|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي بَابُ بَيَانِ وَقْتِ فَرْضِ الْحَجِّ
وَكَوْنِهِ عَلَى التراخي
قال الشافعي رضي الله عنه: " أُنْزِلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَتَخَلَّفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ لَا
مُحَارِبًا ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج
وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو
كان كمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها مَا تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الفرض ولا ترك المتخلفون عنه ولم يحج -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام وهي
حجة الوداع وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بالمدينة تسع سنين ولم يحج ثم
حج (قال الشافعي) فوقت الحج ما بين أن يجب عليه إلى أن يموت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَالْأَوْلَى بِهِ تَقْدِيمُهُ
وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ، وَفِعْلُهُ مَتَى شَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ
الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ
الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ، وأبو يوسف
فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِمَنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لأبى حنيفة فِيهِ نَصٌّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ
قَالَ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: تَعَجَّلُوا الْحَجَّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ مَا
يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ
وَيَضِلَّ الضال وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حُجُّوا
قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا " فَأَمَرَ بِالْمُبَادَرَةِ، وَبِرِوَايَةِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ زَادًا
وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ الْبَيْتَ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ
يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا
وَقْتٌ مَعْلُومٌ، لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، فَوَجَبَ
أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالصِّيَامِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ
قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ آثِمًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ
لَمْ يَأْثَمْ بِتَأْخِيرِهِ وَدَلِيلُنَا، هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ
نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَخَلَّفَ
(4/24)
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -، وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ قَادِرِينَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ
ثُمَّ حَجُّوا، فَإِنْ قِيلَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ عَشْرٍ
لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ منِ
اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ،
وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ فَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ قِيلَ:
الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ فِيهَا
بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ فَأُحْصِرَ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ فَإنْ
أحصْرِتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَإِنْ قِيلَ:
فَإِنَّمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ، ولم يأمرهم أن يبتدوا
حَجًّا قِيلَ: فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ تَارَةً
وَالِابْتِدَاءُ تَارَةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ
كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ
بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ
أَرَادَ إِنْشَاءَهَا، وَابْتِدَاءَهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ ضمام بن ثعلة، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ
أَشْيَاءَ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ
تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى
أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَلَا يُنْكِرُ
نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) {آل
عمران: 97) سنة تسع، أو عشر عَلَى وَجْهِ تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ
قِيلَ: فَرْضُ الْحَجِّ إِنَّمَا اسْتَقَرَّ سَنَةَ عَشْرٍ بَعْدَ أَنْ
تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ سَنَةَ سِتٍّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي حَجِّهِ
سَنَةَ عشرٍ: أَلَا إِنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات
وَالْأَرْضَ قِيلَ: فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ حُصُولَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا قَدَّمُوهُ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ،
وَرُبَّمَا أَخَّرُوهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَادَ تَحْرِيمُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، بَعْدَ
أَنْ كَانَ مُبَاحًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ،
لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ، وَخَوْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، قِيلَ: مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ،
وَذَاكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ فَأَحَلَّ ثُمَّ صَالَحَ
أَهْلَ مَكَّةَ، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَيُقِيمَ
بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَقَضَاهَا سَنَةَ تِسْعٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ
عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَصَارَتْ
دَارَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ فَحَجَّ فِيهَا
بِالنَّاسِ، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ
وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
غَيْرَ مَشْغُولٍ بحربٍ وَلَا خَايِفٍ مِنْ عَدُوٍّ، ثُمَّ أَنْفَذَ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ نُفُوذِ أَبِي بَكْرٍ، يَأْمُرُهُ
بِقِرَاءَةِ سُورَةِ
(4/25)
بَرَاءَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَلِمَ
أَنْفَذَهُ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلِمَ أَخَّرَهُ؟ وَلَوْ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَمْنُوعًا مِنَ
الْحَجِّ، لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ
كَانَ خَائِفًا عَلَى أَصْحَابِهِ لَمَا أَنْفَذَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ
سَنَةَ تِسْعٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَأَخَّرَ
لِيَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ فَيُبَيِّنَ الْحَجَّ لِجَمِيعِهِمْ، وَهَذَا
مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، قِيلَ: هَذَا ظَنٌّ قَدْ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِيُبَيِّنَ جَوَازَ
التَّأْخِيرِ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ نُسُكَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ مَا
ذَكَرْنَاهُ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قال: من أراد الحج فليتعجل فعلته بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّهُ
لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِيمَا
بَعْدُ لَمْ يُسَمَّ قَاضِيًا، وَلَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فَعُلِمَ
أَنَّ وَقْتَهُ مُوَسَّعٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُ جَايِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ
الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا سُمِّيَ مَنْ أَخَّرَ فِعْلَهُ
قَاضِيًا، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرَتْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ فَقُلْتَ:
لِأَنَّهُ أُتِيَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ
الْأَدَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهُ أَصْلُهُ إِذَا حَجَّ
عُقَيْبَ الْإِمْكَانِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وُسِّعَ وَقْتُ
افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُوَسَّعَ وَقْتُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ،
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ قِيلَ: قَدْ
بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ، وَهُوَ
الِاحْتِيَاطُ خَوْفَ الْمَرَضِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ "
حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ مَاتَ
قَبْلَ فِعْلِهِ، وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَأَمَّا
قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ يُسَمَّى
قَاضِيًا بِتَأْخِيرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ مَاتَ آثِمًا
عَاصِيًا قُلْنَا: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ،
كَمَا يُنْسَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى يَعْرِضَ
لَهُ عَجْزٌ أَوْ مَوْتٌ إِلَى التَّفْرِيطِ لَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ،
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا
أُبِيحَ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا أَمِنَ الْفَوَاتَ، كَمَا أُبِيحَ
لِلرَّجُلِ ضَرْبُ امْرَأَتِهِ عَلَى شُرُوطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ أَدَّى
إِلَى التَّلَفِ عُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا
قُلْنَا: إِنَّهُ مُفْرِطٌ عَاصٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُفْرِطٌ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفْرِطٌ مِنْ آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(4/26)
باب بيان وقت الحج
والعمرة
قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) الْآيَةَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَشْهُرُ
الْحَجِّ شَوَّالٌ وذو القعدة مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ
فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلَى الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فقد فاته
الحج وروي أن جابر بن عبد الله سئل أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ قال لا وعن
عطاءٍ أنه قيل له أرأيت رجلاً مهلاً بالحج في رمضان ما كنت قائلاً له؟ قال:
أقول له اجعلها عمرة وعن عكرمة قال لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحج إلا في
أشهر الحج من أجل قول اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
أَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ،
بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197)
شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى
طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: شُهُورُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ إِلَى
آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ،
فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كُمَّلًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ
عُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ فَأَمَّا
أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ
الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي
الحَجِّ) {البقرة: 197) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ حَرُمَ
عليه الوطء في أشهر الحج، ووطء الحج فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَرَامٌ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ
مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ يَوْمُهَا مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ
كَاللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ
(4/27)
عَلَى أَنَّ شُهُورَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ
كَامِلَةٌ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة:
197) وَالْأَشْهَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ
الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ ثَلَاثَةٌ وَلِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ، كَانَ أَوَّلُهُ
مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ آخِرُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَالْأَوَّلِ،
وَالثَّانِي وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)
{البقرة: 197) الآية وَفِيهَا دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ
لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ عِنْدُنَا جَوَازُ الْإِحْرَامِ
فِيهَا بِالْحَجِّ وَعِنْدَهُمُ اسْتِحْبَابُ الْإِحْرَامِ فِيهَا
بِالْحَجِّ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِمَا
قَبْلَهُ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ فِيهِ بِالْحَجِّ لَا
يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَمَا
بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ زَمَانٌ لِإِدْرَاكِ
الْحَجِّ، وَآخِرُ زَمَانِ الْإِدْرَاكِ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ
النَّحْرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ
أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَعُلِمَ
أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ،
وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ لَمْ
يَلْزَمْهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ، فَلَيْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَصْلُهُ
رَمَضَانُ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ
الدَّمُ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ
الدَّمُ بِوَجْهٍ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ
لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ،
وَيَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّهُ يَوْمٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ، فَوَجَبَ
أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ،
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَهُوَ
مِنَ النَّحْرِ، قُلْنَا: قَدْ يُمْكِنُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِيهِ، وَهِيَ
أَنْ يُعَجِّلَ الرَّمْي، وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ فَيَسْتَبِيحَ فِيهِ
الْوَطْءَ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى:
{الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَقَلُّ
الْجَمْعِ قُلْنَا: إِنَّمَا أَرَادَ أَفْعَالَ الْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ
مَعْلُومَاتٍ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَإِنَّمَا تَقَعُ
أَفْعَالُهُ فِي الزَّمَانِ، وَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ
الشَّهْرِ كَانَ وَاقِعًا فِي الشَّهْرِ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْجَمْعِ
قَدْ يَقَعُ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ)
{البقرة: 228) وَالْمُرَادُ بِهِ قُرْآنُ، وَبَعْضُ ثَالِثٍ فَسَقَطَ مَا
قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَلَا يَجُوزُ لأحدٍ أَنْ يَحُجَّ قَبْلَ
أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ فَإِنَهَا تَكُونُ عُمْرَةً كرجلٍ دَخَلَ
فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِلَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ
بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ
إِحْرَامُهُ عُمْرَةً.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ وابن عباس.
