|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي بَابُ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ
وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَشِرَاءِ الأعمى
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ
تُنْتِجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتِجَ الَّتِي في بطنها (قال الشافعي)
فَإِذَا عَقَدَا الْبَيْعَ عَلَى هَذَا فَمَفْسُوخٌ لِلْجَهْلِ بوقته
وَقَدْ لَا تُنْتِجُ أَبَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَيْعِ حَبَلِ
الْحَبَلَةِ الَّذِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِهِ:
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ بَيْعُ نِتَاجِ النِّتَاجِ فَيَقُولُ إِذَا
نَتَجَتْ نَاقَتِي هَذِهِ وَنَتَجَ نِتَاجُهَا فَقَدْ بِعْتُكَهُ
بِدِينَارٍ فَنَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِي النِّتَاجِ
الْأَوَّلِ وَالثَانِي لِأَنَّهَا قَدْ تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ
فَإِذَا أَنْتَجَتْ فَقَدْ يَتَقَدَّمُ نِتَاجُهَا وَيَتَأَخَّرُ،
وَيَكُونُ تَارَةً ذَكَرًا وَتَارَةً أُنْثَى فَكَانَ بَيْعُهُ مَعَ هَذَا
الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ بَاطِلًا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ
بِظَاهِرِ اللَّفْظِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حَبَلُ الْحَبَلَةِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنْ
يَكُونَ الْأَجَلُ فِي الْبَيْعِ مُقَدَّرًا بِهِ وَلَا يَكُونُ هُوَ
الْمَبِيعُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ
بِدِينَارٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى نِتَاجِ هَذِهِ النَّاقَةِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ
بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ وَأَنَّ تِلْكَ النَّاقَةَ قَدْ
تُنْتِجُ وَقَدْ لَا تُنْتِجُ، وَقَدْ يَقْرُبُ نِتَاجُهَا وَيَبْعُدُ.
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَشْبَهَ بظاهر اللفظ فهذا تأويل
الثَّانِي أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ: لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ فَسَّرَهُ بِهِ،
وَلِأَنَّ بَيْعَ النِّتَاجِ قَدْ تَضْمَنَّهُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ
الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ فَكَانَ حَمْلُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ
الْفَوَائِدِ أَوْلَى. وَأَيُّ التَّأْوِيلَيْنِ كَانَ فَالْبَيْعُ فِيهِ
بَاطِلٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي التَّأْوِيلَيْنِ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ.
فَصْلٌ:
وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ
الْحَصَاةِ.
(5/336)
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْتِيَ وَبِيَدِهِ حصاة إلى بزاز وَبَيْنَ يَدَيْهِ
ثِيَابٌ فَيَشْتَرِي مِنْهُ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ
فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ الْمَبِيعُ. فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ
لِلْجَهْلِ بِعَيْنِ مَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يَبْتَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ
إِلَى أَنْ يُلْقِيَ هَذِهِ الْحَصَاةَ مِنْ يَدِهِ وَهَذَا أَيْضًا بَيْعٌ
بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَرْضٍ إِلَى حَيْثُ
انْتِهَاءِ إِلْقَاءِ الْحَصَاةِ ثُمَّ يَرْمِي الْحَصَاةَ فَإِلَى أَيْنَ
انْتَهَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَهُوَ الْقَدْرُ الْمَبِيعُ، وَهَذَا أَيْضًا
بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلْجَهْلِ بِقَدْرِ ما يتناول العقد.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ
وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةُ عِنْدَنَا أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ
بِثَوْبِهِ مَطْوِيًا فَيَلْمِسَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ فِي ظُلْمَةٍ
فَيَقُولَ رَبُّ الثَّوْبِ أَبِيعُكَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ
الْبَيْعُ فَنَظَرُكَ إِلَيْهِ اللَّمْسُ لَا خِيَارَ لَكَ إِذَا نَظَرْتَ
إِلَى جَوْفِهِ أَوْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ أَنْبِذَ
إِلَيْكَ ثَوْبِي وَتَنْبِذُ إِلَيَّ ثَوْبَكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا خِيَارَ إِذَا عَرَفْنَا الطُّولَ وَالْعَرْضَ
وَكَذَلِكَ أَنْبِذُهُ إِلَيْكَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ
الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ
وَعَنْ لِبْسَتَيْنِ، أَمَّا الْبَيْعَتَانِ فَالْمُلَامَسَةُ
وَالْمُنَابَذَةُ، وَأَمَّا اللِّبْسَتَانِ فَاشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ
وَالِاحْتِبَاءُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
فَأَمَّا بَيْعُ الْمُلَامَسَةِ فَهُوَ مَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ
أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِثَوْبِهِ مَطْوِيًّا أو في سفط أَوْ تَكُونُ
ظُلْمَةٌ فَيَقُولُ أَبِيعُكَ هَذَا الثَّوْبَ عَلَى أَنْ تَلْمِسَهُ
بِيَدِكَ وَلَا خِيَارَ لَكَ إِذَا أَبْصَرْتَهُ وَعَرَفْتَ طُولَهُ
وَعَرْضَهُ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ
الْغَرَرِ لِعَدَمِ النَّظَرِ، وَلِمَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ مِنْ
إِسْقَاطِ الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ.
(فَأَمَّا) بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ: وَالنَّبْذُ فِي كَلَامِهِمُ
الْإِلْقَاءُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] وَقَالَ تَعَالَى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ
ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] أَيْ أَلْقَوْهُ. وَصُورَةُ المنابذة: أن
يقول الرجل لصاحبه هوذا أَنْبِذُ إِلَيْكَ ثَوْبِي، أَوْ مَا فِي كُمِّي
عَلَى أَنْ تَنْبِذَ إِلَيَّ ثَوْبَكَ أَوْ مَا فِي كُمِّكَ عَلَى أَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنَّا بَعْدَ
(5/337)
النَّظَرِ فَهُنَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَكَذَا
لَوْ قَالَ هوذا أَنْبِذُ إِلَيْكَ مَا فِي كُمِّي بِدِينَارٍ وَلَا
خِيَارَ لَكَ بَعْدَ نَظَرِكَ إِلَيْهِ، وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ،
وَإِنَّمَا بَطَلَ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ
الْغَرَرَ كَثِيرٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ مَسْلُوبٌ مِنْهُ.
فَصْلٌ:
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ
الْعُرْبَانِ، وَرُوِيَ عَنْ بَيْعِ الأربون، وروي أنه نهى عن بيع المسكان.
وهو بيع قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ أَوْ
يَتَكَارَى الدَّابَّةَ ثُمَّ يَقُولُ أَعْطَيْتُكَ دِينَارًا عَلَى أَنِّي
إِنْ رَجَعْتُ عَنِ الْبَيْعِ وَالْكِرَاءِ فَمَا أَعْطَيْتُكَ لَكَ.
وَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، وَلِحُدُوثِ الشَّرْطِ فِيهِ،
وَلِأَنَّ مَعْنَى الْقِمَارِ قَدْ تَضَمَّنَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِينَةِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ:
" إِذَا تَبَايَعْتُمُ الْعِينَةَ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ
وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ".
وَصُورَةُ بَيْعِ الْعِينَةِ هُوَ: أَخْذُ الْعَيْنِ بِالرِّبْحِ مشْتَقُّ
الِاسْم مِنَ الْمَعْنَى.
وَقَالَ الشَّاعِرُ وَأَنْشَدَنِيهِ أبو حامد الإسفراييني:
(أندان أم نعتان أَمْ يَنْبَرِي لَنَا ... فَتًى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ
هزت مضاربه)
قوله: يدان: من الدين، ويعتان: من العينة. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا يجوز شراء الأعمى وإن ذاق ماله طَعْمٌ
لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي الثَّمَنِ بِاللَّوْنِ إِلَّا فِي السَّلَمِ
بِالصِّفَةِ وَإِذَا وَكَّلَ بَصِيرًا يَقْبِضُ لَهُ عَلَى الصِّفَةِ
(قَالَ الْمُزَنِيُّ) يُشْبِهُ أَنْ يكون أراد الشافعي بلفظة الْأَعْمَى
الَّذِي عَرَفَ الْأَلْوَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى فَأَمَّا مَنْ خُلِقَ
أَعْمَى فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْأَلْوَانِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنِ
اشْتَرَى مَا يَعْرِفُ طَعْمَهُ وَيَجْهَلُ لَوْنَهُ وَهُوَ يُفْسِدُهُ
فَتَفُهِّمَهُ وَلَا تُغْلِظْ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْبُيُوعُ ضَرْبَانِ بَيْعُ عَيْنٍ وَبَيْعُ
صِفَةٍ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى إِلَّا
أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ شَاهَدَ مَا ابْتَاعَهُ قَبْلَ الْعَمَى فيصح.
(5/338)
وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يَجُوزُ
بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
وَبِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلَبِ وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عُمَرَ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ وَيَشْتَرُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ أَحَدٌ من الصحابة. فدل على أنهم مجمعون عَلَيْهِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ صَحَّ
مِنْهُ عَقْدُ الْبَيْعِ كَالْبَصِيرِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَقْبَلَهُ الْبَصِيرُ جَازَ أَنْ
يَقْبَلَهُ الضَّرِيرُ كَالنِّكَاحِ.
وَدَلِيلُنَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- عَنِ الْغَرَرِ، وَعَقْدُ الضَّرِيرِ مِنْ أَعْظَمِ الْغَرَرِ.
ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ
الْمُلَامَسَةِ، وَبَيْعُ الضَّرِيرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ.
وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا.
وَلِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِفَقْدِ الرُّؤْيَةِ
تَأْثِيرٌ فِيهِ كَالْبَصِيرِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا
ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا نَقْلُهُمُ الْإِجْمَاعَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا نَقْلَ
مَعَهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاشَرُوا عَقْدَ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعَمَى.
وَلَوْ نَقَلُوهُ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ لَا
يَكُونُ رِضًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَصِيرِ فَالْمَعْنَى فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ
حُصُولُ مُشَاهَدَتِهِ، وَالْأَعْمَى مَفْقُودُ الْمُشَاهَدَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّكَاحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا
لَمْ يَكُنْ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِيهِ صَحَّ مِنَ الْأَعْمَى وَلَمَّا
كَانَ لِلرُّؤْيَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْمنع لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْأَعْمَى.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا بَيْعُ الصِّفَةِ فَهُوَ السَّلَمُ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ
الْأَعْمَى بَيْعًا وَشِرَاءً لِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ عَلَى صِفَةٍ
يَفْتَقِرُ إِلَى الْخَبَرِ دُونَ النَّظَرِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي المختبرات، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي
بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمُشَاهَدَاتِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، فَكَأَنَّ الْمُزَنِيُّ يَذْهَبُ
إِلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ السَّلَمِ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ بَصِيرًا قَدْ عَرَفَ الْأَلْوَانَ ثُمَّ عَمِيَ.
فَأَمَّا الْأَكْمَهُ الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ
السَّلَمُ لِجَهْلِهِ بِالْأَلْوَانِ.
وَخَرَّجَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْمِلُ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ المزني. وذهب
جمهورهم إلى من عقد السلم في عَقْدِ السَّلَمِ بَيْنَ الْأَعْمَى الَّذِي
كَانَ بَصِيرًا وَبَيْنَ مَنْ خُلِقَ أَعْمَى لَمْ يُبْصِرْ، لِأَنَّ مِنْ
خُلِقَ أَعْمَى وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْأَلْوَانَ فَهُوَ يَعْرِفُ
أَحْكَامَهَا، وَيَعْلَمُ اخْتِلَافَ قِيَمِ الْأَمْتِعَةِ بِاخْتِلَافِ
أَلْوَانِهَا، وَأَنَّ الْحِنْطَةَ الْبَيْضَاءَ أَجْوَدُ مِنَ الحنطة
(5/339)
السَّمْرَاءِ، فَصَارَ فِيهَا كَالْبَصِيرِ
وَكَالْأَعْمَى الَّذِي كَانَ بَصِيرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ
لَوْ وُصِفَ لَهُ مَتَاعٌ لَمْ يَرَهُ وَلَا عَرَفَهُ فِي بَلَدٍ
تَبْعُدُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يُسَلَمَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ
الصِّفَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إِذَا عَلِمَ
تَفَاصِيلَهَا بِاخْتِلَافِهَا. فَكَذَلِكَ سَلَمُ الْأَعْمَى.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَصِحُّ مِنْهُ فَقَبَضَهُ
عِنْدَ حُلُولِهِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، لِأَنَّ الْقَبْضَ يَحْتَاجُ
إِلَى اسْتِيفَاءِ الصِّفَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ
مِمَّا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالنَّظَرِ، فَجَرَى
مَجْرَى عَقْدِ الْبَيْعِ عَلَى عَيْنٍ لَا تَصِحُّ مِنَ الْأَعْمَى
حَتَّى يُوَكِّلَ فِيهِ بصيرا يعقد عنه أوله.
كذلك لا يصح من الأعمى قبض السلم فِيهِ وَلَا إِقْبَاضُهُ حَتَّى
يُوكِّلَ مَنْ يَقْبِضُ لَهُ إِنْ كَانَ مُشْتَرِيًا أَوْ يَقْبِضُ
عَنْهُ إِنْ كَانَ بَائِعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَضَامِينُ مَا فِي أَصْلَابِ
الْفُحُولِ، وَالْمَلَاقِيحُ مَا فِي بُطُونِ الِإِنَاثِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ
الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّ الْمَضَامِينَ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ، وَالْمَلَاقِيحِ مَا
فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ المزني وأنشد ابْنُ
هِشَامٍ لِصِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
(إِنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُلْبِ ... مَاءُ الْفُحُولِ في
الظهور الحدب)
(ليس بمغن عنك جهد الكرب)
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
(مَنَّيْتَنِي مَلَاقِحًا فِي الْأَبْطُنِ ... تُنْتَجُ مَا يَلْقَحُ
بَعْدَ أَزْمُنِ)
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ بَاطِلٌ
لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ.
وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ، وَلِنَهْيِهِ عَنْ
بَيْعِ الْغَرَرِ وَفِيهِ غَرَرٌ، فَإِنْ قيل: فإذا كانت هذه البياعات
الَّتِي نَهَى عَنْهَا غَرَرًا دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ عَنِ بَيْعِ
الْغَرَرِ، فَهَلَّا اكْتَفَى بِذَلِكَ النَّهْيِ عَنْ تَخْصِيصِ
هَذِهِ بِالنَّهْيِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَلِأَنَّ هَذِهِ بِيَاعَاتٌ قَدْ كَانَتْ مَأْلُوفَةً لَهُمْ
فَخَصَّهَا بِالنَّهْيِ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي جملة نهيه عن بيع الغرر
لأن لا يَجْعَلُوا الْعَادَةَ الْمَأْلُوفَةَ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ
الْبُيُوعِ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ
فَكَانَ تَخْصِيصُهَا بِالنَّهْيِ أَوْكَدَ.
(5/340)
|