|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْجَسُ
وَالَّذِي لَا يَنْجَسُ)
قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كثيرٍ
الْمَخْزُومِيِّ عَنْ محمدٍ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنَهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ
قُلَّتَيْنِ لَمْ يحمل نجساً أو قال خبثاً " عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ
قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً " أو قال خبثاً وهو صَحِيحٌ،
وَلِلنَّجَاسَةِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ حَالَانِ.
حَالٌ تُغَيِّرُ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ
رَائِحَةٍ، فَيَصِيرُ الْمَاءُ بِهَا نَجِسًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ
كَثِيرًا وَهُوَ إِجْمَاعٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُغَيِّرَ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ
أَوْصَافِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ عَلَى
ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي نَجَاسَتِهِ
بِالتَّغْيِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ،
وَإِنْ قَلَّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ اعْتِبَارَ
نَجَاسَتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ، وَاخْتِلَاطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ
مُعْتَبَرٌ بِأَنَّهُ مَتَى حُرِّكَ أَدْنَاهُ تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ
وَقِيلَ: مَا الْتَقَى طَرَفَاهُ فَيَصِيرُ الماء به نجساً وإن لم يتلق
طَرَفَاهُ، وَلَا تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ بِتَحْرِيكِ أَدْنَاهُ كَانَ مَا
لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَتْ
عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِيمَا تَحَرَّكَ فَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ
أَنَّهُ نَجِسٌ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالْقِلَّةِ
وَالْكَثْرَةِ فَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ كَانَ نَجِسًا وَإِنْ كَثُرَ كَانَ
طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ مِنَ
الْكَثِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْدُودٌ
بَقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، لَا
يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ،
فَهُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
(1/325)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ ابْنُ جَرِيحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ
الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِأَرْبَعِينَ قُلَّةً،
وَالْقُلَّةُ مِنْهَا كَالْجَرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْدُودُ بِكَرٍّ، وَالْكَرُّ
عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ قَفِيزًا، وَالْقَفِيزُ عِنْدَهُمُ اثْنَانِ
وَثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَ رِطْلٍ،
وَمِائَتَيْ رِطْلٍ، وَثَمَانِينَ رِطْلًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجِرَّاحِ
فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَشْهُورَةُ فِيمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ
وَلَا يُنَجَّسُ.
(فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الماء بالتغيير) .
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ
مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّغْيِيرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ
طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ
رَائِحَتَهُ " قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ،
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْقُلَّتَيْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ
حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ قَدْ تَكُونُ تارة بورودها على الماء،
وتارة بورد الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ إِذَا وَرَدَ
عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يُنَجَّسْ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَجَبَ إِذَا
وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ إِلَّا
بِالتَّغْيِيرِ.
(فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أن نجاسة الماء معتبرة
بالاختلاط)
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةً
بِالِاخْتِلَاطِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبولن أحدكم في الماء
الدائم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ
التَّنْجِيسِ بِالِاخْتِلَاطِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَذَرٍ فِيهِ،
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَحَ بِئْرَ زَمْزَمَ مِنْ
زنجيٍّ مَاتَ فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَهَا كَثِيرٌ، وَلَمْ يُنْقَلِ
التَّغْيِيرُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ
مَعَ ضَنِّهِمْ بِمَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُرَاقَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنْ
يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ، فَصَارَ إِجْمَاعُ الْعَصْرِ، قَالَ:
وَلِأَنَّ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا
قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ
تَنَجَّسَ قَلِيلُهُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ قِيَاسًاِ عَلَى سَائِرِ
الْمَائِعَاتِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا اجْتَمَعَ
فِيهَا حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ
عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ
(1/326)
مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ،
وَكَالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَثَنِيًّا، وَالْآخَرُ
كِتَابِيًّا فَاقْتَضَى شَاهِدُ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي تَغْلِيبِ الْحَظْرِ
أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ.
(فَصْلٌ: دَفْعُ مَا اعْتَرَضَ به الخصم عن حديث " القلتان ")
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ
خَبَثًا " فَدَلَّ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ
مُعْتَبَرٌ، وَأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالِاخْتِلَاطِ فِيمَا زَادَ، ولا
اعتبار بعدم المعتبر فيما نقص، اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسَبْعَةِ
أَسْئِلَةٍ ثَلَاثَةٍ فِي إسناده وأربعة في متنه:
أحدهما: أَنْ قَالُوا إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَجْهُولٍ،
لِأَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ
وَمَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنَ
الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كُنِّيَ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ أَبُو
يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْكُوفِيُّ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ
الْمَخْزُومِيُّ، وَحُكِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ
قَالَ: إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ مَعْمَرٍ
فَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَإِذَا قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ فَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ
بِمِصْرَ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُورِدُ الْحَدِيثَ
وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِهِ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ رَجُلٍ
بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَالِكٌ تَارَةً،
وَسُفْيَانُ تَارَةً، فَإِذَا تَيَقَّنَ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَشَكَّ
فِي الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَالِكٌ أَوْ سُفْيَانُ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا جائز.
(1/327)
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فِي
إِسْنَادِهِ قَدْحٌ مِنْ وَجْهٍ ثانٍ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ،
رَوَاهُ تَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ وَتَارَةً
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ
يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ
جَمِيعًا، فَجَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَكًّا فِي أَحَدِهِمَا، وَهُمَا
ثِقَتَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ
أَيِّهِمَا أَسْنَدَهُ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِهِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا إن في إسناده قدح مِنْ وَجْهٍ
ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَى تَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَتَارَةً عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاقِدِيَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَخَوَانِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ وَهُمَا ثِقَتَانِ، وَقَدْ رَوَيَا جَمِيعًا هَذَا الْحَدِيثَ،
وَلَقِيَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ
أَيْضًا.
وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: فِي مَتْنِهِ: إِنْ قَالُوا وَالْقُلَّةُ اسْمٌ
مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً فَمِنْهَا الجرة التي
تلقها الْيَدُ، وَمِنْهَا قُلَّةُ الْجَبَلِ، وَمِنْهَا قَامَةُ الرَّجُلِ،
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِ، وَعَنْهُ
جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ اشْتِرَاكِهِ فِي الْمُسَمَّيَاتِ يُفِيدُ تَحْدِيدَ
الْمَاءِ فِي النَّجَاسَاتِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ إِلَّا الْأَوَانِيَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا
أَوْعِيَةُ الْمَاءِ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْحِكَايَاتِ وَأَكْثَرُ عُرْفًا في
الاستعمال قال حميد بْنُ مَعْمَرٍ:
(فَظَلَلْنَا بنعمةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ
قُلَلِهِ)
وَقَالَ الْأَخْطَلُ:
(1/328)
(يَمْشُونَ حَوْلَ مكدمٍ قَدْ كَدَّحَتْ
... مَتْنَيْهِ حَمْلُ حناتمٍ وقلالٍ)
يعني: ملخ الْجِلْدَ مِنَ الْكَدِّ.
وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ اسْمَ الْقُلَّةِ، وَإِنْ كَانَ
مُتَنَاوِلًا لِلْأَوَانِي، فَقَدْ يَتَنَاوَلُ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا
فَيَتَنَاوَلُ الْكُوزَ؛ لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْأَصَابِعِ، وَيَتَنَاوَلُ
الْجَرَّةَ؛ لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْيَدِ، وَيَتَنَاوَلُ الْحَبَّ؛
لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْكَتِفِ، وَمَا كَانَ مُخْتَلِفَ الْقَدْرِ، لَمْ
يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مِقْدَارًا بَعْدُ وَمِنْهَا دَلَّ
عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي
تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى
تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِقِلَالِ هَجَرَ " وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ.
وَالسُّؤَالُ السَّادِسُ: قَالُوا: فَهُوَ وَإِنْ يَتَنَاوَلْ قِلَالًا
مُتَمَيِّزَةً مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَلِفًا
فِي الْعَدَدِ فَرُوِيَ " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ " وَرُوِيَ "
إِذَا كَانَ ثَلَاثًا " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً "
فَكَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوا حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ وَتُسْقِطُوا
مَا سِوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ قُلَّةً رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ، وحديث الثلاثة القلال تَفَرَّدَ بِهِ
بَعْضُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ
وَشَكَّ فِي قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ
رَوَوْا قُلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي ثَلَاثٍ وَهَكَذَا مَنْ رَوَاهُ
مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، والنقلة الثِّقَاتُ
لَمْ يَشُكُّوا فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَكٌّ لِوَاحِدٍ
مُعَارِضًا لِيَقِينِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا
وَيُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَارُضٌ
فَيَكُونَ الْقُلَّتَانِ مَحْمُولًا عَلَى قِلَالِ هَجَرَ، كَمَا جَاءَ
فِيهِ النَّصُّ، وَالثَّلَاثُ عَلَى قِلَالٍ أَصْغَرَ مِنْهَا فَتَسَعُ
قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، وَالْأَرْبَعُونَ قُلَّةً عَلَى
صِغَارِهَا الَّتِي تُقَلُّ بِالْيَدِ تَكُونُ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ مِنْ
قِلَالِ هَجَرَ.
