|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي باب ما يحل للمحرم
قتله
(قال الشافعي) رضي الله عنه: " وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَ الْحَيَّةَ
وَالْعَقْرَبَ وَالْفَأْرَةَ وَالْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ وَالْكَلْبَ
الْعَقُورَ وَمَا أَشْبَهَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ مِثْلُ السَّبُعِ
وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ صِغَارُ ذَلِكَ وكباره سواءٌ وليس في
الرخم والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه جزاءٌ لأن هذا ليس من
الصيد وقال الله جل وعز: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُمَا} فدل على أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام
حلالاً لأنه لا يشبه أن يحرم في الإحرام خاصةً إلا ما كان مباحاً قبله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وَحْشِيَّ الْحَيَوَانِ
ضَرْبَانِ: مَأْكُولٌ، وَغَيْرُ مَأْكُولٍ.
فَالْمَأْكُولُ قَدْ مَضَى حُكْمُهُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ، وَوُجُوبِ
جَزَائِهِ، وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
ضَرْبٌ لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهِ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ الْهَوَامُّ
وَحَشَرَاتُ الْأَرْضِ، فَالْهَوَامُّ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ،
وَالزُّنْبُورِ، وَالْحَشَرَاتُ كَالدُّودِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجُعُولِ.
وَضَرْبٌ فِيهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ مَأْكُولٍ
وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، كَالسِّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الضَّبُعِ
وَالذِّئْبِ، وَالْمُخَتَّمِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْحُبَارَى
وَالْغُرَابِ، وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ حِمَارِ وَحْشٍ، وَحِمَارٍ
أَهْلِيٍّ، فَهَذَا غَيْرُ مَأْكُولٍ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ،
وَفِيهِ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ.
وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ، وَجَوَارِحُ
الطَّيْرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ قَتْلَهَا مباحٌ، وَلَا
جَزَاءَ فِيهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهَا وَاجِبٌ،
إِلَّا الْكَلْبَ وَالذِّئْبَ، وَقَالَ فِي السِّمْعِ إِنْ كَانَتْ
قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ الشَّاةِ أَوْ أَقَلَّ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ،
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، فَلَيْسَ
عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ؛ وَقَالَ مَالِكٌ: مَا كَانَ مِنْ
سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ كِبَارًا فِيهَا عَدْوَى
فَفِيهَا الْجَزَاءُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا صِغَارًا لَيْسَ فِيهَا عَدْوَى
فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا
أيُّهَا الّّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ،
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمَّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ
النَّعَمِ) {المائدة: 95) فَأَوْجَبَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ،
وَالسِّبَاعُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فلانٌ
صَارَ سَبْعًا، كَمَا يَقُولُونَ: صَارَ ظَبْيًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ
حَبَسَ مِنَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى
فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْجَزَاءُ
(4/341)
بِقَتْلِهِ كَالضَّبُعِ، قَالُوا:
وَلِأَنَّ مَا حَلَّ قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْلَالِ جَازَ أَنْ يُحَرَّمَ
قَتْلُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ كَسَائِرِ الصَّيْدِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ
الْجَزَاءَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بَلْ يَجِبُ
فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ
الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ وَكَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ
الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
عَنْ سالمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: خمسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ
قَتَلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ
وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى قَتْلِ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ؛
لِيُنَبِّهَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ فَنَصَّ عَلَى
الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى الْعُقَابِ وَالرَّخَمَةِ،
وَنَصَّ عَلَى الْفَأْرَةِ، لِيُنَبَّهَ عَلَى حَشَرَاتِ الْأَرْضِ،
وَعَلَى الْعَقْرَبِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى الْحَيَّةِ، وَعَلَى الْكَلْبِ
الْعَقُورِ؛ لِيُنَبَّهَ عَلَى السُّبُعِ وَالْفَهْدِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ،
وَإِذَا أَفَادَ النَّصُّ دَلِيلًا وَتَنْبِيهًا كَانَ حُكْمُ التَّنْبِيهِ
مُسْقِطًا لِدَلِيلِ اللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ) {الإسراء: 22) ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ،
وَدَلِيلُ لَفْظِهِ يَقْتَضِي جَوَازَ الضَّرْبِ، فَقَضَى بِتَنْبِيهِهِ
عَلَى دَلِيلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ قَتْلَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَاسْمُ
الْكَلْبِ يَقَعُ عَلَى السُّبُعِ لُغَةً وَشَرْعًا.
أَمَا اللُّغَةُ: فَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّكَلُّبِ وَهُوَ
الْعَدْوَى وَالضَّرَارَةُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي السَّبُعِ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ فَأَكَلَهُ السَّبُعُ
فِي طَرِيقِ الشَّامِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن
أبي نعم عن الْبَجَلِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عما يحل للمحرم قتله
فقال: " الحية والعقرب وَالْفُوَيْسِقَةُ وَالْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ
وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ "، وَهَذَا نَصٌّ فِي
إِبَاحَةِ قَتْلِ السَّبُعِ ودليلٌ عَلَى سُقُوطِ الْجَزَاءِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُ عَلَى صفةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
فيه عدوى وقتل ذلك مباحٌ قبل السِّبَاعُ كُلُّهَا مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا عَدْوَى، كَمَا يُوصَفُ السَّيْفُ
بِأَنَّهُ قَاطِعٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَطْعُ، وَالنَّارُ
بِأَنَّهَا محرقةٌ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا الْإِحْرَاقُ؛ وَلِأَنَّهُ
متولدٌ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُ شيءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا
يَجِبَ الْجَزَاءُ فِي قَتْلِهِ كَالذِّئْبِ.
(4/342)
فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِقَتْلِ
الْقَمْلِ، قِيلَ: الْقَمْلُ لَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ الْجَزَاءُ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ لِإِزَالَةِ الْأَذَى مِنْ رَأَسِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إِذَا قَتَلَهُ مِنْ عَلَى بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا
يَلْزَمُهُ إِذَا قَتَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ
الْجَزَاءَ مِنَ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ إِنَّمَا يُوجِبُ الْمِثْلَ أَوِ
الْقِيمَةَ الْكَامِلَةَ، فَلَمَّا كَانَ قَتْلُ السَّبُعِ غَيْرَ مُوجِبٍ
لِلْمِثْلِ وَلَا لِلْقِيمَةِ الْكَامِلَةِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مضمونٍ.
فَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتُ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتُ: لِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ
يُضْمَنْ بِالْمِثْلِ وَلَا بِكَمْالِ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا
بِالْجَزَاءِ كَالذِّئْبِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْمَ الصَّيْدِ لَا يَقَعُ عَلَى السَّبُعِ؛ لِأَنَّ
الصَّيْدَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ، وَلَيْسَ
السَّبُعُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْبَرِّ، فَلَمْ يَكُنْ
مِنْ جُمْلَةِ الصَّيْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمِثْلُ عِنْدَنَا أَوِ
الْقِيمَةُ عِنْدَهُمْ، وَالسَّبُعُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْمِثْلُ وَلَا
القيمة الكاملة فلم تكن مِنَ الصَّيْدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى
الضَّبُعِ فَالْمَعْنَى فيه: أنه صيدٌ مأكولٌ، فليس كَذَلِكَ السَّبُعُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزَاءَ غَيْرُ مقصورٍ عَلَى مَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ كَالسِّمْعِ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ،
فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ متولدٌ مَا بَيْنَ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ
مَأْكُولٍ، فَغَلَبَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّبُعُ،
فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ صِغَارِ ذَلِكَ وَكِبَارِهِ.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا يَحْرُمُ بِالْإِحْرَامِ، وَيُضْمَنُ
بِالْجَزَاءِ، يَسْتَوِي حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ فَكَذَلِكَ مَا
يُسْتَبَاحُ مَعَ الْإِحْرَامِ، وَيَسْقُطُ فِيهِ الْجَزَاءُ يَجِبُ أَنْ
يَسْتَوِيَ حُكْمُ صِغَارِهِ وَكِبَارِهِ، كَالْحَشَرَاتِ فَإِذَا ثَبَتَ
سُقُوطُ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ،
فَمَا كَانَ مِنْهُ مُؤْذٍ لَمْ يَحْرُمْ قَتْلُهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ
مُؤْذِيًا فَفِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْرُمُ قَتْلُهُ لِضَعْفِ حُرْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَتْلُهُ
حَرَامٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ
ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ ".
