ما نذكره. "وأما" بيع هذه
الديون من غير من عليه، والشراء بها من غير من
عليه فينظر: إن أضاف البيع والشراء إلى الدين
لم يجز بأن يقول لغيره: بعت منك الدين الذي في
ذمة فلان بكذا ، أو يقول: اشتريت منك هذا
الشيء بالدين الذي في ذمة فلان ؛ لأن ما في
ذمة فلان غير مقدور التسليم في حقه ، والقدرة
على التسليم شرط انعقاد العقد على ما مر ،
بخلاف البيع ، والشراء بالدين ممن عليه الدين
؛ لأن ما في ذمته مسلم له، وإن لم يضف العقد
إلى الدين الذي عليه جاز ، ولو اشترى شيئا
بثمن دين، ولم يضف العقد إلى الدين حتى جاز،
ثم أحال البائع على غريمه بدينه الذي له عليه
جازت الحوالة سواء كان الدين الذي أحيل به
دينا يجوز بيعه قبل القبض، أو لا يجوز كالسلم
ونحوه ، وذكر الطحاوي رحمه الله أنه لا تجوز
الحوالة بدين لا يجوز بيعه قبل القبض، وهذا
غير سديد ؛ لأن هذا توكيل بقبض الدين فإن
المحال له يصير بمنزلة الوكيل للمحيل بقبض
دينه من المحتال له. والتوكيل بقبض الدين جائز
أي دين كان، ويكون قبض وكيله كقبض موكله، ولو
باع هذا الدين ممن عليه الدين جاز بأن اشترى
منه شيئا بعينه بدينه الذي له في ذمته ؛ لأنه
باع ما هو مقدور التسليم عند الشراء ؛ لأن
ذمته في
ج / 5 ص -183-
يده،
بخلاف الأول، وكذا إذا صالح معه من دينه على
شيء بعينه جاز الصلح ، والله سبحانه وتعالى
أعلم. "ومنها" أن يكون البدل منطوقا به في أحد
نوعي المبادلة ، وهي المبادلة القولية فإن كان
مسكوتا عنه فالبيع فاسد بأن قال: بعت منك هذا
العبد، وسكت عن ذكر الثمن فقال المشتري:
اشتريت لما ذكرنا أن البيع في اللغة: مبادلة
شيء مرغوب بشيء مرغوب ، وفي الشرع: مبادلة
المال بالمال، فإذا لم يكن البدل منطوقا به،
ولا بيع بدون البدل إذ هو مبادلة كان بدله
قيمته فكان هذا بيع العبد بقيمته، وأنه فاسد،
وهكذا السبيل في البياعات الفاسدة أنها تكون
بيعا بقيمة المبيع على ما نذكر في موضعه، هذا
إذا سكت عن ذكر الثمن فأما إذا ما نفاه صريحا
بأن قال: بعتك هذا العبد بغير ثمن، أو بلا ثمن
فقال المشتري: اشتريت اختلف المشايخ فيه قال
بعضهم: هذا والسكوت عن الثمن سواء، والبيع
فاسد، وقال بعضهم: البيع باطل. "وجه" قول
الأولين: أن قوله بلا ثمن باطل؛ لأن البيع عقد
مبادلة فكان ذكره ذكرا للبدل، فإذا قال بغير
ثمن فقد نفى ما أثبته فبطل قوله بلا ثمن، وبقي
قوله بعت مسكوتا عن ذكر الثمن فكأنه باع وسكت
عن ذكر الثمن. "وجه" قول الآخرين: أن عند
السكوت عن ذكر الثمن يصير البدل مذكورا بطريق
الدلالة، فإذا نص على نفي الثمن بطلت الدلالة
فلم يكن هذا بيعا أصلا، والله سبحانه وتعالى
أعلم. "ومنها" الخلو عن الربا، وإن شئت قلت:
ومنها المماثلة بين البدلين في أموال الربا
حتى لو انتفت فالبيع فاسد ؛ لأنه بيع ربا،
والبيع الذي فيه ربا فاسد ؛ لأن الربا حرام
بنص الكتاب الكريم قال الله عز وجل:
{وَحَرَّمَ الرِّبا}. والكلام في مسائل الربا في الأصل في ثلاثة مواضع: أحدها في بيان
الربا في عرف الشرع أنه ما هو؟، والثاني: في
بيان علته أنها ما هي؟، والثالث: في بيان شرط
جريان الربا "أما" الأول فالربا في عرف الشرع
نوعان: ربا الفضل، وربا النساء. "أما" ربا
الفضل فهو: زيادة عين مال شرطت في عقد البيع
على المعيار الشرعي، وهو الكيل، أو الوزن في
الجنس عندنا وعند الشافعي هو: زيادة مطلقة في
المطعوم خاصة عند اتحاد الجنس خاصة. "وأما"
ربا النساء فهو فضل الحلول على الأجل، وفضل
العين على الدين في المكيلين، أو الموزونين
عند اختلاف الجنس، أو في غير المكيلين، أو
الموزونين عند اتحاد الجنس عندنا وعند الشافعي
رحمه الله هو فضل الحلول على الأجل في
المطعومات، والأثمان خاصة، والله تعالى أعلم.
"وأما" الثاني، وهو بيان العلة فنقول: الأصل
المعلول في هذا الباب بإجماع القائسين الحديث
المشهور، وهو ما روى أبو سعيد الخدري، وعبادة
بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال:
"الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والشعير بالشعير
مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ، والتمر
بالتمر مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا ،
والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل ربا
، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد ، والفضل
ربا ، والذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ،
والفضل ربا" أي: بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد. وروي مثل بمثل بالرفع
أي: بيع الحنطة بالحنطة مثل بمثل يد بيد جائز
فهذا النص معلول باتفاق القائسين غير أنهم
اختلفوا في العلة.قال أصحابنا: علة ربا الفضل
في الأشياء الأربعة المنصوص عليها الكيل مع
الجنس، وفي الذهب، والفضة الوزن مع الجنس فلا
تتحقق العلة إلا باجتماع الوصفين، وهما القدر،
والجنس، وعلة ربا النساء هي أحد، وصفي علة ربا
الفضل إما الكيل، أو الوزن المتفق، أو الجنس،
وهذا عندنا، وعند الشافعي علة ربا الفضل في
الأشياء الأربعة الطعم، وفي الذهب، والفضة
الثمنية في قول، وفي قول هما غير معلولين،
وعلة ربا النساء ما هو علة ربا الفضل، وهي
الطعم في المطعومات، والثمنية في الأثمان دون
الجنس إذ الأصل عنده حرمة بيع المطعوم بجنسه.
"وأما" التساوي في المعيار الشرعي مع اليد
مخلص من الحرمة بطريق الرخصة، احتج الشافعي
لإثبات هذا الأصل بما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" هذا الأصل يدل على أن الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه، وإنما الجواز
بعارض التساوي في المعيار الشرعي ؛ لأنه عليه
الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام بالطعام
مطلقا، واستثنى حالة المساواة فيدل على أن
الحرمة هي الأصل في بيع المطعوم بالمطعوم من
غير فصل بين القليل والكثير، وفيه دليل أيضا
على جعل الطعم علة ؛ لأنه أثبت الحكم عقيب اسم
مشتق من معنى، والأصل: أن الحكم إذا ثبت عقيب
اسم مشتق من معنى
ج / 5 ص -184-
يصير
موضع الاشتقاق علة للحكم المذكور كقوله تعالى
جل، وعلا:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وقوله سبحانه وتعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ}
والطعام اسم مشتق من الطعم فيدل على كون الطعم
علة، ولأن العلة اسم لوصف مؤثر في الحكم، ووصف
الطعم مؤثر في حرمة بيع المطعوم، والحكم متى
ثبت عقيب وصف مؤثر يحال إليه كما في الزنا،
والسرقة، ونحو ذلك، وبيان تأثير الطعم أنه وصف
ينبئ عن العزة، والشرف؛ لكونه متعلق البقاء،
وهذا يشعر بعزته وشرفه، فيجب إظهار عزته
وشرفه، وذلك في تحريم بيع المطعوم بجنسه،
وتعليق جوازه بشرطي التساوي في المعيار
الشرعي، واليد؛ لأن في تعلقه بشرطين تضييق
طريق إصابته، وما ضاق طريق إصابته يعز وجوده
فيعز إمساكه، ولا يهون في عين صاحبه فكان
الأصل فيه هو الحظر؛ ولهذا كان الأصل في
الأبضاع الحرمة، والحظر، والجواز بشرطي
الشهادة، والولي إظهارا لشرفها لكونها منشأ
البشر الذين هم المقصودون في العالم، وبهم
قوامها، والأبضاع وسيلة إلى وجود الجنس،
والقوت وسيلة إلى بقاء الجنس فكان الأصل فيها
الحظر، والجواز بشرطين ليعز وجوده، ولا تتيسر
إصابته فلا يهون إمساكه فكذا هذا، وكذا الأصل
في بيع الذهب، والفضة بجنسهما هو الحرمة؛
لكونهما أثمان الأشياء فيها وعليها، فكان قوام
الأموال، والحياة بها فيجب إظهار شرفها في
الشرع بما قلنا. "ولنا" في إثبات الأصل إشارات
النصوص من الكتاب العزيز، والسنة، والاستدلال.
"أما" الكتاب فقوله تعالى:
{أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وقال سبحانه وتعالى:
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا
تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} جعل حرمة الربا بالمكيل، والموزون مطلقا عن شرط الطعم فدل على أن
العلة هي الكيل، والوزن، وقال سبحانه وتعالى:
{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ألحق الوعيد الشديد بالتطفيف في الكيل، والوزن مطلقا من غير فصل بين
المطعوم وغيره. "وأما" السنة فما روي أن "عامل خيبر أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيبا فقال:
أوكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا، ولكني أعطيت
صاعين، وأخذت صاعا فقال عليه الصلاة والسلام:
أربيت هلا بعت تمرك بسلعة، ثم ابتعت بسلعتك
تمرا"؟ وكذلك الميزان وأراد به الموزون بطريق الكناية لمجاورة بينهما مطلقا
من غير فصل بين المطعوم، وغير المطعوم، وكذا
روى مالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق الحنظلي
بإسنادهما الحديث المشهور الذي رواه محمد في
كتاب البيوع عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه
قال في آخره "وكذلك كل ما يكال، أو يوزن".
"وأما" الاستدلال فهو: أن الفضل على المعيار
الشرعي من الكيل، والوزن في الجنس إنما كان
ربا في المطعومات، والأثمان من الأشياء الستة
المنصوص عليها لكونه فضل مال خال عن العوض
يمكن التحرز عنه في عقد المعاوضة، وقد وجد في
الجص، والحديد، ونحوهما فورود الشرع ثمة يكون
ورودا هنا دلالة، وبيان ذلك أن البيع لغة،
وشرعا مبادلة المال بالمال، وهذا يقتضي
التساوي في البدلين على وجه لا يخلو كل جزء من
البدل من هذا الجانب عن البدل من ذلك الجانب؛
لأن هذا هو حقيقة المبادلة؛ ولهذا لا يملك
الأب، والوصي بيع مال اليتيم بغبن فاحش، ولا
يصح من المريض إلا من الثلث، والقفيز من
الحنطة مثل القفيز من الحنطة صورة، ومعنى،
وكذلك الدينار مع الدينار. "أما" الصورة
فلأنهما متماثلان في القدر، وأما معنى فإن
المجانسة في الأموال عبارة عن تقارب المالية
فكان القفيز مثلا للقفيز، والدينار مثلا
للدينار؛ ولهذا لو أتلف على آخر قفيزا من حنطة
يلزمه قفيز مثله، ولا يلزمه قيمته، وإذا كان
القفيز من الحنطة مثلا للقفيز من الحنطة كان
القفيز الزائد فضل مال خال عن العوض يمكن
التحرز عنه في عقد المعاوضة فكان ربا، وهذا
المعنى لا يخص المطعومات، والأثمان بل يوجد في
كل مكيل بجنسه، وموزون بمثله فالشرع الوارد
هناك يكون، واردا ههنا دلالة. "وأما" قوله:
الأصل حرمة بيع المطعوم بجنسه فممنوع، ولا حجة
له في الحديث؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما
اقتصر على النهي عن بيع الطعام بالطعام ليجعل
الحظر فيه أصلا، بل قرن به الاستثناء فقال
عليه الصلاة والسلام: إلا سواء بسواء فلا يدل
على كون الحرمة فيه أصلا، وقوله: جعل الطعم
علة دعوى ممنوعة أيضا، والاسم
ج / 5 ص -185-
المشتق
من معنى إنما يجعل علة للحكم المذكور عقيبه
عندنا إذا كان له أثر كالزنا، والسرقة،
ونحوهما فلم قلتم بأن للطعم أثرا؟ وكونه متعلق
البقاء لا يكون أثره في الإطلاق أولى من الحظر
فإن الأصل فيه هو التوسيع دون التضييق على ما
عرف، والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا
الأصل تبنى مسائل الربا نقدا، ونسيئة، وفروع
الخلاف بيننا وبين الشافعي أما ربا النقد
ففائدة الخلاف فيه تظهر في موضعين: أحدهما في
بيع مكيل بجنسه غير مطعوم، أو موزون بجنسه غير
مطعوم، ولا ثمن كبيع قفيز جص بقفيزي جص، وبيع
من حديد بمنوي حديد عندنا لا يجوز؛ لأنه بيع
ربا لوجود علة الربا، وهو الكيل مع الجنس، أو
الوزن مع الجنس، وعنده يجوز؛ لأن العلة هي
الطعم، أو الثمنية، ولم يوجد، وعلى هذا الخلاف
بيع كل مقدر بجنسه من المكيلات، والموزونات
غير المطعومات، والأثمان: كالنورة، والزرنيخ،
والصفر، والنحاس، ونحوها. "وأما" بيع المكيل
المطعوم بجنسه متفاضلا، وبيع الموزون المطعوم
بجنسه متفاضلا كبيع قفيز أرز بقفيزي أرز، وبيع
من سكر بمنوي سكر فلا يجوز بالإجماع، أما
عندنا فلوجود القدر، والجنس، وعنده لوجود
الطعم، والجنس، وكذا كل موزون هو مأكول، أو
مشروب كالدهن، والزيت، والخل، ونحوها. ويجوز
بيع المكيل بغير جنسه متفاضلا مطعوما كان، أو
غير مطعوم بعد أن يكون يدا بيد كبيع قفيز حنطة
بقفيزي شعير، وبيع قفيز جص بقفيزي نورة، ونحو
ذلك؛ لأن علة الربا الفضل مجموع الوصفين، وقد
انعدم أحدهما، وهو الجنس، وكذا بيع الموزون
بغير جنسه متفاضلا جائز ثمنين كانا، أو مثمنين
بعد أن يكون يدا بيد كبيع دينار بمائة درهم،
وبيع من حديد بمنوي نحاس، أو رصاص، ونحو ذلك
لما قلنا. ويجوز بيع المذروعات، والمعدودات
المتفاوتة، واحدا باثنين يدا بيد كبيع ثوب
بثوبين، وعبد بعبدين، وشاة بشاتين، ونصل
بنصلين، ونحو ذلك بالإجماع، أما عندنا
فلانعدام أحد الوصفين، وهو الكيل، والوزن،
وعنده لانعدام الطعم، والثمنية. "وأما" بيع
الأواني الصفرية واحدا باثنين كبيع قمقمة
بقمقمتين، ونحو ذلك فإن كان مما يباع عددا
يجوز؛ لأن العد في العدديات ليس من أوصاف علة
الربا فلا يتحقق الربا، وإن كان مما يباع،
وزنا لا يجوز؛ لأنه بيع مال الربا بجنسه
مجازفة. ويجوز بيع المعدودات المتقاربة من غير
المطعومات بجنسها متفاضلا عند أبي حنيفة، وأبي
يوسف بعد أن يكون يدا بيد كبيع الفلس بالفلسين
بأعيانهما، وعند محمد لا يجوز. "وجه" قوله: إن
الفلوس أثمان فلا يجوز بيعها بجنسها متفاضلا
كالدراهم، والدنانير، ودلالة الوصف عبارة عما
تقدر به مالية الأعيان، ومالية الأعيان كما
تقدر بالدراهم، والدنانير تقدر بالفلوس فكانت
أثمانا؛ ولهذا كانت أثمانا عند مقابلتها بخلاف
جنسها، وعند مقابلتها بجنسها حالة المساواة،
وإن كانت ثمنا فالثمن لا يتعين، وإن عين
كالدراهم، والدنانير فالتحق التعين فيهما
بالعدم فكان بيع الفلس بالفلسين بغير
أعيانهما، وذا لا يجوز ؛ ولأنها إذا كانت
أثمانا فالواحد يقابل الواحد فبقي الآخر فضل
مال لا يقابله عوض في عقد المعاوضة، وهذا
تفسير الربا. "ولهما" أن علة ربا الفضل هي
القدر مع الجنس، وهو الكيل، أو الوزن المتفق
عند اتحاد الجنس، والمجانسة إن وجدت ههنا فلم
يوجد القدر فلا يتحقق الربا، وقوله: الفلوس
أثمان قلنا: ثمنيتها قد بطلت في حقهما قبل
البيع، فالبيع صادفها، وهي سلع عددية فيجوز
بيع الواحد بالاثنين كسائر السلع العددية
كالقماقم العددية، وغيرها إلا أنها بقيت
أثمانا عند مقابلتها بخلاف جنسها، وبجنسها
حالة المساواة؛ لأن خروجها عن، وصف الثمنية
