|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي [كتاب
الطهارة]
باب الطهارة
قال المزني رحمه الله: قال الشافعي رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ
قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ مَنْ ذَكَرْنَا إعناته للمزني على هَذَا
الْفَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالُوا أَسْنَدَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْآنَ عَنِ
الشَّافِعِيِّ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا يَقْتَصِرُ إِلَى
الْإِسْنَادِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيعَاذِ مِنْ خِدَعِ الْهَوَى أَنَّ
الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِسْنَادَ الْقُرْآنِ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ
لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ هُوَ
الشَّافِعِيُّ دُونَ الْمُزَنِيِّ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي إن قَالُوا: قَدَّمَ الدَّلِيلَ عَلَى
الْمَدْلُولِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضُوعِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمَّا ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ حَسُنَ أَنْ
يَبْدَأَ بِتَقْدِيمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مُبْتَدِئًا بِكِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ
يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَسْأَلَةٍ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُهُ عَنِ
الْمَسْأَلَةِ. وَضَرْبٌ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَصْلِ الْبَابِ
فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَى الْبَابِ.
فَصْلٌ: دَلَائِلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ
وَالدَّلَائِلُ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ وَجَوَازِ التَّطْهِيرِ بِهِ
آيتان:
(1/35)
إِحْدَاهُمَا: قَوْله تَعَالَى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طهورا} ، وَالثَّانِيَةُ:
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ به} .
وَسُنَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا رَوَاهُ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ
الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ
أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ ".
وَالثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سلمة
(1/36)
أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا
نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ
تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ
أَنَّ الْعَرَكِيَّ قَالَ: " إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْمَاثٍ
لَنَا ". وَالْعَرَكِيُّ: الصَّيَّادُ.
والأرماث: الخشب يضم بعضه إلى بعض فنركب عَلَيْهَا فِي الْبَحْرِ ". قَالَ
الشَّاعِرُ:
(تَمَنَّيْتُ مِنْ حُبِّي بُثَيْنَةَ أَنَّنَا ... عَلَى رَمَثٍ فِي
الْبَحْرِ لَيْسَ لَنَا وَفْرُ)
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " هذا الحديث نصف العلم
الطهارة، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ هَذَا
الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْآيَةُ
دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَةِ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْمَاءُ لَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَابِعًا مِنَ
الْأَرْضِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الطَّهُورُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ
فَهُوَ صِفَةٌ تَزِيدُ عَلَى الطاهر يتعدى التطهير منه لغيره، فَيَكُونُ
مَعْنَى الطَّهُورِ هُوَ الْمُطَهِّرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ دَاوُدَ
وَالْأَصَمُّ: إِنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ لَا يَخْتَصُّ
بِزِيَادَةِ التَّعَدِّي.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَجْوِيزُهُمْ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ
بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] . يَعْنِي
طَاهِرًا لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ
بِهِ وَقَالَ جرير:
(1/37)
(إِلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ عُدَّ مِنَ
الظُّبَى ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ)
يَعْنِي: طَاهِرًا، لِأَنَّ رِيقَهُنَّ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا قَالُوا:
وَلِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا،
كَالْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ، وَكُلَّ فَاعِلٍ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ
كَانَ فَعُولُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَالصَّبُورِ وَالصَّابِرِ فَلَمَّا
كَانَ الطَّاهِرُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّهُورُ غَيْرَ
مُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمَا
انْطَلَقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي
مِنْهُ، كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الطَّهُورِ
عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطَهُّرِ بِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ
يُسَمَّ بِهِ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ، بَلْ لِلُزُومٍ، وَالصِّفَةُ
لَهُ أَيِ الْوَصْفُ، قَالُوا وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ
مُتَعَدِّيًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِعْلُ التَّطْهِيرِ مِنْهُ
كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ فَلَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ لِأَنَّهُ
يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَعْمَلًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ
مُتَعَدٍّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَاءَ
يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ
فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فِي تَعَدِّي فِعْلِهِ
إِلَيْهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا طَهَارَتَهُ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ. وَرُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ قَبْلِي نَبِيٌّ " فَذَكَرَ مِنْهَا: "
وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا " يَعْنِي
مُطَهِّرًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَاهِرًا عَلَى مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ
وَإِنَّمَا افْتَخَرَ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّطْهِيرِ بِهِ.
وَقَالَ عليه السلام: " دِبَاغُهَا طَهُورُهَا ". أَيْ مُطَهِّرُهَا.
وَقَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ " أَيْ: مُطَهِّرُهُ فَكَانَتْ
هَذِهِ الظَّوَاهِرُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ
الطَّهُورَ بِمَعْنَى مُطَهِّرٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ
الشَّرْعُ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُوَ أَنَّ فَعُولَ أَبْلَغُ فِي
اللُّغَةِ مِنْ فَاعِلٍ، فَلَمَّا اخْتَصَّ قَوْلَهُمْ طَهُورٌ بِمَا
يَكُونُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ دُونَ مَا كَانَ
طَاهِرًا مِنَ الْخَشَبِ وَالثِّيَابِ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا
فِي الْمُبَالَغَةِ تَعَدِّي الطَّهُورِ، وَلُزُومُ الطَّاهِرِ، وَلِأَنَّ
مَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَعُولِهِ وَفَاعِلِهِ بِالتَّكْرَارِ، لَمْ
يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي، كَالْقَتُولِ وَالْقَاتِلِ وَمَا
لَمْ يُمْكِنِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْرَارِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا
بِالتَّعَدِّي، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ طَهُورٍ وَطَاهِرٍ
بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
(1/38)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ
لِلْمَاءِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا عَدَمُ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ
بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فِي الجنة مما هو أعز
مَشْرُوبًا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ
الْمَدْحَ لِرِيقِهِنَّ بِالطَّهُورِ بِهِ مُبَالَغَةً، وَلَوْ كَانَ
مَعْنَاهُ طَاهِرًا لما كان مادحا، لأن ريق البهائم طاهرا أَيْضًا،
وَإِنَّمَا بَالَغَ بِأَنْ جَعَلَهُ مُطَهِّرًا تَشْبِيهًا بِالْمَاءِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ
فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي التَّعَدِّي
إِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي، وَلَيْسَ
يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ
التَّعَدِّي. فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ
التَّعَدِّي.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَنْطَلِقِ
الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ فَهُوَ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَةٍ قَدْ تُوجَدُ فِي الْبَاقِي مِنْهُ
كَقَوْلِهِمْ طَعَامٌ مشبع، وماء مروي، ونار مُحْرِقَةٌ، وَسَيْفٌ قَاطِعٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ متعديا لتكرر الفعل منه.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِجِنْسِ الْمَاءِ وَجِنْسُ الْمَاءِ
يَتَكَرَّرُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ
الْفِعْلُ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى العضو وانتقاله من محل إلى محل.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ
أَوْ مَالِحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ مُسَخَّنٍ
وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ
مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ " فَكُلُّ
مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ " خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ
الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ، وَلَا تَقُولُ: مَالِحٌ، وَإِنَّمَا هَذَا
مِنْ كَلَامِ الْعَامَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ الْعَامَّةِ،
لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَاءٌ مِلْحٌ لَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ
هُوَ الصَّوَابَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ وَمَاءٌ
مَالِحٌ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ:
(1/39)
(فَلَوْ تَفِلَتْ فِي الْبَحْرِ
وَالْبَحْرُ مَالِحٌ ... لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا
عَذْبًا)
وَقَالَ آخَرُ:
(تَلَوَّنْتَ أَلْوَانًا عَلَيَّ كَثِيرَةً ... وَخَالَطَ عَذْبًا مِنْ
إِخَايِكَ مَالِحُ)
وَمَاءُ الْبَحْرِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَحُكِيَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وعن سعيد بْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَقَدَّمُوا التَّيَمُّمَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ
سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] . فَمَنْعُهُ مِنَ
التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي
الطَّهَارَةِ بِهِمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَحْرُ نَارٌ مِنْ نَارٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " الْبَحْرُ
هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هِنْدٍ
الْفِرَاسِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ
فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي
طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ يَمْنَعُ
مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ
طَعْمِهِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا
قَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . فَإِنَّمَا نَعْنِي
مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ
وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ غَيْرُ سَائِغٍ شَرَابُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ "
يَعْنِي أَنَّهُ كَالنَّارِ لِسُرْعَةِ إِتْلَافِهِ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] . فَثَبَتَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ
الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ، فَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ
الْمِلْحُ فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْجُمُودِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَارِي،
فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءً جَارِيًا فَهُوَ
ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَصِيرُ مِلْحًا بِجَوْهَرِهِ فِي الْمَاءِ، دُونَ
الْبَرِّيَّةِ كَأَعْيُنِ الْمِلْحِ الَّتِي تَنْبُعُ مَاءً مَائِعًا
وَيَصِيرُ جَوْهَرُهُ مِلْحًا جَامِدًا فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ
اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ يَتَنَاوَلُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ
هَذَا الِاسْمُ يُؤَوَّلُ عَنْهُ إِذَا جَمُدَ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا
يَجْمُدُ الْمَاءُ فَيَصِيرُ ثَلْجًا. قَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ:
لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَاءِ
كَالنِّفْطِ وَالْقَارِ.
(1/40)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ فَإِنَّمَا
أَرَادَ مَاءَ بِئْرٍ أَوْ مَاءَ سَمَاءٍ فَحَذَفَ ذِكْرَ الْمَاءِ
اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي
الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . يَعْنِي مَاءَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّا مَاءُ
السَّمَاءِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَأَمَّا
مَاءُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21] . يَعْنِي بِهَا مَاءَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ
وَالنَّهْرِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ فَيُرِيدُ بِهِ أَيْضًا مَاءَ
بَرَدٍ أَوْ مَاءَ ثَلْجٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الطهارة به ما روي
عنه عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِمَاءِ الثَّلْجِ
وَالْبَرَدِ كما تطهر النوب مِنَ الدَّرَنِ " وَلِأَنَّهُ كَانَ مَاءً
فَجَمُدَ، ثُمَّ صَارَ مَاءً حِينَ ذَابَ وَانْحَلَّ، فَأَمَّا إِذَا
أُخِذَ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ فَدَلَكَ بِهِ أَعْضَاءَ طَهَارَتِهِ قَبْلَ
ذَوَبَانِهِ وَانْحِلَالِهِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِيهِ،
وَإِطْلَاقُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ
إِمْرَارَهُ الثَّلْجَ عَلَى أَعْضَائِهِ يَكُونُ مَسْحًا يَصِلُ إِلَى
الْعُضْوِ بِكُلِّ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْعُضْوِ
الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ أَجْزَأَهُ بِحُصُولِ الْمَسْحِ، وَإِنْ كَانَ
الْمُسْتَحَقُّ الْغَسْلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ
يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ، وَهَذَا مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ وَمَسْحُ
مَا يَجِبُ غَسْلُهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ، فَلَوْ كَانَ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى
الْأَعْضَاءِ يَذُوبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَجْرِي مَاؤُهُ عَلَيْهَا فَفِي
جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا يُجْزِئُ لِحُصُولِ
الْغَسْلِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَالثَّانِي لَا
يُجْزِئُ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ صَارَ جَارِيًا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ " مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ،
وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ " فَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْمُسَخَّنِ
أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَخَّنِ بِالنَّارِ وَبَيْنَ الْحَامِي
بِالشَّمْسِ فِي أَنَّ الْمُسَخَّنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَالْمُشَمَّسَ
مَكْرُوهٌ.