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: وَإِذَا صَالَ الصَّيْدُ عَلَيْهِ
فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو
حنيفة: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَقَالَ فِي السَّبُعِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ
فَقَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْفَحْلُ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ،
عِنْدَنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ،
فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا
يَضْمَنَهُ، كَالصَّيْدِ إِذَا صَالَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَنَجْعَلُ
الصَّيْدَ أَصْلًا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
(4/343)
فَصْلٌ
: إِذَا قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أَوِ الْإِحْرَامِ حيواناً لا يعلم أوحشي أو
إِنْسِيٌّ؟ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ
بِالشَّكِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ وَحْشِيٌّ، وَشَكَّ هَلْ هُوَ
مَأْكُولٌ أَوْ غَيْرُ مَأْكُولٍ؟ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَصَيْدُ الْبَحْرِ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ، لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ
ولِلسَّيَّارةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً)
{المائدة: 96) فأباح للمحرمين صيد البحر.
قال الشافعي: وكلما عَاشَ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ عَيْشِهِ، وَكَانَ فِي
بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ وَادٍ أَوْ بِئْرٍ أو ماء مُسْتَنْقَعٍ أَوْ
غَيْرِهِ فَسَوَاءٌ وَمُبَاحٌ لَهُ صَيْدُهُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ،
وَأَمَّا طَائِرُهُ فَإِنَّمَا يَأْوِي إِلَى أَرْضٍ فِيهِ فَهُوَ مِنْ
صَيْدِ الْبَرِّ إذا أصيب.
(4/344)
باب الإحصار
قال الشافعي رضي الله عنه: " قال الله جل وعز: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} وَأُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحُدَيْبِيَةِ فَنَحَرَ الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ
وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ (قَالَ) وَإِذَا أَحُصِرَ بِعَدُوٍّ كافرٍ أَوْ
مُسْلِمٍ أَوْ سلطانٍ بحبسٍ فِي سجنٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ
بِحَجٍّ أَوْ عمرةٍ وَصُدَّ عَنِ الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ مُسْلِمٍ أَوْ
كَافِرٍ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
سَنَةَ سِتٍّ فِي ألفٍ وَأَرْبَعِ مائةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَصَدَّتْهُ
قُرَيْشٌ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ،
تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَحَلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ، فَكَانَ التَّحَلُّلُ مُضْمَرًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ لَا
يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْحَصْرِ، وإنما بجب بِالتَّحَلُّلِ فِي الْحَصْرِ،
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، تَحَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ عُمْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ نَحَرَ
هَدْيَهُ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أحصرنا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ
سبعةٍ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ عُذْرٌ، وَالْخُرُوجَ مِنَ الْعِبَادَةِ
بِالْعُذْرِ جَائِزٌ، كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ،
كَذَلِكَ الْحَجُّ.
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَلُّلِ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ، فَسَوَاءٌ
كَانَ الْعَدُوُّ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّحَلُّلَ إِنَّمَا
يَجُوزُ بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَحَلَّلَ
بِإِحْصَارِ عدوٍ كافرٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ عُمُومُ قَوْله
تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} ، وَلَمْ
يُفَرِّقْ بَيْنَ حَصْرِ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مَكَةَ
مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ
صَنَعْتُ مَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -؛ وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ فَجَازَ لَهُ
التَّحَلُّلُ كَالْمَصْدُودِ بِعَدُوٍّ مُشْرِكٍ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ
سَوَاءٌ فِي التَّحَلُّلِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ
(4/345)
الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حل أو في حرم فإن كان فِي حِلٍّ فَلَا يَخْلُو
حَالُ الْإِحْصَارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا،
أَوْ خَاصًّا.
فَإِنْ كَانَ عَامًّا وَهُوَ أَنْ يُصَدَّ جَمِيعُ النَّاسِ عَنِ الْحَرَمِ
وَيُمْنَعُوا مِنْ فِعْلِ مَا أَحْرَمُوا بِهِ مَنْ حَجًّ أَوْ عُمْرَةٍ،
فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَجِدُوا طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ
الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرُوا فِيهَا، أَوْ لَا يَجِدُوا طَرِيقَا
غَيْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا غَيْرَهَا، فَلَا يَخْلُو
حَالُهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَرْجُوا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ، أَوْ لَا يَرْجُونَهُ.
فَإِنْ لَمْ يَرْجُوَا انْكِشَافَ الْعَدُوِّ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُحِلُّوا
مِنْ إِحْرَامِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُمْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ؛
لِأَنَّ الْعُمْرَةَ وَإِنْ لَمْ تفت ففي المقام على الإحرام بلا
مَشَقَّةٌ، وَقَدْ كَانَ إِحْرَامُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُمْرَةٍ فَأَحَلَّ مِنْهَا بِإِحْصَارِهِ، وَلَا
يَلْزَمُهُمْ قِتَالُ عَدُوِّهِمْ، وَإِنْ كَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَلْزَمُهُمْ إِلَّا فِي النَّفِيرِ، فَإِذَا
حَلُّوا فَعَلَيْهِمْ دَمُ الْإِحْصَارِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ فَهَذَا
الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانُوا لَا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ كَانُوا يَرْجُونَ انْكِشَافَ الْعَدُوِّ وَزَوَالَهُ
فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ
غَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، وَهُوَ
أَنْ يَعْتَرِضَهُمُ الْعَدُوُّ مُجْتَازًا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ
حَالُ الْإِحْرَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أن يكون بحج أو بعمرة، فإذا كَانَ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ، نُظِرَ،
فَإِنْ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا بَعْدَ انْكِشَافِ الْعَدُوِّ،
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ الْحَجِّ بِشَهْرٍ، وَبَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَيَكُونُ الْفَاضِلُ
مِنَ الْقُوتِ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ
يَنْكَشِفُ إِلَى عِشْرِينَ يَوْمًا فَمَا دُونَ، فَعَلَيْهِ الْمَقَامُ
عَلَى الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بالإحصار، وإن تيقن
أن العدو ينكشف بعد عشرين يَوْمًا، وَلَا يَنْكَشِفُ قَبْلَهَا، فَهَذَا
لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَهُوَ الْأَوْلَى
لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ يُدْرِكُ الْحَجَّ،
فَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَقَدْ فَاتَهُ
الْحَجُّ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِغَيْرِ طَوَافٍ وَسَعَيٍ؛
لِزَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى، وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ؛ لِأَجْلِ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ؛ لِلْفَوَاتِ دُونَ
الْإِحْصَارِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِحَجٍّ، فَأَمَّا إِنْ
كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ فإن تيقين انْكِشَافَ الْعَدُوِّ عَنْ
زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
لَزِمَهُ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّحَلُّلُ
مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ الْإِحْرَامِ
فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حد السفر إلى الإقامة،
وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ،
جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْمَقَامُ
عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
