|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي باب ما يوجب الغسل
قال الشافعي: " أخبرنا الثقة هو الوليد بن مسلم عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا
قَالَتْ: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ "
فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فَاغْتَسَلْنَا. وَرَوَاهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
إذا التقى الختانان وجب الغسل ". (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا موسى بن
عامرٍ الدمشقي وغيره قالوا حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في هذا الحديث
مثله.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَمَّا فَرَغَ الشَّافِعِيُّ
مِنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُ
الْغُسْلَ، وَالَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
شَيْئَانِ مِنْهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ،
وَشَيْئَانِ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ، دُونَ الرِّجَالِ،
فَأَمَّا الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ:
فَأَحَدُهُمَا: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ.
وَالثَّانِي: إِنْزَالُ الْمَنِيِّ، فَأَمَّا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ
فَمُوجِبٌ لِلْغُسْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ
وَهُوَ قَوْلُ الأكثر من الصحابة والجمهور والتابعين وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا غُسْلَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ
إِنْزَالٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَعْدُ
بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ اسْتِدْلَالًا
بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ
الْمَاءِ " يَعْنِي الِاغْتِسَالَ مِنَ الْإِنْزَالِ فَدَلَّ عَلَى
انْتِفَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْزَالِ.
(1/208)
وَبِمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ، فَقَالَ: يَتَوَضَّأُ
وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى يُكْسِلُ: يَقْطَعُ جِمَاعَهُ.
وَبِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَسِلَ أَحَدُكُمْ
أَوْ أَقْحَطَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ " قَوْلُهُ أَقْحَطَ أَيْ لَمْ
يُنْزِلْ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا مُوسَى
الْأَشْعَرِيَّ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
" إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ
عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ الْشُعَبِ
الْأَرْبَعِ ثُمَّ أَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ
الْغُسْلُ ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ مُيَسَّرٍ
الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي
كَانُوا يُفْتُونَ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً،
رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بدو
الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ بَعْدُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ
قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رافع عن
(1/209)
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ
شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ
الْغُسْلُ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا
رُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
عَمَّنْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَقَالَ:
(1/210)
يَغْتَسِلُ فَقُلْتُ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ
يَقُولُ لَا يَغْتَسِلُ فَقَالَ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ نَزَعَ عَنْهُ
قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَيْ: رَجَعَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِذْ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الصَّحَابِيُّ عَنْ نَصٍّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ
بِالنَّسْخِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ حَمْلِهَا
عَلَى النَّسْخِ، وَيَتَأَوَّلُهَا فِيمَنْ هَمَّ بِالْجِمَاعِ فَأَكْسَلَ
عَنِ الْإِيلَاجِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهَذَا
التَّأْوِيلُ مَعَ انْتِشَارِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ رُجُوعِ مَنْ
خَالَفَ مَعَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ فَاسِدٌ، وَإِنْ كان لولا ذلك محتملاً.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وإذا التقى الختانان وَالْتِقَاؤُهُمَا أَنْ تَغِيبَ
الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا فَذَاكَ
الْتِقَاؤُهُمَا كَمَا يُقَالُ الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا
وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا (قَالَ
الْمُزَنِيُّ) : الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يُحَاذِيَ خِتَانُ
الرَّجُلِ خِتَانَ الْمَرْأَةِ لَا أَنْ يُصِيبَ خِتَانُهُ خِتَانَهَا
وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ مستعلٍ وَيَدْخُلُ الذَّكَرُ أَسْفَلَ
مِنْ ختان المرأة. (قال المزني) : وسمعت الشافعي يقول: العرب تقول إذا حاذى
الفارس الفارس التقى الفارسان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ مِنَ الْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ مَا بَعْدَ
بَشَرَةِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمَقْطُوعِ في الختانة،
وَالْحَشَفَةُ، هِيَ الْجِلْدَةُ الْمَقْطُوعَةُ فِي الْخِتَانِ،
وَأَصْلُهَا عِنْدَ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ خِتَانِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا
خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ جِلْدَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ فَوْقَ مَخْرَجِ
الْبَوْلِ تُقْطَعُ فِي الْخِتَانَةِ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا
أَسْفَلَ الْفَرْجِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَفَوْقَهُ
ثُقْبَةٌ هِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَعَلَيْهِ جِلْدَةٌ تنطبق عليها، وهي
خِتَانِ الْمَرْأَةِ وَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تَقْطَعُهَا الْخَافِضَةُ فِي
الْخِتَانَةِ وَقَدْ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ، الْفَرْجَ بِعَقْدِ
الْأَصَابِعِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَعَقْدُ الثَّلَاثِينَ هِيَ صُورَةُ
الْفَرْجِ وَعَقْدُ الْخَمْسَةِ بَعْدَهَا فِي أَسْفَلِهَا هِيَ مَدْخَلُ
الذَّكَرِ، وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْخِتَانُ خَارِجٌ مِنْهُ فِي أَعْلَى
الْفَرْجِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ هُوَ أَنْ تَغِيبَ بَشَرَةُ
الذَّكَرِ فِي مَدْخَلِهِ مِنَ الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ خِتَانُ الرَّجُلِ
مُحَاذِيًا لِخِتَانِ الْمَرْأَةِ، فَذَلِكَ الْتِقَاؤُهُمَا وَإِنْ لَمْ
يَتَضَامَّا فَإِذَا انْتَهَى وُلُوجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ إِلَى هَذَا
الْحَدِّ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ
فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُنْزِلَا، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ
الذَّكَرِ مِنْ حَدِّ الْخِتَانِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ إنه لا غسل عليها إِلَّا بِإِيلَاجِ مَا بَقِيَ
مِنَ الذَّكَرِ كُلِّهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ مَتَى أَوْلَجَ مِنْ بَقِيَّتِهِ
بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ الَّتِي كَانَ يَلْتَقِي مَعَ سَلَامَتِهَا وَجَبَ
الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ
وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَالْمَحْكِيُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا
وَصَفْنَا فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَشَفَةُ الرَّجُلِ بَاقِيَةً لَمْ
تُقْطَعْ فِي الْخِتَانِ فَأَوْلَجَهَا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصِيرُ
خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَكُونُ
بَقَاءُ الْحَشَفَةِ مَانِعًا من
(1/211)
وُجُوبُ الْغُسْلِ وَلَكِنْ لَوْ لَفَّ
عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ إِلَى حَدِّ الْخِتَانِ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ إِذَا لَمْ
يَتَعَقَّبْهُ إِنْزَالٌ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ
الذَّكَرُ مَسْتُورًا بِالْحَشَفَةِ وَأَنَّهُ يُولِجُ الذَّكَرَ
وَالْخِرْقَةَ مَعَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مُولِجًا فِي خِرْقَةٍ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ اللَّذَّةِ
وَخَالَفَ الْحَشَفَةَ لِأَنَّهَا مِنَ الذَّكَرِ، وَلَا يَمْنَعُ
اللَّذَّةَ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يُفَصِّلُ حَالَ الْخِرْقَةِ
فَيَقُولُ: " إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ
فَلَا غُسْلَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ
وَجَبَ الْغُسْلُ ".