(4/28)
وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ
وَعَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ
بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ) (البقرة: 189) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا وَقْتٌ
لِلْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَتَجِبُ
فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِزَمَانٍ
كَالْعُمْرَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ
وَمَكَانٍ، فَالزَّمَانُ هُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْمَكَانُ هُوَ
الْمِيقَاتُ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، جَازِ
تَقْدِيمُهُ عَلَى الزَّمَانِ وَعَكْسُ هَذَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ،
لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى زَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ
عَلَى مَكَانِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَصِحُّ
فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَهُوَ
شَوَّالٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَدَلِيلُنَا قَوْله
تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) وَفِي ذَلِكَ
دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) يُرِيدُ
وَقْتَ الْحَجِّ فَجَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا فَلَوِ انْعَقَدَ
الْإِحْرَامُ فِي غَيْرِهَا، لَمْ تَكُنِ الْأَشْهُرُ وَقْتًا لَهُ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي بَعْضِ وَقْتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ
أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ،
وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَكَانَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا يَخْتَصُّ
بِهَا، بَلْ يَصِحُّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنِ الْوُقُوفُ فِي
جَمِيعِهَا حَصَلَ الِاخْتِصَاصُ لَهَا، بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ:
الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، فَإِنْ قَالُوا:
لَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا مِنَ الْحَجِّ قُلْنَا هُوَ عِنْدَنَا مِنَ
الحج، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا جُعِلَ وَقْتُ اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ
أشهر إلا وَقْتَ انْعِقَادِهِ، وَجَوَازِهِ قِيلَ: يَفْسُدُ عَلَيْكُمْ
بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا
يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ
يَخْتَصَّ بِوَقْتٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ.
أَصْلُهُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَصِحُّ
اسْتِدَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ تِلْكَ
الْعِبَادَةِ فِيهِ.