حَيْثُ قُلْتُمْ: إِنَّهُ إِذَا كان محرماً يحج، فَأُحْصِرَ، وَالْوَقْتُ
وَاسِعٌ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ، وَإِدْرَاكُ
الْحَجِّ لَا يَفُوتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ، أَنَّ عَلَيْهِ
(4/346)
الْمَقَامَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ
لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ، فَأُحْصِرَ،
وَعَلِمَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَنْكَشِفُ بَعْدَ شَهْرٍ، أَنَّ لَهُ أَنْ
يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَلَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَفُوتُ،
كَمَا أَنَّ الْحَجَّ هُنَاكَ بَعْدَ شَهْرٍ لَيْسَ يَفُوتُ؟ قِيلَ:
الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ لَوْ لَمْ يَحْصُرْ
لَمْ يُمْكِنُهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ، وَكَانَ
عَلَيْهِ الْمَقَامُ عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ، فَلَمْ
يَلْتَزِمْ بِالْإِحْصَارِ اسْتِدَامَةَ إِحْرَامٍ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا
لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
يَكُنْ إِحْصَارٌ لَأَمْكَنَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ عِنْدَ
فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ
بِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْإِحْصَارِ؛
لِأَنَّهُ بِالْمَقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِ يَلْتَزِمُ اسْتِدَامَةَ إحرامٍ
لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا تَيَقَّنَ
انْكِشَافَ الْعَدُوِّ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ وَلَمْ
يَتَيَقَّنْهُ، فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ
مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، وَلَوِ انْتَظَرَ مُرُورَ أَيَّامٍ لا
يخالف مَعَهَا فَوَاتَ الْحَجِّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ عَجَّلَ
الْإِحْلَالَ كَانَ جَائِزًا، فَلَوْ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى انْكَشَفَ
الْعَدُوُّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَمَضَى فِي إِحْرَامِهِ،
فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا، أَتَى بِأَرْكَانِ الْعُمْرَةِ، وَأَحَلَّ
مِنْهَا، وَأَجْزَأَتْهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا
فَإِنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ، أَتَمَّ حَجَّهُ، وَأَجْزَأَهُ
عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ،
وَأَحَلَّ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وحلاق، ولزمه دَمُ الْفَوَاتِ، وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ الَّذِي لَمْ
يَتَحَلَّلْ مِنْهُ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَهَذَا حُكْمُ
الْمُحْصَرِ إِذَا لَمْ يكن له طريق غير الطريق الذي أُحْصِرَ فِيهَا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا إِلَى الْحَرَمِ غَيْرَ
الطَّرِيقِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ في هذا الطريق عدو مَانِعٌ، وَذَلِكَ قَدْ
يَكُونُ مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ:
إِمَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِلَّةِ مَاءٍ أَوْ مَرْعَى، أَوْ
يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ لِصٍّ غَالِبٍ، أَوْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ عَدُوٍّ قَاهِرٍ، أَوْ يُضْطَرَّ فِيهِ إِلَى رُكُوبِ بَحْرٍ، أَوْ
يَحْتَاجَ فِيهِ إِلَى زِيَادَةِ نَفَقَةٍ وَهُوَ لَهَا عَادِمٌ، فَهَذِهِ
كُلُّهَا أَعْذَارُ لَا يَلْزَمُهُ مَعَهَا سُلُوكُ الطَّرِيقِ الْآخَرِ،
وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَّا الطَّرِيقَ
الَّتِي أَحُصِرَ فِيهَا، فَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنْ سُلُوكِ
هَذَا الطَّرِيقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَهُ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ
التَّحَلُّلُ سَوَاءٌ كَانَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ بِسُلُوكِهِ مُمْكِنًا أَمْ
لَا، فَإِنْ سَلَكَهُ وَوَصَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْحَجَّ
أَجُزْأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ الْحَجَّ،
فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ الْحَجِّ مُمْكِنًا حِينَ سَلَكَهُ؛
لِأَنَّهُ مَسَافَةُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ
عَرَفَةَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْحَجِّ
بِالْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ الْإِدْرَاكِ لَمْ
يَكُنْ بِالْإِحْصَارِ، وَلَا لِلْإِحْصَارِ فِيهِ تَأْثِيرٌ؛ فَلِذَلِكَ
لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ دَمُ الْفَوَاتِ.
(4/347)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ
إِدْرَاكُ الْحَجِّ حِينَ سَلَكَهُ غَيْرَ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ
إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَالْمَسَافَةَ عَشَرَةُ
أَيَّامٍ، فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ كَمَا لَوْ فَاتَهُ
الْوُقُوفُ بِأَنْ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ، أَوْ أَخْطَأَ فِي الْعَدَدِ،
فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَمُ الْفَوَاتِ، وَلَا يَكُونُ لِلْإِحْصَارِ
تَأْثِيرٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
الْفَوَاتَ لَمْ يَكُنْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ
الْإِحْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُ الْإِحْصَارِ بَاقِيًا عَلَيْهِ، فَعَلَى
هَذَا الدَّمُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِلْإِحْصَارِ دُونَ الْفَوَاتِ، فَهَذَا
حُكْمُ الْمُحْصَرِ إِذَا وَجَدَ طَرِيقًا يَسْلُكُهَا غَيْرَ الطَّرِيقِ
الَّذِي أُحْصِرَ فِيهَا، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ إِذَا
كَانَ عَامًّا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِحْصَارُ خَاصًّا، وَهُوَ أَنْ يَحْبِسَهُ
سُلْطَانٌ أَوْ يُلَازِمَهُ غَرِيمٌ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِحَقٍّ هُوَ قَادِرٌ
عَلَى أَدَائِهِ، وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ بِدَيْنٍ هُوَ قَادِرٌ على
وفائه، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ
قِبَلِهِ، وَهُوَ حَابِسُ نَفْسِهِ، إِذْ قَدْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ
مِنْهُ وَأَدَاءُ مَا عَلَيْهِ، فَصَارَ كَمَنِ اخْتَارَ الْمَقَامَ فِي
مَنْزِلِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ إِحْرَامِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَاتَهُ
الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ، وَكَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَدَمُ الْفَوَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَبْسُ السُّلْطَانِ لَهُ بِظُلْمٍ،
وَمُلَازَمَةُ الْغَرِيمِ لَهُ مَعَ إِعْسَارٍ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ
التَّحَلُّلُ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، كَالْإِحْصَارِ
الْعَامِّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ
الْقَضَاءِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ دَمُ
الْإِحْصَارِ دُونَ الْقَضَاءِ، كَالْإِحْصَارِ الْعَامِّ سَوَاءٌ، إِذْ
هُوَ بِهِمَا مَعْذُورٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ دَمِ الْإِحْصَارِ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْصَارِ
الْعَامِّ حَيْثُ لَمْ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَبَيْنَ الْإِحْصَارِ
الْخَاصِّ حَيْثُ وَجَبَ فِيهِ الْقَضَاءُ؟ .
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَعْذَارَ الْعَامَّةَ أَدْخَلُ فِي
سُقُوطِ الْقَضَاءِ مِنَ الْأَعْذَارِ الْخَاصَّةِ؛ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ
الْمَشَقَّةِ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ، أَلَا تَرَى
أَنَّ الْحُجَّاجَ لو أخطأوا جَمِيعُهُمُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَوَقَفُوا
فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ أَجْزَأَهُمْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ
الْقَضَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْمَشَقَّةِ وَلَوْ أَخْطَأَ وَاحِدٌ
فَوَقَفَ في اليوم العاشر لم يجزه كذلك للإحصار الْعَامُّ لَا يُوجِبُ
الْقَضَاءَ، وَالْإِحْصَارُ الْخَاصُّ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، فَهَذَا حُكْمُ
الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ بِإِحْصَارٍ خَاصٍّ وَعَامٍّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ
عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ.