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُولِجَ فِي
قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أو يتلوط في وجوب الغسل عليهما الولوج الذَّكَرِ عَلَى
مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ وَهَكَذَا لَوْ
أَوْلَجَ فِي فَرْجِ بَهِيمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ
يُنْزِلْ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُولِجٌ فِي فَرْجِ
مَاشِيَةٍ فَأَشْبَهَ قُبُلَ الْمَرْأَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ
إِلَيْهِ أبو حنيفة مِنِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِقُبُلِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ
أَوْلَجَ فِي فَرْجِ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ
أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا
فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ كَمَا لَوْ أَوْلَجَ فِي
فَرْجٍ مُنْدَمِلٍ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْلَجَ
ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ
يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا،
وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ وَأَوْلَجَ
فِي فَرْجِهِ ذَكَرَ رَجُلٍ وَجَبَ الْغُسْلُ يَقِينًا، فَلَوْ أَوْلَجَ
فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ وَجَبَ الْغُسْلُ وَلَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَفِي
وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ، وَإِذَا أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا لَا
يَلْتَقِي مَعَهُ الْخِتَانَانِ فَعَلَيْهِمَا الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ
لِحُصُولِ الْمُلَامَسَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا حَصَلَ عَلَى
الذَّكَرِ مِنْ بَلَلِ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ
هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ
نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَوْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حُكِيَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي
بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْمَنِيِّ. قَالَ
الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا
أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ وَجَبَ الغسل
عليهما، وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ هُوَ الثَّانِي مِمَّا
يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَأَيُّهُمَا أَنْزَلَهُ
مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فِي نَوْمٍ
أَوْ يَقَظَةٍ فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي:
أَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ يُوجِبُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، وَرَوَتْ
عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة
(1/212)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ،
وَمِنِ احْتِلَامٍ لَا مِنْ جماعٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيُتَمِّمُ صَوْمَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ حَتَّى يَخْرُجَ
دَافِقًا لِلشَّهْوَةِ وَلَا يَجِبُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا أَوْ لِغَيْرِ
شَهْوَةٍ إِلْحَاقًا بِالْمَذْيِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ إِذَا كَانَ
لِشَهْوَةٍ، أَوْجَبَهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَالْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنْزَالُ مَنِيٍّ فَأَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ
كَالِاحْتِلَامِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ
أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غسلٌ إِذَا هِيَ
احْتَلَمَتْ "؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نعم إذا
رأت الماء ".
(فصل: إيجاب الغسل بظهور المني)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنَّهُ
يُوجِبُ الْغُسْلَ إِذَا أَنْزَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَكَرِهِ وَظَهَرَ،
أَوْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فإذا انْحَدَرَ مِنَ الصُّلْبِ إِلَى
إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ، وَلَوْ
أَنْزَلَتِ الْمَرْأَةُ المني إلى فرجها ولم يخرج منه نُظِرَ فَإِنْ
كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ داخل فرجها لَمْ يَلْزَمْهَا
الْغُسْلُ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا، لِأَنَّ دَاخِلَ
فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ فجرى مجرى داخل الذكر، فإن كَانَتْ
ثَيِّبًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ
دَاخِلِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ الظَّاهِرِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ رَجُلٍ فَخَرَجَ منه المني، فلم يَنْزِلْ مِنَ
الذَّكَرِ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ
قَوْلِهِ " فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ " فِيمَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلٍ
مُسْتَحْدَثٍ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَارِجُ لَمْ
يَصِرْ مَنِيًّا مُسْتَحْكِمًا فَلَا غُسْلَ، فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا،
فَأَمَّا إِذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فَرَأَى إِنْزَالَ الْمَنِيِّ عَنْ
غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِهِ فِي نَوْمِهِ، فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ،
وَلَوْ أَحَسَّ فِي النَّوْمِ بِالْإِنْزَالِ وَلَمْ يَرَ بَعْدَ
