مجمع
الأنهر في شرح ملتقى الأبحر [كِتَابُ الشَّهَادَاتِ]
ِ أَخَّرَهَا عَنْ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا كَالْوَسِيلَةِ، وَهُوَ
الْمَقْصُودُ وَشُرُوطُهَا كَثِيرَةٌ تَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ
حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ: إنَّ شَرَائِطَهَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ.
وَشَرَائِطُ التَّحَمُّلِ ثَلَاثَةٌ.
وَشَرَائِطُ الْأَدَاءِ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْهَا عَشْرُ شَرَائِطَ عَامَّةٌ
وَمِنْهَا سَبْعَةُ شَرَائِطَ خَاصَّةٌ.
وَشَرَائِطُ نَفْسِ الشَّهَادَةِ ثَلَاثَةٌ، وَشَرْطُ مَكَانِهَا وَاحِدٌ،
وَسَبَبُ وُجُوبِهَا طَلَبُ ذِي الْحَقِّ أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّهِ؛
فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُ الْحَقِّ،
وَخَافَ فَوْتَ الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِلَا
طَلَبٍ، انْتَهَى.
هَذَا لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِدُونِ
الطَّلَبِ مُطْلَقًا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ صَاحِبَ الْحَقِّ
بِأَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنْ دَعَاهُ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا
يَجِبُ بَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ ادَّعَى عِنْدَ الْقَاضِي
وَلَمْ يَجِدْ شَاهِدًا يُتِمُّ بِهِ مُدَّعَاهُ، وَذَلِكَ الشَّاهِدُ
حَاضِرٌ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ فَهَذَا فِيهِ طَلَبٌ حُكْمِيٌّ لِأَنَّ
الْمُدَّعِيَ مَا ادَّعَى عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَّا وَهُوَ يَطْلُبُ مَنْ
يَشْهَدُ لَهُ بِحَقِّهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَقْدِسِيُّ.
وَمَحَاسِنُهَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِي قَوْله
تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:
8] .
وَرُكْنُهَا
(2/184)
اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الشَّهَادَةِ،
وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ بِهَا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً
مُلْزِمَةً لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَالْمُحْتَمِلُ
لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ تُرِكَ بِالنُّصُوصِ
وَالْإِجْمَاعِ، وَالشَّهَادَةُ فِي اللُّغَةِ خَبَرٌ قَاطِعٌ، وَقَدْ
شَهِدَ كَعَلِمَ وَكَرُمَ، وَقَدْ يُسَكَّنُ هَاؤُهُ، وَشَهِدَهُ
كَسَمِعَهُ شُهُودًا حَضَرَهُ فَهُوَ شَاهِدٌ وَقَوْمٌ شُهُودٌ أَيْ
حُضُورٌ، وَشَهِدَ لَهُ بِكَذَا شَهَادَةً أَيْ أَدَّى مَا عِنْدَهُ فَهُوَ
شَاهِدٌ، وَالْجَمْعُ شُهَّدٌ وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلْيُطَالَعْ.
وَفِي التَّبْيِينِ: هِيَ إخْبَارٌ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ لَا عَنْ
تَخْمِينٍ وَحُسْبَانٍ هَذَا فِي اللُّغَةِ؛ فَلِهَذَا قَالُوا: إنَّهَا
مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ الْمُعَايَنَةِ،
وَسُمِّيَ الْأَدَاءُ شَهَادَةً إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى
الْمُسَبَّبِ، انْتَهَى. وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا هُوَ
مَعْنَاهَا الشَّرْعِيُّ أَيْضًا كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَعَنْ هَذَا قَالَ (هِيَ) أَيْ الشَّهَادَةُ (إخْبَارٌ) شَرْعِيٌّ
(بِحَقٍّ) أَيْ بِمَالٍ أَوْ غَيْرِهِ (لِلْغَيْرِ) أَيْ حَصَلَ لِغَيْرِ
الْمُخْبِرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَيَخْرُجُ
عَنْهُ الْإِنْكَارُ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ بِهِ لِنَفْسِهِ فِي يَدِهِ،
وَكَذَا دَعْوَى الْأَصِيلِ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ لِنَفْسِهِ فِي يَدِ
غَيْرِهِ وَكَذَا دَعْوَى الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِخْبَارٍ
لِلْغَيْرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا ظُنَّ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ
(عَلَى الْغَيْرِ) فَخَرَجَ الْإِقْرَارُ إذْ هُوَ إخْبَارٌ عَلَى نَفْسِهِ
وَتَدْخُلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَاءِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِمَا
(عَنْ مُشَاهَدَةٍ لَا عَنْ ظَنٍّ) وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ
الْمُصْطَفَوِيَّةُ حَيْثُ قَالَ: «إذَا رَأَيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ
فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَدَعْ» .
وَفِي الْعِنَايَةِ، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ
إخْبَارٍ صَادِقٍ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ،
فَالْإِخْبَارُ كَالْجِنْسِ يَشْمَلُهَا وَالْأَخْبَارَ الْكَاذِبَةَ،
وَقَوْلُهُ " صَادِقٍ " يُخْرِجُ الْكَاذِبَةَ وَقَوْلُهُ فِي مَجْلِسِ
الْحُكْمِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ يُخْرِجُ الْأَخْبَارَ الصَّادِقَةَ
غَيْرَ الشَّهَادَاتِ، انْتَهَى. وَيَرِدُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ فِي
مَجْلِسِ الْقَاضِي: أَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ كَذَا لِبَعْضِ الْعُرْفِيَّاتِ،
وَالْأَوْلَى أَنْ يُزَادَ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَمَنْ تَعَيَّنَ لِتَحَمُّلِهَا) أَيْ الشَّهَادَةِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ
غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ (لَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ
مِنْهُ) أَيْ مِنْ التَّحَمُّلِ إذَا طُلِبَ لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ
مِنْ التَّحَمُّلِ مِنْ تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ
لِلتَّحَمُّلِ بِأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ (وَيُفْتَرَضُ
أَدَاؤُهَا) أَيْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ (بَعْدَ التَّحَمُّلِ إذَا
طُلِبَتْ) الشَّهَادَةُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الشَّاهِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقَوْله
تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ نَهْيًا عَنْ
الْإِبَاءِ وَالْكِتْمَانِ لَكِنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَكُونُ
أَمْرًا بِضِدِّهِ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ
لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاشْتِغَالِ بِهِ فَكَانَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ
فَرْضًا قَطْعًا كَفَرِيضَةِ الِانْتِهَاءِ عَنْ الْكِتْمَانِ فَصَارَ
كَالْأَمْرِ بِهِ بَلْ آكَدُ وَلِهَذَا أَسْنَدَ الْإِثْمَ إلَى الْآلَةِ
الَّتِي وَقَعَ بِهَا الْفِعْلُ وَهُوَ الْقَلْبُ لِمَا عُرِفَ أَنَّ
إسْنَادَ الْفِعْلِ إلَى مَحَلِّهِ أَقْوَى مِنْ الْإِسْنَادِ إلَى كُلِّهِ
فَقَوْلُهُ أَبْصَرْتُهُ بِعَيْنِي آكَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَبْصَرْتُهُ،
وَإِسْنَادُهُ
(2/185)
إلَى أَشْرَفِ الْجَوَارِحِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ بَعْدَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَدَاءُ
الشَّهَادَةِ إنَّمَا يَجِبُ إذْ كَانَ مَوْضِعُ الشَّاهِدِ قَرِيبًا مِنْ
مَوْضِعِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ
يَجِيءَ إلَى الْقَاضِي وَيَرْجِعَ بَعْدَهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا إلَى
مَنْزِلِهِ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا، وَلَوْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ عَلَى مَرْكَبِ
الْمُدَّعِي، وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي الْبَحْرِ: لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الشَّاهِدِ عَدْلَانِ أَنَّ
الْمُدَّعِيَ قَبَضَ دَيْنَهُ أَوْ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا
أَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا
عَنْ الْقَاتِلِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالدَّيْنِ وَالنِّكَاحِ
وَالْبَيْعِ وَالْقَتْلِ (إلَّا أَنْ يَقُومَ الْحَقُّ بِغَيْرِهِ) بِأَنْ
يَكُونَ فِي الصَّكِّ سِوَاهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ الْحَقُّ فَحِينَئِذٍ
لَا يُفْتَرَضُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَضِيعُ بِامْتِنَاعِهِ وَلِأَنَّهَا
فَرْضُ كِفَايَةٍ.
، وَفِي الدُّرَرِ، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ أَنَّ
الْقَاضِيَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَإِنْ
عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَوْ كَانُوا جَمَاعَةً
فَأَدَّى غَيْرُهُ - مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقُبِلَتْ لَا
يَأْثَمُ، وَإِنْ أَدَّى غَيْرُهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ يَأْثَمُ
مَنْ لَمْ يُؤَدِّ إذَا كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ
امْتِنَاعَهُ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
لَوْ أَخَّرَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الطَّلَبِ بِلَا عُذْرٍ
ظَاهِرٍ، ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ.
(وَسَتْرُهَا) أَيْ سَتْرُ الشَّهَادَةِ (فِي الْحُدُودِ أَفْضَلُ) مِنْ
أَدَائِهَا يَعْنِي أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُظْهِرَهَا لِمَا فِيهِ
مِنْ إزَالَةِ الْفَسَادِ أَوْ قِلَّتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَهَا،
وَهُوَ أَحْسَنُ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» .
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَقَّنَ الْمُقِرَّ بِالزِّنَاءِ
لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ فَشُهِرَ وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً، وَكَذَلِكَ
نُقِلَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ
يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَذَلِكَ فِي حُقُوقِ
الْعِبَادِ، وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَيَقُولُ) الشَّاهِدُ (فِي) شَهَادَةِ (السَّرِقَةِ) أَشْهَدُ أَنَّهُ
(أَخَذَ) مَالَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَرْكُ الْوَاجِبِ (لَا سَرَقَ)
لِلتَّحَرُّزِ عَنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَضَيَاعِ الْمَالِ، لِأَنَّ
الْقَطْعَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ فَاعْتُبِرَ فِي السَّرِقَةِ
السَّتْرُ مَعَ الشَّهَادَةِ.
وَحُكِيَ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ مَعَ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ
وَفِيهِمْ أَبُو يُوسُفَ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَخْذَ مَالِهِ مِنْ
بَيْتِهِ فَأَقَرَّ بِالْأَخْذِ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ فَأَفْتَوْا
بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ
بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِالْأَخْذِ، فَادَّعَى الْمُدَّعِي
أَنَّهُ سَرَقَ، فَأَقَرَّ بِهَا فَأَفْتَوْا بِالْقَطْعِ، وَخَالَفَهُمْ
أَبُو يُوسُفَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ
أَوَّلًا بِالْأَخْذِ ثَبَتَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ
فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بَعْدَهُ بِمَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ
فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.
(وَشُرِطَ لِلزِّنَاءِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ) مِنْ الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
[النور: 4] وَلَفْظُ أَرْبَعَةٍ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ كَمَا
فِي الْبَحْرِ.
وَأُورِدَ: إنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ بِالْمَفْهُومِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ
عَدَمُ جَوَازِ الْأَقَلِّ أَجَابَ
(2/186)
الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَوْرَدَ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] الْآيَةَ وَأَجَابَ فِي
الْفَتْحِ بِأَنَّهَا مُبِيحَةٌ وَتِلْكَ مَانِعَةٌ، وَالتَّقْدِيمُ
لِلْمَانِعِ، وَجْهُ هَذَا الِاشْتِرَاطِ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُحِبُّ
السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَوْعَدَ بِالْعَذَابِ لِمَنْ أَحَبَّ
إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ
وَوَصْفِ الذُّكُورَةِ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ.
(وَ) شُرِطَ (لِلْقِصَاصِ وَبَقِيَّةِ الْحُدُودِ) وَكَذَا لِإِسْلَامِ
كَافِرٍ ذَكَرٍ، وَرِدَّةِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ (رَجُلَانِ)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
[البقرة: 282] فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ
مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ
لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلِشُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ
لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الْحُدُودَ
وَالْقِصَاصَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
(وَ) شُرِطَتْ (لِلْوِلَادَةِ، وَالْبَكَارَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ
مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ امْرَأَةٌ) حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «شَهَادَةُ النِّسَاءِ
فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَالْجَمْعُ
الْمُحَلَّى بِاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ،
وَهُوَ الْوَاحِدُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ
الْأَرْبَعِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ
امْرَأَتَيْنِ مَقَامُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَعَلَى مَالِكٍ فِي اشْتِرَاطِ
امْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ
اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ بَقِيَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا، وَفِيهِ إشَارَةٌ
إلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ شَهِدَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَالَ: تَعَمَّدْتُ النَّظَرَ أَمَّا إذَا شَهِدَ
بِالْوِلَادَةِ، وَقَالَ: فَاجَأْتُهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي عَلَيْهَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ هَذَا
إذَا تَأَيَّدَتْ الشَّهَادَةُ بِالْأَصْلِ لِأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: هِيَ
بِكْرٌ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي فِي الْعِنِّينِ سَنَةً لِأَنَّ شَهَادَتَهَا
تَأَيَّدَتْ بِالْأَصْلِ هُوَ الْبَكَارَةُ، وَلَوْ قَالَتْ: هِيَ ثَيِّبٌ
لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْمُؤَيِّدِ، وَكَذَا فِي رَدِّ
الْمَبِيعِ إذْ اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَإِنْ قُلْنَ: إنَّهَا
ثَيِّبٌ يُحَلَّفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قَوْلِهِنَّ،
وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فَيُحَلَّفُ الْبَائِعُ كَمَا فِي
الْهِدَايَةِ فَإِنْ قُلْتَ لَوْ ثَبَتَ الْعَيْبُ بِقَوْلِهِنَّ لَا
يُحَلَّفُ الْبَائِعُ بَلْ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْجَارِيَةُ، فَكَيْفَ
يَكُونُ تَحْلِيفُ الْبَائِعِ نَتِيجَةً لِثُبُوتِ الْعَيْبِ وَثُبُوتُ
الْعَيْبِ إنَّمَا هُوَ مُثْبِتٌ لِلرَّدِّ لَا لِلتَّحْلِيفِ؟
قُلْتُ مَعْنَاهُ الْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ فِي حَقِّ سَمَاعِ
الدَّعْوَى وَحَقِّ التَّحْلِيفِ حَتَّى إنَّهُنَّ لَوْ لَمْ يَقُلْنَ:
إنَّهَا ثَيِّبٌ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّحْلِيفِ.
(وَكَذَا) شَرْطُ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ (لِاسْتِهْلَالِ
الْمَوْلُودِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ) عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا
مِنْ أُمُورِ الدِّينِ (لَا) فِي حَقِّ (الْإِرْثِ) عِنْدَ الْإِمَامِ
لِأَنَّهُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ (وَعِنْدَهُمَا فِي حَقِّ
الْإِرْثِ أَيْضًا) أَيْ كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لَهُ فِي حَقِّ
الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ صَوَّتَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا
الرِّجَالُ عَادَةً، فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ
وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَرْجَحُ
كَمَا فِي الْفَتْحِ.
(وَ) شُرِطَ (لِغَيْرِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،
وَمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ (رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ؛
وَامْرَأَتَانِ مَالًا كَانَ)
(2/187)
الْحَقُّ (أَوْ غَيْرَ مَالٍ كَالنِّكَاحِ
وَالرَّضَاعِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ) وَالرَّجْعَةِ
وَاسْتِهْلَاكِ صَبِيٍّ لِلْإِرْثِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّسَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا، كَالْأَجَلِ، وَشَرْطِ الْخِيَارِ
لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ
وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ، وَلَكِنْ قُبِلَتْ فِي
الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ وُجُودِهَا وَقِلَّةِ
خَطَرِهَا فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي
رِوَايَةٍ، وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمَا - أَجَازَا شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي
النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ.
وَالْأَصْلُ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ لِوُجُودِ مَا تَبْتَنِي أَهْلِيَّةَ
الشَّهَادَةِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ، وَمَا
يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ مِنْ قِلَّةِ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ
انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا
الشُّبْهَةُ وَلِهَذَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ،
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ أَرْبَعٍ مِنْ غَيْرِ رَجُلٍ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ
كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ
لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ
الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي عَقْلِهِنَّ فِيمَا هُوَ مَنَاطُ
التَّكْلِيفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ
أَرْبَعَ مَرَاتِبَ.
الْأُولَى اسْتِعْدَادُ الْعَقْلِ، وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ
وَهُوَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ فِي مَبْدَأِ
فِطْرَتِهِمْ.
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ تَحْصِيلَ الْبَدِيهِيَّاتِ بِاسْتِعْمَالِ
الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَتَهَيَّأُ لِاكْتِسَابِ
الْفِكْرِيَّاتِ بِالْمُفَكِّرَةِ وَيُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ
وَهُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ.
وَالثَّالِثَةُ أَنَّ تَحَصُّلَ النَّظَرِيَّاتِ الْمَفْرُوغِ عَنْهَا
مَتَى شَاءَ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى اكْتِسَابٍ وَيُسَمَّى الْعَقْلَ
بِالْفِعْلِ، وَالرَّابِعَةُ هُوَ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيَلْتَفِتَ
إلَيْهَا مُشَاهَدَةً وَيُسَمَّى الْعَقْلَ بِالْمُسْتَفَادِ وَلَيْسَ هُوَ
مَنَاطَ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ وَهُوَ
فِيهِنَّ نُقْصَانٌ بِمُشَاهَدَةِ حَالِهِنَّ فِي تَحْصِيلِ
الْبَدِيهِيَّاتِ بِاسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ
وَبِالتَّنْبِيهِ، إنْ شِئْتَ قُلْتَ فَإِنَّهُ لَوْ كُنَّ فِي ذَلِكَ
نُقْصَانٌ لَكَانَ تَكْلِيفُهُنَّ دُونَ تَكْلِيفِ الرِّجَالِ فِي
الْأَرْكَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُنَّ
نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ، الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْلُ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ
لَمْ يَصْلُحْنَ لِلْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ وَالْإِمَارَةِ وَبِهَذَا
ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي أَيْضًا بِهِ فَتَأَمَّلْ، انْتَهَى.
(وَشُرِطَ لِلْكُلِّ الْحُرِّيَّةُ) فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ
(وَالْإِسْلَامُ) فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ
وَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ أَنَّ الذِّمِّيَّ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي
الْجُمْلَةِ مَحْمُولٌ فِيمَا إذَا شَهِدَ الْكَافِرُ عَلَى مِثْلِهِ
(وَالْعَدَالَةُ) وَهِيَ كَوْنُ حَسَنَاتِ الرَّجُلِ أَكْثَرَ مِنْ
سَيِّئَاتِهِ وَهِيَ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي
دِينِهِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الِاجْتِنَابَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَتَرْكَ
الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إنْ كَانَ وَجِيهًا ذَا مُرُوءَةٍ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ
قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَلَنَا أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ لَا
شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلْقَضَاءِ
وَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ الْخَلِيفَةُ مِنْ الْقَضَاءِ
الْفَاسِقَ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْفُذُ
(2/188)
الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ.