(4/348)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَعَنِ الطَّوَافِ
بِالْبَيْتِ، فَحُكْمُ هَذَا حُكْمُ الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ، فَيَجُوزُ
أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بالهدي والحلق، فلا قَضَاءَ عَلَيْهِ،
وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ
إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْحَجُّ، فَإِذَا فَاتَهُ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ،
وَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَكَانَ بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَزُولَ
إِحْصَارُهُ؛ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِحْلَالِهِ عُمُومُ قَوْله
تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة:
196) ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ فِي حِلٍّ أَوْ
حَرَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا سَوَاءً؛ وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ
مِنْ إِكْمَالِ نُسُكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَجَازَ لَهُ الْإِحْلَالُ
قِيَاسًا عَلَى الْمُحْصَرِ فِي الْحِلِّ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلَهُ إِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ أَنْ يَتَحَلَّلَ
مِنْ إِحْرَامِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَقَالَ أبو حنيفة:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَيُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ، وَيَسْعَى، وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَر مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ؛ وَلِأَنَّهُ
إِحْرَامٌ تَامٌّ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا
قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ
بِالْإِحْصَارِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنْ
بَعْضِهَا أَوْلَى، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْهَدْيِ وَالْحَلْقِ، فَلَا
قَضَاءَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ
إِحْلَالِهِ؟
قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ
إِحْرَامِهِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِالْعَجْزِ
عَنْ غَيْرِهِ، كَالْمُصَلِّي إِذَا عَجَزَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَمْ
يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ الْقِيَامِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَدَّ عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ
الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ
بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ عَنْ
جَمِيعِ الْأَرْكَانِ كَانَ إِحْلَالُهُ مِنْ بَعْضِهَا أَوْلَى،
وَعَلَيْهِ دَمُ الْإِحْصَارِ، وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ كَالَّذِي أُحْصِرَ فِي طَرِيقٍ وَلَهُ طَرِيقٌ
غَيْرُهَا، فَسَلَكَهَا فَفَاتَهُ الْوُقُوفُ فَأَحَلَّ بِالطَّوَافِ
وَالسَّعْيِ:
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ
الْمُحْصَرُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ
فَالْمُحْصَرُ عَنْ بَعْضِهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَصْدُودٍ
عَنِ الْبَيْتِ فَصَارَ كَالْغَائِبِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ
أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ دُونَ الْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ قَوْلًا وَاحِدًا
وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْدُودًا عَنِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ
الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا أَحَلَّ عَلَى
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟
قِيلَ: لِأَنَّ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَدْ يُوجِبُ الْقَضَاءَ،
وَلَيْسَ لِلطَّوَافِ وَقْتٌ يَفُوتُ فَيُوجِبَ الْقَضَاءَ، فَكَانَ
الصَّدُّ عَنِ الْوُقُوفِ أَغْلَظَ حُكْمًا؛ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا،
فَهَذَا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ
عَلَيْهِ مِنْ فروعه وأحكامه.
(4/349)
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " نَحَرَ هَدْيًا لِإِحْصَارِهِ حَيْثُ
أُحْصِرَ فِي حِلٍّ أو حرمٍ ".
قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ: عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ دَمٌ
لِأَجْلِ إِحْلَالِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ
يَتَحَلَّلُ مَنْ نُسُكِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَنْتَسِبْ فِيهِ إِلَى
التَّفْرِيطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ قِيَاسًا عَلَى
الْمُتَحَلِّلِ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ
إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ إِتْمَامِ الْحَجِّ؛ رِفْقًا
بِهِ وَتَخْفِيفًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجِبْ أَنْ تُغْلِظَ عَلَيْهِ
بِإِيجَابِ الدَّمِ فِي مَحِلِّ التَّخْفِيفِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ)
{البقرة: 196) فَذَكَرَ السَّبَبَ وَحُكْمَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أُحْصِرْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ
فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ الْبَدَنَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِحْصَارِ عَلَى سَبْعَةٍ؛
لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ مَنْحُورَةً عَنْ سَبْعَةٍ؛
وَلِأَنَّهُ تَحَلَّلَ مَنْ نُسُكِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، فَوَجَبَ أَنْ
يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ كَالْفَائِتِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بَعْدَ كَمَالِ نُسُكِهِ
فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ قَدْ أَحَلَّ بَعْدَ كَمَالِ
نُسُكِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَلَّ بَعْدَ
كَمَالِ نُسُكِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَهَذَا الْمُحْصَرُ قَدْ
أَحَلَّ قَبْلَ كَمَالِ نُسُكِهِ فَلَزِمَهُ دَمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ تَخْفِيفٌ، وَإِيجَابَ
الدَّمِ تَغْلِيطٌ فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَجِبُ فِي
مَحِلِّ التَّخْفِيفِ كَمَا يَجِبُ فِي مَحِلِّ التَّغْلِيطِ، أَلَا تَرَى
أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَلْزَمُهُ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَتِّعُ
مَحِلَّ تَخْفِيفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ هَدْيًا،
انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَ
فِيهِ الْهَدْيَ، فَنَقُولُ: لَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُحْصَرًا في حل
أو في حرم، فإن كان مُحْصَرًا فِي حَرَمٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَ
إِحْصَارِهِ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ نَحَرَهُ فِي الْحِلِّ لَمْ يُجْزِهِ،
وَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا فِي الْحِلِّ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى
الْحَرَمِ، أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ
هَدْيِهِ إِلَى الْحَرَمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْحَرَ، فِي الْحِلِّ،
وَكَانَ عَلَيْهِ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا
الْبَغْدَادِيِّينَ مَنْ جَوَّزَ نَحْرَ هَدْيِهِ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ
قَدَرَ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَى الْحَرَمِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ،
وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو
حَامِدٍ فِي جَامِعِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ
الْمُحْصَرُ فِي الْحِلِّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِيصَالِ هَدْيِهِ إِلَى
الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ، حَيْثُ
أَحُصِرَ، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَى الْحَرَمِ،
وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَنْحَرَهُ فِي الْحِلِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ وَلاَ
تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ}
(4/350)
(البقرة: 196) فَأَمَرَ بِإِبْلَاغِ
الْهَدْيِ مَحِلَّهُ، وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ
مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ العَتِيقِ} .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بَعَثَ بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَكَانَ
يَنْحَرُهُ فِي الْفِجَاجِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَلَوْ جَازَ نَحْرُهُ فِي
الْحِلِّ لَكَانَ لَا يَتَعَذَّرُ بِإِنْفَاذِهِ إِلَى الْحَرَمِ،
وَلَكَانَ نَحْرُهُ بِحَضْرَتِهِ أَفْضَلَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا
أَنْفَذَهُ إِلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ نَحْرَهُ فِي الْحِلِّ لَا يَجُوزُ،
قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَزِمَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ، فَوَجَبَ أَنْ
تَجِبَ إِرَاقَتُهُ فِي الْحَرَمِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الدِّمَاءِ،
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} فَأَوْجَبَ الْهَدْيَ وَلَمْ يَجْرِ
لِلْمَكَانِ ذِكْرٌ، فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَحْرِهِ
عُقَيْبَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْصَارُ
فِي حِلٍّ أَوْ حَرَمٍ.
رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: " أَحُصِرْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَنَحَرْنَا
الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ " فَدَلَّ عَلَى نَحْرِ ذَلِكَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى إِحْصَارِهِ بِالْحُدَيْبِيَةَ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ.
قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَرُدُّهُ نَصُّ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ
الحَرَامِ، الهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} ، وَالْمُرَادُ
بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا
الْهَدْيَ أَنْ يَصِلَ مَحِلَّهُ مِنَ الْحَرَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْحُدَيْبِيَةُ الَّتِي نَحَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الحرم.
قيل: هَذَا صَحِيحٌ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَةِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَلَغَتْ
رَاحِلَتُهُ إِلَى ثَنِيَّةِ ذَاتِ الْحَنْظَلِ بَرَكَتْ نَاقَةِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: ثَقُلَ عَلَيْهَا
الْحَرَمُ، وَهُوَ عَلَيَّ أَثْقَلُ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ
لَمْ يَدْخُلِ الْحَرَمَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ
قَالَ: نَحَرْنَا فِي حِلٍّ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ؛ ولأن مَوْضِعٌ
لِتُحَلُّلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِهَدْيِهِ كَالْحَرَمِ،
وَلِأَنَّ إِحْلَالَ الْمُحْصَرِ يَكُونُ بِالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ،
فَلَمَّا كَانَ الْحَلْقُ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ، كَذَلِكَ النَّحْرُ
فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ سَبَبَيِ التَّحَلُّلِ، فَجَازَ
أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ إِحْصَارِهِ مِنَ الْحِلِّ كَالْحَلْقِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عن قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الهَدْيَ مِحِلَّهُ} (البقرة: 196) فَالْمَحِلُّ مَوْضِعُ
الإحلال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لضياعة بِنْتِ
الزُّبَيْرِ: أَحْرِمِي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّيَ حَيْثُ حَبَسْتَنِي،
وقَوْله تَعَالَى: {ثمَّ مَحِلُّهَا إلَى البَيْتِ العَتِيقِ) {الحج: 33)
وَارِدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ
بِهَدْيِهِ إِلَى مَكَّةَ مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَذَاكَ فِي
غَيْرِ السَّنَةِ الَّتِي أُحْصِرَ فِيهَا.
