|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (بَابُ مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ
شِدَّةِ الخوف)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ قِتَالٍ كَانَ فَرْضًا أَوْ
مُبَاحًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ
أَرَادَ دَمَ مُسْلِمٍ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ فَلِمَنْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ
وَمَنْ قَاتَلَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ
فَعَلَ أَعَادَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْقِتَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ،
وَمَعْصِيَةٌ.
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْبُغَّاءِ.
فَلِلْمُقَاتِلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِمَا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَمَّا
الْمُبَاحُ: فَقِتَالُ الرَّجُلِ عَنْ مَالِهِ وَحَرِيمِهِ. وَلَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ: فَقِتَالُ
الْإِمَامِ اللُّصُوصَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ. وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ
الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي هَذَيْنِ
الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رُخْصَةٌ، وَالرُّخَصُ
تُسْتَبَاحُ فِي الْمُبَاحِ كَاسْتِبَاحِهَا فِي والواجب قِيَاسًا عَلَى
الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ كَاللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ
الطَّرِيقِ إِذَا طُلِبُوا فَخَافُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا
صَلَاةَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخَصِ،
فَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانُوا كَالْآمِنِينَ إِذَا صَلَّوْا
صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَعَادُوا، وَإِنْ صَلَّوْا غَيْرَهَا مِنْ
صَلَوَاتِ الْخَوْفِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كَانُوا مُوَلِّينَ لِلْمُشْرِكِينَ
أَدْبَارَهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى
فِئَةٍ وَكَانُوا يُومِئُونَ أَعَادُوا لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ عَاصُونَ
وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ لِعَاصٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أول الإسلام على كل رَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ
تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذين
كفروا} كلما كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ
وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يقاتل
اثنين
(2/476)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى:
{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 66)
وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَانْهَزَمُوا مِنْ
أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ
الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا مِنْ مِثْلِهِمْ فَمَا دُونَ نُظِرَ فِي
حَالِهِمْ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لِيَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ
يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ
الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا
مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ
الْخَوْفِ لِأَنَّهُمْ عَاصُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (الأنفال:
14) وَلَا فَرْقَ فِي الْفِئَةِ الَّتِي تَنْحَازُ إِلَيْهَا بَيْنَ أَنْ
تَكُونَ بَعِيدَةً أَوْ قَرِيبَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ
انْهَزَمُوا مِنَ الْعِرَاقِ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا قِتَالَ
مِثْلَيْهِمْ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَرَّفُوا
لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلا وُسْعَهَا) {البقرة: 286) .
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ،
إِذْ لَا يُعْدَمُ الِانْحِيَازُ إِلَى فِئَةٍ قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ
وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أبو
حنيفة: كَانَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَا
مَعًا وَعَلَيْهِمْ أن يقاتلوا ما أمكن.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ غَشِيَهُمْ سَيْلٌ وَلَا يَجِدُونَ
نَجْوَةً صَلَّوْا يومئون عدوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرِكَابِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا غَشِيَهُمْ سَيْلٌ أَوْ
ظَلَّهُمْ سَبُعٌ أَوْ ضال عَلَيْهِمْ فَحْلٌ أَوْ أَظَلَّهُمْ حَرِيقٌ
وَلَمْ يَجِدُوا نَجْوَةً عَالِيَةً وَلَا جَبَلًا مَنِيعًا وَخَافُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ دُونَ
أَنْفُسِهِمْ فسعوا لصلاحهم فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ
الْخَوْفِ فَإِنْ غَشِيَهُمْ غَرَقٌ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِهِ أَوْ
هَدْمٌ إِنْ تَنَحَّوْا عَنْ مَسْقَطِهِ أَوْ حَرِيقٌ فِي صَحْرَاءَ إِذَا
تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِ الرِّيحِ سَلِمُوا لَمْ تُجْزِهِمْ إِلَّا صَلَاةٌ
لَوْ كَانَتْ في غير الخوف أجزأتهم.
(2/477)
|