وَالثَّانِي: الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَزَعَمُوا
أَنَّ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ
يُسَخَّنُ لَهُ الْمَاءُ فَيَسْتَعْمِلُهُ وَالصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ
ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَلِأَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ
بِمَنْزِلَةِ التَّبْرِيدِ يُرْفَعَانِ عَنْهُ تَارَةً وَيَحِلَّانِ فِيهِ
أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَبْرِيدُهُ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ
لَمْ يَكُنْ تَسْخِينُهُ الدَّافِعَ لِرَدِّهِ مَانِعًا مِنَ
اسْتِعْمَالِهِ، وَلَعَلَّ مُجَاهِدًا كَرِهَ مِنْهُ مَا اشْتَدَّ حَمَاهُ،
فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ، وذلك عندنا
(1/41)
مكروه، وكذلك كما اشْتَدَّ بَرْدُهُ فَلَمْ
يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمِيَاهُ كُلُّهَا
نَوْعَانِ: نَوْعٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ مِيَاهٍ مَاءُ
الْمَطَرِ، وَمَاءُ الثَّلْجِ، وَمَاءُ الْبَرَدِ، وَنَوْعٌ يَنْبُعُ مِنَ
الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعُ مِيَاهٍ: مَاءُ الْبَحْرِ، وَمَاءُ النَّهْرِ،
وَمَاءُ الْعَيْنِ، وَمَاءُ الْبِئْرِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ
طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ
والرائحة.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا أَكْرَهُ الْمَاءَ
الْمُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِكَرَاهِيَةِ عُمْرَ ذَلِكَ
وَقَوْلِهِ: " يُورِثُ الْبَرَصَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا صَحِيحٌ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ
الْمُشَمَّسِ مَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عنهما - شَمَّسَتْ مَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تفعلي يا حميرا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ "
وَرُوِيَ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الْمَاءَ
الْمُشَمَّسَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، فَإِذَا ثَبَتَ
الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ كَرَاهِيَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، فَإِنَّ
الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا أَثَّرَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ مِيَاهِ
الْأَوَانِي، وَأَمَّا مِيَاهُ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ لَا
يُكْرَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا كَتَأْثِيرِهَا فِي
الْأَوَانِي.
وَالثَّانِي: التَّحَرُّزُ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَمِنَ الْأَوَانِي
مُمْكِنٌ وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِي مِيَاهِ الْأَوَانِي قَدْ يَكُونُ
تَارَةً بِالْحَمَا، وَتَارَةً بِزَوَالِ بِرْدِهِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي
الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرِ الشَّمْسُ فِيهِ لَمْ
يُكْرَهْ فَسَوَاءٌ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ، وَمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ
الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ
الْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ دُونَ مَا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " لَا تَفْعَلِي "
فَكَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفِعْلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ،
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَصَّ
عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَهَذَا الْمَعْنَى
لَا يَخْتَصُّ بِالْقَصْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَا أَيْضًا لَا فَرْقَ
بَيْنَ مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ فِي بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ،
وَبَيْنَ مَا حَمِيَ بِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَانَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ النَّهْيَ مَخْصُوصًا بِمَا حَمِيَ بِتِهَامَةَ
وَالْحِجَازِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ تُورِثُ الْبَرَصَ دُونَ مَا حَمِيَ
بِالْعِرَاقِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ
إِطْلَاقُ قَوْلٍ
(1/42)
بِغَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ عُمُومِ النَّهْيِ
الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْبِلَادِ، فَأَمَّا مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ ثُمَّ
بَرُدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى حَالِ الْكَرَاهَةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ
قَبْلَ الْبَرْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّ مَعْنَى
الْكَرَاهَةِ كَانَ لِأَجْلِ الْحَمْيِ، فَإِذَا زَالَ الْحَمْيُ زَالَ
مَعْنَى الْكَرَاهَةِ، وَكَانَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَقُولُ:
يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى عُدُولِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالُوا:
إِنَّهُ بَعْدَ بَرْدِهِ يُورِثُ الْبَرَصَ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ
قَالُوا: إِنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا، وَهَذَا
لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ
بِغَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في الشريعة، لأن من الطِّبِّ مَنْ يُنْكِرُ
أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَا يُرْجَعُ
إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فَإِنَّمَا تَخْتَصُّ
الْكَرَاهَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ طَهَارَةِ
حَدَثٍ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ أَوْ بَرَدٍ، أَوْ تَنْظِيفٍ، أَوْ شُرْبٍ،
سَوَاءٌ لَاقَى الْجَسَدَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ عِبَادَةٍ، فَأَمَّا
اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ
إِنَاءٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَاسَةٍ عَنْ أَرْضٍ، فَلَا يُكْرَهُ، لِأَنَّ
مَعْنَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ
بِمُلَاقَاةِ الْجَسَدِ دُونَ غَيْرِهِ، فأما إن استعماله فِي طَعَامٍ
يُرِيدُ أَكْلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَبْقَى فِي الطَّعَامِ كَالْمُرِّيِّ
بِهِ فِي الطَّبْخِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَا
يُعَافِيهِ كَالدَّقِيقِ الْمَعْجُونِ بِهِ، أَوِ الْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ
به لم يكره.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاءِ
وَرْدٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ عَرَقٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعْتَصَرًا مِنْ
شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ، أَوْ وَرَقٍ، كماء الورد والبقول الفواكه فَهُوَ
طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ، وَلَا
نَجَسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابن أبي ليلى والأصم أنه طاهر يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ
فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي
إِزَالَةِ النَّجَسِ دُونَ الْحَدَثِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى
وَالْأَصَمُّ فَاسْتَدَلَّا بِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ مُطَهِّرًا كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى:
أَوْدَعَ كُلَّ مَاءٍ مَعْدِنًا وَأَوْدَعَ هَذِهِ الْمِيَاهَ فِي
النَّبَاتِ كَمَا أَوْدَعَ غَيْرَهَا فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ فَوَجَبَ
أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُهَا فِي التَّطْهِيرِ بِاخْتِلَافِ
مَعَادِنِهَا كَسَائِرِ الْمِيَاهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا
الْقَوْلِ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ
(1/43)
الْمُطْلَقَ بِالتَّطْهِيرِ، وَتَخْصِيصُ
الذِّكْرِ إِذَا عُلِّقَ بِصِفَةٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْحُكْمِ
وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ ولأن مَا خَرَجَ عَنِ اسْمِ
الْمَاءِ الْمُطْلَقِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي التَّطْهِيرِ
كَالْأَدْهَانِ وَمَاءِ اللَّحْمِ وهذا يفسد ما استدلوا به.
فصل: دليل أبي حنيفة والرد عليه
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ
مَائِعٍ طَاهِرٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَجُرُّهُ فِي
الْمَكَانِ الْقَذِرِ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا
بَعْدَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا التُّرَابُ فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ لِغَيْرِ الْمَاءِ مَدْخَلٌ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ،
وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أصاب ثوبها دم
قبلته وَقَرَصَتْهُ بِرِيقِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ يُزِيلُ
النجاسة، قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ فَزَالَ إِزَالَةَ
النَّجَاسَةِ بِهِ كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا أَزَالَ عَيْنَ
النَّجَاسَةِ أَوْجَبَ إِزَالَةَ حُكْمِهَا، كَالْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ،
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ عَيْنِهِ بَعِيدًا لَمْ
يَخْتَصَّ بِالْمَاءِ كَالطِّيبِ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ، قَالُوا:
وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنًى زَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ
ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَنْجِيسِ الْمَحَلِّ
وُجُودَ الْعَيْنِ وَجَبَ إِذَا ارْتَفَعَتْ أَنْ يَزُولَ تَنْجِيسُ
الْمَحَلِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ إِنَاءَ الْخَمْرِ لَمَّا طَهُرَ
بِانْقِلَابِهِ خَلًّا، عُلِمَ أَنَّ الْخَلَّ طَهَّرَهُ، فَلَمَّا جَازَ
أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ مُطَهِّرًا لِإِنَاءِ الْخَمْرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ
مُطَهِّرًا لِكُلِّ نَجِسٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ هِرًّا لَوْ أَكَلَتْ
فَارَةً أَوْ مَيْتَةً ثُمَّ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ كان الماء طاهرا، فدل أن
فيها طهر بريقها، قالوا: ولأن لَمَّا كَانَ لِغَيْرِ الْمَائِعِ مَدْخَلٌ
فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ فِي الدِّبَاغَةِ
لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ مُخْتَصًّا بِالْإِزَالَةِ فَكَانَ الْمَائِعُ
أَوْلَى مِنَ الْجَامِدِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذَا مَخْرَجَ الْفَضِيلَةِ
لِلْمَاءِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَلَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ
لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الِامْتِنَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ عَلَى الْمَاءِ التَّنْبِيهَ
عَلَى مَا سواه لنص على أدون الْمَائِعَاتِ، لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى
أَعْلَاهَا فَلَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى أَعْلَى الْمَائِعَاتِ
عُلِمَ أَنَّ اختصاصه بالحكم.
