الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

كتاب إحياء الموات
من كتاب وضعه بخطه لا أعلمه سمع منه
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ عامرٌ ومواتٌ فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلَحَ بِهِ الْعَامِرُ مِنْ طريقٍ وفناءٍ وَمَسِيلِ ماءٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لَا يُمْلَكَ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ مَوَاتُ مَا قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلِهِ مَعْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا فَذَلِكَ كَالْعَامِرِ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدٌ فِي الْإِسْلَامِ يُعْرَفْ وَلَا عِمَارَةَ مِلْكٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ.
وَرَوَى وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال من أحياء أَرْضًا مَيْتَةً فِيهَا أَجْرٌ وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَالْعَوَافِي: جَمْعُ عَافٍ وَهُوَ طَالِبُ الْفَضْلِ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ.
وَرَوَى شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فهي " له.

(7/474)


وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عِمَارَاتُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ فَيْءٌ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجر عَلَيْهِ مِلْكٌ نَوْعَانِ: أَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، فَلَمَّا مَلَكَ الْحَيَوَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالِاصْطِيَادِ مَلَكَ مَوَاتَ الْأَرْضِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِحْيَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شيئان عامر وموات ونما خَصَّ الشَّافِعِيُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمَيِ الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ وَإِنْ كَانَتْ بِلَادُ الشِّرْكِ قِسْمَيْنِ: عَامِرٌ، وَمُوَاتٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ عَامِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَعَامِرَ بِلَادِ الشِّرْكِ قَدْ يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَدَأْنَا بِذِكْرِ الْعَامِرِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بِمَوَاتِهِمْ أَمَّا الْعَامِرُ فَلِأَهْلِهِ الَّذِينَ قَدْ مَلَكُوا بِأَحَدِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ:
أَحَدُهَا: الْمِيرَاثُ.
وَالثَّانِي: الْمُعَاوَضَاتُ.
وَالثَّالِثُ: الْهِبَاتُ.
وَالرَّابِعُ: الْوَصَايَا.
وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ.
وَالسَّادِسُ: الصَّدَقَاتُ.
وَالسَّابِعُ: الْغَنِيمَةُ.
وَالثَّامِنُ: الْإِحْيَاءُ.
فَإِذَا مَلَكَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّمَانِيَةِ صَارَ مَالِكًا لَهُ وَلِحَرِيمِهِ وَمَرَافِقِهِ مِنْ فِنَاءٍ وَطَرِيقٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ الْعَامِرِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْعَامِرُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعَامِرِ بِإِحْيَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ فَمَنْ أَحْيَاهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: حَرِيمُ الْعَامِرِ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وَطُولِ الْفَرَسِ، وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ.

(7/475)


وَثُلَّةُ الْبِئْرِ: هُوَ مَلْقَى طِينِهَا وَطُولُ الْفَرَسِ وَهُوَ مَا انْتَهَى الْفَرَسُ إِلَيْهِ بِحَبْلِهِ الَّذِي قَدْ رُبِطَ بِهِ وَحَلْقَةُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ نَهَى مِنْهُ عَنِ الْجُلُوسِ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، وَلِأَنَّ حَرِيمَ الْعَامِرِ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مقراً على أهله لم يتعرض أحد لإحياءه مَعَ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْعَامِرِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِحْيَاءُ حريم العامر ومنع أهله منه بالإحياء ليبطل الْعَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَسَقَطَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ دَارًا يَسُدُّ بِهَا بَابَ جَارِهِ فَلَا يَصِلُ الْجَارُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا مِنَ الضَّرَرِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلَيْسَ الْحَرِيمُ مَوَاتًا فَيَصِحُّ استدلال داود عليه.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَزَلْ عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ مَوَاتًا لَمْ يُعْمَرْ قَطُّ فَهَذَا هُوَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " فَمَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ مَلَكَهُ وَإِنْ أَحْيَاهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يَمْلِكْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " وَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُبَاحَةٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهَا الْمُسْلِم وَالذِّمِّيُّ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالْبَيْعِ.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ " فَوَاجَهَ الْمُسْلِمِينَ بِخِطَابِهِ وَأَضَافَ مِلْكَ الْمَوَاتِ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " إِشَارَةً إِلَى إِجْلَائِهِمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحِجَازِ فَلَمَّا أَمَرَ بِإِزَالَةِ أَمْلَاكِهِمِ الثَّابِتَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَسْتَبِيحُوا أَمْلَاكًا مُحْدَثَةً؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْدَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ كَالْمُعَاهِدِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْكَافِرُ قَبْلَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ.
أَصْلُهُ: نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ يُنَافِيهِ كُفْرُ الْحَرْبِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ كُفْرُ الذِّمِّيِّ كَالْإِرْثِ مِنْ مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً مواتاً فهي له " فهل أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ.
وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي " وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ

(7/476)


مِنْهُمَا فِيمَا قَصَدَ لَهُ قَاضِيًا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَارَ الْخَبَرَانِ فِي التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ لَهُ ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْغَنِيمَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَوِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهَا مَعَ كَوْنِهَا أَعْيَانًا مُبَاحَةً ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنَ النَّقْصِ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ أَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيهِ إِذَا أَخَذَهُ الْكَافِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعِ الْمُعَاهِدُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ فَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي فرقوا به في المعاهد بين إحياءه وَاصْطِيَادِهِ هُوَ فَرْقَنَا فِي الذِّمِّيِّ بَيْنَ إِحْيَائِهِ وَاصْطِيَادِهِ وَهُوَ الْجَوَابَ عَنْ قِيَاسِهِم الثَّانِي، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ فَضِيلَتُهُ بِدِينِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مُبَايِنَةٍ لِصِغَارِ الذِّمَّةِ فَاسْتَعْلَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الْمِلَّةَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الذِّمِّيُّ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْإِحْيَاءِ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الذِّمِّيُّ.

فَصْلٌ
: وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ: مَا كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ فَصَارَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاهِلِيًّا لَمْ يُعْمَرْ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خُرِّبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا مُنْدَرِسًا كَأَرْضِ عَادٍ وَتُبَّعٍ فَهَذَا كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ بَاقِيَ الْعِمَارَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ وَصَارَ مَوَاتًا قَبْلَ أن يصير من بلا الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَ أَرْبَابُهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ عَامِرِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجْهَانِ كَالَّذِي جُهِلَ حَالُهُ.
فَصْلٌ
: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ مَا كَانَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ حَتَّى ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ، وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُ فَصَارَ مَوَاتًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لم يعرفوا.

(7/477)


وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِيرُ كَالْمَوَاتِ الْجَاهِلِيِّ يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ؛ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، وَحَقِيقَةُ الْمَوَاتِ: مَا صَارَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَوَاتًا، وَمَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى مَجَازًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنَ الْعَامِرِ زَالَ عن حكم العامر كَالْجَاهِلِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ فَجَازَ إِحْيَاؤُهُ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ؛ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ.
وَرَوَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فَجَعَلَ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنِ الْمَوَاتِ شَرْطًا فِي جَوَازِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ وَرَوَى أَسْمَرُ بْنُ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ مَالٌ " فَخَرَجَ النَّاسُ تَبَعًا يَتَخَاطُّونَ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي بَقِيَتْ آثَارُهَا مَعَ مَالِكٍ، وَكَالَّذِي تَعَيَّنَ أَرْبَابُهَا مَعَ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنْ عَامِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْأَوْقَافِ وَالْمَسَاجِدِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَهُوَ دليل عليهم، لأنه الْأَوَّلَ قَدْ أَحْيَاهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَسْبَقُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْجَاهِلِيِّ وَعَلَى الَّذِي لم ينزل مَوَاتًا فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجر عَلَيْهِمَا ملك مسلم.

فصل
: فإذا تقرر أن إحياؤه لَا يَجُوزُ فَإِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُمْ بَيْعُهُ إِنْ شَاءُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يُعْمِّرُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، لِقِيَامِهِ بِالنَّظَرِ الْعَامِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وعطيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَّةٌ لِمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَإِقْطَاعِهِ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد.

(7/478)


وَقَالَ أبو حنيفة: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَمْلِكْهُ وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ ثَمَنٌ وَيُشَاعُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مُهْمَلَةً جَازَ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ أُصُولُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لَمْ يُمْلَكْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ إِذَا كَانَ اجْتِهَادٌ لِلْإِمَامِ فِيهَا يَقْطَعُ الِاخْتِلَاف وَالتَّنَازُع فِيهَا كَانَ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ بِمِلْكِهِ لَا يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرْ تَمَلُّكُهُ إِلَى إِذْنِهِ كَالْمَاءِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَفْتَقِرِ الْمُسْلِمُ فِي تَمَلُّكِهِ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمْلِيكِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِهِ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الْمُتَمَلِّكِ وَالْمَوَاتُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَمْ يُفِدْهُ الْإِذْنُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمامه " فمن وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ إِمَامُنَا وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ لَنَا بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ".
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَأَنْوَاعِ الْغَنَائِمِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ فَخَصَّ الْمَوَاتَ مِنْهُ، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً موات فَهِيَ لَهُ "، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَعَادِنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْوَالٌ فِي الْحَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَمَلِ فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوَاتُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي كَوْنِهِمَا مَالًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ قَدْ يَصِيرُ مَالًا لَكَانَ الْمَعْنَى في أموال البيت الْمَالِ أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ فِيهَا مَحْصُورٌ، وَفِي الْمَوَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوَاتَ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَحْيَاهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَقَدْ مَلَكَهُ وَمَلَكَ حَرِيمَهُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإِنْ خُرِّبَ بَعْدَ إِحْيَائِهِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُ مَالِكِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِزَوَالِ الْعِمَارَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا وقد مضى الكلام معه.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ كان إلى جنب قريةٍ عامرةٍ أو حَيْثُ كَانَ وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عبدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذَنْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ

(7/479)


فِيهِمْ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ " وَفِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ وَإِنَّ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَامِرِ ودلالةٌ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الْعَامِرَ يَكُونُ مِنْهُ مَوَاتٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حَدِّ الْمَوَاتِ إِذَا اتَّصَلَ بِعَامِرٍ.
وَالثَّانِي: هَلْ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعَامِرِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَوَاتَ كُلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا، وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ سَوَاءٌ قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَوَاتُ هُوَ كُلُّ أَرْضٍ لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ وَتَبْعُدُ مِنَ الْعَامِرِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَقَالَ أبو يوسف: أَرْضُ الْمَوَاتِ كُلُّ أَرْضٍ إِذَا وُقِفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنَ الْعَامِرِ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي الْعَامِرِ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا دَعْوَةً مِنَ الْمِصْرِ أَوْ قَالَ فِيهِ مِنَ الْمِصْرِ فَهِيَ لَهُ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ وَلِأَنَّ الْبِلَادَ الْمُحَيَّاةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مُتَّصِلَةُ الْعِمَارَةِ مُتَلَاصِقَةُ الْجُذُورِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ عِمَارَتَيْنِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّحْدِيدِ، وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَحْوَاهُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ جَازَ إِحْيَاؤُهُ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ إِذَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ فَإِنَّ النَّاسَ كلم يَتَسَاوُونَ فِي إِحْيَائِهِ وَلَا يَكُونُ أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْتَطَعَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا، وَأَقْطَعَ للزبير بالبقيع رقض فَرَسِهِ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَامَ بِفَنَاءِ دَارِهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لِي سَنَامُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا سَنَامًا زَعَمَ ابْنُ فَرْقَدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ حَقِّي مِنْ حَقِّهِ، لِي بَيَاضُ الْمَرْوَةِ وَلَهُ سَوَادُهَا، وَلِي مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا أَحَاطَتْ بِهِ جُدْرَانُهُ وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا مَا حَفَرَ أَوْ زَرَعَ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ أهل العامل لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَائِهِ قِيَاسًا على البعيد من عامره.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَوَاتُ الَّذِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُعْمِرُهُ خَاصَّةً وَأَنْ يَحْمِيَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ وَالَّذِي عَرَفْنَا نَصًّا ودلالةً

(7/480)


فِيمَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه حمى النقيع وهو بلد ليس بالواسع الذي إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله وأضر بهم وكانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعةً لأنفسهم ومواشيهم وأنه قليلٌ من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله تبارك وتعالى وما فضل من سهمان أهل الصدقات وما فضل من النعم التي تؤخذ من الجزية ترعى جميعها فيه فأما الخيل فقوةٌ لجميع المسلمين ومسلك سبيلها أنها لأهل الفيء والمجاهدين وأما النعم التي تفضل عن سهمان أهل الصدقات فيعاد بها على أهلها وأما نعم الجزية فقوةٌ لأهل الفيء من المسلمين فلا يبقى مسلمٌ إلا دخل عليه من هذا خصلة صلاحٍ في دينه أو نفسه أو من يلزمه أمره من قريبٍ أو عامةٍ من مستحقي المسلمين فكان ما حمى عن خاصتهم أعظم منفعةً لعامتهم من أهل دينهم وقوةً على من خالف دين الله عز وجل من عدوهم قد حمى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى هذا المعنى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وقال له يا هنى ضم جناحك للناس وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مجابةٌ وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخلٍ وزرعٍ وإن رب الغنيمة يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك والكلا أهون من الدرهم والدينار (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يحمي من الأرض إلا أقلها الذي لا يتبين ضرره على من حماه عليه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسول " (قال) وكان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلبٍ على جبلٍ إن كان به أو نشز إن لم يكن ثم استعوى كلباً وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحيةٍ لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفي ماشيته وما أراد معها فنرى أَنَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسوله " لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله فلله كل محميٍّ وغيره ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يملك مالاً إلا ما لا غنى به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى صير ما ملكه الله من خمس الخمس وماله إذا حبس قوت سنته مردوداً في مصلحتهم فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولأن نفسه وماله كان مفرغاً لطاعة الله تعالى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ، وَهِيَ الْإِحْيَاءُ، وَالْإِقْطَاعُ، وَالْحِمَى، فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ وَسَنَذْكُرُ صِفَتَهُ، وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَوَاتٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ

(7/481)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَقْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ الْبَقِيعِ فَأَجْرَاهُ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ فَقَالَ أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ وَأَقْطَعَ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ السُّلَمِيَّ غَلْوَةً بِسَهْمٍ، وَغَلْوَةَ حَجَرٍ بِرُهَاطٍ، وَأَقْطَعَ الْعَدَّاءَ بْنَ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مَا يُقَالُ لَهُ سَوَاحُ الْوَخِيخِ، وَأَقْطَعَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ مَنْزِلَهُ بِالرَّشَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فَإِنَّ تَمِيمًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ الَّذِي قَالَ فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيَفْتَحَنَّ عَلَيْكَ، فَكَتَبْتُ له كتاباً فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك إقطاعاً تَقَيُدٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ بِذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِتَصْدِيقِ إِخْبَارٍ وَتَحْقِيقِ إِعْجَازٍ، وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَقْطَعَا إِلَّا مَوَاتًا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَاصْطَفَى عُمَرُ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا فَكَانَ مَبْلَغُ تِسْعَةِ أَلْفِ أَلْفٍ فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْطَعَهَا، لِأَنَّهُ رَأَى اقْتِطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْطَاعَ إجازة لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَكَانَتْ مِنْهَا إِقْطَاعًا بِهِ وَصِلَاتِهِ ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ فَلَمَّا كان عاد الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِحَرْقِ الدِّيوَانِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَإِذَا كَانَ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ دُونَ الْعَامِرِ فَالَّذِي يُؤْثِرُهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْطِعُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِحْيَائِهِ مَنْ لَمْ يسبق إلى إحياءه لَمَّا كَانَ إِذْنُهُ وَفَضْلُ اجْتِهَادِهِ، فَلَوْ بَادَرَ بِإِحْيَائِهَا غَيْر الْمُقْتَطِعِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي دُونَ الْمُقْطِعِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَحْيَاهَا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَهِيَ لِلْمُحْيِي، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ خُيِّرَ الْمُقْطِعُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهَا قَبْلَ الْعِمَارَةِ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ أَقْوَاهَا أَرْضًا فَجَاءَ آخَرُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْيَوْهَا فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغُوا إِلَيْهِ تَرَكْتُمُوهُمْ يَعْمَلُونَ وَيَأْكُلُونَ ثُمَّ جِئْتُمْ تُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ؟ لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا ثُمَّ قَوَّمَهَا عَامِرَةً وَقَوَّمَهَا غَيْرَ عَامِرَةٍ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْأَصْلِ: إِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَخُذُوا أَرْضَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ رَدُّوا عَلَيْكُمْ ثَمَنَ أَرْضِكُمْ ثم هلي لَهُمْ، وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُ الْمُحْيِي بِكُلِّ حَالٍ دُونَ الْمُقْطِعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ "، وَلِأَنَّ الْإِقْطَاعَ لَا يُوجِبُ التَّمْلِيكَ وَالْإِحْيَاءَ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ أَقْوَى حُكْمًا مِمَّا لَا يُوجِبُهُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ فِي قَضِيَّتِهِ: لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهَا لِلْمُحْيِي وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مِنْ إِقْطَاعِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَرِهَ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَاسْتَنْزَلَ الْخَصْمَيْنِ إِلَى مَا قضى به مَرْضَاةً لَا جَبْرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ حَجَرَهَا وَجَمَعَ تُرَابَهَا حَتَّى تَمَيَّزَتْ عَنْ غيرها فجاء

(7/482)


غَيْرُهُ فَعَمَرَهَا وَحَرَثَهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ مُقِيمًا عَلَى عِمَارَتِهَا حَتَّى تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِي فَعَمَرَهَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَطَوِّعًا بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ تَرَكَ عِمَارَتَهَا فَعَمَرَهَا الثَّانِي فَهِيَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ بَدَأَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْحِمَى فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ لِيَتَوَفَّرَ فِيهِ الْكَلَأُ فَتَرْعَاهُ الْمَوَاشِي، لِأَنَّ الْحِمَى فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: جَنْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حِمَى، وَالْحِمَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَضَرْبٌ حَمَاهُ الْإِمَامُ بَعْدَهُ، وَضَرْبٌ حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَبَلٍ بِالْبَقِيعِ يُقَالُ لَهُ يَعْمَلُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حِمَايَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْبِقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مَيْلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ مَا بَيْنَ يَعْمَلَ إِلَى ثُلُثَيْنِ فَحَمَاهُ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، ولأن اجتهاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أمته أمضى وقضائه فِيهِمْ أَنْفَذُ، وَكَانَ مَا حَمَاهُ لِمَصَالِحِهِمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقَرًّا مِنْ إِحْيَائِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا حِمَى الْإِمَامِ بَعْدَهُ فَإِنْ أَرَادَ الْحِمَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ خُصُوصًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا حَمَاهُ مُبَاحًا لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِيَ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَوَاشِي الْفُقَرَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْحِمَى يَضُرُّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ لِضِيقِ الْكَلَأِ عَلَيْهِمْ بِحِمَى أَكْثَرِ مَوَاتِهِمْ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ يَكْتَفِي الْمُسْلِمُونَ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاتِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يحْمى، لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ.
رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الله بن عباس عن الصعب عن جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمَى الْبَقِيعَ وَقَالَ لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَى بِالرَّبَذَةِ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَبُو أُسَامَةَ وَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ قُرْطُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَفَ فَحَمَى مِنْهُ نَحْوَ مَا حَمَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرَّبَذَةِ وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وَقَالَ يَا هُنَيُّ اضم جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ وَإِيَّاكَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخل وزرع وإن سب