اسْتِيقَاظِهِ شَيْئًا، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَذَاكَ مِنْ حَدِيثِ
النَّفْسِ، فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَتْ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ الِاحْتِلَامَ فَقَالَ: "
يَغْتَسِلُ ". وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ
الْبَلَلَ قَالَ: " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ". فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ قَالَ: " نَعَمِ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ
" ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَلَوْ رَأَى الرَّجُلُ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ وَلَمْ
يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْإِنْزَالَ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو
(1/213)
حَالُ ذَلِكَ الثَّوْبِ مِنْ أَنْ
يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَبِسَهُ غَيْرُهُ فَلَا غُسْلَ
عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ، وَلَا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ
غُسْلٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
الثَّوْبُ لَا يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ غَيْرُهُ مُنْذُ
غَسَلَهُ، وَقَدْ كَانَ يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ، نُظِرَ
فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَاقَى مَنِيًّا عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ
فَتَعَدَّى عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ حَاكَّهُ رَجُلٌ أَنْزَلَ فَوَقَعَ
مَنِيُّهُ عَلَى ثَوْبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ دَاخِلِ الثَّوْبِ
فَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مِنْهُ، وَامْتِنَاعِ
كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ
صَلَّاهَا مِنْ أَقْرَبِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ
مِنْ حَالِ إِنْزَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَامَ فِيهِ لَا
يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ شَيْءٍ مِمَّا صَلَّى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
حَادِثًا بَعْدَ آخِرِ صَلَاةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُغَلَّبُ
فَيُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا بُوشِرَتِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْفَرْجِ فَاسْتَدْخَلَتْ
مَنِيَّ الرَّجُلِ إِلَى فَرْجِهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ لَوْ
أَلْقَتْهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا أَلْقَتْهُ بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ
لَزِمَهَا الْغُسْلُ قِيَاسًا عَلَى إِنْزَالِ مَاءِ نَفْسِهَا وَهَذَا
خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ
بِإِلْقَائِهِ وُجُوبُ الْغُسْلِ كَمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ دَوَاءً،
فَأَلْقَتْهُ أَوْ لَمْ تُلْقِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ
مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ فَقَدْ
وَجَبَ الْغُسْلُ عليهما وماء الرجل الذي يوجب الغسل هو المني الأبيض
الثخين الذي يشبه رائحة الطلع فمتى خرج المني من ذكر الرجل أو رأت المرأة
الماء الدافق فقد وجب الغسل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ مُخَالِفٌ
لِمَنِيِّ الْمَرْأَةِ فِي صِفَتِهِ، فَمَنِيُّ الرَّجُلِ هُوَ ثَخِينٌ
أَبْيَضُ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي
حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِالْأَمْرَاضِ
وَالْأَغْذِيَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ هُوَ
أَصْفَرُ رَقِيقٌ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمَا
الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَجْرِبَتِهِمَا عِنْدَ
الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا.
(1/214)
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى
الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ "، فَقَالَتْ
أَمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ،
مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وماء المرأة أصفر رقيق فَأَيُّهُمَا
سَبَقَ أَوْ عَلَا أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ، وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ
الْمَنِيُّ بِحُدُوثِ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلَافِ غِذَاءٍ أَوْ كَثْرَةِ
جِمَاعٍ فَصَارَ رَقِيقَ الْقَوَامِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إِلَى صُفْرَةٍ
أَوْ حُمْرَةٍ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَتِهِ وَقَلَّ مَا يَخْفَى
عَلَى مُنْزِلِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ
لَزِمَهُ الْغُسْلُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَلَا غُسْلَ
عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَاطَ كَانَ أَوْلَى.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَذْيُ فَهُوَ أَبْيَضُ رَقِيقٌ لَا يَنْدَفِقُ جَارِيًا
كَالْمَنِيِّ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ عِنْدَ حُدُوثِ
الشَّهْوَةِ، وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ.
رَوَى حُصَيْنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي
قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَفْعَلْ إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ
ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا نَضَحْتَ الْمَاءَ
فَاغْتَسِلْ.