(1/44)
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ولا سيما فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ
الثَّوْبَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ "
فَأَمَرَهَا بِالْمَاءِ، وَالْأَمْرُ إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ
لَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ
شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ،
كَرَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ غَسْلٌ مَفْرُوضٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا
يَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ
وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ
النَّجَسُ كَالدُّهْنِ، وَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ نَوْعَيْنِ مِنَ
التَّطْهِيرِ:
أَحَدُهُمَا: تَطْهِيرُ نَفْسِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَالثَّانِي: تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ. فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ
المائع تطهير نفسه بالمكاثرة. وجب أن تنتفي عَنِ الْمَائِعِ تَطْهِيرُ
غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ
التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَائِعِ قِيَاسًا عَلَى
تَطْهِيرِ الْمُكَاثَرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا نَجِسَ بِوُرُودِ
النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ نَجِسَ بِوُرُودِهِ عَلَى
النَّجَاسَةِ بِكُلِّ حَالٍ كَغَيْرِهِ الْمَائِعِ طَرْدًا، وَكَالْمَاءِ
عَكْسًا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مُلَاقَاةُ الْحِلِّ وَالنَّجَاسَةِ يُوجِبُ
أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ
نَجَاسَةٌ، ولأن إزالة النجس أعلا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ بِدَلَالَةِ أَنَّ
مَنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ
مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّجَاسَةِ دون
الحدث، فلم يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ
أَخَفُّ الْأَمْرَيْنِ حَالًا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ
اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُهُمَا
حَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ
وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " فَهُوَ
أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ، أَوْ إِلَى نَجَاسَةٍ
يَابِسَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ لَا تُطَهَّرُ
بِالدَّلْكِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا
عَلَى نَجَاسَةٍ يَسِيرَةٍ يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا
فَعَلَتْ ذَلِكَ لِتُلِينَ النَّجَاسَةَ بَرِيقِهَا، ثُمَّ تَغْسِلُهَا
بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّيقَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الماء، فالمهنى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ يَرْفَعُ
الْحَدَثَ فَلِذَلِكَ أَزَالَ النَّجَسَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ
أَنَّهُ أَزَالَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ فِي بَدَنِ الْمُحْرِمِ فَالْمَعْنَى
فِي الطِّيبِ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِزَالَةُ رِيحِهِ لَا إِزَالَةَ
حُكْمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِكَمِ
يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ
ذَلِكَ، ويقول: ليس ارتفاع معنى الحكم موجب لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ،
(1/45)
فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُونَ مِنْ وَجْهِ
الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ يُوجِبُ
ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ فَعَلَى هذا أن يَكُونُ الْمَعْنَى هُوَ حُكْمُ
النَّجَاسَةِ دُونَ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُ
النَّجَاسَةِ مَعَ عَدَمِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي
الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا نَجِسَ، وَقَدْ يُوجَدُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِي
الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ،
وَفِي مَسْأَلَتِنَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ فَكَانَ
مَعْنَى الْحُكْمِ بَاقِيًا، وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْإِنَاءِ إِذَا
ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِ الخمر خلا، وإنما كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَةَ
الْإِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ إِجْزَاءِ الْخَمْرِ فَإِذَا انْقَلَبَتْ
فِي الْإِنَاءِ خَلًّا انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مَعَهَا فَصَارَتْ
خَلًّا فَطَهَّرَ الْجَمِيعَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِزَالَةَ نَجَسٍ،
وَإِنَّمَا هُوَ انْقِلَابُ خَمْرٍ إِلَى خَلٍّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْهِرَّةِ إِذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً فَغَيْرُ
مُسَلَّمٍ لِأَنَّنَا مَتَى عَلِمْنَا نَجَاسَةَ فَمِهَا بِأَنْ وَلَغَتْ
فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ فَالْمَاءُ نُجِّسَ،
وَإِنْ غَابَتْ عَنِ الْعَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ
النَّجَاسَةِ فِي فَمِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ طاهر لأن الأصل طاهرة الْمَاءِ، وَقَدْ
يَجُوزُ أَنَّ الْهِرَّةَ حِينَ غَابَتْ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ آخَرَ
فَطَهُرَ فَمُهَا.
وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالدِّبَاغَةِ فَحُكْمُهَا خَارِجٌ عَنْ
إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تَجُوزُ
بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْمَائِعَاتِ حُكْمًا فِي إِزَالَةِ
الْأَنْجَاسِ، لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " أَوْ عَرَقٍ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا
رِوَايَتَانِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِرَقٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عُرُوقَ
الْأَشْجَارِ، إِذَا اعْتُصِرَ مَاؤُهَا، كَانَ غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَقٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، يَعْنِي: عَرَقَ
الْإِنْسَانِ يَرْشَحُ مِنْ بَدَنِهِ، لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وإن
كان طاهرا، وكذلك كلما اعْتُصِرَ مِنْ أَجْوَافِ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ
عِنْدَ الْعَطَشِ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَيَكُونُ نَجِسًا وسمي
عرقا.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ مَاءِ زَعْفَرَانٍ أَوْ
عُصْفُرٍ. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَطَهُ مَذْرُورٌ
طَاهِرٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ، أَوْ خَالَطَ
الْمَائِعَ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْخَلِّ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ
فِي تَغَيُّرِ الْمَاءِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَائِعُ الْمَخَالِطُ أَكْثَرَ وَإِنْ غَيَّرَ
أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ لَمْ
يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، وَجَوَّزَ أبو حنيفة
اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَنْجَاسِ عَلَى أَصْلِهِ، وَفِي الْأَحْدَاثِ
أَيْضًا مَا لَمْ يَحْتَرِزْ بِالْمَذْرُورِ فَيَخْرُجُ عَنْ طَبْعِهِ فِي
الْجَرَيَانِ وَمَا لَمْ يَكُنِ الْمَائِعُ أَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ
مَا كَانَ طَاهِرًا إِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَمْنَعْهُ حُكْمُ
التَّطْهِيرِ،
(1/46)
كَالتُّرَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ
يَسْلُبْهُ التُّرَابُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ لَمْ يَسْلُبْهُ غَيْرُهُ مِنَ
الْمَذْرُورَاتِ حُكْمَ التَّطْهِيرِ، كَمَا الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ
بِالْمُخَالَطَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ لَوْ كَانَ لِطُولِ الْمُكْثِ
لو يمنع مِنَ التَّطْهِيرِ، وَجَبَ إِذَا كَانَ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ لَا
يَمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ كَالْمُلُوحَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا يُسْتَغْنَى
عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ بِهِ كَمَاءِ
الْبَاقِلَّاءِ وَلِأَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَأْكُولٍ
فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِهِ كَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ
الْمَذْرُورَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُوَافِقٌ
لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ التُّرَابُ فَإِذَا
غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَسْلُبْهُ وَاحِدَةً مِنْ صِفَتَيْهِ لَا
الطَّهَارَةِ وَلَا التَّطْهِيرِ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمَا فِيهِمَا.