(وَ) شُرِطَ (لَفْظُ الشَّهَادَةِ) أَيْ لَفْظُ أَشْهَدُ فِي جَمِيعِ مَا
تَقَدَّمَ لِوُرُودِ عِبَارَةِ النَّصِّ كَذَلِكَ وَلِكَوْنِهِ مِنْ
أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذَا
اللَّفْظِ أَشَدَّ (فَلَا تَصِحُّ) الشَّهَادَةُ (لَوْ قَالَ أَعْلَمُ أَوْ
أَتَيَقَّنُ) مَكَانَ أَشْهَدُ مُخَالِفًا لِمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ
كَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالْمَوْتِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ
الْوَاقِعُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ مِنْ
قَبِيلِ الْإِخْبَارِ (وَلَا يَسْأَلُ قَاضٍ عَنْ شَاهِدٍ) كَيْفَ هُوَ
(بِلَا طَعْنِ الْخَصْمِ) عِنْدَ الْإِمَامِ عَمَلًا بِظَاهِرِ عَدَالَةِ
الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي
قَذْفٍ» فَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ يَسْأَلُ الْقَاضِي فِي السِّرِّ
وَيُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ (إلَّا فِي حَدٍّ وَقَوَدٍ) فَإِنَّهُ
يَسْأَلُ الْقَاضِي فِي السِّرِّ وَيُزَكِّي فِي الْعَلَانِيَةِ فِيهِمَا
طَعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُحْتَالُ
لِإِسْقَاطِهِمَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِمَا (وَعِنْدَهُمَا
يَسْأَلُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ سِرًّا وَعَلَنًا) وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ
الْخَصْمُ لِأَنَّ بِنَاءَ الْقَضَاءِ عَلَى الْحُجَّةِ، وَهِيَ شَهَادَةُ
الْعَدَمِ، قِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ
حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، لِأَنَّ عَصْرَهُ مَشْهُورٌ بِالْخَيْرِ لِكَوْنِهِ
قَرْنًا ثَالِثًا وَعَصْرَهُمَا مَسْكُوتٌ عَنْهُ لِكَوْنِهِ قَرْنًا
رَابِعًا إذْ فَشَا فِيهِ الْكَذِبُ لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ
(وَبِهِ) أَيْ بِقَوْلِ الْإِمَامَيْنِ (يُفْتَى فِي زَمَانِنَا) لِأَنَّ
الْفَسَادَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَكْثَرُ كَمَا فِي أَكْثَرِ
الْمُعْتَبَرَاتِ، وَيَحِلُّ السُّؤَالُ عَلَى قَوْلِهِمَا عِنْدَ جَهْلِ
الْقَاضِي بِحَالِهِمْ، وَلِذَا قَالَ فِي الْبَحْرِ نَقْلًا عَنْ
الْمُلْتَقَطِ ": الْقَاضِي إذَا عَرَفَ الشُّهُودَ بِجَرْحٍ أَوْ
عَدَالَةٍ لَا يَسْأَلُ عَنْهُمْ (وَيَجْزِي الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ) فِي
زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ، وَالتَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ
أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي أَمِينًا إلَى الْمُعَدِّلِ الْعَدْلِ وَيَكْتُبَ
إلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ اسْمُ الشَّاهِدِ وَنَسَبُهُ وَمَحَلَّتُهُ
وَمَسْجِدُهُ فَيَسْأَلُ عَنْ جِيرَانِهِ وَأَصْدِقَائِهِ فَإِذَا
عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ يَكْتُبُ: هُوَ عَدْلٌ، فَإِذَا عَرَفَهُمْ
بِالْفِسْقِ يَكْتُبُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، أَوْ لَا يَكْتُبُ
شَيْئًا احْتِرَازًا عَنْ كَشْفِ السِّرِّ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ
بِالْعَدَالَةِ أَوْ بِالْفِسْقِ يَكْتُبُ هُوَ مَسْتُورٌ وَيَرُدُّهُ إلَى
الْقَاضِي سِرًّا كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيَنْخَدِعَ، وَالتَّزْكِيَةُ فِي
الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَجْمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ
فِي مَجْلِسِهِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ (وَيَكْفِي
لِلتَّزْكِيَةِ) أَنْ يُقَالَ (هُوَ عَدْلٌ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ مَنْ
نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي زَمَانِنَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ
حَالِهِ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَلِهَذَا لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي
عَنْ حُرِّيَّةِ الشَّاهِدِ وَإِسْلَامِهِ مَا لَمْ يُنَازِعْهُ الْخَصْمُ
(وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ) لِأَنَّ
الْعَبْدَ أَوْ الْمَحْدُودَ فِي قَذْفٍ إذَا تَابَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا
مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
(وَلَا يَصِحُّ تَعْدِيلُ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ لَكِنْ
أَخْطَأَ) فِي شَهَادَتِهِ (أَوْ نَسِيَ) كَيْفِيَّةَ الْوَقْعَةِ هَكَذَا
قَالَ الْإِمَامُ
(2/189)
يَعْنِي تَعْدِيلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
الشُّهُودَ لَا يَصِحُّ، وَمُرَادُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى السُّؤَالَ
عَنْ الشُّهُودِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَا يَرَى السُّؤَالَ عَنْ الشُّهُودِ، وَنَظِيرُهُ
الْمُزَارَعَةُ فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا، وَمَعَ هَذَا فَرَّعَ عَلَيْهَا
عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ تَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ وَهُوَ
قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ
ضَمِّ آخَرَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْوَاحِدِ عِنْدَهُ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ظَالِمٌ كَاذِبٌ فِي الْجُحُودِ، وَتَزْكِيَةُ
الْكَاذِبِ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ وَأَطْلَقَ الْخَصْمَ وَلَمْ
يُقَيِّدْهُ لَكِنْ قَيَّدَهُ صَاحِبُ الْمِنَحِ بِمَا إذَا كَانَ لَمْ
يُرْجَعْ إلَيْهِ فِي التَّعْدِيلِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُرْجَعْ
إلَيْهِ فِي التَّعْدِيلِ صَحَّ قَوْلُهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي
الْبَزَّازِيَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَيَّدَهُ كَمَا قَيَّدَ صَاحِبُ
الْمِنَحِ لَكَانَ أَوْلَى (فَإِنْ قَالَ) الْخَصْمُ (هُوَ عَدْلٌ صَدْقٌ)
أَيْ عَادِلٌ صَادِقٌ (ثَبَتَ الْحَقُّ) أَيْ حَقُّ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ
إقْرَارٌ مِنْهُ بِثُبُوتِ الْحَقِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُمْ عُدُولٌ
وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُمْ مَعَ
كَوْنِهِمْ عُدُولًا يَجُوزُ مِنْهُمْ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ فَلَا
يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ عَدْلًا أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ صَوَابًا كَمَا فِي
الدُّرَرِ لَكِنْ فِي الْبَحْرِ نَقْلًا عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ أَنَّهُ
يَكُونُ مُقِرًّا بِقَوْلِهِ صَدَقُوا فِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيَّ
بِقَوْلِهِ هُمْ عُدُولٌ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيَّ.
(وَيَكْفِي الْوَاحِدُ لِتَزْكِيَتِهِ السِّرَّ، وَالتَّرْجَمَةِ،
وَالرِّسَالَةِ إلَى الْمُزَكِّي) يَعْنِي يَصْلُحُ الْوَاحِدُ أَنْ
يَكُونَ مُزَكِّيًا لِلشَّاهِدِ، وَمُتَرْجِمًا عَنْ الشَّاهِدِ،
وَرَسُولًا مِنْ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ لِأَنَّ
التَّزْكِيَةَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إلَّا
الْعَدَالَةُ حَتَّى تَجُوزَ تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ
وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ التَّائِبِ لِأَنَّ خَبَرَهُمْ
مَقْبُولٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ (وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ) لِأَنَّ
فِيهِ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ
الِاثْنَيْنِ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ
التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي
تُبْتَنَى عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا
يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، وَمَحَلُّ الِاخْتِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَرْضَ
الْخَصْمُ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ فَإِنْ رَضِيَ فَجَازَ إجْمَاعًا هَذَا
فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ أَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ يُشْتَرَطُ
جَمِيعُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْبَصَرِ
وَغَيْرِهِمَا سِوَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ مَعْنَى
الشَّهَادَةِ فِيهَا أَظْهَرُ وَلِذَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي.
وَعَنْ هَذَا قَالَ (وَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِي تَزْكِيَةِ
الْعَلَانِيَةِ دُونَ السِّرِّ) وَكَذَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهَا عَلَى
مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ وَيُشْتَرَطُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَاءِ
أَرْبَعَةُ ذُكُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
(2/190)
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا
يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ]
فَصَلِّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الشَّهَادَةِ شَرَعَ فِي
بَيَانِ أَنْوَاعِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ وَهُوَ نَوْعَانِ
الْأَوَّلُ مَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ بِلَا إشْهَادٍ وَالثَّانِي مَا لَا
يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ فَشَرَعَ فِي
الْأَوَّلِ وَقَالَ (يَشْهَدُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ) مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ
(أَوْ رَآهُ) مِنْ الْمُبْصِرَاتِ (كَالْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ
الْحَاكِمِ) مِثَالُ مَا كَانَ مِنْ الْمَسْمُوعَاتِ كَمَا فِي
الْفَرَائِدِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِثَالًا لَهُمَا كَمَا فِي
الْبَحْرِ (وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ) مِثَالُ مَا كَانَ مِنْ
الْمُبْصِرَاتِ.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (لَمْ يُشْهَدْ) مِنْ الْأَفْعَالِ مَبْنِيٌّ
لِلْمَفْعُولِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ (وَيَقُولُ
اشْهَدْ) أَنَّهُ بَاعَ، أَوْ أَقَرَّ؛ لِأَنَّهُ عَايَنَ السَّبَبَ
فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَمَا عَايَنَ وَهَذَا إذَا كَانَ
الْبَيْعُ بِالْعَقْدِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ بِالتَّعَاطِي فَكَذَا؛
لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَقَدْ
وُجِدَ وَقِيلَ لَا يَشْهَدُونَ عَلَى الْبَيْعِ بَلْ عَلَى الْأَخْذِ
وَالْإِعْطَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ حُكْمِيٌّ وَلَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقِيٍّ
كَمَا فِي التَّبْيِينِ لَكِنْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَلَوْ شَهِدُوا
بِالْبَيْعِ جَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الثَّمَنِ فِي الشَّهَادَةِ
عَلَى الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ لَا يَصِحُّ
(لَا) يَقُولُ (اشْهَدْنِي) فِيمَا لَا إشْهَادَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
وَاقِعٍ فَيَكُونُ كَذِبًا.
وَفِي التَّبْيِينِ وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَسَعُهُ
أَنْ يَشْهَدَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ إذَا النَّغْمَةُ
تُشْبِهُ النَّغْمَةَ إلَّا إذَا كَانَ فِي الدَّاخِلِ وَحْدَهُ وَعَلِمَ
الشَّاهِدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا غَيْرُهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْمَسْلَكِ
وَلَيْسَ لَهُ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا
يَرَاهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا
فَسَّرَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَهُ؛ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ
النَّغْمَةَ وَقَالُوا إذَا سَمِعَ صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَاءِ
الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا إلَّا إذَا كَانَ يَرَى
شَخْصًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ إذَا
أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَشَهِدَ عِنْدَهُ اثْنَانِ
أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ لَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ
إقْرَارَهَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا إلَّا إذَا رَأَى شَخْصَهَا حَالَ مَا
أَقَرَّتْ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهَا بِرُؤْيَةِ
شَخْصِهَا لَا رُؤْيَةِ وَجْهِهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ الْمَرْأَةُ إذَا حَسَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا
فَقَالَتْ أَنَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَقَدْ وَهَبْتُ
لِزَوْجِي مَهْرِي فَإِنَّ الشُّهُودَ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى شَهَادَةِ
عَدْلَيْنِ إنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ مَا دَامَتْ
حَيَّةً إذْ يُمْكِنُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهَا فَإِنْ مَاتَتْ
فَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الشُّهُودُ إلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَنَّهَا
فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ كَمَا فِي الدُّرَرِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي فَقَالَ (وَلَا يَشْهَدُ عَلَى
شَهَادَةِ غَيْرِهِ إذَا سَمِعَ أَدَاءَهَا) أَيْ لَا يَشْهَدُ عَلَى
شَهَادَةِ شَاهِدٍ مَعَ مَنْ سَمِعَ الشَّهَادَةَ سَوَاءٌ سَمِعَ فِي
مَجْلِسِ الْقَاضِي، أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ غَيْرُ
ثَابِتٍ الْحُكْمُ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْقَاضِي فَيَسْتَلْزِمُ
التَّحْمِيلَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَمَّلْهُ حَيْثُ لَمْ يَشْهَدْ
عَلَيْهِ (أَوْ إشْهَادِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا) أَيْ لَا يَشْهَدُ عَلَى
شَهَادَةِ شَاهِدٍ مَنْ سَمِعَ إشْهَادَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ (مَا لَمْ
يَشْهَدْ هُوَ) أَيْ شَاهِدُ الْأَصْلِ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى
الشَّهَادَةِ تَوْضِيحُهُ قَالَ شَاهِدٌ لِشَخْصٍ
(2/191)
اشْهَدْ مِنِّي أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ
عِنْدِي بِكَذَا فَسَمِعَ آخَرُ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَجُوزُ لِلسَّامِعِ
أَنْ يَشْهَدَ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْإِشْهَادِ غَيْرُ
ثَابِتِ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ
وَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْمِيلَ وَالْإِنَابَةَ وَهُوَ لَمْ يُوجَدْ؛
لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ بِالْإِشْهَادِ وَإِنَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ قَبْلَ
أَنْ سَمِعَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ حَلَّ
لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ.
(وَلَا يَعْمَلُ شَاهِدٌ وَلَا قَاضٍ وَلَا رَاوٍ بِخَطِّهِ مَا لَمْ
يَتَذَكَّرْ) أَيْ لَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ
يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ وَلَا لِلْقَاضِي إذَا وَجَدَ دِيوَانَهُ
مَكْتُوبًا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ وَلَا يُحْفَظُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِذَلِكَ، أَوْ قَضِيَّةً قَضَاهَا أَنْ يَحْكُمَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ
وَلَا أَنْ يُمْضِيَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ وَلَا لِلرَّاوِي إذَا وَجَدَ
مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ، أَوْ بِخَطِّ غَيْرِهِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَنَّهُ
قَرَأَ عَلَى فُلَانٍ وَنَحْوُهُ أَنْ يَرْوِيَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ
الشَّهَادَةَ، أَوْ الْقَضِيَّةَ، أَوْ الرِّوَايَةَ قِيلَ هَذَا عِنْدَ
الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ وَالرِّوَايَةَ لَا يَحِلُّ
إلَّا عَنْ عِلْمٍ وَلَا عِلْمَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ
(وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ) كُلٌّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ
وَالرِّوَايَةِ (إنْ كَانَ) الْخَطُّ (مَحْفُوظًا فِي يَدِهِ) وَإِنْ لَمْ
يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ حِينَئِذٍ مِنْ الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْخِلَافُ حِينَئِذٍ فِيمَا إذَا كَانَ
مَحْفُوظًا فِي يَدِهِ فَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ الْخَطُّ
مَحْفُوظًا فِي يَدِهِ، أَوْ لَا وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إنْ كَانَ
مَحْفُوظًا فِي يَدِهِ وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافُ
مُطْلَقٌ فَعِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ
مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ
وَاجِبٌ لَكِنْ فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ وَجَوَّزَ مُحَمَّدٌ فِي الْكُلِّ
وَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ لِلرَّاوِي وَالْقَاضِي دُونَ الشَّاهِدِ قَالَ
شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَى بِقَوْلِ
مُحَمَّدٍ وَجَزَمَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ بِأَنَّهُ يُفْتَى بِقَوْلِ
مُحَمَّدٍ.
وَفِي السِّرَاجِ وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَفِي الْمِنَحِ وَقَوْلُهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي
لِلْمُصَنِّفِ التَّفْصِيلُ.
(وَلَا يَشْهَدُ) أَحَدٌ (بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ) بِالْإِجْمَاعِ لِمَا
تَلَوْنَاهُ آنِفًا (إلَّا النَّسَبَ) بِأَنَّ فُلَانًا بْنَ فُلَانٍ، أَوْ
أَخُوهُ (وَالْمَوْتَ) بِأَنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ (وَالنِّكَاحَ) بِأَنَّ
فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ (وَالدُّخُولَ) بِأَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ
فُلَانَةَ دَخَلَ بِهَا (وَوِلَايَةَ الْقَاضِي) بِأَنَّ فُلَانًا قَدْ
تَوَلَّى الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ الْإِمَامِ (وَأَصْلَ الْوَقْفِ)
بِأَنَّ فُلَانًا وَقَفَ هَذِهِ الضَّيْعَةَ مَثَلًا هَذَا إذَا لَمْ
يَسْتَنِدْ إلَى الْمِلْكِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي آخَرِ الْوَقْفِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي
الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ
هَذِهِ الْأُمُورَ تَخْتَصُّ لِمُعَايَنَةِ أَصْحَابِهَا وَهُمْ خَوَاصُّ
النَّاسِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ
الشَّهَادَةُ فِيهِمَا بِالتَّسَامُعِ لَتَعَطَّلَتْ أَحْكَامُهَا
بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ قَوْلُهُ أَصْلُ الْوَقْفِ
(2/192)
احْتِرَازٌ عَنْ شَرَائِطِهِ لِمَا فِي
الْبَزَّازِيَّةِ وَفِي الْوَقْفِ أَنَّهَا تُقْبَلُ بِالتَّسَامُعِ عَلَى
أَصْلِهِ لَا عَلَى شَرَائِطِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ
بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَتَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَصْلِهِ وَمَا
لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ فَهُوَ مِنْ الشَّرَائِطِ وَفِي
الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ الْمُخْتَارُ أَنْ لَا تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ
بِالشُّهْرَةِ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ وَفِي الْمُجْتَبَى الْمُخْتَارُ
أَنْ تُقْبَلَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي آخِرِ الْوَقْفِ وَظَاهِرُ
التَّقْيِيدِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ يَدُلُّ عَلَى
عَدَمِ قَبُولِهَا بِهِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ
وَاخْتَلَفَ الْفَحْلَانِ فِي نَقْلِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعِتْقِ فَنَقَلَ
السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ قَبُولِهَا فِيهِ إجْمَاعًا وَنَقَلَ أُسْتَاذُهُ
الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَنْقُولِ فِي الْوَلَاءِ
فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَازُ فِيهِمَا وَمِنْ ذَلِكَ الْمَهْرُ
فَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ فِيهِ بِهِ وَلَكِنْ فِي
الْبَزَّازِيَّةِ وَالظَّهِيرِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ أَنَّ فِيهِ
رِوَايَتَيْنِ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ
فَلْيُطَالَعْ (إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا) أَيْ فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ
الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ (مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ عَدْلَيْنِ، أَوْ
عَدْلٍ وَعَدْلَتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ نِصَابٍ يُفِيدُ نَوْعَ
الْعِلْمِ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الْمُعَامَلَاتِ
قَوْلُهُ إذَا أَخْبَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْكُلِّ وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ عِنْدَ
الْقَاضِي فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ لَفْظِهَا وَشُرِطَتْ فِي الْعِنَايَةِ
لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا قَالُوا وَالِاكْتِفَاءُ بِإِخْبَارِ
رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ قَوْلُهُمَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ
الْإِمَامِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ
الْعَامَّةِ بِحَيْثُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ صِدْقُ الْخَبَرِ (وَفِي
الْمَوْتِ يَكْفِي الْعَدْلُ وَلَوْ) كَانَتْ (أُنْثَى هُوَ الْمُخْتَارُ)
كَمَا فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ تِلْكَ
الْحَالَةَ فَلَا يَحْضُرُهُ غَالِبًا إلَّا وَاحِدٌ عَدْلٌ، أَوْ
وَاحِدَةٌ عَدْلَةٌ وَفِي التَّبْيِينِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خَبَرِ
عَدْلَيْنِ فِي الْكُلِّ إلَّا فِي الْمَوْتِ وَصَحَّحَ فِي
الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ كَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ
الْعَدَالَةُ فِي الْمُخْبِرِ فِي غَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ فَلَا يُشْتَرَطُ
الْعَدَالَةُ وَلَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ وَفِي الْمَوْتِ مَسْأَلَةٌ عَجِيبَةٌ هِيَ
إذَا لَمْ يُعَايِنْ الْمَوْتَ إلَّا وَاحِدٌ وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَ
الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ مَاذَا يَصْنَعُ قَالُوا
يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَدْلًا مِثْلَهُ وَإِذَا سَمِعَ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَى مَوْتِهِ فَيَشْهَدُ هُوَ مَعَ ذَلِكَ الشَّاهِدِ فَيَقْضِي
بِشَهَادَتِهِمَا (وَيَشْهَدُ مَنْ رَأَى جَالِسًا مَجْلِسَ الْقَضَاءِ)
حَالَ كَوْنِ الْجَالِسِ (يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ أَنَّهُ قَاضٍ)
أَيْ يَحِلُّ أَنْ يَشْهَدَ الرَّاعِي عَلَى أَنَّ الْجَالِسَ قَاضٍ وَإِنْ
لَمْ يُعَايِنْ تَقْلِيدَ الْإِمَامِ إيَّاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَامَةٌ
ظَاهِرَةٌ لَهُ (وَ) يَشْهَدُ (مَنْ رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ
مَعًا) فِي بَيْتٍ (وَبَيْنَهُمَا انْبِسَاطُ الْأَزْوَاجِ أَنَّهَا
زَوْجَتُهُ) أَيْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ
عَقْدَ النِّكَاحِ وَظَاهِرُهُ الِاكْتِفَاءُ بِالرُّؤْيَةِ لَكِنْ
ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ كَمَا
فِي التَّبْيِينِ.
(وَ) يَشْهَدُ (مَنْ رَأَى شَيْئًا سِوَى الْآدَمِيِّ فِي يَدِ
مُتَصَرِّفٍ) عُرِفَ بِوَجْهِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ (فِيهِ تَصَرُّفُ
الْمُلَّاكِ أَنَّهُ) أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءَ (لَهُ) أَيْ لِلْمُتَصَرِّفِ
(إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ)
(2/193)
أَيْ قَلْبِ الرَّائِي (ذَلِكَ) أَيْ
كَوْنَهُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ أَسْبَابَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ
أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمَلِكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ
الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا.
وَفِي الْبَحْرِ قَوْلُهُ إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ
أَبِي يُوسُفَ قَالُوا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا
لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ.
وَفِي الْفَتْحِ قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ قَوْلَ الْكُلِّ وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا انْتَهَى.
وَمِنْ ثَمَّةَ قَيَّدَهُ بِوُقُوعِهِ فِي الْقَلْبِ فَلَوْ رَأَى دُرَّةً
فِي يَدِ كَنَّاسٍ، أَوْ كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ لَا يَشْهَدُ
بِالْمِلْكِ لَهُ بِمُجَرَّدِ يَدِهِ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ
(وَالْآدَمِيَّ) أَيْ لَوْ رَأَى شَيْئًا وَهُوَ آدَمِيٌّ (إنْ عَلِمَ
رِقَّهُ، أَوْ كَانَ صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ) أَيْ لَا
يَكُونُ مُمَيِّزًا (فَكَذَلِكَ) يَعْنِي يَحِلُّ لِلرَّائِيَّ فِي يَدِ
مُتَصَرِّفٍ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِذِي
الْيَدِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ
الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَدَ لَهُ فَثَبَتَ
يَدُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَصَارَ كَالْمَتَاعِ وَإِنْ كَانَ
كَبِيرًا، أَوْ صَغِيرًا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ رِقَّهُ
لَا يَحِلُّ لِلرَّائِي أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ؛ لِأَنَّ
لَهُمَا يَدًا عَلَى نَفْسِهِمَا تَدْفَعُ يَدَ الْغَيْرِ عَنْهُمَا
فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَعَنْ الْإِمَامِ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثَّبَاتِ وَإِنَّمَا
يَشْهَدُ بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخْبِرَهُ
عَدْلَانِ بِأَنَّهُ لِغَيْرِهِ فَلَوْ أَخْبَرَاهُ لَمْ تَجُزْ لَهُ
الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لَهُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَفِي الْبَحْرِ
أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ
لَهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ لَهُ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا
وَبِهِ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الزَّيْلَعِيِّ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الشَّاهِدَ
إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ عَنْ سَمَاعٍ، أَوْ مُعَايَنَةِ
يَدٍ لَمْ يَقْبَلْهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ
بِسَمَاعِ نَفْسِهِ وَلَوْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُ وَلَا بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ
فِي يَدِ إنْسَانٍ سَهْو انْتَهَى وَفِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَ
الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِهِ قَضَاءً مُحْكَمًا
مُبْرَمًا بِحَيْثُ لَوْ ادَّعَى الْخَصْمُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ صَرَّحَ قُبَيْلَ هَذَا بِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِ قَضَاءَ تَرْكٍ
بِمَعْنَى أَنَّهُ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ مَا دَامَ خَصْمُهُ لَا
حُجَّةَ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَقْدِسِيُّ تَدَبَّرْ.
(وَلَوْ فَسَّرَ) الشَّاهِدُ (لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ بِالتَّسَامُعِ)
فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَشْهَدَ بِالتَّسَامُعِ بِأَنْ يَقُولَ
إنِّي أَشْهَدُ عَلَى هَذَا بِالِاسْتِمَاعِ (أَوْ بِمُعَايَنَةِ الْيَدِ)
بِأَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ فِي يَدِهِ (لَا يَقْبَلُهَا)
أَيْ لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ إلَّا فِي الْوَقْفِ وَالْمَوْتِ
فَتُقْبَلُ لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ
عَلَى الْأَصَحِّ قَالَ يَعْقُوبُ بَاشَا وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ
أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْوَقْفِ تُقْبَلُ وَإِنْ فَسَّرَهَا وَفِي
النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ أَيْضًا وَإِنْ فَسَّرَهَا فِي الْأَصَحِّ وَفِي
الْمَوْتِ إنْ كَانَ مَشْهُورًا وَإِنْ فَسَّرَهَا بِأَنَّهُ سَمِعَهُ
وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْ انْتَهَى.
لَكِنْ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَفِي
الزَّاهِدِيِّ شَهِدَا فِيمَا يَصِحُّ بِالشُّهْرَةِ وَقَالَا لَمْ
نُعَايِنْ وَلَكِنْ اُشْتُهِرَ عِنْدَنَا تُقْبَلُ (وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ
حَضَرَ دَفْنَ زَيْدٍ، أَوْ صَلَّى عَلَيْهِ قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُ
بِالِاتِّفَاقِ (وَهُوَ) أَيْ حُضُورُ دَفْنِ زَيْدٍ، أَوْ صَلَاتِهِ
عَلَيْهِ (عِيَانٌ) لِلْمَوْتِ حُكْمًا حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي
قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا بِمَا عَلِمَ فَوَجَبَ قَبُولُهَا.
(2/194)
[بَابُ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَمَنْ
لَا تُقْبَلُ]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا تُسْمَعُ فِيهِ الشَّهَادَةُ وَمَا لَا
تُسْمَعُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تُسْمَعُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ وَمَنْ لَا
تُسْمَعُ وَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَحَالُّ الشَّهَادَةِ
وَالْمَحَالُّ شُرُوطٌ وَالشُّرُوطُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ كَمَا
فِي الْعِنَايَةِ لَكِنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ الشَّهَادَةُ لَا مَنْ
تُسْمَعُ مِنْهُ الشَّهَادَةُ تَأَمَّلْ.
وَفِي الْبَحْرِ يُقَالُ قَبِلْتُ الْقَوْلَ حَمَلْتُهُ عَلَى الصِّدْقِ
كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ وَالْمُرَادُ مَنْ يَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ
عَلَى الْقَاضِي وَمِنْ لَا يَجِبُ لَا مَنْ يَصِحُّ قَبُولُهَا وَمَنْ لَا
يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ:
شَهَادَةُ الْفَاسِقِ وَهُوَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ صَحَّ بِخِلَافِ
الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْأَصْلِ لَكِنْ فِي
خِزَانَةِ الْمُفْتِيَيْنِ إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى، أَوْ
الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ، أَوْ بِشَهَادَةِ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ مَعَ آخَرَ لِصَاحِبِهِ، أَوْ بِشَهَادَةِ الْوَالِدِ
لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ نَفَذَ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي إبْطَالُهُ،
وَإِنْ رَأَى بُطْلَانَهُ انْتَهَى.
فَالْمُرَادُ مِنْ عَدَمِ الْقَبُولِ عَدَمُ حِلِّهِ انْتَهَى.
(لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى) عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ
فِيمَا يُسْمَعُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَفْتَقِرُ إلَى
التَّمْيِيزِ بِالْإِشَارَةِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ وَلَا يُمَيِّزُ الْأَعْمَى إلَّا بِالنَّغْمَةِ وَهِيَ غَيْرُ
مُعْتَبَرَةٍ لِشَبَهِهَا بِنَغْمَةٍ أُخْرَى.
وَقَالَ زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ تُقْبَلُ فِيمَا يَجْرِي
فِيهِ التَّسَامُعُ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّمَاعِ كَالْبَصِيرِ.
وَفِي الْبَحْرِ وَاخْتَارَهُ فِي الْخُلَاصَةِ وَعَزَاهُ إلَى النِّصَابِ
جَازَ مَا بِهِ مِنْ غَيْرِ حِكَايَةِ خِلَافٍ انْتَهَى.
لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ مُخْتَارٌ وَإِنَّمَا
قَالَ.
وَفِي النِّصَابِ: وَشَهَادَةُ الْأَعْمَى لَا تَجُوزُ إلَّا فِي النَّسَبِ
وَالْمَوْتِ وَمَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالشُّهْرَةِ
وَالتَّسَامُعِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَجَزَمَ بِهِ فِي
النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَقْدِسِيُّ
(خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ) وَالشَّافِعِيِّ فِي الدَّيْنِ وَالْعَقَارِ
(فِيمَا إذَا تَحَمَّلَهَا بَصِيرًا) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالدَّيْنِ
وَالْعَقَارِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَنْقُولِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ
بِبَيَانِ الْجِنْسِ، أَوْ الْوَصْفِ، وَالْعَقَارُ بِالتَّحْدِيدِ وَكَذَا
فِي الْحُدُودِ لَا تُقْبَلُ اتِّفَاقًا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ إذَا
تَحَمَّلَهَا بَصِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَمَّلَهَا أَعْمَى لَا تُقْبَلُ
اتِّفَاقًا كَمَا فِي شَرْحِ الْمُجْمَعِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ الْمُرَادَ
اتِّفَاقُ غَيْرِ مَالِكٍ وَإِلَّا فَعِنْدَهُ مَقْبُولَةٌ قِيَاسًا عَلَى
قَبُولِ رِوَايَتِهِ تَدَبَّرْ.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ
عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ
وَقْتَ الْقَضَاءِ لِصَيْرُورَتِهَا حُجَّةً عِنْدَهُ وَقَدْ بَطَلَتْ
وَصَارَ كَمَا إذَا خَرِسَ، أَوْ جُنَّ، أَوْ فَسَقَ بِخِلَافِ مَا إذَا
مَاتُوا، أَوْ غَابُوا؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْمَوْتِ قَدْ انْتَهَتْ
وَبِالْغِيبَةِ مَا بَطَلَتْ انْتَهَى.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَمْتَنِعُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ
فِي نَفْسِ قَضَاءِ الْقَاضِي لِلْعَمَى الْعَارِضِ لِلشَّاهِدِ بَعْدَ
أَدَاءِ شَهَادَتِهِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ حُجَّةٌ.
(وَلَا) تُقْبَلُ (شَهَادَةُ الْمَمْلُوكِ) سَوَاءٌ كَانَ قِنًّا، أَوْ
مُدَبَّرًا، أَوْ مُكَاتَبًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ
(2/195)
أَوْ مُعْتَقَ الْبَعْضِ (وَالصَّبِيَّ) ؛
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُمَا
(إلَّا إنْ تَحَمَّلَا) أَيْ الشَّهَادَةَ (حَالَ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ
وَأَدَّيَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ) ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ
لِلتَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالسَّمَاعِ
وَيَبْقَى إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ بِالضَّبْطِ وَهُمَا لَا يُنَافِيَانِ
ذَلِكَ وَهُمَا أَهْلٌ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ
إذَا تَحَمَّلَهَا عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ فَأَدَّاهَا تُقْبَلُ
وَكَذَا الزَّوْجُ إذَا تَحَمَّلَهَا لِامْرَأَتِهِ فَأَبَانَهَا ثُمَّ
شَهِدَ لَهَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَمَتَى رُدَّتْ الشَّهَادَةُ لِعِلَّةٍ ثُمَّ زَالَتْ
الْعِلَّةُ فَشَهِدَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لَا تُقْبَلُ إلَّا فِي
أَرْبَعَةٍ الْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْأَعْمَى
وَالصَّبِيُّ.
وَفِي النِّصَابِ إذَا شَهِدَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فَرُدَّتْ ثُمَّ
شَهِدَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا تُقْبَلُ وَالْمُرَادُ مِنْ الصِّغَرِ أَنْ
يَكُونَ صَاحِبَ تَمْيِيزٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصِّغَرِ لَيْسَ بِأَهْلٍ
لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَالتَّمْيِيزُ
مَكَانُ الصِّغَرِ كَمَا فِي التَّنْوِيرِ لَكَانَ أَوْلَى وَفِيمَا
قَالَهُ يَعْقُوبُ بَاشَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ
يَقْبَلَ شَهَادَةَ الْمَمْلُوكِ وَيَحْكُمَ بِهِ وَإِنْ حَكَمَ لَا
يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فِيهِ كَلَامٌ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ
الْكَافِي قَالَ وَرَدُّ شَهَادَةِ الْمَمْلُوكِ وَالصَّبِيِّ خِلَافًا
لِمَالِكٍ فِيهِمَا فَيَكُونَانِ مُجْتَهِدًا فِيهِمَا تَتَبَّعْ.
(وَلَا) تُقْبَلُ (شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ) أَيْ لِقَذْفِهِ
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (تَابَ) عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] وقَوْله تَعَالَى {إِلا
الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ قَوْله
تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ
لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ إذْ هُوَ إخْبَارٌ وَمَا قَبْلَهُ أَمْرٌ
وَنَهْيٌ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى
فَإِذَا صَارَ مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَوَّلِ لَا يَنْصَرِفُ الِاسْتِثْنَاءُ
الْمَذْكُورُ إلَى مَا قَبْلَهُ.
وَفِي الْبَحْرِ وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَتَمَامُهُ فِي
الْفَتْحِ فَلْيُرَاجَعْ؛ وَلِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ
حَدِّهِ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ قَبْلَ الْحَدِّ
تُقْبَلُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ لَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُضْرَبْ
تَمَامَ الْحَدِّ وَعَنْ الْإِمَامِ سُقُوطُهَا يُضْرَبُ الْأَكْثَرُ
وَعَنْهُ أَيْضًا سُقُوطُهَا بِضَرْبِ وَاحِدٍ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ
الثَّلَاثَةِ تُقْبَلُ إذَا تَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ
تَابُوا} [النور: 5] إذْ الِاسْتِثْنَاءُ مَتَى يَعْقُبُ كَلِمَاتٍ
مَعْطُوفَاتٍ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ
لِرَدِّ شَهَادَتِهِ فِسْقُهُ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ لَكِنْ رَدُّ
الشَّهَادَةِ لِأَجْلِ أَنَّهُ حَدٌّ لَا لِلْفِسْقِ وَلِهَذَا لَوْ
أَقَامَ أَرْبَعَةً بَعْدَمَا حُدَّ عَلَى أَنَّهُ زَنَى تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَهَا
قَبْلَهُ لَمْ يُحَدَّ فَكَذَا لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ كَمَا فِي
التَّبْيِينِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ يُقِمْ
بَيِّنَةً عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَكَانَ، أَوْلَى تَدَبَّرْ (إلَّا إنْ
حُدَّ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ) فَتُقْبَلُ عَلَى الْكَافِرِ وَعَلَى أَهْلِ
الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ أُخْرَى
حَدَثَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَلْحَقْهَا رَدٌّ بِسَبَبِ الْحَدِّ
بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ ثُمَّ عَتَقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا فِي حَالِ
رِقِّهِ فَيَتَوَقَّفُ الرَّدُّ عَلَى حُدُوثِهَا فَإِذَا حَدَثَ كَانَ
رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ.
(وَلَا) تُقْبَلُ (الشَّهَادَةُ لِأَصْلِهِ وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (عَلَا)
سَوَاءٌ كَانَ الْجَدُّ صَحِيحًا
(2/196)
أَوْ فَاسِدًا (وَفَرْعُهُ وَإِنْ سَفَلَ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ
الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ» ؛ وَلِأَنَّ
الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاتِّصَالِ فَلَا يَخْلُو مِنْ
تَمَكُّنِ التُّهْمَةِ؛ وَلِهَذَا تُقْبَلُ عَلَى أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ
إلَّا إذَا شَهِدَ الْجَدُّ عَلَى ابْنِهِ لِابْنِ ابْنِهِ فَإِنَّهَا لَا
تُقْبَلُ أَطْلَقَ الْفَرْعَ فَشَمِلَ الْوَلَدَ مِنْ وَجْهٍ فَلَا
تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الْمُلَاعِنِ لِأُصُولِهِ، أَوْ هُوَ لَهُ، أَوْ
لِفُرُوعِهِ لِثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ مِنْ
الرَّضَاعِ لَهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِأُمِّ زَوْجَتِهِ
وَأَبِيهَا وَلِزَوْجِ ابْنَتِهِ وَلِامْرَأَةِ ابْنِهِ (وَعَبْدِهِ) أَيْ
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِلْعَبْدِ
دَيْنٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مِنْ
نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ (وَمُكَاتَبِهِ) لِكَوْنِهِ عَبْدًا رَقَبَةً.
(وَ) لَا تُقْبَلُ (مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ) لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ
لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ» .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجُوزُ بِلَا فَرْقٍ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ إنْ شَهِدَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ بِحَقٍّ ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَوْ شَهِدَ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ
عَدْلٌ وَلَمْ يَرُدَّ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ حَتَّى طَلَّقَهَا بَائِنَا
وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يُنْفِذُ
شَهَادَتَهُ وَبِهِ عُلِمَ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ مِنْهَا
وَقْتَ الْقَضَاءِ لَا وَقْتَ الْأَدَاءِ وَلَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَمَا
فِي الْبَحْرِ.
وَفِي كَلَامِ الْخَانِيَّةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُنْفِذُ
شَهَادَتَهُ فِي الْعِدَّةِ لِمَا فِي الْقُنْيَةِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا
وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهَا وَلَا شَهَادَتُهَا
لَهُ انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَلَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ ثَلَاثٍ
لَكَانَ، أَوْلَى تَدَبَّرْ.
(وَلَا) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ
شَرِكَتِهِمَا) ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ فَلَوْ شَهِدَ بِمَا لَيْسَ
مِنْ شَرِكَتِهِمَا تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ.
(وَلَا) تُقْبَلُ (شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ الَّذِي يَفْعَلُ الرَّدَى)
لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُخَنَّثِ هُوَ الَّذِي
يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ بِاخْتِيَارِهِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ
وَأَمَّا الَّذِي فِي كَلَامِهِ لِينٌ وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرُ
خِلْقَةً فَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.
وَفِي الْبَحْرِ الْمُخَنِّثُ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ فَهُوَ بِمَعْنَى الْمُتَكَسِّرِ فِي أَعْضَائِهِ
الْمُتَلَيِّنِ فِي كَلَامِهِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ
الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ لِوَاطَةً (وَ) لَا شَهَادَةُ
(النَّائِحَةِ) فِي مُصِيبَةِ غَيْرِهَا وَلَوْ بِلَا أَجْرٍ
(وَالْمُغَنِّيَةِ) لِارْتِكَابِهِمَا الْحَرَامَ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ الصَّوْتَيْنِ الْأَحْمَقَيْنِ
النَّائِحَةُ وَالْمُغَنِّيَةُ قَيَّدْنَا بِمُصِيبَةِ غَيْرِهَا؛
لِأَنَّهَا لَوْ نَاحَتْ فِي مُصِيبَتِهَا تُقْبَلُ، وَكَذَا الْمُرَادُ
بِالتَّغَنِّي التَّغَنِّي بَيْنَ النَّاسِ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ
التَّغَنِّي لَمْ يُسْقِطْ الْعَدَالَةَ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ.
(وَ) لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْعَدُوِّ بِسَبَبِ دُنْيَا عَلَى
عَدُوِّهِ) ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا حَرَامٌ فَيَظْهَرُ
بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ عَدَاوَتُهُ أَمَّا إذَا شَهِدَ لِمَنْفَعَتِهِ
قُبِلَتْ لِعَدَمِ ظُهُورِ فِسْقِهِ مِنْ عَدَاوَتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى
تَرْكِهَا.
وَفِي الْقُنْيَةُ أَنَّ الْعَدَاوَةَ بِسَبَبِ الدُّنْيَا لَا تَمْنَعُ
مَا لَمْ يَفْسُقْ بِسَبَبِهَا، أَوْ يَجْلِبْ بِهَا مَنْفَعَةً، أَوْ
يَدْفَعْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مَضَرَّةً وَمَا فِي الْوَاقِعَاتِ
وَغَيْرِهَا اخْتِيَارُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ
الْمَنْصُوصَةُ فَبِخِلَافِهَا فَإِنَّهُ إذَا كَانَ
(2/197)
عَدْلًا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ
الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ
فَلْيُطَالَعْ (وَمُدْمِنُ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) سَوَاءٌ شَرِبَ
الْخَمْرَ، أَوْ الْمُسْكِرَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إذْ بِالْإِدْمَانِ
وَالْإِعْلَانِ يَظْهَرُ فِسْقُهُ هَذَا إذَا شَرِبَ عَلَى اللَّهْوِ
أَمَّا إذَا شَرِبَ لِلتَّدَاوِي فَلَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةِ لِكَوْنِ
الْحُرْمَةِ مُخْتَلَفًا فِيهَا وَفِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ قَالُوا
إنَّمَا شَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ عِنْدَ
النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَنْ اُتُّهِمَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَيْتِهِ لَا
تَبْطُلُ عَدَالَتُهُ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً وَإِنَّمَا تَبْطُلُ إذَا
ظَهَرَ ذَلِكَ، أَوْ خَرَجَ سَكْرَانَ فَيَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ؛
لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَحْتَرِزُ عَنْ الْكَذِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا
يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِدْمَانِ الْإِدْمَانَ فِي النِّيَّةِ بِأَنْ
يَشْرَبَ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَشْرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا وَجَدَ كَمَا
فِي النِّهَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الشُّرْبُ مِنْهُ كَمَا لَا
يَخْفَى وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ
غَيْرُ شَارِبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ شَارِبَهَا مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ
وَلَوْ قَطْرَةً فَلَا حَاجَةَ لِإِبْطَالِ شَهَادَتِهِ إلَى الْإِدْمَانِ
وَلَا إلَى شُرْبِهَا عَلَى اللَّهْوِ.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّ الْخِصَافَ يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ
بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ إدْمَانٍ وَمُحَمَّدٌ شَرَطَ الْإِدْمَانَ
لِسُقُوطِهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِي الْبَحْرِ
فَلْيُطَالَعْ (وَمَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِشِدَّةِ غَفَلْته
وَإِصْرَارِهِ عَلَى نَوْعِ لَهْوٍ؛ لِأَنَّهُ غَالِبًا يَنْظُرُ إلَى
الْعَوْرَاتِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ فِسْقٌ فَأَمَّا إذَا
أَمْسَكَ الْحَمَامَ لِلِاسْتِئْنَاسِ وَلَا يُطَيِّرُهَا فَلَا تَزُولُ
عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَهَا فِي الْبُيُوتِ مُبَاحٌ.
(أَوْ) يَلْعَبُ (بِالطُّنْبُورِ) لِكَوْنِهِ مِنْ اللَّهْوِ وَالْمُرَادُ
مِنْ الطُّنْبُورِ كُلُّ لَهْوٍ يَكُونُ شَنِيعًا بَيْنَ النَّاسِ
احْتِرَازًا عَمَّا لَمْ يَكُنْ شَنِيعًا كَضَرْبِ الْقَضِيبِ فَإِنَّهُ
لَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ بِأَنْ يَرْقُصُونَ بِهِ
فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْكَبَائِرِ (، أَوْ يُغْنِي لِلنَّاسِ) ؛ لِأَنَّهُ
يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَى الْكَبِيرَةِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَظَاهِرُهُ
أَنَّ الْغِنَاءَ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ بَلْ لِإِسْمَاعِ
نَفْسِهِ لِلْوَحْشَةِ وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ قَالَ
بِعُمُومِ الْمَنْعِ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ إنَّمَا مَنَعَ مَا كَانَ
عَلَى سَبِيلِ اللَّهْوِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ لِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ
دَفْعًا لِلْوَحْشَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا فِي أَكْثَرِ
الْمُعْتَبَرَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ فِي عُرْسٍ، أَوْ وَلِيمَةٍ
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ لِيَسْتَفِيدَ بِهِ نَظْمَ الْقَوَافِي
وَفَصَاحَةَ اللِّسَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ
مَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا.
(أَوْ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ) مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْمُقَامَرَةِ أَوْ
تَفْوِيتِ الصَّلَاةِ (، أَوْ يُقَامِرُ بِالشَّطْرَنْجِ، أَوْ تَفُوتُهُ
الصَّلَاةُ بِسَبَبِهِ) أَيْ بِسَبَبِ الشِّطْرَنْجِ لِظُهُورِ
(2/198)
الْفِسْقِ بِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ وَكَذَا
بِالْمُقَامَرَةِ أَمَّا بِدُونِهِمَا لَا يَمْنَعُ الْعَدَالَةَ؛ لِأَنَّ
لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
بِإِبَاحَتِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاخْتَارَهَا ابْنُ
الشِّحْنَةِ إذَا كَانَ لِإِحْضَارِ الذِّهْنِ وَاخْتَارَ أَبُو زَيْدٍ
حِلَّهُ.
وَفِي النَّوَازِلِ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَمَّنْ يَنْظُرُ إلَى
لَاعِبِهِ مِنْ غَيْرِ لَعِبٍ أَيَجُوزُ فَقَالَ لَنْ يَصِيرَ فَاسِقًا،
وَقَدْ سَوَّى بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ فِي الْكَنْزِ فَقَالَ،
أَوْ يُقَامِرُ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تَسْقُطُ إذَا وُجِدَ وَاحِدٌ
مِنْ خَمْسَةٍ الْقِمَارُ وَفَوْتُ الصَّلَاةِ بِسَبَبِهِ وَإِكْثَارُ
الْحَلِفِ عَلَيْهِ وَاللَّعِبُ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ يَذْكُرُ
عَلَيْهِ فِسْقًا وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ النَّرْدِ فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ
مُطْلَقًا كَمَا فِي الْبَحْرِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الثَّلَاثَةَ
الْأَخِيرَةَ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ فَلَا تَسَاهُلَ فِي تَرْكِهَا.
(، أَوْ يُرْتَكَبُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ) أَيْ يَأْتِي نَوْعًا مِنْ
الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ لِوُجُودِ تَعَاطِيه بِخِلَافِ
اعْتِقَادِهِ وَذَا دَلِيلُ قِلَّةِ دِيَانَتِهِ فَلَعَلَّهُ يَجْتَرِئُ
عَلَى الشَّهَادَةِ زُورًا كَمَا فِي الْكَافِي.
وَفِي الدُّرَرِ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْهُ فِي شُرْبِ
الْخَمْرِ سِرًّا لَكِنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ
بِارْتِكَابِ مَا يُحَدُّ بِهِ لَيْسَ ارْتِكَابُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ
يُحَدَّ بِهِ بِالْفِعْلِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِإِظْهَارِهِ
وَاطِّلَاعِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَحْرِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْحَثُّ عَلَيْهَا
كَبِيرَةٌ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَائِعِ الْأَكْفَانِ وَقَيَّدَ
السَّرَخْسِيُّ بِمَا إذَا تَرَصَّدَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ وَإِلَّا
فَتُقْبَلُ لِعَدَمِ تَمَنِّيه الْمَوْتَ وَالطَّاعُونَ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ الصَّكَّاكِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ،
الصَّحِيحُ قَبُولُهَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاحُ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالرَّقَّاصِ وَالْمُجَازِفِ فِي كَلَامِهِ
وَالْمَسْخَرَةِ بِلَا خِلَافٍ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَشْتُمُ
أَهْلَهُ وَمَمَالِيكَهُ كَثِيرًا إلَّا أَحْيَانًا وَكَذَا الشَّتَّامُ
لِلْحَيَوَانِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَخِيلِ وَاَلَّذِي أَخَّرَ
الْفَرْضَ بَعْدِ وُجُوبِهِ إنْ كَانَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ تَارِكِ الْجَمَاعَةِ إلَّا
بِتَأْوِيلٍ وَكَذَا تَارِكُ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَا تَارِكُ
الصَّلَاةِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ السِّجْنِ بَعْضِهِمْ عَلَى
بَعْضٍ وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَشْرَافِ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ يَتَعَصَّبُونَ.
وَفِي الْبَحْرِ فَعَلَى هَذَا كُلُّ مُتَعَصِّبٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
انْتَهَى.
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي زَمَانِنَا شَهَادَةُ الْعُلَمَاءِ
بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَعَصِّبُونَ.
(، أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا)
(2/199)
لِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ أَيْ يَأْخُذُ
الْقَدْرَ الزَّائِدَ وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ الْأَخْذُ وَشَرَطَ فِي
الْمَبْسُوطِ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِأَكْلِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ
التُّجَّارَ قَلَّمَا يَتَخَلَّصُونَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ
لِلْعَقْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ رِبَا فَلَا بُدَّ مِنْ الِاشْتِهَارِ كَمَا فِي
الدُّرَرِ.
(، أَوْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِلَا إزَارٍ) ؛ لِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ
حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُبَالَاةِ (، أَوْ
يَفْعَلُ مَا يَسْتَخِفُّ بِهِ كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ)
؛ لِأَنَّهُ تَارِكُ الْمُرُوءَةِ وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَأْكُلُ غَيْرَ
السُّوقِيِّ فِي السُّوقِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْمُرَادُ بِالْبَوْلِ عَلَى
الطَّرِيقِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَكَذَا غَيْرُهُمَا فِي
الْمُبَاحَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْمُرُوءَةِ كَصُحْبَةِ الْأَرَاذِلِ
وَالِاسْتِخْفَافِ بِالنَّاسِ وَإِفْرَاطِ الْمَزْحِ وَالْحِرَفِ
الدَّنِيَّةِ مِنْ نَحْوِ الدِّبَاغَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالْحِجَامَةِ
بِلَا ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ لَكِنْ فِي الْبَحْرِ
الصَّحِيحُ الْقَبُولُ إذَا كَانُوا عُدُولًا وَمِثْلُهُ النَّخَّاسُونَ
وَالدَّلَّالُونَ (أَوْ يُظْهِرُ سَبَّ) وَاحِدٍ مِنْ (السَّلَفِ) وَهُمْ
الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَدُلُّ
عَلَى قُصُورِ عَقْلِهِ وَمُرُوءَتِهِ وَمَنْ لَمْ يَمْتَنِعْ عَنْهَا لَا
يَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَزَادَ فِي الْفَتْحِ
الْعُلَمَاءُ وَلَوْ قَالَ، أَوْ يُظْهِرُ سَبَّ مُسْلِمٍ لَكَانَ أَوْلَى؛
لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تَسْقُطُ بِسَبِّ مُسْلِمٍ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
السَّلَفِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قَيَّدَ بِالْإِظْهَارِ؛
لِأَنَّهُ لَوْ كَتَمَهُ تُقْبَلُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ.
(وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِأَخِيهِ وَعَمِّهِ) وَلِسَائِرِ الْأَقَارِبِ
غَيْرِ الْأَوْلَادِ (وَمَحْرَمِهِ رَضَاعًا، أَوْ مُصَاهَرَةً) كَأُمِّ
امْرَأَتِهِ وَزَوْجِ بِنْتِهِ وَامْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ؛ لِأَنَّ
الْأَمْلَاكَ وَمَنَافِعَهَا مُتَمَيِّزَةٌ بَيْنَهُمْ وَلَا بُسُوطَةَ
لِبَعْضِهِمْ فِي مَالِ الْبَعْضِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ.
(وَ) تُقْبَلُ (شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ) مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ
عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، أَوْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ عَلَى
الْكَفَرَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ اعْتِقَادُهُمْ مُؤَدِّيًا إلَى الْكُفْرِ
كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ
مُعْتَقَدُهُمْ غَيْرُ مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ
كَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ
وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ
فِرْقَةً عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ
(2/200)
شَهَادَةُ كُلِّهَا لِاشْتِدَادِ
فِسْقِهِمْ وَلَنَا أَنَّ فِسْقَهُمْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ
وَلَمْ يُوقِعْهُمْ فِي هَذَا الْهَوَى إلَّا تَدَيُّنُهُمْ فَصَارَ كَمَنْ
يَشْرَبُ الْمُثَلَّثَ، أَوْ يَأْكُلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا
مُسْتَبِيحًا لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي (إلَّا
الْخَطَّابِيَّةَ) هُمْ قَوْمٌ مِنْ غُلَاةِ الرَّوَافِضِ يَعْتَقِدُونَ
اسْتِحْلَالَ الشَّهَادَةِ لِكُلِّ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُحِقٌّ
وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً فَتُمَكَّنَ
التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ فَلَا تُقْبَلُ.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الذِّمِّيِّ عَلَى مِثْلِهِ) أَيْ عَلَى ذِمِّيٍّ
آخَرَ.
(وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ (اخْتَلَفَا مِلَّةً) كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذْ
الْكُفْرُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا تُقْبَلُ إنْ تَخَالَفَا اعْتِقَادًا
وَفِي الْغَرَرِ وَتُقْبَلُ مِنْ كَافِرٍ عَلَى عَبْدٍ كَافِرٍ مَوْلَاهُ
مُسْلِمٌ، أَوْ عَلَى حُرٍّ كَافِرٍ مُوَكِّلُهُ مُسْلِمٌ بِلَا عَكْسٍ.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ (عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ) ؛ لِأَنَّ
الذِّمِّيَّ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا
وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ لَا بِالْمُسْتَأْمَنِ
(دُونَ عَكْسِهِ) أَيْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى
الذِّمِّيِّ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدْنَى حَالًا
مِنْهُ.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى مِثْلِهِ إنْ كَانَا مِنْ
دَارٍ وَاحِدَةٍ) حَتَّى لَوْ كَانَا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ كَالرُّومِ
وَالتُّرْكِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ
مُنْقَطِعَةٌ بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَتَيْنِ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي
التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ
عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى.
(وَ) تُقْبَل شَهَادَةُ (عَدُوٍّ بِسَبَبِ الدِّينِ) أَيْ بِأَمْرٍ
دِينِيٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْذِبُ لِدِينِهِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ هَذَا
تَصْرِيحٌ بِمَا عَلِمَ ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا
تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ بِسَبَبِ الدُّنْيَا.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (مَنْ أَلَمَّ بِصَغِيرَةٍ) أَيْ ارْتَكَبَ
صَغِيرَةً بِلَا إصْرَارٍ عَلَيْهَا (إنْ اجْتَنِبْ الْكَبَائِرَ) أَيْ
كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ
لَكِنْ فِي الْقُهُسْتَانِيِّ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ الْمُخْتَارُ
اجْتِنَابُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبَائِرِ فَلَوْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً
مَرَّاتٍ قَبْلَ شَهَادَتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرَةِ وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَالدِّينِ (وَغَلَبَ صَوَابُهُ) عَلَى خَطَئِهِ أَيْ
كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَيِّئَاتِهِ مِمَّنْ اجْتَنَبَ
الْكَبَائِرَ، وَفِي الِاخْتِيَارِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَلَاحُهُ
أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ مُعْتَادًا لِلصِّدْقِ مُجْتَنِبًا عَنْ الْكَذِبِ
صَحِيحَ الْمُعَامَلَةِ فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مُؤَدِّيًا
لِلْأَمَانَةِ قَلِيلَ اللَّهْوِ وَالْهَذَيَانِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَغُرَّنَّكُمْ طَنْطَنَةُ الرَّجُلِ فِي
صَلَاتِهِ اُنْظُرُوا إلَى حَالِهِ عِنْدَ دِرْهَمِهِ وَدِينَارِهِ أَمَّا
الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَةٍ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِمَا فِي
اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ انْتَهَى.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْأَقْلَفِ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ
الْخِتَانِ لِكَوْنِهِ سُنَّةً عِنْدَنَا أَطْلَقَهُ تَبَعًا لِمَا فِي
الْكَنْزِ لَكِنْ قَيَّدَهُ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يَتْرُكَهُ
لِعُذْرٍ كَالْكِبَرِ، أَوْ خَوْفِ الْهَلَاكِ أَمَّا إذَا تَرَكَهُ عَلَى
وَجْهِ الْإِعْرَاضِ عَنْ السُّنَّةِ، أَوْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ
فَلَا تُقْبَلُ فَالْإِمَامُ لَمْ يُقَدِّرْ وَقْتَ الْخِتَانِ بِوَقْتٍ
وَغَيْرُهُ مِنْ وَقْتِ
(2/201)
الْوِلَادَةِ إلَى عَشْرِ سِنِينَ وَقِيلَ
إلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْخَصِيِّ) فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ؛ وَلِأَنَّهُ
قُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ ظُلْمًا كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ ظُلْمًا وَكَذَا
الْأَقْطَعُ إذَا كَانَ عَدْلًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فِي سَرِقَةٍ ثُمَّ كَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ يَشْهَدُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَمَا فِي الْمِنَحِ
(وَوَلَدِ الزِّنَاءِ) ؛ لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَ
الْوَلَدِ خِلَافًا لِمَالِكٍ (وَالْخُنْثَى) إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا
وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا يُجْعَلُ امْرَأَةً فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ
احْتِيَاطًا
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ كَالنِّسَاءِ
(وَالْعُمَّالِ) وَالْمُرَادُ بِهِمْ عُمَّالُ السُّلْطَانِ الَّذِينَ
يَأْخُذُونَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ كَالْخَرَاجِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَمَلِ لَيْسَ بِفِسْقٍ فَتُقْبَلُ إلَّا
إذَا كَانُوا أَعْوَانًا عَلَى الظُّلْمِ فَلَا تُقْبَلُ كَمَا فِي
الْبَحْرِ وَقِيلَ الْعَامِلُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا
مُرُوءَةٍ لَا يُجَازِفُ فِي كَلَامِهِ تُقْبَلُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ
إنْ كَانُوا عُدُولًا تُقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ أَرَادَ
بِالْعُمَّالِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ وَيُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ
لِلْعَمَلِ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ مِنْ أَهْلِ
الصِّنَاعَاتِ الْخَسِيسَةِ فَأَفْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِإِظْهَارِ
مُخَالَفَتِهِمْ.
وَفِي الْبَحْرِ وَذَكَرَ الصَّدْرُ أَنَّ شَهَادَةَ الرَّئِيسِ لَا
تُقْبَلُ وَكَذَا الْجَابِي وَالْمُرَادُ بِالرَّئِيسِ رَئِيسُ الْقَرْيَةِ
وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي بِلَادِنَا شَيْخُ الْبَلَدِ وَمِثْلُهُ
الْمُعَرِّفُونَ فِي الْمَرَاكِبِ وَالْعُرَفَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ
وَضَمَانُ الْجِهَاتِ فِي بِلَادِنَا؛ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَعْوَانٌ
عَلَى الظُّلْمِ كَمَا فِي الْفَتْحِ.
(وَ) تُقْبَلُ شَهَادَةُ (الْمُعْتَقِ) بِفَتْحِ التَّاءِ (لِمُعْتَقِهِ)
وَعَكْسُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهَا وَقَدْ قَبِلَ شُرَيْحٌ
شَهَادَةَ قَنْبَرٍ وَهُوَ جَدُّ سِيبَوَيْهِ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ عَتِيقَهُ فِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ الْعَتِيقَ
لَوْ كَانَ مُتَّهَمًا لَمْ تُقْبَلْ وَلِذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ
وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدَانِ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى الثَّمَنِ كَذَا عِنْدَ
اخْتِلَافِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا
يَجُرَّانِ نَفْعًا لِأَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِإِثْبَاتِ الْعِتْقِ؛
لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَتَحَالَفَا وَفُسِخَ الْبَيْعُ
الْمُقْتَضِي لِإِبْطَالِ الْعِتْقِ.
وَفِي الْمِنَحِ وَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ لَوْ اشْتَرَى
غُلَامَيْنِ وَأَعْتَقَهُمَا فَشَهِدَا لِمَوْلَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ
اسْتَوْفَى الثَّمَنَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ
بِهَا نَفْعًا وَلَا يَدْفَعَانِ مَغْرَمًا وَشَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ
الْبَائِعَ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنِ كَشَهَادَتِهِمَا
بِالْإِيفَاءِ كَمَا فِي الْخَانِيَّةِ.
(وَالْمُعْتَبَرُ حَالَ الشَّاهِدِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا) وَقْتُ
(التَّحَمُّلِ) كَمَا بَيَّنَّاهُ.
(وَلَوْ شَهِدَا) أَيْ ابْنَا الْمَيِّتِ (أَنَّ أَبَاهُمَا، أَوْصَى إلَى
زَيْدٍ) أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا (وَزَيْدٌ يَدَّعِيه) أَيْ الْإِيصَاءُ
قَالَ الْمَوْلَى سَعْدِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْوَصِيُّ
يَدَّعِي أَيْ الْوَصِيُّ يَرْضَى انْتَهَى.
لَكِنَّ الدَّعْوَى تَسْتَلْزِمُ الرِّضَا بِطَرِيقِ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ
وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ تَدَبَّرْ (قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُمَا.
(وَإِنْ أَنْكَرَ) ذَلِكَ الْوَصِيُّ (فَلَا) أَيْ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَ أَحَدٍ عَلَى
قَبُولِ الْوَصِيَّةِ.
(وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَبَاهُمَا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ) أَيْ زَيْدًا
بِقَبْضِ دَيْنِهِ، أَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ (لَا تُقْبَلُ وَإِنْ)
وَصْلِيَّةٌ (ادَّعَاهُ) ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ
(2/202)
لَا يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَكِيلِ عَنْ
الْغَائِبِ بِتَعْيِينِهِمَا فَشَهَادَتُهُمَا تَصِيرُ لِنَفْعِهِمَا إذْ
يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَاضَعَا مَعَ الْوَكِيلِ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ فَلَا
تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ
الْقَاضِيَ يَمْلِكُ نَصْبَ الْوَصِيِّ عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْحَاجَةِ
فَبِشَهَادَتِهِمَا، أَوْلَى وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ
الْجَوَازَ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا مَنْ يَقُومُ بِإِحْيَاءِ حُقُوقِهِمَا
فَلَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ
وَإِنْ ادَّعَاهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكَالَةِ أَيْ وَإِنْ ادَّعَى
الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَإِنْ ادَّعَاهَا
بِالتَّأْنِيثِ لَكَانَ أَظْهَرَ.
(وَلَوْ شَهِدَ دَايِنَا مَيِّتٍ) أَيْ لَوْ شَهِدَ غَرِيمَانِ لَهُمَا
عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا (أَنَّهُ) أَيْ الْمَيِّتَ (أَوْصَى إلَى زَيْدٍ)
أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا (وَهُوَ) أَيْ زَيْدٌ (يَدَّعِيه) أَيْ الْإِيصَاءَ
(قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُمَا كَمَا إذَا شَهِدَا بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ
لِرَجُلَيْنِ ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِدِينٍ
عَلَى الْمَيِّتِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ
كُلَّ فَرِيقٍ يَشْهَدُ بِالدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ وَلَا شَرِكَةَ لَهُ
فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَقْبُوضِ بَعْدَ
الْقَبْضِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ إذَا
قَبَضَ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ بِدَيْنِهِ يُشْرِكُهُ الْفَرِيقُ
الْآخَرُ فَصَارَ كُلٌّ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَكَذَا لَوْ شَهِدَ مَدْيُونَاهُ) أَيْ لَوْ شَهِدَ مَدْيُونَا مَيِّتٍ
أَنَّ الْمَيِّتَ، أَوْصَى إلَى زَيْدٍ وَهُوَ يَدَّعِيه قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمَا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ الْجَوَازَ فِي
الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّائِنِينَ قَصَدَا مَنْ يُؤَدِّي حَقَّهُمَا
وَالْمَدْيُونِينَ قَصَدَا الْبَرَاءَةَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا
تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ (أَوْ) شَهِدَ (مَنْ أَوْصَى لَهُمَا) بِأَنَّ
الْمَيِّتَ قَدْ، أَوْصَى إلَى زَيْدٍ وَهُوَ يَدَّعِيه (أَوْ) شَهِدَ
(وَصِيَّاهُ) بِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ، أَوْصَى إلَى زَيْدٍ وَهُوَ
يَدَّعِيه قُبِلَتْ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ الْجَوَازَ فِي
الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا أَرَادَا نَصْبَ مَنْ يُوَصِّلُ حَقَّهُمَا
فِي الْأُولَى وَنَصْبَ مَنْ يُعِينُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِ
الْمَيِّتِ فِي الثَّانِيَةِ فَالنَّفْعُ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فَلَا
تُقْبَلُ لَا يُقَالُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا كَانَ لَهُ وَصِيَّانِ
فَالْقَاضِي لَا يَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ
لِإِقْرَارِهِمَا بِالْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ بِأُمُورِ الْمَيِّتِ
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ جَاحِدًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ
الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إجْبَارَ أَحَدٍ عَلَى قَبُولِ
الْوِصَايَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَوْتِ
مَعْرُوفًا فِي الْكُلِّ أَيْ ظَاهِرًا إلَّا فِي مَسْأَلَةِ
الْغَرِيمَيْنِ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ الْمَوْتُ مَعْرُوفًا.
وَفِي الْبَحْرِ وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ بَعْدَ الْعَزْلِ لِلْمَيِّتِ
إنْ خَاصَمَ لَا تُقْبَلُ وَإِلَّا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدَ الْوَكِيلُ
بَعْدَ عَزْلِهِ لِلْمُوَكَّلِ إنْ خَاصَمَ لَا تُقْبَلُ وَإِلَّا تُقْبَلُ
ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنْ الْبَزَّازِيَّةِ: وَأَمَّا شَهَادَةُ الْوَصِيِّ
بِحَقٍّ لِلْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ بَعْدَمَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ
الْوِصَايَةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ، أَوْ بَعْدَهَا لَا تُقْبَلُ وَكَذَا
لَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ بِحَقٍّ لِلْمَيِّتِ بَعْدَمَا أَدْرَكَتْ
الْوَرَثَةُ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ
عَلَى الْمَيِّتِ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ صَغِيرًا لَا تَجُوزُ
اتِّفَاقًا وَإِنْ بَالَغَا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ
وَلَوْ شَهِدَ لِكَبِيرٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ تُقْبَلُ
(2/203)
فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَوْ شَهِدَ
لِلْوَارِثِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي غَيْرِ مِيرَاثٍ لَمْ تُقْبَلْ
وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيَّانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ
لِوَارِثٍ بَالِغٍ تُقْبَلُ انْتَهَى.
(وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ) حَالَ كَوْنِهَا مُشْتَمِلَةً (عَلَى جَرْحٍ
مُجَرَّدٍ) أَيْ جَارِحِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ أَيْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَرْحِ مِنْ دَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلِذَا يُقَالُ لَهُ الْجَرْحُ الْمُفْرَدُ
(وَهُوَ) أَيْ الْجَرْحُ الْمُجَرَّدُ (مَا يَفْسُقُ بِهِ) شَاهِدُ
الْمُدَّعِي الْمُعَدَّلُ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ
التَّعْدِيلِ لَا سِيَّمَا إذَا جُرِحَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُسْمَعُ
وَيُحْكَمُ بِهِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَصَّافِ (مِنْ غَيْرِ إيجَابِ
حَقٍّ لِلشَّرْعِ) كَوُجُوبِ الْحَدِّ (أَوْ لِلْعَبْدِ) كَوُجُوبِ
الْمَالِ فَلَوْ، أَوْجَبَهُ تُقْبَلُ (نَحْوُ) أَنْ يَشْهَدُوا (هُوَ)
أَيْ الشَّاهِدُ (فَاسِقٌ، أَوْ آكِلُ رِبًا وَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُمْ) ،
أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ فِي وَقْتِ، أَوْ زَانٍ فِي وَقْتٍ، أَوْ عَلَى
إقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِزُورِ أَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ
فِي هَذِهِ الدَّعْوَى أَوْ أَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلُ
هَذِهِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ بَعْدَمَا
ثَبَتَتْ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حَقِّ الشَّرْعِ، أَوْ
الْعَبْدِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إثْبَاتُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَتْ قَبْلَ التَّعْدِيلِ فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ فِي
الدَّفْعِ وَمِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ أَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ
مِنْ الرَّفْعِ وَهُوَ السِّرُّ فِي كَوْنِ الْجَرْحِ الْمُجَرَّدِ
مَقْبُولًا قَبْلَ التَّعْدِيلِ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ وَلِذَا قَيَّدْنَا
بِالْمُعَدَّلِ وَغَيْرِ مَقْبُولٍ بَعْدَهُ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى نِصَابِ
الشَّهَادَةِ وَإِثْبَاتِ حَقِّ الشَّرْعِ، أَوْ الْعَبْدِ كَمَا فِي
الدُّرَرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بَعْدَ
التَّعْدِيلِ كَمَا فِي الْغَرَرِ لَكَانَ، أَوْلَى.
(وَتُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (عَلَى إقْرَارِ الْمُدَّعِي بِفِسْقِهِمْ) أَيْ
بِفِسْقِ شُهُودِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَظْهَرُوا الْفَاحِشَةَ بَلْ حَكَوْا
عَنْهُ وَالْإِقْرَارُ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ فَهَذِهِ
الشَّهَادَةُ لَيْسَتْ عَلَى جَرْحٍ مُجَرَّدٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ
عَلَى إقْرَارِ الشُّهُودِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ؛
لِأَنَّ فِيهِ هَتْكَ السِّتْرِ وَبِهِ يَثْبُتُ الْفِسْقُ فَلَا تُقْبَلُ.
(وَ) تُقْبَلُ (عَلَى أَنَّهُمْ) أَيْ الشُّهُودَ (عَبِيدٌ) ، أَوْ
أَحَدَهُمْ عَبْدٌ (أَوْ) أَنَّهُمْ (مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ، أَوْ)
أَنَّهُمْ (شَارِبُو خَمْرٍ) الْآنَ وَلَمْ يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ إذْ لَوْ
كَانَ مُتَقَادِمًا لَا تُقْبَلُ كَمَا مَرَّ وَكَذَا تُقْبَلُ عَلَى
أَنَّهُمْ سَرَقُوا مِنِّي كَذَا، أَوْ زَنَوْا بِالنِّسْوَةِ بِلَا
تَقَادُمٍ مَا لَمْ يَزُلْ الرِّيحُ فِي الْخَمْرِ وَلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ
فِي الْبَاقِي (أَوْ) أَنَّهُمْ (قَذَفَةٌ) لِفُلَانٍ وَهُوَ يَدَّعِيه
فَإِنَّ الْكُلَّ يُوجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَهُوَ الرِّقُّ فِي الْعَبْدِ
وَالْحَدُّ فِي الْبَاقِي (أَوْ) أَنَّهُمْ (شُرَكَاءُ الْمُدَّعِي)
شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ وَالْمُدَّعِي مَالًا لِوُجُودِ التُّهْمَةِ كَمَا
إذَا شَهِدَ وَلَدُ الْمُدَّعِي، أَوْ وَالِدُهُ (أَوْ أَنَّهُ) أَيْ
الْمُدَّعِيَ (اسْتَأْجَرَهُمْ لَهَا) ، أَوْ لِلشَّهَادَةِ (بِكَذَا
وَأَعْطَاهُمْ ذَلِكَ) أَيْ الْأَجْرَ (مِمَّا عِنْدَهُ) أَيْ مِنْ
الشَّيْءِ الَّذِي عِنْدَهُ فَيَكُونُ مَا مَوْصُولَةٌ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ مَالِي عِنْدَهُ أَيْ مِنْ مَالِي الَّذِي
كَانَ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَثَبَتَ
الْجَرْحُ بِنَاءً
(2/204)
عَلَيْهِ (أَوْ) أَنَّهُمْ عَلَى (أَنِّي
صَالَحْتهمْ بِكَذَا) مِنْ الْمَالِ (وَدَفَعْته) أَيْ الْمَالَ
(إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الشُّهُودِ (عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدُوا عَلَيَّ)
بِهَذَا الْبَاطِلِ (فَشَهِدُوا) فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا الْمَالَ
عَلَى أَنَّهُمْ أَخْصَامٌ فِي ذَلِكَ (وَمَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ)
أَيْ لَمْ يَزُلْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي (حَتَّى قَالَ، أَوْهَمْت بَعْضَ
شَهَادَتِي) مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ فِي بَعْضِ شَهَادَتِي
(قُبِلَ إنْ كَانَ عَدْلًا) وَالْمُرَادُ بِالْقَبُولِ قَبُولُ شَهَادَتِهِ
لَا قَبُولُ قَوْلِهِ: أَوْهَمَتْ لِمَا فِي الْهِدَايَةِ فَإِنْ كَانَ
عَدْلًا جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ، أَوْهَمَتْ أَيْ
أَخْطَأْت بِنِسْيَانٍ مَا كَانَ بِحَقٍّ عَلَى ذِكْرِهِ، أَوْ بِزِيَادَةٍ
كَانَتْ بَاطِلَةً وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ
لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا
فَيُقْبَلُ إذَا تَدَارَكَهُ فِي أَوَانِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ عَدْلٌ
بِخِلَافِ مَا إذَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ وَقَالَ:
أَوْهَمْت؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنْ الْمُدَّعِي بِتَلْبِيسٍ
وَخِيَانَةٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ إذَا اتَّحَدَ
لَحِقَ الْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الشَّهَادَةِ فَصَارَ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ وَلَا
كَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ وَعَلَى هَذَا إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ
فِي بَعْضِ الْحُدُودِ، أَوْ فِي بَعْضِ النَّسَبِ وَهَذَا إذَا كَانَ
مَوْضِعُ شُبْهَةٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَا بَأْسَ بِإِعَادَةِ
الْكَلَامِ أَصْلًا مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا
يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَإِنْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
عَدْلًا وَعَنْ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي غَيْرِ
الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ عَدْلًا وَالظَّاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى.
وَفِي الدُّرَرِ إذَا تَذَكَّرَ لَفْظًا بَعْدَمَا شَهِدَ فِي شَهَادَتِهِ
فَذَكَرَهُ يُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَاقَضَةٌ وَأَطْلَقَ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُحِيطِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْرَحْ عَنْ
مَكَانِهِ جَازَ ذَلِكَ إذَا كَانَ عَدْلًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَدَمُ
الْمُنَاقَضَةِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ حَسَنٌ ذَكَرَهُ الزَّاهِدِيُّ.
[بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ]
ِ تَأْخِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ عَنْ اتِّفَاقِهَا مِمَّا
يَقْتَضِيه الطَّبْعُ لِكَوْنِ الِاتِّفَاقِ أَصْلًا وَالِاخْتِلَافُ
إنَّمَا يُعَارِضُ الْجَهْلَ وَالْكَذِبَ فَأَخَّرَهُ وَضْعًا
لِلتَّنَاسُبِ كَمَا فِي الْعِنَايَةِ (شَرْطُ مُوَافَقَةِ الشَّهَادَةِ
الدَّعْوَى) ؛ لِأَنَّهَا لَوْ خَالَفَتْهَا فَقَدْ كَذَّبَتْهَا
وَالدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ لَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا وَالشَّرْطُ
تَوَافُقُهُمَا فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى
الْمُدَّعِي الْغَصْبَ فَشَهِدَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
بِذَلِكَ تُقْبَلُ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ وَمَا فِي الْوِقَايَةِ
مِنْ أَنَّهُ شَرْطُ مُوَافَقَةِ الشَّهَادَةِ الدَّعْوَى كَاتِّفَاقِ
الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا وَمَعْنًى مُخَالِفٌ لِمَا فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ
تَدَبَّرْ ثُمَّ فَرَّعَهُ فَقَالَ (فَلَوْ ادَّعَى دَارًا شِرَاءً، أَوْ
إرْثًا وَشَهِدَا) أَيْ الشَّاهِدَانِ (بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ رُدَّتْ)
شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ
الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مِلْكًا حَادِثًا وَهُمَا شَهِدَا بِمِلْكٍ
قَدِيمٍ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُطْلَقِ يَثْبُتُ
مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِزَوَائِدِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي
الْمِلْكِ الْحَادِثِ وَيَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فِيهِ
فَصَارَا غَيْرَيْنِ
(2/205)
(وَفِي عَكْسِهِ) أَيْ ادَّعَى مِلْكًا
مُطْلَقًا وَشَهِدَا بِمُلْكٍ بِسَبَبٍ كَالشِّرَاءِ، أَوْ الْإِرْثِ
(تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ
فَلَمْ تُخَالِفْ شَهَادَتُهُمَا الدَّعْوَى لِلْمُطَابِقَةِ مَعْنًى.
(وَكَذَا شَرْطُ اتِّفَاقِ الشَّاهِدِينَ لَفْظًا وَمَعْنًى) ؛ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهِيَ شَهَادَةُ الْمَثْنَى فَمَا
لَمْ يَتَّفِقَا فِيمَا شَهِدَا بِهِ لَا تَثْبُتُ الْحُجَّةُ مُطْلَقًا
وَالْمُوَافَقَةُ الْمُطْلَقَةُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَهَذَا عِنْدَ
الْإِمَامِ وَقَالَا الِاتِّفَاقُ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ لَا
غَيْرُ وَالْمُرَادُ بِالِاتِّفَاقِ فِي اللَّفْظِ تَطَابُقُ اللَّفْظَيْنِ
عَلَى إفَادَةِ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْوَضْعِ لَا بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ
حَتَّى لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ شَاهِدٌ
بِدِرْهَمٍ وَآخَرُ بِدِرْهَمَيْنِ وَآخَرُ بِثَلَاثَةٍ وَآخَرُ
بِأَرْبَعَةٍ وَآخَرُ بِخَمْسَةٍ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ
الْمُوَافَقَةِ لَفْظًا وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِأَرْبَعَةٍ لِاتِّفَاقِ
الشَّاهِدِينَ الْأَخِيرِينَ فِيهَا مَعْنًى ثُمَّ فَرَّعَهُ فَقَالَ
(فَلَا تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، أَوْ
مِائَةٍ، أَوْ طَلْقَةٍ وَ) شَهِدَ (الْآخِرُ بِأَلْفَيْنِ، أَوْ
بِمِائَتَيْنِ، أَوْ بِطَلْقَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ) عِنْدَ الْإِمَامِ
لِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ لَفْظًا وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْأَقَلِّ
بِالتَّضَمُّنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ
أَحَدُهُمَا بِأَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتَ خَلِيَّةٌ وَشَهِدَ
الْآخِرُ أَنَّهُ قَالَ أَنْتَ بَرِيَّةٌ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ وَإِنْ
اتَّفَقَ الْمَعْنَى كَمَا لَوْ ادَّعَى غَصْبًا، أَوْ قَتْلًا فَشَهِدَ
أَحَدُهُمَا بِهِ وَالْآخِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ
وَكَذَا فِي كُلِّ قَوْلٍ جُمِعَ مَعَ فِعْلٍ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَوْ
ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَفَعَ لِهَذَا
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا وَشَهِدَ الْآخِرُ عَلَى إقْرَارِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا لَا يُجْمَعُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ
وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمَا فِي
الْمِنَحِ (وَعِنْدَهُمَا) وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (تُقْبَلُ عَلَى
الْأَقَلِّ) أَيْ عَلَى الْأَلْفِ، أَوْ الْمِائَةِ، أَوْ الطَّلْقَةِ
عِنْدَ دَعْوَى الْأَكْثَرِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَقَلِّ مَعْنًى
مِنْ غَيْرِ قَدْحٍ وَلَوْ ادَّعَى الْأَقَلَّ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ
عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ لِشَاهِدِ الْأَكْثَرِ وَفِي
النِّهَايَةِ إنْ كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا فِي اللَّفْظِ دُونَ
الْمَعْنَى تُقْبَلُ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهِبَةِ
وَالْآخَرُ عَلَى الْعَطِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي
الشَّهَادَةِ بَلْ الْمَقْصُودُ مَا صَارَ اللَّفْظُ عَلَمًا عَلَيْهِ
فَإِذَا وُجِدَتْ الْمُوَافَقَةُ فِي ذَلِكَ لَا يَصِيرُ الْمُخَالَفَةُ
فِيمَا سِوَاهَا وَكَذَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَالْآخَرُ
بِالتَّزْوِيجِ تُقْبَلُ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ
خِلَافًا.
وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ فَلْيُطَالَعْ (وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا
بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي
الْأَكْثَرَ) أَيْ أَلْفًا وَمِائَةً (قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُمَا (عَلَى
الْأَلْفِ اتِّفَاقًا) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى
وَقَدْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بِالْعَطْفِ
وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا
عَلَيْهِ قَيَّدَ بِدَعْوَى الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى
الْأَقَلَّ بِأَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْأَلْفَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ
دَعْوَى الْمِائَةِ الزَّائِدَةِ لَا تُقْبَلُ لِظُهُورِ تَكْذِيبِهِ
الشَّاهِدَ فِي الْأَكْثَرِ إلَّا إذَا ادَّعَى التَّوْفِيقَ بِأَنْ قَالَ
كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَمِائَةً وَلَكِنْ أَبْرَأَتْ الْمِائَةَ
عَنْهَا، أَوْ اسْتَوْفَيْت قُبِلَتْ لِلتَّوْفِيقِ
(2/206)
(وَكَذَا مِائَةٌ وَمِائَةٌ وَعَشَرَةٌ)
يَعْنِي لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخِرُ بِمِائَةٍ
وَعَشَرَةٌ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ عَلَى مِائَةٍ اتِّفَاقًا.
(وَ) كَذَا (طَلْقَةٌ وَطَلْقَةٌ وَنِصْفٌ) أَيْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا
بِطَلْقَةٍ وَالْآخَرُ بِطَلْقَةٍ وَنِصْفٌ تُقْبَلُ اتِّفَاقًا عَلَى
طَلْقَةٍ إنْ ادَّعَى الْأَكْثَرَ بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَخَمْسَةَ عَشَرَ
حَيْثُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مَرْكَبٌ كَالْأَلْفَيْنِ إذْ لَيْسَ
بَيْنَهُمَا عَطْفٌ.
وَفِي الْبَحْرِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَالْآخَرُ
عَلَى عَشَرَةٍ وَخَمْسَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي خَمْسَةَ عَشَرَ
يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَل.
(وَلَوْ شَهِدَا بِأَلْفٍ، أَوْ بِقَرْضِ أَلْفٍ وَقَالَ أَحَدُهُمَا) أَيْ
أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ (قَضَى مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْأَلْفِ (كَذَا) أَيْ
خَمْسَمِائَةٍ مَثَلًا (قُبِلَتْ) شَهَادَتُهُمَا (عَلَى الْأَلْفِ)
لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ (لَا) تُقْبَلُ (عَلَى
الْقَضَاءِ) ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةُ فَرْدٍ (مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ) أَيْ
إلَّا أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُ (آخَرُ) .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْضِي بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ شَاهِدَ
الْقَضَاءِ مَضْمُونٌ شَهَادَتُهُ أَنْ لَا دَيْنَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ
(وَيَنْبَغِي) أَيْ يَجِبُ (لِمَنْ عَلِمَهُ) أَيْ عَلِمَ قَضَاءَ بَعْضِهِ
(أَنْ لَا يَشْهَدَ) بِالْأَلْفِ كُلِّهَا (حَتَّى يُقِرَّ الْمُدَّعِي
بِهِ) أَيْ بِمَا قَبَضَ كَيْ لَا يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ.
(وَلَوْ شَهِدَا بِقَتْلِهِ) أَيْ بِقَتْلِ شَخْصٍ (زَيْدًا يَوْمَ
النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَ) شَهِدَ (آخَرَانِ بِقَتْلِهِ) أَيْ بِقَتْلِ
ذَلِكَ الشَّخْصِ (إيَّاهُ) أَيْ زَيْدًا (فِيهِ) أَيْ فِي يَوْمِ
النَّحْرِ (بِكُوفَةَ رُدَّتَا) بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا
كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَا مَجَالَ لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْ
بَابِ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَتَكَرَّرُ وَكَذَا لَوْ
اخْتَلَفَا فِي الزَّمَانِ، أَوْ الْآلَةِ الَّتِي قُتِلَ بِهَا رُدَّتَا
أَيْضًا قَيَّدَ بِكَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ الْقَتْلَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ
شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ الْقَاتِلَ بِذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ، أَوْ
مَكَانَيْنِ تُقْبَلُ كَمَا فِي الْبَحْرِ (فَإِنْ قَضَى بِإِحْدَاهُمَا)
أَيْ بِإِحْدَى شَهَادَتَيْنِ (أَوْ لَا بَطَلَتْ) الشَّهَادَةُ
(الْأَخِيرَةُ) بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَرَجَّحَتْ عَلَى
الْأُخْرَى بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُنْتَقَضُ بِالثَّانِيَةِ.
(وَلَوْ شَهِدَا بِسَرِقَةِ بَقَرَةٍ وَاخْتَلَفَا) أَيْ الشَّاهِدَانِ
(فِي لَوْنِهَا) أَيْ فِي لَوْنِ الْبَقَرَةِ أَطْلَقَ اللَّوْنَ فَشَمِلَ
جَمِيعَ الْأَلْوَانِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَيْ قَالَ أَحَدُهُمَا حَمْرَاءُ
وَالْآخَرُ صَفْرَاءُ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا سَوْدَاءُ وَالْآخَرُ
بَيْضَاءُ (قُطِعَ) أَيْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَقُطِعَتْ يَدُ
السَّارِقِ عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَيْسَ فِي
صُلْبِ الشَّهَادَةِ وَلِذَا لَوْ سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ اللَّوْنِ تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا مَعَ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بَيْنَ اللَّوْنَيْنِ؛
لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ فِي اللَّيَالِي غَالِبًا وَيَكُونُ
التَّحَمُّلُ فِيهَا مِنْ بَعِيدٍ فَيَتَشَابَهُ عَلَيْهِمَا اللَّوْنَانِ،
أَوْ يَجْتَمِعَانِ بِأَنْ يَكُونَ السَّوَادُ مِنْ جَانِبٍ فَأَحَدُهُمَا
يَرَاهُ وَالْبَيَاضُ مِنْ جَانِبٍ وَالْآخَرُ يَرَاهُ.
وَفِي الْإِصْلَاحِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ احْتِيَالٌ فِي إيجَابِ
الْحَدِّ وَالْأَصْلُ خِلَافُ ذَلِكَ وَمَا قِيلَ فِي دَفْعِهِ أَنَّهُ
صِيَانَةٌ لِلْحُجَّةِ عَنْ التَّعْطِيلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ
ضَرُورَةً ضَعِيفٌ كَمَا لَا يَخْفَى وَلَوْ قِيلَ يَثْبُتُ الْمَالُ
لِإِمْكَانِ التَّوْفِيقِ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ
لَكَانَ، أَوْفَقَ لِلْأُصُولِ
(2/207)
أَقْرَبُ إلَى الْعُقُودِ (وَإِنْ
اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ) أَيْ قَالَ أَحَدُهُمَا
سَرَقَ ذَكَرًا وَالْآخَرُ قَالَ أُنْثَى (لَا) يُقْطَعُ اتِّفَاقًا
لِعَدَمِ تَطَابُقِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَعْنَى لِاخْتِلَافِهِمَا فِي
جِنْسَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ (وَعِنْدَهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ
الثَّلَاثَةِ (لَا يُقْطَعُ فِيهِمَا) أَيْ فِيمَا اخْتَلَفَا فِي
لَوْنِهَا وَفِيمَا اخْتَلَفَا فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ؛ لِأَنَّ
الْبَقَرَةَ الْبَيْضَاءَ غَيْرُ السَّوْدَاءِ فَكَانَا سَرِقَتَيْنِ
مُخْتَلِفَتَيْنِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى وَاحِدٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ
فَصَارَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ قِيلَ هَذَا
اخْتِلَافٌ فِيمَا إذَا ادَّعَى سَرِقَةَ بَقَرَةٍ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ
تَقْيِيدٍ بِوَصْفٍ فَإِذَا ادَّعَى سَرِقَةَ بَقَرَةٍ سَوْدَاءَ، أَوْ
بَيْضَاءَ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا كَمَا لَا
تُقْبَلُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَرْوَزِيِّ وَالْهَرَوِيِّ فِي
سَرِقَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَهُمَا (وَفِي
الْغَصْبِ) يَعْنِي لَوْ شَهِدَا بِغَصْبِ بَقَرَةٍ وَاخْتَلَفَا فِي
لَوْنِهَا (لَا تُقْبَلُ اتِّفَاقًا) ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ فِيهِ
بِالنَّهَارِ غَالِبًا عَلَى قُرْبٍ مِنْهُ فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمَا.
وَفِي التَّنْوِيرِ وَفِي الْعَيْنِ تُقْبَلُ (وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ
بِالشِّرَاءِ، أَوْ الْكِتَابَةِ بِأَلْفٍ) مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا.
(وَ) شَهِدَ (الْآخَرُ) بِالشِّرَاءِ، أَوْ الْكِتَابَةِ (بِأَلْفٍ
وَمِائَةٍ رُدَّتْ) شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ
السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَالْبَيْعُ بِأَلْفٍ غَيْرُ الْبَيْعِ
بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ لِاخْتِلَافِ الثَّمَنِ
فَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعُ، أَوْ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ
أَنْ يَدَّعِيَ أَقَلَّ الْمَالَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَهُمَا كَمَا سَيَجِيءُ
وَكَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ.
(وَكَذَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحُ عَنْ قَوَدٍ وَالرَّهْنُ
وَالْخُلْعُ إنْ ادَّعَى الْعَبْدُ) فِي الصُّورَةِ الْأُولَى
(وَالْقَاتِلُ) فِي الثَّانِيَةِ (وَالرَّاهِنُ) فِي الثَّالِثَةِ
(وَالْمَرْأَةُ) فِي الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْصِدُونَ
إثْبَاتَ الْمَالِ بَلْ إثْبَاتَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فَلَا
تُقْبَلُ.
(وَإِنْ ادَّعَى الْآخَرُ) أَيْ الْمَوْلَى فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ
وَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ فِي الصُّلْحِ عَنْ قَوَدٍ وَالْمُرْتَهِنُ فِي
الرَّهْنِ وَالزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ بِأَنْ يَدَّعِيَ مَوْلَى الْعَبْدِ
أَنِّي أَعْتَقْتُك عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ وَقَالَ الْعَبْدُ: عَلَى
أَلْفٍ، أَوْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقِصَاصِ صَالَحْتُك عَلَى أَلْفٍ
وَمِائَةٍ وَقَالَ الْقَاتِلُ: عَلَى أَلْفٍ وَكَذَا الْبَاقِيَانِ (كَانَ
كَدَعْوَى الدَّيْنِ) فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ أَنَّهَا
تُقْبَلُ عَلَى أَلْفٍ إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَمِائَةً بِالِاتِّفَاقِ
وَإِذَا ادَّعَى أَلْفَيْنِ لَا تُقْبَلُ عِنْده خِلَافًا لَهُمَا وَإِنْ
ادَّعَى الْأَقَلَّ مِنْ الْمَالَيْنِ تُعْتَبَرُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ
مِنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالسُّكُوتِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ
ثَبَتَ الْعَفْوُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِاعْتِرَافِ صَاحِبِ الْحَقِّ
فَبَقِيَ الدَّعْوَى فِي الدَّيْنِ وَفِي الرَّهْنِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي
هُوَ الرَّاهِنُ لَا تُقْبَلُ لِعَدَمِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كَانَتْ
دَعْوَاهُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ فَكَانَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَإِنْ كَانَ
هُوَ الْمُرْتَهِنَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ يُقْضَى بِأَقَلِّ
الْمَالَيْنِ إجْمَاعًا، وَفِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ كَلَامٌ
فَلْيُطَالَعْ (وَالْإِجَارَةُ كَالْبَيْعِ عِنْدَ أَوَّلِ الْمُدَّةِ)
يَعْنِي إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْإِجَارَةِ
(2/208)
فِي أَوَّلِ الْمُدَّةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ لَا تُقْبَلُ كَمَا لَا
تُقْبَلُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْبَيْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ
الْعَقْدِ سَوَاءٌ ادَّعَى الْمُؤَجِّرُ، أَوْ الْمُسْتَأْجِرُ وَسَوَاءٌ
كَانَتْ الدَّعْوَى بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ، أَوْ أَكْثَرِهِمَا
(وَكَالدَّيْنِ بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَثَبَتَ مَا اتَّفَقَ
عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ وَهُوَ الْأَقَلُّ أَمَّا إذَا كَانَ الْمُدَّعِي
هُوَ الْآجِرُ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إلَى إثْبَاتِ الْعَقْدِ،
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ اعْتِرَافٌ
بِمَالِ الْإِجَارَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ غَيْرِ
حَاجَةٍ إلَى اتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ، أَوْ اخْتِلَافِهِمَا وَهَذَا إنْ
ادَّعَى الْأَكْثَرَ وَإِنَّ الْأَقَلَّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ
شَهِدَ بِالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُهُ وَفِي بَعْضِ
الشُّرُوحِ فَإِنْ كَانَ الدَّعْوَى مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَهُوَ دَعْوَى
الْعَقْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ
الدَّعْوَى إذَا كَانَتْ فِي الْعَقْدِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ فَيُؤْخَذُ
الْمُسْتَأْجِرُ بِاعْتِرَافِهِ كَمَا فِي الْعِنَايَةِ (وَفِي النِّكَاحِ
تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ (بِأَلْفٍ) إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي
قَدْرِ الْمَهْرِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالنِّكَاحِ بِالْأَلْفِ
وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ (اسْتِحْسَانًا) ؛
لِأَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَابِعٌ وَمِنْ حُكْمِ التَّابِعِ أَنْ
لَا يُغَيِّرَ الْأَصْلَ وَلِذَا لَا يَبْطُلُ بِنَفْيِهِ وَلَا يَفْسُدُ
بِفَسَادِهِ وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ إذَا اتَّفَقَا عَلَى
الْأَصْلِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْحَلُّ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِهِ
فَيَبْقَى الْمَهْرُ مَالًا مُنْفَرِدًا وَقَضَى بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ
(وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ دَعْوَى الْأَقَلِّ، أَوْ الْأَكْثَرِ) وَهُوَ
الصَّحِيحُ وَبَيْنَ كَوْنِ الدَّعْوَى مِنْ الزَّوْجِ، أَوْ الزَّوْجَةِ
وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إلَيْهِ هُوَ النِّكَاحُ، وَهُوَ
لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَهْرِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ
فَلُزُومُ إكْذَابِ شَاهِدِ الْأَكْثَرِ عِنْدَ دَعْوَى الْأَقَلِّ لَا
يَضُرُّ فِي ثُبُوتِ النِّكَاحِ وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَتْ
الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجُ
لَا تُقْبَلُ إجْمَاعًا (وَقَالَا) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ
الثَّلَاثَةِ (رُدَّتْ) الشَّهَادَةُ (فِيهِ) أَيْ فِي النِّكَاحِ
(أَيْضًا) أَيْ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَا يُقْضَى بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إثْبَاتُ السَّبَبِ إذْ النِّكَاحُ
بِأَلْفٍ غَيْرُ النِّكَاحِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي
قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ الْإِمَامِ فَالْعَمَلُ
بِالِاسْتِحْسَانِ، أَوْلَى وَفِي الشُّمُنِّيِّ وَغَيْرِهِ وَلَوْ
اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي الْبَيْعِ
وَالشِّرَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ
وَالرَّهْنِ وَالدَّيْنِ وَالْقَرْضِ وَالْبَرَاءَةِ وَالْكَفَالَةِ
وَالْحَوَالَةِ وَالْقَذْفِ تُقْبَلُ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْجِنَايَةِ
وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَالنِّكَاحِ لَا تُقْبَلُ.
وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ فَلْيُرَاجَعْ.
(وَلَا بُدَّ مِنْ الْجَرِّ فِي شَهَادَةِ الْإِرْثِ) يَعْنِي إذَا ادَّعَى
الْوَارِثُ عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهَا مِيرَاثُ أَبِيهِ وَشَهِدَا
أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ لِأَبِيهِ لَا يُقْضَى لَهُ حَتَّى يَجُرَّ
الْمِيرَاثَ حَقِيقَةً (بِأَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ مَاتَ وَتَرَكَهُ
مِيرَاثًا لِلْمُدَّعِي) ، أَوْ حُكْمًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ
(أَوْ مَاتَ وَهَذَا مِلْكُهُ، أَوْ فِي يَدِهِ) وَتَصَرُّفِهِ أَمَّا إنْ
قَالَ إنَّهُ كَانَ لِابْنِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ الْجَرِّ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا هَذَا عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ (خِلَافًا لِأَبِي
يُوسُفَ)
(2/209)
فَإِنَّهُ قَالَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
بِلَا جَرٍّ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُوَرِّثِ مِلْكُ الْوَارِثِ لِكَوْنِ
الْوِرَاثَةِ خِلَافَةً وَلِهَذَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ
بِهِ فَصَارَتْ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لَلْمُوَرِّثِ شَهَادَةً بِهِ
لِلْوَارِثِ وَلَهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَتَجَدَّدُ فِي
الْأَعْيَانِ وَإِنْ لَمْ يَتَجَدَّدْ فِي حَقِّ الدُّيُونِ؛ وَلِهَذَا
يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى الْوَارِثِ فِي الْجَارِيَةِ الْمُوَرَّثَةِ
وَيَحِلُّ لِلْوَارِثِ الْغَنِيِّ مَا كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْمُوَرِّث
الْفَقِيرِ، وَالْمُتَجَدِّدُ يَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ لِئَلَّا يَكُونَ
اسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُثْبَتًا لَكِنْ يُكْتَفَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى
قِيَامِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ وَقْتَ الْمَوْتِ لِثُبُوتِ الِانْتِقَالِ
حِينَئِذٍ ضَرُورَةً وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى قِيَامِ يَدِهِ؛ لِأَنَّ
الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ بِوَاسِطَةِ
الضَّمَانِ إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
أَنْ يُسَوِّيَ أَسْبَابَهُ وَيُبَيِّنَ مَا كَانَ مِنْ الْوَدَائِعِ
وَالْغُصُوبِ فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّ مَا
فِي يَدِهِ مِلْكَهُ فَجَعَلَ الْيَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ دَلِيلَ الْمِلْكِ
كَمَا فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ وَقَالَ صَاحِبُ الْمِنَحِ وَلَا بُدَّ
مَعَ الْجَرِّ الْمَذْكُورِ مِنْ بَيَانِ سَبَبِ الْوِرَاثَةِ، وَإِذَا
شَهِدُوا أَنَّهُ أَخُوهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ أَخُوهُ
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَلَا بُدَّ مِنْ قَوْلِ
الشَّاهِدِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَوْ قَالَ: لَا وَارِثَ لَهُ
بِأَرْضِ كَذَا تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَذِكْرُ اسْمِ
الْمَيِّتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ جَدُّهُ أَبُو
أَبِيهِ وَوَارِثُهُ وَلَمْ يُسَمَّ الْمَيِّتُ تُقْبَلُ بِدُونِ اسْمِ
الْمَيِّتِ (فَإِنْ قَالَ) الشَّاهِدُ (كَانَ هَذَا الشَّيْءُ لِأَبِ
الْمُدَّعِي أَعَارَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ، أَوْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ
قُبِلَتْ) الشَّهَادَةُ (بِلَا جَرٍّ) ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ
وَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَأْجِرِ يَدُ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَأَنَّهُ شَهِدَ
بِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَالْمَنْزِلُ فِي يَدِهِ (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ
هَذَا الشَّيْءَ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي مُنْذُ كَذَا) وَالْحَالُ
أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى (رُدَّتْ) شَهَادَتُهُمَا
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مَقْصُودَةٌ
كَالْمِلْكِ.
(وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ قُبِلَتْ) فَكَذَا هَذَا وَصَارَ
كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْأَخْذِ مِنْ الْمُدَّعِي وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ
وَهُوَ قَوْلُ الطَّرَفَيْنِ إلَّا الشَّهَادَةَ قَامَتْ بِمَجْهُولٍ
فَإِنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى يَدِ مِلْكٍ وَأَمَانَةٍ وَضَمَانٍ
فَلَا يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ
مَعْلُومٌ وَحُكْمُهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ وَبِخِلَافِ
الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَعَنْ هَذَا قَالَ:
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِمَا
مَرَّ.
(وَلَوْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي
أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ
فِي الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ.
(وَكَذَا) يُؤْمَرُ بِدَفْعِهِ (لَوْ شَهِدَا بِإِقْرَارِهِ) أَيْ إقْرَارِ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (بِذَلِكَ) أَيْ بِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ
الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْلُومٌ فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهِ.
(2/210)
[بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ]
ِ لَا يَخْفَى حُسْنُ تَأْخِيرِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ عَنْ الْأُصُولِ
(تُقْبَلُ) الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ اسْتِحْسَانًا فِي جَمِيعِ
الْحُقُوقِ كَالْأَمْوَالِ وَالْوَقْفِ عَلَى الصَّحِيحِ
إحْيَاءً لَهُ وَصَوْنًا عَنْ انْدِرَاسِهِ وَالتَّعْزِيرِ
كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَفِي الِاخْتِيَارِ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ الْإِمَامِ
أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ وَقَضَاءُ الْقَاضِي وَكِتَابُهُ كَمَا فِي
الْخَانِيَّةِ (فِي غَيْر حَدٍّ وَقَوَدٍ وَإِنْ) وَصْلِيَّةٌ
(تَكَرَّرَتْ) مَرَّتَيْنِ، أَوْ مَرَّاتٍ أَيْ تَجُوزُ فِي دَرَجَاتٍ
ثُمَّ فَثَمَّ كَمَا تَجُوزُ فِي دَرَجَةٍ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا
تَجُوزَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَالنِّيَابَةُ لَا
تَجْرِي فِيهَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهَا
إذْ شَاهِدُ الْأَصْلِ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهَا لِبَعْضِ
الْعَوَارِضِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ لَأَدَّى إلَى إتْوَاءِ الْحُقُوقِ؛
وَلِهَذَا جُوِّزَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ أَيْ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ إلَّا أَنَّ
فِيهَا شُبْهَةً مِنْ حَيْثُ الْبَدَلِيَّةُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِيهَا
زِيَادَةَ احْتِمَالٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِجِنْسِ
الشُّهُودِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْبَلُ فِيمَا يَسْقُطُ
بِهَا أَيْضًا (وَشَرَطَ لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ (تَعَذُّرَ
حُضُورِ الْأَصْلِ) أَيْ أَصْلُ الشَّاهِدِ عَلَى الْقَضِيَّةِ
لِأَدَائِهَا بِأَحَدٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ (بِمَوْتٍ) أَيْ
بِمَوْتِ الْأَصْلِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا لَكِنَّ فِي
الْقُهُسْتَانِيِّ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ أَنَّ الْأَصْل إذَا مَاتَ
لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ فَرْعِهِ فَيُشْتَرَطُ حَيَاةُ الْأَصْلِ (أَوْ
مَرَضٍ) أَيْ يَكُونُ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ بِهِ حُضُورَ
مَجْلِسِ الْقَاضِي وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ
الْأَصْلُ مُخَدَّرَةً وَهِيَ الَّتِي لَا تُخَالِطُ الرِّجَالَ، وَلَوْ
خَرَجَتْ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، أَوْ لِلْحَمَّامِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ
وَكَذَا إذَا حُبِسَ الْأَصْلُ فِي سِجْنِ الْوَالِي وَأَمَّا فِي سِجْنِ
الْقَاضِي فَفِيهِ خِلَافٌ كَمَا
(2/211)
فِي السِّرَاجِ فَعَلَى هَذَا إنَّ ذِكْرَ
الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِحَصْرٍ (أَوْ سَفَرٍ) شَرْعِيٍّ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ
وَإِنَّمَا تَمَسُّ عِنْدَ عَجْزِ الْأَصْلِ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ
يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِلَا مِرْيَةٍ فَلَوْ كَانَ الْفَرْعُ بِحَيْثُ
لَوْ حَضَرَ الْأَصْلُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ أَمْكَنَهُ الْبَيْتُوتَةُ فِي
مَنْزِلِهِ لَمْ تُقْبَلْ وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ قَوْلُ
الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تُقْبَلُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي
السِّرَاجِيَّةِ وَالْمُضْمَرَاتِ قَالُوا الْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَالثَّانِي
أَرْفَعُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَوْ كَانَ
الْأَصْلُ فِي الْمَصْرِ.
(وَ) شَرْطٌ (أَنْ يَشْهَدَ عَنْ كُلِّ أَصْلٍ اثْنَانِ) ؛ لِأَنَّ
شَهَادَةَ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا
لِمَالِكٍ (لَا) يَشْتَرِطُ (تَغَايُرَ فَرْعَيْ الشَّاهِدَيْنِ) بَلْ
يَكْفِي الْفَرْعَانِ لِلْأَصْلَيْنِ فَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى
شَهَادَةِ أَصْلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ شَهِدَ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ عَلَى
شَهَادَةِ أَصْلٍ آخَرَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ تُقْبَلُ عِنْدَنَا
لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا تَجُوزُ عَلَى
شَهَادَةِ رَجُلٍ إلَّا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ ذَكَرَهُ مُطْلَقًا مِنْ
غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالتَّغَايُرِ وَلَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ خِلَافَهُ فَحَلَّ
مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَهُ
أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْفَرْعِ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ فَرَعَيْنَ
قَامَا مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ فَصَارَا كَالْمَرْأَتَيْنِ وَذَكَرَ فِي
الْكَنْزِ إنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ انْتَهَى.
وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ
النِّسَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَهُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْحَاوِي
وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سَهْوٌ وَمَا وَقَعَ فِي الْكَنْزِ
اتِّفَاقِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ لِتَمَامِ النِّصَابِ وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
الْمَشْهُودُ عَلَى شَهَادَتِهِ رَجُلًا؛ لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا
أَنْ تُشْهِدَ عَلَى شَهَادَتِهَا رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلًا
وَامْرَأَتَيْنِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ
امْرَأَةٍ نِصَابُ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ.
(وَصِفَتُهَا) أَيْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ (أَنْ يَقُولَ)
الشَّاهِدُ (الْأَصْلُ) أَيْ أَصْلُ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَ
التَّحْمِيلِ مُخَاطِبًا لِلْفَرْعِ (اشْهَدْ) عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمْرٌ
مِنْ الثَّلَاثِي فَلَوْ أَشْهَدَ رَجُلًا وَهُنَاكَ رَجُلٌ يَسْمَعُهُ
لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ (عَلَى شَهَادَتِي) فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ
لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ كَمَا فِي
الْمُحِيطِ (أَنِّي أَشْهَدُ بِكَذَا) أَيْ بِأَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانِ
بْنِ فُلَانٍ أَقَرَّ عِنْدِي لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْجُمْلَةُ بَدَلٌ
مِنْ الْمَجْرُورِ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عَلَى شَهَادَتِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ
قَالَ: اشْهَدْ عَلَيَّ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لَهُ الشَّهَادَةُ وَقَيَّدَ
بِعَلَيَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِشَهَادَتِي لَمْ تَجُزْ لَهُ كَمَا فِي
التَّبْيِينِ قَيَّدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْهُمَا
الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ اخْتِلَافًا بَيْنَ
الْإِمَامِ وَأَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا سَمِعَاهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ وَأَشَارَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ قَوْلِهِ إلَى أَنَّ سُكُوتَ
الْفَرْعِ عِنْدَ تَحَمُّلِهِ يَكْفِي لَكِنْ لَوْ قَالَ: لَا قِيلَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ شَاهِدًا كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ
(2/212)
عِنْده (وَيَقُولُ) الشَّاهِدُ (الْفَرْعُ
عِنْدَ الْأَدَاءِ أَشْهَدُ) عَلَى صِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ (أَنَّ فُلَانًا
أَشْهَدَنِي) مَاضٍ مِنْ الْأَفْعَالِ (عَلَى شَهَادَتِهِ بِكَذَا وَقَالَ
لِي اشْهَدْ) أَمْرٌ مِنْ الثَّلَاثِي (عَلَى شَهَادَتِي بِهِ) أَيْ
بِكَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ الْفَرْعِ وَذِكْرِ الْفَرْعِ
شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَذِكْرِ التَّحْمِيلِ وَلَهَا لَفْظٌ أَطْوَلُ مِنْ
هَذَا بِأَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ أَشْهَدُ بِكَذَا، أَوْ أَنَا أُشْهِدُك
عَلَى شَهَادَتِي فَاشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَيَقُولُ الْفَرْعُ عِنْدَ
الْقَاضِي وَقْتَ أَدَائِهِ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا يَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ
وَأَمَرَنِي بِأَنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَا أَشْهَدُ عَلَى
شَهَادَتِهِ، أَوْ أُقَصِّرُ مِنْهُ بِأَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ أَشْهَدُ
عَلَى شَهَادَتِي بِكَذَا وَيَقُولُ الْفَرْعُ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ
فُلَانٍ بِكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ
مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي اللَّيْثِ وَالْإِمَامِ
السَّرَخْسِيِّ وَهُوَ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ لَكِنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ
الْأَوْسَطَ لِمَا قَالُوا خَيْرُ الْأُمُورِ، أَوْسَاطُهَا (وَيَصِحُّ
تَعْدِيلُ الْفَرْعِ أَصْلَهُ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ
الصَّحِيحُ كَمَا فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ نَاقِلٌ عِبَارَةَ
الْأَصْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَبِالنَّقْلِ يَنْتَهِي حُكْمُ
النِّيَابَةِ فَيَصِيرُ أَجْنَبِيًّا فَيَصِحُّ تَعْدِيلُهُ وَالْمُرَادُ
أَنَّ الْفُرُوعَ مَعْرُوفُونَ بِالْعَدَالَةِ عِنْدَ الْقَاضِي
فَعَدَّلُوا الْأُصُولَ وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ
تَعْدِيلِهِمْ تَعْدِيلَ أُصُولِهِمْ كَمَا فِي الْمِنَحِ وَفِيهِ إيمَاءٌ
إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ عَدْلًا فَلَوْ خَرِسَ، أَوْ
فَسَقَ، أَوْ عَمِيَ، أَوْ ارْتَدَّ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ فَرْعِهِ
كَمَا فِي الْخِزَانَةِ وَإِلَى أَنَّهُ لَوْ غَابَ كَذَا سَنَةٍ وَلَمْ
يُعْلَمْ بَقَاؤُهُ عَلَى عَدَالَتِهِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ فَرْعِهِ إنْ
كَانَ الْأَصْلُ رَجُلًا مَشْهُورًا كَمَا فِي الذَّخِيرَةِ.
(وَ) يَصِحُّ تَعْدِيلُ (أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ) الْفَرْعَيْنِ الَّذِي
هُوَ عَدْلٌ عِنْدَ الْقَاضِي الْفَرْعَ (الْآخَرَ) الَّذِي لَمْ تُعْلَمْ
عَدَالَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَدَّلُ لِيَصِيرَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ، وَهِيَ
مَنْفَعَةٌ لِنَفْسِهِ فَيُتَّهَمَ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُغْنٍ عَنْ
السَّابِقِ وَشَامِلٌ لِتَعْدِيلِ الْأَصْلِ فَرْعَهُ إذَا حَضَرَ وَقَدْ
صَحَّ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ (فَإِنْ سَكَتَ) أَيْ الْفَرْعُ
(عَنْهُ) أَيْ عَنْ تَعْدِيلِ الْأَصْلِ (جَازَ وَنَظَرَ) أَيْ نَظَرَ
الْقَاضِي (فِي حَالِهِ) أَيْ حَالِ الْأَصْلِ كَمَا لَوْ حَضَرَ الْأَصْلُ
بِنَفْسِهِ وَيُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ الْأَصْلِ غَيْرُ الْفَرْعِ لِكَوْنِ
الْأَصْلِ مَسْتُورًا (وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ تُقْبَلُ) شَهَادَةُ
فَرْعِهِ (عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ
عَلَى الْفَرْعِ هُوَ النَّقْلُ لَا التَّعْدِيلُ إذْ يَخْفَى عَلَيْهِ
عَدَالَتُهُ (.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ إلَّا
بِالْعَدَالَةِ وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ الْفَرْعُ عَدَالَةَ الْأَصْلِ لَا
يَجُوزُ نَقْلُهُ فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ.
(وَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ) قَبْلَ الْحُكْمِ (بِإِنْكَارِ الْأَصْلِ
الشَّهَادَةَ)
(2/213)
أَيْ الْإِشْهَادَ بِأَنْ قَالُوا لَمْ
نُشْهِدْهُمْ عَلَى شَهَادَتِنَا فَمَاتُوا، أَوْ غَابُوا ثُمَّ شَهِدَ
الْفُرُوعُ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَمْ يَثْبُتْ
لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ وَتَقَرُّرُ الْأَصْلِ عَلَى
شَهَادَتِهِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَهُ عَلَى
شَهَادَتِهِ ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ نَهْيُهُ كَمَا فِي
التَّنْوِيرِ قَيَّدَ بِالْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سُئِلَ فَسَكَتَ لَمْ
يَبْطُلْ الْإِشْهَادُ وَقَيَّدْنَا بِقَبْلِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ
أَنْكَرَ بِعَدَمِ الْحُكْمِ لَمْ تَبْطُلْ لِمَا قَالَ يَعْقُوبُ بَاشَا
فِي حَاشِيَتِهِ وَمُرَادُهُ مِنْ بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ: عَدَمُ
قَبُولِهَا وَأَمَّا الْحُكْمُ الْوَاقِعُ قَبْلَ الْإِنْكَارِ فَلَا
يَبْطُلُ.
(وَإِنْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ
الْفُلَانِيَّةِ) أَنَّهَا أَقَرَّتْ لِفُلَانٍ بِكَذَا (وَقَالَا) أَيْ
الْفَرْعَانِ (أَخْبَرَانَا) أَيْ الْأَصْلَانِ (أَنَّهُمَا
يَعْرِفَانِهَا) أَيْ الْفُلَانَةَ (وَجَاءَ الْمُدَّعِي بِامْرَأَةٍ)
مُنْكِرَةٍ (لَمْ يَدْرِيَا) الْفَرْعَانِ (أَنَّهَا) أَيْ هَذِهِ
الْمَرْأَةَ (هِيَ) أَيْ الْفُلَانَةُ (أَمْ لَا قِيلَ لَهُ) أَيْ قَالَ
الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي قَدْ ثَبَتَ لَك الْحَقُّ عَلَى فُلَانَةَ بِنْتِ
فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمَا نَقَلَا كَلَامَ
الْأُصُولِ كَمَا تَحَمَّلَا وَقَوْلُهُمَا لَا نَدْرِي أَهِيَ هَذِهِ أَمْ
لَا لَا يُوجِبُ جَرْحًا فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْرِفَا
فَقَدْ عَرَفَهَا الْأُصُولُ إلَّا أَنَّهَا غَيْرُ تَامَّةٍ لِكَوْنِهَا
عَامَّةً إذْ عَدَدُهُمْ لَا يُحْصَى وَلِذَا قَالَ لَهُ (هَاتِ
شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا هِيَ) ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالنِّسْبَةِ قَدْ
تَحَقَّقَ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَنَّ تِلْكَ
النِّسْبَةَ لِلْحَاضِرَةِ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ
أَنَّهَا لَهَا.
(وَكَذَا فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ) وَهُوَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى
الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا
أَنَّ الْقَاضِيَ لِكَمَالِ دِيَانَتِهِ وَوُفُورِ وِلَايَتِهِ يَنْفَرِدُ
بِالنَّقْلِ، وَإِنَّمَا صَوَّرَهَا فِي الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ
كَذَلِكَ فِي الرَّجُلِ لِغَلَبَةِ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَرْأَةِ
(فَإِنْ قَالَا) أَيْ الشَّاهِدَانِ (فِيهِمَا) أَيْ فِي الشَّهَادَةِ
وَالنَّقْلِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ (التَّمِيمِيَّةُ لَا يَجُوزُ)
قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النِّسْبَةِ غَيْرُ تَامَّةٍ فِي
التَّعْرِيفِ لِكَوْنِهَا عَامَّةً مَعَ كَوْنِهَا فِي امْرَأَةٍ (حَتَّى
يَنْسِبَاهَا إلَى فَخِذِهَا) وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ يَعْنِي
عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْجَدِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ
مِنْهُ فِي هَذَا وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ الْعَامَّةِ كَالنِّسْبَةِ
إلَى بَنِي تَمِيمٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمْ قَبَائِلُ كَثِيرُونَ لَا يُحْصَى
عَدَدُهُمْ وَلَا يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ؛ لِأَنَّهَا
خَاصَّةٌ (وَالتَّعْرِيفُ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ) وَالْفَخِذِ (أَوْ
بِنِسْبَةٍ خَاصَّةٍ) ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ (وَالنِّسْبَةُ إلَى
الْمِصْرِ، أَوْ الْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ عَامَّةٌ وَإِلَى السِّكَّةِ
الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ) .
وَفِي الْبَحْرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ إلَى
الْحَاضِرِ وَفِي الْغَائِبِ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ،
وَالنِّسْبَةُ إلَى الْبَابِ لَا تَكْفِي عِنْدَ الطَّرَفَيْنِ وَلَا بُدَّ
مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ خِلَافًا لِلثَّانِي فَإِنْ لَمْ يَنْسِبْ إلَى
الْجَدِّ وَنَسَبَهُ إلَى الْأَبِ الْأَعْلَى كَتَمِيمِيٍّ، أَوْ
نَجَّارِيٍّ، أَوْ إلَى الْحِرْفَةِ لَا إلَى الْقَبِيلَةِ وَالْجَدِّ لَا
تَكْفِي عِنْدَ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا أَنَّ مَعْرُوفًا بِالصِّنَاعَةِ
تَكْفِي وَإِنْ نَسَبَهَا إلَى زَوْجِهَا تَكْفِي وَالْمَقْصُودُ
الْإِعْلَامُ وَتَمَامُهُ فِيهِ فَلْيُطَالَعْ.
(2/214)
[بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ]
ِ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ لِمَا قَبْلَهُ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهُ ظَاهِرٌ؛
لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ وُجُودِهَا، وَهُوَ
أَمْرٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ دِيَانَةً؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلَاصًا عَنْ
عِقَابِ الْكَبِيرَةِ وَتَرْجَمَ بِالْبَابِ تَبَعًا لِلْكَنْزِ مُخَالِفًا
لِلْهِدَايَةِ إذْ لَيْسَ لَهُ أَبْوَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهُوَ وَإِنْ
كَانَ رَفْعًا لِلشَّهَادَةِ لَكِنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَهَا كَدُخُولِ
النَّوَاقِضِ فِي الطَّهَارَةِ قِيلَ رُكْنُهُ قَوْلُ الشَّاهِدِ رَجَعْت
عَمَّا شَهِدْت بِهِ، أَوْ شَهِدْت بِزُورٍ فِيمَا شَهِدْت بِهِ، أَوْ
كَذَبْت فِي شَهَادَتِي فَلَوْ أَنْكَرَهَا لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْقَاضِي وَعَنْ هَذَا قَالَ (لَا يَصِحُّ
الرُّجُوعُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الشَّهَادَةِ (إلَّا عِنْدَ قَاضٍ) سَوَاءٌ
كَانَ هُوَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ، أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ
تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِهِ فَيَخْتَصُّ الرُّجُوعُ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ
الشَّهَادَةُ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي (فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ
عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا) أَيْ رُجُوعَ الشَّاهِدَيْنِ (عِنْدَ غَيْرِهِ)
أَيْ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي (لَا يَحْلِفَانِ) أَيْ الشَّاهِدَانِ إذَا
أَرَادَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ التَّحْلِيفَ (وَلَا يُقْبَلُ بُرْهَانُهُ)
أَيْ بُرْهَانُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رُجُوعِهِمَا؛
لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا (بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى) أَيْ
الْمَشْهُودُ عَلَيْهَا (وُقُوعَهُ) أَيْ وُقُوعَ الرُّجُوعِ (عِنْدَ
قَاضٍ) آخَرَ غَيْرَ الَّذِي كَانَ قَضَى بِالْحَقِّ (وَتَضْمِينُهُ)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وُقُوعُهُ أَيْ تَضْمِينُ الْقَاضِي الْمَالَ
(إيَّاهُمَا) أَيْ الشَّاهِدَيْنِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ وَيَحْلِفَانِ إنْ أَنْكَرَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ كَمَا
لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي
فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَإِنْ أَقَرَّ بِرُجُوعٍ بَطَل؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ
إنْشَاءً لِلْحَالِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
وَفِي الْمُحِيطِ وَلَوْ ادَّعَى رُجُوعَهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ
يَدَّعِ الْقَضَاءَ بِالرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ
الْبَيِّنَةُ وَلَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ
وَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إلَّا بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ (فَإِنْ
رَجَعَا) أَيْ الشَّاهِدَانِ عَنْ الشَّهَادَةِ (قَبْلَ الْحُكْمِ لَا
يَحْكُمُ) الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا إذْ لَا قَضَاءَ بِكَلَامٍ
مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ لَكِنْ
يُعَزَّرُ الشَّاهِدُ وَإِطْلَاقُهُ شَامِلٌ لِمَا لَوْ رَجَعَا عَنْ
بَعْضِهَا كَمَا لَوْ شَهِدَا بِدَارٍ وَبِنَائِهَا، أَوْ بِأَتَانٍ
وَوَلَدِهَا ثُمَّ رَجَعَا فِي الْبِنَاءِ وَالْوَلَدِ لَمْ يَحْكُمْ
بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ فَسَّقَ نَفْسَهُ وَشَهَادَةُ الْفَاسِقِ
تُرَدُّ كَمَا فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ.
(وَإِنْ) رَجَعَا (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ الْحُكْمِ (لَا يَنْقُضُ)
الْقَاضِي حُكْمَهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ قَدْ تَأَكَّدَ
بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنَاقِضُهُ الثَّانِي وَإِطْلَاقُهُ شَامِلٌ لِمَا
إذَا كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ الرُّجُوعِ مِثْلَ مَا شَهِدَ فِي
الْعَدَالَةِ، أَوْ دُونَهُ، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ كَمَا فِي أَكْثَرِ
الْمُعْتَبَرَاتِ لَكِنْ فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ مُعَزِّيًا إلَى
الْمُحِيطِ إنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ يُنْظَرُ إلَى حَالِ
الرَّاجِعِ فَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلُ مِنْ حَالِهِ
وَقْتَ
(2/215)
الشَّهَادَةِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ
بِرُجُوعِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى وَجَبَ
عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى
الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِثْلُ
حَالِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فِي الْعَدَالَةِ، أَوْ دُونَهُ وَجَبَ
عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ
الْمَشْهُودُ بِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ
عَلَى الشَّاهِدِ انْتَهَى.
قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ
لِمُخَالَفَةِ مَا نَقَلُوهُ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ
إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَفِي هَذَا التَّفْصِيلِ عَدَمُ تَضْمِينِهِ
مُطْلَقًا مَعَ أَنَّهُ فِي نَقْلِهِ مُنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلَ
الْبَابِ بِالضَّمَانِ مُوَافِقًا لِلْمَذْهَبِ انْتَهَى.
لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ مِثْلُ مَا فِي الْخِزَانَةِ لَكِنَّهُ قَالَ
وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أُسْتَاذِهِ حَمَّادٍ
ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ: لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي
حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَتَّى لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا
يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ
عِنْدَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ بَلْ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ هُوَ
مَرْجُوعٌ عَنْهُ تَأَمَّلْ (وَضُمِّنَا) أَيْ الشَّاهِدَانِ الرَّاجِعَانِ
لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (مَا أَتْلَفَاهُ بِهَا) أَيْ بِالشَّهَادَةِ
لِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالضَّمَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ
لِلتَّسَبُّبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ قُلْنَا تَعَذَّرَ إيجَابُ
الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ كَالْمُلْجَأِ
إلَى الْقَضَاءِ وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّفْسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ
وَتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ
فَاعْتُبِرَ التَّسَبُّبُ وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ (إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي
مُدَّعَاهُ دَيْنًا كَانَ، أَوْ عَيْنًا) ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ
بِالْقَبْضِ يَتَحَقَّقُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ
الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ وَقَدْ تَبِعَ الْمُصَنِّفُ الْكَنْزَ
وَالْهِدَايَةَ فِي تَقْيِيدِهِ وَهُوَ مُخْتَارُ السَّرَخْسِيِّ وَصَاحِبِ
الْمَجْمَعِ وَخَالَفَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى فِي إطْلَاقِهِمْ وَقَدْ
صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا بِالضَّمَانِ
بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ أَوْ لَا قَالُوا
وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَفِي الْخُلَاصَةِ أَنَّهُ قَوْلُ الْإِمَامِ
الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا انْتَهَى.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ مَرْجُوعٌ عَنْهُ كَمَا فِي
الْبَحْرِ وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ
فَقَالَ: إنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ
أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ بَعْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا
الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلُ عَدَمِ انْحِصَارِ تَضْمِينِ الشَّاهِدِ فِي
رُجُوعِهِ فَلْيُرَاجَعْ (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ
الشَّاهِدَيْنِ عَنْ شَهَادَتِهِ فِي دَعْوَى حَقٍّ بَعْدَ الْقَضَاءِ
(ضَمِنَ) الرَّاجِعُ (نِصْفًا) إذْ بِشَهَادَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَقُومُ
نِصْفُ الْحُجَّةِ فَبِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ تَبْقَى
الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ ضَمَانُ مَا لَمْ
تَبْقَ الْحُجَّةُ فِيهِ وَهُوَ النِّصْفُ وَعَنْ هَذَا قَالَ
(وَالْعِبْرَةُ) فِي بَابِ الضَّمَانِ (لِمَنْ بَقِيَ) مِنْ الْمَشْهُودِ
وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْعِبْرَةُ لِمَنْ رَجَعَ إلَّا فِي
رِوَايَةٍ عَنْهُمْ (لَا لِمَنْ رَجَعَ) هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَإِنْ
بَقِيَ اثْنَانِ يَبْقَى كُلُّ الْحَقِّ وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ يَبْقَى
النِّصْفُ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَلِذَا فَرَّعَ عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ
(2/216)
فَقَالَ (فَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ) رِجَالٍ
بِحَقٍّ (وَرَجَعَ وَاحِدٌ) عَنْ شَهَادَتِهِ (لَا يَضْمَنُ) الرَّاجِعُ
شَيْئًا لِبَقَاءِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ) بَعْدَ
رُجُوعِ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَعَلَى هَذَا إنَّ الْفَاءَ فِي
قَوْلِهِ فَإِنْ رَجَعَ تَعْقِيبِيَّةٌ (ضَمِنَا) أَيْ الرَّاجِعَانِ
(نِصْفًا) مِنْ الْمَقْبُوضِ لِبَقَاءِ نِصْفِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ
وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَيَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي
أَنْ يَضْمَنَ الرَّاجِعُ الثَّانِيَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ أُضِيفَ
إلَيْهِ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّلَفَ مُضَافٌ إلَى الْمَجْمُوعِ إلَّا
أَنَّهُ عِنْدَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ لِمَانِعٍ
وَهُوَ بَقَاءُ الشَّاهِدَيْنِ فَلَمَّا زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ بِرُجُوعٍ
آخَرَ ظَهَرَ أَثَرُهُ.
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ وَاحِدَةٌ) مِنْهُمَا
(ضَمِنَتْ) الرَّاجِعَةُ (رُبُعًا) بِالْإِجْمَاعِ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ
أَرْبَاعِ الْحَقِّ بِبَقَاءِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ.
(وَإِنْ رَجَعَتَا) أَيْ الْمَرْأَتَانِ (ضَمِنَتَا نِصْفًا) لِبَقَاءِ
نِصْفِ الْحَقِّ بِبَقَاءِ الرَّجُلِ (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ
نِسْوَةٍ فَرَجَعَ ثَمَانٍ) مِنْهُنَّ (لَا يَضْمَنَّ) عَلَى صِيغَةِ
الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ الْغَائِبَةِ (شَيْئًا) لِبَقَاءِ النِّصَابِ
وَهُوَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِنْ الْعَشْرِ (فَإِنْ رَجَعَتْ) امْرَأَةٌ
(أُخْرَى) بَعْدَ رُجُوعِ الثَّمَانِ مِنْ الْعَشْرِ (ضَمِنَ) النِّسْوَةُ
(التِّسْعُ رُبْعًا) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ بِبَقَاءِ
رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ كَمَا مَرَّ.
(وَإِنْ رَجَعَ) النِّسْوَةُ (الْعَشْرُ) دُونَ الرَّجُلِ (ضَمِنَّ)
صِيغَةُ جَمْعِ مُؤَنَّثٍ غَائِبَةٍ (نِصْفًا) بِالْإِجْمَاعِ لِبَقَاءِ
نِصْفِ الْحَقِّ بِبَقَاءِ الرَّجُلِ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَإِنْ
رَجَعَتْ فِي الْمَحَلَّيْنِ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ وَضَمِنَ التِّسْعُ
يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَضَمِنَتْ فَنَقُولُ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ؛
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] وَوَجْهُهُ بَيِّنٌ فِي التَّفَاسِيرِ
فَلْيُطَالَعْ.
(وَإِنْ رَجَعَ الْكُلُّ) أَيْ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ (فَعَلَى الرَّجُلِ
سُدُسٌ) أَيْ سُدُسُ الْحَقِّ (وَعَلَيْهِنَّ) أَيْ عَلَى النِّسَاءِ
(خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ) عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ
قَامَتْ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَعَشْرُ نِسْوَةٍ كَخَمْسَةٍ مِنْ
الرِّجَالِ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَإِنَّ
الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ يَكُونُ أَسْدَاسًا فَعَلَى الرَّجُلِ غُرْمُ
السُّدُسِ هُوَ حِصَّةُ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْعَشْرِ وَعَلَيْهِنَّ غُرْمُ
خَمْسَةِ أَسْدَاسٍ (وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الرَّجُلِ (نِصْفٌ
وَعَلَيْهِنَّ) أَيْ عَلَى النِّسَاءِ (نِصْفٌ) ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ مِنْ
النِّسَاءِ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَكُنَّ نِصْفَ النِّصَابِ
كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَكُونُ نِصْفَ النِّصَابِ وَلِهَذَا لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ فَيَكُونُ الْغُرْمُ
عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَفِي التَّبْيِينِ نَقْلًا عَنْ الْمُحِيطِ لَوْ
رَجَعَ رَجُلٌ وَثَمَانُ نِسْوَةٍ مِنْهُنَّ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ
الْحَقِّ وَلَا شَيْءَ عَلَى النِّسْوَةِ؛ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ
يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ
ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ فَيُجْعَلُ الرَّاجِعَاتُ
كَأَنَّهُنَّ لَمْ يَشْهَدْنَ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا سَهْوٌ بَلْ يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ النِّصْفُ أَخْمَاسًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا أَنْصَافًا وَذَكَرَ
الْإِسْبِيجَابِيُّ لَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ وَامْرَأَةٌ كَانَ النِّصْفُ
(2/217)
بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَلَوْ كَانَ كَمَا
قَالَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْءٌ انْتَهَى.
لَكِنْ ذَكَرَ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَقِيبَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ
فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ضَمِنَ الرَّجُلُ نِصْفَ
الْمَالِ وَلَمْ تَضْمَنْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا فِي قَوْلِهِمَا وَفِي
قِيَاسِ قَوْلِ الْإِمَامِ نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ عَلَى
الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا ظَهَرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُحِيطِ اخْتَارَ قَوْلَهُمَا فَلَا
سَهْوَ تَدَبَّرْ.
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ فَرَجَعُوا فَالْغُرْمُ عَلَى
الرَّجُلَيْنِ خَاصَّةً) ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ بَلْ
هِيَ بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ (وَلَا يَضْمَنُ
رَاجِعٌ شَهِدَ بِنِكَاحٍ بِمَهْرٍ مُسَمًّى عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى
الْمَرْأَةِ (أَوْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الزَّوْجِ، الْأَصْلُ أَنَّ
الْمَشْهُودَ بِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا بِأَنْ كَانَ قِصَاصًا، أَوْ
نِكَاحًا، أَوْ نَحْوَهُمَا لَمْ يَضْمَنْ الشُّهُودُ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ مَالًا فَإِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ
يُعَادِلُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ
بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ لَا يُعَادِلُهُ فَبِقَدْرِ
الْعِوَضِ لَا ضَمَانَ بَلْ فِيمَا وَرَاءَهُ وَإِنْ كَانَ الْإِتْلَافُ
بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا وَجَبَ ضَمَانُ الْكُلِّ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا
فَنَقُولُ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا وَهِيَ جَاحِدَةٌ
وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَقُضِيَ بِالنِّكَاحِ ثُمَّ رَجَعَا
عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنَا لَهَا شَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ
الْمُسَمَّى مِقْدَارَ مَهْرِ مِثْلِهَا، أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ؛
لِأَنَّهُمَا وَإِنْ أَتْلَفَا الْبُضْعَ عَلَيْهَا بِعِوَضٍ لَا
يَعْدِلُهُ لَكِنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتْلِفِ
وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ ضَرُورَةَ التَّمَلُّكِ
فَإِنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يُقَدَّرُ بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ
بَيْنَ الْبُضْعِ وَالْمَالِ وَأَمَّا عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ
الزَّوْجِ فَقَدْ صَارَ مُتَقَوِّمًا إظْهَارًا لِخَطَرِهِ كَمَا فِي
الدُّرَرِ (إلَّا مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ) يَعْنِي إنْ كَانَ
مَهْرُ مِثْلِهَا مِثْلَ الْمُسَمَّى، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضْمَنَا
شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْمَهْرَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ،
أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبُضْعُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي
مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ
يَعْدِلُهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ
مِنْ الْمُسَمَّى ضَمِنَا الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا
قَدْرَ الزِّيَادَةِ بِلَا عِوَضٍ وَكَذَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهَا بِقَبْضِ
الْمَهْرِ، أَوْ بَعْضِهِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ ضَمِنَا لَهَا
(وَلَا) يَضْمَنُ (مَنْ شَهِدَ بِطَلَاقٍ بَعْدَ الدُّخُولِ) ؛ لِأَنَّ
الْمَهْرَ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا إتْلَافَ (وَيَضْمَنُ فِي
الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ الْمَهْرِ) إنْ كَانَ مُسَمًّى، أَوْ
الْمُتْعَةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا
عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ
الزَّوْجِ، أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ
قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ
الْمَهْرِ ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ
وَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا كَمَا فِي الْهِدَايَةِ وَالتَّعْلِيلُ
الْأَوَّلُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالثَّانِي لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَفِي
الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ فَلْيُرَاجَعْ وَفِي التَّنْوِيرِ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَآخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا
وَاحِدَةً قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا فَضَمَانُ نِصْفِ الْمَهْرِ
عَلَى شُهُودِ الثَّلَاثِ لَا غَيْرَ وَلَوْ كَانَ
(2/218)
ذَلِكَ بَعْدَ وَطْءٍ، أَوْ خَلْوَةٍ فَلَا
ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ (وَفِي الْبَيْعِ) يَضْمَنُ (مَا نَقَصَ عَنْ قِيمَةِ
الْمَبِيعِ) وَفِي الْمِنَحِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى الْبَائِعِ بِهِ
بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ
بِعِوَضٍ وَإِنْ شَهِدَا بِهِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَا
النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى
الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ لَوْ شَهِدَا بِشِرَائِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ
أَوْ أَقَلَّ وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ ضَمِنَا مَا زَادَ عَلَيْهَا كَذَا
صَرَّحُوا فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَلَا فِي الْبَيْعِ إلَّا مَا نَقَصَ
مِنْ قِيمَةِ الْمَبِيعِ إنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي وَلَا فِي الْبَيْعِ
إلَّا مَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ ادَّعَى الْبَائِعُ
كَمَا فِي الْغَرَرِ لَكَانَ أَظْهَرَ، وَأَوْلَى تَدَبَّرْ.
وَفِي التَّنْوِيرِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ
بِأَلْفَيْنِ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ
الشُّهُودُ قِيمَتَهُ حَالًّا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُشْتَرِي إلَى
سَنَةٍ وَأَيَّامًا اخْتَارَ بَرِئَ الْآخَرُ (وَفِي الْعِتْقِ) يَضْمَنُ
(الْقِيمَةَ) يَعْنِي إذَا شَهِدَا عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ ثُمَّ رَجَعَا
ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مُوسِرَيْنِ،
أَوْ مُعْسِرَيْنِ لِإِتْلَافِهِمَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ
غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ؛
لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يَتَحَوَّلُ
بِالضَّرُورَةِ إذْ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ أَطْلَقَ الْعِتْقَ
فَانْصَرَفَ إلَى الْعِتْقِ بِلَا مَالٍ فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ
عَبْدَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَقَضَى ثُمَّ رَجَعَا إنْ
شَاءَ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْأَلْفَ وَرَجَعَا عَلَى الْعَبْدِ
بِخَمْسِمِائَةٍ وَوَلَاءُ الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى كَمَا فِي الْبَحْرِ
وَالتَّنْوِيرِ وَفِي التَّدْبِيرِ ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ وَفِي
الْكِتَابَةِ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ وَلَا يَعْتِقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا
عَلَيْهِ إلَيْهِمَا وَمَا فِي الْفَتْحِ مِنْ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلَّذِينَ
شَهِدُوا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ سَهْوٌ وَالصَّوَابُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ
كَمَا فِي الْبَحْرِ وَفِي الِاسْتِيلَادِ يَضْمَنَانِ نُقْصَانَ قِيمَةِ
الْأَمَةِ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ وَضَمِنَ الشَّاهِدَانِ
قِيمَتَهَا لِلْوَرَثَةِ (وَفِي الْقِصَاصِ) يَضْمَنُ (الدِّيَةَ فَقَطْ)
يَعْنِي إذَا شَهِدَا أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ بَكْرًا فَاقْتَصَّ زَيْدٌ
ثُمَّ رَجَعَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَنَا لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ
الْقَتْلَ وُجِدَ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ
فِيهِ لِاقْتِدَارِهِ عَلَى الْعَفْوِ أَيْضًا وَلَمْ يَكُونَا سَبَبًا
بِالْقَتْلِ فَلِرَائِحَةِ السَّبَبِيَّةِ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ وَهِيَ
مَانِعَةٌ عَنْ الْقَوَدِ لَا عَنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ
مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ فِيهِ
فَيَكُونُ سَبَبًا يُضَافُ إلَيْهِ الْقَتْلُ فَيُقْتَصُّ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يُقْتَصَّانِ لِوُجُودِ الْقَتْلِ تَسْبِيبًا كَالْمُكْرَهِ.
(وَيَضْمَنُ الْفَرْعُ إنْ رَجَعَ) أَيْ يَضْمَنُ شُهُودُ الْفَرْعِ
بِالرُّجُوعِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ
الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ وَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (لَا
الْأَصْلُ إنْ قَالَ) الْأَصْلُ (مَا أَشْهَدْته) أَيْ الْفَرْعَ (عَلَى
شَهَادَتِي) أَيْ لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْحُكْمِ
بِقَوْلِهِمْ لَمْ نُشْهِدْ الْفُرُوعَ عَلَى شَهَادَتِنَا بِالْإِجْمَاعِ؛
لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يُضَفْ إلَيْهِمْ بَلْ إلَى الْفَرْعِ وَلَا
يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْحُكْمِ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ
فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ.
(وَلَوْ قَالَ) الْأَصْلُ (أَشْهَدْته) أَيْ الْفَرْعَ (وَغَلِطْت ضَمِنَ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ) ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأَصْلِ
(2/219)
فَكَأَنَّ الْأَصْلَ حَضَرَ وَشَهِدَ
عِنْدَ مَجْلِسِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ (لَا) يَضْمَنُ (عِنْدَهُمَا) ؛
لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَقَعْ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ بَلْ بِشَهَادَةِ
الْفَرْعِ وَقَوْلُهُ غَلِطْت اتِّفَاقِيٌّ إذْ لَوْ قَالَ رَجَعْت عَنْهَا
فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا عِنْدَهُمَا (وَإِنْ رَجَعَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ)
جَمِيعًا بَعْدَ الْحُكْمِ (ضَمِنَ الْفَرْعُ فَقَطْ) عِنْدَ
الشَّيْخَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَالْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْفَرْعِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِ بَعْدَ
رُجُوعِهِ وَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ
الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَيْ الْفَرِيقَيْنِ) مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ
(شَاءَ) أَيْ إنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِ
الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ
الْفَرْعِ مِنْ وَجْهٍ وَشَهَادَةِ الْأَصْلِ مِنْ وَجْهٍ فَيُخَيَّرُ
بَيْنَهُمَا وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمْ
فِي التَّضْمِينِ (وَقَوْلُ الْفَرْعِ: كَذَبَ) فِعْلٌ مَاضٍ (أَصْلِيٌّ،
أَوْ غَلِطَ لَيْسَ بِشَيْءٍ) يَعْنِي بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ؛
لِأَنَّ مَا أَمْضَى مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْقَضُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا
يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ
شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ.
(وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكِّي عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنَ) أَيْ ضَمِنَ
الْمُزَكِّي بِالرُّجُوعِ عَنْ تَزْكِيَةِ الشَّاهِدِ بَعْدَ أَنْ زَكَّاهُ
عِنْدَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي
بِالتَّزْكِيَةِ يَكُونُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ مَعْنًى فَيُضَافُ الْحُكْمُ
إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ (خِلَافًا لَهُمَا) فَإِنَّ عِنْدَهُمَا لَا
ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ
فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالُوا
تَعَمَّدْنَا، أَوْ عَلِمْنَا أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَمَعَ ذَلِكَ
زَكَّيْنَاهُمْ أَمَّا إذَا قَالَ الْمُزَكِّي أَخْطَأْت فِيهَا فَلَا
ضَمَانَ إجْمَاعًا كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ
قُيِّدَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِمْ عَبِيدًا لَكَانَ أَوْلَى وَقِيلَ
الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَخْبَرَ الْمُزَكُّونَ بِالْحُرِّيَّةِ بِأَنْ
قَالُوا إنَّهُمْ أَحْرَارٌ أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ فَكَانُوا
عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ
عَدْلًا (وَلَا يَضْمَنُ شَاهِدُ الْإِحْصَانِ بِرُجُوعِهِ) ؛ لِأَنَّهُ
شَرْطُ مُحْصَنٍ فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ.
(وَلَوْ رَجَعَ شَاهِدُ الْيَمِينِ وَشَاهِدُ الشَّرْطِ ضَمِنَ شَاهِدُ
الْيَمِينِ خَاصَّةً) يَعْنِي إذَا شَهِدَا أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ
عَبْدِهِ بِشَرْطٍ وَشَهِدَ الْآخَرَانِ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي عَلَّقَ
بِهِ الْعِتْقَ وُجِدَ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ جَمِيعُهُمْ
يَضْمَنُ شُهُودُ الْيَمِينِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا
الْعِلَّةَ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَلَا يَضْمَنُ شُهُودُ
الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَانَ مَانِعًا وَهُمْ أَثْبَتُوا زَوَالَ
الْمَانِعِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى زَوَالِ
الْمَانِعِ.
(وَلَوْ رَجَعَ شَاهِدُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ) قَالَ
بَعْضُهُمْ: يَضْمَنُ شَاهِدُ الشَّرْطِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ شُهُودَ
الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ
وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَإِلَى الْأَوَّلِ
مَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ كَمَا فِي التَّبْيِينِ
وَغَيْرِهِ (وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا) بِأَنْ أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا، أَوْ شَهِدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ، أَوْ
مَوْتِهِ فَجَاءَ حَيًّا، أَوْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَمَضَى
ثَلَاثُونَ يَوْمًا
(2/220)
وَلَيْسَتْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ وَلَمْ يُرَ الْهِلَالُ (شُهِّرَ) فَقَطْ
(وَلَا يُعَزَّرُ) عِنْدَ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي
السِّرَاجِيَّةِ (وَعِنْدَهُمَا يُوجَعُ ضَرْبًا وَيُحْبَسُ) .
وَفِي الْكَافِي اعْلَمْ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُعَزَّرُ إجْمَاعًا
اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ
كَبِيرَةً اتَّصَلَ ضَرَرُهَا بِمُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي
كَيْفِيَّةِ تَعْزِيرِهِ فَقَالَ الْإِمَامُ تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرُهُ
فَقَطْ وَقَالَا يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ
أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ
فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانَ
يُشَهِّرُ بِأَنْ يَبْعَثَهُ إلَى سُوقِهِ، أَوْ إلَى قَوْمِهِ لِإِفْشَاءِ
قَبَاحَتِهِ وَهَذَا التَّشْهِيرُ لَا يَخْفَى عَلَى الصَّحَابَةِ -
رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - وَلَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَكَانَ هَذَا مِنْ
الْإِمَامِ احْتِجَاجًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا تَقْلِيدًا
لِشُرَيْحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ التَّابِعِيِّ وَحَدِيثُ عُمَرَ
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ
بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ. |