(7/483)


الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَكَ فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَايْمُ اللَّهِ نُودِيَ أَنِّي قَدْ طَلَحْتُهُمْ إِنَّمَا أَكْلَأُهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاثٍ " فَهُوَ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحِمَى عَلَى أَنَّ الْحِمَى يُشْرَكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ نَفْعَ الْحِمَى يَعُودُ عَلَى كَافَّتِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلِأَنَّهُ مَرْعَى صَدَقَاتِهِمْ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَلِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُمْ، وَأَمَّا قوله لا حمى إلا الله فَمَعْنَاهُ لَا حِمَى إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيسلم فيما حماه للفقراء المسلمون وفي مصالحهم وخالفاً فِيهِ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كان إذا استولى على بلد أوفى بكلب فَجَعَلَهُ عَلَى جَبَلٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْوَاهُ فَحَيْثُ انْتَهَى عُوَاهُ حَمَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ وَيُشَارِكُ النَّاسَ فِيمَا سِوَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا أعجبته روضة ألقى فيها كلباً وَحَمَى إِلَى مُنْتَهَى عُوَائِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ مَعْبَدُ بْنُ شُعْبَةَ الضَّبِّيُّ كَفِعْلِ كُلَيْبٍ كُنْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ مُخَطَّطٌ أَكَلَأَ الْمِيَاهَ وَيَمْنَعُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ كَمَا بَغِيَهَا كُلَيْبٌ لِظُلْمَةٍ مِنَ الْعِزِّ حَتَّى ضَاعَ وَهُوَ قَتْلُهَا عَلَى وَائِلٍ أن يترك الكلب هائجاً وإذ يمنع الأكلأ مِنْهَا حَوْلَهَا.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا حِمَى الْوَاحِدِ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَمَحْظُورٌ وَحِمَاهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ إِنْ حَمَى لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَكَّمُ وَتَعَدَّى بِمَنْعِهِ، وَإِنْ حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا فِيمَنْ يُؤْثَرُ اجْتِهَادُهُ لَهُمْ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هَانِئٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُمَانِعُوا فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا فَضْلَ الكلأ فيعزل الْمَاء وَيَجُوعَ الْعِيَالُ " فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ حَمَى مَوَاتًا وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ زَمَانًا رَعَاهُ وَحْدَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَلَمْ يُغَرِّمْ مَا رَعَاهُ، لأنه ليس لمالك وَلَا يُعَزِّرُهُ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُسْتَحِقِّيهِ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِ تَعَدِّيهِ، فَأَمَّا أَمِيرُ الْبَلَدِ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ إِذَا رَأَى أَنْ يَحْمِيَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ أَعَمُّ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ وَالِيَ الصَّدَقَاتِ اجْتَمَعَتْ مَعَهُ مَوَاشِي الصَّدَقَةِ وَقَلَّ الْمَرْعَى لها وخاف عليها التلف إن لم يحمي الْمَوَاتَ لَهَا فَإِنْ مَنَعَ الْإِمَامُ مِنَ الْحِمَى كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ أَوْلَى، وَإِنْ جَوَّزَ الْإِمَامُ الْحِمَى فَفِي جَوَازِهِ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ عِنْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الضَّرُورَةِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورَةِ فَعَلَى هَذَا يَتَعَزَّرُ الْحِمَى بِزَمَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا يَسْتَدِيمُ بِخِلَافِ حِمَى الْإِمَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يحمى، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ

(7/484)


بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَكُونُ الضَّرَرُ إِنْ كَانَ بِالْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لأحدٍ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَعَمَّرَهُ نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّبَبِ الَّذِي حَمَاهُ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ مَوَاشِي الْفُقَرَاءِ ونعم بعلاقات مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ زَائِلًا فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةً فَإِحْيَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَعِمَارَتُهُ مَنْقُوضَةٌ وَهُوَ عَلَى مَا حَيَّاهُ بِمَنْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنْ إِحْيَائِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَقَّبَ بِنَقْضٍ، وَلَا أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالٍ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ زَائِلًا وَحَاجَةُ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ قَدِ ارْتَفَعَتْ وَنَعَمُ الصَّدَقَاتِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ وَإِقْرَارِ عِمَارَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يَجُوزُ، لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمُسَبِّبِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ سَبَبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ السَّبَبُ بَعْدَ زَوَالِهِ كَمَا أَنَّ مَا خَرِبَ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِخَرَابِ بِقَاعِهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِجَوَازٍ أَنْ تَعُودَ عِمَارَةُ الْبُقْعَةِ فَيُحْتَاجُ إلى مساجدها، ولأن في إحيائه نقض لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا حِمَى الْأَئِمَّةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِحْيَاؤُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ حِمَى الْإِمَامِ جَائِزٌ كَحِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَلْ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَتَمْلِيكُ مُحْيِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يَمْلِكُ حمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا حِمًى مُحَرَّمٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ حِمَى الْإِمَامِ اجْتِهَادٌ وَمِلْكَ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(7/485)


باب ما يكون إحياءٌ
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إحياءٌ لِمِثْلِ الْمُحَيَّا إِنْ كَانَ مَسْكَنًا فَبِأَنْ يَبْنِيَ بِمِثْلِ مَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِنَاءً وَإِنْ كَانَ لِلدَّوَابِّ فَبِأَنْ يَبْنِيَ مَحْظَرَةً وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الْأَرْضُ أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا تَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِهَا وَيَجْمَعَ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ ماءٍ أَوْ بئرٌ حَفَرَهَا أَوْ سَاقَهُ مِنْ نهرٍ إِلَيْهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذِكْرَ الْإِحْيَاءَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحِرْزِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ تَقْدِيرُهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْعُرْفِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَعُرْفُ النَّاسِ فِي الْإِحْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحَيَّا فَيُقَالُ لِلْمُحْيِي لِمَاذَا تريد إحياؤه؟ فإن قال أريد إحياؤه لِلسُّكْنَى قِيلَ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ مَالِكًا أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا تَحْظُرُ، وَسَقْفًا يُورِي، فَإِذَا بَنَيْتَ الْحِيطَانَ وَالسَّقْفَ فَقَدْ أَحْيَيْتَهُ وَمَلَكْتَهُ، وَلَوْ بَنَيْتَ وَلَمْ تَسْقُفْ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ، لِأَنَّ سُكْنَى مَا لَمْ يَسْقُفْ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْعُرْفِ.

فَصْلٌ
: فَإِنْ قال أريد إحياؤه لِلدَّوَابِّ أَوِ الْغَنَمِ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ لِذَلِكَ أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا مَالِكًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ وَالْغَنَمَ قَدْ لَا تَحْتَاجُ فِي الْعُرْفِ إلى سقف، فلو لم يبني حِيطَانَهَا وَلَكِنْ عَبَّأَ الْأَحْجَارَ حَوْلَهَا فَذَلِكَ تَحْجِيرٌ يَصِيرُ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا، وَهَكَذَا لَوْ حَظَرَ عَلَيْهَا بغصب إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكَانًا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَبْنُوا أَوْطَانَهُمْ بِالْقَصَبِ كَعَرِينٍ بَيْنَ آجَامِ الْبَطَائِحِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، وَهَكَذَا فِي بِلَادِ جَبَلَانِ عُرْفُهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ أَوْطَانِهِمْ بِالْخَشَبِ فَيَصِيرُ بِنَاؤُهَا بِذَلِكَ إِحْيَاءً يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِعُرْفِهِمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ إِحْيَاءً.
فَصْلٌ
: فإن قال أريد إحيائها لِلزَّرْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ لَهَا تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا وَيُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ سَنَاهْ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَسُوقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ يَبَسًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَطَائِحَ حُبِسَ الْمَاءُ عَنْهَا، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ يَحْبِسُ الْمَاءَ عَلَى شُرُوطِهِ.

(7/486)


وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَزِّنَهَا لِيُمْكِنَ زَرْعُهَا، وَالْحَرْثُ يجمع ويمسح ما استعلا مِنْ تَطْوِيلِ مَا انْخَفَضَ، فَإِنْ سَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ وَحَرِيمَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ مَا تَحَجَّرَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَرَثَ بَعْدَ التَّحْجِيرِ وَسَوَّقَ الْمَاءَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ كَمُلَ وَالْمِلْكَ قَدْ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَغْرِسْ، لِأَنَّ مَثَابَةَ الزَّرْعِ بَعْدَ الْعِمَارَةِ بِمَثَابَةِ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِحْيَاءِ كَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ بَعْدَ الْحَرْثِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْعِمَارَةِ، وَمَثَابَةُ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ بِمَثَابَةِ الْحَصَادِ بَعْدَ الزَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ ثُمَّ بِالسَّقْيِ، فَمَا لَمْ يُسْقَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ، لِأَنَّ الْعِمَارَةَ لَمْ تَكْمُلْ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ بِمَا وَصَفْنَا وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُحْيِي عَلَيْهَا بِمَا بَيَّنَّا فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَلَيْسَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، سَوَاءٌ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: إِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ وَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَإِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْعُشْرِ فَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ عَلَى أَنْهَارٍ احْتَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَالْبَحْرِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةِ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْهَارِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ فَهِيَ مُحَيَّاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة قد اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَذْهَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ وَهَذَا قَوْلُ طَلْحَةَ بْنَ آدَمَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يفبض إِلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ فِي حِرْزِهَا وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ يَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا، وَالْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِمَذْهَبِهِمْ حِينَ شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ وَمَنْ تَعَقَّبَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ أَوَّلُ مِصْرٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ مَوَاتٌ اسْتُحْدِثَ إِحْيَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوَاتٍ أُحْيِيَ؛ ولأنه لو كان حكم الأرض معتبراً بماءها حَتَّى تَصِيرَ أَرْضُ الْعُشْرِ خَرَاجًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ لَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أَرْضُ الْخَرَاجِ عُشْرًا بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي مَاءِ الْعُشْرِ إِبْطَالٌ لِمَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْمَاءَ فَرْعٌ، لِأَمْرَيْنِ:

(7/487)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ قَدْ يُصَرَّفُ عَنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى وَيُسَاقُ إِلَيْهَا مَاءُ أَرْضٍ أُخْرَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَرَاجَ مَضْرُوبٌ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ، وَالْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ فَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَقَّيْنِ.