وَقِسْمٌ مُخَالِفٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ
النَّجَاسَةُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ سَلَبَهُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا
الطَّهَارَةَ وَالتَّطَهُّرَ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقِسْمٌ مُوَافِقٌ الْمَاءَ فِي الطَّهَارَةِ دُونَ التَّطْهِيرِ وَهُوَ
الزَّعْفَرَانُ وَمَا شَاكَلَهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَجَبَ
أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الَّتِي يُخَالِفُهُ فِيهَا وَهُوَ التَّطْهِيرُ
دُونَ الصِّفَةِ الَّتِي وَافَقَهُ فِيهَا، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَهَذَا
الِاسْتِدْلَالُ يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ التُّرَابِ وَسَائِرِ
الْمَذْرُورَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ،
فَالْمَعْنَى فِيهِ فَقْدُ الْغَلَبَةِ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُلُوحَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَسَنَذْكُرُ
الْمَذْهَبَ فِيمَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ نَبِيذٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ
بِشَيْءٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لَا نَيًّا، وَلَا مَطْبُوخًا، لَا فِي
حَضَرٍ، وَلَا فِي سَفَرٍ، وَهُوَ نَجِسٌ إِنْ أَسْكَرَ، وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، وَيُرْوَى
نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ
الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ، إِذَا كَانَ مُسْكِرًا فِي
السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَقَالَ: محمد بن الحسن: يَجْمَعُ بَيْنَ
النَّبِيذِ وَالتَّيَمُّمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ
الْعَبْسِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنِ
(1/47)
ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ
فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَعَكَ مَاءٌ، قُلْتُ لَا مَعِي نَبِيذُ
التَّمْرِ فَقَالَ: " هَاتِهِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ".
وَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالُوا وَقَدْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " النَّبِيذُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدِ
الْمَاءَ ". قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عباس توضآ
بالنبيذ، فلا يخلوا فِعْلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ
أَوْ تَوْقِيفٍ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَا
يَقْتَضِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 26] .
وَفِي النَّبِيذِ مَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ أن يتيمم مع وجوده.
قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ طَهُورًا فَجَازَ الوضوء
به كالماء.
قالوا: وَلِأَنَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مِنْ أَعْضَاءِ
الطَّهَارَةِ فَثَبَتَ فِيهِمَا بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوَجْهِ
واليدين.
قالوا: لأن الْوُضُوءَ نَوْعُ تَطْهِيرٍ يُفْضِي إِلَى بَدَلَيْنِ
كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماء فتيمموا} .
فَنَقَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ
بِلَا وَسِيطٍ، وَهُوَ النَّبِيذُ، وَلَيْسَ النَّبِيذُ مَاءً مُطْلَقًا،
لَا فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ.
فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ".
قِيلَ: لَوْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ
لَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ
بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ مَا يُسَاوِي
حُكْمَ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَفِي مُبَايَنَتِهِ لَهَا مَعَ مَا مَنَعَ
مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَدْفَعُ
الْحَدَثَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْخَلِّ،
وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ
اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، كَالنَّقِيعِ، وَلِأَنَّهُ
(1/48)
شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ
بِهِ كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَائِعٍ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ
قَبْلَ طَبْخِهِ، لَمْ يَجُزِ التَّطَهُّرُ بِهِ بَعْدَ الطَّبْخِ
كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبْخِ عِنْدَهُمْ عَدَمُ
التَّطْهِيرِ دُونَ إِبَاحَتِهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ يَجُوزُ
الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الطَّبْخِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ
الطَّبْخِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْخَبَرِ من وجهين ضعف رواية لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ
كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وَأَبُو زيد مجهول وليس رِوَايَةُ سُفْيَانَ
عَنْ أَبِي فَزَارَةَ دَلِيلًا عَلَى ثِقَتِهِ كَمَا رَوَى
(1/49)
الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ
وَقَالَ كَانَ وَالِدُهُ كَذَّابًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الطحاوي خَصَّ نَقْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لأبي حنيفة
قَالَ: فَاعْتَمَدَ أبو حنيفة فيها على حديث ابن مسعود، وليس ثابت فَهَذَا
أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ مما تنفيه وَهُوَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ رَوَى عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: لَا وَدِدْتُ
(1/50)
أَنْ لَوْ كُنْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ:
إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّكَ كُنْتَ مَعَهُ، قَالَ فَقَدْنَا رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْنَا:
اغْتِيلَ أَوِ اسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بشر ليلة بات لها أهلها فلما أصحبنا
أَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ حِرَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَاهُ.
فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ فَسَقَطَتَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَخَبَرُنَا مُثْبِتٌ وَخَبَرُكُمْ نَافٍ وَالْمُثْبَتُ
أَوْلَى.
قِيلَ: هما سواء فخبركم ثبت كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُنَا
يُثْبِتُ كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: تَسْلِيمُ الْخَبَرِ وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ
بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ،
لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنَّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ
نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَا نَبَذَ
فِيهِ التَّمْرَ لِيُحِلُّوا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَمْرَةٌ طيبة وماء طهور
تقتضي ذلك تمييزا أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ
ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ مَعِي نَبِيذًا، يَعْنِي: مَا يَصِيرُ نَبِيذًا،
وَبِمَعْنَى قَدْ نَبَذَ فِيهِ تَمْرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " عَلَى أَنَّهُ كَانَ
تَمْرًا وَمَاءً طَهُورًا.
قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى
الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمَجَازِ كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا
عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَا يُجَابُ عَنْ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَبِيذٌ
مُشْتَدٌّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عَلِيٍّ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ
تَوْقِيفٍ، وَلَوْ كَانَ لَنَقَلُوهُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا
حَتْمًا دِرَايَةً إِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ فِي النَّبِيذِ مَاءَ سهو "
هو جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَاءٌ وَانْتَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ فِي
اللُّغَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ
الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاءً لَكَانَ الْخَلُّ أَحَقَّ،
لِأَنَّهُ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ مُطْلَقٌ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ
وَحُكْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الِاسْمِ
وَالْحُكْمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بأنه مائع سمي في الشرع طهور
فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " فَوَصَفَ
الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا
جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ،
وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ النَّبِيذِ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ
اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ.
(1/51)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الرَّأْسَ
وَالرِّجْلَيْنِ بِهِ فِي انْتِقَالِهِمَا إلى بلل يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ
وَالذِّرَاعَيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرَّأْسِ
وَالرِّجْلَيْنِ عَنْهُ بَدَلَ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَصِيرَ إِذَا بُدِّلَ كَالْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَمُنْتَقَصٌ
بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ليس له بدلا إِلَّا الصَّوْمُ، ثُمَّ
الْمَعْنَى فِي بَدَلِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُودُ النَّصِّ
فِيهِمَا، وَاقْتِصَارُ النَّصِّ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَحَدِهِمَا،
فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي مِنْ بَدَلِ الْعِتْقِ
جِنْسُ البدل الثاني حتى تكون طعاما بعد الصيام لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ
بِهِ ثُبُوتُ أَصْلِهِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ أَوْ
غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ
حَتَّى يُضَافَ إِلَى مَا خَالَطَهُ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ
التَّطَهُّرُ بِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْمِيَاهِ
إِلَّا أَنَّا نَخْتَصِرُهُ بِقِسْمٍ جَامِعٍ نُمَهِّدُ بِهِ أُصُولَهُ
وَتُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعُهُ، فَنَقُولُ: الْمَاءُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ،
وَمُضَافٌ، فَالْمُطْلَقُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي جَوَازِ
اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَالْمُضَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
إِضَافَةٌ تَمْنَعُ من جواز استعماله، وإضافة لا تمنع منه، فَأَمَّا
الَّتِي لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِضَافَتَانِ إِضَافَةُ
قَرَارٍ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَالزَّهْرِ، وَإِضَافَةُ صِفَةٍ كَمَاءٍ عَذْبٍ
أَوْ أُجَاجٍ، فَأَمَّا الْمَانِعَةُ مِنْ جواز الاستعمال فيتقسم إِلَى
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِضَافَةُ حُكْمٍ وَإِضَافَةُ جِنْسٍ وَإِضَافَةُ
غَلَبَةٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سَلَبَ الْمَاءَ حُكْمُ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ
كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا
نَجَسٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ.
وَالثَّانِي: مَا سَلَبَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ وَالطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ
النَّجِسِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْجِنْسِ كَمَاءِ
الْوَرْدِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَكُلِّ مُعْتَصَرٍ مِنْ نَبَاتٍ
فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ، وَلَا نَجَسٍ، وَخَالَفَنَا أبو
حنيفة فِيهِ فيجوز إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ
فِيهِ مَعَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِضَافَةُ الْغَلَبَةِ فَهُوَ عَلَى
ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ مُخَالَطَةٍ.
وَالثَّانِي: غَلَبَةُ مُجَاوَرَةٍ.
فَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُخَالَطَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ
بِمَائِعٍ كَالْعَسَلِ أَوْ مَذْرُورٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ
مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُجَاوَرَةِ فَهُوَ
أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِجَامِدٍ كَالْخَشَبِ أَوْ مُتَمَيِّزٍ
كَالدُّهْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جواز استعماله.