(1/329)
وَالسُّؤَالُ السَّابِعُ: إِنْ قَالُوا:
تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ عَلَى لَفْظِهِ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ
الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَالتَّعَلُّقِ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ لِقَوْلِهِ لَمْ
يَحْمِلْ خَبَثًا يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ الْخَبَثِ،
كَمَا يُقَالُ هَذَا الْخَلُّ لَا يَحْمِلُ الْمَاءَ لِضَعْفِهِ عَنْهُ،
وَهَذَا الطَّعَامُ، لَا يَحْمِلُ الْغِشَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ
عَنْهُ، وَيَفْسُدُ بِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْمَتَاعَ
إِذَا عَجَزَ عَنْهُ، وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْجَوَابِ:
أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْدِيدِ
الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ
يُنَجَّسْ، وَهَذَا صَرِيحٌ لَا تَأْوِيلَ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَيْ لَمْ
يَقْبَلْ خَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ
أسْفَاراً) {الجمعة: 5) أَيْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا
حُكْمَهَا، فَسَلِمَ الحديث من الِاعْتِرَاضِ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ
وَصَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ.
(فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ)
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا
اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي
الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا " فَمَنَعَ مِنْ غَمْسِهَا خَوْفًا
مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ بِهَا فَدَلَّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ
الْقَلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ
مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي
مُخَالَطَةِ الْحَظْرِ لَهُ، فَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْقَلِيلِ كَانَ حُكْمُ
الْحَظْرِ أَغْلَبَ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْكَثِيرِ كَانَ حُكْمُ
الْإِبَاحَةِ أَغْلَبَ، أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُ رَجُلٍ
بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ حُرِّمْنَ كُلُّهُنَّ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا
لَحُكْمِ الْحَظْرِ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَلْنَ لَهُ
تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ، كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ، وَإِنِ
اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ قَلِيلٍ وَجَبَ تَغْلِيظُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ
وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ وَجَبَ تَغْلِيبُ الْإِبَاحَةِ فِي
الطَّهَارَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ اسْتِدْلَالٍ بَعْدَ النَّصِّ، وَهُوَ
دَلِيلٌ عَلَى أبي حنيفة أَيْضًا، ثُمَّ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَاءٌ
قَلِيلٌ خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا
عَلَى الْمُتَغَيِّرِ.
(فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلِيطِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيلَ لَهُ
إِنَّكَ
(1/330)
تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعةٍ، وَهِيَ
يُطْرَحُ فِيهَا الْمَحَائِضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَمَا يُنْجِي
النَّاسُ. فَقَالَ: " الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ " فَلَمْ يَجْعَلْ
لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي نَجَاسَتِهِ وَهَذَا
نَصٌّ يدفع قول أبي حنيفة.
اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسُؤَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ إِلَى بَسَاتِينَ
تَشْرَبُ مِنْهَا وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ أَشْهَرُ حَالًا مِنْ أَنْ
يُعْتَرَضَ عَلَيْهَا لِهَذَا السُّؤَالِ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي بَنِي
سَاعِدَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سننه: قدرت أنا بئر بضاعة بردائي أي:
مدرته عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ.
وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِيَ الْبُسْتَانَ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هل
غير بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا
مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ، لَا يَبْقَى فِيهِ التَّغْيِيرُ،
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ
قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قَالَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ
فِيهَا الْمَاءُ قَالَ إِلَى الْعَانَةِ قُلْتُ: وَإِذَا نَقَصَ، قَالَ:
دُونَ الْعَوْرَةِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى
الصَّحَابَةِ أَنْ يُلْقُوا فِي بِئْرٍ يَتَوَضَّأُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَحَائِضَ وَلُحُومَ الْكِلَابِ
بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ، وَهُوَ بِصِيَانَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْلَى فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ
الْحَدِيثِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا
يَصِحُّ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الجيف
والمحائض، وملقى الأنجاس، وكانت تهب الرِّيحِ، فَكَانَتِ الرِّيحُ تُلْقِي
الْمَحَائِضَ وَالْأَنْجَاسَ فِيهَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ
بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ قِيَاسًا عَلَى وُقُوعِ الْبَعْرَةِ
الْيَابِسَةِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ لَمْ تُخَالِطْهُ قِيلَ
الِاعْتِبَارُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ لَا بِمُخَالَطَتِهَا، أَلَا تَرَى
أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهُ يُنَجِّسُ الماء إذا وقع فيه، وَإِنْ
لَمْ يُخَالِطْهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ حُلُولِ
النَّجَاسَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ
قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يَلْتَقِي طَرَفَاهُ مِنْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ،
وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ،
وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَصَارَ التَّحَرُّزُ
مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ شَاقًّا فَعُفِيَ عَنْهُ كَدَمِ
الْبَرَاغِيثِ، وَالْمَاءُ الْقَلِيلُ يُمْكِنُ حِفْظُهُ، بِالْأَوْعِيَةِ،
وَيُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ
حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مُمْكِنًا فَلَمْ يعف
(1/331)
عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ، وَلِأَنَّ
مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إِلَى مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْ تَنْجِيسِ
الْمَاءِ الْكَثِيرِ، إِذَا ضَاقَ مَكَانُهُ وَتَطْهِيرِ الْقَلِيلِ إِذَا
اتَّسَعَ مَكَانُهُ وَكَثِيرُ الْمَاءِ أَدْفَعُ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ
قَلِيلِهِ.
(فصل: الجواب عن استدلال المالكية)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ: "
خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ
الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ بِئْرُ بُضَاعَةَ وَلَوْ كَانَ عَامًّا
لَخَصَّصْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى
الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكَثِيرِ تَعَذَّرَ صَوْنُهُ
عَنِ النَّجَاسَةِ، وَقِلَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ،
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى
النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ فَفَرْقٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ: شَرْعٌ وَمَعْنًى.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِإِرَاقَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَقَدْ يُطَهَّرُ بِدُونِ مَا فِيهِ،
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِوُرُودِهِ عَلَى
النَّجَاسَةِ مؤدٍ إِلَى أَنْ لَا تَزُولَ نَجَاسَتُهُ عَنْ مَحَلٍّ إِلَّا
بِقُلَّتَيْنِ، وَهَذَا شَاقٌّ فَسَقَطَ، وَتَخْمِيرُ مَا دُونَ
الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ غَيْرُ
شَاقٍّ فَلَزِمَ، وَصَارَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يُنَجَّسُ بِورُودِ
النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حِفْظَهُ مِنْهَا بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ
مُمْكِنٌ، وَصَارَ وُرُودُهُ عَلَى الْمَاءِ اضْطِرَارًا فَلَمْ ينجس.
(فصل: الجواب عن استدلال الأحناف)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْخَبَرِ
فَهُوَ أَنَّهُ نَصٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُفْضِيًا إِلَى تَنْجِيسِهِ، لَمْ
يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: الْتِمَاسُ فَائِدَةِ النَّهْيِ اعْتِرَافٌ بِأَنْ لَا دَلِيلَ
فِي ظَاهِرِهِ عَلَى فَائِدَةِ النَّهْيِ الْخَوْفُ مِنْ تَغْيِيرِ
الْمَاءِ بِكَثْرَةِ الْبَوْلِ فَيَصِيرُ بِالتَّغْيِيرِ نَجِسًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَزْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ
مَاتَ فِيهَا فَمِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ إِنَّ زَمْزَمَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ وَنَحْنُ
أُعْرَفُ بِأَحْوَالِهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ مَكَّةَ
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَهَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ نَزَحَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ لِكَثْرَتِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ، لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ
يَكُونَ نَزْحَهَا لِظُهُورِ دَمِ الزِّنْجِيِّ فِيهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَزَحَهَا تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا،
أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا
تُنَجَّسُ، الْمَاءُ وَالثَّوْبُ وَالْأَرْضُ وَابْنُ آدَمَ.
(1/332)
فإن قيل: فما معنى قوله: " لا ينجس "،
قِيلَ: يَعْنِي أَنَّ أَعْيَانَهَا لَا تَنْقَلِبُ فَتَصِيرُ نَجِسَةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ،
قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ وَإِنْ
كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ
بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْبَدَنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَمِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَبْلُغُ حَدًّا لَا يُمْكِنُ
حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ،
فَنُجِّسَ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا مِنْهُ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي
مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِمْكَانُ حِفْظِهِ مِنْ
حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمُ على الطَّهَارَةِ وَالتَّنْظِيفِ مَا
لَا يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَائِعَاتِ فَيُخَفِّفُ حُكْمَ
الْمَاءِ؛ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَغَلَّظَ حُكْمُ غَيْرِهِ
لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ
بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا
لَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ مِنَ الْمَاءِ وَبِالثَّوْبِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ
يَسِيرٌ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيمَا اسْتَشْهَدُوا
بِهِ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَفْوِ عَنْ
يَسِيرِهِ وَقَدْ جَاءَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ والله أعلم.