كان لضرورة صحة العقد، وجوازه ؛ لأنهما قصدا
الصحة، ولا صحة إلا بما قلنا، ولا ضرورة ثمة ؛
لأن البيع جائز في الحالين بقيت على صفة
الثمنية، أو خرجت عنها. والثاني في بيع مطعوم
بجنسه ليس بمكيل ، ولا موزون كبيع حفنة حنطة
بحفنتين منها، أو بطيخة ببطيختين، أو تفاحة
بتفاحتين، أو بيضة ببيضتين، أو جوزة بجوزتين
يجوز عندنا ؛ لعدم العلة وبقي الكيل مع الجنس،
أو الوزن، وعنده لا يجوز؛ لوجود الطعم،
والجنس، وكذا لو باع حفنة بحفنة، أو تفاحة
بتفاحة، أو بيضة ببيضة يجوز عندنا؛ لما قلنا،
وعنده لا يجوز؛ لوجود الطعم؛ لأن حرمة بيع
المطعوم بجنسه هو العزيمة عنده، والتساوي في
الكيل، أو الوزن مخلص عن الحرمة بطريق الرخصة،
ولم يوجد المخلص فبقي على أصل الحرمة. "وأما"
ربا النساء، وفروعه، وفائدة الاختلاف فيه
فالأصل فيه ما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
أسلم
ج / 5 ص -186-
ما يكال
فيما يوزن، وأسلم ما يوزن فيما يكال، ولا تسلم
ما يكال فيما يكال، ولا ما يوزن فيما يوزن،
وإذا اختلف النوعان مما يكال، أو يوزن فلا بأس
به اثنان بواحد يدا بيد ولا خير فيه نسيئة،
ولا بد من شرح هذه الجملة، وتفصيل ما يحتاج
منها إلى التفصيل ؛ لأنه رحمه الله أجرى
القضية فيها عامة، ومنها ما يحتمل العموم،
ومنها ما لا يحتمل فلا بد من بيان ذلك فنقول
وبالله التوفيق: لا يجوز إسلام المكيلات في
المكيلات على العموم، سواء كانا مطعومين
كالحنطة في الحنطة، أو في الشعير، أو غير
مطعومين كالجص في الجص، أو في النورة، وكذلك
بيع المكيل بالمكيل حالا لا سلما، لكن دينا
موصوفا في الذمة لا يجوز سواء كانا من جنس
واحد، أو من جنسين مطعومين كانا، أو غير
مطعومين عندنا ؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل
جمعهما، وهو الكيل، وعند الشافعي رحمه الله إن
كانا مطعومين فكذلك ، وإن لم يكونا مطعومين
جاز ؛ لأن العلة عنده الطعم. "وأما" إسلام
الموزونات في الموزونات ففيه تفصيل إن كانا
جميعا مما يتعينان في العقد لا يجوز أيضا سواء
كانا مطعومين كالسكر في الزعفران، أو غير
مطعومين كالحديد في النحاس لوجود أحد، وصفي
علة ربا الفضل الذي هو علة تامة لربا النساء،
وعند الشافعي يجوز في غير المطعوم، ولا يجوز
في المطعوم؛ لما قلنا، وإن كانا مما لا
يتعينان في العقد كالدراهم في الدنانير،
والدنانير في الدراهم، أو الدراهم في الدراهم،
والدنانير في الدنانير، أو لا يتعين المسلم
فيه كالحديد في الدراهم، والدنانير لا يجوز؛
لأن المسلم فيه مبيع؛ لما روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخص في السلم" فهذا يقتضي أن يكون السلم بيع ما ليس عند الإنسان؛ لأنه رخص في بعض
ما دخل تحت النهي. والداخل تحت النهي هو البيع
دل أن السلم نوع بيع ليستقيم إثبات الرخصة فيه
فكان المسلم فيه مبيعا، والمبيع مما يتعين
بالتعيين، والدراهم، والدنانير لا يحتملان
التعيين شرعا في عقود المعاوضات فلم يكونا
متعينين فلا يصلحان مسلما فيهما، وإن كان رأس
المال مما لا يتعين، والمسلم فيه مما يتعين
كما لو أسلم الدراهم، أو الدنانير في
الزعفران، أو في القطن، أو الحديد، وغيرها من
سائر الموزونات فإنه يجوز؛ لانعدام العلة، وهي
القدر المتفق، أو الجنس.أما المجانسة فظاهرة
الانتفاء. وأما القدر المتفق؛ فلأن وزن الثمن
يخالف وزن المثمن، ألا ترى أن الدراهم توزن
بالمثاقيل؟، والقطن، والحديد يوزنان بالقبان
فلم يتفق القدر فلم توجد العلة فلا يتحقق
الربا هذا إذا أسلم الدراهم، أو الدنانير في
سائر الموزونات، فأما إذا أسلم نقرة فضة، أو
تبر ذهب، أو المصوغ فيها فهل يجوز؟ ذكر
الاختلاف فيه بين أبي يوسف، وزفر؟ على قول أبي
يوسف يجوز، وعلى قول زفر لا يجوز. "وجه" قول
زفر: أنه وجد علة ربا النساء وهي أحد وصفي علة
ربا الفضل، وهو الوزن في المالين فيتحقق
الربا. "وجه" قول أبي يوسف: أن أحد الوصفين
الذي هو علة القدر المتفق لا مطلق القدر، ولم
يوجد؛ لأن النقرة، أو التبر من جنس الأثمان،
وأصل الأثمان، ووزن الثمن يخالف وزن المثمن
على ما ذكرنا، فلم يتفق القدر فلم توجد العلة؛
فلا يتحقق الربا كما إذا أسلم فيها الدراهم،
والدنانير، ولو أسلم فيها الفلوس جاز؛ لأن
الفلس عددي، والعدد في العدديات ليس من، أوصاف
العلة، ولو أسلم فيها الأواني الصفرية ينظر إن
كانت تباع وزنا لم يجز ؛ لوجود الوزن الذي هو
أحد وصفي علة ربا الفضل، وإن كانت تباع عددية
جاز ؛ لانعدام العلة. وأما إسلام المكيلات في
الموزونات فهو أيضا على التفصيل فإن كان
الموزون مما يتعين بالتعيين يجوز سواء كانا
مطعومين كالحنطة في الزيت ، أو الزعفران ، أو
غير مطعومين كالجص في الحديد عندنا؛ لعدم
العلة، وعند الشافعي لا يجوز في المطعومين ؛
لوجود العلة ، وإن كان مما لا يتعين بالتعيين،
وهو الدراهم، والدنانير لا يجوز؛ لما مر أن
شرط جواز السلم أن يكون المسلم فيه مبيعا،
والدراهم، والدنانير أثمان أبدا، بخلاف سائر
الموزونات، ثم إذا لم يجز هذا العقد سلما هل
يجوز بيعا ينظر إن كان بلفظ البيع يجوز ويكون
بيعا بثمن مؤجل؛ لأنه إن تعذر تصحيحه أمكن
تصحيحه سلما بيعا بثمن مؤجل فيجعل بيعا به،
وإن كان بلفظ السلم اختلف المشايخ فيه قال
بعضهم: لا يجوز ؛ لأن السلم يخالف مطلق البيع
في الأحكام ، والشرائط فإذا لم يصح سلما بطل
رأسا. وقال بعضهم يجوز ؛ لأن السلم نوع بيع
ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام سماه
بيعا حين
"نهى عن بيع ما ليس عند
الإنسان، ورخص في السلم"، ولهذا ينعقد
بلفظ البيع ، إلا أنه أختص بشرائط مخصوصة فإذا
تعذر تصحيحه بيعا هو سلم يصحح بيعا بثمن
ج / 5 ص -187-
مؤجل
تصحيحا للتصرف بالقدر الممكن. وأما إسلام
الموزونات في المكيلات فجائز على العموم سواء
كان الموزون الذي جعله رأس المال عرضا يتعين
بالتعيين، أو ثمنا لا يتعين بالتعيين، وهو
الدراهم ، والدنانير ؛ لأنه لم يجمعها أحد
الوصفين، وهو القدر المتفق، أو الجنس فلم توجد
العلة، ولو أسلم جنسا في جنسه، وغير جنسه كما
إذا أسلم مكيلا في مكيل، وموزون لم يجز السلم
في جميعه عند أبي حنيفة رحمه الله. وعند أبي
يوسف، ومحمد رحمهما الله يجوز في حصة خلاف
الجنس، وهو الموزون، وهو على اختلافهم فيمن
جمع بين حر وعبد، وباعهما صفقة واحدة ، وقد
ذكرناه فيما تقدم. "وأما" إسلام غير المكيل،
والموزون في جنسه من الذرعيات، والعدديات
كالهروي في الهروي، والمروي في المروي،
والحيوان في الحيوان فلا يجوز عندنا، وعند
الشافعي رحمه الله يجوز ولقب هذه المسألة أن
الجنس بانفراده يحرم النساء عندنا، وعنده لا
يحرم.فلا يجوز إسلام الجوز في الجوز، والبيض
في البيض، والتفاح في التفاح، والحفنة في
الحفنة بالإجماع؛ لوجود الجنس عندنا، ولوجود
الطعم عنده. وأجمعوا على أنه يجوز إسلام
الهروي في المروي؛ لانعدام أحد الوصفين عندنا،
وعنده؛ لانعدام الطعم، والثمنية. ويجوز إسلام
الجوز في البيض، والتفاح في السفرجل، والحيوان
في الثوب عندنا؛ لما قلنا، وعنده لا يجوز في
المطعوم؛ لوجود الطعم. ولو أسلم الفلوس في
الفلوس لا يجوز عندنا؛ لوجود الجنس، وعنده؛
لوجود الثمنية. وكذا إذا أسلم الأواني الصفرية
في جنسها، وهي تباع عددا لا يجوز عندنا؛ لوجود
المجانسة، وعنده لوجود الثمنية، والكلام في
مسألة الجنس بانفراده مبني على الكلام في
مسألة الربا، وأصل الشافعي فيها ما ذكرنا أن
حرمة بيع المطعوم بجنسه، وحرمة بيع الأثمان
بجنسها هي الأصل، والتساوي في المعيار الشرعي
مع اليد مخلص عن الحرمة بطريق الرخصة، أو ربا
النساء عنده، وهو فضل الحلول على الأجل في
المطعومات، والثمنية في الأثمان، وقد ذكرنا ما
له من الدليل على صحة هذا الأصل فيما تقدم،
والكلام لأصحابنا في هذه المسألة على نحو ما
ذكرنا في علة ربا الفضل. وهو أن السلم في
المطعومات، والأثمان إنما كان ربا؛ لكونه فضلا
خاليا عن العوض يمكن التحرز عنه في عقد
المعاوضة؛ لأن البيع عقد مبادلة على طريق
المقابلة، والمساواة في البدلين؛ ولهذا لو
كانا نقدين يجوز، ولا مساواة بين النقد،
والنسيئة؛ لأن العين خير من الدين، والمعجل
أكثر قيمة من المؤجل فكان ينبغي أن يكون كل
فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث
الذات، أو من حيث الأوصاف إلا مالا يمكن
التحرز عنه دفعا للحرج، وفضل التعيين يمكن
التحرز عنه بأن يبيع عينا بعين، وحالا غير
مؤجل، وهذا المعنى موجود في غير المطعوم
والأثمان، فورود الشرع ثمة يكون ورودا ههنا
دلالة، وابتداء الدليل لنا في المسألة ما روي
عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"لا ربا إلا في
النسيئة". وروي
"إنما الربا في النسيئة" حقق عليه الصلاة والسلام الربا في النسيئة من غير فصل بين المطعوم،
والأثمان، وغيرها فيجب القول بتحقيق الربا
فيها على الإطلاق، والعموم إلا ما خص، أو قيد
بدليل، والربا حرام بنص الكتاب العزيز. وإذا
كان الجنس أحد، وصفي علة ربا الفضل، وعلة ربا
النسيئة عندنا، وشرط علة ربا الفضل عنده فلا
بد من معرفة الجنس من كل ما يجري فيه الربا
فنقول وبالله التوفيق: الحنطة كلها على اختلاف
أنواعها، وأوصافها، وبلدانها أنها جنس واحد،
وكذلك الشعير، وكذلك دقيقهما، وكذا سويقهما،
وكذلك التمر، وكذلك الملح، وكذلك العنب، وكذلك
الزبيب، وكذلك الذهب، والفضة فلا يجوز بيع كل
مكيل من ذلك بجنسه متفاضلا في الكيل، وإن
تساويا في النوع، والصفة بلا خلاف، وأما
متساويا في الكيل متفاضلا في النوع والصفة
فنقول: لا خلاف في أنه يجوز بيع الحنطة
بالحنطة السقية بالسقية والنحسية بالنحسية،
وإحداهما بالأخرى، والجيدة بالجيدة، والرديئة
بالرديئة وإحداهما بالأخرى، والجديدة
بالجديدة، والعتيقة بالعتيقة وإحداهما
بالأخرى، والمقلوة بالمقلوة. وكذلك الشعير على
هذا، وكذلك دقيق الحنطة، ودقيق الشعير فيجوز
بيع دقيق الحنطة بدقيق الحنطة، وسويق الحنطة
بسويق الحنطة، وكذا دقيق الشعير، وسويقه، وكذا
التمر بالتمر البرني بالمعقلي، والجيد
بالرديء، والجديد بالجديد، والعتيق بالعتيق،
وأحدهما بالآخر، وكذلك العنب بالعنب، والزبيب
اليابس بالزبيب اليابس، ولا خلاف في أنه لا
يجوز بيع حنطة مقلية بحنطة غير مقلية،
والمطبوخة بغير مطبوخة. وبيع
ج / 5 ص -188-
الحنطة
بدقيق الحنطة، وبسويق الحنطة، وبيع تمر مطبوخ
بتمر غير مطبوخ متفاضلا في الكيل، أو متساويا
فيه؛ لأن المقلية ينضم بعض أجزائها إلى بعض
يعرف ذلك بالتجربة؛ فيتحقق الفضل من حيث القدر
في الكيل فيتحقق الربا، وكذا المطبوخة بغير
المطبوخة؛ لأن المطبوخ ينتفخ بالطبخ فكان غير
المطبوخة أكثر قدرا عند العقد فيتحقق الفضل،
وكذلك بيع الحنطة بدقيق الحنطة؛ لأن في الحنطة
دقيقا إلا أنه مجتمع؛ لوجود المانع من التفرق،
وهو التركيب، وذلك أكثر من الدقيق المتفرق عرف
ذلك بالتجربة إلا أن الحنطة إذا طحنت ازداد
دقيقها على المتفرق. ومعلوم أن الطحن لا أثر
له في زيادة القدر فدل أنه كان أزيد في
الحنطة؛ فيتحقق الفضل من حيث القدر بالتجربة
عند العقد فيتحقق الربا. وأما بيع الحنطة
المبلولة بالمبلولة، أو الندية بالندية، أو
الرطبة بالرطبة، أو المبلولة، أو اليابسة
باليابسة، وبيع التمر بالرطب، والرطب بالرطب،
أو بالتمر، والمنقع بالمنقع، والعنب بالزبيب
اليابس، واليابس بالمنقع، والمنقع بالمنقع
متساويا في الكيل فهل يجوز؟ قال أبو حنيفة
رحمه الله: كل ذلك جائز، وقال أبو يوسف رحمه
الله: كله جائز إلا بيع التمر بالرطب، وقال
محمد رحمه الله: كله فاسد إلا بيع الرطب
بالرطب، والعنب بالعنب، وقال الشافعي رحمه
الله: كله باطل. ويجوز بيع الكفرى بالتمر،
والرطب بالبسر متساويا، ومتفاضلا بالإجماع ؛
لعدم الجنس، والكيل إذ هو اسم لوعاء الطلع
فأبو حنيفة رحمه الله يعتبر المساواة في الحال
عند العقد، ولا يلتفت إلى النقصان في المآل،
ومحمد رحمه الله يعتبرها حالا ومآلا، واعتبار
أبي يوسف مثل اعتبار أبي حنيفة إلا في الرطب
بالتمر فإنه يفسده بالنص، وأصل الشافعي رحمه
الله ما ذكرنا في مسألة علة الربا أن حرمة بيع
المطعوم بجنسه هي الأصل، والتساوي في المعيار
الشرعي مع اليد مخلص إلا أنه يعتبر التساوي
ههنا في المعيار الشرعي في أعدل الأحوال، وهي
حالة الجفاف، واحتج أبو يوسف، ومحمد بما روي
عن سعد بن أبي، وقاص رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيع الرطب بالتمر ، وقال عليه الصلاة والسلام إنه ينقص إذا جف" بين عليه
الصلاة والسلام الحكم، وعلته ، وهي النقصان
عند الجفاف فمحمد عدى هذا الحكم إلى حيث تعدت
العلة، وأبو يوسف قصره على محل النص ؛ لكونه
حكما ثبت على خلاف القياس، ولأبي حنيفة رحمه
الله الكتاب الكريم، والسنة المشهورة أما
الكتاب: فعمومات البيع من نحو قوله تعالى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، وقوله عز شأنه
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فظاهر النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خص بدليل ، وقد خص البيع
متفاضلا على المعيار الشرعي ؛ فبقي البيع
متساويا على ظاهر العموم وأما السنة المشهورة
فحديث أبي سعيد الخدري، وعبادة بن الصامت رضي
الله عنهما حيث "جوز رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيع الحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ،
والتمر بالتمر مثلا بمثل" عاما مطلقا من غير
تخصيص، وتقييد ، ولا شك أن اسم الحنطة ،
والشعير يقع على كل جنس الحنطة ، والشعير على
اختلاف أنواعهما وأوصافهما، وكذلك اسم التمر
يقع على الرطب، والبسر ؛ لأنه اسم لتمر النخل
لغة فيدخل فيه الرطب، واليابس، والمذنب
والبسر، والمنقع. وروي أن "عامل خيبر أهدى إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا جنيبا فقال
عليه الصلاة والسلام أوكل تمر خيبر هكذا؟ وكان
أهدى إليه رطبا" فقد أطلق عليه الصلاة والسلام
اسم التمر على الرطب. وروي أنه
"نهى عليه الصلاة والسلام
عن بيع التمر حتى يزهو أي: يحمر، أو يصفر،
وروي حتى يحمار، أو يصفار"، والاحمرار، والاصفرار من، أوصاف البسر فقد أطلق عليه الصلاة والسلام
اسم التمر على البسر فيدخل تحت النص. وأما
الحديث فمداره على زيد بن عياش، وهو ضعيف عند