(4/351)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَيْرِ
الْمُحْصَرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُهُ إِلَى الْحَرَمِ، فَالْمَعْنَى
فِيهِ أَنَّ غَيْرَ الْمُحْصَرِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ؛
فَلِذَلِكَ لم يجز إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُحْصَرُ.
مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فَيَقْضِيَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
الْمُحْصَرَ إِذَا تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ بِالْهَدْيِ وَالْحِلَاقِ،
فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ قَدْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ إِحْصَارِهِ فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهَا، وَإِنْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
قَضَاؤُهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَى الْمُتَحَلِّلِ بِالْإِحْصَارِ
الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا، فَإِنْ
كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ لَزِمَهُ أَنْ يَقْضِيَ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً،
وَإِنْ كَانَ قَارِنًا قَضَى حَجًّا وَعُمْرَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى
وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ
بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ
وَعَلَيْهِ حجةٌ " فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَا:
صَدَقَ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَمَّا أَحَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِالْإِحْصَارِ سَنَةَ سِتٍّ
بِالْحُدَيْبِيَةِ، قَضَاهَا سَنَةَ سَبْعٍ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ
الْقَضِيَّةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَعُمْرَةَ الْقِصَاصِ؛ وَلِأَنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا حَاضَتْ بِمَكَّةَ، قَالَ لَهَا
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اقْضِي عُمْرَتَكِ
وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ "، ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ
يُعَمِّرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، فَأَلْزَمَهَا قَضَاءَ الْعُمْرَةِ
الَّتِي رَفَضَتْهَا، وَتَحَلَّلَتْ مِنْهَا وَكَانَتْ فِي حُكْمِ
الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى إِكْمَالِ الْعُمْرَةِ؛
لِأَجْلِ الْحَيْضِ، وَلَا أَمْكَنَهَا الْمَقَامُ على العمرة إلا أَنْ
تَطْهُرَ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نُسُكِهِ
قَبْلَ تَمَامِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، كَالْفَائِتِ،
وَلِأَنَّ الْحَصْرَ نَوْعَانِ: عَامٌّ، وَخَاصٌّ.
فَلَمَّا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْخَاصِّ،
وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَامِّ،
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَذَكَرَ الْإِحْصَارَ، وَبَيَّنَ حُكْمَهُ
وَهُوَ الْهَدْيُ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مُوجَبَ لَهُ غَيْرُهُ،
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أُحْصِرَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَأُحْصِرَ مَعَهُ
أَصْحَابُهُ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ تَحَلَّلُوا
مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّنَةُ الْمُقْبِلَةُ، وَهِيَ سَنَةُ سبعٍ
خَرَجَ لِلْقَضَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ ناسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَكْثَرُ مَا
قِيلَ، سَبْعُمِائَةٍ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا، هُوَ أَنَّ
الْقَضَاءَ لَوْ كَانَ يَلْزَمُهُمْ لذكره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لَهُمْ لِيَخْرُجَ مَعَهُ جَمِيعُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ
أَوْجَبَهُ عَلَى الْفَوْرِ مَنَعَ مِنَ التَّرَاخِي، وَمَنْ جَعَلَهُ
عَلَى التَّرَاخِي، مَنَعَ أَنْ يُجْبَرَ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ
الْعَامِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ دَارَ شِرْكٍ، وَكَانَ
الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْعَامِ الَّذِي قَضَى فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ مُمْكِنٍ، فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجُوا
وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى
تَرْكِ الْخُرُوجِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَرُوِيَ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا قَضَاءَ عَلَى
الْمُحْصَرِ، وَلَيْسَ لَهُمَا مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ
تَحَلَّلَ من نسكه بسبب عام، لم ينسب إِلَى التَّفْرِيطِ، فَوَجَبَ أَنْ
لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، كالمتحلل بعد
(4/352)
كَمَالِ الْحَجِّ؛ وَلِأَنَّ دَمَ
الْإِحْصَارِ إِنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا أَحَلَّ بِفِعْلِهِ مِنَ
الْأَرْكَانِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ
نَحْرِهِ، وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَدَلًا مِنْهَا، وَجَبَ أَنْ لَا
يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا لَوْ أَكْمَلَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَلْزَمَ الْفَائِتَ
الْقَضَاءُ.
قُلْنَا: دَمُ الْفَوَاتِ وَجَبَ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ بَدَلًا مِنَ
الْأَفْعَالِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَامَ الدَّمُ مَقَامَ الْأَفْعَالِ، يَجِبُ أَنْ
يُجْزِئَهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ بَدَلًا عَنِ الشَّيْءِ فِي حُكْمٍ، وَلَا
يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، كَالتَّيَمُّمِ بَدَلٌ
مِنَ الطَّهَارَةِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَلَيْسَ هُوَ ببدلٍ عَنْهُ فِي
أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ كُلَّ فَرْضٍ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ، يقتضي أَنَّ الْمُتَحَلِّلَ
بِالْمَرَضِ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ سَيَأْتِي.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - قَضَى عُمْرَتَهُ، وَسَمَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ.
قُلْنَا: هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لَيْسَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا من أصحابه، وإنما هو مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ
وَالْمَغَازِي، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ
عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ وَالْقَضَاءِ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَاضَى عَلَيْهَا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو عَلَى أَنْ يَرْجِعَ
فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقِصَاصِ؛
لِأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنْهُمْ حِينَ مَنَعُوهُ، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى: {والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) {البقرة: 194) ، وَأَمَّا عَائِشَةُ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَكَانَتْ قَارِنَةً؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهَا: " طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ
لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ ".
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْفَوَاتِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْفَوَاتِ حُدُوثُهُ مِنْ تَفْرِيطٍ،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْصَارُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ بَعْدَ الْفَوَاتِ أَنْ يَأْتِيَ
بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَمَّا
لَمْ يَلْزَمْهُ بَعْدَ تَحَلُّلِ الْإِحْصَارِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا قَدَرَ
عَلَيْهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ.
وَأَمَّا الْإِحْصَارُ الخاص، ففيه قولان:
أحدهما: لا قضاء، فعل هذا قد اسْتَوَيَا.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ ذَكَرْنَاهُ: وَهُوَ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ
فِي الْعَامِ، وَعَدَمُهَا فِي الْخَاصِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْإِحْصَارِ الْعَامِّ يَمْتَنِعُ سُلُوكُ
الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَسَقَطَ الْقَضَاءُ،
وَفِي الْخَاصِّ لَا يَمْتَنِعُ سُلُوكُ الطريق، فوجب القضاء.
(4/353)
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَشْتَرِيهِ
أَوْ كَانَ معسراً ففيها قولان أحدهما أن لا يحل إلا بهديٍ والآخر أنه إذا
لم يقدر على شيءٍ حل وأتى به إذا قدر عليه إذا أمر بالرجوع للخوف أن لا
يؤمر بالمقام للصيام والصوم يجزئه في كل مكانٍ (قال المزني) القياس عنده حق
وقد زعم أن هذا أشبه بالقياس والصوم عنده إذا لم يجد الهدي أن يقوم الشاة
دراهم ثم الدراهم طعاماً ثم يصوم مكان كل مد يوماً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَى الْمُحْصَرِ
تَحَلُّلَهُ هَدْيًا، فَالْهَدْيُ شَاةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، وَأَقَلُّ مَا يَجُوزُ فِي
الْمَيْسُورِ شَاةٌ تَجُوزُ أُضْحِيَةً، وَقَالَ جَابِرٌ: أحصرنا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَنْ سبعةٍ، وَنَحَرْنَا
الْبَقَرَةَ عَنْ سبعةٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ شَاةٌ،
فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلشَّاةِ، أَوْ عَادِمًا لَهَا.
فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا نَحَرَهَا مَوْضِعَهُ - عَلَى مَا ذَكَرْنَا
-، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ نَحْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ: {وَلاَ
تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ) {البقرة:
196) ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ بدلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَرَكَهَا،
وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِهَا، فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ
الَّذِي هُوَ بَدَلٌ لَهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ
يَتَحَلَّلَ قَبْلَ النَّحْرِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحِلَاقَ إِبَاحَةٌ
بَعْدَ حَظْرٍ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ، فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِالنَّحْرِ
وَحْدَهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ نَاوِيًا بِهِ
الْإِحْلَالَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَحَلَّلُ بِالْأَفْعَالِ الَّتِي
انْعَقَدَ عَلَيْهَا إِحْرَامُهُ فَيُجْزِئُهُ فعلها بالنية المتقدمة
لَهَا، وَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِهَا وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَضْمَنْهُ
نِيَّةُ إِحْرَامِهِ، فَافْتَقَرَ فِي نَحْرِهِ إِلَى نِيَّةٍ لِيَقَعَ
بِهَا التَّمَيُّزُ، وَيَحْصُلَ بِهَا الْإِحْلَالُ، فَإِذَا نَحَرَ
هَدْيَهُ فَقَدْ حَلَّ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ،
فَإِحْلَالُهُ يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ: وَهُمَا نَحْرُ الْهَدْيِ نَاوِيًا
ثُمَّ الْحَلْقُ، فَإِنْ نَحَرَ وَلَمْ يَحْلِقْ فَهُوَ بَعْدُ عَلَى
إِحْرَامِهِ، فَهَذَا حكم المحصر إذا كان واجداً لهدي.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ، إِمَّا لِتَعَذُّرِهِ أَوْ
لِإِعْسَارِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ لَهُ بَدَلٌ
أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا بَدَلَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ،
وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى بَدَلِهِ، فَلَوْ كَانَ ذَا بدلٍ لَنَصَّ عَلَيْهِ
كَمَا نَصَّ على غيره، من دم المتعة، والأداء وَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ بَدَلٌ يُنْقَلُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهِ؛
لِأَنَّ سَائِرَ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِحْرَامِ لَهَا أَبْدَالٌ
تُنْقَلُ إِلَيْهَا مَعَ الْإِعْدَامِ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ،
فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ بَدَلٌ، كَانَ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى
وَقْتِ وُجُودِهِ، وَهَلْ لَهُ التَّحَلُّلُ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَنَحْرِهِ
أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذلك؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ
(4/354)
مَحِلَّهُ {البقرة: 196) ، وَلِأَنَّهُ
قَائِمٌ مَقَامَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَهَا،
فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
بَاقِيًا عَلَى إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْهَدْيَ، فَيَتَحَلَّلَ
بِهِ.
والقول الثاني: له أن يتحلل في المال قَبْلَ وُجُودِ الْهَدْيِ؛ لِأَنَّ
الْهَدْيَ بَدَلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَالْأَفْعَالُ مُبْدَلَاتٌ مِنَ
الْهَدْيِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْمُبْدَلِ قَبْلَ
فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، فَأَوْلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الْبَدَلِ
قَبْلَ فِعْلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إن
الحلاق نسك يقع به الإحلال، ويتحلل بِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِبَاحَةٌ بَعْدَ
حَظْرٍ، نَوَى الْإِحْلَالَ، فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ حَلَّ، وَإِذَا
قُلْنَا: لِهَدْيِ الْإِحْصَارِ بَدَلٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُحْصَرِ
مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ بِالْإِعْسَارِ، أَوْ عَادِمًا
لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ
عَادِمًا لِلْهَدْيِ بإعساره، فبدله الصوم، وفيه ثلاثة أقاويل:
أَحَدُهَا: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، مِثْلَ كَفَّارَةِ الْأَذَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: صِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ كَالْمُتَمَتِّعِ.
وَالثَّالِثُ: يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا،
وَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، مِثْلَ جَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَإِنْ كَانَ عَادِمًا لِلْهَدْيِ لِتَعَذُّرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
الْمَالِ، فَهَلْ يَكُونُ الْمُبْدَلُ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ
طَعَامًا أَوْ صِيَامًا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: الصِّيَامُ كَالتَّمَتُّعِ الَّذِي يَنْتَقِلُ فِيهِ عَنِ
الدَّمِ إِلَى الصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِطْعَامِ،
فَعَلَى هَذَا فِي الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ - عَلَى مَا مَضَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ، لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِ الْمَسَاكِينِ مِنَ الصِّيَامِ، فَعَلَى هَذَا فِي
كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْهَدْيَ دَرَاهِمَ، وَيَشْتَرِي
بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا كَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ
مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، كَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ،
فَعَلَى هَذَا إِنْ عَدَلَ إِلَى الصِّيَامِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ
مَضَتْ، وَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْإِطْعَامِ فَفِي كَيْفِيَّتِهِ وَجْهَانِ
مَضَيَا، ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الصَّوْمِ أَوِ
الْإِطْعَامِ أَمْ يكون على إحرامه حتى يأتي بالصوم أو الإطعام؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى إِحْرَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ قَبْلَ الإتيان به.
(4/355)
فَصْلٌ
: إِذَا أَفْسَدَ حَجَّهُ ثُمَّ أُحْصِرَ، ثُمَّ أَفْسَدَ حَجَّهُ قَبْلَ
أَنْ يَتَحَلَّلَ، فَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ بِالْإِحْصَارِ؛
لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ مِنْ حَجٍّ
صَحِيحٍ، كَانَ تَحَلُّلُهُ مِنَ الْحَجِّ الْفَاسِدِ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ؛ لِأَجْلِ الْإِفْسَادِ دُونَ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِ
بَدَنَةٌ وَشَاةٌ، أَمَّا الْبَدَنَةُ فَلِأَجْلِ الْإِفْسَادِ وَأَمَّا
الشَّاةُ فَلِأَجْلِ الْإِحْصَارِ، فَإِذَا أَحَلَّ وَزَالَ الْعَدُوُّ،
وَكَانَ وَقْتُ الْحَجِّ مُمْكِنًا، جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الْحَجَّ فِي
عَامِهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، ثُمَّ أُحْصِرَ، أَوْ أُحْصِرَ ثُمَّ فَاتَهُ
الْحَجُّ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ فله أن يتحلل بِالْإِحْصَارِ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْفَوَاتِ، وَدَمَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ الْفَوَاتِ.
وَالثَّانِي: لِأَجْلِ الْإِحْصَارِ.