أَصْلُهُ: الْجُمُعَةُ إِذَا صَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، لَمَّا لَمْ
يَصِحَّ اسْتِدَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهَا
فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّ بَعْضُ أَفْعَالِهَا بِزَمَانٍ
مَخْصُوصٍ اخْتُصَّ الْإِحْرَامُ بِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ كَالصَّوْمِ،
وَعَكْسُهُ الْعُمْرَةُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ بِهَا مُؤَقَّتًا كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا
الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَةِ قُلْ
هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ) {البقرة: 189) فَالْجَوَابُ عَنْهَا
مِنْ وَجْهَيْنِ:
(4/29)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ
هُوَ الْإِحْرَامُ بِهِ لَا جَمِيعُ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ الْإِحْرَامُ
عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَجِّ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَهِلَّةَ وَلَمْ
يُبَيِّنْهَا، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِمَا أَطْلَقَ مِنَ الْأَهِلَّةِ مَا فَسَّرَهُ فِي الْآيَةِ
الْأُخْرَى وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُمْرَةِ،
فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بَعْضَ أَفْعَالِهَا بِوَقْتٍ
مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ لَمَّ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِوَقْتٍ
مَخْصُوصٍ، فَخَالَفَ الْحَجَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ
لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ كَذَلِكَ عَلَى الزَّمَانِ
قُلْنَا: إِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ
لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ لَا تَجُوزُ وَلَمَّا كَانَتْ مُجَاوَزَةُ
الزَّمَانِ تَجُوزُ كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ جَازَ
التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ مُجَاوَزَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ
فَائِدَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي
وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْحَجِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَأَيُّ أَصْلٍ دَلَّكُمْ عَلَى هَذَا، ثُمَّ هُوَ
بَاطِلٌ بِالصَّلَاةِ يَصِحُّ الْإِحْرَامْ بِهَا عُقَيْبَ الزَّوَالِ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، لَا
يَجُوزُ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ،
وَانْعَقَدَ عُمْرَةً.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَبْطُلُ إِحْرَامُهُ بِبُطْلَانِ مَا
قَصَدَهُ، وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٌ فَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ
رواية ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ
فَقَالَ يُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ فِي قَصْدِهِ بَيْنَ
الْإِحْرَامِ وَالْحَجِّ، فَإِذَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ حَجَّهُ لَمْ
يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، وَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ،
وَهُوَ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ
الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ فَرْضًا لِمُنَافَاةِ الْوَقْتِ
صَحَّتْ نَفْلًا.
مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَوَقْتُ الْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ
الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ
الْعُمْرَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَذَا خَطَأٌ
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةُ إِلَى
الْعُمْرَةِ كَفَارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَخْتَصَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِزَمَانٍ لَمْ يَخْتَصَّ
الْإِحْرَامَ لَهَا بِزَمَانٍ كَالطَّوَافِ لَهَا وَالسَّعْيِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ، فَإِنْ
كَانَ غَيْرَ حَاجٍّ أَحْرَمَ بِهَا مَتَى شَاءَ،
(4/30)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاسْتُحِبَّ لَهُ
الِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ
الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا، وَلَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ
عَلَى الْحَجِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ إِحْلَالِهِ
وَرَمْيِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ لِأَنَّهَا مِنْ بَقَايَا حَجِّهِ، وَإِنْ أَحَلَّ إِلَّا
أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَجُوزُ لَهُ
الْإِحْرَامُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لسقوط الرمي عنه.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَالَ لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ
إِلَّا مَرَّةً خَالَفَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ أَعَمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي
شهرٍ واحدٍ مَرَّتَيْنِ، وَخَالَفَ فِعْلَ عَائِشَةَ نَفْسِهَا، وعلي وابن
عمر وأنس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَهُوَ قَوْلُ
الْجُمْهُورِ.
قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ،
وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ
وَالْمُزَنِيُّ: لَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً
كَالْحَجِّ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْأَمْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَدَلِيلُنَا
مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ فِي سنةٍ مَرَّتَيْنِ فِي
شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَعْمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي سنةٍ
مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ فَلِمَا دَخَلَتْ مَكَّةَ
حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَيِ ارْفُضِي عَمَلَ
عُمْرَتِكِ فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ الْقِرَانِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ: كُلُّ نِسَائِكَ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ وَأَنَا بِنُسُكٍ
واحدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ
التَّنْعِيمِ فَحَصَلَ لَهَا عُمْرَتَانِ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جزاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ والعمرتان
تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ عُمَرٍ
وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(4/31)
وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ
عُمْرَةً لِجَوَازِهَا فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ وَسُمَّوا عُمَّارَ الْبَيْتِ
لِمُدَوَامَتِهِمُ الِاعْتِمَارَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ
السَّنَةِ وَقْتًا لِلْعُمْرَةِ، دَلَّ عَلَى تَكْرَارِهَا، وَجَوَازِ
فِعْلِهَا مِرَارًا كَالنَّوَافِلِ في الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَبِهَذَا
الْمَعْنَى فَارَقَ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتٌ يَفُوتُ الْحَجُّ
بِفَوَاتِهِ، وَهُوَ عَرَفَةُ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
(4/32)
|