النقلة فلا يقبل في معارضة الكتاب والسنة
المشهورة ؛ ولهذا لم يقبله أبو حنيفة رحمه
الله في المناظرة في معارضة الحديث المشهور مع
أنه كان من صيارفة الحديث ، وكان من مذهبه
تقديم الخبر، وإن كان في حد الآحاد على القياس
بعد أن كان راويه عدلا ظاهر العدالة ، أو
بأدلة فيحمله على بيع الرطب بالتمر نسيئة ، أو
تمرا من مال اليتيم توفيقا بين الدلائل صيانة
لها عن التناقض، والله سبحانه وتعالى أعلم
وكذلك الذهب ، والفضة لا يجوز بيع كل بجنسه
متفاضلا في الوزن سواء اتفقا في النوع ،
والصفة بأن كانا مضروبين دراهم ، أو دنانير ،
أو مصوغين ، أو تبرين جيدين ، أو رديئين ، أو
اختلفا للحديث المشهور
"مثلا بمثل، والفضل
ج / 5 ص -189-
ربا". وأما متساويا في الوزن متفاضلا في النوع، والصفة كالمصوغ بالتبر،
والجيد بالرديء فيجوز عندنا، وقال الشافعي
رحمه الله: لا يجوز بيع الجيد بالرديء، واحتج
بالحديث المشهور مثلا بمثل، ولا مماثلة بين
الجيد، والرديء في القيمة. وأما الحديث
المشهور مثلا بمثل فالمراد منه المماثلة في
الوزن، وكذا روي في بعض الروايات "وزنا بوزن"،
وقوله عليه الصلاة والسلام "جيدها، ورديئها سواء"، وبه تبين أن الجودة عند المقابلة بجنسها لا قيمة لها شرعا فلا يظهر
الفضل. واللحوم معتبرة بأصولها فإن تجانس
الأصلان تجانس اللحمان فتراعى فيه المماثلة،
ولا يجوز إلا متساويا، وإن اختلف الأصلان
اختلف اللحمان فيجوز بيع أحدهما بالآخر
متساويا، ومتفاضلا بعد أن يكون يدا بيد، ولا
يجوز نسيئة لوجود أحد، وصفي علة ربا الفضل،
وهو الوزن، إذا عرف هذا فنقول: لحوم الإبل
كلها على اختلاف أنواعها من لحوم العراب،
والبخاتي، والهجين، وذي السنامين، وذي سنام
واحد جنس واحد ؛ لأن الإبل كلها جنس واحد فكذا
لحومها، وكذا لحوم البقر، والجواميس، كلها جنس
واحد، ولحوم الغنم من الضأن، والنعجة، والمعز،
والتيس جنس واحد اعتبارا بالأصول، وهذا عندنا،
وقال الشافعي رحمه الله اللحوم كلها جنس واحد
اتحدت أصولها، أو اختلفت حتى لا يجوز بيع لحم
الإبل بالبقر، والبقر بالغنم متفاضلا. "وجه"
قوله: أن اللحمين استويا اسما، ومنفعة، وهي
التغذي، والتقوي فاتحد الجنس فلزم اعتبار
المماثلة في بيع بعضها ببعض. "ولنا" أن أصول
هذه اللحوم مختلفة الجنس فكذا اللحوم؛ لأنها
فروع تلك الأصول، واختلاف الأصل يوجب اختلاف
الفرع قوله الاسم شامل، والمقصود متحد قلنا:
المعتبر في اتحاد الجنس اتحاد المقصود الخاص
لا العام، ألا ترى أن المطعومات كلها في معنى
الطعم متحدة، ثم لا يجعل كلها جنسا واحدا
كالحنطة مع الشعير، ونحو ذلك حتى يجوز بيع
أحدهما بالآخر متفاضلا مع اتحادهما في معنى
الطعم لكن لما كان ذلك معنى عاما لم يوجب
اتحاد الجنس كذا هذا. وروي عن أبي يوسف أنه
يجوز بيع الطير بعضه ببعض متفاضلا، وإن كانا
من جنس واحد؛ لأنه لا يوزن عادة، وعلى هذا
الباب هذه الحيوانات حكمها حكم أصولها عند
الاتحاد والاختلاف؛ لأنها متفرعة من الأصول
فكانت معتبرة بأصولها، وكذا خل الدقل مع خل
العنب جنسان مختلفان اعتبارا بأصلهما، واللحم
مع الشحم جنسان مختلفان لاختلاف الاسم،
والمنافع، وكذا مع الألية، والألية مع الشحم
جنسان مختلفان؛ لما قلنا، وشحم البطن مع شحم
الظهر جنسان مختلفان، وكذا مع الألية بمنزلة
اللحم مع شحم البطن، والألية؛ لأنه لحم سمين،
وصوف الشاة مع شعر المعز جنسان مختلفان؛
لاختلاف الاسم، والمنفعة، وكذا غزل الصوف مع
غزل الشعر، والقطن مع الكتان جنسان مختلفان،
وكذا غزل القطن مع غزل الكتان، ولا يجوز بيع
غزل القطن بالقطن متساويا؛ لأن القطن ينقص
بالغزل فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر كبيع
الدقيق بالحنطة. "وأما" الحيوان مع اللحم فإن
اختلف الأصلان فهما جنسان مختلفان كالشاة
الحية مع لحم الإبل، والبقر فيجوز بيع البعض
بالبعض مجازفة نقدا، ونسيئة؛ لانعدام الوزن،
والجنس فلا يتحقق الربا أصلا، وإن اتفقا
كالشاة الحية مع لحم الشاة، من مشايخنا من
اعتبرهما جنسين مختلفين، وبنوا عليه جواز بيع
لحم الشاة بالشاة الحية مجازفة عند أبي حنيفة،
وأبي يوسف، وعللوا لهما بأنه باع الجنس بخلاف
الجنس "ومنهم" من اعتبرهما جنسا واحدا، وبنوا
مذهبهما على أن الشاة ليست بموزونة، وجريان
ربا الفضل يعتمد اجتماع الوصفين: الجنس مع
القدر فيجوز بيع أحدهما بالآخر مجازفة،
ومفاضلة بعد أن يكون يدا بيد، وهو الصحيح على
ما عرف في الخلافيات، وقال محمد: لا يجوز إلا
على، وجه الاعتبار على أن يكون وزن اللحم
الخالص أكثر من اللحم الذي في الشاة الحية
بالحزر والظن فيكون اللحم بإزاء اللحم،
والزيادة بإزاء خلاف الجنس من الأطراف، والسقط
من الرأس، والأكارع، والجلد، والشحم فإن كان
اللحم الخالص مثل قدر اللحم الذي في الشاة
الحية، أو أقل، أو لا يدرى لا يجوز. وعلى هذا
الخلاف إذا باع الشاة الحية بشحم الشاة، أو
بأليتها، وهذا مذهب أصحابنا، وقال الشافعي
رحمه الله: اللحوم كلها جنس واحد فلا يجوز بيع
اللحم بالحيوان كيف ما كان سواء اتفق الأصلان،
أو اختلفا باع مجازفة، أو على طريق الاعتبار،
وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الشاة بلحم الشاة
نسيئة لوجود الجنس المحرم للنساء ؛ لأن اللحم
الخالص من جنس اللحم الذي في الشاة
ج / 5 ص -190-
وأجمعوا
على أنه لا يجوز بيع دهن السمسم بالسمسم إلا
على طريق الاعتبار، وهو أن يكون الدهن الخالص
أكثر من الدهن الذي في السمسم حتى يكون الدهن
بإزاء الدهن والزائد بإزاء الزائد خلاف جنسه
وهو الكسب، وكذلك دهن الجوز بلب الجوز. "وأما"
دهن الجوز بالجوز فقد اختلف المشايخ فيه، قال
بعضهم: يجوز مجازفة، وقال بعضهم: لا يجوز إلا
على طريق الاعتبار، وأجمعوا على أن بيع النصال
بالحديد غير المصنوع جائز مجازفة بعد أن يكون
يدا بيد، أما الكلام مع الشافعي رحمه الله فهو
بنى مذهبه على أصل له ذكرناه غير مرة، وهو أن
حرمة بيع مأكول بجنسه هو العزيمة، والجواز عند
التساوي في المعيار الشرعي رخصة، ولا يعرف
التساوي بين اللحم الخالص وبين اللحم الذي في
الشاة فيبقى على أصل الحرمة، وقد أبطلنا هذا
الأصل في علة الربا. "وأما" الكلام مع أصحابنا
"فوجه" قول محمد رحمه الله أن في تجويز
المجازفة ههنا احتمال الربا ؛ فوجب التحرز عنه
ما أمكن، وأمكن بمراعاة طريق الاعتبار فلزم
مراعاته قياسا على بيع الدهن بالسمسم، والدليل
على أن فيه الربا أن اللحم موزون، فيحتمل أن
يكون اللحم المنزوع أقل من اللحم الذي في
الشاة وزنا، فيكون شيء من اللحم مع السقط
زيادة، ويحتمل أن يكون مثله في الوزن فيكون
السقط زيادة فوجب مراعاة طريق الاعتبار تحرزا
عن الربا عند الإمكان، ولهذا لم يجز بيع الدهن
بالسمسم، والزيت بالزيتون إلا على طريق
الاعتبار كذا هذا، ولهذا قلنا: إن هذا بيع
الموزون بما ليس بموزون يدا بيد فيجوز مجازفة
ومفاضلة، استدلالا ببيع الحديد الغير المصنوع
بالنصال مجازفة، يدا بيد، ودلالة الوصف أن
اللحم المنزوع وإن كان موزونا فاللحم الذي في
الشاة ليس بموزون ؛ لأن الموزون ما له طريق
إلى معرفة مقدار ثقله، ولا طريق إلى معرفة ثقل
اللحم الذي في الشاة ؛ لأن الطريق إما أن يكون
الوزن بالقبان، وإما أن يكون الاستدلال
بالتجربة، وإما أن يكون بالحزر والتخمين من
غير تفاوت فاحش، وشيء من ذلك لا يصلح طريقا
لمعرفة مقدار اللحم الذي في الشاة. "أما"
الوزن بالقبان فلأن الشاة لا توزن بالقبان
عرفا ولا عادة، ولو صلح الوزن طريقا لوزن؛ لأن
إمكان الوزن ثابت، والحاجة إلى معرفة مقدار
اللحم الذي فيها ماسة حتى يتعرف المشتري ذلك
بالجس والمس باليد، والرفع من الأرض ونحو ذلك،
ولأن الحي يثقل بنفسه مرة ويخف أخرى فيختلف
وزنه، فدل أن الوزن لا يصلح طريق المعرفة.
"وأما" التجربة فإن ذلك بالذبح، ووزن المذبوح
ليعرف اللحم الذي كان فيها عند العقد بطريق
الظهور لا يمكن؛ لأن الشاة تحتمل الزيادة
والنقصان والسمن والهزال ساعة فساعة، فلا يعرف
به مقدار ثقله حالة العقد بالتجربة. "وأما"
الحزر والظن فإنه لا حزر لمن لا بصارة له في
هذا الباب، بل يخطئ لا محالة، ومن له بصارة
يغلط أيضا ظاهرا وغالبا، ويظهر تفاوت فاحش،
فدل أنه لا طريق لمعرفة اللحم الذي في الشاة
الحية، فلم يكن موزونا، فلا يكون محلا لربا
الفضل، بخلاف بيع دهن السمسم بالسمسم؛ لأن ذلك
بيع الموزون بالموزون؛ لأنه يمكن معرفة مقدار
الدهن في السمسم بالتجربة، بأن يوزن قدر من
السمسم فيستخرج دهنه فيظهر وزن دهنه الذي في
الجملة بالقياس عليه، أو يعصر الجملة فيظهر
قدر الدهن الذي كان فيها حالة العقد، أو يعرف
بالحزر والتخمين أنه كم يخرج من الدهن من هذا
القدر من غير تفاوت فاحش يلحق الضرر بأحد
العاقدين؟ فكان ذلك بيع الموزون بالموزون
مجازفة، فلم يجز لاحتمال الربا والله سبحانه
وتعالى أعلم ولو باع شاة مذبوحة غير مسلوخة
بلحم شاة لا يجوز إلا على طريق الاعتبار
بالإجماع ؛ لأن اللحم الذي في الشاة المذبوحة
موزون ، فقد باع الموزون بجنسه وبخلاف جنسه،
فيراعى فيه طريق الاعتبار ، بخلاف اللحم الذي
في الشاة الحية فإنه غير موزون لما قلنا ، فلم
يتحقق الربا، فجازت المجازفة فيه ولو باع شاة
حية بشاة مذبوحة غير مسلوخة مجازفة جاز
بالإجماع ، أما عندهما فظاهر ؛ لأنه باع
الموزون بما ليس بموزون فلا يتحقق الربا، كما
لو باع شاة حية بلحم الشاة وأما عند محمد فلأن
اللحم يقابل اللحم ، وزيادة اللحم في إحداهما
مع سقطها يكون بمقابلة سقط الأخرى ، فلا يتحقق
الربا وكذلك لو باع شاتين حيتين بشاة واحدة
مذبوحة غير مسلوخة جاز بالإجماع على اختلاف
الأصلين ولو باع شاتين مذبوحتين غير مسلوختين
بشاة واحدة مذبوحة غير مسلوخة يجوز ويكون
اللحم بمقابلة اللحم ، وزيادة اللحم في أحد
الجانبين مع السقط يكون بمقابلة سقط
ج / 5 ص -191-
الأخرى
ولو باع شاتين مذبوحتين بشاة واحدة مذبوحة غير
مسلوخة يجوز، ويقابل اللحم باللحم، ومقابلة
اللحم من المسلوختين بمقابلة سقط الأخرى ولو
باع شاتين مذبوحتين غير مسلوختين بشاة مذبوحة
مسلوخة لا يجوز؛ لأن زيادة اللحم من غير
المسلوختين مع السقط لا يقابله عوض فيكون ربا
ولو باع شاتين مسلوختين بشاة مسلوخة لا يجوز ؛
لأنهما مالان جمعهما الوزن فلا يجوز بيع
أحدهما بالآخر مفاضلة ومجازفة، حتى لو كانا
مستويين في الوزن يجوز يدا بيد. ولا يجوز بيع
الزيت بالزيتون، ودهن الكتان بالكتان، والعصير
بالعنب، والسمن بلبن فيه سمن، والصوف بشاة على
ظهرها صوف، واللبن بحيوان في ضرعه لبن من
جنسه، والتمر بأرض ونخل عليه تمر، والحنطة
بأرض فيها زرع قد أدرك، ونحو ذلك من أموال
الربا حتى يكون المفرد أكثر من المجموع ليكون
المثل بالمثل، والزيادة بمقابلة خلاف الجنس
وسنذكر أجناس هذه المسائل في مواضعها إن شاء
الله تعالى هذا إذا قوبل بدل من جنس ببدل من
جنسه، أو ببدلين من جنسه، أو من خلاف جنسه.
فأما إذا قوبل أبدال من جنسين مختلفين بأبدال
من جنسين مختلفين فإن كان من غير أموال الربا
فلا شك أنه يجوز، وتقسم الأبدال من أحد
الجانبين بالأبدال من الجانب الآخر قسمة توزيع
وإشاعة من حيث التقويم، وإن كان من أموال
الربا فيجوز أيضا عند أصحابنا الثلاثة، ويصرف
الجنس إلى خلاف الجنس فيقسم قسمة تصحيح لا
قسمة إشاعة وتوزيع، وعند زفر والشافعي لا
يجوز، ويقسم قسمة توزيع وإشاعة من حيث القيمة
كما في غير أموال الربا، وبيان ذلك في مسائل:
إذا باع كر حنطة وكر شعير بكري حنطة وكري شعير
جاز عند علمائنا الثلاثة، وتصرف الحنطة إلى
الشعير، والشعير إلى الحنطة، وعندهما لا يجوز
وكذلك إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين
يصرف الدرهم إلى الدينارين، والدينار إلى
الدرهمين. "وجه" قول زفر والشافعي أن هذا بيع
ربا فلا يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين، والدينار
بالدينارين، ودلالة الوصف أنه قابل الجملة
بالجملة مطلقا، ومطلق مقابلة الجملة بالجملة
يقتضي انقسام كل بدل من أحد الجانبين بجميع
الأبدال من الجانب الآخر على سبيل الشيوع من
حيث القيمة إذا كانت الأبدال مختلفة القيم،
استدلالا بسائر البياعات في غير أموال الربا،
فإنه إذا باع عبدا وجارية بفرس وثوب وقيمتهما
مختلفة يقسم العبد على قيمة الفرس والثوب،
وكذا الجارية، حتى لو وجد بواحد من الجملة
عيبا يرده بحصته من البدلين، وكذا لو استحق
واحد منهما يرده بحصته من البدلين على البائع،
وكذا لو كان أحد البدلين دارا فالشفيع يأخذها
بحصتها من البدلين، فكان التقسيم على الوجه
الذي قلنا هو الموجب الأصلي في البياعات كلها،
والانقسام على هذا الوجه في أموال الربا يحقق
الربا؛ لأنه يصير بائعا كر حنطة وكري شعير
بكري شعير وبكر حنطة، فيتحقق الربا، على أنه
إن لم يتحقق الربا ففيه احتمال الربا، وأنه
مفسد للعقد كبيع الصبرة بالصبرة مجازفة.
"ولنا" عمومات البيع من غير فصل، فمن ادعى
التخصيص فعليه الدليل، ولأن المتعاقدين أطلقا
مقابلة الجملة بالجملة، والمطلق يتعرض للذات
لا للصفات والجهات فلا يكون مقابلة الجنس
بالجنس عينا، ولا مقابلة الجنس بخلاف الجنس
عينا، فلا يتحقق الربا؛ لأنه اسم لفضل مال في
مقابلة الجنس بالجنس عينا، ولم يوجد، أو نقول:
مطلق المقابلة تحتمل مقابلة الجنس بالجنس على
سبيل الشيوع من حيث القيمة كما قلتم، وتحتمل
مقابلة الجنس بخلاف الجنس؛ لأن كل ذلك مقابلة
الجملة بالجملة، إلا أنا لو حملناه على الأول
يفسد العقد، ولو حملناه على الثاني لصح،
فالحمل على ما فيه الصحة أولى وقوله: موجب
البيع المطلق المشتمل على أبدال من الجانبين
انقسام كل بدل من أحد الجانبين على جميع
الأبدال من الجانب الآخر على الشيوع من حيث
التقويم قلنا: ممنوع؛ لأن هذا موجب العقد
المطلق في موضع في مسائل البياعات في غير
أموال الربا ما ثبت الانقسام موجبا له، بل
بحكم المعاوضة والمساواة في الأبدال لأنهما
لما أطلقا البيع وهو يشتمل على أبدال من
الجانبين من غير تعيين مقابلة البعض بالبعض،
وليس البعض بأولى من البعض في التعيين فلزم
القول بالإشاعة والتقسيم من حيث القيمة حكما
للمعاوضة والمساواة، وعند تحقق الضرورة وهي
ضرورة الرد بالعيب بالإشاعة، والرجوع عند
الاستحقاق ونحو ذلك، فلا يثبت الانقسام عند
القيمة قبل تحقق الضرورة على
ج / 5 ص -192-
ما عرف.
وقوله: فيه احتمال الربا، قلنا: احتمال الربا
ههنا يوجب فساد العقد عند مقابلة الجنس بالجنس
عينا، كما في بيع الصبرة بالصبرة لا على
الإطلاق؛ لأن عند مقابلة الجنس بالجنس يلزم
رعاية المماثلة المشروطة، ولم توجد ههنا فلا
توجب الفساد وعلى هذا إذا باع دينارا ودرهمين
بدرهمين ودينارين أنه يجوز عندنا، ويكون
الدينار بالدرهمين، والدرهمان بالدينارين وكذا
إذا باع درهمين ودينارا بدينارين ودرهم يجوز
عندنا بأن يجعل الدرهمان بالدينارين، والدينار
بالدرهم وكذا إذا باع عشرة دراهم بخمسة دراهم
ودينار أنه جائز عندنا، وتكون الخمسة بمقابلة
الخمسة، والخمسة الأخرى بمقابلة الدينار وكذلك
إذا باع أحد عشر درهما بعشرة دراهم ودينار جاز
عندنا، وكانت العشرة بمثلها، ودينار بدرهم
وكذلك قال أبو حنيفة: عليه الرحمة إنه إذا باع
مائة درهم ودينار بألف درهم يجوز ولا بأس به،
وتكون المائة بمقابلة المائة، والتسعمائة
بمقابلة الدينار، فلا يتحقق الربا، وكذا روي
عن محمد أنه قال: إذا باع الدراهم بالدراهم،
وفي أحدهما فضل من حيث الوزن، وفي الجانب الذي
لا فضل فيه فلوس فهو جائز في الحكم، ولكني
أكرهه، فقيل: كيف تجده في قلبك؟ قال: أجده مثل
الجبل والحاصل أنه ينظر إلى ما يقابل الزيادة
من حيث الوزن من خلاف الجنس، إن بلغت قيمته
قيمة الزيادة، أو كانت أقل منها مما يتغابن
الناس فيه عادة جاز البيع من غير كراهة، وإن
كانت شيئا قليل القيمة كفلس وجوزة ونحو ذلك
يجوز مع الكراهة، وإن كان شيئا لا قيمة له
أصلا ككف من تراب ونحوه لا يجوز البيع أصلا؛
لأن الزيادة لا يقابلها عوض فيتحقق الربا.
"فصل" وأما
شرائط جريان الربا "فمنها" أن يكون البدلان
معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق
الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط،
ويتحقق الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل
مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما
بدرهمين، أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة
في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد،
وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف
المسلم الأسير في دار الحرب، أو الحربي الذي
أسلم هناك ولم يهاجر إلينا فبايع أحدا من
الحرب. "وجه" قول أبي يوسف أن حرمة الربا كما
هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق
الكفار؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من
الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده كما
إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار
الإسلام. "ولهما" أن مال الحربي ليس بمعصوم بل
هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع
من تملكه من غير رضاه لما فيه من الغدر
والخيانة، فإذا بدله باختياره ورضاه فقد زال
هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح
غير مملوك، وإنه مشروع مفيد للملك كالاستيلاء
على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد ههنا
ليس بتملك بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛
لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل
ملكه لا يقع الأخذ تملكا، لكنه إذا زال فالملك
للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا
يتحقق الربا؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد
بالعقد، بخلاف المسلم إذا باع حربيا دخل دار
الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار
الإسلام بأمان. والمال المعصوم لا يكون محلا
للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد. وشرط
الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار
الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين، أو غير ذلك
من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا
الخلاف الذي ذكرنا؛ لأن ما جاز من بيوع
المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو
يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم
إلا الخمر والخنزير، على ما نذكر إن شاء الله
تعالى. "ومنها" أن يكون البدلان متقومين شرعا،
وهو أن يكونا مضمونين حقا للعبد، فإن كان
أحدهما غير مضمون حقا للعبد لا يجري فيه
الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم
دار الحرب، فبايع رجلا أسلم في دار الحرب ولم
يهاجر إلينا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من
البيوع الفاسدة في دار الإسلام أنه يجوز عند
أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز؛ لأن العصمة وإن
كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده، حتى لا
يضمن نفسه بالقصاص ولا بالدية عنده، وكذا ماله
لا يضمن بالإتلاف؛ لأنه تابع للنفس، وعندهما
نفسه وماله معصومان متقومان. والمسألة تأتي في
كتاب السير ولو دخل مسلمان دار الحرب فتبايعا
درهما بدرهمين أو غيره من البيوع الفاسدة في
دار الإسلام
ج / 5 ص -193-
لا يجوز
؛ لأن مال كل واحد منهما معصوم متقوم، فكان
التملك بالعقد فيفسد بالشرط الفاسد. ولو أسلم
الحربي الذي بايع المسلم ودخل دار الإسلام، أو
أسلم أهل الدار فما كان من ربا مقبوض أو بيع
فاسد مقبوض فهو جائز ماض، وما كان غير مقبوض
يبطل لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ}، أمرهم سبحانه وتعالى بترك ما بقي من الربا، والأمر بترك ما بقي من
الربا نهي عن قبضه، فكأنه تعالى قال: اتركوا
قبضه فيقتضي حرمة القبض. وروي عن النبي عليه
الصلاة والسلام أنه قال:
"كل ربا في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي"، والوضع عبارة عن الحط والإسقاط، وذلك فيما لم يقبض، ولأن بالإسلام
حرم ابتداء العقد فكذا القبض بحكم العقد؛ لأنه
تقرير العقد وتأكيده فيشبه العقد فيلحق به، إذ
هو عقد من وجه فيلحق بالثابت من كل وجه في باب
الحرمات احتياطا، ومتى حرم القبض لم يكن في
بقاء العقد فائدة. "ومنها" أن لا يكون البدلان
ملكا لأحد المتبايعين، فإن كان لا يجري الربا،
وعلى هذا يخرج العبد المأذون إذا باع مولاه
درهما بدرهمين، وليس عليه دين أنه يجوز ؛ لأنه
إذا لم يكن عليه دين فما في يده لمولاه، فكان
البدلان ملك المولى، فلا يكون هذا بيعا، فلا
يتحقق الربا، إذ هو مختص بالبياعات وكذلك
المتعاوضان إذا تبايعا درهما بدرهمين يجوز؛
لأن البدل من كل واحد منهما مشترك بينهما،
فكان مبادلة ماله، فلا يكون بيعا ولا مبادلة
حقيقة وكذلك الشريكان شركة العنان إذا تبايعا
درهما بدرهمين من مال الشركة جاز لما قلنا،
ولو تبايعا من غير مال الشركة لا يجوز؛ لأنهما
في غير مال الشركة أجنبيان ولو كان على العبد
المأذون دين فباعه مولاه درهما بدرهمين لا
يجوز بالإجماع. "أما" عند أبي حنيفة رحمه الله
فظاهر؛ لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون
المديون عنده، فلم يجتمع البدلان في ملك واحد
وعندهما وإن كان يملك لكن ملكا محجورا عن
التصرف فيه؛ لتعلق حق الغرماء به، فكان المولى
كالأجنبي عنه وكذلك المولى إذا عاقد مكاتبه
عقد الربا لم يجز؛ لأن المكاتب في حق الاكتساب
ملحق بالأحرار لانقطاع تصرف المولى عنها،
فأشبه الأجانب. "وأما" إسلام المتبايعين فليس
بشرط لجريان الربا، فيجري الربا بين أهل
الذمة، وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا
ثابتة في حقهم؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي
حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات
عندنا، قال الله تعالى:
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ
وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ}. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"كتب إلى مجوس هجر: إما أن تذروا الربا، أو تأذنوا بحرب من الله
ورسوله"، وهذا في
نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة والله
سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" الخلو عن احتمال
الربا، فلا تجوز المجازفة في أموال الربا
بعضها ببعض؛ لأن حقيقة الربا كما هي مفسدة
للعقد فاحتمال الربا مفسد له أيضا، لقول عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه: ما اجتمع الحلال
والحرام في شيء إلا وقد غلب الحرام الحلال
والأصل فيه أن كل ما جازت فيه المفاضلة جاز
فيه المجازفة، وما لا فلا؛ لأن التماثل والخلو
عن الربا فيما يجري فيه الربا لما كان شرط
الصحة فلا يعلم تحقيق المماثلة بالمجازفة،
فيقع الشك في وجود شرط الصحة، فلا تثبت الصحة
على الأصل المعهود في الحكم المعلق على شرط
إذا وقع الشك في وجود شرطه أنه لا يثبت؛ لأن
غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك، كما أن
الثابت بيقين لا يزول بالشك. وبيان هذا الأصل
في مسائل: إذا تبايعا حنطة بحنطة مجازفة فإن
لم يعلما كيلهما، أو علم أحدهما دون الآخر، أو
علما كيل أحدهما دون الآخر لا يجوز لما قلنا،
وإن علم استواؤهما في الكيل، فإن علم في
المجلس جاز البيع ؛ لأن المجلس وإن طال فله
حكم حالة العقد فكأنه عند العقد، وإن علم بعد
الافتراق لم يجز وقال زفر: يجوز، علم قبل
الافتراق أو بعده. "وجه" قوله أن الحاجة إلى
الكيل عند العقد لتحقق المساواة المشروطة، وقد
تبين أنها كانت ثابتة عنده. "ولنا" أن علم
المتعاقدين بالمساواة عند العقد شرط الصحة،
ولم يوجد والدليل على أن العلم عند العقد شرط
الصحة أن الشرع ألزم رعاية المماثلة عند البيع
بقوله عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة
مثلا بمثل"، أي: بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا
بمثل، أمر المتبايعين بالبيع بصفة المماثلة،
فلا بد وأن تكون المماثلة معلومة لهما عند
البيع لتمكنهما من رعاية هذا الشرط وكذا لو
كان بين رجلين حنطة فاقتسماها مجازفة لا يجوز؛
لأن القسمة فيها معنى المبادلة، فيشبه البيع،
ولا يجوز البيع فيها مجازفة فكذا القسمة. ولو
تبايعا حنطة بحنطة،
ج / 5 ص -194-
وزنا
بوزن متساويا في الوزن لم يجز؛ لأن الحنطة
مكيلة، والتساوي في الكيل شرط جواز البيع في
المكيلات، ولا تعلم المساواة بينهما في الكيل،
فكان بيع الحنطة بالحنطة مجازفة وروي عن أبي
يوسف رحمه الله أنه إذا غلب استعمال الوزن
فيها تصير وزنية، ويعتبر التساوي فيها بالوزن،
وإن كانت في الأصل كيلية وعلى هذا تخرج
المزابنة والمحاقلة أنهما لا يجوزان؛ لأن
المزابنة بيع التمر على رءوس النخل بمثل كيله
من التمر خرصا لا يدرى أيهما أكثر، والزبيب
بالعنب لا يدرى أيهما أكثر والمحاقلة بيع الحب
في السنبل بمثل كيله من الحنطة خرصا لا يدرى
أيهما أكثر.فكان هذا بيع مال الربا مجازفة؛
لأنه لا يعرف المساواة بينهما في الكيل، وقد
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيع المزابنة والمحاقلة"،
وفسر محمد رحمه الله المزابنة والمحاقلة في
الموطإ بما قلنا، وهو كان إماما في اللغة كما
كان إماما في الشريعة، وقال: كذلك الجواب إذا
كان أكثر من خمسة أوسق، فأما ما دون خمسة أوسق
فلا بأس به لما روى أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "رخص في بيع العرايا بالتمر فيما دون خمسة أوسق"، فقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة ما حرم من المزابنة
ما دون خمسة، والمرخص من جملة ما حرم يكون
مباحا وتفسير العرية عندنا ما ذكره مالك بن
أنس في الموطإ رضي الله عنه وهو أن يكون لرجل
نخيل فيعطي رجلا منها ثمرة نخلة أو نخلتين
يلقطهما لعياله، ثم يثقل عليه دخوله حائطه،
فيسأله أن يتجاوز له عنها على أن يعطيه
بمكيلتها تمرا عند إصرام النخل وذلك ما لا بأس
به عندنا؛ لأنه لا بيع هناك، بل التمر كله
لصاحب النخل، فإن شاء سلم له ثمر النخل وإن
شاء أعطاه بمكيلتها من التمر، إلا أنه سماه
الراوي بيعا لتصوره بصور البيع، لا أن يكون
بيعا حقيقة، بل هو عطية، ألا ترى أنه لم يملكه
المعرى له لانعدام القبض؟ فكيف يجعل بيعا؟
ولأنه لو جعل بيعا لكان بيع التمر بالتمر إلى
أجل وإنه لا يجوز بلا خلاف، دل أن العرية
المرخص فيها ليست ببيع حقيقة، بل هي عطية،
ولأن العرية هي العطية لغة، قال حسان بن ثابت
رضي الله عنه:
ليست بسنهاء ولا رجبية
ولكن عرايا في السنين الجوائح
ولو اشترى بكر من تمر نخلا عليها ثمر، وسمى
التمر أو ذكر كل قليل وكثير هو منه حتى دخل في
البيع يراعى في جوازه طريق الاعتبار، وهو أن
يكون كيل التمر أكثر من كيل الثمر؛ ليكون
الثمر بمثله والزيادة بإزاء النخل، فإن كان
أقل لا يجوز ؛ لأن التمر يكون بمثل كيله،
وزيادة التمر مع النخل تكون زيادة لا يقابلها
عوض، فيكون ربا. وكذا إذا كان مثله؛ لأن النخل
يكون فضلا لا يقابله عوض في عقد المعاوضة وكذا
إذا كان لا يدرى عندنا، خلافا لزفر وسنذكر
المسألة إن شاء الله تعالى ثم إنما يجوز على
طريق الاعتبار إذا كان التمر نقدا، فإن كان
نسيئة لم يجز لتحقق ربا النساء هذا إذا كان
ثمر النخل بسرا أو رطبا أو تمرا يابسا عند
العقد فإن كان كفرى جاز البيع كيف ما كان من
غير شرط الاعتبار؛ لأنه بيع الكفرى بالتمر،
وأنه جائز كيف ما كان. ولو لم يكن التمر
موجودا عند العقد، ثم أثمر النخل قبل القبض
كرا أو أكثر من الكر لا يفسد البيع، بخلاف ما
إذا كان التمر موجودا عند العقد، ثم أثمر
النخل قبل القبض، فباعه مع النخل بالتمر، وكيل
التمر مثل كيل ثمر النخل، أو أقل حيث يفسد
البيع؛ لأن العاقدين أدخلا الربا في العقد؛
لأنهما قابلا الثمن بكل المبيع فانقسم الثمن
عليهما، وبعض المبيع مال الربا، فدخل الربا في
العقد باشتراطهما، واشتراط الربا في العقد
مفسد له، وههنا البيع كان صحيحا في الأصل؛ لأن
الثمن خلاف جنس المبيع، إذ المبيع هو النخل
وحده إلا أنه إذا زاد فقد صار مبيعا في حال
البقاء لا بصنعهما، فبقي البيع صحيحا،
والزيادة ملك المشتري، وينقسم الثمن على قيمة
النخل وقيمة الزيادة، لكن تعتبر قيمة النخل
وقت العقد، وقيمة الزيادة وقت القبض، فيطيب له
من التمر قدر حصته من الثمن؛ لأنه فضل له ذلك
القدر ببدل، ولا يطيب له الفضل ويتصدق به؛
لأنه ربح ما لم يضمن. ولو قضى الثمن من التمر
الحادث ينظر، إن قضاه منه قبل القبض فقضاؤه
باطل؛ لأن القضاء منه تصرف في المبيع قبل
القبض، وإنه لا يجوز، وجعل كأنه لم يقبض، حتى
لو هلك الثمن في يد البائع بآفة سماوية لا
يسقط شيء من الثمن، وإن أكله البائع تسقط حصته
من الثمن، وإن كان المشتري قبض الثمن، ثم قضى
منه جاز
ج / 5 ص -195-
القضاء؛
لأنه تصرف في المبيع بعد القبض وإنه جائز،
وعليه أن يتصدق بما زاد على حصته من الثمن
والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا بيع الذهب
بالذهب، والفضة بالفضة والقيمة فيهما مجازفة
ولو تبايعا حنطة بشعير، أو ذهبا بفضة مجازفة
جاز؛ لأن المماثلة في بيع الجنس بخلاف الجنس
غير مشروطة، ولهذا جازت المفاضلة فيه،
فالمجازفة أولى، وكذلك القيمة. وعلى هذا يخرج
بيع الموزون بجنسه وغير جنسه، كما إذا اشترى
فضة مع غيرها بفضة مفردة، بأن اشترى سيفا محلى
بفضة مفردة، أو منطقة مفضضة، أو لجاما أو سرجا
أو سكينا مفضضا، أو جارية في عنقها طوق من
فضة، أو اشترى ذهبا وغيره بذهب مفرد، كما إذا
اشترى ثوبا منسوجا بالذهب بذهب مفرد، أو جارية
مع حليتها وحليها ذهب بذهب مفرد، ونحو ذلك أنه
لا يجوز مجازفة عندنا، بل يراعى فيه طريق
الاعتبار، وهو أن يكون وزن الفضة المفردة، أو
الذهب المفرد أكثر من المجموع مع غيره؛ ليكون
قدر وزن المفرد بمثله من المجموع، والزيادة
بخلاف جنسه، فلا يتحقق الربا، فإن كان وزن
المفرد أقل من وزن المجموع لم يجز لأن زيادة
وزن المجموع مع خلاف الجنس لا يقابله عوض في
عقد البيع، فيكون ربا وكذلك إذا كان مثله في
الوزن؛ لأنه يكون الفضة بمثلها، والذهب بمثله،
فالفضل يكون ربا وإن كان من خلاف جنسه وكذلك
إذا كان لا يعلم وزنه أنه أكثر أو مثله أو
أقل، أو اختلف أهل النظر فيه، فقال بعضهم:
الثمن أكثر وقال بعضهم: هو مثله لا يجوز
عندنا، وعند زفر يجوز. "وجه" قوله: إن الأصل
في البيع جوازه، والفساد بعارض الربا، وفي
وجوده شك، فلا يثبت الفساد بالشك؛ لأن جهة
الفساد في هذا العقد أكثر من جهة الجواز؛ لأن
وزن المفرد لو كان أقل يفسد، وكذلك لو كان
مثله، ولو كان أكثر يجوز، فجاز من وجه وفسد من
وجهين، فكانت الغلبة لجهة الفساد، والحكم
للغالب، ثم إذا كان وزن المفرد أكثر حتى جاز
البيع، فيجتمع في هذا العقد صرف وهو بيع الفضة
بالفضة، أو الذهب بالذهب، وبيع مطلق وهو بيع
الذهب أو الفضة بخلاف جنسها فيراعى في الصرف
شرائطه وسنذكر شرائط الصرف في موضعه إن شاء
الله تعالى. وإذا فات شيء من الشرائط حتى فسد
الصرف هل يتعدى الفساد إلى البيع المطلق؟ فيه
تفصيل نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى هذا
إذا اشترى فضة مع غيرها بفضة مفردة، أو ذهبا
مع غيره بذهب مفرد، فأما إذا اشترى ذهبا مع
غيره بفضة مفردة، أو فضة مع غيرها بذهب مفرد
فالبيع جائز؛ لأنه لا ربا عند اختلاف الجنس،
غير أنه يقسم المفرد على قيمة المجموع وقيمة
ذلك الغير، فما كان بمقابلة الذهب أو الفضة
يكون صرفا؛ فيراعى فيه شرائط الصرف، وما كان
بمقابلة غيره يكون بيعا مطلقا، على ما نذكره
في بيان شرائط الصرف وعلى هذا الأصل يخرج بيع
تراب معدن الفضة والذهب، أما تراب معدن الفضة
فلا يخلو إما أن يكون باعه بفضة، وإما أن يكون
باعه بغيرها، فإن باعه بفضة لم يجز؛ لأن البيع
يقع على ما في التراب من الفضة لا على التراب؛
لأنه لا قيمة له، والمماثلة بين الفضتين ليست
بمعلومة، فكان هذا البيع بيع الفضة بالفضة
مجازفة فلا يجوز. وإن باعه بذهب جاز؛ لأن
الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس، ويراعى فيه
شرائط الصرف، ثم ينظر إن لم يخلص منه شيء تبين
أن البيع كان فاسدا ؛ لأنه تبين أنه باع ما
ليس بمال، فصار كما لو اشترى شخصا على أنه عبد
ثم تبين أنه حر، أو اشترى شاة مسلوخة على أنها
مذبوحة ثم تبين أنها ميتة، فإن خلص منه شيء
فالأمر ماض، والمشتري بالخيار ؛ لأنه اشترى
شيئا لم يره، فأشبه ما لو اشترى ثوبا في سقط،
أو سمكة في جب، ولو باعه بعوض جاز أيضا لما
قلنا، ثم ينظر إن خلص منه شيء أو لم يخلص على
ما ذكرنا، ولو باعه بتراب معدن مثله من الفضة
لم يجز ؛ لأن البيع يقع على ما فيها من الفضة،
ولا يعلم تساويهما في الوزن، فكان بيع الفضة
بالفضة مجازفة، ولو باعه بتراب معدن الذهب
جاز؛ لاختلاف الجنس، ويراعى فيه شرائط الصرف،
ثم إن لم يخلص منه شيء تبين أن البيع كان
فاسدا؛ لأنه تبين أنه باع ما ليس بمال. وكذا
إن خلص من أحدهما ولم يخلص من الآخر ؛ لأنه
تبين أنه باع المال بما ليس بمال، وإن خلص من
كل واحد منهما فالأمر ماض، ولهما خيار الرؤية
؛ لأن كل واحد منهما مشتر ما لم يره وكذلك لو
كان تراب معدن الفضة بين رجلين فاقتسماه لم
يجز ؛ لأن القسمة فيها معنى البيع فلا يحتمل
المجازفة كالبيع ولو باع منه قفيزا بغير عينه
بذهب أو بعرض لم يجز ؛ لأن المبيع ما في
التراب من الفضة، وإنه
ج / 5 ص -196-
مجهول
القدر؛ لأنه متفاوت: منه قفيز يخلص منه خمسة،
ومنه قفيز يخلص منه عشرة، فكان المبيع مجهولا
جهالة مفضية إلى المنازعة، بخلاف بيع القفيز
من صبرة؛ لأن قفزان الصبرة الواحدة متماثلة
فلم يكن المبيع مجهولا جهالة مفضية إلى
المنازعة. ولو باع نصف جملة التراب، أو ثلثها،
أو ربعها شائعا بذهب أو عرض جاز؛ لأن الجنس
مختلف فلا يتحقق الربا إلا إذا لم يخلص منه
شيء، فتبين أن البيع كان فاسدا لما قلنا، وإن
خلص منه شيء فيكون ما خلص مشتركا بينها، وله
الخيار إذا رآه ولو استقرض تراب المعدن جاز،
وعلى المستقرض مثل ما خلص منه وقبض؛ لأن القرض
وقع على ما يخلص منه، والقول قول القابض في
قدر ما قبض وخلص ولو استأجره بنصف هذا التراب
أو بثلثه أو بربعه يجوز إن خلص منه شيء، كما
يجوز لو بيع منه شيء فتبين أن البيع كان فاسدا
لما قلنا، وإن خلص منه شيء فيكون أجره مما خلص
ولو استأجر أجيرا بتراب المعدن بعينه جازت
الإجارة إن خلص منه شيء؛ لأنه استأجره بمال،
والأجير بالخيار؛ لأنه آجر نفسه بما لم يره،
فإن شاء رضي به ولا شيء له غيره، وإن شاء رده
ورجع على المستأجر بأجر مثله بالغا ما بلغ.
ولو استأجره بقفيز من تراب بغير عينه لا تجوز
الإجارة؛ لأن الأجرة ما في التراب من الفضة،
وإنه مجهول القدر، ولهذا لم يجز بيعه، ويكون
بينهما وله الخيار، وإن لم يخلص لا يجوز وله
أجر مثله وعلى هذا حكم تراب معدن الذهب في
جميع ما ذكرنا والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" تراب الصاغة فإن كان فيه فضة خالصة
فحكمه حكم تراب معدن الفضة، وإن كان فيه ذهب
خالص فحكمه حكم تراب معدن الذهب، وإن كان فيه
ذهب وفضة، فإن اشتراه بذهب أو فضة لم يجز؛
لاحتمال أن يكون ما فيه من الذهب أو الفضة
أكثر أو أقل أو مثله فيتحقق الربا ولو اشتراه
بذهب وفضة جاز؛ لأنه اشترى ذهبا وفضة بذهب
وفضة فيجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس،
ويراعى فيه شرائط الصرف ولو اشتراه بعرض جاز؛
لانعدام احتمال الربا، وهذا كله إذا خلص منه
شيء، فإن لم يخلص تبين أن البيع كان فاسدا،
وعلى هذا الأصل يخرج بيع الدراهم المغشوشة
التي الغش فيها هو الغالب بفضة خالصة أنه لا
يجوز إلا على طريق الاعتبار. وجملة الكلام فيه
أن الدراهم المضروبة أقسام ثلاثة: إما أن تكون
الفضة فيها هي الغالبة، وإما أن يكون الغش
فيها هو الغالب، وإما أن يكون الفضة والغش
فيها على السواء: فإن كانت الفضة فيها هي
الغالبة بأن كان ثلثاها فضة وثلثها صفرا، أو
كانت ثلاثة أرباعها فضة وربعها صفرا، ونحو ذلك
فحكمها حكم الفضة الخالصة، لا يجوز بيعها
بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء، وكذا بيع
بعضها ببعض لا يجوز إلا مثلا بمثل؛ لأن اعتبار
الغالب وإلحاق المغلوب بالعدم هو الأصل في
أحكام الشرع، ولأن الدراهم الجياد لا تخلو عن
قليل غش؛ لأن الفضة لا تنطبع بدونه على ما
قيل، فكان قليل الغش مما لا يمكن التحرز عنه،
فكانت العبرة للغلبة وإن كان الغش فيها هو
الغالب فإن كانت الفضة لا تخلص بالذوب والسبك
بل تحترق ويبقى النحاس فحكمها حكم النحاس
الخالص؛ لأن الفضة فيها إذا كانت مستهلكة كانت
ملحقة بالعدم، فيعتبر كله نحاسا لا يباع
بالنحاس إلا سواء بسواء، يدا بيد. وإن كانت
تخلص من النحاس ولا تحترق، ويبقى النحاس على
حاله أيضا فإنه يعتبر فيه كل واحد منهما على
حاله، ولا يجعل أحدهما تبعا للآخر، كأنهما
منفصلان، ممتازان أحدهما عن صاحبه؛ لأنه إذا
أمكن تخليص أحدهما من صاحبه على وجه يبقى كل
واحد منهما بعد الذوب والسبك لم يكن أحدهما
مستهلكا فلا يجوز بيعها بفضة خالصة إلا على
طريق الاعتبار، وهو أن تكون الفضة الخالصة
أكثر من الفضة المخلوطة، يصرف إلى الفضة
المخلوطة مثلها من الفضة الخالصة، والزيادة
إلى الغش، كما لو باع فضة وصفرا ممتازين بفضة
خالصة، فإن كانت الفضة الخالصة أقل من
المخلوطة لم يجز؛ لأن زيادة الفضة المخلوطة مع
الصفر يكون فضلا خاليا من العوض في عقد
المعاوضة، فيكون ربا، وكذا إذا كانت مثلها،
لأن الصفر يكون فضلا لا يقابله عوض، وكذا إذا
كان لا يدرى قدر الفضتين أيهما أكثر، أو هما
سواء لا يجوز عندنا. وعند زفر يجوز، وقد ذكرنا
الحجج فيما قبل وذكر في الجامع إذا كانت
الدراهم ثلثاها صفرا وثلثها فضة، ولا يقدر أن
يخلص الفضة من الصفر، ولا يدرى إذا خلصت أيبقى
الصفر أم يحترق، أنه يراعى في بيع هذه الدراهم
بفضة خالصة طريق الاعتبار، ثم إذا كانت الفضة
الخالصة أكثر حتى جاز البيع يكون هذا صرفا
وبيعا
ج / 5 ص -197-
مطلقا،
فيراعى في الصرف شرائطه، وإذا فسد بفوات شرط
منه يفسد البيع في الصفر؛ لأنه لا يمكن تميزه
إلا بضرر، وبيع ما لا يمكن تمييزه عن غيره إلا
بضرر فاسد على ما ذكرنا ولو بيعت هذه الدراهم
بذهب جاز؛ لأن المانع هو الربا، واختلاف الجنس
يمنع تحقيق الربا، لكن يراعى فيه شرائط الصرف؛
لأنه صرف، وإذا فات شرط منه حتى فسد يفسد
البيع في الصفر أيضا لما قلنا ولو بيعت بجنسها
من الدراهم المغشوشة جاز متساويا ومتفاضلا، نص
عليه محمد في الجامع. ويصرف الجنس إلى خلاف
الجنس، كما لو باع فضة منفصلة وصفرا منفصلا
بفضة وصفر منفصلين، وقالوا في الستوقة إذا بيع
بعضها ببعض متفاضلا: إنه يجوز، ويصرف الجنس
إلى خلاف الجنس، ومشايخنا لم يفتوا في ذلك إلا
بالتحريم احترازا عن فتح باب الربا، وقالوا في
الدراهم القطر يفنيه يجوز بيع واحد أو اثنين
أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة منها بدرهم فضة؛
لأن ما فيها من الفضة يكون بمثل وزنها من
الفضة الخالصة، وزيادة الفضة تكون بمقابلة
الصفر، ولا يجوز بيع ستة منها بدرهم فضة؛ لأن
الصفر الذي فيها يبقى فضلا خاليا عن العوض في
عقد المعاوضة فيكون ربا، وكان الشيخ الإمام
أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي
بجواز هذا. وإن كانت الفضة والغش فيها سواء
فلم يقطع محمد الجواب فيه في الجامع، لكنه
بناه على قول الصيارفة، وحكى عنهم أنهم قالوا:
إن الفضة والصفر إذا خلطا لا تتميز الفضة من
الصفر حتى يحترق الصفر؛ لأنهما لا يتميزان إلا
بذهاب أحدهما، والصفر أسرعهما ذهابا، فقال في
هذه الدراهم: إن كانت الفضة هي الغالبة، أي:
على ما يقوله الصيارفة أن الصفر يتسارع إليه
الاحتراق عند الإذابة والسبك فلا يجوز بيعها
بالفضة الخالصة، ولا بيع بعضها ببعض إلا سواء
بسواء كبيع الزيوف بالجياد؛ لأن الصفر إذا كان
يتسارع إليه الاحتراق كان مغلوبا مستهلكا فكان
ملحقا بالعدم، وإن لم يغلب أحدهما على الآخر
وبقيا على السواء يعتبر كل واحد منهما على
حياله كأنهما منفصلان، ويراعى في بيعهما
بالفضة الخالصة طريق الاعتبار كما في النوع
الأول، ويجوز بيع بعضها ببعض متساويا
ومتفاضلا، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس كما في
النوع الأول والله سبحانه وتعالى أعلم. وهل
يجوز استقراض الدراهم المغشوشة عددا؟. "أما"
النوع الأول وهو ما كانت فضته غالبة على غشه
فلا يجوز استقراضه إلا وزنا؛ لأن الغش إذا كان
مغلوبا فيه كان بمنزلة الدراهم الزائفة، ولا
يجوز بيع الدراهم الزائفة بعضها ببعض عددا؛
لأنها وزنية فلم يعتبر العدد فيها، فكان بيع
بعضها ببعض مجازفة فلم يجز فلا يجوز استقراضها
أيضا؛ لأنها مبادلة حقيقة، أو فيها شبهة
المبادلة فيجب صيانتها عن الربا وعن شبهة
الربا، ولهذا لم يجز استقراض الكيلي وزنا لما
أن الوزن في الكيلي غير معتبر، فكان إقراضه
مبادلة الشيء بمثله مجازفة، أو شبهة المبادلة
فلم يجز، كذا هذا وكذلك النوع الثالث وهو ما
إذا كان نصفه فضة ونصفه صفرا؛ لأن الغلبة إذا
كانت الفضة على اعتبار بقائها وذهاب الصفر في
المآل على ما يقوله أهل الصنعة كان ملحقا
بالدراهم الزيوف، فلا يجوز استقراضه عددا. وإن
كان لا يغلب أحدهما على الآخر، ويبقيان بعد
السبك على حالهما كان كل واحد منهما أصلا
بنفسه، فيعتبر كل واحد منهما على حياله، فكان
استقراض الفضة والصفر جملة عددا وهذا لا يجوز؛
لأن اعتبار الصفران كان يوجب الجواز؛ لأن
الفلس عددي، فاعتبار الفضة يمنع الجواز؛ لأن
الفضة وزنية، فالحكم بالفساد عند تعارض جهتي
الجواز، والفساد أحوط وأما النوع الثاني ما
كان الغش فيه غالبا والفضة مغلوبة فإنه ينظر
إن كان الناس يتعاملون به وزنا لا عددا لا
يجوز استقراضه عددا؛ لأن العدد في الموزون
باطل فكان استقراضه مبادلة الموزون بجنسه
مجازفة، أو شبهة المبادلة وإنه لا يجوز. وإن
كانوا يتعاملون به عددا يجوز استقراضه عددا؛
لأنهم إذا تعاملوا به عددا فقد ألحقوه
بالفلوس، وجعلوا الفضة التي فيه تبعا للصفر،
وإنه ممكن؛ لأنها قليلة، وقد يكون في الفلوس
في الجملة قليل فضة فثبتت التبعية بدلالة
التعامل، ومثل هذه الدلالة لم توجد فيما إذا
تعاملوا بها وزنا لا عددا، فبقيت وزنية، فلا
يجوز استقراضه عددا، وإن تعامل الناس بها
عددا؛ لأن هناك لا يمكن جعل الفضة تبعا للغش؛
لأنها أكثر منه أو مثله، والكثير لا يكون تبعا
للقليل، ومثل هذا الشيء لا يكون تبعا أيضا،
فبقيت على الصفة الأصلية الثابتة لها شرعا،
وهي كونها وزنية، فلا يجوز استقراضها مجازفة،
كما لا يجوز بيع بعضها ببعض مجازفة وكذا
الشراء بالدراهم المغشوشة من الأنواع الثلاثة
عددا حكمه حكم الاستقراض سواء،
ج / 5 ص -198-
فلا يجوز
الشراء بالنوع الأول إلا وزنا ؛ لأنها في حكم
الجياد، وأنها وزنية فلم يجز الشراء بها إلا
وزنا إذا لم يكن مشارا إليها. وكذلك بالنوع
الثالث لما ذكرنا في الاستقراض وأما النوع
الثالث فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه في
الاستقراض أن الناس إن كانوا يتبايعون بها
وزنا لا عددا لا يجوز لأحد أن يبتاع بها عددا؛
لأن الوزن صفة أصلية للدراهم، وإنما تصير
عددية بتعامل الناس، فإن جرى التعامل بها وزنا
لا عددا فقد تقررت الصفة الأصلية وبقيت وزنية،
فإذا اشترى بها عددا على غير وزن والعدد هدر
ولم توجد الإشارة فقد بقي الثمن مجهولا جهالة
مفضية إلى المنازعة؛ لأنه لا يدرى ما وزن هذا
القدر من العدد المسمى فيوجب فساد العقد،
بخلاف ما إذا اشترى بها عددا على غير وزن ولكن
أشار إليها فيما يكتفى فيه بالإشارة حيث يجوز؛
لأن مقدار وزنها. وإن كان مجهولا بعد الإشارة
إليها لكن هذه جهالة لا تفضي إلى المنازعة؛
لأنه يمكن معرفة مقدار المشار إليه بالوزن إذا
كان قائما، فلا يمنع جواز العقد وإن كانوا
يتبايعون بها عددا جاز؛ لأنها صارت عددية
بتعامل الناس، وصارت كالفلوس الرائجة، هذا إذا
اشترى بالأنواع الثلاثة عددا على وزن ولم
يعينها فأما إذا عينها واشترى بها عرضا بأن
قال: اشتريت هذا العرض بهذه الدراهم، وأشار
إليها فلا شك في جواز الشراء بها، ولا تتعين
بالإشارة إليها، ولا يتعلق العقد بعينها، حتى
لو هلكت قبل أن ينقدها المشتري لا يبطل البيع،
ويعطى مكانها مثلها من جنسها ونوعها وقدرها
وصفتها. "أما" النوع الأول فلأنها بمنزلة
الدراهم الجياد، وأنها لا تتعين بالإشارة
إليها، ولا يبطل البيع بهلاكها فكذا هذه.