وروى الحارث بن العلاء بن الحارث عن حرام بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ
وَعَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ. فَقَالَ: ذَاكَ الْمَذْيُ
وَكُلُّ فحلٍ يُمْذِي فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ
وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي
السُّوَعَاءِ الْوُضُوءُ يَعْنِي: الْمَذْيَ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ
الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ ". فأما الْوَدْيُ فَهُوَ كَدِرٌ
يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ قَطْرَةً أَوْ قَطْرَتَيْنِ وَهُوَ نَجِسٌ
يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ كَالْمَذْيِ فَصَارَتِ الْمَائِعَاتُ
الْخَارِجَةُ مِنَ الذَّكَرِ غَيْرُ الْبَوْلِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةً،
الْمَنِيُّ وَهُوَ طَاهِرٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالْمَذْيُ وَهُوَ نَجِسٌ
يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَالْوَدْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، فَلَوْ
شَكَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ
(1/215)
وَدْيٌ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِلشَّكِّ
فِيهِ، وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
مَنِيًّا طَاهِرًا وَإِنِ احْتَاطَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَغَسَلَهُ
وَاغْتَسَلَ كان أولى وأفضل.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقبل البول وبعده سوادٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَنْزَلَ فاغتسل ثم
أنزل ثانية اغتسل غسلاً ثانياً، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ الثَّانِي
قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بعده وقال مالك: الغسل الأول يجزيه وَلَا يَلْزَمُهُ
إِعَادَةُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِنْزَالِ الثَّانِي سواء كان الإنزال
قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ
الْأَوَّلِ الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَهُ إِذَا كَانَ سببهما واحداً وقال
الأوزاعي: إن أَنْزَلَ ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ
وإن أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ مَا قَبْلَ
الْبَوْلِ هُوَ مِنَ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ وَكَفَاهُ الْغُسْلُ
الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَ الْبَوْلِ هُوَ مَنِيٌّ ثَانٍ فَلَزِمَهُ غُسْلٌ
ثَانٍ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أنزل ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ اغْتَسَلَ
لَهُ غُسْلًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ مِنْ إِنْزَالٍ عَنْ شَهْوَةٍ وَإِنْ
أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ لَمْ يَغْتَسِلْ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ
غَيْرِ شَهْوَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ لِعُمُومِ قوله "
الماء من الماء " ولأنه إنزال فاقتضى أن يجب به الاغتسال كالإنزال الأول،
ولأن ما أوجب الغسل في الأولة أَوْجَبَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَالْجِمَاعِ،
وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الوضوء مُوجِبُهُ كَذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَتَغْتَسِلُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ
وَالنَّفْسَاءُ إِذَا ارْتَفَعَ دَمُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ
مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَأَمَّا الْآخَرَانِ
اللَّذَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ.
فَأَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: انْقِطَاعُ دَمِ النِّفَاسِ.
فَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنِ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَآتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهَ) {البقرة: 222) . يَعْنِي بقوله:
" فإذا تطهرن ": يَعْنِي: " اغْتَسَلْنَ " وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: فَإِذَا
أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ
فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي، فَأَمَّا دم النفاس فلما كان حُكْمِ دَمِ الْحَيْضِ
فِي
(1/216)
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ
الْأَحْكَامِ كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ، فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى أَنَّ
وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْهُ إِجْمَاعٌ فَلَوْ وَلَدَتِ الْحَامِلُ وَلَدًا
لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ مُوجِبِهِ مِنَ الدَّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهَا الْغُسْلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ
مِنْ مَائِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ
خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرَائِبِ) {الطارق: 5، 6، 7) . يَعْنِي: أصلاب الرجال وترائب
النِّسَاءِ، وَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} (الإنسان: 2)
. يَعْنِي: اخْتِلَاطًا، فَإِذَا وَلَدَتْ وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ
مَائِهَا فَقَدْ أَنْزَلَتْ وَالْإِنْزَالُ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَكَذَلِكَ
وِلَادَتُهَا مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يَكُنْ
جُنُبًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ مُوجِبٌ
لِلْغُسْلِ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ
ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ بِالْغُسْلِ حِينَ أَسْلَمَ " وَهَذَا خَطَأٌ
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ
أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالْغُسْلِ غَيْرَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ،
وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ
الِاعْتِقَادَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ
جُنُبًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يقول: لا حكم لجنابة، وما مضى
عليه من الشرك مغفور عَنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ
وجمهور أصحابنا جَنَابَتِهِ ثَابِتَةٌ وَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ،
فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَفِي صِحَّةِ غُسْلِهِ
وَجْهَانِ مَضَيَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
(1/217)
|