|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(كِتَابُ الصَّلَاةِ)
(بَابُ وقت الصلاة والأذان والعذر فيه)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ: وَقْتُ
مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَوَقْتُ عُذْرٍ، وَضَرُورَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ،
وَالسُّنَّةُ مَعًا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُ الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَهَذَا أَمْرٌ
بِمُدَاوَمَةِ فِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
[البينة: 5] فَالْحُنَفَاءُ: الْمُسْتَقِيمُونَ عَلَى دِينِهِمْ
كَقَوْلِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] فَأَمَرَ
بِعِبَادَتِهِ بِالْإِخْلَاصِ مَشْرُوطًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءِ الزكاة وقال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث} إِلَى قَوْلِهِ:
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، فَجَعَلَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِذْعَانَ
بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بَعْدَ
التَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " بُنِيَ
الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلًا ".
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ
عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ
مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّة فَأَمَرَهُمْ
بِأَرْبَعَةٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ
وَحْدَهُ قَالُوا: اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ
" فَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ
(2/3)
تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا
نصفه وانقص منه قليلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا}
[المزمل: 1] .
وَالْمُزَّمِّلُ: الْمُلْتَفُّ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ بِثِيَابِهِ مُتَأَهِّبٌ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا قَوْلُ
قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ
وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوًا
مِنْ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعَلِمَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَقَامُوا مَعَهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ
فَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- خَرَجَ كَالْمُغْضَبِ وَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ
اللَّيْلِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا
تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى
تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ ثُمَّ
نُسِخَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {علم أن لن تحصوه فتاب
عليكم فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] قَالَ: وَكَانَ
بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ:
إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَلَمَّا نُسِخَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرَضَ
اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
وَذَلِكَ عَلَى مَا حُكِيَ فِي شوال قبل الهجرة بستة عشر شهرا.
فروى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أهل نجد
ثابر الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ
حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي
الْيَوْمِ وَاللَيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا فَقَالَ: لَا
إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ
رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله كم أفرض اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ
الصَّلَوَاتِ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ قَالَ: هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ
بَعْدَهُنَّ شَيْءٌ؟ قَالَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ
خَمْسًا فَحَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَنْقُصُ منهن
فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ صَدَقَ دَخَلَ
الْجَنَّةَ.
(2/4)
وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ عَنِ
الْمَخْدَجِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ
كَتَبَهُنَّ اللَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ
يَنْقُصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ عَهْدًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ
خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَهُنَّ مُوَقَّتَاتٌ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، ثُمَّ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى
بِذِكْرِ أَوْقَاتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ثُمَّ
جَاءَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِوَصْفِ أَوْقَاتِهَا عَلَى التَّحْدِيدِ، فَأَمَّا مَا
دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ أَوْقَاتِهَا فَخَمْسُ آيَاتٍ
إِحْدَاهُنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ وله الحمد في السموات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ
تُظْهِرُونَ} [الروم: 17] . فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ
لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {فسبحان الله} أَيْ:
صَلُّوا لِلَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ:
الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ الْأَعْشَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
(وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى ... وَلَا تَعْبُدِ
الشيطان والله فاعبدا)
وقوله: " حين تمسون " يريد به المغرب، والعشاء " وحين تصبحون " يريد الصبح
" وعشيا " - يعني - صلاة العصر " وحين تظهرون " - يَعْنِي - صَلَاةَ
الظُّهْرِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ.
وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قَوْلُهُ: " وَسَبِّحْ " أَيْ: وَصَلِّ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - يَعْنِي - صلاة الصبح " وقبل الغروب " الظهر
والعصر " ومن الليل فسبحه " - يَعْنِي - صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ " وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ " تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَهَذَا
قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
(2/5)
وَالثَّانِي: أَنَّهَا النَّوَافِلُ فِي
أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ.
وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: {أقم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] . أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ مِنَ
النَّهَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ.
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى مَا حَكَاهُ
مُجَاهِدٌ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " وزلفا من الليل " رَوَى
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ.
وَمَعْنَى الزُّلَفِ مِنَ اللَّيْلِ: السَّاعَاتُ الَّتِي يَقْرُبُ
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ:
(طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا وَزُلَفًا ... ... ... ... ... ... ... .....)
وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ، أَمَّا دُلُوكُ الشَّمْسِ
فَهُوَ مَيْلُهَا وَانْتِقَالُهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ غُرُوبُهَا، وَأَنَّهُ عَنَى صَلَاةَ
الْمَغْرِبِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ زَيْدٍ،
اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رُبَاحٍ ... غَدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ)
- يَعْنِي: حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَالْبَرَاحُ: اسْمٌ لِلشَّمْسِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي وَجْزَةَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ،
وَمُجَاهِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو
قَالَ: قَالَ - رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بي الظهر.
(2/6)
وَأَمَّا غَسَقُ اللَّيْلِ فَفِيهِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: إِقْبَالُهُ وَدَبْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ،
فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ، وَعَلَى [التَّأْوِيلِ] الثَّانِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فَيُرِيدُ
بِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَسَمَّاهَا قُرْآنَ الْفَجْرِ لِمَا
يَتَضَمَّنُهَا مِنَ القراءة " إن قرآن الفجر كان مشهودا ". فروى أبو هريرة
عن النبي أَنَّهُ قَالَ: " يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ
النَّهَارِ "، وَهَذَا دَلِيلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَيْسَتْ
مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ.
وأما الآية الخامسة: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ،
فَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ
كُلِّهَا فَفِيهَا حَثٌّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَدَائِهَا فِي
أَوْقَاتِهَا، وَذَكَرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ
الصَّلَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا
قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لقوله: "
وقوموا لله قانتين "، وَأَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا
صَلَاةٌ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فِي سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ
لِتَأَكُّدِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ
فِيهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَضَوْءُ النَّهَارِ، وَتَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ
اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهُوَ قَوْلُ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قال أبو عمرو: هِيَ
الَّتِي تَوَجَّهَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - إِلَى الْقِبْلَةِ، وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدَّ
عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مِنْهَا قَالَ: فَنَزَلَتْ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الوسطى " وَقَالَ: إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاةٌ وَبَعْدَهَا صَلَاةٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ
عَلَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ،
وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لِرِوَايَةِ
عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ
(2/7)
إِلَّا بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ
قَالَ مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا
شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
وَرَوَى عمرو بن رافع عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِكَاتِبِ
مُصْحَفِهَا إِذَا بَلَغْتَ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَأَخْبِرْنِي
فَلَمَّا أَخْبَرَهَا قَالَتْ اكْتُبْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى " وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ
الْعَصْرِ ".
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَهُوَ قَوْلُ
قَبِيصَةَ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ الْعَدَدِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا
بِأَكْثَرِهَا وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا وَقْتًا
وَاحِدًا لَا تَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا
تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، لِأَنَّ إِبْهَامَهَا وَتَرْكَ تَعْيِينِهَا
أَحَبُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِجَمِيعِهَا وَأَبْعَثُ عَلَى
الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَائِرِهَا فَكَانَ أَوْلَى مِنَ التَّعْيِينِ
الْمُفْضِي إِلَى إهمال ما سوها، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي
الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى اختلافها، أما مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
فَالَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الصبح استدلالا، لكن مَهْمَا
قُلْتُ قَوْلًا فَخَالَفْتُ فِيهِ خَبَرًا فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ،
وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ نَقْلًا صَحِيحًا بِأَنَّهَا صَلَاةُ
الْعَصْرِ فَصَارَ مَذْهَبُهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي مَهَّدَهُ، أَنَّهَا
صَلَاةُ الْعَصْرِ دُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الصُّبْحِ، وَلَا يَكُونُ
ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فهذا ما ورد نفي
كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَا
جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِهَا أَوَّلًا وَآخِرًا
وَاخْتِيَارًا وَجَوَازًا.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
(2/8)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ
حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: "
أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى
الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ
حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ثَمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ
حِينَ أَفْطَرَ الصَائِمُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ غَابَ
الشَّفَقُ ثُمَ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ
عَلَى الصَّائِمِ ثُمَّ صَلَّى الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ الظُّهْرَ حِينَ
كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قدر ظله دون العصر بالأمس الْأَوَّلِ لَمْ
يُؤَخِّرْهَا ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثَا
اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ
فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ تَحْدِيدِ
الْأَوْقَاتِ.