(1/52)
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْمِيَاهِ فَجَمِيعُ
الْفُرُوعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَمِنْ فُرُوعِ
هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْبُرَّ وَالشَّعِيرَ
إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ صَحِيحًا
لَمْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ
تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِالْخَشَبِ وَإِنْ ذَابَ فِي
الْمَاءِ وَانْحَلَّ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ
مُخَالَطَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَذْرُورِ الزَّعْفَرَانِ
وَالْعُصْفُرِ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحُبُوبِ مِنَ الْأُرْزِ
وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَإِنْ طُبِخَ بِالنَّارِ فَإِنِ انْحَلَّتْ فِي
الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ وَلَا
تغير بها الماء فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ
مِنْ غَيْرِ انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ يَتَغَيَّرُ بِلَا انْحِلَالٍ مِنْ غَيْرِ
طَبْخٍ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ صَارَ
مَرَقًا.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْقَطِرَانَ إِذَا وَقَعَ فِي
الْمَاءِ فغيره فقد قال الشافعي في كتاب الأمم: لَا يَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا،
وَلَكِنَّ الْقَطِرَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
[الْأَوَّلُ] : ضَرْبٌ فِيهِ دُهْنِيَّةٌ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِهِ لَا
يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَا لو تغير بدهن.
و [الثاني] : ضَرْبٌ لَا دُهْنِيَّةَ فِيهِ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ فِيهِ
مانع من جواز استعماله، كما لو يتغير بِمَائِعٍ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ
بِالشَّمْعِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا لَوْ تغير بدهن، ولو تغير شحم
أُذِيبَ فِيهِ بِالنَّارِ كَانَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّحْمَ دُهْنٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الشَّحْمِ
لِلْمَاءِ تَجْعَلُهُ مَرَقًا.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ
بِالْكَافُورِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
حَالٌ يُعْلَمُ انْحِلَالُ الْكَافُورِ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ
جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ.
وَحَالٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلَّ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ،
لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ.
وَحَالَةُ شَكٍّ فِيهِ، فَيُنْظَرُ فِي صَفَاءِ التَّغَيُّرِ، فَإِنْ
تَغَيَّرَ الطَّعْمُ دُونَ الرَّائِحَةِ فَهُوَ دال على تغير المخالطة ولا
يجوز اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرَ الرِّيحُ فَفِيهِ
لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ تَغَيُّرُ الْمُخَالَطَةِ فَعَلَى هَذَا
لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُ الْمُجَاوَرَةِ فَيَجُوزُ
اسْتِعْمَالُهُ.
(1/53)
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ
الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ كَانَ طَاهِرًا لِطَهَارَةِ
الْمَنِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ
تَغَيَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ
بِمَائِعٍ غَيْرَ الْمَنِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمَاعُ
فِي الْمَاءِ كَالدُّهْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، لِأَنَّ
تَغَيُّرَهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ.
قَالَ أَبُو العباس بن العاص: إن الورق في الماء بعد أن ربا
فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْصَرْ فِيهِ جَازَ
اسْتِعْمَالُهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَرَقُ الشَّجَرِ مَدْقُوقًا
نَاعِمًا فَغَيَّرَ الْمَاءَ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ
تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ
الاسفرايني: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا، وَهَذَا
غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالْوَرَقِ الْمَدْقُوقِ
تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ، وَتَغَيُّرُهُ بِالْوَرَقِ الصَّحِيحِ تَغَيُّرُ
مُجَاوَرَةٍ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ
بِالْمِلْحِ لَمْ يَنْحَلَّ أَنْ يَكُونَ مِلْحَ حَجَرٍ أَوْ مِلْحَ جَمْدٍ
فَإِنْ كَانَ مِلْحَ حَجَرٍ فَاسْتِعْمَالُ مَا تَغَيَّرَ بِهِ مِنَ
الْمَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَا يَنْحَلُّ
فِيهِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ
مِلْحَ جَمْدٍ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا قَدْ جَمَدَ، فَإِذَا ذَابَ
لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ قَدِ
اسْتَحَالَ عَنِ الْمَاءِ فَصَارَ جَوْهَرًا كَغَيْرِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ
هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْجَمَادِ أَوْ بِطُولِ
المكث كان استعماله جائز لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ، فَأَمَّا إِذَا
تَغَيَّرَ بِالتُّرَابِ فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ بِطَبْعِهِ
لَمْ يجز استعماله، لأنه صار علينا، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا بِطَبْعِهِ
لَكِنْ تَكَدَّرَ لَوْنُهُ وَتَغَيَّرَ طَبْعُهُ فَفِي جَوَازِ
اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَذْرُورٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الأصح يجوز قَرَارٌ لِلْمَاءِ لَا يَنْفَكُّ
غَالِبًا عَنْهُ كَالطِّينِ.
(1/54)
وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمُضَاهِيَةِ لِهَذَا
الْفَصْلِ تَكْمِيلُ مَاءِ الطَّهَارَةِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ الرَّجُلُ يَكْتَفِي فِي غَسْلِهِ بِعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ مَاءٍ
فَيَجِدُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ قِيمَتُهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَبَنٍ أَوْ
مَائِعٍ غَيْرِهِ، وَلَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ
اسْتِعْمَالَ جَمِيعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِحَاطَةِ بِاسْتِعْمَالِ
الْمَائِعِ فِي طَهَارَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ
جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ مِنَ
الْمَائِعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ
هِيَ مِقْدَارُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مِنْهُ رطلين هِيَ مِقْدَارُ الْمَائِعِ
جَازَ، وَإِنْ أُحِطْنَا عِلْمًا بِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمَائِعٍ
فَرْدٍ، وَأَنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَيْسَ بِمَاءٍ فَرْدٍ فَكَذَا
إِذَا اسْتَعْمَلَ الْكُلَّ لِكَوْنِ الْمَائِعِ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/55)
|