تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشِّلْبِيِّ

 [مَا تَصِحّ فِيهِ الْحَوَالَةِ]

كِتَابُ الْحَوَالَةِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ التَّحْوِيلُ وَالنَّقْلُ وَمِنْهُ حَوَالَةُ الْغِرَاسِ نَقْلُهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هِيَ نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ) هَذَا فِي الشَّرْعِ وَفِي اللُّغَةِ هُوَ النَّقْلُ مُطْلَقًا عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَصِحُّ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ بِرِضَا الْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مِنْ شَرَائِطِهَا وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْقَبُولُ وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَالْأَمْرُ بِالِاتِّبَاعِ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالدُّيُونِ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَهُوَ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ وَهَذَا النَّقْلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْمُطَالَبَةِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ النَّقْلُ الشَّرْعِيُّ فِي الثَّابِتِ شَرْعًا ، وَأَمَّا الْعَيْنُ فَحِسِّيٌّ ، فَلَا يَنْتَقِلُ بِالنَّقْلِ الْحُكْمِيِّ بَلْ النَّقْلِ الْحِسِّيِّ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ رِضَاهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَتَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الذِّمَمُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْإِيفَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُمَاطِلُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَفِّي نَاقِصًا وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِالْعَكْسِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِدُونِ رِضَاهُ ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْمَالُ وَيَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَنِّفُ فِيهِ وَيَسْتَعْجِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَاهِلُ وَيُمْهِلُ وَيُسَامِحُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْمُحِيلَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ أَوْ لِيَسْقُطَ دَيْنُهُ وَنَظِيرُهَا الْكَفَالَةُ فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدُونِ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبَرِئَ الْمُحِيلُ بِالْقَبُولِ مِنْ الدَّيْنِ) وَهَذَا حُكْمُهَا وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّوَثُّقُ وَهُوَ بِازْدِيَادِ الْمُطَالَبَةِ كَالْكَفَالَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَبْرَأُ فِي الْكَفَالَةِ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالْحَوَالَةِ وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تَثْبُتُ عَلَى وَفْقِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ فَمَعْنَى الْحَوَالَةِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَتَى انْتَقَلَ مِنْ ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِيهَا وَالْكَفَالَةُ مَعْنَاهَا الضَّمُّ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُهَا ضَمُّ الذِّمَّةِ إلَى الذِّمَّةِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ، وَالِاسْتِيثَاقُ فِيهَا بِالضَّمِّ وَفِي الْحَوَالَةِ بِاخْتِيَارِ مَنْ هُوَ الْأَمْلَأُ مِنْ الْمُحِيلِ وَأَحْسَنُ مِنْ الْمُحِيلِ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا يُقَالُ لَوْ بَرِئَ لَمَا أُجْبِرَ الْمُحْتَالُ عَلَى الْقَبُولِ إذَا قَضَاهُ الْمُحِيلُ الدَّيْنَ كَمَا لَوْ قَضَاهُ الْأَجْنَبِيُّ لِأَنَّا نَقُولُ الْأَجْنَبِيُّ مُتَبَرِّعٌ وَالْمُحِيلُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدَ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى فَلَمْ يَكُنْ أَجْنَبِيًّا إذْ قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الْحَوَالَةِ} (قَوْلُهُ وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْقَبُولُ) أَيْ قَبُولُ الْمُحْتَالِ . ا هـ . (قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ) قَالَ الْكَمَالُ وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ فِي غَيْبَةِ الْمُحْتَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْكَفَالَةِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ رَجُلٌ الْحَالَّةَ لِلْغَائِبِ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِ إذَا بَلَغَهُ ، وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَحَالَ عَلَى غَائِبٍ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ صَحَّتْ . ا هـ . (قَوْلُهُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» رَوَاهُ فِي الْهِدَايَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا اتَّبَعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا بِلَفْظِ أُحِيلَ مَعَ لَفْظِهِ يَتْبَعُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَمِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْوَسَطِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ قِيلَ وَقَدْ يُرْوَى فَإِذَا أُحِيلَ بِالْفَاءِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاتِّبَاعِ لِلْمُلَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمًا ، فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي الظُّلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ وَعَنْ أَحْمَدَ لِلْوُجُوبِ ، وَالْحَقُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ هُوَ دَلِيلُ نَقْلِ الدَّيْنِ شَرْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةُ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَمْلِيَاءِ عِنْدَهُ مِنْ اللَّدَدِ فِي الْخُصُومَةِ وَالتَّعْسِيرِ مَا تَكْثُرُ بِهِ الْخُصُومَةُ وَالْمَضَارَّةُ ا هـ فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ هَذَا لَا يَطْلُبُ الشَّارِعُ اتِّبَاعَهُ بَلْ عَدَمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْخُصُومَاتِ وَالظُّلْمِ ، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الْمُلَاءَةُ وَحُسْنُ الْقَضَاءِ ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّخْفِيفِ عَلَى الْمَدْيُونِ وَالتَّيْسِيرِ وَمِنْ لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَمُبَاحٌ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ إضَافَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى النَّصِّ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ لِلَفْظِ الْأَمْرِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فَإِنْ جُعِلَ لِلْأَقْرَبِ أُضْمِرَ مَعَهُ الْقَيْدُ وَإِلَّا فَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهَا ا هـ فَتْح .
(قَوْلُهُ وَهُوَ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ) أَيْ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا يَتَأَتَّى نَقْلُهَا مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فَلَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ فِي الْعَيْنِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَحِسِّيٌّ إلَخْ) وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَوْصَافَ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ لِأَنَّا نَقُولُ أَحْكَامُ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَاهِرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ . ا هـ . مُسْتَصْفَى (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ) ذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ . ا هـ . هِدَايَةٌ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَيْ الْمُحِيلُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ عَاجِلًا بِانْدِفَاعِ الْمُطَالَبَةِ عَلَيْهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ وَآجِلًا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَحَيْثُ ثَبَتَتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَانَ .
(قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ لَا يَبْرَأُ) أَيْ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ أَيْضًا . ا هـ . فَتْحٌ بِمَعْنَاهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَوْدَ الْمُطَالَبَةِ إلَيْهِ بِالتَّوَى) أَيْ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْتَقَلَ إلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، فَإِذَا تَوَى يَرْجِعُ فَلَمْ يَكُنْ الْمُحِيلُ مُتَبَرِّعًا فِي الْقَضَاءِ . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ .

(4/171)


ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْبَرَاءَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَبْرَأُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ ، وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا إذَا أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحِيلَ مِنْ الدَّيْنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِحُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ ، وَالثَّانِي أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا أَحَالَ الْمُرْتَهِنَ بِالدَّيْنِ عَلَى إنْسَانٍ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَجَّلَ الدَّيْنَ . كَذَا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَذَكَرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَحَالَ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ سَقَطَتْ ، وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إذَا أَحَالَ غَرِيمَهُ عَلَى الرَّاهِنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مُطَالَبَةٌ بِالدَّيْنِ ، وَإِنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى رَجُلٍ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَاقِيَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُحِيلِ ، وَكَذَا إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بَاقِيَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ نَائِبُ الْمُحِيلِ فَصَارَ مُطَالَبَتُهُ كَمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ وَالْمُكَاتَبُ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فَإِنَّهُ إذَا أَحَالَ مَوْلَاهُ عَلَى رَجُلٍ يَعْتِقُ كَمَا تَثْبُتُ الْحَوَالَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْ الْمُكَاتَبِ وَإِذَا أَحَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رَجُلًا لَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْفَرْقُ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْمُكَاتَبِ مُعَلَّقَةٌ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَقَدْ بَرِئَتْ إذَا أَحَالَ الْمُكَاتَبُ مَوْلَاهُ عَلَى رَجُلٍ ، وَأَمَّا إذَا أَحَالَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ رَجُلًا لَا يَبْرَأُ ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلِلْوَثِيقَةِ فَيَبْقَى مَا بَقِيَتْ الْمُطَالَبَةُ وَيَبْطُلُ إذَا بَطَلَتْ ، وَكَذَا الْبَيْعُ .