(مسألة: مقدار القلتين)
وروى الشافعي رضي الله عنه عَنِ ابْنِ جريجٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُ الشَّافِعِيَّ
ذِكْرُهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً وقال في
الحديث أو قربتين بِقِلَالِ هجرٍ " وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ
رَأَيْتُ قِلَالَ هجرٍ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ
الشافعي: والاحتياط أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قربٍ، قَالَ
وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي
أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ حَدٌّ لِمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا
يُنَجَّسْ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ،
وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهِمَا لِيَصِيرَ الْحَدُّ بِهَا مَعْلُومًا، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُلَّتَانِ: هُمَا مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لِثَلَاثَةِ
أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ
لَمْ يَحْضُرِ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " بِقِلَالِ هَجَرَ " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا
مُرْسَلٌ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، قِيلَ: هُوَ
مُسْنَدٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ نَسِيَ إِسْنَادَهُ وَمُرْسَلٌ عِنْدَ
غَيْرِهِ، فَيُلْزَمُ الشَّافِعِيُّ الْعَمَلَ بِهِ لِإِسْنَادِهِ، وَإِنْ
لَمْ يُلْزَمْ بِهِ لِإِرْسَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ هِيَ أَكْبَرُ قِلَالٍ بِالْمَدِينَةِ،
وَمَا جُعِلَ مَعْدُودَ الْمَقَادِيرِ حَدًّا لَمْ
(1/333)
يَتَنَاوَلْ إِلَّا أَكْثَرَهَا؛ لِأَنَّهُ
أَقَلُّ فِي الْعَدَدِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ
قَدَّرَ نصاب الزكاة خمسة أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَكْبَرُ مِقْدَارٍ
لَهُمْ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِالْمُدِّ، وَلَا بِالصَّاعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ لَا تَخْتَلِفُ،
وَغَيْرُهَا مِنَ الْقِلَالِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ،
وَمَا يَخْتَلِفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ
الْعِلْمَ بِالْمَحْدُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ
مُتَمَاثِلَةٌ مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي وَصْفِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى "
رَأَيْتُ أَوْرَاقَهَا كَأَذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقَهَا كَقِلَالِ هَجَرَ
" فَلَوْ كَانَتْ قِلَالُ هَجَرَ مُخْتَلِفَةَ الْمِقْدَارِ لَمَا عَلِمُوا
بِهَذَا التَّشْبِيهِ قَدْرَ نَبْقِهَا، وَلَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا
بِقِلَالِ هَجَرَ فَلَيْسَتْ مَجْلُوبَةً مِنْ هَجَرِ الْبَحْرَيْنِ،
وَإِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ
نِسْبَتِهَا إِلَى هَجَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا تُعْمَلُ
بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، تُسَمَّى هَجَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ:
بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عُمِلَتْ عَلَى مِثَالِ قِلَالِ
هَجَرَ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ وَإِنْ عُمِلَ بِالْعِرَاقِ؛
لِأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ ما يعلم بِمُرْوٍ.
(فَصْلٌ: احْتِيَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لِلْقُلَّتَيْنِ)
ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ قِلَالَ هَجَرَ، وَلَا أَهْلَ
عَصْرِهِ؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ وَنَفِدَتْ فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِهَا
بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَمُشَاهَدٌ مِنْهُمْ فَقَدَّرَهَا
بِقِرَبِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ مَشْهُورَةٌ، فَرُوِيَ عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ، والَقُلَّةُ
تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ، أَوْ قَالَ: قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لِابْنِ جُرَيْجٍ، وَالتَّقْلِيدُ
عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، قِيلَ: لَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ،
وَإِنَّمَا هُوَ قَبُولُ خَبَرٍ فِي مَغِيبٍ، وَذَلِكَ جائز.
فإن قيل: لما جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ عَلَى الْقِرْبَتَيْنِ نِصْفًا
وَزَعَمَ أَنَّهُ احْتِيَاطٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ
مُنْطَلِقًا عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ، قِيلَ: الشَّيْءُ ها هنا
نِصْفٌ فِي الِاحْتِيَاطِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ شَكَّ فِي الْقَدْرِ هَلْ هُوَ
قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ؟ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
الشَّكُّ إِلَّا يَسِيرًا هُوَ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ لِيَخْفَى وَلَا
يَكْثُرَ فَيَزُولُ الشَّكُّ فِيهِ فَلَمَّا جَعَلَهُ نِصْفًا، وَمُقْتَضَى
الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَانَ احْتِيَاطًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّبْعِيضِ
كَانَ مُشَارًا بِهِ فِي الْعُرْفِ إِلَى أَقَلِّ الْبَعْضَيْنِ فَإِذَا
كَانَ الْبَعْضُ الزَّائِدُ عَلَى الشَّيْئَيْنِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ
قَالُوا اثْنَيْنِ وَشَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ،
قَالُوا ثَلَاثَةً إِلَّا شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ
نِصْفًا كَامِلًا كان احتياطاً.
(1/334)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ
الْقِرْبَةُ الثَّالِثَةُ مُتَبَعِّضَةٌ فَبَعْضُهَا مِنْ جُمْلَةِ
الْقُلَّةِ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ مِنْهَا، ولم يكن تكثيراً أَحَدِ
الْبَعْضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، وَجَبَ
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ، فَجَعَلَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمَا
نِصْفًا مُسَاوِيًا لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ لَا يَكُونُ
لِلِاحْتِيَاطِ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ خَمْسَ قِرَبٍ
احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَقَادِيرِ لِلِاسْتِيفَاءِ
احْتِيَاطٌ لَهَا أَوْلَى كَمَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْوَجْهِ فِي غَسْلِهِ
وَحَدَّ الْعَوْرَةِ وَإِمْسَاكَ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي طَرَفِ
الصَّوْمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِتَحْدِيدِ الْقِرَبِ
بِالْأَرْطَالِ؛ لِأَنَّهُ اكْتَفَى أَهْلُ عَصْرِهِ فِي بَلَدِهِ
بِالْقِرَبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ
قِرْبَةٍ لَهُمْ كَمَا اكْتَفَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِالْقِلَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَنْ أَنْ
يُقَدِّرَ كُلَّ قُلَّةٍ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: هَلْ تحديد القلتين تقريب أم تحقيق؟)
ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا مِنْ بَعْدِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا نَأَوْا عَنِ
الْحِجَازِ وَبَعُدُوا فِي الْبِلَادِ، وَغَابَتْ عَنْهُمْ قِرَبُ
الْحِجَازِ، وَجَهَلَ الْعَوَامُّ تَقَادِيرَ الْقِرَبِ التي أخبرهم بها حد
الماء يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُنَجَّسُ اضْطُرُّوا إِلَى
تَقْدِيرِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا
مَعْلُومًا عِنْدَ كَافَّتِهِمْ كَمَا اضْطُرَّ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ
عَاصَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقِلَالِ، فِي تَقْدِيرِهَا بِالْقِرَبِ
فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَبَرُوا قِرَبَ الْحِجَازِ عَلَى
أَنْ قَدَّرُوا كُلَّ قِرْبَةٍ مِنْهَا بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ،
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِالْأَرْطَالِ مِنْ أَصْحَابِنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو عَبِيدِ بْنُ جَرَبْوَيْهِ ثُمَّ
سَاعَدَهُمْ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةً لِاخْتِيَارِهِمْ فَصَارَتِ
الْقُلَّتَانِ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسِ قِرَبٍ
خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا،
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ تَقْرِيبٍ أَوْ تَقْدِيرُ
تَحْقِيقٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ حَدُّ
تَقْرِيبٍ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ أَوْ
رِطْلَيْنِ وَلَا بِنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْقَلِيلِ بِالْقِرَبِ
احْتِيَاطٌ وَتَحْدِيدَ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ اسْتِظْهَارٌ فَصَارَ
التَّحْقِيقُ فِيهِ مِعْوَزًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ حَدُّ تَحْقِيقٍ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ
الْيَسِيرِ وَنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ
الْمَحْدُودُ فِي حُكْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا فَيُجْهَلُ، وَلَيْسَ
يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي اعْتِبَارِهَا عَهْدَنَا مِنَ
الْأُصُولِ قَدْ جَعَلَهُ مَحْدُودًا عَلَى التَّحْقِيقِ.
(مَسْأَلَةٌ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَاءِ الكثير والقليل)
قال الشافعي: " احتج بأنه قيل يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهي
تطرح فيها المحايض وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَمَا يُنْجِي النَّاسُ فَقَالَ: "
الْمَاءُ لا ينجسه شيءٌ " قال ومعنى لا ينجسه شيءٌ إذا كان كثيراً لم يغيره
النجس. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أنه قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلا ما غير
ريحه أو طعمه " وقال فيما روي عن ابن عباس أنه نزح زمزم من زنجي مات فيها
إما لا نعرفه وزمزم عندنا وروي عن ابن عباسٍ أنه قال: " أربع لا يخبثن "
(1/335)
فذكر الماء وهو لا يخالف النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد يكون الدم ظهر فيها فنزحها إن كان فعل
أو تنظيفاً لا واجباً. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٌ مِنْ
قِرَبِ الْحِجَازِ، فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كَانَتْ، فَلَمْ
يُغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ ولَا رِيحُهُ وَلَمْ يَنْجُسْ، وَهُوَ
بِحَالِهِ طاهرٌ، لأن في خمس قربٍ فصاعداً وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ
الْكَثِيرِ الَذِي لَا ينجسه إلا ما غيره، ومن الْقَلِيلِ الَّذِي
يُنَجِّسُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّ
الْقُلَّتَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنَّ
الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ بِمَا وَصَفْنَا، وَأَنَّ الْخَمْسَ قِرَبٍ
خمسمائة رطل بما بينا صار كثير الماء خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ] وَقَلِيلُهُ
مَا دُونَهَا ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
حُكْمَ كَثِيرِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ
النَّجَاسَةِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَمَا
يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ
كَثِيرًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ أَوْ مُتَجَسِّدَةٌ فلا
يخلو أن يتغير بها الماء أو لا يَتَغَيَّرُ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا
الْمَاءُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، ثُمَّ لَا تَخْلُو النَّجَاسَةُ مِنْ
أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً
كَبَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أُهْرِيقَ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُ جميع الماء شيئاً بعد
شيء حتى يستنفد جميعه جائز ولا يلزم استبقاء شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَهُ حَتَّى
يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ لِعِلْمِنَا
أَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مُسْتَعْمِلُ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا
خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهَا أَثَرٌ صَارَتْ
مُسْتَهْلَكَةٌ، فَعُفِيَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبْقَى مِنْ
جُمْلَةِ الْمَاءِ قَدْرَ النَّجَاسَةِ فَنَحْنُ نُحِيطُ عِلْمًا بِأَنَّ
مَا اسْتَبْقَاهُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ مَحْضَةٍ تَمَيَّزَتْ عَنِ
الْمُسْتَعْمَلِ، وَانْحَازَتْ إِلَى الْمُسْتَبْقَى، وَإِنَّمَا الْبَاقِي
مَاءٌ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعْمَلُ فَلَمْ
يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ.