فَصْلٌ
: وَإِذَا أَرَادَ الرجل حفر بئر بالبادية فأحيائها يَكُونُ بِحَفْرِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَائِهَا فَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَالْإِحْيَاءُ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى طَيٍّ فَقَدْ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَتَمَّ الْمِلْكُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَيٍّ صَارَ الطَّيُّ مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ فَمَا لَمْ يُطْوَ فَالْإِحْيَاءُ لَمْ يَكْمُلْ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ نُظِرَ فَإِنْ حَفَرَهَا للسابلة صارت سبيلاً على ذي كبد حرى مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَيَكُنْ حَافِرُهَا كَأَحَدِهِمْ، فَقَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَدْمِهِ فَكَانَ يَغْتَرِفُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهَا، فَلَوْ أَرَادَ سَدَّهَا مُنِعَ مِنْهُ، لِمَا تَعَلَّقَ بِفَضْلِ مَائِهَا مِنْ حُقُوقِ السَّابِلَةِ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ سَاقَ عَيْنًا كَانَ فِي حُكْمِ الْبِئْرِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَهُ مَرَافِقُهَا الَّتِي لَا يَكُونُ صَلَاحُهَا إِلَّا بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَكَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى دَاوُدَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْكَافَّةِ فِي إِبْطَالِ الْحَرِيمِ، فَإِذَا كَانَ حَرِيمُ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَيْسَ بِحُدُودٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ كَانَ حَرِيمُهَا طَرَفَهَا وَمَفِيضَ مَائِهَا وَيَبْدُرُ زَرْعُهَا وَمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: حَرِيمُهَا مَا لَمْ يبلغه مائها وَبَعُدَ مِنْهَا.
وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهَا صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ تَرْكِيبٌ لِقَدْرٍ لَمْ يَرْكَبْهُ شَرْعٌ وَلَا اقْتَضَاهُ مَعْهُودٌ وَلَا أَوْجَبَهُ قِيَاسٌ وَلَيْسَ لِمَا لَمْ يُوجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الْمُحَيَّا دَارًا فَحَرِيمُهَا طَرِيقُهَا وَفِنَاؤُهَا، وَلما مُصِّرَتِ الْبَصْرَةُ وَجُعِلَتْ خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا جُعِلَ عَرْضُ كُلِّ شَارِعٍ مِنْ شوارعها عشرون زراعاً إِلَّا الْأَعْظَمَ مِنْ شَوَارِعِهَا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ سِتِّينَ ذراعاً، وجعلوا عرض كل زقاق تسع أزرع، وَجَعَلُوا فِي وَسَطِ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَحَبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَمَقَابِرِ مَوْتَاهُمْ، وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيُجْعَلْ سبعة أزرع، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ اخْتِيَارًا لَا حَتْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا فِيمَا أَحْيَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ فَحَرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِيمَا حولها، وقال أبو حنيفة حريم العين خمس مائة ذراع، وحريم بئر الناضج خمسون ذراعاً.

(7/488)


وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهُ أَبْعَدَ فَتَكُونَ لَهُ مُنْتَهَى رِشَائِهِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى طِينَةٍ عِنْدَ حَفْرِهِ، وَحَرِيمُ الْفَنَاءِ مَا لَمْ يَسْمَحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ شَرْعًا وَلَا قِيَاسًا، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَمَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ حَفَرَ آخَر من بعد الحريم بئراً أخرى فنصب مَاءُ الْأُولَى إِلَيْهَا وَغَارَ فِيهَا قَالَ مَالِكٌ: يُمْنَعُ الثَّانِي وَيَطِمُّ عَلَيْهِ بِئْرُهُ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا طَهُورًا فَتَغَيَّرَ مَاءُ الْأُولَى طَمَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ بِئْرَ الثَّانِي مُقَرَّةٌ وَإِنْ نَضَبَ بِهَا مَاءُ الْأُولَى أَوْ تَغَيَّرَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا جَاوَزَ حَرِيمَ مِلْكِهِ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ لِتَقْدِيرِ الْحَرِيمِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأَيْتُ أَنْ يَفْعَلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَجَّرَ أَرْضٌ مَوَاتٌ بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَقَدْ صَارَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلَهُ بعد ذلك أربعة أحوال:
أحدها: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْإِحْيَاءِ وَيَشْرَعَ فِي الْعِمَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعِمَارَةَ وَيُتِمَّ الْإِحْيَاءَ، فَلَوْ غلب عليها وأكمل المتغلب إحيائها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُحْيِي فِي عِمَارَتِهَا فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي دُونَ الْمُحْجِرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْمُحْجِرُ فِي عِمَارَتِهَا وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا فَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ الْإِحْيَاءَ وَتَمَّمَ الْعِمَارَةَ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُحْجِرِ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ وَتَقَدُّمِ عِمَارَتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُتَغَلِّبُ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ وَيَسْتَقِرُّ الملك.

فصل
: والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَلِّيَهَا الْمُحْجِرُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ هِبَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ وَإِيثَارٌ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحْجِرُ كَانَ وَارِثُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا وَأَحَقَّ النَّاسِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حُقُوقَهُ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ مُنْتَقِلَةً إِلَى وَرَثَتِهِ فَأَمَّا إِنْ جُنَّ الْمُحْجِرُ فَلَا حَقَّ فيه لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا لِلْمُحْجِرِ الْمَجْنُونِ لَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَحْيَاهَا الْوَلِيُّ لِنَفَسِهِ صَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ قَدْ حَجَرَهَا إِنْسَانٌ فَأَحْيَاهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ
: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا الْمُحْجِرُ قَبْلَ الْعِمَارَةِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ:

(7/489)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ إِنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى بِهَا يَدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَوْلَى بَيْعًا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي جُمْهُورِ كُتُبِهِ: أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ يَمْلِكْ وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ كَالشَّفِيعِ الَّذِي يَمْلِكُ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ، فَإِذَا قُبِلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالثَّمَنُ لازم للمشتري أحيا أو لم يحيي، فَلَوْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، وَفِي سُقُوطِ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ أَتَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِلِ الْمَبِيعِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ؟ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُشْتَرِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بعد أن حكم يفسخ البيع فهي ملك للمشتري لمحيي، وإن كان قبل الحكم يفسخ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، لِأَنَّ بِإِحْيَائِهَا صَارَتْ مِلْكًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحْيِي مُتَغَلِّبًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْبَائِعِ الْمُحْجِرِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِالثَّمَنِ دُونَ الْإِحْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّمَنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ.

فَصْلٌ: وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَمْسِكَهَا الْمُحْجِرُ بِيَدِهِ مَوَاتًا لَا يَأْخُذُ فِي عِمَارَتِهَا فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ مَعْذُورًا تُرِكَ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَأَخَذْتَ فِي عِمَارَتِهَا وَإِلَّا رَفَعْتَ يَدَكَ عَنْهَا وخلينا بينها وبين من يحميها ويعمرها، لأن لا يَصِيرَ مُضِرًّا بِالْحِمَى وَتَعْطِيلِ الْعِمَارَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يؤجل ثلاثة سنين لا يخاطب فيها فإن لم يحمها حتى مضت السنين الثَّلَاث فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ ثلاثة سِنِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَجَلًا شَرْعِيًّا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا أَجَلًا، فَلَوْ أَنَّ الْمُحْجِرَ حِينَ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ رَفْعِ يَدِهِ سَأَلَ التَّأْجِيلَ وَالْإِنْظَارَ أَجَّلَهُ مُدَّةً قَرِيبَةً إِنْ ظَهَرَ لَهُ أَعْذَارٌ وَيُرْجَى قُرْبُ زَوَالِهَا مِنْ إِعْدَادِ آلَةٍ أَوْ جَمْعِ رِجَال أَوْ قدمِ مَالٍ قَرِيبِ الْغَيْبَةِ، وَلَا يُؤَجَّلُ مَا يَطُولُ زَمَانُهُ أَوْ مَا لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَعْذَارُهُ وبالله التوفيق.