اعْلَمْ أَنَّ إحَالَةَ الْمُكَاتَبِ مَوْلَاهُ عَلَى رَجُلٍ إنَّمَا تَجُوزُ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَيْنٌ أَوْ عَيْنٌ وَقَيَّدَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْمُكَاتَبِ فِي الْقَبْضِ فَيَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ كَانَ لَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِهِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلُ الدَّيْنِ إلَى الذِّمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَيْنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحِيلِ حُكْمًا ، فَلَوْ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَزِمَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ يَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ غَيْرَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُحِيلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَالْكَفَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَحَالَ غَرِيمَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَا يَصِحُّ إلَّا إذَا قَيَّدَهَا بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهَا تَبَرُّعٌ لَيْسَ الْمُكَاتَبُ مِنْ أَهْلِهِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَفَّلَ الْقِنُّ عَنْ مَوْلَاهُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَّا بِالتَّوَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّوَى ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُحِيلِ قَدْ بَرِئَتْ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً بِالْحَوَالَةِ ، فَلَا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ ، وَغَاصِبُ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْآخَرِ ، ثُمَّ بِالتَّوَى عِنْدَهُ لَا يَعُودُ الْحَقُّ عَلَى الْآخَرِ وَكَالْمَوْلَى إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمَدِينَ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ وَبَيْنَ اتِّبَاعِ الْمُعْتِقِ ، فَإِنْ اخْتَارُوا أَحَدَهُمَا وَتَوَى مَا عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْآخَرِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا فِي الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَقَالَ لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهِ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الثَّانِي لَا مُجَرَّدُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَخْتَلِفُ فِي نَفْسِ الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ فِي الْإِيفَاءِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ بَيْنَ النَّاسِ وَالْمَعْلُومُ كَالْمَشْرُوطِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَجِبُ الرُّجُوعُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي وَسَلَامَتُهُ مِنْ الْعَيْبِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَوْ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ عِنْدَ فَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالْعِوَضِ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ بِإِحَالَتِهِ هُوَ فَإِذَا فَاتَ الْخَلَفُ رَجَعَ بِالْأَصْلِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ يَخْلُفُ عَنْ الْآخَرِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِلْمَالِكِ الْخِيَارُ ابْتِدَاءً بِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ فَيَأْخُذُ مِنْهُ عِوَضَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِيلَهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ ، وَكَذَا الْمَوْلَى وَالْمُعْتَقُ أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِخَلَفٍ عَنْ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى أَحَدِهِمَا مُعَيَّنًا حَتَّى يَنْقُلَهُ إلَى الْآخَرِ فَافْتَرَقَا . قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهُوَ أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْبَرَاءَةِ) أَيْ بَرَاءَةِ الْمُحِيلِ . ا هـ . (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَبْرَأُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الدَّيْنِ وَقَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَبَرِئَ الْمُحِيلُ بِالْقَبُولِ مِنْ الدَّيْنِ) اخْتِيَارًا لِمَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ وَإِذَا بَرِئَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ الدَّيْنِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الْمُطَالَبَةِ أَيْضًا عِنْدَهُ كَمَا صَرَّحَ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُمَا الشَّارِحُ . ا هـ . (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ) أَيْ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُحْتَالِ وَتَمْتَنِعُ مُطَالَبَتُهُ لِلْمُحَالِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ . ا هـ . (قَوْلُهُ كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ) سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ وَاَلَّذِي يَأْتِي هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ا هـ .