(فَصْلٌ: إِذَا كَانَ فِي الماء عين نجسة)
وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ
مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ عَظْمِ خِنْزِيرٍ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ فِي
اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الميتة منه، وإزالة العين
النجسة عنه، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ كُلَّهُ
بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، حَتَّى
يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ،
فَإِنْ لَمْ تَزُلِ النَّجَاسَةُ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الْمَاءِ
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى
إِلَى حَدِّ نَقْصٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ صَارَ نَجِسًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ
أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُلَّتَيْنِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ
عَلَى وَجْهَيْنِ:
(1/336)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ
هَذَا الْمَاءِ إِلَّا مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا وَإِنِ اسْتَعْمَلَ
مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارًا بأن ما
قارب النجاسة كان أحص بِحُكْمِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ
وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ وَلَوْ مِنْ
أَقْرَبِهِ إِلَى النَّجَاسَةِ، وَأَلْصَقِهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ
الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ
وَاحِدٌ فِي النَّجَاسَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلُ
مِنْهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي إِلَى حَدِّ الْقُلَّتَيْنِ،
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْبَاقِي بِيَدِهِ لم يجزه،
لِأَنَّ مَا يَغْتَرِفُهُ بِيَدِهِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ بَاقِيهِ
فَيُنَجَّسُ مِنْ يَدِهِ مَا لَاقَى الْبَاقِيَ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ
اغْتِرَافِهِ فَأَمَّا إِذَا اغْتَرَفَ مِنْهُ بِدَلْوٍ وَإِنَاءٍ فَعَلَى
مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ كِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ،
مَا اغْتَرَفَهُ وَمَا أَبْقَاهُ، لِأَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ مَوْضِعٍ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَعَلَى
مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ،
فَإِنْ بَقِيَتْ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ تَخْرُجْ فِي الدَّلْوِ الَّذِي
اغْتَرَفَهُ فَمَا اغْتَرَفَهُ مِنْ مَاءِ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ
الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي نَجِسٌ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ
فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا فِي الدَّلْوِ نَجِسٌ، وَظَاهِرُ
الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي طَاهِرٌ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنَ
الدَّلْوِ نُقْطَةَ مَاءٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ
نَقَطَتْ مِنْ ظَاهِرِهِ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ؛
لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّلْوِ طَاهِرٌ وَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ بَاطِنِهِ صَارَ
الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا؛ لِأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ الدَّلْوِ مِنَ
الْمَاءِ نَجِسٌ فَلَوْ شَكَّ هَلْ كَانَتِ النُّقْطَةُ مِنْ ظَاهِرِهِ
أَوْ بَاطِنِهِ فَالْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ
طَاهِرٌ شُكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ
الْكَثِيرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
(فَصْلٌ: وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ بِلَوْنٍ
أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ
الشَّيْءِ مِنْهُ مَا كَانَ التَّغَيُّرُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَتِ
النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ عَادَ
إِلَى الطَّهَارَةِ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ لِأَجْلِ التَّغْيِيرِ ثُمَّ يَكُونُ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ،
وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ متجسدة فإن عاد إلى
التَّغْيِيرُ بَعْدَ زَوَالِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ
قَائِمَةً فِيهِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ
حُكْمِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ فَهُوَ
طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ
قَائِمَةٍ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن وقعت ميتةٌ في بئرٍ فتغير مِنْ
طَعْمِهَا أَوْ لَوْنِهَا أَوْ رَائِحَتِهَا أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ
وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فَتَطْهُرُ بِذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَحُكْمُ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا
يُنَجَّسُ بِهِ، وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من مياه المصانع، والأواني.
(1/337)
وقال أبو حنيفة ماء البئر مخالف لغيره من
مياه المصانع والأواني وإن ماتت في البئر عصفوراً وفأرة نُزِحَ مِنَ
الْبِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوًا وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا، وَإِنْ
وَقَعَ ذَنَبُهَا نُزِحَتِ الْبِئْرُ كلها، وإن مات فيها سنوراً ودجاجة
نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا،
وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ
فِيهَا بَوْلٌ أَوْ عَذِرَةٌ، وَكَانَ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَاءِ الْبِئْرِ
وَغَيْرِهَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِهَا فَهُوَ
يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى عُلُوِّهَا، وَكَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ
الْفَأْرَةِ وَالسِّنَّوْرِ، أَنَّ السِّنَّوْرَ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ
أَكْثَرَ مِنَ الْفَأْرَةِ فَكَانَ مَا يُنْزَحُ بِمَوْتِهَا أَكْثَرَ،
وَالشَّاةُ تَغُوصُ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ، فَيُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِي
الْبِئْرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ إِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ
نَصٌّ فهو أظهر فساد مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَى فَسَادِهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ
الماء النجس لا يطهر بِأَخْذِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ
نَجِسًا، وَالْمَتْرُوكُ طَاهِرًا وَكَيْفَ تَمَيَّزَتِ النَّجَاسَةُ
حَتَّى صَارَ جَمِيعُهَا فِي الْمَأْخُوذِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَتْرُوكِ
شَيْءٌ مِنْهَا، وَتَمَيَّزَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَتْرُوكِ، وَلَمْ
يَبْقَ فِي الْمَأْخُوذِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَمَا انْفَصَلَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَنْ قَلَبَ مَا قَالَهُ فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ طَاهِرًا،
وَالْمَتْرُوكَ نَجِسًا.
فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَمَا يَنْبُعُ مِنْ
مَاءِ الْبِئْرِ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَى.
قِيلَ: الدَّلْوُ إِذَا نَزَلَ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا،
وَلَمْ يَتْرُكْ طَبَقَاتِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ عَلَى حَالِهَا، ثُمَّ
كَيْفَ انْتَهَى رَفْعُ النَّجَاسَةِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى
عِشْرِينَ دَلْوًا فِي أَعْلَاهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهُ وَلَمْ
يَنْخَفِضْ مِنْهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَبَعَ
مِنْ أَسْفَلِ الْمَاءِ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَاهُ، أَوْجَبَ
أَنْ يَكُونَ مَا يَصُبُّ عَلَيْهِ من أعلاه يحيط النَّجَاسَةَ إِلَى
أَسْفَلِهِ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْقَلِيلِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ
بِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ الْفَأْرَةَ لَا تَغُوصُ فِي
الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا،
وَلِمَ لَا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي مَاءِ الْغَدِيرِ، وَمَا تَقُولُ إِنْ
شُدَّتِ الْفَأْرَةُ بِحَجَرٍ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ
يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِكَ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ مَائِهَا وَلَوْ شُدَّتْ
بِخَشَبَةٍ حَتَّى مُنِعَتْ مِنْ غَوْصِهَا أَنْ لَا يُنْزَحَ شَيْءٌ
مِنْهَا، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَذَيْنِ وَتُوجِبُ نَزْحَ عِشْرِينَ
دَلْوًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ذَنَبُ
الْفَأْرَةِ أَقَلُّ غَوْصًا فِي الْمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْفَأْرَةِ
وَأَنْتَ تَقُولُ فِي ذَنَبِهَا وَهُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا أَنَّهُ
يُنْزَحُ مِنْهُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، وَيُنْزَحُ مِنَ الْفَأْرَةِ
مَعَ ذَنَبِهَا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ جُمْلَتِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ:
زَعَمْتَ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ مِنَ الْعِشْرِينَ
إِلَى مَاءِ الْبِئْرِ صَارَ نَجِسًا، فَإِنْ عَادَ فَنَزَحَ مِنْهَا
دَلْوًا وَاحِدًا صَارَ طَاهِرًا فَهَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ
أَنَّ الدَّلْوَ النَّجِسَ الَّذِي سَقَطَ فِي الْمَاءِ خَرَجَ جَمِيعُهُ
فِي الدَّلْوِ الْمُسْتَقَى مِنْهُ حَتَّى تَمَيَّزَ بَعْدَ امْتِزَاجِهِ
بِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجَاحِظُ: لَمْ أَرَ دَلْوًا أَعْقَلَ
مِنْ دَلْوِ أبي حنيفة يَعْنِي أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ
الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ، وَالْجَاحِظُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِمِثْلِ هَذِهِ
الْخَلَاعَةِ فِي أبي حنيفة مَعَ فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي عِلْمِهِ
لَكِنْ تَطَرَّقَ بِاضْطِرَابِ الْمَذْهَبِ وَذَهَابِهِ إِلَى
الِاسْتِرْسَالِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُسْتَهْجَنِ فَإِنْ قَالَ أبو
حنيفة: إِنَّمَا قَلْتُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَهُ أَمَرَ بِنَزْحِ سبعٍ أَوْ
ثمانٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهَا
بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ
(1/338)
عَلَى أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِنَزْحِهَا
لِيَزُولَ تَغَيُّرُهَا أَوْ تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا فَلِمَ تُرِكَتِ
السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأُصُولُ الْمُشْتَهِرَةُ، لِهَذَا الْأَثَرِ
الْمُحْتَمَلِ وَالرِّوَايَةِ الْمُخْتَلِفَةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ
وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من المياه الراكدة، فلا يخلو حال الْبِئْرِ
إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ قَائِمَةً مِنْ أَنْ
يَكُونَ مَاؤُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ مَاؤُهَا قَلِيلًا
فَهُوَ نَجِسٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ
لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَغَيِّرًا فَطَهَارَتُهُ بِالِاجْتِمَاعِ،
وَمُغَيِّرُ أَحَدِهِمَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ
قُلَّتَيْنِ، وَالثَّانِي زَوَالُ التَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
مُتَغَيِّرٍ فَطَهَارَتُهُ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُكَاثَرَةُ حَتَّى
يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا يَخْلُو حَالُ
الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ
عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَالْكُلُّ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ
الْوَارِدَ لِقِلَّتِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِي الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ
لِكَثْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ
الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ يَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ
الْأَنْمَاطِيِّ يَكُونُ نَجِسًا وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا
قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا
أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَهُوَ طَاهِرٌ،
وَالْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ
قَائِمَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ نَجِسٌ،
وَطَهَارَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ وَلِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ
ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَتَقَادُمِ
الْعَهْدِ فَيَعُودُ إِلَى حَالِ الطَّهَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ
فَيَكُونُ طَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِدُ عَلَيْهِ قَلِيلًا أَوْ
كَثِيرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِإِلْقَاءِ شيء فيه لا يَخْلُو
حَالُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ
تُرَابٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ تُرَابٍ، كَالطِّيبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ
مِنْ ذِي رائحته غالبة فالماء على نجاسة لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ
زَوَالَ التَّغَيُّرِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَقْوَى
رَائِحَةً مِنْهَا فَخَفِيَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ تُرَابًا فَفِي
طَهَارَتِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُطَهَّرُ قِيَاسًا عَلَى زَوَالِ التَّغَيُّرِ
بِالطِّيبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُطَهَّرُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا
يَنْفَكُّ مِنَ الْمَاءِ غَالِبًا، وَهُوَ قَرَارٌ لَهُ، فَقَدْ
يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ
لِحُصُولِ التُّرَابِ فِيهِ دَلَّ عَلَى اسْتِهْلَاكِ النَّجَاسَةِ
بِزَوَالِ تَغْيِيرِهَا، وَأَنَّ التُّرَابَ قَدْ جَذَبَهَا إِلَى نَفْسِهِ
حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْهَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا نَزْحُ مَاءِ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ نَجِسًا فَلَا يُطَهَّرُ
بِالنَّزْحِ، وَهُوَ بَعْدَ نَزْحِهِ نَجِسٌ كَحُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ
قَبْلَ نَزْحِهِ فَأَمَّا الْبِئْرُ بَعْدَ نَزْحِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ
يَنْبُعَ فِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فِيهَا مَاءٌ فَهِيَ
نَجِسَةٌ، لَا تُطَهَّرُ إِلَّا بِمَا تُطَهَّرُ بِهِ النَّجَاسَاتُ مِنَ
الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَإِنْ نَبَعَ فِيهَا مَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ
النَّابِعِ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ،
نَظَرَ
(1/339)
فَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ
مُطَهِّرٌ، وَالْبِئْرُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ
فَقَدْ طَهُرَتِ الْبِئْرُ، وَهُوَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِزَالَةِ
نَجَاسَتِهِ، فيكون على مذهب الشافعي طاهر غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى
مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ نَجِسًا. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ
مُتَغَيِّرًا فَلَا يَخْلُو تَغْيِيرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ
نَجِسًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ إِمَّا
لِحَمْأَةٍ أو لفساد التربة فَلَا حُكْمَ لِتَغْيِيرِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ
هَذَا التَّغْيِيرُ فِي تَنْجِيسِهِ، وَيَكُونُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ
غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ عَلَى مَا مَضَى.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِهِ هَلْ هُوَ لِأَجْلِ
النَّجَاسَةِ أَوْ لِفَسَادِ التُّرْبَةِ؟ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ
التَّغْيِيرِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَكُونُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ
حَالِ تَغْيِيرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنَّ غَدِيرًا بَالَ فيه ظبي فوجده مَاؤُهُ
مُتَغَيِّرًا فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ لِبَوْلِ الظَّبْيِ، أَوْ
لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا؛ لأن ظاهر تغييره أَنَّهُ
لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَغَلَبَ حُكْمُهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ
الرَّاكِدِ فِي بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مَاءِ إِنَاءٍ أَوْ غَدِيرٍ.
(فَصْلٌ: إِذَا وَقَعَتْ في الماء الجاري نجاسة)
فَأَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَلَا
يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ
مَائِعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ
الْجَارِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ كَانَتِ
الْجَرْيَةُ الَّتِي تَغَيَّرَتْ بها نجسة، وَكَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ
الْمَاءِ الْأَعْلَى وَمَا تَحْتَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَسْفَلِ
طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْجَرْيَةُ الَّتِي
وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ نَجِسَةٌ، وَمَا تَحْتَهَا وَفَوْقَهَا
طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْجَارِي يَنْتَهِي إِلَى فَضَاءٍ يَقِفُ
فِيهِ فَمَاءُ الْفَضَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَيْهِ الْجَرْيَةُ، التي
وقعت فيها النجاسة طاهر فإذا انْتَهَتِ الْجَرْيَةُ النَّجِسَةُ إِلَيْهِ
صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا قَلَتْهُ نَجَاسَةٌ فِي
اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ
طَاهِرًا، فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ قَبْلَ
اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلًا لِنَجَاسَةِ
الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْ تِلْكَ
الْجَرْيَةِ بَعْدَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ جَازَ وَإِنْ لَمْ
تَغِبْ فِيهِ، وَتُخْلَطْ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي طَهَارَتِهِ
بِالِاتِّصَالِ لَا بِالِاخْتِلَاطِ؛ أَلَا ترى لو أن قلتين مَاءٍ غَيْرَ
رِطْلٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَوْ صُبَّ عَلَيْهِ
رِطْلٌ مِنْ مَاءٍ صَارَ طَاهِرًا وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنِ
اسْتَحَالَ أَنْ يَغِيبَ الْمَاءُ كُلُّهُ فِي الرِّطْلِ الَّذِي صُبَّ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ
فِيهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ
جَارِيَةً مَعَهُ أَوْ وَاقِفَةً فِيهِ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعَهُ
فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ نَجَاسَةِ الْجَرْيَةِ الَّتِي هِيَ
فِيهَا، وَطَهَارَةِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِذَا انْتَهَتِ
النَّجَاسَةُ إِلَى مَاءِ الْفَضَاءِ صَارَتْ نَجِسَةً فِي مَاءٍ رَاكِدٍ،
فَيَكُونُ
(1/340)
عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ قِلَّتِهِ
وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَانَ مَدُّ الْفَضَاءِ
طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي
طَاهِرٌ أَيْضًا قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِهِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءُ
الْفَضَاءِ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَاءُ الْجَارِي
قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِمَاءِ الْفَضَاءِ طَاهِرٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ
صَارَ نَجِسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَوْ لَمْ يَغِبْ فِيهِ
وَيَخْتَلِطْ بِهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ
بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِاخْتِلَاطِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ
قَائِمَةً فِي الْمَاءِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْسَكِنَ بِهَا الْمَاءُ وَيَقِفَ عِنْدَهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْسَكِنَ بِهَا وَيَكُونَ عَلَى جَرْيَتِهِ
فَإِنَّ انْسَكَنَ الْمَاءُ بِهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا كَانَ مَا فَوْقَهَا
مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا كَانَ عَلَى جَرْيَتِهِ، وَكَانَ مَا
وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَانْقَطَعَتْ جَرْيَتُهُ فِي حُكْمِ
الْمَاءِ الرِاكدِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ
دُونَهُ كَانَ نَجِسًا، وَكَانَ مَا انْحَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ
نَجِسًا، وَفِي حُكْمِ الرَّاكِدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا
مِنَ الْمَاءِ مَحْكُومًا بِطِهَارَتِهِ لِكَثْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ
كَانَ الْمَاءُ يَمُرُّ بِالْمَيْتَةِ عَلَى جَرْيَتِهِ لَا يَقِفُ
عِنْدَهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْ جَرْيَتِهِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا
مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غُزْرِ الْمَاءِ كُلِّهِ مِنْ عُلْوِهِ إِلَى