فَصْلٌ
: إِذَا فَعَلَ الْمُحْصَرُ قَبْلَ إِحْلَالِهِ شَيْئًا يُوجِبُ عَلَيْهِ
الْفِدْيَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ،
وَالْحَلْقِ وَغَيْرِهِ، فَالْفِدْيَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ كَغَيْرِ
الْمُحْصَرِ؛ لِأَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا
أَطْبُخُ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ مِنْ رَأْسِي، فَقَالَ: يَا كَعْبُ
أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ بِالْفِدْيَةِ،
وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أُحْصِرُوا وَكَانَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَى
قِتَالِ عَدُوِّهِمْ، كَانَ لَهُمُ الْقِتَالُ وَالِانْصِرَافُ أَيْنَمَا
شَاءُوا؛ لِأَنَّ لَهُمْ تَرْكَ الْقِتَالِ إِلَّا فِي النَّفِيرِ، وَأَنْ
يَبْدَأُوا بِالْقِتَالِ، فَإِنْ أَرَادُوا قِتَالَ عَدُوِّهِمْ، فَإِنْ
كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ الرُّجُوعَ عَنْهُمْ، اخْتَرْتُ لَهُمْ
ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ قِتَالَهُمْ، قَاتَلُوا
وَلَبِسُوا السِّلَاحَ، وَافْتَدَوْا إِنْ لَبِسُوهُ قَبْلَ إِحْلَالِهِمْ،
وَإِنْ أُحْصِرُوا بِغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ، اخْتَرْتُ الِانْصِرَافَ
عَنْهُمْ بِكُلِّ حَالٍ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ أُحْصِرُوا بِالْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ،
فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْحَجِّ،
لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الرُّجُوعُ، وَكَانُوا غَيْرَ مُحْصَرَيْنِ، إِلَّا
أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ، أَوْ يُعْرَفُ
غَدْرُهُمْ، فَيَكُونَ لَهُمُ الِانْصِرَافُ إِذَا كَانُوا هَكَذَا بَعْدَ
الْإِحْلَالِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِأَمَانِهِمْ،
فَأَعْطَوْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى جَعْلٍ كَبِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، لَمْ أَرَ
أَنْ يُعْطُوهُمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا فِي الْإِحْصَارِ
يَحِلُّ لَهُمْ بِهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ
يَنَالَ الْمُشْرِكُ مِنَ الْمُسْلِمِ أَخَذَ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمُ الصَّغَارُ، ولو فعلوا لم يحرم ذلك
عليهم، فإني كرهته، كما لو يَحْرُمْ عَلَيْهِمْ مَا وَهَبُوهُ لِمُشْرِكٍ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
فصل
: قال الشافعي رحمه الله: ولو قاتلهم المحصر، فقتل وجرح وأصاب دواباً
أَنِيسَةً، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غُرْمٌ، وَلَوْ أَصَابَ لَهُمْ
صَيْدًا يَمْلِكُونَهُ جَزَاهُ بِمِثْلِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ شَيْئًا،
وَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ هُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُهُمْ جَزَاهُ، وَضَمِنَ
(4/356)
قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ، وَلَوْ كَانَ
الصَّيْدُ لِغَيْرِ مَالِكٍ جَزَاهُ الْمُحْرِمُ بِمِثْلِهِ إِنْ شَاءَ
مَكَانَهُ فِي الْحِلِّ كَانَ أَمْ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ أَرَادُوا
الْإِحْلَالَ ثُمَّ الْقِتَالَ، لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ وَذَهَبَ الْحَصْرُ الْآنَ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَا يُحِلَّ محرمٌ حَبَسَهُ
بلاءٌ حَتَى يَطُوفَ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ عدوٌ (قَالَ) فَيُقِيمُ عَلَى
إِحْرَامِهِ قال فإن أدرك الحج وإلا طاف وسعى وعليه الحج من قابلٍ، وما
استيسر من الهدي فإن كان معتمراً أجزأه ولا وقت للعمرة فتفوته والفرق بين
المحصر بالعدو والمرض أن المحصر بالعدو خائفٌ القتل إن أقام وقد رخص لمن
لقى المشركين أن يتحرف لقتالٍ أو يتحيز إلى فئةٍ فينتقل بالرجوع من خوف
قتلٍ إلى أمنٍ والمريض حاله واحدةٌ في التقدم والرجوع والإحلال رخصةً فلا
يعدى بها موضعها كما أن المسح على الخفين رخصةٌ فلم يقس عليه مسح عمامةٍ
ولا قفازين ولو جاز أن يقاس حل المريض على حصر العدو جاز أن يقاس حل مخطئ
الطريق ومخطئ العدد حتى يفوته الحج على حصر العدو. وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ
بِالْعَدُوِّ.
فَأَمَّا الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِهِ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أبو
حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْمَرَضِ كَمَا يَتَحَلَّلَ
بِالْعَدُوِّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ
اللُّغَةِ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ وَحَصَرَهُ
الْعَدُوُّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ
بِالْمَرَضِ وَيَكُونُ الْإِحْصَارُ بِالْعَدُوِّ قِيَاسًا عَلَيْهِ،
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ
وَأَحْصَرَهُ الْعَدُوُّ مَعًا، فَعَلَى هَذَا الْآيَةُ عَامَّةٌ فِيهِمَا
جَمِيعًا، وَرَوَى عِكْرِمَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو
الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ،
فَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَابْنَ عباسٍ، فَقَالَا: صَدَقَ، قَالَ:
وَلِأَنَّهُ مَصْدُودٌ عَنِ الْبَيْتِ، فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ
كَالْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ
بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا
بِالْمَرَضِ كَالْجِهَادِ؛ وَلِأَنَّ الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ أَشَدُّ من
الإحصار بالعدو؛ لأنه لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ،
وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْ نَفْسِهِ، إِمَّا بِقِتَالٍ، أَوْ
بِمَالٍ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ بِمَا قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ، كَانَ تَحَلُّلُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ
(4/357)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- أَمَرَ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: تُرِيدِينَ
الْحَجَّ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أن
محلي حيث حبستني. والدلالة مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ بِالْمَرَضِ مِنْ غَيْرِ
شَرْطٍ، لَأَخْبَرَهَا وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَّقَ جَوَازَ إِحْلَالِهَا مِنَ الْمَرَضِ
بِالشَّرْطِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَتَعَلَّقُ
بِغَيْرِهِ، وَيَنْتَفِي عِنْدَ عَدَمِهِ؛ وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ
الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَذَلِكَ مَا رَوَى
الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّ رَجُلًا
مِنَ الْبَصْرَةِ خَرَجَ لِيَحُجَّ، فَوَقَعَ مِنْ على بَعِيرِهِ،
فَانْكَسَرَتْ فَخِذُهُ فَمَضَوْا إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ، فَلَمْ يَأْذَنْ
لَهُ أحدٌ فِي التَّحَلُّلِ، فَبَقِيَ سَبْعَةَ أشهرٍ، ثُمَّ تَحَلَّلَ
بعمرةٍ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ،
فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ مَعْنًى لَا يَمْنَعُ
مِنْ وُجُوبِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعِيدَ التَّحَلُّلَ مِنْهُ،
كَالصُّدَاعِ طَرْدًا، أَوْ كَانْسِدَادِ الطَّرِيقِ عَكْسًا؛ وَلِأَنَّهُ
لَا يَسْتَفِيدُ بِتَحَلُّلِهِ التَّخَلُّصَ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَذَى
الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّحَلُّلُ،
كَضَالِّ الطَّرِيقِ طَرْدًا، وَكَالْمُحْصَرِ عَكْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُحْصَرُ إِذَا حَصَرَهُ الْعَدُوُّ مِنْ سَائِرِ
جِهَاتِهِ، لَهُ التَّحَلُّلُ وَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ التَّخَلُّصَ مِنَ
الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ. قِيلَ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ،
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ، كَالْمَرِيضِ.
وَالثَّانِي: لَهُ التَّحَلُّلُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيدُ بِهِ
التَّخَلُّصَ مِنْ بَعْضِ الْأَذَى، فَإِنْ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهِ
التَّخَلُّصَ مِنْ جَمِيعِهِ، وَهُوَ الْعَدُوُّ الَّذِي فِي وَجْهِهِ؛
لِأَنَّهُ بِالْإِحْلَالِ وَالْعَوْدِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِقَائِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إنها في
الإحصار بالمرض كان فَاسِدًا؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّحَابَةُ
مُحَاصَرُونَ بِالْعَدُوِّ.
فَإِنْ قَالُوا: اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِحْصَارِ الْمَرَضِ؛
لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ، وَحَصَرَهُ الْعَدُوُّ.
قُلْنَا: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْصَارَ بالعدو مراداً، وَإِذَا كَانَ
مُرَادًا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ مَجَازًا، وَاللَّفْظَةُ
الْوَاحِدَةُ إِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجَازُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ
بِهَا الْحَقِيقَةُ أَيْضًا حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَعْمَلَةً فِيهِمَا
جَمِيعًا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَإِنْ قَالُوا:
إِنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا حَقِيقَةً، وَعُمُومَ اللَّفْظِ
يَتَنَاوَلُهَا.