(فَصْلٌ)
: وأما قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيِ الَّتِي
تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ
مَعْنَاهُ إِلَّا بِالْبَيَانِ؟ أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟
قِيلَ: وُرُودُ الْبَيَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْبَيَانِ فِي
مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرًا يُعْقَلُ
مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَرِدِ الْبَيَانُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ أَوْ
بِاسْتِعْمَالِ شُرُوطٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ الْعَرَبَ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ
بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى لَأَنْكَرُوهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ هَلْ
جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ أَوْ كَانَ
مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعُ الْمُخْتَصُّ بِبَيَانِ
الْأَحْكَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَحْدَثَ الْأَسْمَاءَ شَرْعًا كَمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ شَرْعًا،
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً
مِنْ قَبْلُ افْتَقَرَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ إِلَى أَسْمَاءٍ
مُسْتَحْدَثَةٍ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ
الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ، لِأَنَّ
الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ
الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لوردت شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ
بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، ولخرج
(2/9)
الْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ
صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]
فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَعْتَقِدُونَهَا عِبَادَةً
وَإِنْ كَانَتْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَفِي
التَّصْدِيَةِ تَأْوِيلَانِ:
أحدها: التَّصْفِيقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: الصَّدُّ عَنِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَابْنِ زَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ
الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي
اللِّسَانِ حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَكَانَتْ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا
الشَّرْعُ عَنْهُ وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ
لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا
اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ
الشَّرْعِيَّةُ صَلَاةً عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لما يتضمنها من
الدعاء والذي هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تعالى:
{وصل عليهم إن صلواتك سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أَيِ ادْعُ لَهُمْ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
(تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبَتْ مُرْتَجَلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ
أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا)
(عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتُ فَاغْتَمِضِي ... يَوْمًا فَإِنَّ
لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى
فَاعِلِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فِي دِينِهِ ودنياه والبركة وتسمى صلاة قال
الشاعر:
(وصهباء طاف بها يَهُودِيُّهَا ... وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خُتُمْ)
(وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا
وَارْتَسَمْ)
يَعْنِي: أَنَّهُ دَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّهَا تَقْضِي
إِلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُ
الشَّيْءِ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِهِ عليه مما ليس مقصود فِيهِ،
وَالْمَغْفِرَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}
[البقرة: 157] يُرِيدُ بِصَلَوَاتِ اللَّهِ: الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهُ
ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّحْمَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعٌ)
(2/10)
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ
اسْتِغْفَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والمستغفرين بالاسحار} يَعْنِي:
الْمُصَلِّينَ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ
إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى في الصلاة فأصابه مِنْ خَشْيَتِهِ
وَمُرَاقَبَتِهِ مَا يَلِينُ وَيَسْتَقِيمُ اعْوِجَاجُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ
التَّصْلِيَةِ يُقَالُ: صَلَّيْتُ الْعُودَ إِذَا لَيَّنْتُهُ بِالنَّارِ
فَيَسْهُلُ تَقْوِيمُهُ مِنَ الِاعْوِجَاجِ:
قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَلَكِنَّمَا صَلَّوْا عَصَا خَيْزُرَانَةٍ ... إِذَا مَسَّهَا عَضُّ
الثِّقَافِ تَلِينُ)
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ
يَتْبَعُ فِعْلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ
بِفِعْلِهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
تَابِعًا لَهُ مُصَلِّيًا ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
(أَنْتَ الْمُصَلِّي وَأَبُوكَ السَّابِقُ ... ... ... ...)
وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً وَفَاعِلُهَا
مُصَلِّيًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ صَلْوَيْ إِمَامِهِ
وَالصَّلَوَانِ عَظْمَانِ عَنْ يَمِينِ الذَّنَبِ وَيَسَارِهِ فِي مَوْضِعِ
الرِّدْفِ قَالَ الشاعر:
(تركت الرمح يعمل في صلاه ... ويكبوا للترائب والجبين)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ قَالَ الشافعي: " والوقت للصلاة
وقتان وقت مقام ورفاهية، وَوَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ " فَقَسَمَ
الشَّافِعِيُّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ قِسْمَيْنِ قِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا
لِلْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ، وَقِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا
لِلْمَعْذُورِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
الْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ هَلْ هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ؟ وَفِي
الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ هَلْ هُمْ أَيْضًا صِنْفٌ وَاحِدٌ؟
فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ
الْمَقَامِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ لِلْمُقِيمِينَ الَّذِينَ لَا
يَتَرَفَّهُونَ، وَوَقْتَ الرَّفَاهِيَةِ هُوَ آخِرُ الوقت للمقيمين الذي
لَا يَتَرَفَّهُونَ الْمُرَفَّهِينَ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ
الْوَقْتِ وَأَنَّ الْمَعْذُورِينَ هُمُ الْمُسَافِرُونَ وَالْمُضْطَرُّونَ
فِي تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ لِلْجَمْعِ وَأَنَّ الْمُضْطَرِّينَ هُمْ مَنْ
ذَكَرَهُمُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ
إِذَا طَهُرَتْ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ،
فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مُنَوَّعًا نَوْعَيْنِ
لِصِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ اخْتِلَافَ
الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ
مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو
عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهور أصحابنا بأن الْمُقِيمِينَ
الْمُرَفَّهِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُمْ: مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ أَوَّلِ
الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَإِنَّ الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ صِنْفٌ
وَاحِدٌ هُمُ: الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ
الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ،
وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُرِدْ
بِالْمَعْذُورِ الْمُسَافِرَ، وَالْمَمْطُورَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ
وَقْتٌ لِصَلَاتَيِ الْجَمْعِ وَقَدْ ذكره من بعد والله أعلم.
(2/11)
(فصل)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ
الظُّهْرِ وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ أَوَّلُ الصَّلَوَاتِ،
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأُولَى، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالظُّهْرِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ
حِينَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - وَفِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ عِنْدَ
قِيَامِ الظَّهِيرَةِ، وَأَوَّلُ وَقْتِهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ،
وَلَيْسَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ وَقَالَ
مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ
الذِّرَاعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ
لِرِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ
يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ". وَهَذَا مَعَ مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصلاة لدلوك الشمس}
أَنَّهُ زَوَالُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ
يَسِيرَ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَجَازَ لِكَثِيرِهِ،
وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ لَزِمَ تَأْخِيرُهَا
عَنِ الْوَقْتِ بِذِرَاعٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَجَازَ بِأَذْرُعٍ
وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الزَّوَالُ فَهُوَ ابْتِدَاءُ هُبُوطِ الشَّمْسِ بَعْدَ
انْتِهَاءِ انْدِفَاعِهَا وَمَعْرِفَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَزِيدَ الظِّلُّ
بَعْدَ تَنَاهِي مَقَرِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ كَانَ ظِلُّ
الشَّخْصِ طَوِيلًا فَكُلَّمَا ارْتَفَعَتْ قَصُرَ ظِلُّ الشَّخْصِ حَتَّى
تَنْتَهِيَ إِلَى وَسَطِ الْفُلْكِ، فَيَصِيرُ الظِّلُّ يَسِيرًا لَا
يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ نَحْوَ الْمَغْرِبِ
هَابِطَةً فَإِذَا ابْتَدَأَتْ بِالْهُبُوطِ ابْتَدَأَ الظل بالزيادة فأول
ما يتبدئ الظِّلُّ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ حِينَئِذٍ زَوَالُ الشَّمْسِ
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(هِيَ شَمْسُ الضُّحَى إِذَا انْتَقَلَتْ ... بَعْدَ سَيْرٍ فَلَيْسَ
غَيْرُ الزَّوَالِ)
وَاعْلَمْ: أَنَّ ظِلَّ الزَّوَالِ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَيَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ
تَنَقُّلِ الْأَزْمَانِ، فَيَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الْبَلَدِ
الْمُحَاذِي لِقِبْلَةِ الْفَلَكِ أَقْصَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ
الشَّمْسَ فِيهِ قَدْ تَسَامَتِ الشَّخْصَ حَتَّى قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ لَا
يَبْقَى لِلشَّخْصِ فِي مَكَّةَ ظِلٌّ وَقْتَ الزَّوَالِ فِي أَطْوَلِ
يَوْمٍ فِي السَّنَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ حُزَيْرَانَ ثُمَّ
يَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الصَّيْفِ أَقَلَّ مِنْهُ فِي الشِّتَاءِ،
لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْتَرِضُ وَسَطَ الْفَلَكِ وَيَكُونُ
زَوَالُهَا فِي وَسَطِهِ فَيَكُونُ الظِّلُّ أَقْصَرَ. وَفِي الشِّتَاءِ
تَعْتَرِضُ جَانِبَ الْفَلَكِ فَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي جَانِبِهِ
فَيَكُونُ الْفَلَكُ أَطْوَلَ وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ الزَّوَالِ
كَالْوَقْفَةِ لِإِبْطَاءِ سَيْرِهَا فِي وَسَطِ الْفَلَكِ قال الشاعر:
(2/12)
(فَعُدْ بَعْدَ تَفْرِيقٍ وَقَدْ وَقَفَتْ
... شَمْسُ النَّهَارِ وَلَاذَ الظِّلُّ بِالْعُودِ)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوَالَ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَصَفْنَا فَالنَّاسُ
ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَصِيرٌ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ وَلَا
يَسَعُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَوِي
الْبُصَرَاءُ فِيهِ فَلَمْ يَسَعْ بَعْضَهُمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ،
كَالْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ غَيْمًا رَاعَى الشَّمْسَ مُحْتَاطًا فَإِنْ
بَدَا لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِهَا وَإِلَّا تَأَخَّى مُرُورَ
الزَّمَانِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّيَ، فَلَوْ
سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَمْ يَسَعْهُ تَقْلِيدُهُ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ عَدَدًا فِي جِهَاتٍ
شَتَّى لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ فَهَذَا
مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُمْ فِي دُخُولِ
الْوَقْتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ
فِي الْوَقْتِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَلَا يَجُوزُ
تَقْلِيدُهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً قَالَ: لِأَنَّهُ فِي
الصَّحْوِ يُخْبِرُ عَنْ نَظَرٍ، وَفِي الْغَيْمِ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ لِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ مِنْ حَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ
خَفِيَ عَلَيْهِ الزَّوَالُ فَاجْتَهَدَ وَصَلَّى ثُمَّ بَانَ لَهُ
مُصَادَفَةُ الْوَقْتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ إما موديا فِي
الْوَقْتِ، أَوْ قَاضِيًا بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ بَانَ لَهُ تَقَدُّمُهُ
عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ. فِي
الْقِبْلَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ
فَهَلَّا كَانَ الْخَاطِئُ فِي الْوَقْتِ مِثْلَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا فِي وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن الوصول إلى يقين الْوَقْتِ مُمْكِنٌ بِالصَّبْرِ إِلَى يَقِينِ
دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَبَيُّنُ الْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا
بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَالْمَصِيرُ إِلَى نَفْسِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ
مُمْكِنٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَاطِئَ فِي الْوَقْتِ فَاعِلٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ
وُجُوبِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ، وَالْخَاطِئَ فِي الْقِبْلَةِ فَاعِلٌ لَهَا
بَعْدَ وُجُوبِهَا فَأَجْزَأَهُ وَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ
الِاجْتِهَادِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَدَأَ
بِالصَّلَاةِ شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ بَانَ
لَهُ بَعْدَ زَوَالِهَا، لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ غَيْرُ
مُجْزِئٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ
بَانَ لَهُ غُرُوبُهَا أَجْزَأَهُ فَهَلَّا كَانَ إِذَا صَلَّى شَاكًّا فِي
زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ زَوَالُهَا أَجْزَأَهُ؟ .
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا
بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا
بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى يُصَلِّيَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَرِيرًا، أَوْ مَحْبُوسًا لَا
يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يُقَلِّدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ غَيْرَهُ مِنَ الْبُصَرَاءِ
الثِّقَاتِ وَاحْتَرَزَ مَعَ قَوْلِهِ: دُخُولُ الْوَقْتِ
(2/13)
كَمَا يَجُوزُ لَهُ إِنْ كَانَ ضَرِيرًا
أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْقِبْلَةِ بَصِيرًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَصِيرًا
يُقَلِّدُهُ فِي الْوَقْتِ فَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ
إِذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْوَقْتِ،
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الضَّرِيرُ إِذَا عَدِمَ بَصِيرًا يُقَلِّدُ فِي
الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ أَصَابَ
فَهَلَّا إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ
وَإِنْ أَصَابَ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ
مَعْلُومٌ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَأَجْزَأَهُ لِاسْتِوَاءِ البصير والضرير
فيه والقبلة مدركة نحاسة الْبَصَرِ فَلَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِلَافِ
الضَّرِيرِ وَالْبَصِيرِ فِيهِ، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمًا حَتَّى
يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَأَمَّا
آخِرُ وَقْتِهَا فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى
مَا بَانَ بِهِ الزَّوَالُ مِنْ ظِلِّ الشَّخْصِ وَقَالَ أبو حنيفة فِي
رِوَايَةِ أبي يوسف عَنْهُ: إِنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدٌ إِلَى أَنْ
يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَحَكَى عَنْهُ الحسن بن زياد
اللؤلؤي مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَالِكٍ.
فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: " أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدُّ
إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: أَوَّلُ وَقْتِ
الْعَصْرِ مُشْتَرَكٌ مَعَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَحَكَى نَحْوَهُ عَنِ
الْمُزَنِيِّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَبِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَمَعَ بَيْنَ
الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ "
فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَوْقَاتَ
لَمْ تَقِفْ عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ حَتَّى زِيدَ فِي وَقْتِ عِشَاءِ
الْآخِرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَوَقْتِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ
الشَّمْسِ، وَوَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَقْتُ
الظُّهْرِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى كَافَّتِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَاءَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى
بِيَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ
الشِّرَاكِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانِ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ
قَدْرَ ظِلِّهِ دُونَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ وَقَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا
بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ "، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ
الزِّيَادَةِ عَلَى ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ بِوَقْتٍ لَهَا كَمَا
أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا، فَإِنْ قِيلَ:
فَتُحْمَلُ صَلَاةُ جِبْرِيلَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ
ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا حَمَلْنَا
صَلَاتَهُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزَّوَالِ عَلَى
ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ صَلَاتُهُ فِي
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْيَوْمِ
الثَّانِي إِلَّا عَلَى الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا فِي
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَحْدِيدُ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا يُمْكِنُ
تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَحْدِيدُ آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ
تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَرَوَى أَبُو
هُرَيْرَةَ
(2/14)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَآخِرُ وَقْتِ
الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَآخِرُ وَقْتِ
الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَهَذَا نَصٌّ
إِنْ كَانَ ثَابِتًا.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَمْسُ
إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ الرَّجُلِ بِطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ
" وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ جُمِعَتَا لِحَقِّ النُّسُكِ
فَأُولَاهُمَا أَقْصَرُهُمَا كَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ
الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِشْرَاكِ الْوَقْتِ رِوَايَةُ
قَتَادَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ
الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ
".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
لَيْسَ التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا
إِنَمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "،
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ، وَلِأَنَّهُ
لَمَّا امْتَنَعَ إِشْرَاكُ الْوَقْتَيْنِ فِيمَا سِوَى الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ،
وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرٌ
مَحْدُودٌ، وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ
منهما غير محدود؛ لأن الظهر تصير غير محدودة الانتهاء والعصر غير محدودة
الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمُسْتَعْمَلٌ عَلَى
أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الظُّهْرِ،
وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَإِمَّا فِي أَوْقَاتِ
أَصْحَابِ الْعُذْرِ، وَالضَّرُورَاتِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ
مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " فَقَوْلُهُ: " وَلَا مَطَرَ " زِيَادَةٌ
لَمْ تُعْرَفْ ثُمَّ لو سلمت لاستعلمت عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ يُصِيبُهُ وَقْتَ الْجَمْعِ لِخُرُوجِهِ مِنْ
بَابِ حُجْرَتِهِ الَّذِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ
مَوْجُودًا، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ بِأَنْ
صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا
فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ قَدْ
زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه:
أحدها: أنه يزيد فِيهَا بِالنَّصِّ، وَلَيْسَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ
مِنَ الظُّهْرِ نَصٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ زِيدَ فِي بَعْضِهَا فَالْمَغْرِبُ لَمْ
يَرِدْ فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ هُمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا زِيدَ فِي
وَقْتٍ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا لَمْ يُزَدْ فِي
وَقْتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ فِي أَوْقَاتِ بَعْضِ
الصَّلَوَاتِ فَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
(2/15)
النُّقْصَانُ مِنْ وَقْتِ شَيْءٍ مِنَ
الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا جَعَلَ الْوَقْتَ مُشْتَرِكًا كَانَ مَا زَادَ فِي
وَقْتِ الظُّهْرِ نُقْصَانًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ
يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ
مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَّا وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى
الْفَسَادِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مِنَ النُّقْصَانِ -
وَاللَّهُ أعلم -.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ زِيَادَةٍ
فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا تَجَاوَزَ ظِلُّ
كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ دَخَلَ أَوَّلُ وَقْتِ
الْعَصْرِ، وَخَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
بَيْنَهُمَا فَصْلٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ أَوَّلَ
وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ اسْتِدْلَالًا
بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ
مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبِ
الشَّمْسُ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال:
" مثلكم [و] مثل أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ
الْيَهُودُ، وَاسْتَأْجَرَ آَخَرَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ النَصَارَى، وَاسْتَأْجَرَ آخَرَ مِنَ
الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ أَلَا فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ
قَالَ: فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا مَا بَالُنَا نَحْنُ
أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا، قِيلَ: هَلْ نُقِصْتُمْ مِنْ
أَجْرِكُمْ شَيْئًا ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ "
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ
قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَقْصَرَ مِنْ وَقْتِ مَا قَبْلَهَا،
كَالصُّبْحِ مَعَ الْعِشَاءِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ
الْعَصْرَ حَتَّى صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ". وَرَوَى
عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلالا فأذن بالصلاة حين زاغت الشمس
مثل الشِّرَاكِ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ
ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، الْحَدِيثَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ
حَيَّةٌ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهَا
وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.
وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ
بِيِّنَةٌ فِي حجرته
(2/16)
لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ عَلَيْهَا " أَيْ:
لَمْ يَصْعَدْ ويرتفع والظهور والصعود، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:
{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] أَيْ: يَصْعَدُونَ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْجِيلًا
لِلْعَصْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
إِنْ كَانَ أَبْعَدُ الرَّجُلَيْنِ دَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو لُبَابَةَ وَأَبُو عَبْسٍ دَارُ أَبِي
لُبَابَةَ بِقُبَاءٍ، وَدَارُ أَبِي عَبْسٍ بِبَنِي حَارِثَةَ كَانَا
يُصَلِّيَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْعَصْرَ وَيَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا وَمَا صَلَّوْهَا لِتَبْكِيرِ رَسُولِ
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا.
وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَزُورًا أُرِيدُ أَنْ أَنْحَرَهَا
وَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا قَالَ: فَحَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنُحِرَتِ الْجَزُورُ وَقُطِعَتْ
وَطُبِخَتْ وَأَكَلْنَاهَا نَضِيجًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ".
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيمِ وَقْتِ الْعَصْرِ
وَامْتِدَادِهِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى مَا قَبْلَهَا
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَمَدَّ مِنْ وَقْتِ الَّتِي قَبْلَهَا
كَالْعِشَاءِ مَعَ الْمَغْرِبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، لِأَنَّ وَقْتَ اصْفِرَارِ
الشَّمْسِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَوَّلِهِ
وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَقَدُّمِهِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ الْأُجَرَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا يَرْجِعُ إِلَى
زَمَانِ الْفَرِيقَيْنِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى
الْعَصْرِ لَا إِلَى زَمَانِ أحدهما، لأنه إخبار منهما.
فَإِنْ قِيلَ: وَقَدْ قَالُوا وَنَحْنُ أَقَلُّ أَجْرًا وَلَيْسَ
الْفَرِيقَانِ أَقَلَّ أَجْرًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ أَجْرًا
قُلْنَا: الْأُجْرَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَإِنْ
كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِغَيْرِهَا فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْثَرُ
عَمَلًا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ لَا طُولِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ
بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ، فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا عَلَى أَنَّهُ مطرح مَعَ
مَا ذكرناه من الصن - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعَصْرِ قَائِمًا حَتَّى يصير
ظل كل شيء مثليه فمن جاوزه ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَهُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ فَائَتَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ
الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".
(2/17)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ
شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَفِي الْجَوَازِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ إِلَى
غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي
الِاخْتِيَارِ، وَالْجَوَازُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]- يَعْنِي - صَلَاةَ
الْعَصْرِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَفُوتُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ
الْأُخْرَى " وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: وَصَلَّى بِيَ
الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ
مِثْلَيْهِ ".
وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ
بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ حين زاغت الشمس مثل الشراك فصلى الظهر
ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إِلَى
أَنْ قَالَ وَصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ
كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ
فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ ذَكَرْنَا
تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ، أَوْ ذِكْرَهَا فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " تِلْكَ صَلَاةُ
الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثًا فَجَلَسَ
أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ
شَيْطِانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِمَا إِلَّا
قَلِيلًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَرَفَ أَوَّلَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ
فَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَ آخِرَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ كَالظُّهْرِ،
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ
أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ،
وَيُحْمَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى
وَقْتِ الْجَوَازِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِأَنْ يَصِيرَ
ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتِ
الِاخْتِيَارِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَبَاقٍ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ لِرِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ
الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ
الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".
(2/18)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَمْتَدُّ جَوَازًا إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَمَتَى أَدْرَكَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَدْرَكَ
صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا لَا قَاضِيًا،
وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى، وَإِنْ صَلَّى
رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَاقِيهَا بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ جَازَ وَكَانَ
مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
مَعْذُورٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ
خَيْرَانَ: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا غَيْرَ عَاصٍ
بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ
أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ:
أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ
قَاضِيًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهَا عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ
تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى " - وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ
وَالْأَذَانِ وَلَا وَقْتَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا كَمَا قَالَ: " وَأَوَّلُ وَقْتِ
الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ: أَنْ يَسْقُطَ الْقُرْصُ وَيَغِيبَ
حَاجِبُ الشَّمْسِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا
كَالْمُتَّصِلِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ أَحَدُ
قَرْنَيْهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا وَآخِرُ مَا يغرب منها واستشهد
بقول قيس بن الحطيم:
(تبدت لنا كالشمس تحت عمامة ... بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ
بِحَاجِبِ)
وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ
وَقْتِهَا إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- يُصَلِّي سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إِذَا غَابَ حَاجِبُهَا ".
وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَذَّنْتَ لِلْمَغْرِبِ
فَاحْدَرْهَا مَعَ الشَّمْسِ حَدَرًا ".
وَرَوَى " أَبُو نُعَيْمٍ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي
الْمَغْرِبَ ثُمَّ نَخْرُجُ نَتَنَاضَلُ حَتَّى نَبْلُغَ بُيُوتَ بَنِي
سَلْمَةَ فَنُبْصِرَ مَوَاقِعَ النَّبْلِ مِنَ الْأَسْفَارِ " فَإِذَا
ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا
وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَهَا وَقْتَانِ يَمْتَدُّ الثَّانِي مِنْهُمَا إِلَى
غُرُوبِ الشَّفَقِ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ
(2/19)
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ جُمْهُورُهُمْ
أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانِيَّ وَهُوَ
أَثْبَتُ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ حَكَى عَنْهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا
وَاحِدًا.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْتَيْنِ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ
الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ " وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ
بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ حِينَ غَرَبَتِ الشَمْسُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ
غَابَ الشَّفَقُ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا
وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ
وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ [الشَّفَقُ] ". وَبِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ
الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ " وَلَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا مَعَ طُولِهَا
إِلَّا مَعَ طَوِيلِ الزَّمَانِ فَدَلَّ عَلَى طُولِ الْمَغْرِبِ،
وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَقْتَيْنِ
كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا
فَوَجَبَ أَنْ يَتَّصِلَ وَقْتُهَا بِوَقْتِ مَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا،
كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ تَجِبُ عَلَى
الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْكَافِرِ إِذَا
أَسْلَمَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ وَقْتُهَا مَا
وَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهَا اعْتِبَارًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ
الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ثُمَ
صَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلْقَدْرِ الْأَوَّلِ
لَمْ يُؤَخِّرْهَا ".
وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ لِلسَّائِلِ صَلَّى
الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ وَفِي
الْيَوْمِ الثَّانِي لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ.
وَرَوَى مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ ظُهْرَيْنِ وَعَصْرَيْنِ
وَعِشَاءَيْنِ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَالْمَغْرِبَ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ ".
(2/20)
وروى يزيد بن أبي حبيب عَنْ مَرْثَدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا،
وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى " مِصْرَ " فَأَخَّرَ
الْمَغْرِبَ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ
الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ فَقَالَ: شُغِلْنَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا
تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى فِطْرَتِي مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى
أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ ".
فَكَانَ صَرِيحُ الْخَبَرِ، وَإِنْكَارُ أَبِي أَيُّوبَ دَلِيلًا عَلَى
أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ
الْمَغْرِبِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهَا لَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ سُنَّتُهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَّرَ
لَيْلَةً الْمَغْرِبَ حَتَّى طَلَعَ نَجْمَانِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ
قَالَ: " صَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَالْفِجَاجُ مُسْفِرَةٌ "، وَهَذَا
بِمَشْهَدِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ هَذَا مَعَ إِنْكَارِ أَبِي أَيُّوبَ
عَلَى عُقْبَةَ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوَاقِيتِ أَصْلًا
مُعْتَبَرًا وَلَكِنْ يُقَابَلُ بِهِ مَا أَوْرَدَهُ فَهُوَ أَنَّهَا
صَلَاةُ فَرْضٍ لَا تَقْصُرُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ
وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَعَدَدِهَا أَصْلُهُ
سَائِرُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا كَانَتْ شَفْعًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ
شَفْعًا فِي الْوَقْتِ، وَالْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتْ وِتْرًا فِي
الْعَدَدِ كَانَتْ وِتْرًا فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ
قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] أَنَّهَا
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالظُّهْرِ، وَوِتْرٌ
كَالْمَغْرِبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَدْ
رَوَاهُ شُعْبَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَقِيلَ:
إِنَّكَ وَصَلْتَهُ فَقَالَ إِنْ كُنْتُ مَجْنُونًا فَقَدْ أَفَقْتُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ فِي
الضَّعْفِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا يُحَدَّثُ بِهَذَا وَأُمْرِضَ سَمِعَهُ
فَضَرَبَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ فُضَيْلٍ،
وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا أَنَّ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا،
ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ لَجَازَ أَنْ
نَسْتَعْمِلَهَا عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدَامَةِ دُونَ الِابْتِدَاءِ عَلَى
مَذْهَبِ الْإِصْطَخَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ "
فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:
(2/21)
أَحَدُهَا: أَنَّ السُّورَةَ كَانَتْ
تَنْزِلُ مُتَفَرِّقَةً وَلَمْ تَكُنْ تَكَامَلُ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ
فَيَجُوزُ إِنْ قَرَأَهَا قَبْلَ تَكَامُلِهَا وَكَانَتْ آيَاتٍ يَسِيرَةً
أَلَّا تَرَى أَنَّ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ مَعَ قِصَرِهَا عَنِ
الْأَعْرَافِ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَرَأَ مِنْهَا الْآيَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ
الْأَعْرَافِ فَقِيلَ قَرَأَ الْأَعْرَافَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ
شَرِبْتُ مَاءَ الْمَطَرِ وَأَكَلْتُ خُبْزَ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا
أَكَلَ وَشَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، وَأَمَّا
قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا
شَفْعٌ فِي الْعَدَدِ، وَهَذَا وِتْرٌ فِي الْعَدَدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ
عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَمُنَازَعٌ فِيهِ بِمُعَارَضَةِ قِيَاسِنَا
لَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ
الضَّرُورَاتِ فَهُوَ: أَنَّ أَصْحَابَ الضَّرُورَاتِ وَالْأَعْذَارِ
يَلْزَمُهُمْ فَرْضُهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ وَقْتًا لَهَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي
الضرورات واحد.
(فصل)
: فإذا تقرر أن للمغرب وقتا واحد فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ
يَتَقَدَّرُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ
بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرَ مَا يَتَطَهَّرُ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ،
وَيُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ عَلَى مَهَلٍ،
فَهَذَا قَدْرُ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ إِلَّا
وَاحِدًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مَعْلُومًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ
بِالْفِعْلِ وَالْإِمْكَانِ مُقَدَّرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يُنْسَبْ فِي
الْعُرْفِ إِلَى تَأْخِيرِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَتَحَدَّدَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُخْتَلَفُ فِيهِ
بِالْعَجَلَةِ وَالْإِبْطَاءِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْوَقْتَيْنِ
يَتَقَدَّرُ أَوَّلُ وَقْتِهَا بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ، وَمَنْزِلَةُ
الْمَغْرِبِ فِي تَفَرُّدِهَا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ مَنْزِلَةَ
الْمُؤَقَّتِ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَقْتَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْرِيرُ
وَقْتِهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْعُرْفِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِدَامَتِهَا
أَمْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَائِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ
لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ، فَمَنْ تَجَاوَزَ هَذَا الْوَقْتَ
قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ صَارَ مُتَمِّمًا لَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا،
لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ لِلِابْتِدَاءِ
وَالِاسْتِدَامَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو
إِسْحَاقَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ دون الاستدامة، وأنه إذا بها
ابتدأ فِي هَذَا الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى غُرُوبِ
الشَّفَقِ اسْتِعْمَالًا لِلْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَتَلْفِيقًا بَيْنَ
مختلفها - والله أعلم -.
(2/22)
(مسألة)
: قال الشافعي: " فإذا غاب الشفق الأحمر فهو أول وقت العشاء الْآخِرَةِ
وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُكْرَهُ أَنَّ تُصَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِاسْمِ
الْعَتَمَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُسَمَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِرِوَايَةِ
الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هِيَ
الْعِشَاءُ إِلَّا أَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ ".