(7/490)


بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ وَمَا لَا يجوز
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدُ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا مَا مَضَى وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ فِيهِ وَالثَّانِي مَا لَا تُطْلَبُ المنفعة فيه إلا بشيءٍ يجعل فيه غيره وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَرْضِ ضَرْبَانِ مَعَادِنُ وَمَوَاتٌ، فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَقَدِ انْقَضَى حُكْمُهُ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَاهِرَ الْأَرْضِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِإِقَامَةِ الْجَوَاهِرِ فيها كما قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِهِ حِينَ نَقَلَ فَقَالَ مَا لَا يطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه غيره وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الَّتِي بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا بِشَيْءٍ يُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ فِي الْجِبَالِ تَنْتَابُهُ النَّاسُ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لأحدٍ أَنْ يَقْطَعَهُ بحالٍ وَالنَّاسُ فِيهِ شرعٌ وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ وَالنَّبَاتُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ لأحدٍ وَقَدْ سَأَلَ الْأَبْيَضُ بْنُ حمالٍ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مأربٍ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَرَادَهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ فَقَالَ " فَلَا إِذَنْ " قَالَ وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عينٍ ظاهرةً كنفطٍ أو قبرٍ أَوْ كبريتٍ أَوْ مُومِيَا أَوْ حجارةٍ ظاهرةٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ أحدٍ فَهُوَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّاسُ فِيهِ سواءُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْمَعَادِنُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَيَأْتِي حُكْمُهَا فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ ظَاهِرًا فِي مَعْدِنِهِ يُؤْخَذُ عَفْوًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَالْمِلْحِ وَالنِّفْطِ، وَالْقَارِ وَالْكِبْرِيتِ والموهبا وَالْحِجَارَةِ فَهَذِهِ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَلَا لأحدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوُونَ فِيهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، مُسَلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، رَوَى ثَابِتُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِلْحَ مَأْرِبٍ فَأَقْطَعَهُ ثُمَّ إِنَّ

(7/491)


الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٍ، وَمَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِأَرْضٍ، فَاسْتَقَالَ الْأَبْيَض مِنْ قَطِيعَتِهِ الْمِلْحِ، فَقَالَ الْأَبْيَضُ قَدْ أَقَلْتُكَ مِنْهُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ من ورده أخذه وروت نهيسة عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمَاءُ، قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمِلْحُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرًا لَكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَانِعُ بِأَحَقَّ مِنَ الْمَمْنُوعِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً، وَإِذَا اسْتَوَى النَّاسُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ اشْتِرَاكُ له النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَإِلَّا تقدم الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ فَإِنْ تَسَاوَى مَجِيئُهُمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدِّمُ السُّلْطَانُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى فَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَى الْمَعْدِنِ زَمَانًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَبِمَا فِيهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ فَمِنْهُ تَعَدَّى وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُ لَيْلًا بِطُولِ مُكْثِهِ ويدوم تَصَرُّفه فَيَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ لِلسُّلْطَانِ اسْتِحْقَاقُ نَظَرٍ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَلَهُمْ فِيهَا وَجْهَانِ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ بُقْعَةً مِنَ السَّاحِلِ يَرَى أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلَاهَا ثُمَّ دَخَّلَ عَلَيْهَا مَاءً ظَهَرَ لَهَا مِلْحٌ كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهَا وَلِلْرَجُلِ أَنْ يُعْمِرَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَمْلِكَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَعْدِنًا وَإِنَّمَا هِيَ مَوَاتٌ تَصِيرُ بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنًا فَجَازَ إِقْطَاعُهَا كَمَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(7/492)


باب تفريق القطائع وغيرها
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا مَضَى. وَالثَّانِي إِقْطَاعُ إرفاقٍ لَا تمليكٍ مِثْلُ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِلْبَيْعِ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ مُقِيمًا فِيهِ فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَأَفْنِيَةِ الْعَرَبِ وَفَسَاطِيطِهِمْ فَإِذَا انْتَجَعُوا لَمْ يَمْلِكُوا بِهَا حَيْثُ تَرَكُوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا كَانَ مُبَاحًا مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مُسْلِمٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَ إِنْسَانًا مَا لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَوَاتٍ لَا مَالِكَ لَهُ وَالسُّلْطَانُ لَا يُحِلُّ لَهُ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَوْ أَعْطَى السُّلْطَانُ أَحَدًا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ مَا قَدِ استقرت عليه أصول الشرع أن ما ستقر عَلَيْهِ مِلْكُ آدَمِيٍّ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا وَإِنْ أَقْطَعهُ جَازَ لِلْمُقطعِ أَنْ يَمْلِكَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَسْتَقِر عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ سِبَاخِ الْأَرْضِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ، فَأَمَّا مَا لا يجوز إقاطعه فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَسَائِرُ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ فَهِيَ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ وَقِسْمٌ لَا يُمْلَكُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ، فَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ فَهُوَ الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بِالْإِقْطَاعِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ الِارْتِفَاقُ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ الْبَاعَةُ وَأَنْ تُحَطَّ فِيهِ الرِّحَالُ فَهَذَا مُبَاحٌ، قَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الناس عليه بمكة والمدنيه وَمَكَّنَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا فُتُوحَهَا وَمُحَيَّاهَا، وَلِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ مَاسَّةٌ وَضَرُورَتَهُمْ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِطْرَاقِ وَالِارْتِفَاقِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ فهو المعادن الباطنة.

فصل
: فإذا تقرر جواز الِارْتِفَاق بِمَا وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ كَمَنَازِلِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا حَلُّوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِمَنْزِلٍ اسْتِرَاحَةً فَلَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، لِبُعْدِهِ عَنْهُمْ

(7/493)


ويجوز لهم النزول حيث لا يضروا المجتاز ولا يمنعوا سَائِلًا ثُمَّ لَهُمُ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلَا حِمًى، وَهَكَذَا الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْمَاءِ وَالْكَلَأِ مَكَثُوا فِيهَا وَلَمْ يَزَالُوا عَنْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِن انْتِجَاعِهَا وَرَعْيِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ بِهِمْ فَيَكُونُ السَّابِقُونَ إِلَيْهَا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ رَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بِنَاءً يُظَلِّلُكَ مِنَ الشَّمْسِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا هو مناح مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَلَوْ ضَاقَ الْمَنْزِلُ عَنْ جميع ما وَرَدَ إِلَيْهِ نَزَلُوا فِيهِ بِحَسَبِ مَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ يَتَرَتَّبُونَ النُّزُولَ كَمَا كَانُوا مُتَرَتِّبِينَ فِي الْمَسِيرِ فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ عَنْ لُحُوقِ الْمَنْزِلِ نَزَلَ حَيْثُ بَلَغَ، وَلَوْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانُوا لَوْ تُوَاسَوْا بِهِ عَمَّهم لَزِمَهُمْ أَنْ يتواسوا فيه ومنعوا مِنْ أَنْ يَحُوزَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مُوَاسَاتِهِمْ فِيهِ كَانَ الْأَسْبَقُ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَسْبُوقُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ ملكه بالإجارة بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ جَاءُوا إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَتِهِمِ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِمَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ حَتَّى يَرْتَوِيَ الْآدَمِيُّونَ، وَلَيْسَ لِمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ بَهَائِمَهُ عَلَى ارْتِوَاءِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا ارْتَوَى الْآدَمِيُّونَ جَمِيعًا اسْتُؤْنِفَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَلَمْ يُحْمَلُوا عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا، وَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْقُرْعَةُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ أَوْ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْتَأْنَفَ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْمِلْكِ، فعلى هذا إذا أقرع أَحَدُ أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ يَسْقِي جَمِيعَ بَهَائِمِهِ ثُمَّ هَكَذَا مَنْ قُرِعَ بَعْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْعَةَ تُسْتَأْنَفُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَتِهَا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمِلْكِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَعَتِ الْقَرْعَةُ مَالَ رَجُلٍ مَرَّ تَقْدِيمًا لِمَنْ قُرِعَ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ كَمَقَاعِدِ الْبَاعَةِ وَالسُّوقَةِ فِي أَقْنِيَةِ الدُّورِ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الدُّورِ مُنِعُوا مِنَ الْجُلُوسِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الدَّارِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِذْنِ مِنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَحَرِيمِهَا الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالدَّارِ وَلَا بِمَالِكِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ مِرْفَقٌ عَامٌّ كَالطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ جَلَسَ وَلَا يُقَدِّمَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ مَالِكَ الدَّارِ أَحَقُّ بِحَرِيمِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِذْنِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ ثَمَنًا لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ، فَلَوْ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ، لأنه غير مستحق في الملك ولا معاوض عَلَيْهِ وَلَا مُنْتَفِعٍ بِهِ، وَسَوَاءٌ

(7/494)


كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلِمَالِكِ الدَّارِ إِذَا أَجْلَسَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهُ إِذَا شَاءَ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، فَأَمَّا فِنَاءُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فَهَلْ يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ فنَاءَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُ استئذان ربه فيه لم يلزم استئذان الإحمام فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَإِذْنُ الْإِمَامِ إِذن اجْتِهَادٍ فِي الْأَصْلَحِ، وَسَوَاءٌ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ جِيرَانُهُ وَالْأَبَاعِدُ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالِارْتِفَاقِ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهَا السُّوقَةُ بِأَمْتِعَتِهِمْ لِيَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا فَهَذَا مُبَاحٌ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَالِسًا وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدره، كما يجتهد في أموال بيت المال، فَإِذَا أَخَذَ الْبَاعَةُ مَقَاعِدَهُمْ فِي أَقْنِيَةِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ رُوعِيَ فِي جُلُوسِهِمْ أَلَّا يَضُرُّوا بمارٍ وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى سائلٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَقَاعِدِهِمْ، فَلَوْ جَلَسَ رَجُلٌ بِمَتَاعِهِ فِي مَكَانٍ فَجَاءَ غَيْرُهُ لِيُقِيمَهُ مِنْهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ لَمْ يَجُزْ مَا كَانَ الْأَوَّلُ جَالِسًا بِمَتَاعِهِ، فَلَوْ قَامَ وَمَتَاعُهُ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَقَاعِدِهِمْ بِأَمْتِعَتِهِمْ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ثُمَّ غَدَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ كَانَ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ أَحَقَّ بِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَوْدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا عُرِفَ أَحَدُهُمْ بِمَكَانِهِ طَالَ جُلُوسُهُ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا عَنْهُ صَحِيحٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " منا مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ أَحَقَّ بِهِ لَصَارَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِحِمَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي مَقْعَدٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الْجُلُوسُ بِنَاءً عَلَى نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ.
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ وَقَطْعِ التَّنَازُعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي إِجْلَاسِ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ نَظَرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ رَجُلًا مَوْضِعًا مِنْ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِيَبِيعَ فِيهِ مَتَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَكَانِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَبَقَ إِلَيْهِ كَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ السَّابِقِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْأَصْلَحِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلِفَ مَقْعَدًا فِي فِنَاءِ طَرِيقٍ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:

(7/495)


أَحَدُهُمَا: يَقَرُّ فِي مَكَانِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَامُ عَنْهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ زَرِيعَةً إِلَى تَمَلُّكِهِ وَادِّعَائِهِ، فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَقْعَدٍ مِنْ فَنَاءِ السُّوقِ بِنَاءً منعٍٍ، لِأَنَّ إِحْدَاثَ الْأَبْنِيَةِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَمْلَاكِ وَأَمَّا إِذَا حَلَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ حِلَقًا مُنِعَ النَّاسُ مِنَ اسْتِطْرَاقِهَا وَالِاجْتِيَازِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وطول الغرس، وحلقة القوم فلو عرف فقه بِالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجَامِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ وَكَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ قَدْ صَارَ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْفُقَهَاءِ والقراء أحق به، وله منع من سبق إِلَيْهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ الْعَاكِفِ فِيهِ وَالْبَادِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(7/496)


باب إقطاع المعادن وغيرها
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَفِي إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخَالِفُ إِقْطَاعَ الْأَرْضِ لِأَنَّ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ أَوْ عَمِلَهَا وَلَيْسَتْ لأحدٍ سواءٌ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ مَا لَا يَخْلُصُ إِلَا بمؤنةٍ لِأَنَّهُ باطنٌ مستكنٌّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ ترابٍ أَوْ حجارةٍ كَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا ومخالفةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْمَوَاتَ إِذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إِحْيَاؤُهَا وَهَذِهِ فِي كُلِّ يومٍ يُبْتَدَأُ إِحْيَاؤُهَا لِبُطُونِ مَا فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعَادِنَ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ وَذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا شَيْءَ فِي ظَاهِرِهَا حَتَّى تُحْفَرَ أَوْ تُقْطَعَ فَيَظْهَرَ مَا فِيهَا بِالْحَفْرِ وَالْقَطْعِ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، سَوَاءٌ احْتَاجَ مَا فِيهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَخْلِيصٍ كَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ كَالتِّبْرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوَى جَمِيعُهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، لِأَنَّ مَا فِيهَا جَمِيعًا مَخْلُوقٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ وَيُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حَالُ الْمُقْطِعِ وَغَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَمَا لَوْ أَقْطَعَ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَلَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَسْتَقْطِعْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْطَاعَهَا جَائِزٌ وَالْقَطْعُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطع بلال بن الحرث الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزرع من مدهن وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ إِنَّ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أبي عبيد وابن قتيبة أن الغور مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْجَلْسَ مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ نَجْدٍ.
قَالَ الشَّمَّاخُ:

(7/497)


(فَأضحت عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا ... كَوَقْبِ الصَّنْعَا جِلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا)

وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَافَقَ بَيْنَهُمَا الْمَوَاتُ.
أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَؤُونَةِ فِي الْبَاطِنَةِ حَتَّى رُبَّمَا سَاوَتْ مَؤُونَةَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَزَادَتْ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنَةِ مَظْنُونٌ مُتَوَهَّمٌ فَشَابَهَ مَا يَظُنُّ مِنْ مَنَافِعِ الْمَوَاتِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَمَا فِي الظَّاهِرَةِ مُشَاهِدٌ مُتَيَقِّنٌ فَصَارَتِ الْبَاطِنَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُفَارَقَةً لِلظَّاهِرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِهَا، وَمُلْحَقَةً بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا.

فَصْلٌ
: فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِمَا بِالْعَمَلِ لَمْ يَمْلِكْهَا كَمَا لا يملك الموات بالإقطاع ما لم يحيه، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا صَارَ مَالِكَهَا، وَفِي مِلْكِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرَكَ كَمَا يَمَلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ اسْتَدَامَ عِمَارَتَهُ أَوْ عَطَّلَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي إِقْطَاعِهَا شَرْطًا فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا، لِكَوْنِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَهُ لَهَا مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ عَمَلِهِ فِيهَا فَمَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، فَإِذَا فَارَقَ الْعَمَلَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ آلَةٍ أَوْ هَرَبِ عَبْدٍ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا كَانَ نَاوِيًا لِلْعَمَلِ حَتَّى يَقْطَعَ قَطْعَ تَرْكٍ فَيَزُولَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ إِحْيَاءً لِلطَّبَقَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا فَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِإِحْيَائِهِ وَعَمَلِهِ، فَأَمَّا مَا تَحْتَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا عَمَلٌ وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِحْيَاءٌ فَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ عَمَلِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن إذنه شرطاً فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ مَنْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ بِتَأْيِيدِ مِلْكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِذْنَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَخْتَصُّ بِمَا بَاشَرَ عَمَلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْعُذْرِ كَمَا لَا يَمْنَعُ بِشُرُوعِهِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْطَاعَ ضَرْبَانِ: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ، فَأَمَّا إِقْطَاعُ

(7/498)


الْإِرْفَاقِ فَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِيَعْمَلَ فِيهِ وَلَا يَمْنَعَ غَيْرَهْ مِنْهُ فَهَذَا يَصِحُّ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ جَمِيعًا، وَأَمَّا إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَنْتَفِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدًا مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَقْطَعَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ الْوَاحِدُ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً أَقْطَعَهُمْ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ الْعَشَرَةَ، فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ منفعته على المقطع وغيره فصار أسوأ حال مِنَ الْحِمَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ حَمَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ الْإِرْفَاقِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مُدَّةَ عَمَلِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا عَطَّلَهُ، فَأَمَّا مَا ظَهَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ التَّعْطِيلِ فَقَدْ صَارَ فِي مِلْكِهِ وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ إِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةِ الْعَمَلِ وَشَرَطَ فِيهِ زَوَالَ الْمِلْكِ عِنْدَ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ فَلَا يَتَأَيَّدُ مِلْكُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَقْطَعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ مَلَّكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَحْيَا الرَّجُلُ أَرْضًا مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا مُؤَبَّدًا قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدِنُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بِالْإِحْيَاءِ فَصَارَ كَعَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا أَوْ بِئْرٍ احْتَفَرَهَا، وَلِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي مَلَكَهَا بِإِحْيَائِهِ فَخَالَفَ الْمَعَادِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ أَحْيَا أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهَلَّا صَارَ الْمَعْدِنُ مِثْلَهُ لَا يَمْلِكُهُ قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْدِنَ خلقة فِي الْأَرْضِ فَمَالِكُهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُمْلَكْ وَإِنّ مِلْكَ الْأَرْضِ لِمَا بَنَتْهُ لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَكَانَ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَوْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ خِلْقَةً فِيهَا مَلَكَهَا.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ معدنٍ عَمِلَ فِيهِ جَاهِلِيٌّ ثُمَّ اسْتَقْطَعَهُ رجلٌ فَفِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا أَنْهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ فَلَا يُمْنَعُ أحدٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر حَتَّى يَتَآسَوْا فِيهِ وَالثَّانِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أحدث فيها عمارة ".
قال الماوردي:
أحدها: أنه كالسر الجاهلي والماء العد فلا يمنع أحد يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ غلوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر فالآخر فالآخر حتى يتساوو فيه.

(7/499)


وَالثَّانِي: لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يعمل فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، وَضَرْبٌ عَمِلَ فِيهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَ مِنْهُ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ فِيهِ ظَهَرَ نَيْلُهُ وَأَجَابَ وَلَمْ يُخْلَفْ فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَمَنْ لَمْ يُقْطَعْ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ وَرَدَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ ظهور نبله يَقِينًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُخْلَفَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يتقين كَوْنَهُ مَعْدِنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ أَمْرِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنَهُ مَوَاتًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا عَمِلَ فِيهِ فَضَرْبَانِ:
أحدهما: أن يكون العمل منه إِسْلَامِيًّا فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ إِقْطَاعِ إِمَامٍ.
وَالثَّانِي: عَنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ فَإِنْ تَرَكَ الْعَمَلَ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَجَازَ لِلنَّاسِ الْعَمَلُ فِيهِ، وَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ فَفِي جَوَازِ مُشَارِكَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ مِن اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَ الْعَمَلَ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِيهِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَلِمَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي قَدْ عَمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ رَأَى وَيَتَوَجَّهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِلَى مَا سِوَى مَوْضِعِ عَمَلِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ، فَإِذَا قَطَعَ الْعَمَلَ جَازَ إِقْطَاعُ جَمِيعِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِإِقْطَاعِ إِمَامٍ لَمْ يَجُزْ فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَ فِيهِ،

(7/500)