{فَرْعٌ} قَالَ فِي السِّرَاجِيَّةِ رَجُلٌ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ بِمَالٍ فَأَحَالَ الْغَرِيمَ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ فَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُ الرَّهْنِ حَتَّى يَقْبِضَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَالْمُرْتَهِنُ لَوْ أَحَالَ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الرَّهْنِ . ا هـ . تَتَارْخَانْ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ إلَخْ) قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ التَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا وَلَا يَتْرُكَ مَالًا مُعَيَّنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلًا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحْتَالِ لَهُ ، وَالثَّانِي أَنْ يَجْحَدَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْتَالُ لَهُ بَيِّنَةً وَحَلَفَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَقَدْ بَرِئَ وَعَادَ الْمَالُ إلَى الْمُحِيلِ وَلَا يَكُونُ التَّوَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ . وَعِنْدَهُمَا التَّوَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : وَجْهَانِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ . أَمَّا إذَا جَحَدَ الْمَالَ وَحَلَفَ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ بَعْدَ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَقَدْ تَوَى الْحَقَّ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ مُفْلِسًا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ ذِمَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحَقُّ وَلَا تَرِكَةٌ فَسَقَطَ الْحَقُّ عَنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ كَانَتْ بَرَاءَةَ نَقْلٍ وَاسْتِيفَاءٍ لَا بَرَاءَةَ إسْقَاطٍ فَلَمَّا تَعَذَّرَ

(4/172)


وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا) أَيْ التَّوَى يَكُونُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَجْحَدَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحِيلِ وَلَا لِلْمُحْتَالِ أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا بِأَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا عَيْنًا ، وَلَا دَيْنًا ، وَلَا كَفِيلًا ؛ لِأَنَّ التَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِهِمَا وَهَذَا إذَا ثَبَتَ مَوْتُهُ مُفْلِسًا بِتَصَادُقِهِمَا ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ الْمُحْتَالُ مَاتَ مُفْلِسًا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ كَمَا إذَا كَانَ هُوَ حَيًّا وَأَنْكَرَ الْيُسْرَ .
وَلَوْ فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ لَا يَكُونُ تَوًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا هُوَ تَوًى ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَخْذِ مِنْهُ بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ وَقَطْعِهِ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَهُمَا ، فَصَارَ كَعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالْجُحُودِ أَوْ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ وَتَعَذُّرُ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ بِغَيْبَةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّوَى فِي الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِخُرُوجِ مَحَلِّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِلْوُجُوبِ بِمَوْتِهِ مُعْدَمًا أَوْ بِالْجُحُودِ وَلِأَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ يُمْسِي الْإِنْسَانُ فَقِيرًا وَيُصْبِحُ غَنِيًّا وَبِالْعَكْسِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَغْنَى فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِأَنْ مَاتَ لَهُ قَرِيبٌ يَرِثُهُ وَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ جَرَحَ الْخَصْمُ الشُّهُودَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ لِاحْتِمَالِ تَوْبَتِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْإِفْلَاسِ وَعَدَمِهِ ، وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ رَهْنًا رَهَنَهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ لَمْ يُسَلِّطْهُ يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا إذْ لَمْ يَبْقَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ وَالرَّهْنُ بِدَيْنٍ ، وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَ كَفِيلًا بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ خَلَفٌ عَنْهُ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ طَلَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمَا أَحَالَ فَقَالَ الْمُحِيلُ أَحَلْت بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك ضَمِنَ الْمُحِيلُ مِثْلَ الدَّيْنِ) أَيْ لِأَنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ قَدْ تَحَقَّقَ بِإِقْرَارِ الْمُحِيلِ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ إقْرَارًا مِنْهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ، وَلَا قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَقَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بَلْ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً إذْ الْمُقَيَّدَةُ تَوْكِيلٌ بِالْأَدَاءِ وَالْقَبْضِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُ لَهُ . قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَالَ الْمُحِيلُ لِلْمُحْتَالِ أَحَلْتُك لِتَقْبِضَهُ لِي فَقَالَ الْمُحْتَالُ أَحَلْتَنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك فَالْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ) لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا لِلْمُحْتَالِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْحَوَالَةِ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْوَكَالَةِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ إذَا صَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دُيُونًا وَامْتَنَعَ الْمُضَارِبُ عَنْ التَّقَاضِي وَلَيْسَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَا يُجْبَرُ ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ أَحِلْ رَبَّ الْمَالِ أَيْ وَكِّلْهُ فَإِذَا احْتَمَلَ التَّوْكِيلَ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمُحِيلِ بِدَعْوَاهُ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ إذْ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ فَرَاغَ الذِّمَمِ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ الدَّيْنَ عَلَى الْمُحِيلِ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَالٍ لَهُ بَاعَهُ الْمُحِيلُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ مِنْهُ وَادَّعَى أَنَّ الدَّيْنَ لَهُ وَوَصَلَ إلَيْهِ عَيْنُ حَقِّهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَيْضًا إذَا أَنْكَرَ الْمُحِيلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَالْإِنْسَانُ يَتَصَرَّفُ ظَاهِرًا لِنَفْسِهِ لَا يُسْمَعُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ كَانَ لَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ أَحَالَ بِمَالِهِ عِنْدَ زَيْدٍ وَدِيعَةً صَحَّتْ ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ) أَيْ إذَا كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ دَرَاهِمُ عِنْدَ شَخْصٍ فَأَحَالَ بِهَا غَرِيمَهُ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَرِئَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةٌ بِهَا إذْ لَمْ يَلْتَزِمْ التَّسْلِيمَ إلَّا مِنْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالْمَغْصُوبِ حَيْثُ لَا يَبْرَأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْقِيمَةَ وَالْفَوَاتَ إلَى خَلَفٍ كَلَا فَوَاتٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَغْصُوبُ لَا إلَى خَلَفٍ بِأَنْ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ صَارَ مِثْلَ الْوَدِيعَةِ وَقَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِالدَّيْنِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ : مُقَيَّدَةٌ وَمُطْلَقَةٌ فَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يُقَيِّدَهَا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ نَحْوِهِ وَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يُرْسِلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاسْتِيفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ ، وَأَمَّا تَفْلِيسُ الْقَاضِي بِالشُّهُودِ حَالَ حَيَاةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَذَاكَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُمَا يَرَيَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَجْزٌ يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ بِحُدُوثِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ غَادٍ وَرَائِحُ ، فَلَا يَعُودُ إلَى الْمُحِيلِ كَمَا قَبْلَ التَّفْلِيسِ بِخِلَافِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ عَجْزٌ لَا يُتَوَهَّمُ ارْتِفَاعُهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ إلَخْ) كَذَا فِي الشَّافِي وَالْمَبْسُوطِ وَفِي شَرْحِ النَّاصِحِيِّ الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ مَعَ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ لِإِنْكَارِهِ عَوْدَ الدَّيْنِ . ا هـ . فَتْحُ الْقَدِيرِ (قَوْلُهُ وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ رَهْنًا رَهَنَهُ غَيْرُهُ) أَيْ رَهَنَهُ غَيْرُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُحْتَالِ ثُمَّ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا يَبْطُلُ حُكْمُ الدَّيْنِ فِي الدُّنْيَا فَيَبْطُلُ الرَّهْنُ بِهِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ أَمَّا لَوْ فَرَضْنَا الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ مِلْكَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يَأْتِي مَا قَالَهُ مِنْ مَوْتِهِ مُفْلِسًا . ا هـ ..

