|
الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي (كتاب
النفقات)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " قَالَ اللَّهُ عز وجل:
(ذلك أدنى أن لا تَعُولُوا} [النساء: 3] أَيْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ
(قَالَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ
فَأُحِبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ الرَجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ
أَكْثَرُ وَجَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي
وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهَلْ
عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جناح. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال يا رسول الله عندي دينار فقال "
أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى
وَلَدِكَ " قَالَ عِنْدِي آخَرُ فَقَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ "
قَالَ عِنْدِي آخَرُ قَالَ " أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ " قَالَ عِنْدِي
آخَرُ قَالَ " أنت أعلم " قال سعيد المقبري ثم يقول أبو هريرة إذا حدث بهذا
الحديث يَقُولُ وَلَدُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ وَتَقُولُ
زَوْجَتُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي وَيَقُولُ خادمك أنفق علي أو
بعني)) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وُجُوبُ النَّفَقَاتِ بِأَسْبَابِهَا
الْمُسْتَحَقَّةِ، فَمِمَّا لَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْهُ لِعَجْزِ
ذَوِي الْحَاجَةِ عَنْهَا وَقُدْرَةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ عَلَيْهَا ليأتلف
الخلق بوجود الكافية: فَجَعَلَهَا لِلْأَبَاعِدِ زَكَاةً لَا تَتَعَيَّنُ
لِبَعْضِهِمْ عَلَى بعض لعمومها فيهم، وجعلهم لِلْأَقَارِبِ بِأَنْسَابٍ
وَأَسْبَابِ مَعُونَةٍ وَمُوَاسَاةٍ تَتَعَيَّنُ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ
وَعَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ مُوجِبِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ فَمِنْ ذَلِكَ
نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ. وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَزْوَاجِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا
عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ
النَّفَقَةِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْفَرْضِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي
قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ،
فَأَمَرَهُ بِهَا فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَقَالَ تَعَالَى
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا ممن أَمْوَالِهِمْ} [النساء:
34] ، فَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ مَعْقُولٍ
وَنَصٍّ، فَالْمَعْقُولُ مِنْهَا قَوْلُهُ جَلَّ وعز: {الرجال قوامون على
النساء} ، وَالْقَيِّمُ عَلَى غَيْرِهِ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَمْرِهِ،
وَالنَّصُّ مِنْهَا قَوْلُهُ
(11/414)
{وبما أنفقوا من أموالهم} ، وَقَالَ
تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْوِلَادَةِ
فِي الْحَالِ الَّتِي تَتَشَاغَلُ بِوَلَدِهَا عَنِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ
لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ اسْتِمْتَاعِهِ
بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فَلَمَّا أَوْجَبَ
نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْفُرْاقِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا كَانَ وُجُوبُهَا
قَبْلَ الْفُرْاقِ أَوْلَى، وَقَالَ تَعَالَى: فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ
الشَّافِعِيُّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) [النساء: 3] ،
قَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَلَوْلَا
وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ الْعِيَالِ
تَأْثِيرٌ، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيَّ ابْنُ دَاوُدَ وَبَعْضُ أَهْلِ
اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى عال يعول أي
جاز يجوز، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَيُقَالُ فِيهِ أَعَالَ يُعِيلُ
فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ جَهْلًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ
وَغَفْلَةً عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] وَالْجَوَابُ عَنْ
هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْوِيلَ الشَّافِعِيِّ أَصَحُّ لِشَاهِدَيِ وشرح
وَلُغَةٍ.
فَأَمَّا الشَّرْحُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَرَأَ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَكَانَ هَذَا
التَّأْوِيلُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظًا مَتْلُوًّا حَكَاهُ
التَّاجِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ اخْتَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ
مَسْعُودٍ.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ
ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى
وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ.
وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ حَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ
عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ
يَعُولُ، مَعْنَاهُ كَثُرَ عِيَالُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ
وَمِنْهُ أُخِذَ عَوْلُ الْفَرَائِضِ لِكَثْرَةِ سِهَامِهَا، فَهَذَا
جَوَابٌ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ
ثَلَاثَةَ مَعَانٍ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ. بِمَعْنَى جَارَ يَجُورُ.
وَبِمَعْنَى مَانَ يَمُونُ. وَبِمَعْنَى أَكْثَرَ الْعِيَالَ. فَهُوَ
بِكَثْرَتِهِمْ. فَتَنَاوَلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ، وَبِهِ
قَالَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَطَائِفَهٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي اللُّغَةِ مَا ذَكَرُوهُ،
وَمَجَازَهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَجَازِهِ
دُونَ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْجَوْرِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ
بِقَوْلِهِ تعالى: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} وحمله على كثرة العيال
مستفاداً بمجاز قوله تعالى: {ذلك أدنى أن لا تعدلوا} لِيَكُونَ حَمْلُ
الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا:
وَالثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَؤُولُ إِلَى الْجَوْرِ فَعَبَّرَ
عَنْهُ بِالْجَوْرِ، لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، وَلَمْ يَعْصِرْ إِلَّا
عِنَبًا فسماه خمراً
(11/415)
لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ
خَمْرًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ، فَمَا رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَعِي دِينَارٌ قَالَ أَنْفِقْهُ
عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ
مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ
أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ دِينَارِ الْخَادِمِ مَعِي آخِرُ لَمْ
يَبْقَ غَيْرُهُ قَالَ أَنْفِقْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ أَدْنَاهَا
أَجْرًا.
قَالَ سَعِيدٌ الْمُقْبُرِيُّ: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قَالَ
يَقُولُ وَلَدُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، وَتَقُولُ
زَوْجَتُكَ أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ طَلِّقْنِي، وَيَقُولُ خَادِمُكَ
أَنْفِقْ عَلَيَّ أَوْ بِعْنِي، وَهَذَا أَعَمُّ حَدِيثٍ فِي وُجُوبِ
النَّفَقَةِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ وُجُوبِهَا بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا
أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُجْمَلٌ لَا يُخْرِجُ الزَّوْجَةَ مِنْ بَيَانِ
إِجْمَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ يُدْخِلُ الزَّوْجَةَ فِي جُمْلَةِ عُمُومِهِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا
قَالَتْ جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا آخُذُ مِنْهُ
سِرًّا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَهَلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ، فَقَالَ خُذِي
مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى
وجوب نفقة الزوجة الولد، وَاسْتُفِيدَ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ دَلَائِلُ عَلَى
أَحْكَامٍ مِنْهَا جَوَازُ بُرُوزِ الْمَرْأَةِ فِيمَا عَرَضَ مِنْ
حَاجَةٍ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِهَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهَا
وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كَلَامِهَا
لِلْأَجَانِبِ وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُوصَفَ الْإِنْسَانُ بِمَا
فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَمًّا إِذَا تَعَلَّقَ بِمَا عَسُرَ، لِأَنَّهَا
نَسَبَتْ أَبَا سُفْيَانَ إِلَى الشُّحِّ وَهُوَ ذَمٌّ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ
لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ بِغَيْرِ إِذْنَ مَنْ عَلَيْهِ
الْحَقُّ، لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا.
وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
(11/416)
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ
جِنْسِهِ إذا عدم الجنسن لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى أَخْذِ مَا
تَسْتَحِقُّهُ من قوت أَوْ لِبَاسٍ.
وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ
وَلَا تَقْصِيرٍ لِقَوْلِهِ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ
بِالْمَعْرُوفِ "، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ،
لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ
حَاضِرًا.
وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ
حَكَمَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِ أَبِي سُفْيَانَ لِعِلْمِهِ
بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْأُمِّ وِلَايَةً عَلَى
وَلَدِهَا إِذَا كَانَ صَغِيرًا لِقَوْلِهِ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " وَأَمَّا الْمَعْقُولُ مِنْ معاني لمن
مَعَانِي الْأُصُولِ، فَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ مَحْبُوسَةُ الْمَنَافِعِ
عَلَيْهِ وَمَمْنُوعَةٌ مِنَ التَّصَرُّفِ لِحَقِّهِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ
بِهَا فَوَجَبَ لَهَا مُؤْنَتُهَا وَنَفَقَتُهَا كَمَا يَلْزَمُهُ
لِمَمْلُوكِهِ الْمَوْقُوفِ عَلَى خِدْمَتِهِ وَكَمَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ
فِي بَيْتِ الْمَالِ نَفَقَاتُ أَهْلِ النَّفِيرِ لِاحْتِبَاسِ نُفُوسِهِمْ
عَلَى الْجِهَادِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نفقات الزوجات واجبة فقد إباحة اللَّهُ تَعَالَى أَنْ
يَنْكِحَ أَرْبَعًا بِقَوْلِهِ: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]
وَنَدَبَهُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى واحدة بقوله: {فإن خفتم أن لا تعدلوا
فواحدة} وَذَهَبَ ابْنُ دَاوُدَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ إِلَى
أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَكْمِلَ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ إذا قدر على
القيام بهن ولا يتقصر عَلَى وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهَا، وَاسْتَحَبَّ
الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ
أَكْثَرُ. لِيَأْمَنَ الْجَوْرَ بِالْمَيْلِ إِلَى بَعْضِهِنَّ أَوْ
بِالْعَجْزِ عَنْ نَفَقَاتِهِنَّ، وَأَوْلَى الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي
اعْتِبَارُ حَالِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ
فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا
تُقْنِعُهُ الْوَاحِدَةُ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ وَكَثْرَةِ جِمَاعِهِ
فَالْأَوْلَى أن ينتهي إلى العدد المقنع من اثنين أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ
أَرْبَعٍ لِيَكُونَ أَغْنَى لِبَصَرِهِ وَأَعَفَّ لِفَرْجِهِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(11/417)
(الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ
الْخَادِمِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ
أَنَّ عَلَى الرَجُلِ مَا لَا غِنَى بِامْرَأَتِهِ عَنْهُ مِنْ نَفَقَةٍ
وَكِسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا تَقْدِرُ عَلَى مَا لَا
صَلَاحَ لِبَدَنِهَا مِنْ زَمَانَةٍ ومرض إلا به (وقال) في كتاب عشرة
النساء يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها وقال
فيه أيضاً إذا لم يكن لها خادم فلا يبين أن يعطيها خادماً ولكن يجبر على من
يصنع لها الطعام الذي لا تصنعه هي ويدخل عليها ما لا تخرج لإدخاله من ماء
وما يصلحها ولا يجاوز به ذلك (قال المزني) قد أوجب لها في موضع من هذا نفقة
خادم وقاله في كتاب النكاح إملاء على مسائل مالك المجموعة وقاله في كتاب
النفقة وهو بقوله أولى لأنه لم يختلف قوله أن عليه أن يزكي عن خادمها فكذلك
ينفق عليها (قال المزني) رحمه الله: ومما يؤكد ذلك قوله لو أراد أن يخرج
عنها أكثر من واحدة أخرجهن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا
فَأَمَّا نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا فَوَاجِبٌ
عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[النساء: 9] وَالْخِدْمَةُ مِنَ الْمُعَوَّدِ الْمَعْرُوفُ. وَلِقَوْلِ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ. فَكَانَ الْخَادِمُ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
وَلِأَنَّهُ مَلَكَ مِنْهَا الِاسْتِمْتَاعَ الْكَامِلَ فَلَزِمَهُ لَهَا
الْكِفَايَةُ الْكَامِلَةُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن مثلها مخدوماً لقياسها
بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا لِأَنَّهُ
خَارِجٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهَا،
وَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُرْفِ بِذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُرْفُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ. فَإِنَّ عُرْفَ ذَوِي
الْأَقْدَارِ بِشَرَفٍ أَوْ يَسَارٍ أَنْ يَخْدُمَهُمْ غَيْرُهُمْ فَلَا
يَخْدُمُوا أَنْفُسَهُمْ. وَعُرْفَ مَنِ انْخَفَضَ قَدْرُهُ وَانْحَطَّتْ
رُتْبَتُهُ أَنْ يَخْدُمَ نَفْسَهُ وَلَا يُخْدَمَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عُرْفُ الْبِلَادِ فَإِنَّ عَادَةَ أَهْلِ
الْأَمْصَارِ أَنْ يَسْتَخْدِمُوا وَلَا يَخْدُمُوا، وَعَادَةَ أَهْلِ
السَّوَادِ أَنْ يَخْدُمُوا وَلَا يَسْتَخْدِمُوا فَإِذَا كَانَتِ
الزَّوْجَةُ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوِي
الْأَقْدَارِ وَسُكَّانِ الْأَمْصَارِ لَزِمَهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا إِلَّا
أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً فَيَلْتَزِمَ لَهَا مُدَّةَ
(11/418)
مَرَضِهَا وَإِنْ طَالَتْ، نَفَقَةُ
خَادِمِهَا لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ
ثَمَنُ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةُ الطَّبِيبِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ قَدْ تَجِبُ
فِي حُقُوقِ الزَّوْجَاتِ وَلَا يَجُبْ فِي حُقُوقِهِنَّ الدَّوَاءُ
وَالطَّبِيبُ. وَالِاعْتِبَارُ فِي خِدْمَتِهَا بِمَا تَأْخُذُ بِهِ
نَفْسَهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَرَفَّعَتْ
عَنِ الْخِدْمَةِ لَمْ تَلْزَمْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَإِنْ كَانَتْ
مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فَتَبَذَّلَتْ فِي الْخِدْمَةِ لَزِمَهُ
نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ لَهَا نفقة اكثر من خادم واحد وإن
جلت.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا لَمْ تَسْتَقِلَّ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ لِجَلَالَةِ
الْقَدْرِ وَكَثْرَةِ الْحَشَمِ. أُخِذَ مِنْهَا مَنْ جَرَتْ بِهِمْ
عَادَةُ مِثْلِهَا مِنْ عَادَةِ الْخَدَمِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ مَعَهُ
لِزِينَةٍ أَوْ حِفْظِ مَالٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الزَّوْجِ،
وَجَرَى حُكْمُ مَا زَادَ عَلَى الْخَادِمِ الْوَاحِدِ حُكْمَ مَنْ شَهِدَ
الْوَقْعَةَ بِأَفْرَاسٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى الأسهم فَرْضٍ وَاحِدٍ،
لِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَمَا عَدَاهُ
لِعِدَّةٍ أَوْ زِينَةٍ. ".
[الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الْخِدْمَةِ]
فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْخِدْمَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ
عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: صِفَةُ الْخِدْمَةِ.
وَالثَّانِي: مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ، فَأَمَّا صِفَةُ
الْخِدْمَةِ فَهِيَ نَوْعَانِ: خَارِجَةٌ وَدَاخِلَةٌ.
فَأَمَّا الْخَارِجَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّاهَا الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ مِنَ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ، وَأَمَّا الدَّاخِلَةُ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ بِهَا إِلَّا أَحَدُ ثَلَاثَةٍ.
إِمَّا النِّسَاءُ، وَإِمَّا ذُو مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَالِ.
وَإِمَّا صَبِيٌّ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَفِي الشَّيْخِ الْهَرِمِ
وَمَمْلُوكِهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي عَوْرَتِهَا
مَعَهُمَا.
فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَ لَهَا مَنْ خَالَفَ دِينَهَا مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، يَجُوزُ
لِحُصُولِ الْخِدْمَةِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا أَذَلَّ
نُفُوسًا وَأَسْرَعَ فِي الْخِدْمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّفْسَ رُبَّمَا
عَافَتِ اسْتِخْدَامَهُ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يُؤْمَنُوا
لِعَدَاوَةِ الدِّينِ وَلَوْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ
الْخَارِجَةِ وَلَا يَقُومُوا بِالْخِدْمَةِ الدَّاخِلَةِ كَانَ وَجْهًا،
وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ لَهَا بِالْخِدْمَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ
بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أما بأن المشتري خَادِمًا يَقُومُ بِخِدْمَتِهَا، وَإِمَّا بِأَنْ
يَكْتَرِيَ لَهَا خَادِمًا، وَإِمَّا بِأَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ
يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَالْخِيَارُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَيْهِ
دُونَهَا، لِأَنَّ حَقَُّهَا فِي الْخِدْمَةِ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ
الزَّوْجُ أَنْ يَخْدُمَهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(11/419)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ
ذَاكَ لِاسْتِغْنَائِهَا بِخِدْمَتِهِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهَا قد تحتشمه من
الِاسْتِخْدَامِ فَيَلْحَقُهَا تَقْصِيرٌ، فَلَوْ قَالَتْ أُرِيدُ أَنْ
أَخْدُمَ نَفْسِي وَآخُذَ أُجْرَةَ خَادِمِي لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ
كَالْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِلْمَالِ
حَمَّالًا وَنَقَّالًا، فَلَوْ تَكَلَّفَ حَمْلَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ حَمْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَطَوَّعَ
إِنْسَانٌ بِخِدْمَتِهَا سَقَطَتْ خِدْمَتُهَا عَنِ الزَّوْجِ سَوَاءٌ
تَطَوَّعَ بِالْخِدْمَةِ عَنْهَا أَوْ عَنِ الزَّوْجِ، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْخَادِمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الزَّوْجِ
نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهَا أَوْ
لِلزَّوْجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُكْتَرًى فَعَلَى الزَّوْجِ
أُجْرَتُهُ وَلَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا زَكَاةُ فَطَرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَطَوِّعًا فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ
أُجْرَتُهُ وَلَا نَفَقَتُهُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ
نَفَقَةَ خَادِمِهَا في موضع ولم يوجبها في موض فَوَهِمَ وَتَصَوَّرَ
أَنَّهُ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُهُ
لِاخْتِلَافِ حَالَيْنِ، اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ
خَادِمِهَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا، والموضع الذي أسقط فيه نفقة
خادمها إذا كَانَ مِثْلُهَا غَيْرَ مَخْدُومٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَافَ حَالَيْهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا
الْوَجْهِ. فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ نَفَقَةَ خَادِمِهَا
إِذَا كَانَ مشتراً. والموضع الذي أسقط فيه نفقة خادمها إذا كان مكترا،
ثُمَّ وَهِمَ الْمُزَنِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: قد أوجب زكاة فطرته
وَلَمْ يُوجِبْ نَفَقَتَهُ وَهَذَا أَظْهَرُ وهْمًا مِنَ الأول، لأن زكاة
الفطر لابن م إِلَّا بِلُزُومِ النَّفَقَةِ وَقَدْ تَلْزَمُ النَّفَقَةُ
وَإِنْ لم تلزم زكاة الفطرة.
(11/420)
(القول في نفقة المكاتب)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْفِقُ الْمُكَاتَبُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ
أَمَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِوَلَدِ الْمُكَاتَبِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَالْخِلَافُ فِيهِ يَأْتِي.
والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا فِي كِتَابَتِهِ
فَأَوْلَدَهَا بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ لَاحِقٌ
بِهِ بِالْمِلْكِ أَوْ بِشُبْهَةِ الْمِلِكِ وَهُوَ تَابِعٌ لِأَبِيهِ
بِعِتْقِهِ إِنْ أَدَّى وَيَرِقُّ بِرِقِّهِ إِنْ عَجَزَ، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ ينفق عليه مما بيده من ماله الْكِتَابَةِ، وَإِنْ
لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ لِِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ وَلَا يَجُوزُ
تَصَرُّفُ الْعَبْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ تَابِعٌ لَهُ إِنْ
عَتَقَ وَعَائِدٌ إِلَى سَيِّدِهِ إِنْ رُقَّ، فَخَالَفَ وَلَدَ الْعَبْدِ،
وَلِأَنَّهُ إِنْ أُعْتِقَ فَمَالُهُ لَهُ: فَجَازَ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ
عَلَى وَلَدِهِ. وَإِنْ رُقَّ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ وَوَلَدُهُ
مَمْلُوكَانِ لِلسَّيِّدِ وَمَا بِيَدِهِ لِلسَّيِّدِ، فَجَازَ أَنْ
يُنْفِقَ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَقَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَوْ
كَانَتِ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةٍ وَلَيْسَتْ كِتَابَتُهُمَا وَاحِدَةً
وَلَا مَوْلَاهُمَا وَاحِدًا وولدته فِي الْكِتَابَةِ أَوْلَادٌ
فَنَفَقَتَهُمْ عَلَى الْأُمِّ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِهِمْ وَيُعْتَقُونَ
بِعِتْقِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وَلَدُ الْمُكَاتَبِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَلَا
يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَتُهُ عَلَى
أُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، لِأَنَّ مَا بِيَدِ الْأَبِ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ
عَلَى سَيِّدِهِ بِأَنْ يَصِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَدَاءِ إِنْ عَتَقَ أَوْ
بِالْمِلْكِ إِنْ عَجَزَ وَرُقَّ فَلِذَلِكَ يُمْنَعُ من الإنفاق على ولده
الحر، لأنه لاحق فِيهِ لِلسَّيِّدِ. وَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الْإِنْفَاقِ
عَلَى وَلَدِهِ مَنْ أَمَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ السَّيِّدِ، وَإِذَا
سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنِ الْأَبِ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ، كَمَا لَوْ
أَعْسَرَ بِهَا الْأَبُ الحر.
(11/421)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ
وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ
وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَتَسْقُطُ عَنْ أُمِّهِ لِرِقِّهَا وَعَنْ أَبِيهِ
لِكِتَابَتِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ مِنْ مُكَاتَبَةٍ: فَلَا
يَكُونُ الْوَلَدُ تَبَعًا لِلْأَبِ، وَهَلْ يَكُونُ تَبَعًا لِأُمِّهِ
أَوْ مِلْكًا لِلسَّيِّدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مِلْكًا لِسَيِّدِهَا وَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا دُونَهَا وَدُونَ
الْأَبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَهَا يُعْتَقُ
بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا كَمَا قُلْنَا فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ
مِنْ أَمَتِهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى أُمِّهِ دُونَ
أَبِيهِ، لِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الْعِتْقِ وَالرِّقِّ دُونَ الْأَبِ،
فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي الْأَبَوَيْنِ،
فَإِنْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ لِسَيِّدَيْنِ لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أن ينفق
عليه، لأن سيد الأب لاحق لَهُ فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ، وَإِنْ كَانَا
لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ
جَازَ لِلْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ. وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَى الْأُمِّ؛
لِأَنَّ لِسَيِّدِهِ حَقًّا فِي ولده.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى
وَلَدِهِ مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَلَا أَمَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ
حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْحُرِّ مِنْ أَبَوَيْهِ دُونَ الْمَمْلُوكِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ
مَمْلُوكَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأُمِّ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ
عَلَى سَيِّدِهِ دُونَ أَبِيهِ، فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الْعَبْدُ
تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَلَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ
وَلَدِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ فِي
مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَلَمَّا مَلَكَ الِاسْتِمْتَاعَ
مَلَكَ عَلَيْهِ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَلَيْسَتْ
نَفَقَةُ الْوَلَدِ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ وَلَيْسَ الْعَبْدُ
مِنْ أَهْلِهَا وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِخُرُوجِهِ مَنْ
أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(11/422)
(باب قدر النفقة)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " عَلَيْهِ النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ نَفَقَةُ
الْمُوسِعِ وَنَفَقَةُ الْمُقْتِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رزقه}
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ مُقَدَّرَةٌ تَخْتَلِفُ
بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الزَّوْجِ دُونَ
الزَّوْجَةِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ
مُعْسِرًا تَقَدَّرَتْ بِمُدٍّ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا تَقَدَّرَتْ
بِمُدٍّ وَنِصْفٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ: نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرَةٌ
بِكِفَايَتِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ
فَخَالَفُوا فِي الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلَمْ يَجْعَلُوهَا
مُقَدَّرَةً وَلَا مُعْتَبَرَةً بِحَالِ الزَّوْجِ وَلَا مُخْتَلِفَةً
بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِهِنْدٍ: " خُذِي
مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". فَأَذِنَ لَهَا فِي أَخْذِ
كِفَايَتِهَا، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، وَنَفَقَةُ
وَلَدِهَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَهُوَ لَا يَأْذَنُ لَهَا إِلَّا
فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكِفَايَةَ هِيَ الْقَدْرُ
الْمُسْتَحَقُّ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا فِي مُقَابَلَةِ تَمْكِينِ
الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالتَّمْكِينُ مُعْتَبَرٌ بِكِفَايَةِ
الزَّوْجِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ما في مقابلته من النفقة معتبراً بكافية
الزَّوْجَةِ كَالْمُقَاتِلَةِ لَمَّا يَلْزَمُهُمْ كِفَايَةُ
الْمُسْلِمِينَ جِهَادَ عَدُوِّهِمُ اسْتَحَقُّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي
بَيْتِ مَالِهِمْ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ
النَّفَقَةِ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: بِنَسَبٍ، وَزَوْجِيَّةٍ،
وَمِلْكٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ
مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ
بِالزَّوْجِيَّةِ مُعْتَبَرًا بِالْكِفَايَةِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهَا جِهَةٌ تَسْتَحِقُّ بِهَا النَّفَقَةَ.
فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً بِالْكِفَايَةِ كَالنَّسَبِ
وَالْمِلْكِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ
اللَّهُ} [الطلاق: 7] . فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى اعْتِبَارِ
النَّفَقَةِ بِالزَّوْجِ وَاخْتِلَافِهَا بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ.
فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ كِفَايَتِهَا وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى
نَفَقَةِ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ
وَالْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهَا أُجْرَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلِأَنَّ الْمَالَ
الْمُسْتَحَقَّ بِالزَّوْجِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا
كَالْمَهْرِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مِنَ
الْإِطْعَامِ إِذَا لَمْ يَسْقُطُ
(11/423)
بِالْإِعْسَارِ كَانَ مُقَدَّرًا
كَالْكَفَّارَاتِ. وَلِأَنَّ اعْتِبَارَهَا بِالْكِفَايَةِ مُفْضٍ إِلَى
التَّنَازُعِ فِي قَدْرِهَا. فَكَانَ تَقْدِيرُهَا بِالشَّرْعِ حَسْمًا
لِلتَّنَازُعِ فِيهِ أَوْلَى كَدِيَةِ الْجَنِينِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ هِنْدٍ. فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ
بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ لَا تَأْخُذَ فِي الْإِعْسَارِ مَا
تَأْخُذُهُ فِي الْيَسَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ
الِاسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَبَرِ بِالْكِفَايَةِ كَالْمُجَاهِدِينَ. فَهُوَ
أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ مُسْتَحَقٍّ بِعَقْدٍ
فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِوَضِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ
عَنِ الْتِمَاسِ الْكِفَايَةِ فَجَازَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ بِهَا قَدْرُ
الْكِفَايَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ
وَالْمَمَالِيكِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ غَيْرِ
بَدَلٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ غير مقدرة، ونفقة الزوجة مستحق عَنْ بَدَلٍ
فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً كَالْأُجُورِ وَالْأَثْمَانِ.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ،
نَفَقَةُ الْمُوسِرِ، وَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، ثُمَّ قَدَّرَهَا ثَلَاثَ
نَفَقَاتٍ. مُوسِرٌ وَمُعْسِرٌ وَمُتَوَسِّطٌ فَنَقَضَ بَعْضُ كَلَامِهِ
بَعْضًا.
قِيلَ: أَرَادَ الْمُعْتَبَرُ بِالشَّرْحِ نَفَقَتَانِ يَسَارٌ
وَإِعْسَارٌ، وَالثَّالِثَةُ مُعْتَبِرَةٌ بِالِاجْتِهَادِ لِتَوَسُّطِهَا
بين اليسار والإعسار.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْمُقْتِرَ
لِامْرَأَتِهِ إِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ بِبَلَدِهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ
إِلَّا مَخْدُومَةً عَالَهَا وَخَادِمًا وَاحِدًا بِمَا لَا يَقُومُ بَدَنٌ
عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ طَعَامِ الْبَلَدِ
الْأَغْلَبِ فِيهَا مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ
عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ.
وَالثَّانِي: فِي جِنْسِهَا.
والثالث: في صفتها.
(11/424)
(الفصل الأول في مقدار النفقة)
فَأَمَّا مِقْدَارُهَا. فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
وَالتَّوَسُّطِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ مُخْتَلِفًا
لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَأَنْ يُعْتَبَرَ بِأَصْلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ
وَيُؤْخَذَ الْمِقْدَارُ مِنْهُ، فَكَانَ أَوْلَى الْأُصُولِ بِهَا
الْكَفَّارَاتُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَعَامٌ يُقْصَدُ بِهِ سَدُّ الْجَوْعَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَعَامٌ يَسْتَقِرُّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ. ثُمَّ
وَجَدْنَا أَكْثَرَ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَفَّارَاتِ فِدْيَةَ
الْأَذَى قُدِّرَ فِيهَا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا
لِنَفَقَةِ الْمُوسِرِ، فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زوجته في يَوْمٍ
مُدَّيْنِ وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي
الْأَغْلَبِ، وَوَجَدْنَا أَقَلَّ الطَّعَامِ الْمُقَدَّرِ فِي
الْكَفَّارَاتِ كَفَّارَةَ الْوَطْءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. عَلَيْهِ
لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ. فَجَعَلْنَاهُ أَصْلًا لِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ،
وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا،
وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يَقْتَاتُهُ الْإِنْسَانُ فِي الْأَغْلَبِ، ثُمَّ
وَجَدْنَا الْمُتَوَسِّطَ يَزِيدُ عَلَى حَالِ الْمُقْتِرِ وَيَنْقُصُ عَنْ
حَالِ الْمُوسِرِ. فَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُعْسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى
الزَّوْجَةِ مِنْ حَيْفِ النُّقْصَانِ.
وَلَمْ نَعْتَبِرْهُ بِالْمُوسِرِ لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ
حَيْفِ الزِّيَادَةِ فَعَامَلْنَاهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ
وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ مُدًّا وَنِصْفًا، لِأَنَّهُ نِصْفُ نَفَقَةِ
مُوسِرٍ وَنِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ.
فَأَمَّا الْمُوسِرُ: فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ
الْمُوسِرِينَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَحَقِّ كُلِّ مَنْ تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُ مِنْ كَسْبِهِ لَا مِنْ أَصْلِ مَالِهِ.
وَأَمَّا الْمُعْسِرُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ
كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إِلَّا
نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ
مَالِهِ لَا مِنْ كَسْبِهِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ: فَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ
كَسْبِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ
الْمُتَوَسِّطِينَ. فَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ مَالِهِ،
وَإِنْ نَقَصَ عَنْهَا فَضُلَ مِنْ كَسْبِهِ. فَيَكُونُ الْيَسَارُ
وَالْإِعْسَارُ بِالْكَسْبِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ
بِأَصْلِ الْمَالِ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَاتِ. وَسَوَاءٌ
كَانَ الْمُقَدَّرَ لِلزَّوْجَةِ وَهُوَ شِبَعَهَا أَوْ كَانَ زَائِدًا
أَوْ مُقَصِّرًا، فَإِنْ زَادَ عَلَى شِبَعِهَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ
مِلْكًا لَهَا، وَإِنْ نَقَصَ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى التَّشَبُّعِ، بِهِ
كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ لَهَا قَدْرَ
شِبَعِهَا وَبَيْنَ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنَ اكْتِسَابِهِ. فَأَيُّهُمَا
فَعَلَ فَلَا خِيَارَ لَهَا. فَإِنْ مَكَّنَهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى
اكْتِسَابِ كِفَايَتِهَا صارت من أهل الصدقات تأخذ د باقي كفايتها من
الزكوات والكفارات.
( [فصل: القول في جنس النفقة] )
وَأَمَّا جِنْسُ النَّفَقَةِ. فَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِمَا.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى
(11/425)
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى
الْعُرْفِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالنَّفَقَاتِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
[المائدة: 89] ثم كانت الكفارات كفارات من غالب الأقوات، فكانت النفقة
بِذَلِكَ أَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَغَالَبُ قُوتِ أَهْلِ
الْحِجَازِ التَّمْرُ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الطَّائِفِ الشَّعِيرُ،
وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْيَمَنِ الذَّرَّةُ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ الْبُرُّ، وَغَالِبُ قُوتِ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ الْأُرْزُ.
فَيُنْظَرُ فِي غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِمَا فَتَسْتَحِقُّ
نَفَقَتَهَا مِنْهُ، فَإِنِ اخْتَلَفَ قُوتُ بَلَدِهِمَا وَجَبَ لَهَا
الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ
الزَّوْجُ مُخَيَّرًا دُونَهَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ بَلَدَيْنِ يَخْتَلِفُ
قُوتُهُمَا نَظَرَ، فَإِنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ اعْتُبِرَ
الْغَالِبُ مِنْ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجِ، وَإِنْ نَزَلَ عَلَيْهَا فِي
بَلَدِهَا اعْتُبِرَ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَمْ
تَأْلَفِ الزَّوْجَةُ أَكْلَ قُوتِ بَلَدِهِ، قِيلَ: هَذَا حَقُّكِ فَإِنْ
شِئْتِ فَأَبْدِلِيهِ بِقُوتِ بَلَدِكِ، وَهَكَذَا لَوِ انْتَقَلَا عَنْ
بَلَدِهِمَا إِلَى بَلَدٍ قُوتُهُ مُخَالِفٌ لِقُوتِ بَلَدِهِمَا، لَزِمَهُ
أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ الَّذِي انتقلا إليه
دون البلد الذي انتقلا إليه، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى أَوْ أَدْنَى. لِأَنَّ
النَّفَقَةَ تَجِبُ فِي وَقْتٍ بَعْدَ وَقْتٍ، فَكَانَ لِكُلِّ وقت حكمه.
(فصل: القول في صفة النفقة)
فَأَمَّا صِفَةُ جِنْسِ النَّفَقَةِ. فَهُوَ الْمُدُّ مِنَ الْبُرِّ أَوِ
الشَّعِيرِ أَوِ الْأُرْزِ أَوِ الذُّرَةِ. دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ،
وَإِنْ كَانَ لَا يُقْتَاتُ إِلَّا بَعْدَ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَبَّ أَكْمَلُ مَنْفَعَةً مِنْ مَطْحُونِهِ
وَمَخْبُوزِهِ لِإِمْكَانِ ادِّخَارِهِ وَازْدِرَاعِهِ.
وَالثَّانِي: لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ فِيهَا
إِلَّا الْحَبُّ. دُونَ الدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ، فَإِذَا وَجَبَ لَهَا
الْحَبُّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهَا أَنْ يَتَوَلَّوْا
طَحْنَ أَقْوَاتِهِمْ وَخَبْزَهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَأَهْلِ السَّوَادِ،
كَانَ مُبَاشَرَةُ طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ
لَمْ تَجْرِ عادت أَمْثَالِهَا بِمُبَاشَرَةِ طَحْنِ أَقْوَاتِهِمْ
وَخَبْزِهَا بِأَنْفُسِهِمْ كَانَ الزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ
يَدْفَعَ إِلَيْهَا أُجْرَةَ الطَّحْنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ لَهَا مَنْ
يَتَوَلَّى طَحْنَهُ وَخَبْزَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَفْضَى حَقُّهَا
إِلَى الْخُبْزِ كَانَ إِيجَابُهُ أَحَقَّ. قِيلَ: لِأَنَّ لَهَا أَنْ
تَدَّخِرَهُ وَتَزْرَعَهُ إِنْ شَاءَتْ، فَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ
يَدْفَعَ إِلَيْهَا قِيمَةَ الْحَبِّ لَمْ تُجْبَرِ الزَّوْجَةُ عَلَى
قَبُولِهَا، وَلَوْ طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ الْقِيمَةَ لَمْ يُجْبَرِ
الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِهَا، وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي
جَوَازِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَكَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِهِ فِي الذِّمَّةِ بِخِلَافِ
السَّلَمِ، ولمعين بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ، فَأَشْبَهَ الْقُرُوضَ.
(11/426)
(الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ خَادِمِ
الزَّوْجَةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلِخَادِمِهَا مِثْلُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا إِذَا كَانَ مِثْلُهَا مَخْدُومًا
وَأَخْدَمَهَا مَمْلُوكًا لَهَا أَوْ لَهُ، فَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ
نَفَقَتُهُ. لَكِنْ إِنْ كَانَ الْخَادِمُ لَهُ فَنَفَقَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ
بِكِفَايَتِهِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا
لَهَا فَنَفَقَتُهُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسْبِ حَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ
وَإِقْتَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُدَّانِ، فَتَكُونُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدًّا
وَثُلُثًا، لِكَوْنِهِ تَابِعًا لَهَا فَلَمْ يَتَسَاوَيَا فِيهَا، وَلَمْ
يُعْطَ مُدًّا وَنِصْفًا لِئَلَّا يُسَاوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَةِ
الْمُتَوَسِّطِ، وَاقْتُصِرَ بِهِ عَلَى مُدٍّ وَثُلُثٍ وَهُوَ ثُلُثَا
نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُتَوَسِّطًا
وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ
وَاحِدٌ، وَذَلِكَ ثُلُثَا نَفَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا
وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ. فَنَفَقَةُ خَادِمِهَا مُدٌّ
وَاحِدٌ، وَقَدْ كَانَ الِاعْتِبَارُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا مُدٍّ
وَلَا يُسَاوَى بَيْنَهُمَا، لَكِنْ لَمْ يَقُمْ بَدَنٌ فِي الْأَغْلَبِ
عَلَى أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ كَامِلٍ فَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا فِيهِ
لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّسْوِيَةِ كَالْعَدَدِ وَالْحُدُودِ
تَنْقُصُ بِالرِّقِّ عَنْ حَالِ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا تَبَعَّضَ مِنَ
الْأَقْرَاءِ وَالشُّهُورِ وَالْجَلْدِ وَسُوِّيَ بَيْنُهَمَا فِيمَا لَمْ
يَتَبَعَّضْ مِنَ الْحَمْلِ وَقَطْعِ السَّرِقَةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَكِيلَةٌ مِنْ أُدْمِ بِلَادِهَا زَيْتًا
كَانَ أَوْ سَمْنًا بِقَدْرِ مَا يَكْفِي مَا وَصَفْتُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأُدْمُ فَمِنَ الْمَعْرُوفِ
الْمَأْلُوفِ، لِأَنَّ الطعام لا ينساغ أَكْلُهُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا
بِهِ. فَأَوْجَبْنَاهُ لَهَا عُرْفًا، وَإِذَا كَانَ أُدْمُهَا
مُسْتَحَقًّا فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ دُهْنًا، وَهَذَا خَارِجٌ
مِنْهُ عَلَى عُرْفِ الْبِلَادِ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا
بِالدُّهْنِ، وَمِنَ الْبِلَادِ مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِاللَّحْمِ
فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَحْمًا، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا
بِالسَّمَكِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا سَمَكًا، وَمِنْهَا مَا يَتَأَدَّمُ
أَهْلُهَا بِاللَّبَنِ فَيَكُونُ أُدْمُهَا لَبَنًا، وَنَحْنُ نِصْفُ مَا
ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِدَامِ الدُّهْنِ، وَيَكُونُ مَا عَدَاهُ
بِقِيَاسِهِ فَالْبِلَادُ الَّتِي يَتَأَدَّمُ أَهْلُهَا بِالدُّهْنِ
يَخْتَلِفُ جِنْسُهُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الْبِلَادِ. فَإِدَامُ أَهْلِ
الْحِجَازِ السَّمْنُ وَإِدَامُ أَهْلِ الشَّامِ الزَّيْتُ وَإِدَامُ
أَهْلِ الْعِرَاقِ الشَّيْرَجُ، فَيُعْتَبَرُ جِنْسُهُ بِعُرْفِ الْبَلَدِ
مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ، فَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَمُعْتَبَرٌ
بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ. فَيُقَالُ كَمْ يَكْفِي إِدَامُ كُلِّ مُدِّ
طَعَامٍ مِنَ الدُّهْنِ. فَإِذَا قِيلَ كُلُّ مد يكتفي في آدامه بأوقية من
دم جَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْرًا مُسْتَحَقًّا فِي إِدَامِ، فَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَتِهَا مُدَّانِ مِنْ حَبٍّ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ لِإِدَامِهَا أُوقِيَّتَانِ مِنْ دُهْنٍ، وَإِنْ كَانَ
مُتَوَسِّطًا تَجِبُ عَلَيْهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ. وَجَبَ لِإِدَامَهَا
أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ مقتراً وجب عليه مد وجب لإدامه
أُوقِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ إِدَامُ خَادِمِهَا تُعْتَبَرُ بِقُوتِهِ مِنَ
الْحَبِّ. فَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ وَثُلُثٌ مِنَ الْحَبِّ، كَانَ لَهُ
أُوقِيَّةٌ وَثُلُثٌ مِنَ الدُّهْنِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مُدٌّ مِنَ
الْحَبِّ كَانَ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنَ الدُّهْنِ، ثُمَّ
(11/427)
يُرَاعَى بَعْدَ الدُّهْنِ حَالُهُمْ
فِيمَا عَدَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ بِاللَّحْمِ عَادَةً اعْتَبَرْتَهَا
فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ
مَرَّةً، أَوْجَبْتَهُ لَهَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً وَاحِدَةً،
وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ عُرْفُ مَنْ
لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ إِلَّا مَرَّةً، وَإِنْ كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فِي
كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْجَبْتَهُ لَهَا مَرَّتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْأُخْرَى فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ، لِأَنَّهُ
عُرْفُ مَنْ يَأْكُلُهُ مَرَّتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا الْعِبْرَةُ فِي
الْعُرْفِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ، فَأَمَّا مِقْدَارُ اللَّحْمِ الَّذِي
تَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ قَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِرِطْلٍ وَاحِدٍ فِي
الْيَوْمِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا الْمِقْدَارُ
عَامًّا فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ عُرْفَ
بِلَادِهِ بِالْحِجَازِ وَمِصْرَ، وَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي جَرَتْ
عَادَةُ أَهْلِهَا أَنْ يَتَأَدَّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ
بِأَكْثَرَ مِنْ رِطْلٍ مِنَ اللَّحْمِ فَقَدْرُهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِهِمْ
فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَعَلْتُمُ الْحَبَّ
مُقَدَّرًا لَا يُعْتَبَرُ بِالْعُرْفِ وَجَعَلْتُمُ الدُّهْنَ وَاللَّحْمَ
مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ قِيلَ، لِأَنَّ الْحَبَّ يُقَدَّرُ بِالشَّرْعِ
فَسَقَطَ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِيهِ وَالْأُدْمَ لَمْ يَتَقَدَّرْ إِلَّا
بِالْعُرْفِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيهِ، وَمَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ
عُرْفِ الْأَزْوَاجِ فِي إِدَامِهَا اعْتَبَرْنَا عُرْفَ الْخَدَمِ فِي
إِدَامِ خَادِمِهَا.
(الْقَوْلُ فِي أَدَوَاتِ الزِّينَةِ وَالنَّظَافَةِ لِلزَّوْجَةِ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْرَضُ لَهَا فِي دُهْنٍ وَمُشْطٍ أَقَلُّ
مَا يَكْفِيهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِخَادِمِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِالْمَعْرُوفِ لَهَا وَقِيلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ رِطْلُ لحم وذلك المعروف
لمثلها ".
قال الماوردي: قَالَ تَسْتَحِقُّ فِي نَفَقَتِهَا عَلَى الزَّوْجِ مَا
تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّهْنِ لِتَرْجِيلِ شَعْرِهَا وَتَدْهِينِ
جَسَدِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ، وَإِنَّ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا
اسْتِعْمَالَ الزِّينَةِ الَّتِي تَدْعُوهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا،
وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ بِلَادِهَا، فَمِنْهَا مَا يَدِّهِنُ
أَهْلُهُ بِالزَّيْتِ كَالشَّامِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ لَهَا، وَمِنْهَا
مَا يَدَّهِنُ أَهْلُهُ بِالشَّيْرَجِ كَالْعِرَاقِ فَهُوَ الْمُسْتَحَقُّ
لَهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَعْمِلُ أَمْثَالَهَا فِيهِ إِلَّا مَا
طُيِّبَ مِنَ الدُّهْنِ بِالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ، فَتَسْتَحِقُّ فِي
دُهْنِهَا مَا كَانَ مُطَيَّبًا فَأَمَّا مِقْدَارُهُ فَمُعْتَبَرٌ
بِكِفَايَةِ مِثْلِهَا، وَأَمَّا وَقْتُهُ فَهُوَ كُلُّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً،
لِأَنَّهُ الْعُرْفُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: ادَّهِنُوا يَذْهَبُ الْبُؤْسُ
عَنْكُمْ، وَالدُّهْنُ فِي الْأُسْبُوعِ يَذْهَبُ بِالْبُؤْسِ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَالْمُشْطُ يَعْنِي بِهِ آلَةَ الْمُشْطِ مِنَ
الْأَفَاوِيهِ وَالْغِسْلَةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُرْفِ بِلَادِهِمْ.
فَأَمَّا الكحل فما كان منه للزينة الاثمد فَهُوَ عَلَى الزَّوْجِ،
لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ لِلدَّوَاءِ
فَهُوَ عَلَى الزَّوْجَةِ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَهِيَ
لِلدَّوَاءِ أَحْوَجُ مِنْهَا إِلَى الدُّهْنِ فَكَانَ بِأَنْ يَجِبَ عَلَى
الزَّوْجِ أَحَقُّ قِيلَ: لِأَنَّ الدَّوَاءَ مُسْتَعْمَلٌ لِحِفْظِ
الْجَسَدِ فَكَانَ عَلَيْهَا، وَالدُّهْنَ مُسْتَعْمَلٌ لِلزِّينَةِ
فَكَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ لَهُ وَحِفْظَ الْجَسَدِ لَهَا،
وَجَرْيُ الزَّوْجِ مَجْرَى الْمُكْرَى لَزِمَهُ بِنَاءَ مَا اسْتُهْدِمَ
مِنَ الدَّارِ الْمُكْرَاةِ دُونَ مُكْتَرِيهَا،
(11/428)
فَأَمَّا دُخُولُ الْحَمَّامِ فَهُوَ
مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ. فَإِنْ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ أَهْلِهَا بِدُخُولِ
الْحَمَّامِ كَالْقُرَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ جَرَتْ بِهِ
عَادَةُ أَهْلِهَا كَالْأَمْصَارِ كَانَ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ لَهَا فِي
كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النِّسَاءِ يَغْتَسِلْنَ بِهِ
وَيَخْرُجْنَ بِهِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ الَّذِي يَكُونُ فِي كُلِّ شَهْرٍ
مَرَّةً فِي الْغَالِبِ، فَأَمَّا الْحِنَّاءُ وَالِاخْتِضَابُ بِهِ فِي
الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الزَّوْجُ لَمْ
يَلْزَمْهُ وَلَمْ يَلْزَمْهَا، وَإِنْ طَلَبَهُ الزَّوْجُ وَجَبَ
عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ، رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " لَعَنَ
السَّلْتَاءَ وَالْمَرْهَاءَ " وَالسَّلْتَاءُ: الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ
وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ تَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا كَرِهَتْ
زَوْجَهَا لِيُفَارِقَهَا فَلِذَلِكَ لَعَنَهَا.
فَأَمَّا الطِيِبُ فَمَا كَانَ مِنْهُ مُزِيلًا لِسَهُوكَةِ الْجَسَدِ
فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ لَهَا، وَمَا كَانَ مِنْهُ
مُسْتَعْمَلًا لِلِالْتِذَاذِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِرَائِحَتِهِ فَهُوَ
حَقٌّ لِلزَّوْجِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ لَزِمَهَا
اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ لَمْ يستحق المطالبة به.
(فصل)
فأما خدامها فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الزَّوْجِ دُهْنًا وَلَا مُشْطًا،
لِأَنَّهَا زِينَةٌ تُقْصَدُ فِي الزَّوْجَاتِ دُونَ الْخَدَمِ، فَأَمَّا
مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنَ الدَّوَاءِ فَيَسْتَحِقُّهُ عَلَى مَالِكِهِ
مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ فَدَوَاؤُهُ عَلَيْهِ
بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ دَوَاؤُهَا عَلَى الزَّوْجِ؛
لِأَنَّ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مِلْكًا
لِلزَّوْجَةِ كَانَ دَوَاؤُهُ عَلَيْهَا.
(الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ كِسْوَةِ الزوجة)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَفُرِضَ لَهَا مِنَ الْكِسْوَةِ مَا يُكْسَى
مِثْلُهَا بِبَلَدِهَا عِنْدَ الْمُقْتِرِ مِنَ الْقُطْنِ الْكُوفِيِّ
وَالْبَصْرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا كِسْوَةُ الزَّوْجَةِ فَمُسْتَحَقَّةٌ عَلَى
الزَّوْجِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وَلِأَنَّ
اللِّبَاسَ مِمَّا لَا تَقُومُ الْأَبْدَانُ فِي دَفْعِ الحر البرد إِلَّا
بِهِ، فَجَرَى فِي اسْتِحْقَاقِهِ عَلَى الزَّوْجِ مَجْرَى الْقُوتَ،
وَإِذَا وَجَبَتِ الْكِسْوَةُ تَعَلَّقَ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: عَدَدُ الثِّيَابِ.
وَالثَّانِي: جِنْسُهَا.
وَالثَّالِثُ: مِقْدَارُهَا.
فَأَمَّا الْعَدَدُ فَأَقَلُّ مَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ
أَثْوَابٍ فِي الصَّيْفِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الشِّتَاءِ. قَمِيصٌ لِجَسَدِهَا
وَقِنَاعٌ لِرَأْسِهَا، وَسَرَاوِيلُ أَوْ مِئْزَرٌ لِوَسَطِهَا.
وَالرَّابِعُ: جُبَّةٌ تَخْتَصُّ بِالشِّتَاءِ، فَأَمَّا الْمِلْحَفَةُ
فَلَا تَجِبُ، لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا فِي الْخُرُوجِ
الَّتِي تَلْتَحِفُ بِهَا، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ
فَسَقَطَ عَنْهُ مَا احْتَاجَتْ إِلَيْهِ فِي
(11/429)
خُرُوجِهَا، وَكَذَلِكَ الْخُفُّ مِمَّا
يَسْتَوِي فِي عَدَدِهِ زَوْجَةُ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ فِي
الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَلَئِنْ كَانَ فِي سُكَّانِ الْقُرَى مِنَ
النِّسَاءِ مَنْ لَا يَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ وَالْمِئْزَرَ فَفِي تَرْكِهِ
هَتْكُ عَوْرَةٍ، وَيُؤْخَذُ بِهَا فِي حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعُ
النَّاسِ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ نِسَاءِ الْبَلَدِ جَارِيَةً
بِلَبْسِ السَّرَاوِيلِ كَانَ حَقُّهَا فِيهِ دُونَ الْمِئْزَرِ، وَإِنْ
كُنَّ يَلْبَسْنَ الْمِئْزَرَ فَحَقُّهَا دون السراويل، وإن كان
السَّرَاوِيلُ أَصْوَنَ وَأَسْتَرَ، فَأَمَّا مَدَاسُ الرِّجْلَيْنِ مِنْ
نعل أو شبشب فمعتبر بالعادة والعرف، وإن كَانَ ذَلِكَ فِي سُكَّانِ
الْقُرَى الَّتِي لَمْ تَجْرِ عَادَةُ نِسَائِهَا بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي
أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ عَلَى
الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ سُكَّانِ الْأَمْصَارِ وَمِمَّنْ جَرَتْ
عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِ الْمَدَاسِ فِي أَرْجُلِهِنَّ إِذَا كُنَّ فِي
بُيُوتِهِنَّ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ مَدَاسًا مُعْتَبَرًا بالعرف من نعل أو
شبشب.
(فصل: [القول في جنس الكسوة] )
فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ فَتَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِقْتَارِ
وَالتَّوَسُّطِ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ثِيَابِ الْبَلَدِ، فَإِنْ
كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِهِ الْقُطْنَ فِي الصَّيْفِ وَالْخَزَّ فِي
الشِّتَاءِ، فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ ثَوْبًا مِنْ مُرْتَفِعِ
الْقُطْنِ وَنَاعِمِهِ كَالْبَصَرِيِّ وَمُرْتَفِعِ الْمَرْوَزِيِّ،
وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ خَزٍّ وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ
الْمُتَوَسِّطِ ثوباً من وسط القطن وكالبصري وَالْبَغْدَادِيِّ وَجُبَّةَ
قُطْنٍ مَحْشُوَّةً أَوْ مِنْ وَسَطِ الْخَزِّ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ
الْمُقْتِرِ ثَوْبًا مِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ كَالْبَصَرِيِّ وَالْكُوفِيِّ
وَجُبَّةً مِنْهُ أَوْ مِنْ صوف إن كان يكتسبه نِسَاءُ بَلَدِهَا، وَإِنْ
كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ ثِيَابِ بَلَدِهَا الْكَتَّانَ وَالْإِبْرَيْسَمَ
فَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ مِنْ مرتفع الكتاب كَالدَّبِيقِيِّ
وَمُتْرَفٍ وَمُرْتَفِعِ السَّقْلَسِ، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مِنْ
مُرْتَفِعِ الْقَصَبِ الْخَفِيفِ النَّسْجِ الَّذِي لَا تَجُوزُ فِيهِ
الصَّلَاةُ. لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ ثَوْبًا وَاحِدًا وَذَلِكَ لَا
يَسْتُرْهَا وَلَا تَصِحُّ فِيهِ صَلَاتُهُا فلذلك فرض لها ما تجزي فِيهِ
الصَّلَاةُ، وَفَرَضَ لَهَا فِي الشِّتَاءِ جُبَّةَ إِبْرِيسَمَ
كَالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَمَا يَخْتَصُّ بِبَلَدِهَا مِنْ أَنْوَاعِ
الْإِبْرَيْسَمِ، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ وَسَطَ الْكَتَّانِ
كَالْمَعْصُورِ بِمِصْرَ وَالْمَعْرُوفِ بِالْبَصْرَةِ، وَوَسَطَ
الرُّومِيِّ بِبَغْدَادَ وَجُبَّةً مِنْ وَسَطَ الْجِبَابِ الَّتِي
يَلْبَسُهَا نِسَاءُ بَلَدِهَا، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ غَلِيظَ
الْكَتَّانِ وَخَشِنَهُ وَجُبَّةً لِجِسْمِهَا وَهَذَا مِثَالٌ وَلِكُلِّ
بَلَدٍ عُرْفٌ فاعتبر عرفهم فيه.
(فصل: [القول في مقدار الكسوة] )
وَأَمَّا مِقْدَارُ ثِيَابِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِقَدِّهَا فِي الطُّولِ
وَالْقِصَرِ وَالنَّحَافَةِ وَالسِّمَنِ، هَذَا فِي مِقْدَارِ قميصها فأما
القناع فيتساوى والسراويل يتقارب وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا مِقْدَارَ
الثِّيَابِ بِكِفَايَتِهَا، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْقُوتُ بِكِفَايَتِهَا
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا يَتَقَدَّرُ بِهِ الْقُوتُ فَلَمْ
تُعْتَبَرْ فِيهِ الكفاية وليس في
(11/430)
الشرع يَتَقَدَّرُ بِهِ اللِّبَاسُ
فَاعْتَبَرَنَا فِيهِ الْكِفَايَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِفَايَةَ فِي الْكِسْوَةِ مُتَحَقِّقَةٌ
بِالْمُشَاهَدَةِ فَاعْتَبَرْنَاهَا وَكِفَايَةُ الْقُوتِ غَيْرُ
مُتَحَقِّقَةٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ لَمْ نَعْتَبِرْهَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ جِنْسِ الْكِسْوَةِ وَمِقْدَارِهَا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا ثِيَابًا وَلَا يَدْفَعَ إِلَيْهَا ثَمَنَهَا
لِاسْتِحْقَاقِهَا لِلْكِسْوَةِ دُونَ الثَّمَنِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ
لَهَا مِنْهُ مَا احتاج إلى د خِيَاطَةٍ، فَإِنْ بَاعَتْهَا لَمْ يَصِحَّ
وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَمَلَكَتِ الثَّمَنَ، وَكَانَ
عَلَيْهَا أَنْ تَكْسُوَ نَفْسَهَا بِمَا شَاءَتْ.
وَقَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيُّ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا وَلَا
يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ لَا
تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِهَا أَوْ مِلْكِ الزَّوْجِ. فَلَمْ يَجُزْ
أَنْ تَكُونَ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ
اسْتِرْجَاعُهَا. فَثَبَتَ أَنَّهَا لِلزَّوْجَةِ وَجَازَ لَهَا بَيْعُ مَا
مَلَكَتْ وَاللَّهُ أعلم.
(كسوة خادم الزوجة)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِخَادِمِهَا كِرْبَاسٌ وَمَا أَشْبَهَهُ
وَفِي الْبَلَدِ الْبَارِدِ أَقَلُّ مَا يَكْفِي الْبَرْدَ مِنْ جُبَّةٍ
مَحْشُوَّةٍ وَقَطِيفَةٍ أَوْ لِحَافٍ يَكْفِي السَنَتَيْنِ وَقَمِيصٍ
وَسَرَاوِيلَ وَخِمَارٍ أَوْ مَقْنَعَةٍ وَلِجَارِيَتِهَا جُبَّةُ صُوفٍ
وَكِسَاءٌ تَلْتَحِفُهُ يُدْفِئُ مِثْلَهَا وَقَمِيصٌ وَمَقْنَعَةٌ وَخُفٌّ
وَمَا لَا غِنَى بِهَا عَنْهُ وَيَفْرِضُ لَهَا فِي الصَّيْفِ قَمِيصًا
وَمَلْحَفَةً وَمَقْنَعَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَجَبَتْ
كِسْوَتُهُ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَكِسْوَةُ الْعَبْدِ قَمِيصٌ
وَمِنْدِيلٌ، وَفِي الشِّتَاءِ جُبَّةٌ، فَأَمَّا السَّرَاوِيلُ فَإِنْ
كَانُوا فِي بَلَدٍ يَلْبَسُ عَبِيدُهُ السَّرَاوِيلَاتِ كَسَاهُ
سَرَاوِيلَ، وَإِنْ لَمْ يَكْتَسُونَهُ سَقَطَ عَنْهُ وَإِنْ كَانُوا فِي
بَلَدٍ يَأْتَزِرُونَ وَلَا يَتَقَمَّصُونَ كَالْبَحْرِ كَسَاهُ مِئْزَرًا
وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَمِيصُ، وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ أَمَةً كَسَاهَا
قَمِيصًا وَقِنَاعًا وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهَا عَلَى الْمِئْزَرِ وَحْدَهُ
وَإِنْ أَلِفُوهُ لِأَنَّهُ يُبْدِي مِنْ جَسَدِهَا مَا تُغَضُّ عَنْهُ
الْأَبْصَارُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَوْرَةً. وَتَحْتَاجُ الْأَمَةُ مَعَ
ذَلِكَ إِلَى مِلْحَفَةٍ إِذَا خَرَجَتْ لِلْخِدْمَةِ، وَلَا تَحْتَاجُ
إِلَيْهَا الزَّوْجَةُ لِأَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ.
فَأَمَّا الْخُفُّ في خروج الأمة، فَإِنْ كَانَ عَادَةُ الْبَلَدِ أَنْ
تَتَخَفَّفَ إِمَاؤُهُ لَزِمَهُ خُفُّهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَخَفَّفُوا
سَقَطَ عَنْهُ، وَبِمِثْلِهِ يُعْتَبَرُ حَالُ السَّرَاوِيلِ
وَالْمِئْزَرِ، فَأَمَّا جِنْسُ الثِّيَابِ فَفِي النَّاسِ قَوْمٌ
تَتَسَاوَى كِسْوَاتُهُمْ وَكِسْوَاتُ إِمَائِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ
كَفُقَرَاءِ الْبَوَادِي وَسُكَّانِ الْفَلَوَاتِ فَيَكُونُ أَحْرَارُهُمْ
وَعَبِيدُهُمْ فِي الْكِسْوَةِ سَوَاءً، وَالْأَغْلَبُ مِنْ أَحْوَالِ
النَّاسِ أَنَّ كِسْوَاتِ عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ أَدْوَنُ مِنْ
كِسْوَاتِ سَادَاتِهِمْ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْكَلَامُ، فَيَفْرِضُ
لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُوسِرِ أَدْوَنَ مِمَّا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ
الْمُتَوَسِّطِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ أَدْوَنَ مِنْهَا، ويفرض
(11/431)
لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُتَوَسِّطِ مِثْلَ
مَا يَفْرِضُهُ لِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ كَمَا كَانَ فِي الْقُوتِ
مِثْلَهَا، وَيَفْرِضُ لِخَادِمِ زَوْجَةِ الْمُقْتِرِ مَا أَمْكَنَ أَنْ
يَكُونَ دُونَهُ كَغَلِيظِ الْكَرَابِيسِ وَثِيَابِ الصُّوفِ، وَإِلَّا
سَاوَى بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ شَاهِدًا مُعْتَبَرًا فِي
الثِّيَابِ وَالْجِبَابِ.
(الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَتْ لَا تُكْفَى الزَّوْجَةُ
بِهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ رَغِيبَةً لَا يُجْزِئْهَا
هَذَا دَفَعَ إِلَيْهَا ذَلِكَ وَتَزَيَّدَتْ مِنْ ثَمَنِ أُدْمٍ وَلَحْمٍ
وما شاءت في الحب وإن كانت زهيدة تزيدت فيما لا يقوتها من فضل المكيلة وإن
كان زوجها موسعاً فرض لها مدان ومن الأدم واللحم ضعف ما وصفت لامرأة المقتر
وكذلك في الدهن والمشط ومن كسوة وسط البغدادي والهروي ولين البصرة وما
اشبهه ويحشي لها إن كانت ببلاد يحتاج أهلها إليه وقطيفة وسط ولا أعطيها في
القوت دراهم فإن شاءت أن تبيعه فتصرفه فيما شاءت صرفته وأجعل لخادمها مداً
وثلثا لأن ذلك سعة لمثلها وفي كسوتها الكرباس وغليظ البصري والواسطي وما
أشبهه ولا أجاوزه بموسع من كان، ومن كانت امرأته ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّغِيبَةُ فَالْأَكُولَةُ، وَأَمَّا
الزَّهِيدَةُ فَالْقَنُوعَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ رَغِيبَةً لَا
تَكْتَفِي مِنَ الْحَبِّ بِمَا فَرَضَ لَهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ
مِنْ ثَمَنِ أُدْمِهَا مَا تَزِيدُهُ فِي الْحَبَّ الَّذِي يَكْفِيهَا
كَانَ ذَلِكَ لَهَا فَأَمَّا الْكِسْوَةُ إِذَا أَرَادَتْ بَيْعَهَا
وَشِرَاءَ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ فِي
زِينَةِ ثِيَابِهَا فَمُنِعَتْ مِنْ تَغْيِيرِهَا وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي
قُوتِهَا فَمُكِّنَتْ مِنْ إِرَادَتِهَا، وَسَوَّى أَبُو إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ
الْفَرْقِ، وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِجَمِيعِ قُوتِهَا أَوْ
تَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ تَهَبَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهَا وَلَمْ تُمْنَعْ إِذَا
وَجَدَتْ قُوتَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ فِيمَا صَوَّرَهُ الشَّافِعِيُّ
مَنْ حَالِ الرَّغِيبَةِ وَالزَّهِيدَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقُوتَ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ
بِالْكِفَايَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ لَهَا التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ
شَاءَتْ. فَلَوْ أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى أَكْلِ ما لا
يشبعها وإن كانت تقضي بِهَا شِدَّةُ الْجُوعِ إِلَى مَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ
مُنِعَتْ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ كَمَا
تُمْنَعُ مِنْ أَكْلِ مَا يُفْضِي إِلَى تَلَفِهَا مِنَ السُّمُومِ وَإِنْ
كَانَ لَا يُفْضِي إِلَى مَرَضِهَا وَكَانَ مُفْضِيًا إِلَى هُزَالِهَا
فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي
إِجْبَارِهَا عَلَى الِاسْتِحْدَادِ وَمَنْعِهَا مِنْ أَكْلِ مَا
يَتَأَذَّى بِرَائِحَتِهِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ
مَعَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَالثَّانِي: لَهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِجْبَارُهَا عَلَى أَكْلِ مَا
يَحْفَظُ بِهِ جَسَدَهَا وَيَدْفَعُ به
(11/432)
هُزَالَهَا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ
نُقْصَانِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
(القول في ما يجب للزوجة من الفراش)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلِامْرَأَتِهِ فِرَاشٌ وَوِسَادَةٌ مِنْ
غَلِيظِ مَتَاعِ الْبَصْرَةِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَلِخَادِمَهَا فَرْوَةٌ
وَوِسَادَةٌ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ عَبَاءَةٍ أَوْ كِسَاءٍ غَلِيظٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْقُوتِ
لِأَنَّهُ أَعَمُّ ثم تلاه بالكسوة لأنها أمس ثُمَّ عَقَبَهُ بِالدِّثَارِ
وَالْوَطَاءِ، لِأَنَّ دِثَارَ الشِّتَاءِ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ لِدَفْعِ
الْبَرْدِ بِهِ فَكَانَ مستحقاً على الزوج، وعاد النَّاسِ فِي الدِّثَارِ
تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ اللُّحُفَ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَعْمِلُ الْقُطُفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ الْأَكْسِيَةَ
فَيَفْرِضُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَلَدِهَا.