"وأما" النوع الثاني فلأن الصفة فيها إن كانت
هي الغالبة على ما يقوله السباكون فهي في حكم
النوع الأول. وإن لم يغلب أحدهما على الآخر
يعتبر كل واحد منهما بحياله، فلا يبطل البيع
أيضا؛ لأن اعتبار الفضة لا يوجب البطلان؛
لأنها لا تتعين، واعتبار الصفر يوجب؛ لأنه
يتعين فلا يبطل بالشك. "وأما" النوع الثالث
فلأن الناس إن كانوا يتعاملون بها وزنا فهي
وسائر الدراهم سواء، فلا تتعين بالإشارة،
ويتعلق العقد بمثلها في الذمة لا بعينها، فلا
يبطل البيع بهلاكها وإن كانوا يتعاملون بها
عددا فهي بمنزلة الفلوس الرائجة، وإنها إذا
قوبلت بخلاف جنسها في المعاوضات لا تتعين ولا
يتعلق العقد بعينها بل بمثلها عددا، ولا يبطل
بهلاكها، كذا هذا ولو كسد هذا النوع من
الدراهم وصارت لا تروج بين الناس فهي بمنزلة
الفلوس الكاسدة والستوق والرصاص حتى تتعين
بالإشارة إليها، ويتعلق العقد بعينها حتى يبطل
العقد بهلاكها قبل القبض؛ لأنها صارت سلعة،
لكن قالوا: هذا إذا كان العاقدان عالمين بحال
هذه، ويعلم كل واحد منهما أن الآخر يعلم
بذلك.فأما إذا كانا لا يعلمان، أو يعلم أحدهما
ولم يعلم الآخر، أو يعلمان لكن لا يعلم كل
واحد منهما أن صاحبه يعلم فإن العقد لا يتعلق
بالمشار إليه ولا بجنسها، وإنما يتعلق
بالدراهم الرائجة التي عليها تعامل الناس في
تلك البلد هذا إذا صارت بحيث لا تروج أصلا،
فأما إذا كانت يقبلها البعض دون البعض فحكمها
حكم الدراهم الزائفة، فيجوز الشراء بها، ولا
يتعلق العقد بعينها، بل يتعلق بجنس تلك
الدراهم الزيوف إن كان البائع يعلم بحالها
خاصة؛ لأنه رضي بجنس الزيوف، وإن كان البائع
لا يعلم لا يتعلق العقد بجنس المشار إليه،
وإنما يتعلق بالجيد من نقد تلك البلد؛ لأنه لم
يرض إلا به إذا كان لا يعلم بحالها والله
سبحانه وتعالى أعلم.ثم إنما لا يبطل البيع
بهلاك الدراهم في الأنواع الثلاثة بعد الإشارة
إليها إذا كان علم عددها أو وزنها قبل الهلاك؛
لأنه إذا كان علم ذلك يمكن إعطاء مثلها بعد
هلاكها، فأما إذا كان لم يعلم لا عددها ولا
وزنها حتى هلكت يبطل البيع؛ لأن الثمن صار
مجهولا، إذ المشتري لا يمكنه إعطاء مثل
الدراهم المشار إليها. "ومنها" الخلو من شبهة
الربا لأن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب
الحرمات احتياطا، وأصله ما روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال لوابصة بن معبد
رضي الله عنه: "الحلال بين والحرام بين،
وبينهما أمور مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا
يريبك"، وعلى هذا يخرج ما إذا باع رجل شيئا
نقدا أو نسيئة، وقبضه المشتري ولم ينقد ثمنه
أنه لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل
من ثمنه الذي باعه منه عندنا، وعند الشافعي
رحمه الله يجوز. "وجه" قوله أن هذا بيع استجمع
شرائط جوازه، وخلا عن الشروط المفسدة إياه،
فلا معنى للحكم بفساده، كما إذا اشتراه بعد
نقد الثمن ولنا ما روي أن امرأة جاءت إلى
سيدتنا عائشة رضي الله عنها وقالت: إني ابتعت
ج / 5 ص -199-
خادما من
زيد بن أرقم بثمانمائة، ثم بعتها منه بستمائة
فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: بئس ما
شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أن الله
تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إن لم يتب. "ووجه" الاستدلال به من
وجهين: أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيدا لا يوقف
عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة،
فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة
المعصية، فدل على فساد البيع؛ لأن البيع
الفاسد معصية. والثاني: أنها رضي الله عنها
سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي
يوصف بذلك لا الصحيح، ولأن في هذا البيع شبهة
الربا؛ لأن الثمن الثاني يصير قصاصا بالثمن
الأول، فبقي من الثمن الأول زيادة لا يقابلها
عوض في عقد المعاوضة، وهو تفسير الربا، إلا أن
الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت
بأحدهما شبهة الربا، والشبهة في هذا الباب
ملحقة بالحقيقة، بخلاف ما إذا نقد الثمن؛ لأن
المقاصة لا تتحقق بعد الثمن فلا تتمكن الشبهة
بالعقد، ولو نقدا الثمن كله إلا شيئا قليلا
فهو على الخلاف، ولو اشترى ما باع بمثل ما باع
قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام الشبهة،
وكذا لو اشتراه بأكثر مما باع قبل نقد الثمن،
ولأن فساد العقد معدول به عن القياس، وإنما
عرفناه بالأثر، والأثر جاء في الشراء بأقل من
الثمن الأول، فبقي ما وراءه على أصل
القياس.هذا إذا اشتراه بجنس الثمن الأول، فإن
اشتراه بخلاف الجنس جاز؛ لأن الربا لا يتحقق
عند اختلاف الجنس إلا في الدراهم والدنانير
خاصة استحسانا، والقياس أن لا يجوز؛ لأنهما
جنسان مختلفان حقيقة فالتحقا بسائر الأجناس
المختلفة. "وجه" الاستحسان أنهما في الثمنية
كجنس واحد فيتحقق الربا بمجموع العقدين، فكان
في العقد الثاني شبهة الربا، وهي الربا من وجه
ولو تعيب المبيع في يد المشتري فباعه من بائعه
بأقل مما باعه جاز؛ لأن نقصان الثمن يكون
بمقابلة نقصان العيب، فيلتحق النقصان بالعدم
كأنه باعه بمثل ما اشتراه، فلا تتحقق شبهة
الربا ولو خرج المبيع من ملك المشتري فاشتراه
البائع من المالك الثاني بأقل مما باعه قبل
نقد الثمن جاز؛ لأن اختلاف الملك بمنزلة
اختلاف العين فيمنع تحقق الربا. ولو مات
المشتري فاشتراه البائع من وارثه بأقل مما باع
قبل نقد الثمن لم يجز؛ لأن الملك هناك لم
يختلف، وإنما قام الوارث مقام المشتري، بدليل
أنه يرد بالعيب ويرد عليه وكذا لو كان المبيع
جارية فاستولدها الوارث، أو كان دارا فبنى
عليها، ثم ورد الاستحقاق فأخذ منه قيمة الولد،
ونقض عليه البناء كان للوارث أن يرجع على بائع
المورث بقيمة الولد وقيمة البناء كما كان يرجع
المشتري لو كان حيا؛ لأن الوارث قائم مقام
المشتري، فكان الشراء منه بمنزلة الشراء من
المشتري فرق بين هذا وبين ما إذا مات البائع
فاشترى وارثه من المشتري بأقل مما باع قبل نقد
الثمن أنه يجوز إذا كان الوارث ممن تجوز
شهادته للبائع في حال حياته. "ووجه" الفرق أن
الوارث يقوم مقام المورث فيما ورثه، ووارث
المشتري ورث عين المبيع فقام مقامه في عينه،
فكان الشراء منه كالشراء من المشتري فلم يجز،
ووارث البائع ورث الثمن والثمن في ذمة
المشتري، وما عين في ذمة المشتري لا يحتمل
الإرث، فلم يكن ذلك عين ما ورثه عن البائع،
فلم يكن وارث البائع مقامة فيما ورثه. وروي عن
أبي يوسف رحمه الله أنه لا يجوز الشراء من
وارث البائع، كما لا يجوز الشراء من وارث
المشتري؛ لأن الوارث خلف المورث، فالمشتري
قائم مقامه كأنه هو ولو باعه المشتري من غيره
فعاد المبيع إلى ملكه فاشتراه بأقل مما باع
فهذا لا يخلو إما إن عاد إليه بملك جديد، وإما
إن عاد إليه على حكم الملك الأول فإن عاد إليه
بملك جديد كالشراء والهبة والميراث والإقالة
قبل القبض وبعده، والرد بالعيب بعد القبض بغير
قضاء القاضي، ونحو ذلك من أسباب تجديد الملك
جاز الشراء منه بأقل مما باع؛ لأن اختلاف
الملك بمنزلة اختلاف العين. وإن عاد إليه على
حكم الملك الأول كالرد بخيار الرؤية، والرد
بخيار الشرط قبل القبض وبعده، بقضاء القاضي
وبغير قضاء القاضي، والرد بخيار العيب قبل
القبض بقضاء القاضي وبغير قضاء القاضي، وبعد
القبض بقضاء القاضي لا يجوز الشراء منه بأقل
مما باع؛ لأن الرد في هذه المواضع يكون فسخا،
والفسخ يكون رفعا من الأصل وإعادة إلى قديم
الملك كأنه لم يخرج عن ملكه أصلا، ولو كان
كذلك لكان لا يجوز له الشراء، فكذا هذا. ولو
لم يشتره البائع لكن اشتراه بعض من لا تجوز
شهادته له كالوالدين والمولودين والزوج
والزوجة
ج / 5 ص -200-
لا يجوز
عند أبي حنيفة رحمه الله كما لا يجوز من
البائع، وعند أبي يوسف ومحمد يجوز كما يجوز من
الأجنبي. "وجه" قولهما إن كل واحد منهما أجنبي
عن ملك صاحبه لانفصال ملكه عن ملك صاحبه فيقع
عقد كل واحد منهما له لا لصاحبه كسائر
الأجانب، ثم شراء الأجنبي لنفسه جائز فكذا
شراؤه لصاحبه ولأبي حنيفة رحمه الله أن كل
واحد منهما يبيع بمال صاحبه عادة حتى لا تقبل
شهادة أحدهما لصاحبه فكان معنى ملك كل واحد
منهما ثابتا لصاحبه فكان عقده واقعا لصاحبه من
وجه فيؤثر في فساد العقد احتياطا في باب الربا
ولو باع المولى ثم اشتراه مدبره أو مكاتبه أو
بعض مماليكه ولا دين عليه أو عليه دين بأقل
مما باع المولى لا يجوز كما لا يجوز عن
المولى. وكذا لو باع المدبر أو المكاتب أو بعض
مماليكه ثم اشتراه المولى لا يجوز لأن عقد
هؤلاء يقع للمولى من وجه، ولو كان وكيلا فباع
واشترى بأقل مما باع قبل نقد الثمن لا يجوز
كما لو باع واشترى الموكل لنفسه لأن المانع
تمكن شبهة الربا وأن لا يفصل بين الوكيل
والموكل ولذا سيدتنا عائشة رضي الله عنها لم
تستفسر السائلة أنها مالكة أو وكيلة ولو كان
الحكم يختلف لاستفسرت، وكذا لو باع الوكيل ثم
اشتراه الموكل لم يجز ؛ لأنه لو اشتراه وكيله
لم يجز فإذا اشتراه بنفسه أولى أن لا يجوز
وكذا لو باعه الوكيل، ثم اشتراه بعض من لا
تجوز شهادة الوكيل له أو بعض من لا تجوز شهادة
الموكل له لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله
وعندهما يجوز على ما مر. ولو باع، ثم وكل
بنفسه إنسانا بأن يشتري له ذلك الشيء بأقل مما
باع قبل نقد الثمن فاشتراه الوكيل فهو جائز
للوكيل، والثمنان يلتقيان قصاصا، والزيادة من
الثمن الأول ولا تطيب للبائع ويكون ملكا له،
وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: التوكيل
فاسد ويكون الوكيل مشتريا لنفسه وقال محمد:
التوكيل صحيح إلا أنه إذا اشتراه الوكيل يكون
مشتريا للبائع شراء فاسدا ويملكه البائع ملكا
فاسدا وهذا بناء على أصل لهم فأصل أبي حنيفة
أنه ينظر إلى العاقد ويعتبر أهليته ولا يعتبر
أهلية من يقع له حكم العقد؛ ولهذا قال: إن
المسلم إذا وكل ذميا بشراء الخمر أو بيعها أنه
يجوز، وكذا المحرم إذا وكل حلالا ببيع صيد له
أو بشراء صيد جاز التوكيل عنده، وتعتبر أهلية
الوكيل. وأصل أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران
أهلية العقد للعقد والمعقود له جميعا حتى لم
يجز التوكيل عندهما في المسألتين، إلا أن
محمدا خالف أبا يوسف في هذه المسألة وترك أصله
حيث قال بصحة التوكيل ولم ينظر إلى الموكل،
وعلى هذا الخلاف إذا وكل المسلم ذميا بأن
يشتري له من ذمي عبده بخمر وغير ذلك العبد
ففعل الوكيل صح الشراء عند أبي حنيفة ويكون
العبد للموكل وعلى الوكيل للبائع الخمر، وهو
يرجع بقيمة الخمر على موكله، وعند أبي يوسف
التوكيل فاسد ويكون الوكيل مشتريا لنفسه، وعند
محمد التوكيل صحيح ويكون مشتريا للموكل شراء
فاسدا ولو باع بألف درهم حالة، ثم اشتراه بألف
درهم مؤجلة فالشراء فاسد لأنه اشترى ما باع
بأقل مما باع من حيث المعنى، لأن الحالة خير
من المؤجلة وكذا لو باع بألف مؤجلة، ثم اشتراه
بألف مؤجلة إلى أبعد من ذلك الأجل فهو فاسد
لما قلنا. ولو باع عبدا بألف وقبضه المشتري ثم
اشتراه البائع وعبدا آخر قبل نقد الثمن فإن
الثمن يقسم عليهما على قدر قيمتيهما ثم ينظر
فإن كانت حصة العبد الذي باعه مثل ثمنه أو
أكثر جاز الشراء فيهما جميعا، أما في الذي لم
يبعه فظاهر وكذا في الذي باعه، لأنه اشترى ما
باع بمثل ما باع أو بأكثر مما باع قبل نقد
الثمن وإنه جائز وإن كان أقل من ثمنه يفسد
البيع فيه ولا يفسد في الآخر، لأن الفساد
لكونه شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن
وذلك وجد في أحدهما دون الآخر وهذا على أصلهما
ظاهر، وكذا على أصل أبي حنيفة فكان ينبغي أن
يفسد فيهما، لأن من أصله أن الصفقة متى اشتملت
على إبدال وفسدت في بعضها أن يتعدى الفساد إلى
الكل كما إذا جمع بين حر وعبد وباعهما جميعا
صفقة واحدة. وإنما لم يفسد فيهما، لأن الفساد
هناك باعتبار أنه لما جمع بين الحر والعبد
وباعهما صفقة واحدة فقد جعل قبول العقد في
أحدهما شرطا لقبول العقد في الآخر، والحر ليس
بمحل لقبول العقد فيه بيقين فلا يصح القبول
فيه فلا يصح في الآخر فلم ينعقد العقد أصلا
والفساد ههنا باعتبار شراء ما باع بأقل مما
باع وذلك وجد في أحدهما دون الآخر، فيفسد في
أحدهما دون الآخر لأن الأصل اقتصار الفساد على
قدر المفسد، ولهذا لو جمع بين عبدين وباع
أحدهما إلى الحصاد أو الدياس أن البيع يفسد
فيما
ج / 5 ص -201-
في بيعه
أجل ولا يفسد في الآخر، وكذا لو جمع بين قن
ومدبر وباعهما صفقة واحدة يصح البيع في القن
ويفسد في المدبر لوجود المفسد في أحدهما دون
الآخر كذا هذا. "ومنها" قبض رأس المال في بيع
الدين بالعين. وهو السلم، والكلام في السلم في
الأصل في ثلاثة مواضع: أحدها: في بيان ركنه،
والثاني: في بيان شرائط الركن، والثالث: في
بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا
يجوز. أما ركن السلم فهو لفظ السلم والسلف
والبيع بأن يقول رب السلم: أسلمت إليك في كذا
أو أسلفت؛ لأن السلم والسلف مستعملان بمعنى
واحد، يقال: سلفت وأسلفت وأسلمت بمعنى واحد
فإذا قال المسلم إليه: قبلت فقد تم الركن،
وكذا إذا قال المسلم إليه: بعت منك كذا وذكر
شرائط السلم، فقال رب السلم: قبلت، وهذا قول
علمائنا الثلاثة، وقال زفر: لا ينعقد إلا بلفظ
السلم، لأن القياس أن لا ينعقد أصلا، لأنه بيع
ما ليس عند الإنسان وأنه منهي عنه إلا أن
الشرع ورد بجوازه بلفظ السلم بقوله: ورخص في
السلم. "ولنا" أن السلم بيع فينعقد بلفظ
البيع، والدليل على أنه بيع ما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم" نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عند الإنسان عاما، ورخص السلم
بالرخصة فيه فدل أن السلم بيع ما ليس عند
الإنسان ليستقيم تخصيصه عن عموم النهي بالترخص
فيه.
"فصل" وأما شرائط الركن فهي في الأصل نوعان: نوع يرجع إلى نفس العقد، ونوع
يرجع إلى البدل. "أما" الذي يرجع إلى نفس
العقد فواحد وهو أن يكون العقد باتا عاريا عن
شرط الخيار للعاقدين أو لأحدهما، لأن جواز
البيع مع شرط الخيار في الأصل ثبت معدولا به
عن القياس، لأنه شرط يخالف مقتضى العقد بثبوت
الحكم للحال، وشرط الخيار يمنع انعقاد العقد
في حق الحكم، ومثل هذا الشرط مفسد للعقد في
الأصل إلا أنا عرفنا جوازه بالنص، والنص ورد
في بيع العين فبقي ما وراءه على أصل القياس،
خصوصا إذا لم يكن في معناه، والسلم ليس في
معنى بيع العين فيما شرع له الخيار، لأنه شرع
لدفع الغبن، والسلم مبناه على الغبن ووكس
الثمن، لأنه بيع المفاليس فلم يكن في معنى
مورد النص فورود النص هناك لا يكون ورودا ههنا
دلالة فبقي الحكم فيه للقياس، ولأن قبض رأس
المال من شرائط الصحة على ما نذكره، ولا صحة
للقبض إلا في الملك. وخيار الشرط يمنع ثبوت
الملك فيمنع المستحق صحة القبض بخلاف المستحق
أنه لا يبطل السلم حتى لو استحق رأس المال وقد
افترقا عن القبض وأجاز المستحق فالسلم صحيح؛
لأنه لما أجاز تبين أن العقد وقع صحيحا من حين
وجوده، وكذا القبض إذ الإجازة اللاحقة بمنزلة
الوكالة السابقة وبخلاف خيار الرؤية والعيب؛
لأنه لا يمنع ثبوت الملك فلا يمنع صحة القبض،
ولو أبطل صاحب الخيار خياره قبل الافتراق
بأبدانهما. ورأس المال قائم في يد المسلم إليه
ينقلب العقد جائزا عندنا خلافا لزفر، وقد مرت
المسألة، وإن كان هالكا أو مستهلكا لا ينقلب
إلى الجواز بالإجماع؛ لأن رأس المال يصير دينا
على المسلم إليه، والسلم لا ينعقد برأس مال
دين فلا ينعقد عليه أيضا. "وأما" الذي يرجع
إلى البدل فأنواع ثلاثة: نوع يرجع إلى رأس
المال خاصة، ونوع يرجع إلى المسلم فيه خاصة،
ونوع يرجع إليهما جميعا "أما" الذي يرجع إلى
رأس المال.فأنواع. "منها" بيان جنسه كقولنا:
دراهم أو دنانير أو حنطة أو تمر. "ومنها" بيان
نوعه إذا كان في البلد نقود مختلفة كقولنا:
دراهم فتحية أو دنانير نيسابورية أو حنطة سقية
أو تمر برني. "ومنها" بيان صفته كقولنا: جيد
أو وسط أو رديء؛ لأن جهالة الجنس والنوع
والصفة مفضية إلى المنازعة، وإنها مانعة صحة
البيع لما ذكرنا من الوجوه فيما تقدم. "ومنها"
بيان قدره.إذا كان مما يتعلق العقد بقدره من
المكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة،
ولا يكتفى بالإشارة إليه، وهذا قول أبي حنيفة
وسفيان الثوري وأحد قولي الشافعي، وقال أبو
يوسف ومحمد: ليس بشرط، والتعيين بالإشارة كاف
وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله. ولو كان رأس
المال مما لا يتعلق العقد بقدره من الذرعيات
والعدديات المتفاوتة.لا يشترط إعلام قدره
ويكتفى بالإشارة بالإجماع، وكذا إعلام قدر
الثمن في بيع العين ليس بشرط، والإشارة كافية
بالإجماع وصورة المسألة إذا قال: أسلمت إليك
هذه الدراهم أو هذه الدنانير ولا يعرف وزنها
أو هذه الصبرة ولم يعرف كيلها لا يجوز عند أبي
حنيفة وعندهما يجوز، ولو قال
ج / 5 ص -202-
أسلمت
إليك هذا الثوب ولم يعرف ذرعه أو هذا القطيع
من الغنم ولم يعرف عدده جاز بالإجماع. "وجه"
قولهما: أن الحاجة إلى تعيين رأس المال وأنه
حصل بالإشارة إليه فلا حاجة إلى إعلام قدره،
ولهذا لم يشترط إعلام قدر الثمن في بيع العين
ولا في السلم إذا كان رأس المال مما يتعلق
العقد بقدره ولأبي حنيفة رحمه الله أن جهالة
قدر رأس المال تؤدي إلى جهالة قدر المسلم فيه
وأنها مفسدة للعقد فيلزم إعلام قدره صيانة
للعقد عن الفساد ما أمكن كما إذا أسلم في
المكيل بمكيال نفسه بعينه، ودلالة أنها تؤدي
إلى ما قلنا: إن الدراهم على ما عليه العادة
لا تخلو عن قليل زيف، وقد يرد الاستحقاق على
بعضها فإذا رد الزائف ولم يستبدل في مجلس الرد
ولم يتجوز المستحق ينفسخ السلم في المسلم فيه
بقدر المردود والمستحق ويبقى في الباقي، وذلك
غير معلوم فيصير المسلم فيه مجهول القدر ؛
ولهذا لم يصح السلم في المكيلات بقفيز بعينه؛
لأنه يحتمل هلاك القفيز، فيصير المسلم فيه
مجهول القدر فلم يصح، كذا هذا بخلاف بيع العين
فإن الزيف والاستحقاق هناك لا يؤثر في العقد ؛
لأن قبض الثمن غير مستحق، وبخلاف الثياب
والعدديات المتفاوتة؛ لأن القدر فيها ملحق
بالصفة، ألا ترى أنه لو قال: أسلمت إليك هذا
الثوب على أنه عشرة أذرع فوجده المسلم إليه
أحد عشر سلمت الزيادة له فثبت أن الزيادة فيها
تجري مجرى الصفة، وإعلام صفة رأس المال ليس
بشرط لصحة السلم إذا كان معينا مشارا إليه،
وعلى هذا الخلاف إذا كان رأس المال جنسا واحدا
مما يتعلق العقد على قدره فأسلمه في جنسين
مختلفين كالحنطة والشعير أو نوعين مختلفين من
جنس واحد كالهروي والمروي ولم يبين حصة كل
واحد منهما فالسلم فاسد عند أبي حنيفة وعندهما
جائز. ولو كان جنسا واحدا مما لا يتعلق العقد
على قدره كالثوب والعددي المتفاوت فأسلمه في
شيئين مختلفين ولم يبين حصة كل واحد منهما من
ثمن رأس المال، فالثمن جائز بالإجماع، ولو كان
رأس المال من جنسين مختلفين أو نوعين مختلفين
فأسلمهما في جنس واحد فهو على الاختلاف،
والكلام في هذه المسألة بناء على الأصل الذي
ذكرنا أن كون رأس المال معلوم القدر شرط لصحة
السلم عند أبي حنيفة وعندهما ليس بشرط. "ووجه"
البناء على هذا الأصل أن إعلام القدر لما كان
شرطا عنده فإذا كان رأس المال واحدا وقوبل
بشيئين مختلفين كان انقسامه عليهما من حيث
القيمة لا من حيث الأجزاء، وحصة كل واحد منهما
من رأس المال لا تعرف إلا بالحزر والظن فيبقى
قدر حصة كل واحد منهما من رأس المال مجهولا،
وجهالة قدر رأس المال مفسدة للسلم عنده
وعندهما إعلام قدره ليس بشرط فجهالته لا تكون
ضارة. ولو أسلم عشرة دراهم في ثوبين جنسهما
واحد ونوعهما واحد وصفتهما واحدة وطولهما واحد
ولم يبين حصة كل واحد منهما من العشرة فالسلم
جائز بالإجماع. "أما عندهما" فظاهر ؛ لأن
إعلام قدر رأس المال ليس بشرط، وأما عنده فلأن
حصة كل واحد منهما من رأس المال تعرف من غير
حزر وظن فكان قدر رأس المال معلوما وصار كما
إذا أسلم عشرة دراهم في قفيزي حنطة ولم يبين
حصة كل قفيز من رأس المال أنه يجوز لما قلنا
كذا هذا، ولو قبض الثوبين بعد محل الأجل ليس
له أن يبيع أحدهما مرابحة على خمسة دراهم عند
أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد له ذلك وله أن
يبيعهما جميعا مرابحة على عشرة بالإجماع، وكذا
لو كان بين حصة كل ثوب خمسة دراهم له أن يبيع
أحدهما على خمسة مرابحة بلا خلاف، ونذكر دلائل
هذه الجملة في مسائل المرابحة إن شاء الله
تعالى. "ومنها" أن يكون مقبوضا في مجلس السلم
لأن المسلم فيه دين، والافتراق لا عن قبض رأس
المال يكون افتراقا عن دين بدين وإنه منهي عنه
لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" أي النسيئة بالنسيئة، ولأن مأخذ هذا العقد دليل على هذا الشرط فإنه
يسمى سلما وسلفا لغة وشرعا، تقول العرب: أسلمت
وأسلفت بمعنى واحد، وفي الحديث
"من أسلم فليسلم في كيل معلوم" وروي "من سلف
فليسلف في كيل معلوم" والسلم ينبئ
عن التسليم، والسلف ينبئ عن التقدم فيقتضي
لزوم تسليم رأس المال ويقدم قبضه على قبض
المسلم فيه، فإن قيل: شرط الشيء يسبقه أو
يقارنه، والقبض يعقب العقد فكيف يكون شرطا؟
فالجواب أن القبض شرط بقاء العقد على الصحة لا
شرط الصحة فإن العقد ينعقد صحيحا بدون قبض، ثم
يفسد بالافتراق لا عن قبض وبقاء العقد صحيحا
يعقب
ج / 5 ص -203-
العقد
ولا يتقدمه فيصلح القبض شرطا له، وسواء كان
رأس المال دينا أو عينا عند عامة العلماء
استحسانا. والقياس أن لا يشترط قبضه في المجلس
إذا كان عينا، وهو قول مالك رحمه الله. "وجه"
القياس أن اشتراط القبض للاحتراز عن الافتراق
عن دين بدين، وهذا افتراق عن عين بدين وإنه
جائز. "وجه" الاستحسان أن رأس مال السلم يكون
دينا عادة ولا تجعل العين رأس مال السلم إلا
نادرا، والنادر حكمه حكم الغائب فيلحق بالدين
على ما هو الأصل في الشرع في إلحاق المفرد
بالجملة، ولأن مأخذ العقد في الدلالة على
اعتبار هذا الشرط لا يوجب الفصل بين الدين
والعين على ما ذكرنا، وسواء قبض في أول المجلس
أو في آخره فهو جائز؛ لأن ساعات المجلس لها
حكم ساعة واحدة، وكذا لو لم يقبض حتى قاما
يمشيان فقبض قبل أن يفترقا بأبدانهما. جاز ؛
لأن ما قبل الافتراق بأبدانهما له حكم المجلس
وعلى هذا يخرج الإبراء عن رأس مال السلم أنه
لا يجوز بدون قبول رب السلم ؛ لأن قبض رأس
المال شرط صحة السلم فلو جاز الإبراء من غير
قبوله وفيه إسقاط هذا الشرط أصلا لكان الإبراء
فسخا معنى، وأحد العاقدين لا ينفرد بفسخ العقد
فلا يصح الإبراء وبقي عقد السلم على حاله،
وإذا قبل جاز الإبراء ؛ لأن الفسخ حينئذ يكون
بتراضيهما وإنه جائز. وإذا جاز الإبراء وإنه
في معنى الفسخ انفسخ العقد ضرورة بخلاف
الإبراء عن المسلم فيه أنه جائز من غير قبول
المسلم إليه؛ لأنه ليس في الإبراء عنه إسقاط
شرط؛ لأن قبض المسلم فيه ليس بشرط فيصح من غير
قبول وبخلاف الإبراء عن ثمن المبيع أنه يصح من
غير قبول المشتري، إلا أنه يرتد بالرد؛ لأن
قبض الثمن ليس بشرط لصحة البيع إلا أنه يرتد
بالرد، لأن في الإبراء معنى التمليك على سبيل
التبرع فلا يلزم دفعا لضرر المنة، ولا يجوز
الإبراء عن المبيع؛ لأنه عين. والإبراء إسقاط،
وإسقاط الأعيان لا يعقل وعلى هذا يخرج
الاستبدال برأس مال السلم في مجلس العقد أنه
لا يجوز وهو أن يأخذ برأس مال السلم شيئا من
غير جنسه؛ لأن قبض رأس المال لما كان شرطا
فبالاستبدال يفوت قبضه حقيقة، وإنما يقبض بدله
وبدل الشيء غيره، وكذلك الاستبدال ببدل الصرف
لما قلنا، فإن أعطي رب السلم من جنس رأس المال
أجود أو أردأ، ورضي المسلم إليه بالأردإ: جاز،
لأنه قبض جنس حقه، وإنما اختلف الوصف، فإن كان
أجود فقد قضى حقه وأحسن في القضاء، وإن كان
أردأ فقد قضى حقه أيضا، لكن على وجه النقصان
فلا يكون أخذ الأجود، والأردإ استبدالا، إلا
أنه لا يجبر على أخذ الأردإ؛ لأن فيه فوات حقه
عن صفة الجودة فلا بد من رضاه، وهل يجبر على
الأخذ إذا أعطاه أجود من حقه؟ قال علماؤنا
الثلاثة رحمهم الله: يجبر عليه، وقال زفر لا:
يجبر. "وجه" قوله: إن رب السلم في إعطاء
الزيادة على حقه متبرع ، والمتبرع عليه لا
يجبر على قبول التبرع لما فيه من إلزام المنة
فلا يلزمه من غير التزامه. "ولنا" أن إعطاء
الأجود مكان الجيد في قضاء الديون لا يعد فضلا
وزيادة في العادات، بل يعد من باب الإحسان في
القضاء ولواحق الإيفاء فإذا أعطاه الأجود فقد
قضى حق صاحب الحق وأجمل في القضاء فيجبر على
الأخذ. "وأما" الاستبدال بالمسلم فيه بجنس آخر
فلا يجوز أيضا لكن بناء على أصل آخر ذكرناه
فيما تقدم، وهو أن المسلم فيه مبيع منقول،
وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وإن
أعطى أجود أو أردأ فحكمه حكم رأس المال، وقد
ذكرناه. "وأما" استبدال رأس مال السلم بجنس
آخر بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم العارض
فلا يجوز عندنا خلافا لزفر، ويجوز استبدال بدل
الصرف بعد الإقالة بالإجماع، وقد مر الكلام
فيه، والفرق فيما تقدم، وتجوز الحوالة برأس
مال السلم على رجل حاضر، والكفالة به لوجود
ركن هذه العقود مع شرائطه فيجوز كما في سائر
العقود فلو امتنع الجواز فإنما يمتنع لمكان
الخلل في شرط عقد السلم وهو القبض، وهذه
العقود لا تخل بهذا الشرط، بل تحققه لكونها
وسائل إلى استيفاء الحق فكانت مؤكدة له هذا
مذهب أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وقال زفر: لا
يجوز ؛ لأن هذه العقود شرعت لتوثيق حق يحتمل
التأخر عن المجلس فلا يحصل ما شرع له العقد
فلا يصح. وهذا غير سديد، لأن معنى التوثيق
يحصل في الحقين جميعا فجاز العقد فيهما جميعا،
ثم إذا جازت الحوالة والكفالة، فإن قبض المسلم
إليه رأس مال السلم من المحال عليه أو الكفيل
أو من رب السلم فقد تم العقد بينهما إذا كانا
في المجلس ، سواء بقي الحويل والكفيل أو
افترقا بعد أن كان العاقدان في المجلس، وإن
افترقا العاقدان بأنفسهما قبل القبض
ج / 5 ص -204-
بطل
السلم وبطلت الحوالة والكفالة، وإن بقي المحال
عليه والكفيل في المجلس، فالعبرة لبقاء
العاقدين وافتراقهما لا لبقاء الحويل والكفيل
وافتراقهما ؛ لأن القبض من حقوق العقد، وقيام
العقد بالعاقدين، فكان المعتبر مجلسهما، وعلى
هذا الحوالة والكفالة ببدل الصرف أنهما جائزان
لما قلنا، لكن التقابض من الجانبين قبل تفرق
العاقدين بأبدانهما شرط، وافتراق المحال عليه
والكفيل لا يضر لما ذكرنا، فإن افترق العاقدان
بأبدانهما قبل التقابض من الجانبين بطل الصرف
وبطلت الحوالة والكفالة كما في السلم. "وأما"
الرهن برأس مال السلم فإن هلك الرهن في
المجلس، وقيمته مثل رأس المال أو أكثر فقد تم
العقد بينهما ؛ لأنه حصل مستوفيا لرأس المال؛
لأن قبض الرهن قبض استيفاء ؛ لأنه قبض مضمون،
وقد تقرر الضمان بالهلاك وعلى الراهن مثله من
جنسه في المالية فيتقاصان فحصل الافتراق عن
قبض رأس المال فتم عقد السلم، وإن كانت قيمته
أقل من رأس المال تم العقد بقدره ويبطل في
الباقي؛ لأنه استوفى من رأس المال بقدره، وإن
لم يهلك الرهن حتى افترقا بطل السلم لحصول
الافتراق لا عن قبض رأس المال، وعليه رد الرهن
على صاحبه، وكذا هذا الحكم في بدل الصرف إذا
أخذ به رهنا أنه إن هلك الرهن قبل افتراق
العاقدين بأبدانهما تم عقد الصرف؛ لأنه
بالهلاك صار مستوفيا، وإن لم يهلك حتى افترقا
بطل الصرف لفوات شرط الصحة وهو القبض كما في
السلم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا
يخرج ما إذا كان رأس المال دينا على المسلم
إليه أو على غيره فأسلمه: أنه لا يجوز؛ لأن
القبض شرط ولم يوجد حقيقة فيكون افتراقا عن
دين بدين وإنه منهي.فإن نقده في المجلس جاز إن
كان الدين على المسلم إليه، ولأن المانع ههنا
ليس إلا انعدام القبض حقيقة، وقد زال، وإن كان
على غيره لا يجوز، وإن نقده في المجلس لكن
هناك مانع آخر وهو العجز عن التسليم؛ لأن ما
في ذمة الغير لا يكون مقدور التسليم، والقدرة
على التسليم عند العقد من شرائط الصحة على ما