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَإِنْ طَلَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمَا أَحَالَ) أَيْ إذَا أَرَادَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ إلَى الْمُحْتَالِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى إلَى الْمُحِيلِ فَقَالَ الْمُحِيلُ لَيْسَ لَك أَنْ تَرْجِعَ عَلَيَّ لِأَنِّي كُنْت أَحَلْت عَلَيْك بِدَيْنِي فَقَالَ الْمُحْتَال عَلَيْهِ بَلْ لِي أَنْ أَرْجِعَ عَلَيْك لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ . ا هـ . أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ) أَيْ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الدَّيْنُ . ا هـ . غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يَدَّعِ) أَيْ الْمُحْتَالُ . ا هـ . (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ) أَيْ لِتَيَسُّرِ مَا يَقْضِي بِهِ وَحُضُورِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ . ا هـ . فَتْحٌ .

(4/173)


الْحَوَالَةَ إرْسَالًا ، وَلَا يُقَيِّدَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ يُحِيلَهُ عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا .
وَالْكُلُّ جَائِزٌ لِمَا رَوَيْنَا وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ أُمُورًا جَائِزَةً عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَهِيَ تَبَرُّعُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ فِي ذِمَّتِهِ وَالْإِيفَاءِ وَتَوْكِيلِ الْمُحْتَالِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَأَمْرِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ إلَى الْمُحْتَالِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ، وَحُكْمُ الْمُطْلَقَةِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ حَقُّ الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بَعْدَ أَدَائِهِ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِرِضَاهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ إذَا لُوزِمَ وَيَحْبِسَهُ إذَا حُبِسَ حَتَّى يُخَلِّصَهُ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُحِيلِ كَانَ مُؤَجَّلًا فِي حَقِّ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ الدَّيْنُ حَالًّا بِمَوْتِ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْبَيْنِ وَصَارَ أَجْنَبِيًّا وَيَحِلُّ بِمَوْتِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَجَلَ كَانَ حَقَّهُ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَحُكْمُ الْمُقَيَّدَةِ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا أَحَالَ بِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ عَلَى مِثَالِ الرَّهْنِ ، وَلَوْ مَلَكَ الْمُطَالَبَةَ لَبَطَلَ حَقُّ الْمُحْتَالِ ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِالْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ بَلْ تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِأَخْذِ مَا عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهِ فَكَذَا بِأَخْذِهِ بِخِلَافِ الْمُقَيَّدَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْأَدَاءَ إلَّا مِنْهَا ، فَلَوْ أَخَذَ لَبَطَلَ حَقُّهُ ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ عَنْ الدَّيْنِ أَخَذَ الْمُحِيلُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَبْرَأَ الرَّاهِنُ يَرْجِعُ بِرَهْنِهِ .
وَلَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ ، وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ ، وَلَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ كَانَ الدَّيْنُ وَالْعَيْنُ الْمُحْتَالُ بِهِمَا بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْتَصُّ بِهِ الْمُحْتَالُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ وَالْمُحِيلُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَخْذُهُ فَصَارَ كَالْخَارِجِ عَنْ مِلْكِهِ ، فَلَا تُقْضَى بِهِ دُيُونُهُ وَلَئِنْ كَانَ مِلْكُهُ ثَابِتًا فَتَعَلُّقُ حَقِّ الْمُحْتَالِ سَابِقٌ فَصَارَ كَالْمَرْهُونِ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ سَابِقًا عَلَى حَقِّهِمْ وَكَدِينِ الصِّحَّةِ يُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ لِمَا قُلْنَا وَلَنَا أَنَّ هَذَا مَالُ الْمُحِيلِ لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُحْتَالُ ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَاطِلٌ لَكِنْ بِالْحَوَالَةِ وَجَبَ لِلْمُحْتَالِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَعَ بَقَاءِ دَيْنِ الْمُحِيلِ وَلِهَذَا لَوْ تَوَى مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ يَتْوَى عَلَى الْمُحِيلِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ أَيْضًا يَدُ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْيَدِ عَلَى مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْ الْحَوَالَةَ إلَّا لِيَتَمَلَّكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ أَوْ لِيُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، فَلَوْ أَخَذَهُ يَفُوتُ الرِّضَا فَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَيْهِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُحْتَالِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ تَحَوَّلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَلَا يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ الْمُحِيلِ كَمَا إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ .
فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ فَاتَ الرِّضَا بِالْحَوَالَةِ فَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَيَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ وَاسْتَوْضَحَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ بِالْحَوَالَةِ بَرِيءٌ مِنْ دَيْنِ الْمُحْتَالِ وَصَارَ الْمُحْتَالُ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُ حَقٌّ بِمَالِهِ ، فَلَا يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ الْمُحِيلِ وَإِذَا قَسَمَ الدَّيْنَ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ لَا يَرْجِعُ الْمُحْتَالُ عَلَى الْمُحِيلِ بِحِصَّةِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ صَارَ مُسْتَحَقًّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ كَمَا لَوْ اسْتَحَقَّ الرَّهْنَ ، وَلَا بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِ بَعْدَ الْمُحَاصَّةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَاوِيًا ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ) أَيْ بِمَوْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ إلَى أَجَلِهِ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ عَنْ الدَّيْنِ أَخَذَ الْمُحِيلُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ) وَقَدْ قَالُوا لَوْ أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا بِمَالٍ ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلَ نَقَدَ الْمَالَ الَّذِي أَحَالَهُ بِهِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ عِنْدَنَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَإِنْ بَرِئَ فِي الظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ مُتَرَقَّبٌ فَهُوَ بِالْقَضَاءِ يَقْصِدُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ حَقَّ الرُّجُوعِ فَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُتَبَرِّعًا كَالْوَارِثِ إذَا قَضَى دَيْنَ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ إذَا أَدَّى الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ حَقًّا بِالْأَدَاءِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا قَالُوا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ أَحَالَ صَاحِبَ الْمَالِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَوَالَةً مُطْلَقَةً وَلَمْ يَقُلْ أَحَلْتُهُ عَلَيْك بِمَالِي عَلَيْك أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَهُ مَا لِي عَلَيْك فَقَبِلَ فَعَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَلْفَانِ : أَلْفُ الْمُحِيلِ وَأَلْفُ الْمُحْتَالِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ بِأَلْفٍ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ لَا تَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ مَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَمْ تَتَعَلَّقْ الْحَوَالَةُ بِنَفْسِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْهَا بِهِ ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ فَبَقِيَ الدَّيْنُ بِحَالِهِ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَحَالَهُ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ وَفِي يَدِهِ أَلْفٌ وَدِيعَةٌ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَهُ مُطَالَبَتُهُ بِهَا كَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَالُوا وَإِذَا أَدَّى الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْمَالَ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ الْمُحْتَالُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ الْمُحَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْأَدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَمْلِكُهُ بِهَا ، وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحْتَالُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ بَرِئَ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إسْقَاطٌ وَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ وَمَتَى لَمْ يَمْلِكْ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَرْجِعْ ا هـ أَقْطَعُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ) أَيْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ فَفِي الْهِبَةِ وَالْإِرْثِ يَرْجِعُ وَفِي الْإِبْرَاءِ لَا يَرْجِعُ . ا هـ . كَافِي (قَوْلُهُ وَلَوْ مَاتَ الْمُحِيلُ) أَيْ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُحْتَالُ دَيْنَ الْحَوَالَةِ فَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ . ا هـ . مِعْرَاجُ الدِّرَايَةِ.

(4/174)


قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكُرِهَ السَّفَاتِجُ) وَهُوَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ وَصُورَتُهُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَهُ إذَا خَافَ عَلَيْهِ الْفَوَاتَ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْأَمْنِ وَهُوَ تَعْرِيبُ سفته وَسَفَّتْهُ شَيْءٌ مُحْكَمٌ وَسُمِّيَ هَذَا الْقَرْضُ بِهِ لِإِحْكَامِ أَمْرِهِ وَإِنَّمَا كُرِهَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا» وَقِيلَ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .