الأم للشافعي

 [بَابُ الْجَعَالَة]
وَلَيْسَ فِي التَّرَاجِمِ وَفِي آخِرِ اللُّقَطَةِ الْكَبِيرَةِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَلَا جَعْلَ لِأَحَدٍ جَاءَ بِآبِقٍ، وَلَا ضَالَّةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ لَهُ فِيهِ فَيَكُونُ لَهُ مَا جَعَلَ لَهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَنْ يُعْرَفُ بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ بِهِ وَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: إنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ: إنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا ثُمَّ جَاءَا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ جَعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ نِصْفَ مَا جَعَلَ عَلَيْهِ كَانَ صَاحِبُ الْعَشَرَةِ قَدْ سَمِعَ قَوْلَهُ لِصَاحِبِ الْعِشْرِينَ، أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِثَلَاثَةٍ فَقَالَ: لِأَحَدِهِمْ إنْ جِئْتنِي بِهِ فَلَكَ كَذَا، وَلِآخَرَ وَلِآخَرَ. فَجَعَلَ أَجْعَالًا مُخْتَلِفَةً ثُمَّ جَاءُوا بِهِ مَعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ جَعْلِهِ

[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]
[مَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْمِيرَاثَ وَكَانَ يَرِثُ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ]
كِتَابُ الْفَرَائِضِ " بَابُ الْمَوَارِيثِ " مَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْمِيرَاثَ وَكَانَ يَرِثُ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِيرَاثَ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِخْوَةِ وَالزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ فَكَانَ ظَاهِرُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ وَالِدًا، أَوْ أَخًا مَحْجُوبًا وَزَوْجًا وَزَوْجَةً، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرِثُوا وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ سُمِّيَ لَهُ مِيرَاثٌ إذَا كَانَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ أَقَاوِيلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا وَرِثُوا إذَا كَانُوا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ.
قُلْت لِلشَّافِعِيِّ: وَهَكَذَا نَصُّ السُّنَّةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَكَذَا دَلَالَتُهَا، قُلْت وَكَيْفَ دَلَالَتُهَا؟ قَالَ: أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: قَوْلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَنْ سُمِّيَ لَهُ مِيرَاثٌ لَا يَرِثُ. فَيُعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْ كَانَ عَلَى أَنْ يَرِثَ مَنْ لَزِمَهُ اسْمُ الْأُبُوَّةِ وَالزَّوْجَةِ وَغَيْرِهِ عَامًّا لَمْ يَحْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَدٍ لَزِمَهُ اسْمُ الْمِيرَاثِ بِأَنْ لَا يَرِثَ بِحَالٍ. قِيلَ: لِلشَّافِعِيِّ فَاذْكُرْ الدَّلَالَةَ فِيمَنْ لَا يَرِثُ مَجْمُوعَةً. قَالَ: لَا يَرِثُ أَحَدٌ مِمَّنْ سُمِّيَ لَهُ مِيرَاثٌ حَتَّى يَكُونَ دِينُهُ دِينَ الْمَيِّتِ الْمَوْرُوثِ وَيَكُونُ حُرًّا، وَيَكُونُ بَرِيئًا مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا لِلْمَوْرُوثِ، فَإِذَا بَرِئَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ الْخِصَالِ وَرِثَ، وَإِذَا كَانَتْ فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَمْ يَرِثْ، فَقُلْت: فَاذْكُرْ مَا وَصَفْت، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: إنَّمَا وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيٌّ، وَلَا جَعْفَرٌ. قَالَ: فَلِذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا

(4/75)


مِنْ الشِّعْبِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا وَصَفْت لَك مِنْ أَنَّ الدِّينَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا بِالشِّرْكِ وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَتَوَارَثْ مَنْ سُمِّيَتْ لَهُ فَرِيضَةٌ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ مَالَ الْعَبْدِ إذَا بِيعَ لِسَيِّدِهِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَأَنَّ اسْمَ مَالِهِ إنَّمَا هُوَ إضَافَةُ الْمَالِ إلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَجِيرٍ فِي غَنَمِهِ وَدَارِهِ وَأَرْضِهِ هَذِهِ أَرْضُك وَهَذِهِ غَنَمُك عَلَى الْإِضَافَةِ لَا الْمِلْكِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِلْكًا لَهُ؟ قِيلَ: لَهُ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مَالَهُ لِلْبَائِعِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَالِ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَمْ أَسْمَعْ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ قَاتِلَ الرَّجُلِ عَمْدًا لَا يَرِثُ مَنْ قَتَلَ مِنْ دِيَةٍ، وَلَا مَالٍ شَيْئًا.
ثُمَّ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي الْقَاتِلِ خَطَأً، فَقَالَ: بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَرِثُ مِنْ الْمَالِ، وَلَا يَرِثُ مِنْ الدِّيَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَدِيثٍ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَأِ مِنْ دِيَةٍ، وَلَا مَالٍ، وَهُوَ كَقَاتِلِ الْعَمْدِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ فَلَا يَرِثُ قَاتِلُ عَمْدٍ، وَلَا خَطَأٍ شَيْئًا أَشْبَهَ بِعُمُومِ أَنْ لَا يَرِثَ قَاتِلٌ مِمَّنْ قَتَلَ.

[بَابُ الْخِلَافِ فِي مِيرَاثِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَفِيهِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمِيرَاثِ الْعَبْدِ وَالْقَاتِلِ]
ِ (قَالَ الرَّبِيعُ) (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : فَوَافَقَنَا بَعْضُ النَّاسِ، فَقَالَ: لَا يَرِثُ مَمْلُوكٌ، وَلَا قَاتِلٌ عَمْدًا، وَلَا خَطَأً، وَلَا كَافِرٌ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: إذَا ارْتَدَّ الرَّجُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ، أَوْ قُتِلَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَيَعْدُو الْمُرْتَدُّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا؟ قَالَ: بَلْ كَافِرٌ، قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ الْكُفَّارِ أَحَدًا فَكَيْفَ وَرَّثْت مُسْلِمًا كَافِرًا؟ فَقَالَ: إنَّهُ كَافِرٌ قَدْ كَانَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَزَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ، قُلْنَا فَإِنْ كَانَ زَالَ بِإِزَالَتِهِ إيَّاهُ، فَقَدْ صَارَ إلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَرِثَهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَرِثُ مُسْلِمًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزُلْ بِإِزَالَتِهِ إيَّاهُ، أَفَرَأَيْت أَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ مُرْتَدٌّ أَيَرِثُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْنَا: وَلِمَ حَرَمْتَهُ؟ قَالَ: لِلْكُفْرِ، قُلْنَا: فَلِمَ لَا يُحْرَمُ مِنْهُ بِالْكُفْرِ كَمَا حَرَمْته؟ هَلْ يَعْدُو أَنْ يَكُونَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ فَيَرِثَ وَيُورَثَ أَوْ يَكُونَ خَارِجًا مِنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ فَلَا يَرِثَ، وَلَا يُورَثَ، وَقَدْ قَتَلْته؟ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَدْ زَالَتْ بِإِزَالَتِهِ وَحَرَّمْت عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَحَكَمْت عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَعْضٍ وَحُكْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضٍ قَالَ: فَإِنِّي إنَّمَا ذَهَبْت إلَى أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَّثَ وَرَثَةَ مُرْتَدٍّ قَتَلَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ قُلْنَا: قَدْ رَوَيْته عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ قَبْلَك أَنَّهُ غُلِطَ عَلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُ كَانَ أَصْلُ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِك أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ كَافِرًا قُلْنَا فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ مُخَالِفًا حُكْمَ مَنْ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا فَوَرَّثَهُ فَوَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ إذَا مَاتُوا قَبْلَهُ فَعَلِيٌّ لَمْ يَنْهَك عَنْ هَذَا قَالَ: هُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْت: فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ الْحَدِيثِ

(4/76)


عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَزِمَك أَنْ تَتْرُكَ قَوْلَك فِي أَنَّ وَرَثَتَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ وَمَسْرُوقٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرِثُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُهُ الْكَافِرُ وَقَالَ: بَعْضُهُمْ كَمَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ نِسَاؤُنَا فَإِنْ قَالَ لَك قَائِلٌ: «قَضَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي كَافِرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ» وَأُولَئِكَ لَا تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ، وَلَا نِسَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الْكِتَابِ غَيْرُهُمْ فَيَرِثُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا وَصَفْنَا، أَوْ بَعْضِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ لَهُمْ مَا احْتَمَلَ لَك بَلْ لَهُمْ شُبْهَةٌ لَيْسَتْ لَك بِتَحْلِيلِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنِسَائِهِمْ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا وَلِمَ؟ قَالَ؛ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْكَافِرِينَ وَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُمْلَةٌ. قُلْنَا: فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ

[بَابُ مَنْ قَالَ لَا يُورَثُ أَحَدٌ حَتَّى يَمُوتَ]
َ (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]

(4/77)


وَقَالَ عَزَّ وَعَلَا {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12] وَقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَكَانَ مَعْقُولًا عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَوْلِ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا أَنَّ امْرَأً لَا يَكُونُ مَوْرُوثًا أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ مَوْرُوثًا وَأَنَّ الْأَحْيَاءَ خِلَافُ الْمَوْتَى فَمَنْ وَرِثَ حَيًّا دَخَلَ عَلَيْهِ - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - خِلَافَ حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: وَالنَّاسُ مَعَنَا بِهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي جُمْلَتِهِ وَقُلْنَا بِهِ فِي الْمَفْقُودِ وَقُلْنَا لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ حَتَّى يُعْلَمَ يَقِينُ وَفَاتِهِ.
وَقَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ فِي امْرَأَتِهِ بِأَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَقَدْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالْعَجْزِ عَنْ إصَابَتِهَا. وَنُفَرِّقُ نَحْنُ بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَتِهَا وَهَاتَانِ سَبَبَا ضَرَرٍ، وَالْمَفْقُودُ قَدْ يَكُونُ سَبَبَ ضَرَرٍ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَعَابَ بَعْضُ الْمَشْرِقِيِّينَ الْقَضَاءَ فِي الْمَفْقُودِ، وَفِيهِ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَا وَصَفْنَا مِمَّا يَقُولُونَ فِيهِ بِقَوْلِنَا وَيُخَالِفُونَا، وَقَالُوا: كَيْفَ يَقْضِي لِامْرَأَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مَيِّتًا بَعْدَ مُدَّةٍ، وَلَمْ يَأْتِ يَقِينُ مَوْتِهِ؟ ثُمَّ دَخَلُوا فِي أَعْظَمَ مِمَّا عَابُوا خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَجُمْلَةُ مَا عَابُوا، فَقَالُوا فِي الرَّجُلِ يَرْتَدُّ فِي ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ فَيَلْحَقُ بِمَسْلَحَةٍ مِنْ مَسَالِحِ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ قَائِمًا فِيهَا يَتَرَهَّبُ، أَوْ جَاءَ إلَيْنَا مُقَاتِلًا يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَتُحَلُّ دُيُونُهُ وَيُعْتَقُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوْتَى فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ ثُمَّ يَعُودُ لِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ فِيهِ قَوْلًا مُتَنَاقِضًا خَارِجًا كُلَّهُ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ وَالْقِيَاسِ وَالْمَعْقُولِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقَالَ: مَا وَصَفْت بَعْضَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُهُمْ عِنْدَهُمْ، أَوْ كَأَعْلَمِهِمْ فَقُلْت لَهُ مَا وَصَفْت، وَقُلْت: لَهُ أَسْأَلُك عَنْ قَوْلِك، فَقَدْ زَعَمْت أَنَّ حَرَامًا أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ أَبَدًا قَوْلًا لَيْسَ خَبَرًا لَازِمًا، أَوْ قِيَاسًا أَقَوْلُكَ فِي أَنْ يُورَثَ الْمُرْتَدُّ، وَهُوَ حَيٌّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْكُفْرِ خَبَرًا، أَوْ قِيَاسًا؟ فَقَالَ: أَمَّا خَبَرٌ فَلَا، فَقُلْت: فَقِيَاسٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ وَجْهٍ، قُلْت فَأَوْجِدْنَا ذَلِكَ الْوَجْهَ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعِي فِي الدَّارِ وَكُنْتُ قَادِرًا عَلَيْهِ قَتَلْته؟ فَقُلْت فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ فَتَقْتُلُهُ أَفَمَقْتُولٌ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ بِلَا قَتْلٍ؟ قَالَ: لَا قُلْت: فَكَيْفَ حَكَمْت عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَوْتَى، وَهُوَ غَيْرُ مَيِّتٍ؟ أَوَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ عِلَّتُك بِأَنَّك لَوْ قَدَرْت عَلَيْهِ فِي حَالِهِ تِلْكَ فَقَتَلْته فَجَعَلْته فِي حُكْمِ الْمَوْتَى فَكَانَ هَارِبًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مُقِيمًا عَلَى الرِّدَّةِ دَهْرًا مِنْ دَهْرِهِ أَتُقَسِّمُ مِيرَاثَهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: فَأَسْمَعُ عِلَّتَك بِأَنَّك لَوْ قَدَرْت عَلَيْهِ قَتَلْته. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِ حُكِمَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوْتَى كَانَتْ بَاطِلًا عِنْدَك فَرَجَعْت إلَى الْحَقِّ عِنْدَك فِي أَنْ لَا تَقْتُلَهُ إذَا كَانَ هَارِبًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَأَنْتَ لَوْ قَدَرْت عَلَيْهِ قَتَلْته.
وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَك حَقًّا فَتَرَكْت الْحَقَّ فِي قَتْلِهِ إذَا كَانَ هَارِبًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. قُلْت: فَإِنَّمَا قَسَّمْت مِيرَاثَهُ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْكُفْرِ دُونَ الْمَوْتِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: فَالْمُسْلِمُ يَلْحَقُ بِدَارِ الْكُفْرِ أَيُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ إذَا كَانَ فِي دَارٍ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا الْحُكْمُ؟ قَالَ: لَا. قُلْنَا فَالدَّارُ لَا تُمِيتُ أَحَدًا، وَلَا تُحْيِيهِ، فَهُوَ حَيٌّ حَيْثُ كَانَ حَيًّا وَمَيِّتٌ حَيْثُ كَانَ مَيِّتًا.
قَالَ نَعَمْ: قُلْنَا أَفَتَسْتَدْرِكُ عَلَى أَحَدٍ أَبَدًا بِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ أَقْبَحُ أَنْ تَقُولَ الْحَيُّ مَيِّتٌ؟ أَرَأَيْت لَوْ تَابَعَك أَحَدٌ عَلَى أَنْ تَزْعُمَ أَنَّ حَيًّا يُقَسَّمُ مِيرَاثُهُ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْك أَنَّ مَنْ تَابَعَك عَلَى هَذَا مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، أَوْ غَبِيٌّ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ. فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ مَعًا عَلَى دَلَالَةِ الْمَعْقُولِ عَلَى خِلَافِكُمَا مَعًا؟ .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَقُلْت: لَهُ عِبْتُمْ عَلَى مَنْ قَالَ: قَوْلَ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَمِنْ أَصْلِ مَا تَذْهَبُونَ كَمَا تَزْعُمُونَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: قَوْلًا كَانَ قَوْلُهُ غَايَةً يُنْتَهَى إلَيْهَا وَقَبِلْتُمْ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا أُرْخِيَتْ السُّتُورُ وَجَبَ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ وَرَدَدْتُمْ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَتَيْنِ وَهُمَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] وَقَوْلُهُ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا

(4/78)


عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَذَهَبْنَا إلَى أَنَّ الْإِرْخَاءَ وَالْإِغْلَاقَ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا إنَّمَا يَصْنَعُهُ الْمَسِيسُ فَكَيْفَ لَمْ تُجِيزُوا لِمَنْ تَأَوَّلَ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَقَالَ: بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ؟ وَقُلْتُمْ عُمَرُ فِي إمَامَتِهِ أَعْلَمُ بِمَعْنَى الْقُرْآنِ، ثُمَّ امْتَنَعْتُمْ مِنْ الْقَبُولِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ الْقَضَاءَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ وَهُمَا لَمْ يَقْضِيَا فِي مَالِهِ بِشَيْءٍ عَلِمْنَاهُ، وَقُلْتُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَم عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوْتَى قَبْلَ أَنْ تَسْتَيْقِنَ وَفَاتَهُ، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ.
ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَحْكُمُونَ عَلَى رَجُلٍ حُكْمَ الْمَوْتِ وَأَنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حَيَاتِهِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَلَقَلَّمَا رَأَيْتُكُمْ عِبْتُمْ عَلَى أَحَدٍ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي انْتَهَى إلَيْهَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا قُلْتُمْ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ بِمِثْلِهِ وَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَعِيبًا فَأَيُّ جَهْلٍ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ تَعِيبَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ عِنْدَك فِيمَا تَزْعُمُ؟ غَايَةُ مَا نَقُولُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ مَا عِبْت مِنْهُ، أَوْ مِثْلِهِ، وَقُلْت لِبَعْضِهِمْ: أَرَأَيْت قَوْلَك لَوْ لَمْ يَعِبْ بِخِلَافِ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا مَعْقُولٍ وَسَكَتَ لَك عَنْ هَذَا كُلِّهِ، أَلَا يَكُونُ قَوْلُك مَعِيبًا بِلِسَانِك؟ .
(قَالَ) : وَأَيْنَ؟ قُلْت: أَرَأَيْت إذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ اللُّحُوقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُوجِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوْتِ لِمَ زَعَمْت أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ فَرَّطَ، أَوْ لَمْ يُرْفَعْ ذَلِكَ إلَيْهِ حَتَّى يَمْضِيَ سِنِينَ، وَهُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ. ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي مُسْلِمًا أَنَّهُ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ، وَلِمَ زَعَمْت أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ حَكَمَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمَوْتِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا كَانَ الْحُكْمُ مَاضِيًا فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؟ مَا زَعَمْت أَنَّ حُكْمَ الْمَوْتِ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّك لَوْ زَعَمْت ذَلِكَ، قُلْت: لَوْ رَجَعَ مُسْلِمًا أُنَفِّذُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ، وَلَوْ زَعَمْت أَنَّ الْحُكْمَ إذَا أُنْفِذَ عَلَيْهِ وَرَجَعَ مُسْلِمًا رُدَّ الْحُكْمُ فَلَا يُنَفَّذُ فَأَنْتَ زَعَمْت أَنْ يُنَفِّذَ بَعْضًا وَيَرُدَّ بَعْضًا.
(قَالَ) : وَمَا ذَلِكَ؟ قُلْت: زَعَمْت أَنَّهُ يُعْتَقُ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَيُعْطِي غَرِيمَهُ الَّذِي حَقُّهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً حَالًّا وَيُقَسِّمُ مِيرَاثَهُ فَيَأْتِي مُسْلِمًا وَمُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمَالُهُ قَائِمٌ فِي يَدَيْ غَرِيمِهِ يُقِرُّ بِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَا يَرُدُّ مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَهُوَ مَالُهُ بِعَيْنِهِ فَكُلُّ مَالٍ فِي يَدَيْ الْغَرِيمِ مَالُهُ بِعَيْنِهِ وَتَقُولُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ. ثُمَّ تَنْزِعُ مِيرَاثَهُ مِنْ يَدَيْ وَرَثَتِهِ فَكَيْفَ نَقَضْت بَعْضَ الْحُكْمِ دُونَ بَعْضٍ؟ قَالَ: قُلْت: هُوَ مَالُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يُحَلَّلْ لَهُ وَمُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ بِأَعْيَانِهِمْ. ثُمَّ زَعَمْت أَنَّهُ يُنْقَضُ الْحُكْمُ لِلْوَرَثَةِ وَأَنَّهُ إنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضُهُمْ مَالَهُ، وَهُوَ مُوسِرٌ لَمْ يَغْرَمْهُ إيَّاهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ بَعْضُهُمْ أَخَذْته مِمَّنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَمُلَ عَقْلُهُ وَعِلْمُهُ لَوْ تَخَاطَأَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَرَأَيْت مَنْ نَسَبْتُمْ إلَيْهِ الضَّعْفَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَعْطِيلِ النَّظَرِ وَقُلْتُمْ إنَّمَا يَتَخَرَّصُ فَيَلْقَى مَا جَاءَ عَلَى لِسَانِهِ هَلْ كَانَ تَعْطِيلُ النَّظَرِ يُدْخِلُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ خِلَافِ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، فَقَدْ جَمَعَتْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِلَافِ مَعْقُولٍ، أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَنَاقُضِ قَوْلٍ، فَقَدْ جَمَعْتَهُ كُلَّهُ فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَك عِنْدَ نَفْسِك مِنْ أَنْ تَكُونَ مَلُومًا عَلَى هَذَا إنَّك أَبْدَيْتَهُ وَأَنْتَ تَعْرِفُهُ فَلَا أَحْسِبُ لِمَنْ أَتَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ عُذْرًا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَاهِلِ بِأَنْ يَقُولَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يُخْطِئُ، وَلَا يَعْلَمُ فَأَحْسِبُ الْعَالِمَ غَيْرَ مَعْذُورٍ بِأَنْ يُخْطِئَ، وَهُوَ يَعْلَمُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقَالَ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقُلْت: أَقُولُ إنِّي أَقِفُ مَالَهُ حَتَّى يَمُوتَ فَأَجْعَلُهُ فَيْئًا، أَوْ يَرْجِعَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ، وَلَا أَحْكُمُ بِالْمَوْتِ عَلَى حَيٍّ فَيَدْخُلَ عَلَيَّ بَعْضُ مَا دَخَلَ عَلَيْك.

[بَابُ رَدِّ الْمَوَارِيثِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]

(4/79)


وَقَالَ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَقَالَ: تَعَالَى {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] وَقَالَ: عَزَّ اسْمُهُ {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَهَذِهِ الْآيُ فِي الْمَوَارِيثِ كُلِّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى بِمَنْ سَمَّى لَهُ فَرِيضَةً إلَى شَيْءٍ، فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ مَنْ انْتَهَى اللَّهُ بِهِ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ مَا انْتَهَى بِهِ، وَلَا يَنْقُصُهُ فَبِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ رَدُّ الْمَوَارِيثِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَإِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ أُخْتَهُ أَعْطَيْتهَا نِصْفَ مَا تَرَكَ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ فَلِمَوَالِيهِ الَّذِينَ أَعْتَقُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ كَانَ النِّصْفُ مَرْدُودًا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَلَا تُزَادُ أُخْتُهُ عَلَى النِّصْفِ، وَكَذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى وَارِثٍ ذِي قَرَابَةٍ، وَلَا زَوْجٍ، وَلَا زَوْجَةٍ لَهُ فَرِيضَةٌ، وَلَا تُجَاوِزُ بِذِي فَرِيضَةٍ فَرِيضَتُهُ وَالْقُرْآنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَوْلُ الْأَكْثَرِ مِمَّنْ لَقِيت مِنْ أَصْحَابِنَا.

[بَابُ الْخِلَافِ فِي رَدِّ الْمَوَارِيثِ]
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ أُخْتَهُ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهَا، وَلَا مَوْلَى أَعْطَيْت الْأُخْتَ الْمَالَ كُلَّهُ، قَالَ: فَقُلْت لِبَعْضِ مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَى أَيُّ شَيْءٍ ذَهَبْتُمْ؟ قَالَ: ذَهَبْنَا إلَى أَنْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَدُّ الْمَوَارِيثِ فَقُلْت: لَهُ مَا هُوَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا عَلِمْته بِثَابِتٍ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا كُنْت قَدْ تُرِكَتْ عَلَيْهِمَا أَقَاوِيلُ لَهُمَا فِي الْفَرَائِضِ غَيْرَ قَلِيلَةٍ لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَكَيْفَ إنْ كَانَ زَيْدٌ لَا يَقُولُ بِقَوْلِهِمَا لَا يَرُدُّ الْمَوَارِيثَ لِمَ لَمْ تَتَّبِعْهُ دُونَهُمَا كَمَا اتَّبَعْته دُونَهُمَا فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ الْفَرَائِضِ؟ .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقَالَ: فَدَعْ هَذَا، وَلَكِنْ أَرَأَيْت إذَا اخْتَلَفَ الْقَوْلَانِ فِي رَدِّ الْمَوَارِيثِ أَلَيْسَ يَلْزَمُنَا أَنْ نَصِيرَ إلَى أَشْبَهِ الْقَوْلَيْنِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَعُدَّهُمَا خَالَفَاهُ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؟ قُلْنَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَا شَكَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ قَوْلِنَا؟ قُلْت قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَذَكَرَ الْأُخْتَ مُنْفَرِدَةً فَانْتَهَى بِهَا إلَى النِّصْفِ وَذَكَرَ الْأَخ مُنْفَرِدًا فَانْتَهَى بِهِ إلَى الْكُلِّ وَذَكَرَ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُجْتَمَعَيْنِ فَجَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْأَخِ فِي الِاجْتِمَاعِ كَمَا جَعَلَهَا فِي الِانْفِرَادِ أَفَرَأَيْت إنْ أَعْطَيْتهَا الْكُلَّ مُنْفَرِدَةً أَلَيْسَ قَدْ خَالَفْت حُكْمَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَصًّا؟ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ انْتَهَى بِهَا إلَى النِّصْفِ وَخَالَفْت مَعْنَى حُكْمِ اللَّهِ إذْ سَوَّيْتهَا بِهِ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقُلْت لَهُ وَآيُ الْمَوَارِيثِ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ رَدِّ الْمَوَارِيثِ قَالَ: فَقَالَ أَرَأَيْت إنْ قُلْت: لَا أُعْطِيهَا النِّصْفَ الْبَاقِيَ مِيرَاثًا؟ قُلْت: لَهُ قُلْ مَا شِئْت قَالَ: أَرَاهَا مَوْضِعَهُ قُلْت: فَإِنْ رَأَى غَيْرُك غَيْرَهَا مَوْضِعَهُ فَأَعْطَاهَا جَارَةً لَهُ مُحْتَاجَةً، أَوْ جَارًا لَهُ مُحْتَاجًا أَوْ غَرِيبًا مُحْتَاجًا؟ قَالَ: فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قُلْت: وَلَا لَك بَلْ هَذَا أَعْذَرُ مِنْك، هَذَا لَمْ يُخَالِفْ حُكْمَ الْكِتَابِ نَصًّا، وَإِنَّمَا خَالَفَ قَوْلَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ عَوَامَّ مِنْهُمْ يَقُولُونَ هُوَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.

(4/80)


[بَابُ الْمَوَارِيثِ]
ِ أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ} [هود: 42] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] فَنَسَبَ إبْرَاهِيمَ إلَى أَبِيهِ وَأَبُوهُ كَافِرٌ وَنَسَبَ ابْنَ نُوحٍ إلَى أَبِيهِ نُوحٍ وَابْنُهُ كَافِرٌ وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وَقَالَ: تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] فَنَسَبُ الْمَوَالِي نَسَبَانِ أَحَدُهُمَا إلَى الْآبَاءِ وَالْآخَرُ إلَى الْوَلَاءِ وَجَعَلَ الْوَلَاءَ بِالنِّعْمَةِ وَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةُ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُهُ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ» فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ قَالَ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِمُتَقَدِّمِ فِعْلٍ مِنْ الْمُعْتِقِ كَمَا يَكُونُ النَّسَبُ بِمُتَقَدِّمِ وِلَادٍ مِنْ الْأَبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ كَانَ لَا أَبَ لَهُ يُعْرَفُ جَاءَ رَجُلًا فَسَأَلَ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى نَفْسِهِ وَرَضِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ابْنًا أَبَدًا فَيَكُونُ مُدْخِلًا بِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مَظْلَمَةٌ فِي أَنْ يَعْقِلُوا عَنْهُ وَيَكُونُ نَاسِبًا إلَى نَفْسِهِ غَيْرَ مَنْ وَلَدَ، وَإِنَّمَا قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْتِقْ الرَّجُلُ الرَّجُلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ فَيَدْخُلَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمَظْلَمَة فِي عَقْلِهِمْ عَنْهُ وَيَنْسُبَ إلَى نَفْسِهِ وَلَاءَ مَنْ لَمْ يُعْتِقْ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَبَيَّنَ فِي قَوْلِهِ «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ، أَوَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ يَنْتَفِيَ مِنْ نَسَبِهِ وَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ أُبُوَّتُهُ عَنْهُ بِمَا أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ؟ أَوَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ أَوْ يَنْتَفِي مِنْ وِلَايَتِهِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْمُعْتَقُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِمَا أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ النِّعْمَةِ؟ فَلَمَّا كَانَ الْمَوْلَى فِي الْمَعْنَى الَّذِي فِيهِ النَّسَبُ ثَبَتَ الْوَلَاءُ بِمُتَقَدِّمِ الْمِنَّةِ كَمَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِمُتَقَدِّمِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَبَدًا إلَّا بِسُنَّةٍ، أَوْ إجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى سُنَّةٌ، وَلَا إجْمَاعٌ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : قَدْ حَضَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ الْحِجَازِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ فَكَلَّمَنِي رَجُلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِأَنْ قَالَ إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَلَهُ وَلَاؤُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءُ نِعْمَةٍ وَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَلَائِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ، وَقَالَ لِي فَمَا حُجَّتُك فِي تَرْكِ هَذَا؟ قُلْت: خِلَافُهُ مَا حَكَيْت مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] الْآيَةَ وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِمُتَقَدِّمِ الْوِلَادِ كَمَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ بِمُتَقَدِّمِ الْعِتْقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الَّذِي يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ، فَكَانَ النَّسَبُ شَبِيهًا بِالْوَلَاءِ وَالْوَلَاءُ شَبِيهًا بِالنَّسَبِ، فَقَالَ لِي قَائِلٌ: إنَّمَا ذَهَبْت فِي هَذَا إلَى حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَوْهَبٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قُلْت لَا يَثْبُتُ، قَالَ: أَفَرَأَيْت إذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتًا أَيَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا رَوَيْت عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» قُلْت: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ تَقُولُ؟ .
قُلْت: أَقُولُ: إنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» «وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» ، وَقَوْلُهُ «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ» فِيمَنْ أَعْتَقَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ نَسَبٌ وَالنَّسَبُ لَا يُحَوَّلُ، وَاَلَّذِي يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْهِيُّ أَنْ يُحَوَّلَ، وَلَاؤُهُ، قَالَ: فَبِهَذَا قُلْنَا، فَمَا مَنَعَك مِنْهُ إذَا كَانَ الْحَدِيثَانِ

(4/81)


مُحْتَمِلَيْنِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ؟ قُلْت: مَنَعَنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، إنَّمَا يَرْوِيه عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ عَنْ ابْنِ مَوْهَبٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَابْنُ مَوْهَبٍ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَنَا، وَلَا نَعْلَمُهُ لَقِيَ تَمِيمًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا، وَلَا عِنْدَك مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مَجْهُولٌ، وَلَا نَعْلَمُهُ مُتَّصِلًا، قَالَ: فَإِنَّ مِنْ حُجَّتِنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ: فِي الْمَنْبُوذِ هُوَ حُرٌّ وَلَك، وَلَاؤُهُ، يَعْنِي لِلَّذِي الْتَقَطَهُ، قُلْت: وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّك تُخَالِفُهُ، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ؟ قُلْت: أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُوَالِي عَنْ الرَّجُلِ إلَّا نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ يَعْقِلَ، وَأَنَّ لَهُ إذَا وَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ بِوَلَائِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، فَإِنْ زَعَمْت أَنَّ مُوَالَاةَ عُمَرَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُوَالِيَ عَنْهُ؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، قُلْت: فَإِنْ زَعَمْت أَنَّ ذَلِكَ لِلْوَالِي دُونَ الْوَصِيِّ، فَهَلْ وَجَدْته يَجُوزُ لِلْوَالِي شَيْءٌ فِي الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ؟ فَإِنْ زَعَمْت أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ عُمَرَ وَالْحُكْمُ لَا يَجُوزُ عِنْدَك عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِشَيْءٍ يُلْزِمُهُ نَفْسَهُ، أَوْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِمَّا لَا يُصْلِحُهُ غَيْرُهُ، وَلِلْيَتِيمِ بُدٌّ مِنْ الْوَلَاءِ.
فَإِنْ قُلْت: هُوَ حُكْمٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إذَا عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ عَقْدًا مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إنْ عَقَدَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ؟ .
(قَالَ) : فَإِنْ قُلْت: هُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قُلْت: وَنُعَارِضُك بِمَا هُوَ أَثْبَتُ عَنْ مَيْمُونَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْت: وَهَبَتْ مَيْمُونَةُ، وَلَاءَ بَنِي يَسَارٍ لِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَاتَّهَبَهُ، فَهَذِهِ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ عَبَّاسٍ وَهُمَا اثْنَانِ، قَالَ: فَلَا يَكُونُ فِي أَحَدٍ، وَلَوْ كَانُوا عَدَدًا كَثِيرًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ، قُلْنَا: فَكَيْفَ احْتَجَجْت بِأَحَدٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هَكَذَا يَقُولُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، قُلْت: أَبَيْت أَنْ تَقْبَلَ هَذَا مِنْ غَيْرِك، فَقَالَ: مَنْ حَضَرَنَا مِنْ الْمَدَنِيِّينَ هَذِهِ حُجَّةٌ ثَابِتَةٌ، قَالَ فَأَنْتُمْ إنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَهَا ثَابِتَةً، فَقَدْ تُخَالِفُونَهَا فِي شَيْءٍ قَالُوا مَا نُخَالِفُهَا فِي شَيْءٍ، وَمَا نَزْعُمُ أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ إلَّا لِذِي نِعْمَةٍ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَقَالَ لِي قَائِلٌ أَعْتَقِدُ عَنْهُمْ جَوَابُهُمْ، فَأَزْعُمُ أَنَّ لِلسَّائِبَةِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ، قُلْت: لَا يَجُوزُ هَذَا إذَا كَانَ مَنْ احْتَجَجْنَا بِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ أَمْرٌ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَنُخْرِجُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْتَقِينَ اتِّبَاعًا، قَالَ: فَهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ حَاطِبًا أَعْتَقَ سَائِبَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قُلْنَا وَنَحْنُ: لَا نَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُعْتِقَ سَائِبَةً. فَهَلْ رَوَيْت أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَلَاءُ السَّائِبَةِ إلَيْهِ يُوَالِي مَنْ شَاءَ؟ قَالَ: لَا، قُلْت: فَدَاخِلٌ هُوَ فِي مَعْنَى الْمُعْتَقِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: أَفَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ، وَهُوَ مُعْتَقٌ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ وَعَلَيْهِ الْوَلَاءُ.
قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَرْوُونَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ سَائِبَةً فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِهِ عَلَى الْقَاتِلِ فَقَالَ: أَبُو الْقَاتِلِ أَرَأَيْت لَوْ قَتَلَ ابْنِي؟ قَالَ: إذًا لَا يَغْرَمُ، قَالَ: فَهُوَ إذًا مِثْلُ الْأَرْقَمِ، قَالَ: عُمَرُ فَهُوَ مِثْلُ الْأَرْقَمِ، فَاسْتَدَلُّوا بِأُمِّهِ لَوْ كَانَتْ لَهُ عَاقِلَةٌ بِالْوَلَاءِ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى عَاقِلَتِهِ؟ قُلْت فَأَنْتَ إنْ كَانَ هَذَا ثَابِتًا عَنْ عُمَرَ مَحْجُوجٌ بِهِ، قَالَ: وَأَيْنَ؟ قُلْت: تَزْعُمُ أَنَّ وَلَاءَ السَّائِبَةِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ، قَالَ: فَأَعْفِنِي مِنْ ذَا فَإِنَّمَا أَقُومُ لَهُمْ بِقَوْلِهِمْ. قُلْت: فَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ لَقِيطٍ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ إذَا قَتَلَ إنْسَانًا قَضَى بِعَقْلِهِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مِيرَاثَهُ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَقْضِ بِعَقْلِهِ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ: وَهَكَذَا يَقُولُ جَمِيعُ الْمُفْتِينَ. قُلْت: أَفَيَجُوزُ لِجَمِيعِ الْمُفْتِينَ أَنْ يُخَالِفُوا عُمَرَ؟ قَالَ: لَا هُوَ عَنْ عُمَرَ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ بِثَابِتٍ. قُلْت: فَكَيْفَ احْتَجَجْت بِهِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ

(4/82)


لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَهُ. قُلْت: فَبِئْسَ مَا قَضَيْت عَلَى مَنْ قُمْت بِحُجَّتِهِ إذَا كَانَ احْتَجَّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ عِنْدَك، قَالَ: فَعِنْدَك فِي السَّائِبَةِ شَيْءٌ مُخَالِفٌ لِهَذَا؟ قُلْت: إنْ قَبِلْت الْخَبَرَ الْمُنْقَطِعَ فَنَعَمْ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ طَارِقَ بْنَ الْمُرَقَّعِ أَعْتَقَ أَهْلَ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ سَوَائِبَ فانقلعوا عَنْ بِضْعَةَ عَشْرَ أَلْفًا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمَرَ أَنْ تُدْفَعَ إلَى طَارِقٍ، أَوْ إلَى وَرَثَةِ طَارِقٍ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَهَذَا إنْ كَانَ ثَابِتًا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ عُمَرَ يُثْبِتُ وَلَاءَ السَّائِبَةِ لِمَنْ سَيَّبَهُ.
وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي تِرْكَةِ سَالِمٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْطَى فَضْلَ مِيرَاثِهِ عَمْرَةَ بِنْتَ يعار الْأَنْصَارِيَّةَ وَكَانَتْ أَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي السَّائِبَةِ شَبِيهًا بِمَعْنَى ذَلِكَ فِيمَا أَظُنُّ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ.
قَالَ: فَهَلْ عِنْدَك حُجَّةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّائِبَةِ وَبَيْنَ الَّذِي يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ غَيْرُ الْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ قُلْت: نَعَمْ مِنْ الْقِيَاسِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْت: إنَّ الَّذِي يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ وَيَنْتَقِلُ بِوَلَائِهِ إلَى مَوْضِعٍ إنَّمَا ذَلِكَ بِرِضَا الْمُنْتَسِبِ وَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بِغَيْرِ رِضَا مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ، وَإِنَّ السَّائِبَةَ يَقَعُ الْعِتْقُ عَلَيْهِ بِلَا رِضًى مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ، وَلَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ هُوَ وَمُعْتِقُهُ، وَإِنَّهُ مِمَّنْ يَقَعُ عَلَيْهِ عِتْقُ الْمُعْتِقِ مَعَ دُخُولِهِ فِي جُمْلَةِ الْمُعْتَقِينَ. كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْحَرُونَ الْبَحِيرَةَ وَيُسَيِّبُونَ السَّائِبَةَ وَيُوصِلُونَ الْوَصِيلَةَ وَيَعْفُونَ الْحَامِيَ وَهَذِهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ. فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي الْحَامِي إذَا ضَرَبَ فِي إبِلِ الرَّجُلِ عَشْرَ سِنِينَ وَقِيلَ: نَتَجَ لَهُ عَشَرَةُ حَامٍ أَيْ حَمَى ظَهْرَهُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُرْكَبَ.
وَيَقُولُونَ فِي الْوَصِيلَةِ وَهِيَ مِنْ الْغَنَمِ إذَا وَصَلَتْ بُطُونًا تُومًا وَنَتَجَ نِتَاجُهَا فَكَانُوا يَمْنَعُونَهَا مِمَّا يَفْعَلُونَ بِغَيْرِهَا مِثْلَهَا، وَيُسَيِّبُونَ السَّائِبَةَ. فَيَقُولُونَ قَدْ أَعْتَقْنَاك سَائِبَةً وَلَا وَلَاءَ لَنَا عَلَيْك، وَلَا مِيرَاثَ يَرْجِعُ مِنْك لِيَكُونَ أَكْمَلَ لَتَبَرُّرِنَا فِيك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة: 103] الْآيَةُ فَرَدَّ اللَّهُ ثُمَّ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَمَ إلَى مَالِكِهَا إذَا كَانَ الْعِتْقُ مَنْ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّهُ أَعْتَقَ بَعِيرَهُ لَمْ يُمْنَعْ بِالْعِتْقِ مِنْهُ إذَا حَكَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيُبْطِلُ الشَّرْطَ فِيهِ. فَكَذَلِكَ أَبْطَلَ الشُّرُوطَ فِي السَّائِبَةِ وَرَدَّهُ إلَى، وَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَهُ مَعَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَصَفْنَا لَك.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ أَخْبَرَاهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي خِلَافَتِهِ فِي سَائِبَةٍ مَاتَ أَنْ يَدْفَعَ مِيرَاثَهُ إلَى الَّذِي أَعْتَقَهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَإِنْ كَانَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ. فَقَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي النَّصْرَانِيِّ يَعْتِقُ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ؟ قُلْت: فَهُوَ حُرٌّ. قَالَ: فَلِمَنْ وَلَاؤُهُ؟ قُلْت: لِلَّذِي أَعْتَقَهُ. قَالَ: فَمَا الْحُجَّةُ فِيهِ؟ قُلْت: مَا وَصَفْت لَك إذْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَسَبَ كَافِرًا إلَى مُسْلِمٍ وَمُسْلِمًا إلَى كَافِرٍ وَالنَّسَبُ أَعْظَمُ مِنْ الْوَلَاءِ. قَالَ: النَّصْرَانِيُّ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، قُلْت: وَكَذَلِكَ الْأَبُ لَا يَرِثُ ابْنَهُ إذَا اخْتَلَفَ أَدْيَانُهُمَا وَلَيْسَ مَنْعُهُ مِيرَاثَهُ بِاَلَّذِي قَطَعَ نَسَبَهُ مِنْهُ هُوَ ابْنُهُ بِحَالِهِ إذْ كَانَ ثَمَّ مُتَقَدِّمُ الْأُبُوَّةِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ بِحَالِهِ إذْ كَانَ ثَمَّ مُتَقَدِّمُ الْعِتْقِ.
قَالَ: وَإِنْ أَسْلَمَ الْمُعْتَقُ؟ قُلْت: يَرِثُهُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ؟ قُلْت: فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ ذَوُو رَحِمٍ مُسْلِمُونَ فَيَرِثُونَهُ. قَالَ: وَمَا الْحُجَّةُ فِي هَذَا؟ وَلِمَ إذًا دَفَعْت الَّذِي أَعْتَقَهُ عَنْ مِيرَاثِهِ تُوَرِّثُ بِهِ غَيْرَهُ إذْ لَمْ يَرِثْ هُوَ فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَرِثَ بِقَرَابَتِهِ مِنْهُ؟ قُلْت هَذَا مِنْ شُبَهِكَ، قَالَ: فَأَوْجِدْنِي الْحُجَّةَ فِيمَا قُلْت:؟ قُلْت: أَرَأَيْت الِابْنَ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَمَاتَ وَأَبُوهُ كَافِرٌ؟ قَالَ: لَا يَرِثُهُ قُلْت: فَإِنْ كَانَ لَهُ إخْوَةٌ، أَوْ أَعْمَامٌ، أَوْ بَنُو عَمٍّ مُسْلِمُونَ؟ قَالَ: يَرِثُونَهُ، قُلْت وَبِسَبَبِ مَنْ وَرِثُوهُ؟ قُلْت: بِقَرَابَتِهِمْ مِنْ الْأَبِ، قُلْت: فَقَدْ مَنَعْت الْأَبَ مِنْ الْمِيرَاثِ وَأَعْطَيْتهمْ بِسَبَبِهِ، قَالَ إنَّمَا مَنَعْته بِالدِّينِ فَجَعَلَتْهُ إذَا خَالَفَ دِينَهُ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ وَوَرَثَتُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ قُلْت: فَمَا مَنَعْنَا مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِي النَّصْرَانِيِّ؟ قَالَ: هِيَ لَك وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَا مَعَك، وَلَكِنَّا احْتَجَجْنَا لِمَنْ خَالَفَك مِنْ