(4/358)
قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ
إِلَّا عَلَى الْهَدْيِ، فَأَمَّا التَّحَلُّلُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُضْمَرٌ فِيهِ، فَلَا يُدَّعِي فِيهِ الْعُمُومُ،
وَالْإِضْمَارُ لَا يُوصَلُ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ لو
كان العموم بتناولهما جَمِيعًا، لَكَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ
الْإِحْصَارَ بِالْعَدُوِّ دُونَ المرض من وجهين:
أحدهما: قوله في أثناء الآية: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُُ} (البقرة: 196) ، فَمَنَعَ تَوْجِيهَ
الْخِطَابِ إِلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ حَتَّى يَنْحَرَ، وَهَذَا فِي
الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ بِالْمَرَضِ يَجُوزُ أَنْ
يَحْلِقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِيهَا: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ) {البقرة: 196)
وَالْأَمْنُ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ، فَأَمَّا عَنْ مَرَضٍ
فَإِنَّمَا يُقَالُ: بُرْءٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِحْصَارُ
الْعَدُوِّ دُونَ الْمَرَضِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عُرِجَ
فَقَدْ حَلَّ ". قُلْنَا: مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ شَرَطَ التَّحَلُّلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَضْمَرْتُمْ فِي الْخَبَرِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ
مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
قِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارٍ فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ
بِنَفْسِ الْكَسْرِ وَالْعَرَجِ، فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى
ظَاهِرِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ، بعلة أنه
مصدود عن البيت فغير سليم؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ غَيْرُ مَصْدُودٍ عَنِ
الْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ لم يحمل المشقة لموصل إِلَيْهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي
الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ، أَنَّهُ يَسْتَفِيدُ بِالتَّحَلُّلِ
التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَذَى الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
الْمَرِيضُ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَالْجِهَادُ قِتَالٌ،
وَالْمَرِيضُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ،
وَالْحَجُّ سَيْرٌ، وَالْمَرِيضُ يُمْكِنُهُ السَّيْرُ إِذَا كَانَ
رَاكِبًا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَرِيضَ أَسْوَأُ حَالًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ
الْجَوَابُ عَنْهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ مَعَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِالْمَرَضِ، وهو
أن يقول في إحرامه: إن حبستني مرض، أو انقطعت في نَفَقَةٌ، أَوْ عَاقَنِي
عَائِقٌ مِنْ ضَلَالِ طَرِيقٍ أو خطأٍ في عدو، تَحَلَّلَتْ، فَقَدْ ذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انعقاد هذا الشرط، وجواز الإحلال به،
كحديث ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي الْجَدِيدِ
عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ ضُبَاعَةَ؛ لِأَنَّهُ رَوَاهُ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ
مُسْنَدًا، وَرَوَى مِثْلَهُ مَوْقُوفًا، فَأَمَّا الْمُرْسَلُ فَهُوَ مَا
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مَرَّ بِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: أَتُرِيدِينَ
الْحَجَّ، فَقَالَتْ: إِنِّي شَاكِيَةٌ، فَقَالَ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي
أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي، وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَرَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَرْثِ عَنِ ابن جريج عن أبي
الزُّبَيْرِ عَنْ طَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
(4/359)
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ
الزُّبَيْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -،
إِنِّي امْرَأَةٌ ثقيلةٌ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَقَالَ: أَهِلِّي
وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي.
وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ لِي عائشة رضي الله
عنها: هل تثتثني إِذَا حَجَجْتَ؟ قُلْتُ لَهَا: مَاذَا أَقُولُ؟ فَقَالَتْ:
قُلِ اللَّهُمَّ الْحَجَّ أَرَدْتُ، وَلَهُ عَمَدْتُ، فَإِنْ يَسَّرْتَهُ
لِي فَهُوَ الْحَجُّ، وَإِنْ حَبَسَنِي حابسٌ فَهِيَ عمرةٌ، فَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ انْعِقَادَ الشَّرْطِ
وَجَوَازَ الْإِحْلَالِ بِهِ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُنْعَقِدٌ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِمَا
رُوِيَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، وَالْعَمَلُ بِهِ
غَيْرُ جَائِزٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ
وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا:
الشَّرْطُ مُنْعَقِدٌ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَدِيدِ
تَوَقَّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَجْلِ الْحَدِيثِ وَصِحَّتِهِ، وَقَدْ
صَحَّحَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَ الشَّرْطُ قَوْلًا
وَاحِدًا وَجَازَ الْعَمَلُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ الشَّرْطُ
حَتَّى يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ، فَإِنْ شَرَطَ قَبْلَ
إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَنْعَقِدِ الشَّرْطُ، وَإِنْ كَانَ
الشَّرْطُ مُقْتَرِنًا بِإِحْرَامِهِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إن حبسني مرض، أو
انقطعت بي نفقة، أَحْلَلْتُ، أَوْ أَنَا حَلَالٌ، أَوْ يَشْتَرِطُ
فَيَقُولُ: إِنْ أَخْطَأْتُ الْعَدَدَ، أَوْ ضَلَلْتُ عَنِ الطَّرِيقِ،
أَوْ عَاقَنِي عَائِقٌ، فَفَاتَنِي الْحَجُّ، كَانَ حَجِّي عُمْرَةً،
فَهَذِهِ الشُّرُوطُ كُلُّهَا مُنْعَقِدَةٌ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغَرَضِ
الصَّحِيحِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرُوطِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، مِثْلَ
قَوْلِهِ أَنَا مُحْرِمٌ بِحَجٍّ، فَإِنْ أَحْبَبْتُ الْخُرُوجَ مِنْهُ
خَرَجْتُ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْنِي زَيْدٌ قَعَدْتُ، فَهَذَا وَمَا
أَشْبَهَهُ مِنَ الشُّرُوطِ فَاسِدَةٌ، لَا تَنْعَقِدُ، وَلَا يَجُوزُ
الْإِحْلَالُ بِهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ انْعِقَادُ الشَّرْطِ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْوَصْفِ
الَّذِي شَاءَ، فَهَلْ يَصِيرُ حَلَالًا بِنَفْسِ الشَّرْطِ إِذَا وُجِدَ
أَمْ لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ فَيَنْظُرَ فِي
الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ قَالَ: إِنْ حَبَسَنِي مَرَضٌ تَحَلَّلْتُ
فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ حَلَالًا بِوُجُودِ الْمَرَضِ حَتَّى يَنْوِيَ
التَّحَلُّلَ وَالْخُرُوجَ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: إِنْ
حَبَسَنِي مَرَضٌ فَأَنَا حَلَالٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(4/360)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ حَلَالًا
بِوُجُودِ الشَّرْطِ؛ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ اللَّفْظِ فِيهِ، وَلِقَوْلِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من كسر أو عرج فقد حل ".
والوجه الثَّانِي: لَا يَصِيرُ حَلَالًا حَتَّى يَنْوِيَ التَّحَلُّلَ
وَالْخُرُوجَ مِنْهُ، فَيَصِيرَ حينئذٍ حَلَالًا؛ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ
بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنَ الْإِحْلَالِ بِالْمَرَضِ، فَلَمَّا
لَمْ يَتَحَلَّلْ بِوُجُودِ الْإِحْصَارِ، حَتَّى يَنْوِيَ الْإِحْلَالَ،
فَالْمَرَضُ أَوْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ
بِالشَّرْطِ، فَهَلْ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَحَلُّلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ دَمٌ كَالْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: لَا دَمَ
عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ، أَنَّ
مُوجَبَ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ مُنْتَهِيًا إِلَى حِينِ
وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ أَنْ يَأْتِيَ
بِمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ،
وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ قَدْ كَانَ إِحْرَامُهُ مُوجِبًا لِلْإِتْيَانِ
بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِذَا أَحَلَّ بِالْإِحْصَارِ فَقَدْ
تَرَكَ الْإِتْيَانَ بِفِعْلِ مَا وَجَبَ بِالْإِحْرَامِ؛ فَلِذَلِكَ
لَزِمَهُ دَمٌ، وَاللَّهُ أعلم.
(4/361)
|