مر، وهذا المانع منعدم في الفصل الأول ؛ لأن
ذمة المسلم إليه في يده فكان قادرا على
التسليم عند العقد. وإنما لم يجز لعدم القبض
وإذا وجد جاز، ولو أسلم دينا وعينا وافترقا
جاز في حصة العين وبطل في حصة الدين؛ لأن
الأصل أن الفساد بقدر المفسد. والمفسد عدم
القبض وإنه يخص الدين فيفسد السلم بقدره كما
لو اشترى عبدين ولم يقبضهما حتى هلك أحدهما
قبل القبض أنه يبطل العقد في الهالك ويبقى في
الآخر لما قلنا كذا هذا، وعلى هذا يخرج ما إذا
قبض رأس المال ثم انتقص القبض فيه بمعنى أوجب
انتقاصه أنه يبطل السلم. وبيان ذلك أن جملة
رأس المال لا تخلو إما أن تكون عينا وهو ما
يتعين بالتعيين، وإما أن تكون دينا وهو ما لا
يتعين بالتعيين، والعين لا تخلو إما أن توجد
مستحقا أو معيبا، والدين لا يخلو إما أن يوجد
مستحقا أو زيوفا أو نبهرجة أو ستوقا أو رصاصا،
وكل ذلك لا يخلو إما أن يكون قبل الافتراق أو
بعده، وجد كله كذلك أو بعضه دون بعض، وكذلك
أحد المتصارفين إذا وجد بدل الصرف كذلك فهو
على التفاصيل التي ذكرنا، فإن كان رأس المال
عينا فوجده المسلم إليه مستحقا أو معيبا.فإن
لم يجز المستحق ولم يرض المسلم إليه بالعيب
يبطل السلم، سواء كان بعد الافتراق أو قبله ؛
لأنه انتقض القبض فيه بالاستحقاق، والرد
بالعيب، ولا يمكن إقامة غيره مقامه في القبض ؛
لأنه معين فيحصل الافتراق لا عن قبض رأس المال
في المجلس فيبطل السلم. وإن أجاز المستحق ورضي
المسلم إليه بالعيب جاز السلم، سواء كان قبل
الافتراق أو بعده ؛ لأنه تبين أن قبضه وقع
صحيحا فحصل الافتراق عن قبض رأس المال أولا،
ولا سبيل للمستحق على المقبوض ؛ لأنه لما أجاز
فقد صار المقبوض ملكا للمسلم إليه، وله أن
يرجع على الناقد بمثله إن كان مثليا وبقيمته
إن لم يكن مثليا ؛ لأنه أتلف عليه ماله
بالتسليم، وكذا في الصرف، غير أن هناك إذا كان
البدل المستحق أو المعيب عينا كالتبر، والمصوغ
من الفضة ولم يجز المستحق، ولا رضي القابض
بالمعيب حتى بطل الصرف يرجع على قابض الدينار
بعين الدينار إن كان قائما وبمثله إن كان
هالكا، ولا خيار لقابض الدينار في ظاهر
الرواية كما في بيع العين إذا استحق المبيع
وأخذه المستحق. ولو كان قابض الدينار تصرف فيه
وأخرجه من ملكه لا يفسخ عليه تصرفه، وعليه
مثله كما في المقبوض بعقد فاسد.هذا إذا كان
رأس المال عينا فأما إذا كان دينا، فإن وجده
مستحقا وأجاز المستحق فالسلم ماض، سواء كان
قبل الافتراق أو بعده ؛ لأنه ظهر أن القبض كان
صحيحا، ولا
ج / 5 ص -205-
سبيل
للمشتري على المقبوض ويرجع على الناقد بمثله ؛
لأنه أتلفه بالتسليم وهو مثلي فيرجع عليه
بمثله، وإن لم يجز فإن كان قبل الافتراق
واستبدل في المجلس فالسلم ماض ؛ لأن رأس المال
إذا كان دينا كان الواجب في ذمة رب السلم مثل
المستحق لا عينه، فقبض المستحق إن لم يصح أو
انتقض بالاستحقاق وعدم الإجازة ، يقوم قبض
مثله مقامه فيرجع عليه بمثله ويلحق ذلك الذي
كان بالعدم كأنه لم يقبض وأخر القبض فيه إلى
آخر المجلس، بخلاف ما إذا كان عينا ؛ لأن
المستحق هناك قبض العين. وقد انتقض القبض فيه
بالاستحقاق وتعذر إقامة قبض غيره مقامه فجعل
الافتراق لا عن قبض فيبطل العقد، وإن كان بعد
الافتراق يبطل السلم ؛ لأنه تبين أن الافتراق
حصل لا عن قبض رأس المال.هذا إذا وجده مستحقا،
فأما إذا وجده زيوفا أو نبهرجة ، فإن تجوز
المسلم إليه فالسلم ماض على الصحة، سواء وجده
قبل الافتراق أو بعده؛ لأن الزيوف من جنس حقه
؛ لأنها دراهم لكنها معيبة بالزيافة وفوات صفة
الجودة، فإذا تجوز به فقد أبرأه عن العيب ورضي
بقبض حقه مع النقصان، بخلاف الستوق فإنه لا
يجوز وإن تجوز به؛ لأنه ليس من جنس الدراهم
على ما نذكره، وإن لم يتجوز به ورده، فإن كان
قبل الافتراق واستبدله في المجلس، فالعقد ماض
وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن كان
بعد الافتراق بطل السلم عند أبي حنيفة وزفر،
سواء استبدل في مجلس الرد أو لا، وعند أبي
يوسف ومحمد إن لم يستبدل في مجلس الرد فكذلك،
وإن استبدل لا يبطل السلم. "وجه" قولهما: أن
قبض الزيوف وقع صحيحا؛ لأنه قبض جنس الحق، ألا
يرى أنه لو تجوز بها جاز ولو لم يكن من جنس
حقه لما جاز كالستوق، إلا أنه فاتته صفة
الجودة بالزيافة فكانت من جنس حقه أصلا لا
وصفا فكانت الزيافة فيها عيبا، والمعيب لا
يمنع صحة القبض كما في بيع العين إذا كان
المبيع معيبا وبالرد ينتقض القبض لكن مقصورا
على حالة الرد ولا يستند الانتقاض إلى وقت
القبض فيبقى القبض صحيحا، كان ينبغي أن لا
يشترط قبض بدله في مجلس الرد؛ لأن المستحق
بعقد السلم القبض مرة واحدة، إلا أنه شرط؛ لأن
للرد شبها بالعقد حيث لا يجب القبض في مجلس
الرد، إلا بالرد كما لا يجب القبض في مجلس
العقد، إلا بالعقد فألحق مجلس الرد بمجلس
العقد. "وجه" قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله
أن الزيوف من جنس حق المسلم إليه لكن أصلا لا
وصفا، ولهذا ثبت له حق الرد بفوات حقه عن
الوصف فكان حقه في الأصل والوصف جميعا فصار
بقبض الزيوف قابضا حقه من حيث الأصل لا من حيث
الوصف، إلا أنه إذا رضي به فقد أسقط حقه عن
الوصف وتبين أن المستحق هو قبض الأصل دون
الوصف لإبرائه إياه عن الوصف، فإذا قبضه فقد
قبض حقه فيبطل المستحق، وإن لم يرض به تبين
أنه لم يقبض حقه؛ لأن حقه في الأصل والوصف
جميعا فتبين أن الافتراق حصل لا عن قبض رأس
مال السلم.هذا إذا وجده زيوفا أو نبهرجة، فأما
إذا وجده ستوقا أو رصاصا، فإن وجده بعد
الافتراق بطل السلم؛ لأن الستوق ليس من جنس
الدراهم، ألا يرى أنها لا تروج في معاملات
الناس فلم تكن من جنس حقه أصلا ووصفا فكان
الافتراق عن المجلس لا عن قبض رأس المال فيبطل
السلم، وسواء تجوز به أو لا؛ لأنه إذا لم يكن
من جنس حقه كان التجوز به استبدالا برأس مال
السلم قبل القبض وإنه لا يجوز، بخلاف الزيوف
فإنها من جنس حقه على ما بينا، وإن وجده في
المجلس فاستبدل فالسلم ماض؛ لأن قبضه. وإن لم
يصح فقد بقي الواجب في ذمة رب السلم دراهم هي
حق المسلم إليه، فإذا قبضها فقد قبض حقه في
المجلس، والتحق قبض الستوق بالعدم كأنه لم
يقبض أصلا وأخر قبض رأس المال إلى آخر المجلس،
وكذا في الصرف غير أن هناك إذا ظهر أن الدراهم
ستوقة أو رصاص بعد الافتراق عن المجلس حتى بطل
الصرف فقابض الدينار يسترد دراهمه الستوقة
وقابض الدراهم يسترد من قابض الدينار عين
ديناره إن كان قائما ومثله إن كان هالكا، ولا
خيار لقابض الدينار كذا ذكر محمد في الأصل؛
لأنه إذا ظهر أن المقبوض ستوقة أو رصاص فقد
ظهر أن قبضه لم يصح فتبين أن الافتراق حصل لا
عن قبض فيبطل السلم وبقي الدينار في يده من
غير سبب شرعي فأشبه يد الغصب واستحقاق المبيع
في بيع العين، وهناك يسترد عينه إن كان قائما
كذا ههنا وطعن عيسى بن أبان وقال: ينبغي أن
يكون قابض الدينار بالخيار، إن شاء رد عين
الدينار. وإن شاء
ج / 5 ص -206-
رد مثله
ولا يستحق عليه رد عين الدينار، وإن كان قائما
؛ لأنه لم يكن متعينا في العقد، فلا يكون
متعينا في الفسخ، والاعتبار باستحقاق المبيع
غير سديد ؛ لأن هناك ظهر بطلان العقد من
الأصل؛ لأنه إذا لم يجز المستحق تبين أن العقد
وقع باطلا من حين وجوده وهناك العقد وقع صحيحا
وإنما بطل في المستقبل لعارض طرأ عليه بعد
الصحة فلا يظهر بطلانه من الأصل، وبعض مشايخنا
أخذوا بقول عيسى ونصروه وحملوا جواب الكتاب
على ما إذا اختار قابض الدينار رد عين
الدينار، والله سبحانه وتعالى أعلم.هذا الذي
ذكرنا إذا وجد المسلم إليه كان رأس المال
مستحقا أو معيبا أو زيوفا أو ستوقا، فأما إذا
وجد بعضه دون بعض ففي الاستحقاق إذا لم يجز
المستحق ينقص العقد بقدر المستحق، سواء كان
رأس المال عينا أو دينا بلا خلاف؛ لأن القبض
انتقص فيه بقدره، وكذا في الستوق، والرصاص
فبطل العقد بقدره قليلا كان أو كثيرا بالإجماع
لما قلنا، وكذا هذا في الصرف غير أن هناك قابض
الستوقة يصير شريكا لقابض الدينار في الدينار
الذي دفعه بدلا عن الدراهم فيرجع عليه بعينه
وعلى قول عيسى: قابض الدينار بالخيار على ما
ذكرنا. وأما في الزيوف، والنبهرجة فقياس قول
أبي حنيفة رحمه الله أن ينقص العقد بقدره إذا
لم يتجوز، ورده استبدل في مجلس الرد أو لا وهو
قول زفر؛ لأنه تبين أن قبض المردود لم يصح
فتبين أن الافتراق حصل لا عن قبض رأس المال في
قدر المردود فيبطل السلم بقدره، إلا أنه
استحسن في القليل، وقال: إن كان قليلا فرده
واستبدل في ذلك المجلس فالعقد ماض في الكل،
وإن كان كثيرا يبطل العقد بقدر المردود؛ لأن
الزيافة في القليل مما لا يمكن التحرز عنه؛
لأن الدراهم لا تخلو عن ذلك فكانت ملحقة
بالعدم، بخلاف الكثير واختلفت الرواية عن أبي
حنيفة في الحد الفاصل بين القليل والكثير مع
اتفاق الروايات على أن الثلث قليل وفي رواية
عنه أن ما زاد على الثلث يكون كثيرا، وفي
رواية النصف، وفي رواية عنه الزائد على النصف،
وكذا هذا في الصرف غير أن هناك إذا كثرت
الزيوف فرد حتى بطل العقد في قدر المردود عند
أبي حنيفة يصير شريكا لقابض الدينار فيسترد
منه عينه. وعلى قول عيسى: قابض الدينار
بالخيار على ما بينا ولو كان تصرف فيه أو
أخرجه عن ملكه لا يفسخ عليه تصرفه وعليه مثله
كما في البيع الفاسد على ما مر، وكل جواب
عرفته في السلم والصرف فهو الجواب في عقد
تتعلق صحته بالقبض قبل الافتراق مما سوى الصرف
والسلم كمن كان له على آخر دنانير فصالح منها
على دراهم، أو كان له على آخر مكيل، أو موزون
موصوف في الذمة، أو غيرهما مما يثبت مثله في
الذمة دينا فصالح منها على دراهم، أو نحو ذلك
من العقود مما يكون قبض الدراهم فيه قبل
الافتراق عن المجلس شرطا لصحة العقد، فقبض
الدراهم، ثم وجدها مستحقة، أو زيوفا، أو
نبهرجة، أو ستوقة، أو رصاصا كلها، أو بعضها
قبل الافتراق، أو بعده، والله سبحانه وتعالى
أعلم. وعلى هذا تخرج مقاصة رأس مال السلم بدين
آخر على المسلم إليه بأن وجب على المسلم إليه
دين مثل رأس المال أنه هل يصير رأس المال
قصاصا بذلك الدين أم لا؟ فهذا لا يخلو إما إن
وجب دين آخر بالعقد. وإما إن وجب بعقد متقدم
على عقد السلم، وإما إن وجب بعقد متأخر عنه،
فإن وجب بعقد متقدم على السلم بأن كان رب
السلم باع المسلم إليه ثوبا بعشرة دراهم ولم
يقبض العشرة حتى أسلم إليه عشرة دراهم في كر
حنطة، فإن جعلا الدينين قصاصا، أو تراضيا
بالمقاصة يصير قصاصا، وإن أبى أحدهما لا يصير
قصاصا وهذا استحسان، والقياس أن لا يصير قصاصا
كيف ما كان، وهو قول زفر. "وجه" قوله: أن قبض
رأس المال شرط، والحاصل بالمقاصة ليس بقبض
حقيقة فكان الافتراق حاصلا لا عن قبض رأس
المال فبطل السلم. "ولنا" أن العقد ينعقد
موجبا للقبض حقيقة لولا المقاصة، فإذا تقاصا
تبين أن العقد انعقد موجبا قبضا بطريق
المقاصة، وقد وجد. ونظيره ما قلنا في الزيادة
في الثمن والمثمن أنها جائزة استحسانا وتلتحق
بأصل العقد؛ لأن بالزيادة تبين أن العقد وقع
على المزيد عليه وعلى الزيادة جميعا كذا هذا،
وإن وجب بعقد متأخر عن السلم لا يصير قصاصا
وإن جعلاه قصاصا، إلا رواية عن أبي يوسف شاذة؛
لأن بالمقاصة لا يتبين أن العقد وقع موجبا
قبضا بطريق المقاصة من حين وجوده؛ لأن المقاصة
تستدعي قيام دينين ولم يكن عند عقد السلم، إلا
دين واحد فانعقد موجبا حقيقة القبض وإنه لا
يحصل بالمقاصة.هذا إذا وجب الدين بالعقد، فأما
إذا وجب بالقبض كالغصب
ج / 5 ص -207-
والقرض
فإنه يصير قصاصا، سواء جعلاه قصاصا، أو لا بعد
أن كان وجوب الدين الآخر متأخرا عن العقد؛ لأن
العقد إن انعقد موجبا قبضا حقيقة فقد وجد ههنا
لكن قبض الغصب والقرض قبض حقيقة فيجعل عن قبض
رأس المال؛ لأنه واجب، وقبض الغصب محظور وقبض
القرض ليس بواجب فكان إيقاعه عن الواجب أولى،
بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك لم يوجد القبض حقيقة،
والقبض بطريق المقاصة يمكن في أحد الفصلين دون
الآخر على ما بينا، والله عز وجل أعلم.هذا إذا
تساوى الدينان، فأما إذا تفاضلا بأن كان
أحدهما أفضل، والآخر أدون فرضي أحدهما بالقصاص
وأبى الآخر فإنه ينظر إن أبى صاحب الأفضل لا
يصير قصاصا؛ لأن حقه في الجودة معصوم محترم
فلا يجوز إبطاله عليه من غير رضاه، وإن أبى
صاحب الأدون يصير قصاصا؛ لأنه لما رضي به صاحب
الأفضل فقد أسقط حقه عن الفضل كأنه قضى دينه
فأعطاه أجود مما عليه وهناك يجبر على الأخذ
كذا هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك
المقاصة في ثمن الصرف تخرج على هذه التفاصيل
التي ذكرناها في رأس مال السلم، فافهم والله
الموفق للصواب.ثم ما ذكرنا من اعتبار هذا
الشرط، وهو قبض رأس المال حال بقاء العقد،
فأما بعد ارتفاعه بطريق الإقالة، أو بطريق آخر
فقبضه ليس بشرط في مجلس الإقالة، بخلاف القبض
في مجلس العقد وقبض بدل الصرف في مجلس الإقالة
أنه شرط لصحة الإقالة كقبضهما في مجلس العقد.
"ووجه" الفرق أن القبض في مجلس العقد في
البابين ما هو شرط لعينه، وإنما هو شرط
للتعيين، وهو أن يصير البدل معينا بالقبض
صيانة عن الافتراق عن دين بدين على ما بينا
ولا حاجة إلى التعيين في مجلس الإقالة في
السلم؛ لأنه لا يجوز استبداله فيعود إليه عينه
فلا تقع الحاجة إلى التعيين بالقبض فكان
الواجب نفس القبض فلا يراعى له المجلس، بخلاف
الصرف؛ لأن التعيين لا يحصل، إلا بالقبض؛ لأن
استبداله جائز فلا بد من شرط القبض في المجلس
ليتعين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل" وأما الذي يرجع إلى المسلم فيه فأنواع أيضا. "منها" أن يكون معلوم
الجنس كقولنا: حنطة أو شعير أو تمر. "ومنها"
أن يكون معلوم النوع.كقولنا: حنطة سقية أو
نحسية، تمر برني أو فارسي هذا إذا كان مما
يختلف نوعه، فإن كان مما لا يختلف فلا يشترط
بيان النوع. "ومنها" أن يكون معلوم
الصفة.كقولنا: جيد أو وسط أو رديء. "ومنها" أن
يكون معلوم القدر بالكيل أو الوزن أو العد أو
الذرع؛ لأن جهالة النوع، والجنس، والصفة ،
والقدر جهالة مفضية إلى المنازعة وأنها مفسدة
للعقد، وقال النبي: عليه الصلاة والسلام
"من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" |