(4/83)


أَصْحَابِك، قُلْت: أَوْ رَأَيْت فِيمَا احْتَجَجْت بِهِ حُجَّةً؟ قَالَ لَا وَقَالَ: أَرَأَيْت إذَا مَاتَ رَجُلٌ، وَلَا وَلَاءَ لَهُ؟ قُلْت: فَمِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ: بِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ؟ قُلْت: لَا، وَلَا يَكُونُ الْمَوْلَى إلَّا مُعْتِقًا، وَهَذَا غَيْرُ مُعَتِّقٍ، قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُوَرِّثْهُمْ بِأَنَّهُمْ مَوَالٍ وَلَيْسُوا بِذَوِي نَسَبٍ فَكَيْفَ أَعْطَيْتهمْ مَالَهُ؟ قُلْت: لَمْ أُعْطِهِمُوهُ مِيرَاثًا، وَلَوْ أَعْطَيْتهُمُوهُ مِيرَاثًا وَجَبَ عَلَيَّ أَنْ أُعْطِيَهُ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ حِينَ يَمُوتُ كَمَا أَجْعَلُهُ لَوْ كَانُوا مَعًا أَعْتَقُوهُ، وَأَنَا وَأَنْتَ إنَّمَا نُصَيِّرُهُ لِلْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ مِنْهُمْ فِي خَاصَّةٍ وَالْمَالُ الْمَوْرُوثُ لَا يُوضَعُ فِي خَاصَّةٍ فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْك لَوْ زَعَمْت بِأَنَّهُ وَرِثَ بِالْوَلَاءِ هَذَا وَأَنْ تَقُولَ اُنْظُرْ الْيَوْمَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ فَأَثْبَتَ، وَلَاءَهُ لِجَمَاعَةِ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فَيَرِثُهُ وَرَثَةُ أُولَئِكَ الْأَحْيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَيَدْخُلُ عَلَيْك فِي النَّصْرَانِيِّ يَمُوتُ، وَلَا وَارِثَ لَهُ فَتَجْعَلُ مَالَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» قَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعْطِي الْمُسْلِمِينَ مِيرَاثَ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِيرَاثُ النَّصْرَانِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ، وَلَا وَلَاءٌ؟ قُلْت: بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ فَخَوَّلَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهَا وَمِنْ كُلِّ مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ يُعْرَفُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. مِثْلَ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ فَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحْيُوهَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَانِ الْمَالَانِ لَا مَالِكَ لَهُمَا يُعْرَفُ خَوَّلَهُمَا اللَّهُ أَهْلَ دَيْنِ اللَّهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ

[الرَّدُّ فِي الْمَوَارِيثِ]
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فَرِيضَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مَا جَاءَ عَنْ السَّلَفِ انْتَهَيْنَا بِهِ إلَى فَرِيضَتِهِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلَيْنَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نَنْقُصَهُ مِمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَالْآخَرُ: أَنْ لَا نَزِيدَهُ عَلَيْهِ وَالِانْتِهَاءُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هَكَذَا وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ مَنْ يَسْتَغْرِقُهُ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَأَنْ لَا نَرُدَّهُ عَلَى زَوْجٍ، وَلَا زَوْجَةٍ وَقَالُوا رَوَيْنَا قَوْلَنَا هَذَا عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: لَهُمْ أَنْتُمْ تَتْرُكُونَ مَا تَرْوُونَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي أَكْثَرِ الْفَرَائِضِ لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَكَيْفَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا تَتْرُكُونَ؟ قَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَقُلْنَا مَعْنَاهَا عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ كُنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمُوهُ قَالُوا فَمَا مَعْنَاهَا؟ قُلْنَا تَوَارَثَ النَّاسُ بِالْحِلْفِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ تَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] عَلَى مَعْنَى مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ وَسَنَّ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مُطْلَقًا هَكَذَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ يَرِثُ أَكْثَرَ مِمَّا يَرِثُ ذَوُو الْأَرْحَامِ، وَلَا رَحِمَ لَهُ، أَوَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ الْعَمِّ الْبَعِيدَ يَرِثُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَلَا يَرِثُهُ الْخَالُ وَالْخَالُ أَقْرَبُ رَحِمًا مِنْهُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهَا عَلَى مَا وَصَفْت لَك مِنْ أَنَّهَا عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ النَّاسَ يَتَوَارَثُونَ بِالرَّحِمِ وَتَقُولُونَ خِلَافَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ أَخْوَالَهُ وَمَوَالِيَهُ فَمَالُهُ لِمَوَالِيهِ دُونَ أَخْوَالِهِ، فَقَدْ مَنَعْت ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ قَدْ تُعْطِيهِمْ فِي حَالٍ وَأَعْطَيْت الْمَوْلَى الَّذِي لَا رَحِمَ لَهُ الْمَالَ. قَالَ: فَمَا حَجَّتُك فِي أَنْ لَا تُرَدَّ الْمَوَارِيثَ؟ قُلْنَا: مَا وَصَفْت لَك مِنْ الِانْتِهَاءِ إلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ لَا أَزِيدَ ذَا سَهْمٍ عَلَى سَهْمِهِ، وَلَا أَنْقُصُهُ قَالَ: فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ تُثْبِتهُ سِوَى هَذَا؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ: عَزَّ ذِكْرُهُ {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]

(4/84)


فَذَكَرَ الْأَخَ وَالْأُخْتَ مُنْفَرِدَيْنِ فَانْتَهَى بِالْأُخْتِ إلَى النِّصْفِ وَبِالْأَخِ إلَى الْكُلِّ وَذَكَرَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مُجْتَمَعِينَ فَحَكَمَ بَيْنَهُمْ مِثْلَ حُكْمِهِ بَيْنَهُمْ مُنْفَرِدِينَ قَالَ: {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَجَعَلَهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ، فَمَنْ قَالَ بِرَدِّ الْمَوَارِيثِ قَالَ: أُوَرِّثُ الْأُخْتَ الْمَالَ كُلَّهُ فَخَالَفَ قَوْلُهُ الْحُكْمَيْنِ مَعًا. قُلْت: فَإِنْ قُلْتُمْ نُعْطِيهَا النِّصْفَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَرُدُّ عَلَيْهَا النِّصْفَ لَا مِيرَاثًا.
قُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ تَرُدُّهُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: مَا نَرُدُّهُ أَبَدًا إلَّا مِيرَاثًا أَوْ يَكُونُ مَالًا حُكْمُهُ إلَى الْوُلَاةِ فَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْوُلَاةُ بِمُخَيَّرِينَ، وَعَلَى الْوُلَاةِ أَنْ يَجْعَلُوهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانُوا فِيهِ مُخَيَّرِينَ كَانَ لِلْوَالِي أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ شَاءَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.

