|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (باب كيف
المسح على الخفين)
قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ ثورٍ بْنِ يزيدٍ عن
رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح أعلى الخف وأسفله واحتج بأثر ابن عمر
أنه كان يمسح أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: السُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَاهُ دُونَ أَسْفَلِهِ
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ
خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ
أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ أَعْلَى
خُفَّيْهِ؛ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى
مَسْحِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ غَيْرَ مَسْنُونٍ كَالسَّاقِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْسَحُ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ، وَلِأَنَّهُ
مَوْضِعٌ يَلْزَمُ سَتْرُهُ بِالْخُفِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ
مَسْنُونًا عَلَى الْقَدَمِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَمْسُوحٌ، فَكَانَ مِنَ
السُّنَّةِ اسْتِيعَابُ مَسْحِهِ كَالرَّأْسِ فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ
فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْخُفِّ
أَوْلَى مِنْ أَسْفَلِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْخِلَافُ
هَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضُمَّ مَسْحَ أَعْلَاهُ إِلَى مَسْحِ
أَسْفَلِهِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى السَّاقِ، فَالْمَعْنَى
فِيهِ إِنْ سَلِمَ الْوَصْفُ لَهُ أَنَّ السَّاقَ لَا يَلْزَمُ سَتْرُهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَغْمِسَ يَدَيْهِ فِي
الْمَاءِ ثُمَّ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُسْرَى تَحْتَ عَقِبِ الْخُفِّ
وَكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يُمِرُّ
الْيُمْنَى إِلَى سَاقِهِ وَالْيُسْرَى إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ".
(1/369)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا خَصَّ
الْيُمْنَى بِالْأَعْلَى وَالْيُسْرَى بِالْأَسْفَلِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ، وَقَالَتْ كَانَتْ يُمْنَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا عَلَا، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ يُسْرَاهُ لِمَا سَفُلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا كَانَ يَمْسَحُ، وَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا هَلْ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ مَسْحِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ
أَنْ يَمْسَحَ حَوْلَ الْعَقِبِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ
مَسْحَهُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
سُرَيْجٍ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي
مُخْتَصَرِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَنَّ مَسْحَهُ مَسْنُونٌ، وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا مَحَلِّ
الْفَرْضِ، فَلَوْ مَسَحَ الْأَعْلَى بِالْيُسْرَى وَالْأَسْفَلَ
بِالْيُمْنَى لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْأَدَبِ فِي الْفِعْلِ وَمُؤَدِّيًا
لسنة المسح.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ
وَتَرَكَ الظَّاهِرَ أَعَادَ وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ وَتَرَكَ
الْبَاطِنَ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: حَالُ كَمَالٍ وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ
وَأَسْفَلَهُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: حَالُ إِجْزَاءٍ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى
الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: حَالٌ لَا كَمَالَ فِيهَا وَلَا إِجْزَاءَ وَهُوَ
أَنْ يُمْسَحَ مَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ سَاقِ الْخُفِّ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ
أَسْفَلَ الْخُفِّ دُونَ أَعْلَاهُ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ
أَبُو الْعَبَّاسِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ
هُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَنَّ مَسْحَهُ لَا يُجْزِئُ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ
يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَحْكِهِ نَصًّا، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ
دَلِيلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ،
وَتَرَكَ الْبَاطِنَ، أَجْزَأَهُ، فَظَنَّ بِدَلِيلِ كَلَامِهِ أَنَّ
مَسْحَ بَاطِنِهِ دُونَ ظَاهِرِهِ لَا يُجْزِئُ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ أَبِي
الْعَبَّاسِ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ الدِّينُ
بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ
أَعْلَاهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يمسح على ظاهر خفه، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " لَكَانَ أَسْفَلُ
الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ " لِأَنَّهُ يُلَاقِي
الْأَنْجَاسَ، فَكَانَ مَسْحُهُ لِإِزَالَةِ مَا لَاقَى مِنَ النَّجَاسَةِ
أَوْلَى، لَكِنَّ الرَّأْيَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ مَسْحُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ؛
لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَسْحَ الفرض
(1/370)
كَالْأَعْلَى، وَأَمَّا مَسْحُ الْعَقِبِ
وَحْدَهُ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ
بِسُنَّةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ قِيَاسًا عَلَى السَّاقِ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ كَالْقَدَمِ
الْأَعْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وكيفما أتى بالمسح على طهر الْقَدَمِ
بِكُلِّ الْيَدِ أَوْ بَعْضِهِ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَاجِبُ مِنْ مَسْحِ
الْخُفِّ مَسْحُ بَعْضِهِ، وَإِنْ قَلَّ بِكُلِّ الْيَدِ أو بعضها، وقال
أبو حنيفة: الواجب مسح ثلاثة أَصَابِعَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ
عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، قَالَ: وَأَقَلُّ
الْأَصَابِعِ ثَلَاثٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَسْحُ،
دُونَ الْمَسِّ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَكُونُ مَسًّا وَلَا يَكُونُ
مَسْحًا؛ لِأَنَّ الْمَسَّ الْمُلَاقَاةُ، وَالْمَسْحُ أَنْ يَنْضَمَّ
إِلَى الْمُلَاقَاةِ إِمْرَارٌ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ
الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا انْطَلَقَ
اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّهُ أَتَى فِي
مَحَلِّ الْمَسْحِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ فَوَجَبَ
أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ، وَلِأَنَّ
التَّقْدِيرَ ثَلَاثٌ إِمَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ فِي
تَقْدِيرِهِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَصِحَّ
التَّقْدِيرُ، وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ
وَالْعَرْضِ فَصَارَتْ مَجْهُولَةً، وَالْمَقَادِيرُ لَا تَثْبُتُ
بِمَجْهُولٍ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَجْهُولٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دَونَهُ لَا يُجْزِئُ كَمَا رُوِيَ
أَنَّهُ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وأسفله، ولم يدل على أنه مَسْحَ
الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ لَا يُجْزِئُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا مَسٌّ لَا
مَسْحٌ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِمْرَارٌ فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى قَدِ
اجْتَمَعْنَا عَلَى إِبْطَالِهَا؛ لِاتِّفَاقِنَا أَنَّ الْإِمْرَارَ
لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ أَصَابِعَ مِنْ
غَيْرِ إِمْرَارٍ أَجْزَأَ، ونحن نقول: مثله فِيمَا قَالَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(1/371)
|