قَرَارِهِ فَلَيْسَ يُجَوِّزُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَمَسَّهَا
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ مَا لَمْ
تَنْتَهِ جَرْيَتُهُ إِلَيْهَا طَاهِرٌ مَا تَحْتَهَا نَجِسٌ، وَفِي حُكْمِ
الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ مِنَ
الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا اسْتِشْهَادًا
بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِبْرِيقًا لَوْ صُبَّ مِنْ
بِزَالِهِ مَاءٌ عَلَى نَجَاسَةٍ كَانَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنَ
الْبِزَالِ طَاهِرًا مَا لَمْ يُلَاقِ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا
إِلَيْهَا كَذَلِكَ كَمَا جَرَى إِلَى نَجَاسَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ النجاسة راسبة في أسفل الماء وغزاره
فَلَيْسَ تَمُرُّ بِهَا الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنَ الْمَاءِ وَإِنَّمَا
تَمُرُّ بِهَا أَسْفَلُ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا
فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنَ الْمَاءِ
نَجِسَةً لِمُرُورِهَا عَلَى النَّجَاسَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
نَجَاسَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى
النَّجَاسَةِ وَلَا لَاقَتْهَا فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ
عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَجِسَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَرْيَةَ
الْمَاءِ إِنَّمَا تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا تَقَدَّمَ
وَتَأَخَّرَ، فَأَمَّا مَا عَلَا مِنْهُ وَسَفُلَ مِنْ طَبَقَاتِهِ فَهُوَ
بِالرَّاكِدِ أَشْبَهُ، وَالرَّاكِدُ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ أَعْلَاهُ
وَأَسْفَلِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ طَافِيَةً عَلَى رَأْسِ
الْمَاءِ وَلَا تَنْتَهِي إِلَى قَرَارِهِ، فَلَيْسَ يَمُرُّ بِهَا إِلَّا
أَعْلَى الْمَاءِ دُونَ أَسْفَلِهِ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ
إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ
(1/341)
العليا نجسة لمرورها بالنجاسة، وفي نجاسته
الطَّبَقَةِ السُّفْلَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٍ مِنْ قِرَبِ
الْحِجَازِ فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كانت فلم تغير طعمه ولا
لونه ولا ريحه لم يَنْجُسْ وَهُوَ بِحَالِهِ طاهرٌ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَ
قربٍ فصاعداً وَهَذَا فرقٌ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا يُنَجِّسُهُ
إِلَّا مَا غَيَّرَهُ وَبَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي ينجسه ما لم يغيره فإن
وقعت ميتةٌ في بئر فغيرت طعمها أو ريحها أو لونها أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ
وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فتطهر بذلك (قَالَ)
وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ قربٍ فَخَالَطَتْهُ نجاسةٌ
لَيْسَتْ بقائمةٍ نَجَّسَتْهُ فِإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ ماءٌ أَوْ صُبَّ عَلَى
ماءٍ آخَرَ حَتَى يَكُونَ الْمَاءَانِ جَمِيعًا خَمْسَ قربٍ فَصَاعِدًا
فَطَهُرَا لَمْ يُنَجِّسْ واحدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ (قَالَ) فَإِنْ
فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْجَسَا بَعْدَ مَا طَهُرَا إِلَّا بنجاسةٍ
تَحْدُثُ فِيهِمَا ".
قال الماوردي: وهذا صحيح لما ذكره الشَّافِعِيُّ حُكْمَ الْمَاءِ
الْكَثِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِذَا كَانَ
الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَقَدْ نَجِسَ،
سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْمَاءُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ
مَائِعَةً أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ فِيمَا
سَنَذْكُرُهُ سِوَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ
تَغَيَّرَ فَطَهَارَتُهُ بِاجْتِمَاعِ وَصْفَيْنِ بِالْمُكَاثَرَةِ،
وَزَوَالِ التَّغَيُّرِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَطَهَارَتُهُ
بِالْمُكَاثَرَةِ وَحْدَهَا، فَلَوْ كَانَتْ قُلَّةٌ نَجِسَةً، وَقُلَّةٌ
أُخْرَى طَاهِرَةً فَصُبَّتْ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى صَارَا
مَعًا طَاهِرَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ سَوَاءٌ صُبَّتِ
الطَّاهِرَةُ عَلَى النَّجِسَةِ أَوِ النَّجِسَةُ عَلَى الطَّاهِرَةِ؛
لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْمُكَاثَرَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَاسْتَوَى
الْحُكْمُ فِي وُرُودِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجَسِ وَوُرُودِ النَّجَسِ
عَلَى الطَّاهِرِ، فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ، نُظِرَ فِي حَالِ
النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً صَارَتْ مستهلكة، وكان الماآن
طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً، فَإِنْ أُخَرِجَتْ
مِنْهُ قَبْلَ تَفْرِيقِهِ فَهُمَا طَاهِرَانِ وَإِنَّ فُرِّقَا قبل
إخراجها مِنْهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ بِالِاغْتِرَافِ
مِنْهُ دُفْعَةً كَانَ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِنَاضِحٍ احْتَمَلَ بِهِ إِحْدَى
الْقُلَّتَيْنِ، فَالْقُلَّةُ الَّتِي حُمِلَتِ النَّجَاسَةُ فِيهَا
نَجِسَةٌ، وَالْقُلَّةُ الْأُخْرَى طَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ
نَجِسٌ، وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ أَمَالَ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ
الْقُلَّتَانِ حَتَّى انْصَبَّ مِنْهُ فِي إِنَاءٍ آخَرَ قُلَّةٌ، وَبَقِيَ
فِي الْأَوَّلِ قُلَّةٌ، نُظِرَ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ حِينَ
أَمَالَ الْإِنَاءَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ كَانَ
الْإِنَاءُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ نَجِسًا وَكَانَ
مَا بَقِيَ فِي الْأَوَّلِ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى
الْإِنَاءِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُ مَا أَصَارَ بِهِ الثَّانِيَ
فِي الْأَوَّلِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ،
وَهَكَذَا لَوْ بَقِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الْقُلَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي
الْإِنَاءِ الْأَوَّلِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ
تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَجَدْتَهُ مُسْتَمِرًّا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ قُلَّةُ
مَاءٍ نَجِسَةٌ، وَقُلَّةٌ أُخْرَى نَجِسَةٌ، فَأَرَاقَ إحديهما في الأخرى،
وليس فهما تَغْيِيرٌ فَهُمَا طَاهِرَتَانِ.
(1/342)
فَإِنْ قِيلَ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ
الْقُلَّتَيْنِ نَجِسَةٌ وَالنَّجَاسَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ
النَّجَاسَةِ كَانَ أَغْلَظَ لِحُكْمِهَا لِكَثْرَتِهَا، فَكَيْفَ صَارَتْ
إِحْدَى النَّجَاسَتَيْنِ مُطَهِّرَةً لِلْأُخْرَى، وَالنَّجَاسَةُ
بِاجْتِمَاعِهَا أَكْثَرَ.
قِيلَ: إِنَّمَا كَانَا نَجِسَيْنِ مَعَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ قِلَّةَ
الْمَاءِ تَضْعُفُ عن احتمال النجاسة، وإذا أجمعا كَثُرَ فَقَوِيَ عَلَى
احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَصَارَتْ لِكَثْرَةِ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكَةً
عُفِيَ عَنْهَا فَلَوْ فُرِّقَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالنَّجَاسَةُ
مَائِعَةٌ كَانَا طَاهِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَلَمْ يَنْجَسْ
بِالتَّفْرِيقِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ معه قلتان من ماء إِلَّا رِطْلًا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ
فَهُوَ نَجِسٌ، فَلَوْ تَمَّمَهُ بِرِطْلٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ حَتَّى
صَارَ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَغْيِيرٌ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بَقُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيُحْتَمَلُ دَفْعُ النَّجَاسَةِ،
وَإِنَّمَا هُوَ قُلَّتَانِ مَاءً وَنَجَاسَةً، وَهَكَذَا لَوْ تَمَّمَ
بِرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَطْهُرْ، وَكَانَ نَجِسًا
لِتَقْصِيرِ الْمَاءِ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ
مِنْ مَاءٍ نَجِسٍ كَانَ طَاهِرًا لِتَمَامِ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ شُكَّ فِي قَدْرِهِ هَلْ هُوَ
قُلَّتَانِ أَوْ أَقَلُّ؟ فَهُوَ عَلَى الْقِلَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ
كَثْرَتَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا، فَلَوْ عَلِمَهُ قُلَّتَيْنِ، ثُمَّ رَأَى
كَلْبًا قَدْ وَلَغَ فِيهِ، وَشَكَّ هَلْ شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَ عَنِ
الْقُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ فَهُوَ عَلَى الْكَثْرَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ
نَقْصَهُ وَيَكُونُ طَاهِرًا.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قُلَّتَانِ مِنْ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ
فَتَغَيَّرَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ فَزَالَ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ
فَكِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ، وَلَوْ زَالَ التَّغْيِيرُ قَبْلَ
التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ طَاهِرٌ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ نَجِسٌ لَمْ يُحْكَمْ
بِتَنْجِيسِهِ دُونَ أَنْ يُخْبِرَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَ به
نجساً؛ لاختلاف الناس فيما ينجس به الْمَاءَ وَلَا يُنَجِّسُ أَلَا تَرَى
أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ سُؤْرَ الْحِمَارِ نَجِسًا مِثَالُهُ
الشَّهَادَةُ بِالْجَرْحِ وَالتَّفْسِيقِ لَا تَسْمَعُ إِلَّا بِذِكْرِ مَا
صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ
مَا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِثْلُ الْعَنْبَرِ أَوِ الْعُودِ أَوِ الدُّهْنِ
الْطَيِّبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَخُوضًا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَمَّا ذكر الشافعي حكم النجاسة
إذا وقعت في الْمَاءِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ
إِذَا وَقَعَتْ وَجُمْلَةُ مَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْأَشْيَاءُ
الطَّاهِرَةُ ضَرْبَانِ: مَائِعٌ وَجَامِدٌ، فَالْمَائِعُ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ كَالدُّهْنِ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ
سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ لَا يختلط
بالماء وإنما يجاوره وتغيير المجاورة لا يغير حُكْمًا أَلَا تَرَى لَوْ
أَنَّ مَاءً فِي إِنَاءٍ جَاوَرَتْهُ مَيْتَةٌ فَتَغَيَّرَ بِرَائِحَتِهَا
لَمْ يُنَجَّسْ.