[بَابُ مِيرَاثِ الْجَدِّ]
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَقُلْنَا إذَا وَرِثَ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ قَاسَمَهُمْ مَا كَانَتْ الْمُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ مِنْهَا أُعْطِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرُ الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا فِيهِ مِثْلَ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ الْبُلْدَانِ، وَقَدْ خَالَفْنَا بَعْضَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْجَدُّ أَبٌ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. إنَّهُ أَبٌ إذَا كَانَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ طُرِحُوا وَكَانَ الْمَالُ لِلْجَدِّ دُونَهُمْ، وَقَدْ زَعَمْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اخْتَلَفُوا لَمْ نَصِرْ إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ قَوْلِ الْآخَرِ إلَّا بِالتَّثَبُّتِ مَعَ الْحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلسُّنَّةِ وَهَكَذَا نَقُولُ وَإِلَى الْحُجَّةِ ذَهَبْنَا فِي قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَنْ قَالَ قَوْلَهُ.
قَالُوا: فَإِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: الْجَدُّ أَبٌ لِخِصَالٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فَأَقَامَ الْجَدَّ فِي النَّسَبِ أَبًا وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنْ لَمْ يُنْقِصُوهُ مِنْ السُّدُسِ، وَهَذَا حُكْمُهُمْ لِلْأَبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ حَجَبُوا بِالْجَدِّ الْأَخَ لِلْأُمِّ وَهَكَذَا حُكْمُهُمْ فِي الْأَبِ فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَحْكَامِهِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ وَأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحْكَامِهِ وَحُكْمِ الْأَبِ فِيمَا سِوَاهَا قُلْنَا إنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَحْكَامِهِ فِيهَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلْجَدِّ عَلَى الْأَبِ قَالُوا وَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْنَا أَرَأَيْتُمْ الْجَدَّ لَوْ كَانَ إنَّمَا يَرِثُ بِاسْمِ الْأُبُوَّةِ هَلْ كَانَ اسْمُ الْأُبُوَّةِ يُفَارِقُهُ لَوْ كَانَ دُونَهُ أَبٌ، أَوْ يُفَارِقُهُ لَوْ كَانَ قَاتِلًا أَوْ مَمْلُوكًا، أَوْ كَافِرًا؟ قَالَ: لَا قُلْنَا، فَقَدْ نَجِدُ اسْمَ الْأُبُوَّةِ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا وَرَّثْنَاهُ بِالْخَبَرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ لَا بِاسْمِ الْأُبُوَّةِ قَالَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُنْقِصُونَهُ مِنْ السُّدُسِ وَذَلِكَ حُكْمُ الْأَبِ قُلْنَا وَنَحْنُ لَا نَنْقُصُ الْجَدَّةَ مِنْ السُّدُسِ أَفَتَرَى ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ فَتَقِفُهَا مَوْقِفَ الْأَبِ فَتَحْجُبُ بِهَا الْإِخْوَةُ؟ قَالُوا: لَا وَلَكِنْ قَدْ حَجَبْتُمْ الْإِخْوَةَ مِنْ الْأُمِّ بِالْجَدِّ كَمَا حَجَبْتُمُوهُمْ بِالْأَبِ قُلْنَا نَعَمْ قُلْنَا هَذَا خَبَرًا لَا قِيَاسًا، أَلَا تَرَى أَنَّا نُحَجِّبُهُمْ بِابْنَةِ ابْنٍ مُتَسَفِّلَةٍ، وَلَا نَحْكُمُ لَهَا بِحُكْمِ الْأَبِ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكُمْ أَنَّ الْفَرَائِضَ تَجْتَمِعُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ قَالُوا وَكَيْفَ لَمْ تَجْعَلُوا أَبَا الْأَبِ كَالْأَبِ كَمَا جَعَلْتُمْ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ؟ قُلْنَا لِاخْتِلَافِ الْأَبْنَاءِ وَالْآبَاءِ؛ لِأَنَّا وَجَدْنَا الْأَبْنَاءَ أَوْلَى بِكَثْرَةِ الْمَوَارِيثِ مِنْ الْآبَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ يَتْرُكُ أَبَاهُ وَابْنَهُ فَيَكُونُ لِابْنِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ وَلِأَبِيهِ السُّدُسُ وَيَكُونُ لَهُ بَنُونَ يَرِثُونَهُ مَعًا، وَلَا يَكُونُ أَبَوَانِ يَرِثَانِهِ مَعًا، وَقَدْ نُوَرِّثُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ الْأُخْتَ، وَلَا نُوَرِّثُ ابْنَتَهَا أَوْ نُوَرِّثُ الْأُمَّ، وَلَا نُوَرِّثُ ابْنَتَهَا إذَا كَانَ دُونَهَا غَيْرَهَا، وَإِنْ وَرَّثْنَاهَا لَمْ نُوَرِّثْهَا قِيَاسًا عَلَى أُمِّهَا، وَإِنَّمَا وَرَّثْنَاهَا خَبَرًا لَا قِيَاسًا قَالَ: فَمَا حُجَّتُكُمْ

(4/85)


فِي أَنْ أَثْبَتُّمْ فَرَائِضَ الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ؟ قُلْنَا مَا وَصَفْنَا مِنْ الِاتِّبَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالُوا وَمَا غَيْرُ ذَلِكَ؟ قُلْنَا أَرَأَيْت رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ أَخَاهُ وَجَدَّهُ هَلْ يُدْلِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى الْمَيِّتِ بِقَرَابَةِ نَفْسِهِ؟ قَالُوا: لَا، قُلْنَا: أَلَيْسَ إنَّمَا يَقُولُ أَخُوهُ أَنَا ابْنُ أَبِيهِ وَيَقُولُ جَدُّهُ أَنَا أَبُو أَبِيهِ وَكِلَاهُمَا يَطْلُبُ مِيرَاثَهُ لِمَكَانِهِ مِنْ أَبِيهِ؟ قَالُوا بَلَى قُلْنَا أَفَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ أَبُوهُ الْمَيِّتَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَيُّهُمَا أَوْلَى بِمِيرَاثِهِ؟ قَالَ: يَكُونُ لِابْنِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ وَلِأَبِيهِ السُّدُسُ قُلْنَا، وَإِذَا كَانَا جَمِيعًا إنَّمَا يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ فَابْنُ الْأَبِ أَوْلَى بِكَثْرَةِ مِيرَاثِهِ مِنْ أَبِيهِ فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يُحْجَبَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْأَبِ الَّذِي يُدْلِيَانِ بِقَرَابَتِهِ بِاَلَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ؟ قُلْنَا: مِيرَاثُ الْإِخْوَةِ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَلَا فَرْضَ لِلْجَدِّ فِيهِ فَهُوَ أَقْوَى فِي الْقُرْآنِ وَالْقِيَاسِ فِي ثُبُوتِ الْمِيرَاثِ قَالَ: فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ الْجَدَّ إذَا كَثُرَ الْإِخْوَةُ أَكْثَرَ مِيرَاثًا مِنْ أَحَدِهِمْ؟ قُلْنَا خَبَرًا، وَلَوْ كَانَ مِيرَاثُهُ قِيَاسًا جَعَلْنَاهُ أَبَدًا مَعَ الْوَاحِدِ وَأَكْثَرُ مِنْ الْإِخْوَةِ أَقَلُّ مِيرَاثًا فَنَظَرْنَا كُلَّ مَا صَارَ لِلْأَخِ مِيرَاثًا فَجَعَلْنَا لِلْأَخِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْجَدِّ سَهْمًا كَمَا وَرَّثْنَاهُمَا حِينَ مَاتَ ابْنُ الْجَدِّ أَبُو الِابْنِ قَالَ: فَلِمَ لَمْ تَقُولُوا بِهَذَا؟ قُلْنَا لَمْ نَتَوَسَّعْ بِخِلَافِ مَا رَوَيْنَا عَنْهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُهُمْ إلَى قَوْلِ بَعْضٍ فَنَكُونُ غَيْرَ خَارِجِينَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ.

[مِيرَاثُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَقُلْنَا إذَا مَاتَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدُ الزِّنَا وَرَّثْت أُمَّهُ حَقَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِخْوَتَهُ لِأُمِّهِ حُقُوقَهُمْ وَنَظَرْنَا مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةَ عَتَاقَةٍ كَانَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِمَوَالِي أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً أَوْ لَا، وَلَاءَ لَهَا كَانَ مَا بَقِيَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ بِقَوْلِنَا فِيهَا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً أَوْ لَا وَلَاءَ لَهَا رَدُّوا مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِهِ عَلَى عَصَبَةِ أُمِّهِ وَكَانَ عَصَبَةُ أُمِّهِ عَصَبَتَهُ وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِرِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ وَأُخْرَى لَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ وَقَالُوا كَيْفَ لَمْ تَجْعَلُوا عَصَبَتَهُ عَصَبَةَ أُمِّهِ كَمَا جَعَلْتُمْ مَوَالِيَهُ مَوَالِيَ أُمِّهِ؟ قُلْنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَمْ نَخْتَلِفْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِي أَصْلِهِ ثُمَّ تَرَكْتُمْ قَوْلَكُمْ فِيهِ قُلْت: أَرَأَيْتُمْ الْمَوْلَاةَ الْعَتِيقَةَ تَلِدُ مِنْ مَمْلُوكٍ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ أَلَيْسَ يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا تَبَعًا لِوَلَائِهَا حَتَّى يَكُونُوا كَأَنَّهُمْ أُعْتِقُوا مَعًا مَا لَمْ يَجُرَّ أَبٌ وَلَاءَهُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قُلْنَا: أَوْ يَعْقِلُ عَنْهُمْ مَوَالِيَ أُمِّهِمْ وَيَكُونُونَ أَوْلِيَاءَ فِي التَّزْوِيجِ لَهُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قُلْنَا: فَإِنْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً فَتَكُونُ عَصَبَتُهَا عَصَبَةَ وَلَدِهَا فَيَعْقِلُونَ عَنْهُمْ وَيُزَوِّجُونَ بَنَاتِهِمْ قَالُوا: لَا، قُلْنَا: فَإِذَا كَانَ مَوَالِي الْأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَ الْعَصَبَةِ فِي وَلَدِ مَوْلَاتِهِمْ وَكَانَ الْأَخْوَالُ لَا يَقُومُونَ ذَلِكَ الْمَقَامَ فِي بَنِي أُخْتِهِمْ فَكَيْفَ أَنْكَرْت مَا قُلْنَا وَالْأَصْلُ الَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَاحِدٌ؟

[مِيرَاثُ الْمَجُوسِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : وَقُلْنَا: إذَا أَسْلَمَ الْمَجُوسِيُّ وَابْنَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتُهُ، أَوْ أُخْتُهُ أُمُّهُ نَظَرْنَا إلَى أَعْظَمِ السَّبَبَيْنِ فَوَرَّثْنَاهَا بِهِ وَأَلْغَيْنَا الْآخَرَ وَأَعْظَمُهُمَا أَثْبَتُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِذَا كَانَتْ أُمٌّ أُخْتًا وَرَّثْنَاهَا بِأَنَّهَا أُمٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَثْبُتُ فِي كُلِّ حَالٍ وَالْأُخْتَ قَدْ تَزُولُ وَهَكَذَا جَمِيعُ فَرَائِضِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَنَازِلِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ أُوَرِّثُهَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ مَعَهَا فَقُلْنَا لَهُ أَرَأَيْت إذَا كَانَ مَعَهَا أُخْتٌ وَهِيَ أُخْتُ أُمٍّ؟ قَالَ أَحْجُبُهَا مِنْ الثُّلُثِ بِأَنَّ مَعَهَا أُخْتَيْنِ وَأُوَرِّثُهَا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا أُخْتٌ قُلْنَا أَرَأَيْت حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ جَعَلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ فِي حَالٍ وَنَقَصَهَا مِنْهُ بِدُخُولِ الْإِخْوَةِ عَلَيْهَا أَلَيْسَ إنَّمَا نَقَصَهَا بِغَيْرِهَا لَا بِنَفْسِهَا؟ قَالَ: بَلَى

(4/86)


بِغَيْرِهَا نَقَصَهَا فَقُلْنَا وَغَيْرُهَا خِلَافُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْنَا، فَإِذَا نَقَصْتهَا بِنَفْسِهَا أَفَلَيْسَ قَدْ نَقَصْتهَا بِخِلَافِ مَا نَقَصَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ؟ وَقُلْنَا أَرَأَيْت إذَا كَانَتْ أُمًّا عَلَى الْكَمَالِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطِيَهَا بِنَقْصِهَا دُونَ الْكَمَالِ وَتُعْطِيَهَا أُمًّا كَامِلَةً وَأُخْتًا كَامِلَةً وَهُمَا بَدَنَانِ، وَهَذَا بَدَنٌ؟ قَالَ: فَقَدْ دَخَلَ عَلَيْك أَنْ عَطَّلْت أَحَدَ الْحَقَّيْنِ قُلْنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى اسْتِعْمَالِهِمَا إلَّا بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَخِلَافِ الْمَعْقُولِ لَمْ يَجُزْ إلَّا تَعْطِيلُ أَصْغَرِهِمَا لَا أَكْبَرِهِمَا قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ عَلَيْنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْنَا نَعَمْ قَدْ تَزْعُمُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ بِكَامِلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا رَقِيقٍ وَأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ صَارَ إلَى حُكْمِ الْعَبِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَهُ، وَلَا يُحَدُّ هُوَ إلَّا حَدَّ الْعَبِيدِ فَتَعَطَّلَ مَوْضِعُ الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ قَالَ: إنِّي أَحْكُمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَقِيقٌ قُلْت: أَفِي كُلِّ حَالٍ، أَوْ فِي بَعْضِ حَالٍ دُونَ بَعْضٍ؟ قَالَ: بَلْ فِي بَعْضِ حَالِهِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنِّي لَوْ قُلْت: لَك فِي كُلِّ حَالِهِ قُلْت لِسَيِّدِ الْمُكَاتَبِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ، قُلْت: فَإِذَا كَانَ قَدْ اخْتَلَطَ أَمْرُهُ فَلَمْ يُمْحَضْ عَبْدًا، وَلَمْ يُمْحَضْ حُرًّا فَكَيْفَ لَمْ تَقُلْ فِيهِ بِمَا رَوَيْته عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيُحَدُّ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَرِثُ وَيُورَثُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى؟
قَالَ: لَا تَقُولُ بِهِ قُلْنَا وَتَصِيرُ عَلَى أَصْلِ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ حُكْمُ الْعَبِيدِ فِيمَا نَزَلَ بِهِ وَتَمْنَعُهُ الْمِيرَاثَ؟ قَالَ: نَعَمْ قُلْنَا فَكَيْفَ لَمْ تَجُزْ لَنَا فِي فَرْضِ الْمَجُوسِ مَا وَصَفْنَا؟ وَإِنَّمَا صَيَّرْنَا الْمَجُوسَ إلَى أَنْ أَعْطَيْنَاهُمْ بِأَكْثَرِ مَا يَسْتَوْجِبُونَ فَلَمْ نَمْنَعْهُمْ حَقًّا مِنْ وَجْهٍ إلَّا أَعْطَيْنَاهُمْ ذَلِكَ الْحَقَّ، أَوْ بَعْضَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَجَعَلْنَا الْحُكْمَ فِيهِمْ حُكْمًا وَاحِدًا مَعْقُولًا لَا مُتَبَعِّضًا لَا أَنَّا جَعَلْنَا بَدَنًا وَاحِدًا فِي حُكْمِ بَدَنَيْنِ.

[مِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ]
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا

(4/87)


الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» .
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَبِهَذَا نَقُولُ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنْ ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَرِثْهُ الْمُسْلِمُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَطْعِ اللَّهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَوَافَقْنَا بَعْضَ النَّاسِ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ إلَّا الْمُرْتَدَّ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ قَالَ تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْنَا فَيَعْدُو الْمُرْتَدُّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى الْكَافِرِينَ، أَوْ يَكُونَ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَإِنْ قُلْت: هُوَ فِي بَعْضِ حُكْمِهِ فِي أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ، قُلْنَا أَفَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فِي حُكْمٍ مُؤْمِنًا فِي غَيْرِهِ؟ فَيَقُولُ لَك غَيْرُك فَهُوَ كَافِرٌ حَيْثُ جَعَلْته مُؤْمِنًا وَمُؤْمِنٌ حَيْثُ جَعَلْته كَافِرًا، قَالَ: لَا، قُلْنَا أَفَلَيْسَ يَجُوزُ لَك

(4/88)


مِنْ هَذَا شَيْءٌ إلَّا جَازَ عَلَيْك مِثْلُهُ؟ قَالَ: فَإِنَّا إنَّمَا صِرْنَا فِي هَذَا إلَى أَثَرٍ رَوَيْنَاهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ وَوَرَّثَ مِيرَاثَهُ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ قُلْنَا، فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْكُمْ أَنَّهُ غَلَطٌ وَنَحْنُ نَجْعَلُهُ لَك ثَابِتًا أَفَرَأَيْت حُكْمَهُ فِي سِوَى الْمِيرَاثِ أَحُكْمُ مُشْرِكٍ، أَوْ مُسْلِمٍ؟ قَالَ: بَلْ حُكْمُ مُشْرِكٍ قُلْنَا فَإِنْ حَبَسْت الْمُرْتَدَّ لِقَتْلِهِ أَوْ لِتَسْتَتِيبَهُ فَمَاتَ ابْنٌ لَهُ مُسْلِمٌ أَيَرِثُهُ؟ قَالَ: لَا، قُلْنَا أَفَرَأَيْت أَحَدًا قَطُّ لَا يَرِثُ وَلَدَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَاتِلَهُ وَيَرِثُهُ وَلَدُهُ؟ إنَّمَا أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنْ الْآبَاءِ حَيْثُ أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ لِلْآبَاءِ مِنْ الْأَبْنَاءِ وَقَطَعَ وِلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(4/89)


أَنْ «لَا يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ خَارِجًا مِنْ مَعْنَى حُكْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَحُكْمِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَثَرِ الَّذِي زَعَمْت لَزِمَك أَنْ تَكُونَ قَدْ خَالَفْت الْأَثَرَ؛ لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَمْنَعْهُ مِيرَاثَ وَلَدِهِ لَوْ مَاتُوا، وَهُوَ لَوْ وَرَّثَ وَلَدَهُ مِنْهُ انْبَغَى أَنْ يُوَرِّثَهُ وَلَدَهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَرِثُوهُ، وَلَا يَرِثُهُمْ كَانَ فِي مِثْلِ مَعْنَى مَا حَكَمَ بِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَقَالَ: نَرِثُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا يَرِثُونَا كَمَا تَحِلُّ لَنَا نِسَاؤُهُمْ، وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ نِسَاؤُنَا أَفَرَأَيْت إنْ احْتَجَّ عَلَيْك أَحَدٌ بِهَذَا مِنْ قَوْلِ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ شَبِيهُهُ.
وَقَدْ قَالَهُ مُعَاوِيَةُ وَمُعَاذٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: لَك إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالنِّسَاءِ اللَّاتِي يَحْلِلْنَ لِلْمُسْلِمِينَ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا نِسَاءِ أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ: لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلِمُعَاوِيَة وَلَهُمَا فِقْهٌ وَعِلْمٌ فَلِمَ لَمْ تُوَافِقْ قَوْلَهُمَا؟ وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَأَتَّبِعُ مُعَاوِيَةَ وَمُعَاذًا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَأُوَرِّثُ الْمُسْلِمَ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا أُوَرِّثُ الْكَافِرَ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا أَقُولُ فِي نِكَاحِ نِسَائِهِمْ قَالَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» فَهَذَا عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ، قُلْنَا وَلِمَ لَا تَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ مَنْ سَمَّيْنَا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مُحْتَمَلٌ لَهُ؟ قَالَ إنَّهُ قَلَّ حَدِيثٌ إلَّا وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى ظَاهِرِهَا لَا تُحَالُ عَنْهُ إلَى مَعْنَى تَحْتَمِلُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ عَمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ قُلْنَا، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ مُقَدَّمًا حُجَّةً فِي أَنْ يَقُولَ بِمَعْنًى يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا قُلْنَا فَكُلُّ مَا قُلْت: مِنْ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ، وَفِيمَا رَوَيْت عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

(4/90)


مِثْلُهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَقُلْنَا لَا يُؤْخَذُ مَالُ الْمُرْتَدِّ عَنْهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يُقْتَلَ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ كَانَ أَحَقَّ بِمَالِهِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْإِمَامُ مِيرَاثَهُ كَمَا يُقَسِّمُ مِيرَاثَ الْمَيِّتِ وَأَعْتَقَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ وَجَعَلَ دَيْنَهُ الْمُؤَجَّلَ حَالًّا وَأَعْطَى وَرَثَتَهُ مِيرَاثَهُ فَقِيلَ: لَهُ عِبْت أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - حَكَمَا فِي دَارِ السُّنَّةِ وَالْهِجْرَةِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ الَّذِي لَا يُسْمَعُ لَهُ بِخَبَرٍ وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ بِأَنْ تَتَرَبَّصَ امْرَأَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تُنْكَحُ فَقُلْت: وَكَيْفَ نَحْكُمُ بِحُكْمِ الْوَفَاةِ عَلَى رَجُلٍ امْرَأَتُهُ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيًّا؟ وَهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا فِي مَالِهِ بِحُكْمِ الْحَيَاةِ إنَّمَا حَكَمُوا بِهِ لِمَعْنَى الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَقَدْ نُفَرِّقُ نَحْنُ وَأَنْتَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَةِ فَنَزْعُمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنِّينًا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صِرْت بِرَأْيِك إلَى أَنْ حَكَمْت عَلَى رَجُلٍ حَيٍّ لَوْ ارْتَدَّ بطرسس فَامْتَنَعَ بِمُسَلِّحَةِ الرُّومِ وَنَحْنُ نَرَى حَيَاتَهُ بِحُكْمِ الْمَوْتَى فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ خَالَفْت فِيهِ الْقُرْآنَ وَدَخَلْت فِي أَعْظَمِ مِنْ الَّذِي عِبْت. وَخَالَفْت مَنْ عَلَيْك عِنْدَك اتِّبَاعُهُ فِيمَا عَرَفْت وَأَنْكَرْت.
قَالَ: وَأَيْنَ الْقُرْآنُ الَّذِي خَالَفْت؟ قُلْت: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَقَالَ: جَلَّ وَعَزَّ {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] فَإِنَّمَا نَقَلَ مِلْكَ الْمَوْتَى إلَى الْأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى خِلَافُ الْأَحْيَاءِ، وَلَمْ يَنْقُلْ بِمِيرَاثٍ قَطُّ مِيرَاثَ حَيٍّ إلَى حَيٍّ فَنَقَلْت مِيرَاثَ الْحَيِّ إلَى الْحَيِّ، وَهُوَ خِلَافُ حُكْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قَالَ: فَإِنِّي أَزْعُمُ أَنَّ رِدَّتَهُ وَلُحُوقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مِثْلُ مَوْتِهِ، قُلْت: قَوْلُك هَذَا خَبَرٌ؟ قَالَ: مَا فِيهِ خَبَرٌ، وَلَكِنِّي قُلْته قِيَاسًا. قُلْت: فَأَيْنَ الْقِيَاسُ؟ قَالَ: أَلَا تَرَى أَنِّي لَوْ وَجَدْته فِي هَذِهِ الْحَالِ قَتَلْته فَكَانَ مَيِّتًا، قُلْت: قَدْ عَلِمْت أَنَّك إذَا قَتَلْته مَاتَ فَأَنْتَ لَمْ تَقْتُلْهُ فَأَيْنَ الْقِيَاسُ؟ إنَّمَا قَتْلُهُ لَوْ أَمَتَّهُ فَأَنْتَ لَمْ تُمِتْهُ.
وَلَوْ كُنْت بِقَوْلِك لَوْ قَدَرْت عَلَيْهِ قَتَلْته كَالْقَاتِلِ لَهُ لَزِمَك إذَا رَجَعَ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ الْمَيِّتَ فَتُنَفِّذُ عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَوْتَى. قَالَ: مَا أَفْعَلُ وَكَيْفَ أَفْعَلُ، وَهُوَ حَيٌّ؟ قُلْت: قَدْ فَعَلْت أَوَّلًا، وَهُوَ حَيٌّ ثُمَّ زَعَمْت أَنَّك إنْ حَكَمْت عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمَوْتَى فَرَجَعَ تَائِبًا وَأُمُّ وَلَدِهِ قَائِمَةٌ وَمُدَبَّرُهُ قَائِمٌ، وَفِي يَدِ غَرِيمِهِ مَالُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي دَفَعْته إلَيْهِ، وَهُوَ إلَى عَشْرِ سِنِينَ، وَفِي يَدِ أَبِيهِ مِيرَاثُهُ فَقَالَ: لَك رُدَّ عَلَيَّ مَالِي، وَهَذَا غَرِيمِي يَقُولُ هَذَا مَالُك بِعَيْنِهِ لَمْ أُغَيِّرْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ لِي إلَى عَشْرِ سِنِينَ وَهَذِهِ أُمُّ وَلَدِي وَمُدَبَّرِي بِأَعْيَانِهِمَا.
قَالَ: لَا أَرُدُّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ فِيهِ، قُلْنَا فَكَيْفَ رَدَدْت عَلَيْهِ مَا فِي يَدَيْ وَارِثِهِ، وَقَدْ نَفَذَ لَهُ بِهِ الْحُكْمُ؟ قَالَ: هَذَا مَالُهُ بِعَيْنِهِ، قُلْنَا: وَالْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ غَرِيمِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرُهُ مَالُهُ بِعَيْنِهِ، فَكَيْفَ نَقَضْت الْحُكْمَ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ؟ هَلْ قُلْت: هَذَا خَبَرًا، أَوْ قِيَاسًا قَالَ: مَا قُلْته خَبَرًا، وَلَكِنْ قُلْته قِيَاسًا، قُلْنَا فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ قِسْته؟ قَالَ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ يُصِيبُهَا أَهْلُ الْعَدْلِ، فَإِنْ تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ فَوَجَدُوا أَمْوَالَهُمْ بِأَعْيَانِهَا أَخَذُوهَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوهَا بِأَعْيَانِهَا لَمْ يَغْرَمْهَا أَهْلُ الْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَدْلِ لِأَهْلِ الْبَغْيِ، قُلْنَا فَهَذَا وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَرَدَدْت بَعْضَهُ، وَلَمْ تَرْدُدْ بَعْضَهُ فَأَمَّا أَهْلُ الْعَدْلِ لَوْ أَصَابُوا لِأَهْلِ الْبَغْيِ أُمَّ وَلَدٍ، أَوْ مُدَبَّرَةً رَدَدْتُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِمَا وَقُلْت: لَا يَعْتِقَانِ، وَلَا يَمْلِكُهُمَا غَيْرُ صَاحِبِهِمَا وَلَيْسَ هَكَذَا قُلْت: فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ.

[مِيرَاثُ الْمُشْرِكَةِ]
(قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) : قُلْنَا: إنَّ الْمُشْرِكَةَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنْ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَيُشْرِكُهُمْ بَنُو الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا سَقَطَ حُكْمُهُ صَارُوا

(4/91)


بَنِي أُمٍّ مَعًا وَقَالَ: بَعْضُ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِنَا إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا لَا يُشْرِكُهُمْ بَنُو الْأَبِ وَالْأُمِّ وَاحْتَجُّوا عَلَيْنَا بِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفُوا فِيهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلَنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُمْ فَقَالُوا اخْتَرْنَا قَوْلَ مَنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ أَنَّا وَجَدْنَا بَنِي الْأَبِ وَالْأُمِّ قَدْ يَكُونُونَ مَعَ بَنِي الْأُمِّ فَيَكُونُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ الثُّلُثَانِ وَلِلْجَمَاعَةِ مِنْ بَنِي الْأُمِّ الثُّلُثُ وَوَجَدْنَا بَنِي الْأَبِ وَالْأُمِّ قَدْ يُشْرِكُهُمْ أَهْلُ الْفَرَائِضِ فَيَأْخُذُونَ أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُ بَنُو الْأُمِّ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ مَرَّةً يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُونَ وَمَرَّةً أَقَلَّ مِمَّا يَأْخُذُونَ فَرَّقْنَا بَيْنَ حُكْمَيْهِمْ فَوَرَّثْنَا كُلًّا عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَمَعَتْهُمْ الْأُمُّ لَمْ نُعْطِهِمْ دُونَ الْأَبِ، وَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ بِالْأَبِ مَعَ الْأُمِّ فَرَّقْنَا بَيْنَ حُكْمَيْهِمْ فَقُلْنَا إنَّا إنَّمَا أَشْرَكْنَاهُمْ مَعَ بَنِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ جَمَعَتْهُمْ وَسَقَطَ حُكْمُ الْأَبِ، فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْأَبِ كَانَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَوْ صَارَ لِلْأَبِ مَوْضِعٌ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حُكْمٌ اسْتَعْمَلْنَاهُ قَلَّ نُصِيبُهُمْ، أَوْ كَثُرَ قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مِثْلَ مَا وَصَفْت مِنْ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَعْمِلًا فِي حَالٍ ثُمَّ تَأْتِي حَالٌ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمِلًا فِيهَا؟ قُلْنَا نَعَمْ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْنَا مَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ وَخَالَفْت فِيهِ صَاحِبَك مِنْ الزَّوْجِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ قَبْلَهُ وَيَكُونُ مُبْتَدِئًا لِنِكَاحِهَا وَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ وَاحِدَةٍ، أَوْ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَهْدِمْ الْوَاحِدَ، وَلَا الثِّنْتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ مَعْنًى فِي إحْلَالِ الْمَرْأَةِ هُدِمَ الطَّلَاقُ الَّذِي تَقَدَّمَهُ إذَا كَانَتْ لَا تَحِلُّ إلَّا بِهِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى فِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ وَكَانَتْ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا بِنِكَاحٍ قَبْلَ زَوْجٍ كَمَا كَانَتْ تَحِلُّ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى فَلَمْ نَسْتَعْمِلْهُ قَالَ: إنَّا لَنَقُولُ هَذَا خَبَرًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قُلْت: وَقِيَاسًا كَمَا وَصَفْنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ عُمَرُ فِيهِ غَيْرَهُ.
قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ لِي هَذَا فِي الْفَرَائِضِ؟ قُلْت: نَعَمْ الْأَبُ يَمُوتُ ابْنُهُ وَلِلِابْنِ إخْوَةٌ فَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ قَاتِلًا وَرِثُوا، وَلَمْ يُوَرَّثْ الْأَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَ الْأَبِ قَدْ زَالَ وَمَا زَالَ حُكْمُهُ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَمْ نَمْنَعْهُمْ الْمِيرَاثَ لَهُ إذَا صَارَ لَا حُكْمَ لَهُ كَمَا مَنَعْنَاهُمْ بِهِ إذَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا قَالَ: فَهَذَا لَا يَرِثُ بِحَالٍ وَأُولَئِكَ يَرِثُونَ بِحَالٍ قُلْنَا: أَوَلَيْسَ إنَّمَا نَنْظُرُ فِي الْمِيرَاثِ إلَى الْفَرِيضَةِ الَّتِي يُدْلُونَ فِيهَا بِحُقُوقِهِمْ لَا نَنْظُرُ إلَى حَالِهِمْ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا؟ قَالَ: وَمَا تَعْنِي بِذَلِكَ؟ قُلْت: لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا وَرِثَ، وَإِذَا صَارَ قَاتِلًا لَمْ يَرِثْ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَمَاتَ ابْنُهُ لَمْ يَرِثْ، وَلَوْ عَتَقَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَرِثَ قَالَ: هَذَا هَكَذَا؟ قُلْنَا فَنَظَرْنَا إلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا لِلْأَبِ حُكْمٌ فِي الْفَرِيضَةِ أَسْقَطْنَاهُ وَوَجَدْنَاهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا إلَى بَنِي الْأُمِّ.