وَالْعُتْمُ: الْإِبْطَاءُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِعْتَامُ الْإِبِلِ هُوَ
تَأْخِيرُ عَلْفِهَا وَحَلْبِهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ عَاتِمُ الْقِرَى ... بَخِيلٌ ذَكَرْنَا
لَيْلَةَ الْهَضْبِ كَرْدَمَا)
وَلَا يَأْثَمُ مُسَمِّيهَا بِالْعَتَمَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا
بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ
يَنْهَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ
الْأَعْرَابُ عَلَيْهَا " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ وَقْتِ عِشَاءِ
الْآخِرَةِ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِجْمَاعًا إِلَّا أَنَّهُمَا شَفَقَانِ
الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ،
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ
الْأَحْمَرِ أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ؟ فَذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ
الْأَحْمَرُ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ،
وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،
وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ
مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف، ومحمد،
وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ دُخُولَ
وَقْتِهَا يَكُونُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ، وَبِهِ قَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:
78] يَعْنِي: إِظْلَامَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْبُوبَةِ
الْبَيَاضِ وَلِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي
عِشَاءَ الْآخِرَةِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأَفَقُ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ
الْعِشَاءِ تَتَعَلَّقُ بِغَارِبٍ وَصَلَاةَ الصُّبْحِ بِطَالِعٍ، فَلَمَّا
وَجَبَتِ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ
الْعَشَاءُ بِالْغَارِبِ الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ
الصُّبْحَ أَوَّلَ صَلَاةِ النَّهَارِ وَالْعَشَاءَ آخِرَ صَلَاةِ
اللَّيْلِ فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى
الشَّمْسِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَأَخِّرِ
عَنِ الشَّمْسِ.
وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَصَلَّى بِي جِبْرِيلُ الْعِشَاءَ حِينَ
غَابَ الشَّفَقُ " وَحَمْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَحْمَرِ أَوْلَى مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ اقْتَضَى أَنْ
يَتَنَاوَلَ أَوَّلُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ أَوَّلَ ذَلِكَ الِاسْمِ.
(2/23)
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ إِذَا
تَنَاوَلَ شَيْئَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَشْهَرِهِمَا
أَوْلَى، وَالْأَحْمَرُ مِنَ الشَّفَقَيْنَ أَشْهَرُ فِي اللِّسَانِ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَبَغْتُ ثَوْبِي شَفَقًا وَقِيلَ: فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] أَنَّهُ الْحُمْرَةُ
قَالَ الشَّاعِرُ:
(رَمَقْتُهَا بِنَظْرَةٍ مِنْ ذِي عَلَقْ ... قَدْ أَثَّرَتْ فِي خَدِّهَا
لَوْنَ الشَّفَقِ)
وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَنَا
أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ
الْآخِرَةِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَلَاثَةٍ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْقَمَرَ يَسْقُطُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ.
وَرَوَى سليمان بْنُ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ قَبْلَ
غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ
الْأَحْمَرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ الْأَحْمَرِ وَقَبْلَ
الْأَبْيَضِ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا
غَابَ الشَّفَقُ فَقَدْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ، وَالشَّافِعِيُّ رَوَاهُ
مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ
إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُمْ عَلَى
إِقَامَتِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْأَحْمَرِ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ
وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلِأَنَّ
الشَّفَقَ الْأَبْيَضَ قَدْ رُوعِيَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَبَعْضِ
الْبُلْدَانِ فَوُجِدَ لَابِثًا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَرُوِيَ عَنِ
الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: رَاعَيْتُهُ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى
طَلَعَ الْفَجْرُ. وَكَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ جَوٍّ إِلَى جَوٍّ، وَحَكَى
أَبُو عُبَيْدٍ عمن حدثه إذا رَاعَاهُ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ فَلَمْ يَغِبْ
حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَإِذَا كَانَ الْأَبْيَضُ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِصَلَاةٍ، وَلِأَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ
الْفَجْرَانِ، وَالشَّمْسُ، وَالْغَوَارِبُ ثَلَاثَةٌ الشَّفَقَانِ،
وَالشَّمْسُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ
الْأَوْسَطِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ
بِالْغَارِبِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ - وَلِأَنَّ
صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ مِنْ
صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِأَقْرَبِ الْفَجْرَيْنِ
من الشمس اقتضى أن تجب العشاء الشَّفَقَيْنِ مِنَ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّهَا
صَلَاةٌ تَجِبُ بِانْتِقَالِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ
تَتَعَلَّقَ بِأَنْوَرِهِمَا كَالصُّبْحِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَتَأْوِيلُ الْغَسَقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَحَدُ
تَأْوِيلَيْهِ أَنَّهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَدُنُوُّهُ فَسَقَطَ
الدَّلِيلُ بهذا التأويل.
(2/24)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ
وَظُلْمَتُهُ فَعَلَى هَذَا قَدْ يُظْلِمُ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ
الْأَحْمَرُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى وَقْتِهَا الثَّانِي، وَكَذَا الْجَوَابُ
عَنِ اسْوِدَادِ الْأُفُقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَمَدْفُوعٌ
بِمُعَارَضَتِنَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِدْلَالِنَا - وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بالصواب -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثم لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعِشَاءِ قَائِمًا حَتَّى
يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى حَسَبِ
اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ فَقَالَ فِي القديم، والإملاء: آخره نصف
الليل، وقال في الجديد: آخره ثُلْثِ اللَّيْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فَكَانَ جُمْهُورُهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ
قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ،
وقَتَادَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَوَجْهُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ
الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى
نِصْفِ اللَّيْلِ ".
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ
".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي
الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ
قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ.
وَوَجْهُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ عِشَاءَ
الْآخِرَةِ في اليوم الثاني حيث ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ " وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ سريج يمنع تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَجْعَلُ
اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فِيمَا حَكَيْنَا وَاخْتِلَافَ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ
فِيمَا ذَكَرْنَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ،
فَيَسْتَعْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ عَلَى أنه آخر
وقت الابتداء بها، وراوية مَنْ رَوَى إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ
آخِرُ وَقْتِ انْتِهَائِهَا حَتَّى لَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا
يَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مُخْتَلِفًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَجَاوَزَ هَذَا الْقَدْرَ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ،
ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَهَا فِي
الْجَوَازِ بَاقٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخَرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا اخْتِيَارًا وَجَوَازًا، وَمَنْ
فَعَلَهَا بَعْدَهُ كَانَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا
بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ دُونَ الرَّفَاهِيَةِ،
وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ "
الْأُمِّ " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَمَّا جَعَلَ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا
لِلْعَصْرِ، وَالْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا
لِلصُّبْحِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ مُدْرِكًا لِلْعَشَاءِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ
بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ وَقْتِهَا فِي
الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
فِي الْقَدِيمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا
تَفُوتُ صَلَاةٌ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا
كَانَ مَا بَعْدَ ثُلْثِ
(2/25)
اللَّيْلِ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْوِتْرِ
أَدَاءً وَلَا قَضَاءً وَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ اقْتَضَى أَنْ
يَكُونَ وَقْتًا لِلْعَشَاءِ أَدَاءً لَا قَضَاءً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ
التَّابِعَةَ إِنَّمَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْمَتْبُوعَةِ كَرَكْعَتِي
الفجر.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَذَانَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ
الصَّلَاةِ خلا الصبح فإنها يؤذن قبلها بليل وليس ذلك بقياس ولكنا اتبعنا
فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ
لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الصُّبْحَ
فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ
وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ،
وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ
الْأَذَانُ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِرِوَايَةِ شَدَّادٍ
عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- قَالَ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا "
وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضَا.
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ
قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَرْجِعُ فَيُنَادِي أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ
نَامَ فَرَجَعَ فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ ".
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَنْ يَرْقَى فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَرَقَا
وَهُوَ يَقُولُ:
(لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ ... وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ دَمٍ
جَبِينُهُ)
قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَذَانٌ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ
وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا
فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ".
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا كَانَ بِلَالٌ يُنَادِي لِلسُّحُورِ وَلَا
يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ
مُسْتَعْمَلٍ فِي جَمِيعِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُحُورًا لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ وَلَا
احْتَاجُوا إِلَى تَعْرِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أنه قال: " لا يمنعنكم أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِكُمْ فَإِنَّمَا
يُؤْذِنُكُمْ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُنَبَّهَ نَائِمُكُمْ ".
(2/26)
وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ
وَمَنْعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّؤَالِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ
زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَافَرْتُ مَعَهُ فَانْقَطَعَ
النَّاسُ عَنْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرِي فَلَمَّا
كَانَ أَوَّلُ آذان وقت الصبح أمرني أن أؤذن لِلصُّبْحِ فَأَذَّنْتُ
وَجَعَلْتُ أَقُولُ أُقِيمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا وَيَنْظُرُ إِلَى نَاحِيَةِ
الْمَشْرِقِ وَالْفَجْرِ فَلَمَّا بَرَزَ الْفَجْرُ نَزَلَ عَنْ
رَاحِلَتِهِ وَتَوَضَّأَ فَتَلَاحَقَ النَّاسُ بِهِ وَجَاءَ بِلَالٌ
لِيُقِيمَ فَقَالَ يَا بِلَالُ إِنَّ أَخَا صَدَا أَذَّنَ وَإِنَّمَا
يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ ".
وَهَذَا نَصٌّ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ قَالَ أَذَّنَّا فِي زَمَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقُبَاءٍ، وَفِي
زَمَنِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ فِي أَذَانِنَا لِلصُّبْحِ لِوَقْتٍ
وَاحِدٍ فِي الشِّتَاءِ، لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ يَبْقَى، وَفِي الصَّيْفِ
لِسَبْعٍ يَبْقَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ
مِنَ اللَّيْلِ لَا مِنَ النَّهَارِ فَدَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَذَانِ
عَلَى الْفَجْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ إِلَى طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقِيلَ:
هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ
فَيُضَافُ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَثَبَتَ
اسْتِدْلَالُنَا بِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
وَالشَّمْسِ يَكُونُ مِثْلَ سَبْعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي طُولِهِ
وَقِصْرَهِ وَهُوَ كَانَ يَتَقَدَّمُ لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى الفجر، ولأن الفجر يتعلق به عِبَادَتَانِ
الصَّوْمُ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ، فَلَمَّا جَازَ فِي الصَّوْمِ تَقْدِيمُ
بَعْضِ أَسْبَابِهِ عَلَى الْفَجْرِ، وَهُوَ النِّيَّةُ لِلْحَاجَةِ
الدَّاعِيَةِ إِلَى تَقْدِيمِهَا جَازَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ تَقْدِيمُ
بَعْضِ أَسْبَابِهَا وَهُوَ الْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ،
لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لَهَا فَيُدْرِكُونَ فَضِيلَةَ تَعْجِيلِهَا
فَكَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ
وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَجَازِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا
عَلَيْهِ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ جَهْرٍ فِي نَهَارٍ فَجَازَ
تَقْدِيمُ أَذَانِهَا قَبْلَ جَوَازِ فِعْلِهَا كَالْجُمْعَةِ يُؤَذَّنُ
لَهَا قَبْلَ خُطْبَتِهَا، وَلِأَنَّ الأذان إن جُعِلَ تَنْبِيهًا عَلَى
الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ جُعِلَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْفِعْلِ،
فَلَمَّا جَازَ إِيقَاعُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ جَازَ ارْتِفَاعُ
الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ
لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِقَامَةُ،
لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ أَذَانًا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلَّا الْمَغْرِبَ "
يَعْنِي: بَيْنَ كُلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
(2/27)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ، وَأَنَسٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُنَادِيَ
عَلَى نَفْسِهِ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِهِ عَلَى الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّهَا تُسَمَّى
أَذَانًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَخَّرَ الْأَذَانَ حَتَّى صَارَ مَعَ طُلُوعِ
الْفَجْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: "
أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ "، وَالنَّوْمُ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ
لَا التَّقْدِيمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا
تَأَهُّبُ النَّاسِ لَهَا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِاسْتِيفَاءِ
الظُّهْرِ وَالصُّبْحِ يَدْخُلُ وَقْتُهُمَا وَلَمْ يَتَأَهَّبِ النَّاسُ
لَهَا لِتَنَوُّمِهِمْ فَافْتَرَقَتِ الصُّبْحُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ
الصَّلَوَاتِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى
فِيهِ: أَنَّهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ
الْأَذَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالشَّافِعِيُّ حِينَ جَوَّزَ
تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ
بِقِيَاسٍ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ قِيَاسًا فَفِيهِ
جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَذَانِ
الْقِيَاسَ، وَلَكِنِ السُّنَّةَ ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ تَبَعًا
وَمُؤَكِّدًا، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حُكْمٌ
مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَلَيْسَ ذَاكَ بِقِيَاسٍ عَلَى سَائِرِ
الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كان قياسا على غيرها لمنع ذَاكَ مِنْ تَقْدِيمِ
الْأَذَانِ لِغَيْرِ الصُّبْحِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا جَائِزٌ فَمِنَ
السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهَا أَذَانَيْنِ أَذَانٌ قَبْلَ الْفَجْرِ،
وَأَذَانٌ بَعْدَهُ ثُمَّ يُقَامُ لَهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ فِعْلِهَا أَلَا
تَرَى إِلَى قَوْلِهِ " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ "، وَلَا يَحْمِلُ
أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ
أَذَّنَ ".
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الصُّبْحِ قَائِمًا بَعْدَ
الْفَجْرِ مَا لَمْ يُسْفِرْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الصُّبْحِ فَهُوَ طُلُوعُ
الْفَجْرِ، وَالْفَجْرُ هُوَ ابْتِدَاءُ تَنَفُّسِ الصُّبْحِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وَقَالَ
الشَّاعِرُ:
(حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا
لَيْلُهَا وعسعسا)
(2/28)
وَسُمِّيَ فَجْرًا: لِانْفِجَارِ الضَّوْءِ
مِنْهُ وَهُوَ فَجْرَانِ فَالْأَوَّلُ أَزْرَقُ يَبْدُو مِثْلَ الْعَمُودِ
طُولًا فِي السَّمَاءِ لَهُ شُعَاعٌ ثُمَّ يَهْمَدُ ضَوْؤُهُ ثُمَّ يَبْدُو
بَيَاضٌ.
الثَّانِي بَعْدَهُ عَرَضًا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ... وَأَوَّلُ الْغَيْثِ
قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
الْفَجْرَيْنَ أَنَّهُ قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ
مُسْتَطِيلٌ وَالثَّانِي مُسْتَطِيرٌ " فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
صِفَةِ الْفَجْرَيْنِ فَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَجِبُ بِالثَّانِي مِنْهُمَا
دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ
أَحَدَ الْفَجْرَيْنَ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ دَقِيقٌ
صعد لا يحرم الطول وَلَا يُحِلُّ الصَّلَاةَ ".
وَرَوَى سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا
يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَكِنَّ الْفَجْرَ
الْمُسْتَطِيلَ فِي الْأُفُقِ " فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى
افْتِرَاقِ حُكْمِ الْفَجْرَيْنِ وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِي الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْعَرَبُ
تُسَمِّي الْأَوَّلَ الْفَجْرَ الْكَذَّابَ، لِأَنَّهُ يَزُولُ وَلَا
يَثْبُتُ، وَتُسَمِّي الْفَجْرَ الثَّانِيَ الْفَجْرَ الصَّادِقَ،
لِأَنَّهُ صَدَقَكَ عَنِ الصُّبْحِ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
(شَغَفَ الْكِلَابُ الضَّارِيَاتُ فُؤَادَهُ ... فَإِذَا بَدَا الصُّبْحُ
الْمُصَدِّقُ يَفْزَعُ)
يُرِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ يَأْمَنُ بِاللَّيْلِ فَإِذَا بدا الصبح فزع من
القناص يَجِيءُ نَهَارًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَقَدِ
اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ
النَّهَارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ حُكِيَ ذَلِكَ
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيِمَانِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ
صَالِحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ
النَّهَارِ عُجَمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَالْعِيدَيْنِ "، وَلِأَنَّهُ
لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلِ اقْتَضَى أَنْ
يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِهَا مِنَ اللَّيْلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ النَّوْمِ وَلَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ
النَّهَارِ وَلَا مِنْ صلاة الليل لقوله تعالى: {يولج الليل في النهار
ويولج النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] فَاقْتَضَى أَنْ
(2/29)
يَكُونَ زَمَانُ وُلُوجِ اللَّيْلِ فِي
النَّهَارِ وَلَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَيَكُونَ
اللَّيْلُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ لَيْلًا
وَهُوَ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالنَّهَارُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ
شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ نَهَارًا، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وأبي حنيفة، أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ
النَّهَارِ، وَأَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [الإسراء: 78] . وَالْمُرَادُ
بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ
الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى النَّهَارِ وَلِأَنَّنَا
وَجَدْنَا ضِيَاءَ النَّهَارِ يَطْرَأُ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي
الْفَجْرِ كَمَا طَرَأَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ عَلَى ضِيَاءِ النَّهَارِ فِي
الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْمَغْرِبِ لَا
لِلزَّائِلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْفَجْرِ مِنَ
الضِّيَاءِ لَا لِلزَّائِلِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ
مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ
النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ
اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ
أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فَوَقْتُهَا فِي
الِاخْتِيَارِ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ الْإِسْفَارُ لِرِوَايَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ " وَتَبَيَّنَ وُجُوهُ الْقَوْمِ " ثُمَّ يَكُونُ
مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ مِنْ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ
الشَّمْسِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُ الصُّبْحِ بِالْإِسْفَارِ فِي
الِاخْتِيَارِ وَالْجَوَازِ حَتَّى يَكُونَ فَاعِلُهَا قَاضِيًا، وَهَذَا
غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: "
وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ".
(مسألة)
: قال الشافعي: " فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ
رَكْعَةً منها فقد خرج وقتها فاعتمد في ذلك على إمامة جبريل بالنبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ
الصَّلَاةِ الْخَمْسِ فِي أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَمَا
يَتَعَقَّبُهَا أَوْقَاتُ الْجَوَازِ مِنْهَا، وَهِيَ أَوْقَاتُ
الْمُرَفَّهِينَ، وإذا كان كذلك مقدرا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ
تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَوْ بِآخِرِهِ؟ فَمَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَكْثَرِ الفقهاء، أنها تجب بأول وقت
وَرَفَّهَ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فَحَكَى عَنْهُ محمد بن شجاع
البلخي مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَحَكَى أبو الحسين الكرخي أَنَّ جَمِيعَ
وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا، وَيَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ
بِفِعْلِهَا أَوْ بضيق وقتها،
(2/30)
وَحَكَى جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا
تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى هَذَا
الْمَذْهَبِ. فَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا تَمْنَعُ
مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً
مُرَاعَاةً، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ
الْوَقْتِ تَيَقُّنًا أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَإِنْ زَالَ عَنْ صِفَةِ
التَّكْلِيفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَهَكَذَا قَالَ فِي
تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ
أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا
بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِيهِ وَلَا يَقْضِي
بِتَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِي تَأْخِيرِهَا لِإِبَاحَةِ
التَّأْخِيرِ عَلَى صِفَةِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَزْمِ فَإِنْ أَخَّرَهَا
مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى فِعْلِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَاصِيًا،
وَإِنْ كَانَ لَهَا مُؤَدِّيًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ إِذَا بَقِيَ
مِنْهُ قَدْرُ الْإِحْرَامِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: تَجِبُ
إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَحَّ فِي
أَوَّلِ الْوَقْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي زَمَانٍ لَمْ
يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا
جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانٍ لَمْ يَجِبْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا جَازَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ
الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ
الْوَقْتِ وَتَجِبُ بِآخِرِهِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَالْحَوْلِ
فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ
الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ
ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ،
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي أَنْ تَجِبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَا
بِأَوَّلِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ لَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوَّلَ الْوَقْتِ
وَآخِرَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ - يَعْنِي - وَقْتَ الْوُجُوبِ
وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ
عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ
فِعْلِهَا الْمَتْبُوعُ وَقْتًا لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالصِّيَامِ،
وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّيًا كَانَ
الْفَرْضُ بِهِ وَاجِبًا كَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ
الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ
عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْوَقْتِ مِنْ أَحْكَامِ
الصَّلَاةِ شَيْئَانِ، الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ
الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، فَأَوَّلُ الْوَقْتِ
أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، لِأَنَّ أَوَّلَهُ
مَتْبُوعٌ، وَآخِرَهُ تَابِعٌ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ أَصْلٌ، وَالْأَدَاءَ
فَرْعٌ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءُ
وَهُوَ فَرْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ
أَصْلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ
فَهُوَ: إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ
وَقْتٌ إِلَى بَدَلٍ وَهُوَ فِعْلُهَا فِي ثَانِي وَقْتٍ وَتَرْكُ
الشَّيْءِ إِلَى بَدَلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ،
كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَمْ
يَدُلُّ تَرْكُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
بِوَاجِبٍ، كَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ
الْوَاجِبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقُ الْوَقْتِ فَمَا ضُيِّقَ وَقْتُهُ
فَحَدُّهُ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَا وُسِّعَ وَقْتُهُ فليس حده
(2/31)
مَا ذَكَرُوهُ [وَالصَّلَاةُ وُسِّعَ
وَقْتُهَا، وَلَمْ يُضَيَّقْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ] مِنَ الْجَمْعِ
بَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَحَوْلَ الزَّكَاةِ فَجَمْعٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ
الزَّكَاةَ تَجِبُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ، وَالصَّلَاةَ تَجِبُ قَبْلَ
خُرُوجِ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي
الْوُجُوبِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ
فَاسْتِقْرَارُ فَرْضِهَا يَكُونُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ: أَنْ
يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ،
وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ فَرْضُهَا بِهَذَا الزَّمَانِ
الَّذِي أَمْكَنَ فِيهِ أَدَاؤُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُوبِهَا بِأَوَّلِ
الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الزَّمَانِ كَانَ مَيِّتًا
بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ دُخُولِ
الْوَقْتِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَجِبُ
الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِآخِرِهِ قَالَ:
لِأَنَّ فَرْضَهَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ
الْأَدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ
وَقْتِهَا، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا
سَافَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلَّ عَلَى أن الفرض لم يكن قد استقر وإن
بآخر الوقت يستيقن، قال أبو يحيى البخلي: - مِنْ أَصْحَابِنَا - إِنَّ
الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ
إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فِيهَا مُعْتَبَرًا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ
فَاسِدٌ، وَاعْتِبَارُ الْإِمْكَانِ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ أَوْلَى
وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَمَّا
كَانَ الْإِمْكَانُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا كَانَتْ حُقُوقُ
الْأَبْدَانِ أَوْلَى وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ
دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، لِأَنَّ
الْقَصْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سِمَةً فِي
اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ، وَالْمَرَضَ لَمَّا
كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْعَلَا سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ
الْفَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ
فَمَتَى أُتِيَ بِالصَّلَاةِ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الوقت وآخره كانت أَدَاءً
مُجْزِيًا إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ
وَالسَّلَامُ مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ
بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ لَا أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً،
وَكَانَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا؛ وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ
الْوَقْتِ فَسَلَّمَ مِنْهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَإِنْ كان لعذر في
التأخير أجزأته أداء، فإن كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَتْهُ، وَهَلْ
يَكُونُ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَدَاءً، أَوْ قَضَاءً؟
عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ فَعَلَى
هَذَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَالرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَتِ الصَّلَاةُ
مُجْزِئَةً [أَمَّا] إِذَا كَانَ مَعْذُورًا وَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ
يَكُنْ مَعْذُورًا وَلَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي أَثْنَائِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ: " إِنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَيْطَانِ " فَكَانَتِ
الصَّلَاةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
تَقَعَ مَوْقِعَ صَلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ
مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [أَدَاءً وَالْمَفْعُولَ منها بعد
(2/32)
طُلُوعِ الشَّمْسِ قَضَاءً] وَالصَّلَاةُ
الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَبَعَّضَ حُكْمًا فِي الْأَدَاءِ
وَالْقَضَاءِ فَبَطَلَتْ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصُّبْحَ " فَجَعَلَهُ مُدْرِكًا وَمُصَلِّيًا.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَطَالَ صَلَاةَ
الصُّبْحِ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ أَطَلْتَ الصَّلَاةَ حَتَّى
كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ: " لَوْ طَلَعَتْ مَا وَجَدَنَا
اللَّهُ غَافِلِينَ "، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ
يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ وَقْتِ
الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ،
وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُبْطِلْ غَيْرَ الصُّبْحِ لَمْ يُبْطِلِ الصُّبْحَ
كَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ طَرْدًا، وَالْحَدِيثِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ
النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَالنَّهْيِ عَنِ
الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ مِنَ
الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ صَارَ
خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، فَالْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ أَوْلَى، أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ
خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عن حيزه
وَاسْتِدْلَالِهِ وَلِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ
ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّهْيِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ
الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ
الْعِبَادَةِ أَغْلَظُ شُرُوطًا من استدامتها - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَالْوَقْتُ الْآخَرُ هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ
وَالضَّرُورَةِ فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رَجُلٍ فَأَفَاقَ وَطَهُرَتِ
امْرَأَةٌ مِنْ حيض أو نفاس وأسلم نصراني وبلغ صبي قبل مغيب الشمس بركعة
أعادوا الظهر والعصر، وكذلك قبل الفجر بركعة أعادوا المغرب والعشاء، وكذلك
قبل طلوع الشمس بركعة أعادوا الصبح وذلك وقت إدراك الصلوات في العذر
والضرورات وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك ركعة قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ
أَدْرَكَ الْعَصْرَ ومن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ
تَطْلُعَ الشمس فقد أدرك الصبح " وأنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر
بعرفة وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة فدل على أن وقتهما
للضرورات واحد وقد قال الشافعي إن أدرك الإحرام في وقت الآخرة صلاهما جميعا
(قال المزني) ليس هذا عندي بشيء وزعم الشافعي أن من أدرك من الجمعة ركعة
بسجدتين أتمها جمعة ومن أدرك منها سجدة أتمها ظهرا لقول النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة "
ومعنى قوله عندي إن لم تفته وإذا لم تفته صلاها جمعة والركعة عند الشافعي
بسجدتين (قال المزني) قلت وكذلك قوله عليه السلام " من أدرك من الصلاة ركعة
قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " لا يكون مدركا
لها إلا بكمال
(2/33)
سجدتين فكيف يكون مدركا لها والظهر معها
بإحرام قبل المغيب فأحد قوليه يقضي على الآخر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَصْلِ وَقْتِ
الْإِقَامَةِ وَالرَّفَاهَةِ. فَأَمَّا وَقْتُ أَهْلِ الْعُذْرِ،
وَالضَّرُورَةِ كَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، إِذَا طَهُرَتَا،
وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَا، وَالصَّبِيِّ إِذَا
بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَهُمْ
أَهْلُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِدْخَالُ
الْكَافِرِ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، قِيلَ:
لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِإِسْلَامِهِ وَسَقَطَ
عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ،
وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ صَارَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ حُكْمًا فِي
الْإِسْقَاطِ، وَالْإِيجَابِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ
فِي الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ
لَزِمَهُ تَكْلِيفُ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْكَلَامِ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَا يُدْرِكُونَهُ مِنَ الْوَقْتِ.
وَالثَّانِي: مَا يُدْرِكُونَ بِهِ مَا يَجْمَعُ إِلَى صَلَاةِ ذَلِكَ
الْوَقْتِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُدْرِكُونَ بِهِ صَلَاةَ
ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ أَدْرَكُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ
أَدْرَكُوا صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ
طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ عِشَاءِ
الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا
صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ
بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً
مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ
وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ
فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ "، فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكُوا مِنَ الْوَقْتِ
أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَيَسْتَوِي حُكْمُ مَا نَقَصَ عَنِ الرَّكْعَةِ
بِأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ أَوْ قَدْرَ الْإِحْرَامِ مِنْهَا،
وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى سَوَاءٍ وَفِي إِدْرَاكِهِمْ لِصَلَاةِ ذَلِكَ
الْوَقْتِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ.
وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهَا
بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ
فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ
الْجُمْعَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ
مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ
مُتَعَلِّقًا بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يُدْرِكُونَ صَلَاةَ
ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة
لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ
سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ
مِنَ الصُّبْحِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ
(2/34)
أَدْرَكَ "، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ
الصَّلَاةِ بِزَمَانِ رَكْعَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِمَا لِذَلِكَ الزَّمَانِ
مِنَ الْحُرْمَةِ، وَحُرْمَةُ قَلِيلِ الزَّمَانِ كَحُرْمَةِ كَثِيرِهِ
فَوَجَبَ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ الزَّمَانِ،
وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا
لِلرَّكْعَةِ فِي إِدْرَاكِ صَلَاةِ الْوَقْتِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هريرة فالمراد به إدراك الصلاة فيكون بإدراك بعض
وقتها، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
وَأَمَّا الْجُمْعَةُ فِي أَنَّ إِدْرَاكَهَا لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ
رَكْعَةٍ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا بِأَقَلَّ مِنْ
رَكْعَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتِيَ
بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ تَغَلَّظَ
حُكْمُهَا؛ فَلَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ، وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ
لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ
الْوَقْتِ خَفَّ حُكْمُهَا فَأَدْرَكَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهَذَا
فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِدْرَاكَ نَوْعَانِ: إِدْرَاكُ إِلْزَامٍ،
وَإِدْرَاكُ إِسْقَاطٍ، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ
إِلَّا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا لَمْ
يُسْقِطْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الرَّكْعَةَ، فَكَذَا الْجُمْعَةُ لَمَّا
كَانَ فِي إِدْرَاكِهَا إِسْقَاطٌ لَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ.
وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِلْزَامِ فَيَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ
كَمُسَافِرٍ أَدْرَكَ خَلْفَ مُقِيمٍ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَهُ
الْإِتْمَامُ فَكَذَا مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ
لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِلْزَامِ وَهَذَا
فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْفِعْلِ،
وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ فلم يصير مُدْرِكًا إِلَّا بِمَا
يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهَا، وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تُدْرَكُ
بِالزَّمَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الزَّمَانِ فَصَارَ
مُدْرِكًا لَهَا بِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو
حَامِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ إِذَا أَدْرَكَ
قَبْلَ غُرُوبِ الشمس بقدر الإحرام ومدركا لعشاء الْآخِرَةِ إِذَا أَدْرَكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ، وَمُدْرِكًا
لِلصُّبْحِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ
الْإِحْرَامِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي إِدْرَاكِ الصَّلَاةِ الْمَجْمُوعَةِ
إِلَيْهَا كَإِدْرَاكِ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِدْرَاكِ
الْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ
يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي
الْجَدِيدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي
الْجَدِيدِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ أَدْرَكَ الظُّهْرَ
فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِقَدْرِ
الْإِحْرَامِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِرَكْعَةٍ عَلَى الْقَدِيمِ
وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ
بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(2/35)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي
الْجَدِيدِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ
مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ
مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ حَتَّى يَنْضَمَّ
إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ زَمَانٌ آخَرُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ
عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ:
أَحَدُهُمَا: زَمَانُ طَهَارَةٍ يَنْضَمُّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ
حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، لِأَنَّ
الرَّكْعَةَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ بِهَا إِدْرَاكُ الْعَصْرِ لِتَكُونَ
قَدْرًا مُعْتَدًّا بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَهَارَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ
رَكَعَاتٍ تَنْضَمُّ إِلَى الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا
لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ لِيُدْرِكَ زَمَانَ
إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بِكَمَالِهَا وَبِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ
الْأُخْرَى فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَمْسِ رَكَعَاتٍ
مَا هِيَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ
هِيَ الْعَصْرُ وَرَكْعَةٌ مِنَ الظُّهْرِ فَعَلَى هَذَا لَا يُدْرِكُ
الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ أَرْبَعٍ
هي العشاء وركعة من المغرب.
الوجه الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الظُّهْرُ،
وَرَكْعَةٌ مِنَ الْعَصْرِ، لِأَنَّ الْعَصْرَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ نَصًّا،
وَإِجْمَاعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُهَا [بِأَرْبَعِ
رَكَعَاتٍ] فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةَ
بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ثَلَاثٌ مِنْهَا
الْمَغْرِبُ وَرَكْعَةٌ مِنْ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَضَحَ مَا
ذَكَرْنَا صَارَ فِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّانِي: بِالْإِحْرَامِ، وَفِي إِدْرَاكِ الظُّهْرِ مَعَهَا
أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ.
وَالرَّابِعُ: بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ عِشَاءِ
الْآخِرَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ، وَفِي إِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ
أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: بالإحرام أيضا.
(2/36)
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ.
وَالرَّابِعُ: فِيهِ وَجْهَانِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ هُوَ خَمْسُ رَكَعَاتٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ
الصُّبْحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ وَلَا يُدْرِكُ مَعَ الصُّبْحِ غَيْرَهَا، لِأَنَّ
صَلَاةَ الصُّبْحِ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يَصِيرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ
مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ
شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ
تَغْرُبَ الشَمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ
بِالرَّكْعَةِ مِنَ الْحُكْمِ إِدْرَاكَ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ،
وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ
لَا يَلْزَمَ فَرْضَهَا، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ لَمْ يُدْرِكِ
الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَصْرُ
بِإِدْرَاكِ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا
لَمْ يَلْزَمْهُ الظُّهْرُ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ
وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصلاة طرفي النهار} [الإسراء:
78] وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ
مُجَاهِدٍ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعَلَّقَهُمَا بِطَرَفِ
النَّهَارِ، وَطَرَفُهُ آخِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ
وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ
الْعَصْرِ فِي [أَدَاءِ] الْمَعْذُورِينَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ
وَالْمَمْطُورِينَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَدَاءً لَا قَضَاءً
فَكَانَ إِدْرَاكُ الْعَصْرِ إِدْرَاكًا لَهُمَا لِاشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا،
وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَقْتُ الظُّهْرِ أَنَّهُ لا
يدرك به صلاة العصر، لأنها وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ
الْمَعْذُورِينَ فَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَمْطُورِينَ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ
وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَقْتٌ لَوْ أُخِّرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ إِلَيْهِ
كَانَتْ أَدَاءً فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَازِمَةً بِهِ قِيَاسًا
عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتٍ
فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْعَصْرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ
إِثْبَاتَ الْعَصْرِ بِهِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الظُّهْرِ عَنْهُ، لِأَنَّ
إِثْبَاتَ الشَّيْءِ يُوجِبُ نَفْيَ ضِدِّهِ، وَلَا يُوجِبُ نَفْيَ
غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصُّبْحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ يُنَافِي وَقْتَهَا
فِي العذر والضرورات.
(2/37)
(فَصْلٌ)
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي زَوَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْذَارِ،
وَالضَّرُورَاتِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا إِذَا
طَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ عَلَى إِنْسَانٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ
الصَّلَوَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِحُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي
إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِحُكْمِ
صَلَاةِ الْوَقْتِ الَّذِي طَرَأَ الْعُذْرُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْحُكْمُ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ
بِهِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَيُسْقِطَانِ فَرْضَ الصَّلَاةِ
لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَيْضِ "، وَأَمَّا الْكُفْرُ إِذَا
طَرَأَ بِالرِّدَّةِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِ
أبي حنيفة، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهِ،
وَأَمَّا الْجُنُونُ فَيُسْقِطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا لِسُقُوطِ
التَّكْلِيفِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ
"، وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَدَامَ
جَمِيعَ وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اسْتَدَامَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
حَتَّى دَخَلَتِ الصَّلَاةُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ سَقَطَ فَرْضُهَا،
وَإِنْ قَصَرَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ حَتَّى لَمْ تَدْخُلِ
الصَّلَاةُ فِي التَّكْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا وَلَزِمَ
إِعَادَتُهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ - الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ،
وَالْعِشَاءُ، - فَلَمَّا أَفَاقَ قَضَاهَا قَالَ: وَلِأَنَّ الْخَمْسَ فِي
حَدِّ الْقِلَّةِ، وَلَيْسَ فِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ، وَالزِّيَادَةَ
عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَفِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ قَالَ:
وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا
يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَالسُّكْرِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ
أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الرَّجُلُ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَقَالَ: "
لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إِلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ
فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا "، هَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ زَوَالَ
الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ
الطَّوِيلَةِ لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ
الْقَصِيرَةِ كَالْجُنُونِ طَرْدًا، وَالسُّكْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ
صَلَاةٍ لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُهَا فِي الْجُنُونِ لَمْ يُقْضَ
فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُهَا فِي الْإِغْمَاءِ لَمْ يُقْضَ قِيَاسًا
عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ طَرْدًا، وَكَوَقْتِ
الظُّهْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى يَسْقُطُ مَعَهُ أَدَاءُ
الصَّلَاةِ يَسْقُطُ مَعَهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، كَالصِّغَرِ، وَلِأَنَّ
زَوَالَ الْعَقْلِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ
وَكَثِيرُهُ كَالسُّكْرِ، وَضَرْبٌ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ
(2/38)
فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ
وَكَثِيرُهُ كَالْجُنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ
الْإِغْمَاءِ مُلْحَقًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ
عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ
اسْتِحْبَابًا.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُلْحِقُ فِي إِعَادَتِهِ
مَشَقَّةً فَيَعْسُرُ بِالْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ إِعَادَةَ
الْقَلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةٌ وَأَمَّا
اعْتِبَارُهُمُ الصَّلَاةَ بِالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ عَلَى قَوْلِنَا،
وَقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ الصَّوْمَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ،
وَالصَّلَاةَ عِنْدَهُمْ لَا تَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا كَثُرَتْ،
فَالْمَعْنَى الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ فِي الْإِغْمَاءِ بَيْنَ كَثِيرِ
الصَّلَاةِ وَكَثِيرِ الصِّيَامِ بِمِثْلِهِ فَرَّقْنَا بَيْنَ كُلِّ
الصَّلَاةِ وَكُلِّ الصِّيَامِ، وَثَمَّ يُقَالُ: لَهُمُ الصَّوْمُ
أُدْخِلَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ
نُوجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصِّيَامَ وَلَا نُوجِبُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ بِالْإِغْمَاءِ
وَالْجُنُونِ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فطرآن هَذِهِ الْأَعْرَاضُ بَعْدَ
دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَطْرَأَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، نُظِرَ فَإِنْ مَضَى
مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ
رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَحْدَهَا دُونَ الْعَصْرِ،
لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ
الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِآخِرِ
الْوَقْتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فَإِنْ مَضَى مِنْ وَقْتِ
السَّلَامَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَطَرَأَتْ هَذِهِ
الْأَعْذَارُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ فَرْضُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا
بِزَمَانِ الْإِمْكَانِ يَسْتَقِرُّ، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ:
قَدْ لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ
يَجِبُ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، قَالَ: وَفِي إِدْرَاكِ
الْعَصْرِ مَعَهَا قَوْلَانِ، فَجَعَلَ أَبُو يَحْيَى إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ
مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ
الْعَصْرِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ آخِرِ
وَقْتِ الْعَصْرِ مُمْكِنٌ فَلَزِمَ بِهِ الْفَرْضُ، وَالْبِنَاءَ عَلَى
مَا أُدْرِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ
يَلْزَمْ بِهِ الْفَرْضُ - وَاللَّهُ أعلم -.
(2/39)
|