فَأَمَّا بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ الْإِمَامُ إِقْطَاعًا لِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ وُرِّثَ عَنْهُ كَسَائِرِ أمواله، وإن قيل إن ملكه مقدراً بِمُدَّةِ الْعَمَلِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَهَبَهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ فَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ تَرْتَفِعُ يَدُهُ بِالْهِبَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ فِي الْبَيْعِ كَانَ مَشْرُوطًا بَعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَلَمْ تَرْتَفِعْ يَدُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَيَكُونُ لِوَارِثِهِ إِتْمَامُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ جَاهِلِيًّا كَمَعْدِنٍ عَمِلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فيه ثم وصل المسلمون إليه فلا يخلوا حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الجاهلي قد تملكه بعمله أو بإحياءه فَهَذَا مَغْنُومٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ، وَلَا أَنْ يَسْتَبِيحَهُ النَّاسُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُمْ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيُّ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِعَمَلِهِ وَلَا بِإِحْيَائِهِ وَإِنَّمَا اسْتَمْتَعَ بِمَا فِيهِ وَفَارَقَهُ عَفْوًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْمُبَاحَةِ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مُنِعَ مِنْ إِقْطَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ولا استباحته.
والثاني: أنه في حكم الْمَعَادِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَفَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحِمَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ إِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ، يُرِيدُ بِالْعَفْوِ الْمَوَاتَ الَّذِي هُوَ عَفْوٌ مَتْرُوكٌ، وَيُرِيدُ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ هِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا بَدَأَ وَفِيهَا نَشَأَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ يَعْنِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، وَرَوَى الرَّبِيعُ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُونَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ حِينَ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ إِحْيَاؤُهُ وَإِنَّ الصحيح ما نقله الربيع وإن عفوه غير مَمْلُوك لِيُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وطائفة يقولون: كلي النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ يَعْنِي لِكَافَّةِ

(7/501)


الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِمُشْرِكٍ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَعْنِي لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْهُمْ مَلَكَهُ، فَإِنْ قِيلَ فلما خَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَكُونُ بِلَادُ الشِّرْكِ مِثْلَهَا وَعَلَى حُكْمِهَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أَحْكَامَنَا عَلَيْهَا جَارِيَةٌ بِخِلَافِ بِلَادِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ قَدْ يَكُونُ حُكْمُهَا كَبِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ فُتُوحِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يجمعها في الحكم.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ إِذَا صَارَتْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَفْوًا بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَا بِتَهْدِيدٍ وَإِرْهَابٍ فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ فِي مِلْكِهِمْ لِرِقَابِ عَامِرِهَا وَاسْتِوَاءِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا، وَجَمِيعُهَا أَرْضُ عُشْرٍ فِيمَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ عَامِرٍ وَمَا استأنفوا إحياؤه مِنْ مَوَاتٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَدِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا مُلِكَ عَنْوَةً.
وَالثَّانِي: مَا فُتِحَ صُلْحًا، فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ عَنْوَةً فَعَامِرٌ مَغْنُومٌ يُقَسَّمُ خَمْسَةً عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ الْخُمْسِ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ مقسومة بيه الغانمين، فأما مواته فلهم فيه حالان:
أحدهما أَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ عَنْهُ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُ وَيَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُقَاتِلُوا دُونَهُ، فَقَدْ صَارَ الْغَانِمُونَ أَوْلَى بِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ صَارُوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا كَالْمُحْجِرِ عَلَى الموات وهو أَوْلَى بِهِ، لِمَحْجَرِهِ وَيَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لم يصير ملكاً له فإن أخروا أحياؤه قَالَ لَهُمُ الْإِمَامُ: إِمَّا أَنْ تُحْيُوهُ أَوْ تَرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُكُمْ كَمَا يَقُولُ لِمَنْ يَحْجُرُ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، لِأَنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ تَحْجِيرٌ ثُمَّ انْتَقَلَتْ أَيْدِيهُمْ إِلَى الْغَانِمِينَ فَصَارُوا بِالْغَنِيمَةِ مُتَحَجِّرِينَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَدَرَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ فَأَحْيَاهُ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ مَوَاتِ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.

(7/502)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبي الفياض أن الغانمين أولىبالموات ملكاً، لأن قَدْ صَارَ بِالْمَنْعِ تَبَعًا لِلْعَامِرِ فَلَمَّا مَلَكَ الْغَانِمُونَ الْعَامِرَ مَلَكُوا مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَوَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُمْ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْيَدِ بِتَأْخِيرِ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَعَادِنِ هَذَا الْمَوَاتِ شَيْئًا لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ فَهَذَا حُكْمُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَا فُتِحَ صُلْحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ معدنٍ ظاهرٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قِسْمَةِ الْعَامِرِ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قُسِمَ عَامِرُ بِلَادِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَحَصَلَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْعَامِرِ مَعْدِنٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا، فَهَذَا مِلْكٌ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ مِنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ حَالَهُ وَقْتَ الْقَسْمِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْغَانِمِ بِالْقَسْمِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَةِ الْإِمَامِ بِهِ، وَإِن قَسْمَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَعْدِنَ وَحْدَهُ وَيَمْلِكُ مَا سِوَاهُ مِمَّا قُسِمَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ عَنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا بَدَلَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا، لِأَنَّ قَسْمَ الْإِمَامِ لا يتعلق به المقسوم لَهُ خِيَارٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَدَلَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ أَوْ نَنْقُضُ الْقَسْمَ مَنْ يُعْطِيهِ غَيْرُهُ مما يفي بسهمه.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِّرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ مِثْلُ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ وَعُمِّرَ بِغِيَرِ ذَلِكَ عَلَى نُطَفِ السَّمَاءِ أَوْ بِالرِّشَاءِ وَكُلُّ مَا كَانَ لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا انْدَرَسَتْ عِمَارَتُهُ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا خَرَابًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِحْيَائِهَا بَاقِيَةً فِيهِ كَأَرْضِ الزِّرَاعَاتِ إِذَا كانت مسنياتها باقية وماؤها قائماً، وصارت بنيات الحشيش فيها خَرَابًا وَبِتَأْخِيرِ عِمَارَتِهَا مَوَاتًا فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي الْعَنْوَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِيجَابِهَا ذَاهِبَةً كَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ إِذَا ذَهَبَ آلَتُهَا وَانْدَرَسَتْ آثَارُهَا، فَحُكْمُ هَذَا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ تَقْسِيمًا وَحُكْمًا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ.

(7/503)


وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَذْهَبَ بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِهَا وَيَبْقَى بَعْضُهَا عَارِضَ الزَّرْعِ إِذَا ذَهَبَتْ مَسْنِيَّاتُهَا وَبَقِيَ مَاؤُهَا أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا وَبَقِيَتْ مَسْنِيَّاتُهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ في حكم الموات ما لم يندرس جَمِيعُ آثَارِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ ما لم يبقى جَمِيعُ آثَارِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِجَوَابِهَا صَارَتْ مَوَاتًا، وَإِنْ قَرُبَ الْعَهْدُ لِعِمَارَتِهَا فَهِيَ فِي حُكْمِ مَا كَانَ عَامِرًا.

مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ صُلْحًا فَمَا كَانَ لَهُمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ فَالْأَرْضُ كُلُّهَا صلحٌ وَخُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَمَا كان فيها من مواتٍ فهو كالموات غير فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَازَهُ رجلٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا انْتَقَلَ إِلَيْنَا مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ: عَنْوَةً وَصُلْحًا، فَأَمَّا بِلَادُ الْعَنْوَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا، وَأَمَّا بِلَادُ الصُّلْحِ فَضَرْبَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ فِيهَا عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا وَأَنْ يُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا فَهَذَا جِزْيَةٌ تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَهُوَ فِي الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ رِقَابَ أَرْضِهِمْ ملكاً للمسلمين وتقر في أيديهم بخراج بادوه عَنْهَا، فَهَذَا خَرَاجُ أُجْرَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا مَوَاتُهُمْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُضَمَّ إِلَى الْعَامِرِ فِي الصُّلْحِ أَوْ بِعَقْلٍ، فَإِنْ أُعْقِلَ وَلَمْ يُذْكَرْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْضُهُمْ إِلَى الْعَامِرِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ صَارَ فِي حُكْمِ مَا غُنِمَ مِنْ مَوَاتِهِمْ إِذَا مَنَعُوا مِنْهُ يكون أهل الفيء أولى به، وهل يكونوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِلْكًا فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلِكَ الْعَامِرَ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي مَوَاتٍ كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَقْسِيمِ حُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ مِنْ أهل الفيء، لأن في الفيء خمس لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ كَافَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ من بلاد المسلمين إذا

(7/504)


أجازه رَجُلٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُجَوِّزُ بيع الموات بإحازة المسلم وإن لم يحييه، لأنه قد صار بالإجازة أَوْلَى بِهِ وَكَانَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمَوَاتِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ تُرْفَعُ إِنْ أَخَّرَ الْإِحْيَاءَ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَحَازَهُ رَجُلٌ فعبر عن الإحياء بالإحازة

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي الْأَرْضِ مَلَّكَهَا لِغَيْرِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِمَالِكِهَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ رجل معدناً ظاهراً أبو باطناً إما بإحياءه أَوْ بِمَغْنَمٍ حَصَلَ فِي سَهْمِهِ أَوْ بِإِقْطَاعٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ وَاسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَلَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَيَغْرَمُ إِنْ كَانَ تَالِفًا بمثل ماله مِثْلٌ وَبِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ لِتَعَدِّيهِ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى فِي عَمَلٍ لَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْمَعْدِنِ بِعَمَلِهِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَرَى أَنْ لَا تعزيز عَلَيْهِ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْدِنِ قَدْ كَانَ مباحاً فصارت شبهة، والذي أرى أن يعزر وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُبَاحًا قَبْلَ الْمِلْكِ كَمَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ عن أصول مباحة.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ لَهُ فسواءٌ وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لَا يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ وَلَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَقْبِضْ وللإذن الخيار في أن يتم ذلك أَوْ يُرَدَّ وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ يَأْذَنُ فِي رُكُوبِهَا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَعْطَاهُ وَقَبَّضَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ مَعْدِنًا فِي أَرْضٍ أَحْيَاهَا أَوِ اشْتَرَاهَا فَظَهَرَ فِيهَا ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ قِطَعًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ متعدٍ بِذَلِكَ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَمَا أَخْرَجَهُ فَلِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ لَهُ فَمَا يُخْرِجُهُ يَكُونُ له، وهل للعامل الأجرة أم لا يكون؟ يَحْكُمُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ فِي الْغَسَّالِ إِذَا أَعْطَاهُ الثَّوْبَ لِيَغْسِلَهُ فَغَسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ أُجْرَةً وَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْعَامِلُ فَلِنَفْسِهِ دُونَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ وَكُلُّ مَا يُخْرِجُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَعْدِنِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ هِبَةً بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ فَعَمِلَ وَرَبِحَ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلْمُقَارِضِ، وَهَا هُنَا قَدْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ

(7/505)


لِغَيْرِهِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَقَعُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: تَحْفِرُ لِي كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا صَحَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ أُجْرَتَهُ جَزَاءً مِمَّا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: ثُلُثُهُ أَوْ رُبْعُهُ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَهَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ لَهُ مَجْهُول الْقَدْرِ وَإِنْ جَعَلَ مَعْلُومًا فَقَالَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ كَذَا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، صَحَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي، أَوْ قَالَ: إِنْ جِئْتَ بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ مِنْ فَضْلِ مَائِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ أَوِ الشَّجَرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْآبَارُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي مِلْكِهِ، وَضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي الْمَوَاتِ، لِتَمَلُّكِهِ، وَضَرْبٌ يُحْفَرُ فِي الْمَوَاتِ لَا لِلتَّمَلُّكِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَإِنَّمَا نَقَلَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْحَفْرِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى مَائِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ نَيْلُهَا، وَإِذَا بَلَغَ نَيْلَ مَا يُحْيِيهِ ملكه، وقيل: إن يبلغ الماء يكون ذَلِكَ تَحَجُّرًا وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ إِنَّ تَحْجِيرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّيْلَ، وَإِذَا بَلَغَ النَّيْلَ كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً وَيَمْلِكُهُ، وَيُفَارِقُ الْمَعْدِنَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يَنْتَهِي عِمَارَتُهُ وَالْبِئْرَ تَنْتَهِي عِمَارَتُهَا فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءَ تَكَرَّرَتْ مَنْفَعَتُهَا عَلَى صِنْفَيْهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ أَمْ لَا؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ لَوْ كان مملوكاً يستبح بِالْإِجَارَةِ، لأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمَا جَازَ بَيْعُ دارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ بدارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ، لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْمَاءِ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ فَهُوَ كَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَعْدِنٌ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَرْضِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَمْلِكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ عَيْنَ اللَّبَنِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكْرِي فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ فِي الْحَالِ، وَمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ منع

(7/506)


الْغَيْرِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِحَائِطِهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ تَخَطَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاسْتَقَى مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَلَكَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا إِذَا تَوَغَّلَ فِي أَرْضِهِ صَيْدٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، لِأَنَّهُ يحتاج أن يتخطى ملك غير بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ خَالَفَ وتخطى فأخذوا مَلَكَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ خَالَفَ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِيَهُ وَيَحُوزَهُ فَيَمْلِكَهُ بِالْحِيَازَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا شَاهَدَ الْمُشْتَرِي كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ مَا فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِذَا كَانَ بِبَيْعٍ ويريد كلما استقى منه شيء فَلَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْآبَارِ وَهُوَ إِذَا نَزَلَ قومٌ مَوْضِعًا مِنَ الْمَوَاتِ فَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا لِيَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَيَسْقُوا مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّمَلُّكَ بِالْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، لِأَنَّ الْمُحْيِيَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ مُدَّةَ مَا قَصَدَ بِهِ بِمِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فَإِذَا رَحَلَ فَكُلُّ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إِنَّهُ يَمْلِكُ الْبِئْرَ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَائِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ فَإِذَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ مِنَ السَّائِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ وَالَّذِي يَقْرُبُ ذَلِكَ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِشُرْبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ فَأَمَّا لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِعِوَضٍ لِشُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ فَأَمَّا بِلَا عِوَضٍ فَلَا، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَأً مَمْلُوكًا وَبِجَنْبِهِ بِئْرٌ وَلَا يُمْكِنُ سَقْيُ الْمَوَاشِي مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ إِلَّا بِالرَّعْيِ فِي ذَلِكَ الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه، فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ لَهُ، وَكَانَ الْكَلَأُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ الْمُبَاحِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَكَذَلِكَ لِمَوَاشِيهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى الْمَنْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ فَأَمَّا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَةُ وَنَفْسُهُ وَزَرْعُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ وَهُوَ أَحَقُّ من غيره.

(7/507)


وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ بِلَا عِوَضٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَامٌ وَخَبَرُنَا خَاصٌّ فَقَضَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَلَأِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أُخِذَ اسْتُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَنَبَعَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَشِيشُ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ لَا يُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَشِيشَ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ وَالْمَاءَ لَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَخِيرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطِشَ زَرْعُهُ فَلَمْ يَسْقِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَطِشَ حَيَوَانٌ أُجْبِرَ عَلَى سَقْيِهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَدل لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ آلَتَهُ الَّتِي هِيَ الْبَكَرَةُ وَالدَّلْوُ وَالْحَبْلُ، لِأَنَّهَا تَبْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا تُسْتَخْلَفُ، وَيُفَارِقُ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ بَدَلُهُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الَّذِي قَدْ حَازَهُ وَجَمَعَهُ في جبة أو مركبه أو مصنعة فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْبِئْرِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فِي الْمِيَاهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مِنْ فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مِلْكِهَا.
وَالْآخَرُ: فِي السَّقْيِ مِنْهَا.
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مُبَاحٌ، وَمَمْلُوكٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَأَمَّا المباح كما الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ الْكَبِيرِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ، وَمِثْلُ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ فِي مَوَاتِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ فَكُلُّ هَذَا مُبَاحٌ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا أَرَادَ كَيْفَ شَاءَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ " وَلِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ وَإِنْ زَادَ هَذَا الْمَاءُ وَدَخَلَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَمْ يَمْلِكُوهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَطَرٌ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ فَمَكَثَ أَوْ فَرَّخَ طَائِرٌ فِي بُسْتَانِهِ أو توحل ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَانَ بِمَنْ حَازَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَكُلُّ مَا حَازَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ مِنْ قِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ سَاقَهُ إِلَى بِرْكَةٍ فَجَمَعَهُ فِيهَا

(7/508)


فَهَذَا مَمْلُوكٌ لَهُ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَمَتَى غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَهُوَ كُلُّ مَا نَبَعَ فِي مِلْكِهِ مِنْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرٌ مَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي الْمَاءِ فِي الدَّارِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَدْخُلُ فِي الدَّارِ تَبَعًا، وَمَنْ قَالَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا قَالَ: إِذَا شَرَطَ صَحَّ الْبَيْعُ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبِئْرِ مِنَ الْمَاءِ وَأَجَزْتُمْ هَا هُنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْبِئْرَ مَعَ مَائِهَا فَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْمَاءَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ قَدْ بِيعَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَاخْتَلَطَ بِهِ.

فَصْلٌ
: وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُبَاحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ.
وَالثَّانِي: مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ " قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: 65) الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ، ويرسل

(7/509)


الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ فَلَمَّا أَسَاءَ جَارُهُ الْأَدَبَ أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ: " احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجِدْرَ (وَهُوَ الْحَائِطُ) ".
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحَقَّ بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ.
قُلْنَا: لَيْسَ فِيهِمَا خِلَافٌ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَوِيَةً رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْجِدَارِ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفُرْهَةِ يَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ يَفْعَلُ كُلَّمَا حَبَسَ الْمَاءَ وَبَلَغَ فِي أَرْضِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ حَتَّى يَشْرَبَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ كَانَ زَرْعُ الْأَسْفَلِ يَهْلَكُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إِلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا أَحْيَا عَلَى هَذَا النَّهْرِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَرْضًا مَوَاتًا هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ منْ أَرَاضِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَائِهِ فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ سَقَى الْمُحْيِي مِنْهُ وَلَا يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْمَاءَ مِلْكٌ لَهُمْ كما إذا جازوه مَلَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِمْ فَكَانُوا أحق به من حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَمَا فَضَلَ مِنْهُمْ كَانَ لِمَنْ أَحْيَا عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مَوَاتًا وَأَمَّا الَّذِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ فَهُوَ أَنْ يَحْفِرُوا فِي الْمَوَاتِ نَهْرًا صَغِيرًا لِيُحْيُوا عَلَى مَائِهِ أَرْضًا، فإذا بدوا بِالْحَفْرِ فَقَدْ تَحَجَّرُوا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْحَفْرُ بِالنَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْهُ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مَلَكُوهُ كَمَا إِذَا حَفَرُوا بِئْرًا فَوَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ مَلَكُوهُ، وَإِذَا حَفَرُوا مَعْدِنًا مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّيلِ مَلَكُوهُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنْ أَنْفَقُوا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقُوا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ إِذَا جَرَى فِيهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ كَمَا إِذَا جَرَى الْفَيْضُ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ وَاجْتَمَعَ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَكِنْ يَكُونُ أَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ النَّهْرَ مِلْكٌ لَهُمْ وَلِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَبِيرًا يَسَعُهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ سَقَوْا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُمْ فَإِنْ تَهَابَوْا وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ مَا تَرَاضَوْا بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا نَصَبَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةَ الظَّهْرِ مُحْفَرَةً بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لقوم مائة جزيت ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشر حُفْرَةً مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ حُفْرَةً مِنْهَا لِسَاقِيَةِ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ وَالْبَوَاقِي لِأَصْحَابِ الْمِائَةِ جَرِيبٍ وَذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَاءِ الْعَادِلَةُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

(7/510)