(1/343)
والضرب الثاني: أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ عَنِ
الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ فَيُنْظَرُ حَالُ الْمَاءِ فَإِنْ غَيَّرَ
الْمَائِعُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ فَهُوَ غَيْرُ
مُطَهِّرٍ؛ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ، نُظِرَ فَإِنْ
كَانَ الْمَائِعُ أَقَلَّ مِنَ الْمَاءِ كَانَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا؛
لِغَلَبَتِهِ بِالْكَثْرَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَكْثَرَ مِنَ
الْمَاءِ فَالْمَاءُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَلَبَةِ الْمَائِعِ عَلَيْهِ
بِكَثْرَتِهِ، وَأَمَّا الْجَامِدُ فَضَرْبَانِ: مَذْرُورٌ، وَغَيْرُ
مَذْرُورٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْرُورٍ كَالْعُودِ وَالصَّنْدَلِ
وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي رِيحٍ ذَكِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَكِيٍّ فَالْمَاءُ
مُطَهِّرٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ،
وَإِنْ كَانَ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ والعصفر والحنا فَإِنْ تَغَيَّرَ
بِهِ لَوْنُ الْمَاءِ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ، لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ
لِاخْتِلَاطِ مُمَازَجَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُ الْمَاءِ وَلَا
طَعْمُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَهُوَ مُطَهِّرٌ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ
مَا لَمْ يُنَجَّسْ بِهِ الْمَاءُ، وَيَخْرُجْ عَنْ طَعْمِهِ فِي الرقة،
والصفا، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ
بِالْمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ بِخِلَافِ
النَّجَاسَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ الْقُلَّتَيْنِ فِي
النَّجَاسَةِ، وَتَرْكِ اعْتِبَارِهِمَا فِي مُخَالَطَةِ الْأَشْيَاءِ
الطَّاهِرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجَاسَاتِ لَمَّا سلبت الماء صفتيه في الطهارة
والتطهير ضعف قليل الماء عن دَفْعِهَا حَتَّى يَكْثُرَ، وَلَمَّا كَانَتِ
الْمَائِعَاتُ تَسْلُبُ الْمَاءَ التَّطْهِيرَ دُونَ الطَّهَارَةِ قَوِيَ
قَلِيلُ الْمَاءِ عَلَى دَفْعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَاتِ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ
الْمَاءِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمَ
الْمَائِعَاتِ إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ ضَعُفَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنَ الْمَائِعَاتِ مُتَعَذِّرٌ، فخف
حكمها فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ وَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّجَاسَةِ أَمْكَنُ
فَغَلِظَ حُكْمُهَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وإذا كان معه في السفر إناآن يَسْتَيْقِنُ أَنَّ
أَحَدَهُمَا نجسٌ، وَالْآخَرُ لَمْ يَنْجَسْ تَأَخَّى وَأَرَاقَ النَّجِسَ
عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ وَتَوَضَّأَ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ
الطَّهَارَةَ تُمَكَّنُ، وَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ طاهرٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ معه إناآن أَوْ
أَكْثَرُ، وَبَعْضُهَا طَاهِرٌ، وَبَعْضُهَا نَجِسٌ، وَقَدْ أَشْكَلَ
عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا
وَيَجْتَهِدَ، وَيَسْتَعْمِلَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى
طَهَارَتِهِ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ:
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، وَلَا
إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ: يَتَوَضَّأُ
بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُصَلِّي بَعْدَ التوضي صَلَاةً لَا
يُعِيدُهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ صَاحِبُ
مَالِكٍ: يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ
بِالْآخَرِ وَيُعِيدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ
فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اشْتِبَاهَ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ كَاشْتِبَاهِ
الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اشْتِبَاهِ
الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْتَهِدُ فِي اشتباه الطاهر
بالنجس، واستدل ابن الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ بِأَنَّهُ إِذَا
اسْتَعْمَلَهَا كَانَ على يقين
(1/344)
مِنِ ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَاسْتِعْمَالُ
مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِ حَدَثِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى
فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ
طَاهِرٍ وَوَجَدَ سَبِيلًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَتَيَمَّمَ، وَلَزِمَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا
وَاجِدٌ لِمَاءٍ طَاهِرٍ، وَقَادِرٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى
اسْتِعْمَالِهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ وَاجِبًا عَلَيْهِ
كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ بِارْتِيَادِ
دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَإِصْلَاحِ مَسِيلٍ وَتَنْقِيَةِ بِئْرٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ
عِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً، وَبِالظَّاهِرِ أُخْرَى جَازَ
التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْقِبْلَةِ، فَأَمَّا
اسْتِشْهَادُهُ بِاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اشْتِبَاهَ الْمَاءِ بالبول نادر فسقط الاجتهاد فيه
كاشتباه القبلة في الحضر، واشتباه الطاهر بالنجس عام فجاز الاجتهاد فيه
كاشتباه القبلة في السفر.
والثاني: أن البول لم يكن له مدخل في الإباحة بحال فسقط الاجتهاد فيه إِذَا
اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَالْمُذَكَّاةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيْتَةِ،
وَالْأُخْتُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالنَّجِسُ قَدْ كَانَ
لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ إِذَا
اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَاشْتِبَاهِ الثَّوْبَيْنِ وَالْقِبْلَتَيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَاجِشُونُ وَابْنُ
مَسْلَمَةَ أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي
صِحَّتِهَا كَرَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا حَمْلُ نَجَاسَةٍ
بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ فِيهَا رَفْعَ حَدَثٍ بِيَقِينٍ، فَلَأَنْ كَانَ
الْيَقِينُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ كَانَ
الْيَقِينُ فِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ،
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَى طاهرٍ،
وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ مِنْ جِنْسِهِ
كَأَوَانِي الْمَاءِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا وَاشْتَبَهَ بِالطَّاهِرِ
أَوْ كَالثِّيَابِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ
يُنَجَّسْ وَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ سَوَاءٌ اسْتَوَى
عَدَدُ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ أَوْ كَانَ عَدَدُ النَّجِسِ أَكْثَرَ مِنَ
الطَّاهِرِ أَوْ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجِسِ، وَقَالَ أبو
حنيفة: فِي الثِّيَابِ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَنَعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي
الْأَوَانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ
مُتَسَاوِيًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجْتَهِدْ فَيَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ
فِي الْإِنَاءَيْنِ وَفِي الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ النَّجِسُ اثْنَيْنِ،
وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ النَّجِسُ وَاحِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دَعْ
مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " وَكَثْرَةُ النَّجِسِ مُرِيبٌ،
فَوَجَبَ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُرِيبٍ
فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّيَمُّمِ بِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ
اسْتِوَاءَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَحْ بِهِ فِي حَالِ
الضَّرُورَةِ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْإِنَاءَيْنِ إِذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا مَاءً وَالْآخَرُ بَوْلًا، وَلِأَنَّ الأصول مقررة عَلَى أَنَّ
أَكْثَرَ الْحَظْرِ
(1/345)
يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ،
كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَكَثْرَةُ الْإِبَاحَةِ
تُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهَا فِي الْإِقْدَامِ كَالْأُخْتِ إِذَا
اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ، فَكَذَا الْأَوَانِي إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ
أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَكْثَرَ
غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الأَبْصَارِ) {الحشر: 2) وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ
إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَكْثَرَ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا
كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَقَلَّ كَالثِّيَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ
جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، جَازَ فِيهِ طَلَبُ
الطَّاهِرِ مِنَ الْمَاءِ كَالثَّلَاثِ إِذَا كَانَ أَحَدُهَا نَجِسًا
وَكَالْمَيْتَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمُذَكَّى عَكْسًا، وَلِأَنَّ
جِهَةَ الْحَظْرِ إِذَا الْتَبَسَتْ بِالْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَازَ
التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَلَبَةُ جِهَاتِ
الْحَظْرِ كَطَلَبِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ الأربع، وَالْقِبْلَةَ
فِي أَحَدِهَا؛ وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ
الطَّهُورِ فَجَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الْأَوَانِي كَالْيَقِينِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا
يَرِيبُكَ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى طَهَارَتِهِ قَدْ
زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ، وَالتُّرَابُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ قَدِ
انْتَقَلَتِ الرِّيبَةُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَمَّا
الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ
وَالْآخَرُ بَوْلٌ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنَ
الْفَرْقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ وَالْبَوْلِ
أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ الْمُبَاحِ
لَمْ يَجُزْ مَعَ غَلَبَةِ الْمَحْظُورِ، وَلَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي
الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إِذَا غَلَبَ الْمُبَاحُ جَازَ، وَأَمَّا
اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ الْحَظْرَ إِذَا غَلَبَ كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَبَ
اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا
يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ
أَغْلَبَ أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ
حَرُمْنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِنَّ، وَلَوِ
اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَّ لَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَمْ
يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّمَا يَتَغَلَّبُ
حُكْمُ الْحَظْرِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهِ، وَكَذَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ
الْإِبَاحَةِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهَا، وَلَيْسَ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي
تَغْلِيبِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اجْتِهَادِهِ فِي قَلِيلِ الْأَوَانِي
وَكَثِيرِهَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَمَتَى
لَمْ يَجِدْ مِنَ الطَّاهِرِ إِلَّا مَا اشْتَبَهَ بِالنَّجِسِ وَجَبَ
عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وإن وجد ماء طاهراً بيقين ومعه إناآن قَدْ
يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنْهُمَا مِنَ النَّجِسِ، لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى
الْعُدُولِ عَنْهُمَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ، لَكِنِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَمْ
لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي
شَرْحِهِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ
إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ
الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَلَا فِي
أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ صَاحِبُ هَذَا
الْوَجْهِ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: " وَلَوْ
كان في السفر وكان معه
(1/346)
إنا آن فَيَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا
نَجِسٌ وَالْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ تَأَخَّى " فَجَعَلَ السَّفَرَ شَرْطًا
فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَكُونُ السَّفَرُ شَرْطًا إِلَّا
لِعَدَمِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّ
أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا
بِمَاءٍ طَاهِرٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ،
وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى لَوِ اسْتَعْمَلَ مِنْ إِنَاءٍ عَلَى
شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ
طَرِيقِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِوُلُوغِ
كَلْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ
الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا
الْوَجْهِ وَاشْتِرَاطُ الشَّافِعِيِّ السَّفَرَ إِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ
الِاجْتِهَادِ لَا لِجَوَازِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا كَانَ مَعَهُ
إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَالْآخَرُ مَاءٌ
مُسْتَعْمَلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا
اسْتَعْمَلَهُمَا أَدَّى فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَرَادَ
الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا، نظر، فإن كان مضطر إلى شرب أحدهما جاز الاجتهاد
فيهما؛ لأن لا يقدر علم عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُضْطَرَّ
إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا، فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ
كَمَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ
تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا لَمْ يَجْتَهِدْ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ
مَاءً طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ
مَاءُ وَرْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ
الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي
التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ،
وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِخِلَافِ الْمَاءِ
وَالْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ
يَجْتَهِدَ فِيهِمَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ، لَا لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ؛
لِأَنَّ الشُّرْبَ يَخْتَصُّ بِالطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، وَهُمَا طَاهِرَانِ
فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي
الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ
الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّطْهِيرِ،
وَاجْتِهَادُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ وَأَنْ يَتَأَخَّى فِيهِمَا أَيُّهُمَا
مَاءُ الْوَرْدِ لِيَشْرَبَهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ
أَحَدَهُمَا ماء الورد أعده لشربه، بقي الْآخَرُ وَقَدْ خَرَجَ
بِالِاجْتِهَادِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَاءَ وَرْدٍ فَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَاءٌ
فَجَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ يَتَيَقَّنُ طَهَارَةَ
أَحَدِهِمَا، وَنَجَاسَةَ الْآخَرِ، وَقَدِ اشْتَبَهَا فَانْقَلَبَ
أَحَدُهُمَا أَوْ أَرَاقَهُ فَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ
مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ،
فَيَسْتَعْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهِ،
(1/347)
وَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ قَبْلَ
الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا
وَشَكَكْنَا فِي زَوَالِهَا بِإِرَاقَةِ أَحَدِهِمَا، وَالشَّكُّ لَا
يَرْفَعُ حُكْمًا ثَبَتَ بِيَقِينٍ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا دَلَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي
يُسْتَدْرَكُ بِهَا حَالُ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَجِهَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ،
وَمِنْهَا حَرَكَةُ الْمَاءِ وَاضْطِرَابُهُ، وَمِنْهَا آثَارُ نَجَاسَتِهِ
لِقُرْبِهِ، وَمِنْهَا انْكِشَافُ أَحَدِهِمَا، وَتَغْطِيَةُ غَيْرِهِ
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ
مَعَهَا فِي النَّفْسِ طَهَارَةُ الطَّاهِرِ وَنَجَاسَةُ النَّجِسِ،
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ اجْتِهَادُ الْأَعْمَى فِيهَا بِمَا عَدَا حَاسَّةَ
الْبَصَرِ مِنَ الرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ وَسَمَاعِ الحركة، والاضطراب
لاشتراك الأعمى والبصير في إدراكها بِالْحِسِّ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا اجْتَهَدَ
فِيهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَوَصَّلَ بِالِاجْتِهَادِ
إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ أَمْ لَا، فَإِنْ تَوَصَّلَ
بِالِاجْتِهَادِ إِلَى طَهَارَةِ أَحَدِهِمَا اسْتَعْمَلَهُ، وَيُسْتَحَبُّ
لَوْ أَرَاقَ النَّجِسَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ لِئَلَّا
يُعَارِضَهُ الشَّكُّ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي
اسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ وَاسْتَعْمَلَ الطَّاهِرَ جَازَ،
وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ
لِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ هُنَاكَ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَلَمْ
يُؤَدِّهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى شَيْءٍ، وَكَانَ الِاشْتِبَاهُ بَاقِيًا
فَيَنْبَغِي أَنْ يُرِيقَ أَحَدَ الْإِنَاءَيْنِ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ
بَلَغَا قُلَّتَيْنِ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَيَسْتَعْمِلُهُ وَيُصَلِّي
وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، فَيَتَيَمَّمُ
وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ
إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ
لَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَلَغَ
قُلَّتَيْنِ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ وَلَمْ يُعِدْ،
وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ
إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ قُلَّتَيْنِ فَيَلْزَمُ،
وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنِ اسْتِكْمَالَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ، وَجَازَ
لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَاءٍ
طَاهِرٍ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِنْ
أُشْكِلَ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ اجْتَهَدَ رَجُلَانِ فِي إِنَاءَيْنِ فَأَدَّى اجْتِهَادُ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى طَهَارَةِ مَا نَجَّسَهُ صَاحِبُهُ اسْتَعْمَلَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَاءَهُ الَّذِي بَانَ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ
طَاهِرٌ كَاجْتِهَادِ رَجُلَيْنِ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَتَيْنِ
مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ
بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِنَجَاسَةٍ،
فَإِنْ جَمَعَا بَطُلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَقَدْ
ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فَرْعًا يُغْنِي شَرْحُهُ عَنِ التَّفْرِيعِ عَلَى
هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ فِي خمسة توضؤوا وَسَمِعُوا مِنْ أَحَدِهِمْ
صَوْتًا فَنَفَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَمْسَةِ أَمَّ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ فِي صَلَاةٍ
مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَتَّى أَمَّ الْخَمْسَةُ فِي خمس صلوات.
فالجواب أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي أَوَّلِ
الْجَمَاعَاتِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ الظُّهْرُ
وَلَا فِي الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْعَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ
مِنَ الْإِمَامَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ،
فَأَمَّا الصَّلَاةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ فَلَا إِعَادَةَ
فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ
(1/348)
إِلَّا عَلَى الَّذِي أَمَّ فِي
الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الصَّوْتَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ائْتَمَّ بِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَقَدْ أَضَافَ
الصَّوْتَ إِلَى الرَّابِعِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْحَدَثِ وَمَنِ ائْتَمَّ
بِمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَهُ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ
الْخَامِسَةُ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَالْإِعَادَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عَلَى
الْمَأْمُومِينَ الْأَرْبَعَةِ لِإِضَافَتِهِمُ الْحَدَثَ إِلَى الْخَامِسِ
وَهُوَ الْإِمَامُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا
لَزِمَتْهُ إِعَادَةُ الرَّابِعَةِ الَّتِي كَانَ مَأْمُومًا فِيهَا.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا اسْتَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْإِنَاءَيْنِ مِنْ مَاءِ
أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَطَهَارَةُ
مَا تَرَكَهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ
يَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ
الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ اجْتَنَبَ
بَاقِيَ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَكَانَ نَجِسًا، وَاسْتَعْمَلَ الْإِنَاءَ
الْآخَرَ، وَكَانَ طَاهِرًا وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِمَا صَلَّى
بِالْأَوَّلِ، وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ
وَثِيَابِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجْتَنِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ،
وَيَسْتَعْمِلُ الثَّانِيَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي
وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُضِيَتْ
بِالِاجْتِهَادِ فَلَا تُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَسْتَعْمِلَ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، لِاعْتِقَادِهِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ
نَجِسٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَ نَجَاسَةَ مَاءٍ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَيْهِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنَ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِمَا نَفَذَ مِنَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ،
وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ لَمْ يُنْقَضْ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ
جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي قَدْ نَقَضَ الْحُكْمَ
الْأَوَّلَ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ وَغَسْلُ مَا
أَصَابَ مِنْ ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ هَذَا فَعَلِمَ
ثُبُوتَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الثَّانِي
وَتَرْكُ غَسْلِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ لَكَانَ حَامِلًا
لِنَجَاسَةِ يَقِينٍ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
(1/349)
|