فَيَكُونُ لِزَوْجَةِ الْمُوسِرِ لِحَافٌ مَحْشُوٌّ مِنْ مُرْتَفِعِ
الْقُطْنِ أَوْ مِنْ وسط الحرير، وإن كانوا يستعملون القطيف فَرَضَ لَهَا
قَطِيفَةً مُرْتَفِعَةً، أَوِ الْأَكْسِيَةَ فَرَضَ لَهَا كِسَاءً
مُرْتَفِعًا مِنْ أَكْسِيَةِ بَلَدِهَا، وَفَرَضَ لِزَوْجَةِ
الْمُتَوَسِّطِ الْوَسَطَ مِنَ اللُّحُفِ أَوِ الْقُطُفِ أَوِ
الْأَكْسِيَةِ، وَلِزَوْجَةِ الْمُقْتِرِ الْأَدْوَنُ مِنْ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ، هَذَا فِي الشِّتَاءِ فَأَمَّا الصَّيْفُ فَإِنِ اعْتَادُوا
لِنَوْمِهِمْ غِطَاءً غَيْرَ لِبَاسِهِمْ فَرَضَ لَهَا بِحَسْبِ
عُرْفِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَادُوهُ أُسْقِطَ عَنْهُ، وَخَالَفَ فِيهِ
حَالُ الشِّتَاءِ لِأَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ الِاسْتِكْثَارُ فِي دِثَارِ
اللَّيْلِ عَلَى لِبَاسِ النَّهَارِ.
وَالْعُرْفُ فِي الصَّيْفِ إِسْقَاطُ اللِّبَاسِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ عَنْ
لِبَاسِ النَّهَارِ، وَأَمَّا الْوِطَاءُ فَهُوَ نَوْعَانِ: بِسَاطٌ
لِجُلُوسِهَا، وَفِرَاشٌ لِمَنَامِهَا، فَأَمَّا بِسَاطُ الْجُلُوسِ
فَمِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ مُوسِرٌ وَلَا مُقْتِرٌ، فَيَفْرِضُ لَهَا
بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَةِ أَهْلِهِ مِنْ بُسُطِ الشِّتَاءِ وَحُصُرِ
الصَّيْفِ، فَأَمَّا الْفِرَاشُ فكان الامصار وذو الْيَسَارِ
يَسْتَعْمِلُونَهُ زِيَادَةً عَلَى بُسُطِ جُلُوسِهِمْ، فَيُفْرَضُ لَهَا
عَلَيْهِ فِرَاشٌ مَحْشُوٌّ وَوِسَادَةٌ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ،
فَأَمَّا سُكَّانُ الْقُرَى وَدُورِ الْأَقْتَارِ فَيَكْتَفُونَ فِي
نَوْمِهِمْ بِالْبُسُطِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِجُلُوسِهِمْ. فَلَا يُفْرَضُ
لمثلها فراش لكن وسادة لرأسها، قَدْ أَلِفَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا أَنْ
يَكُونَ جِهَازُ الْمَنَازِلِ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ
عُرْفًا مُعْتَبَرًا. كَمَا أُلِفَ رَشْوَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ
وَلَا يَصِيرُ حَقًّا مَعْتَبَرًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ فِي
الْمَنَاكِحِ تَجِبُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الْأَزْوَاجِ فَلَا تُعْكَسُ فِي
الِاسْتِحْقَاقِ وَأَمَّا خَادِمُهَا فَلَا يستغنى عن دثار في الشتار
بِحَسْبِ عَادَتِهِ مِنَ الْفِرَاءِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوِسَادَةٍ
لِرَأْسِهِ وَبِسَاطٍ لِجُلُوسِهِ وَمَنَامِهِ مَا يَجْلِسُ مِثْلُهُ
عَلَيْهِ فِي جَسَدِهِ. . فَيُفْرَضُ عَلَيْهِ لِخَادِمِهَا ذَلِكَ كَمَا
يفرض قوته وكسوته.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلِيَ أَخْلَفَهُ وَإِنَّمَا
جَعَلْتُ أَقَلَّ الْفَرْضِ فِي هَذَا بِالدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي دَفْعِهِ إِلَى الَّذِي أَصَابَ
أَهْلَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَرَقًا فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا
لِسِتِّينَ مِسْكِينًا وَإِنَّمَا جَعَلْتُ أَكْثَرَ مَا فَرَضْتُ
مُدَّيْنِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَمَرَ بِهِ
(11/433)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فِي فِدْيَةِ الْأَذَى مُدَّانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ أُقَصِّرْ
عَنْ هَذَا وَلَمْ أُجَاوِزْ هَذَا مَعَ أَنَّ مَعْلُومًا أَنَّ
الْأَغْلَبَ أَنَّ أَقَلَّ الْقُوتِ مُدٌّ وَأَنَّ أَوْسَعَهُ مُدَّانِ
وَالْفَرْضُ الَّذِي عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي لَيْسَ بِالْمُوسِعِ وَلَا
الْمُقْتِرِ بَيْنَهُمَا مُدٌّ وَنِصْفٌ وَلِلْخَادِمَةِ مُدًّا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُوتُ فَمُسْتَحَقٌّ فِي كُلِّ يَوْمٍ
عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَيْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يُوَقِّتُهُ
عَلَيْهَا وَتَسْتَحِقُّهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِتَتَشَاغَلَ
بِعَمَلِهِ وَلِتُبْدِيَ مِنْهُ لِغِذَائِهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ دَفَعَهُ
إِلَيْهَا فَسُرِقَ مِنْهَا أَوْ تَلِفَ فِي إِصْلَاحِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
بَدَلُهُ كَمَا لَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا صَدَاقَهَا فَرَّقَ، فَأَمَّا
الْكِسْوَةُ فَالْعُرْفُ الْجَارِي فِيهَا، أَنْ تَسْتَحِقَّ فِي السَّنَةِ
دَفْعَتَيْنِ، كِسْوَةٌ فِي الصَّيْفِ تَسْتَحِقُّهَا فِي أَوَّلِهِ،
وَكِسْوَةٌ فِي الشِّتَاءِ تُسْتَحَقُّ فِي أَوَّلِهِ فَتَكُونُ مُدَّةُ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِسْوَتَيْنِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَتَسْتَحِقُّ
عِنْدَ انْقِضَائِهَا الْكِسْوَةَ الْأُخْرَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ
يَخْلُ حَالُ الْمَكْسُوَّةِ بَعْدَ لِبَاسِهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ وَفْقَ مُدَّتِهَا لَا تَخْلُقُ قَبْلَهَا وَلَا
تَبْقَى بَعْدَهَا فَقَدْ وَافَقَتْ مُدَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، فَعَلَيْهِ
بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَنْ يَكْسُوَهَا الْكِسْوَةَ الثَّانِيَةَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَبْلَى كِسْوَتُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ
مُدَّتِهَا. فَيَنْظُرُ فِيهَا. فَإِنْ بَلِيَتْ لِسَخَافَةِ الثِّيَابِ
وردائتها كَسَاهَا غَيْرَهَا لِبَاقِي مُدَّتِهَا، وَإِنْ بَلِيَتْ لِسُوءِ
فِعْلِهَا وَفَسَادِ عَادَتِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهَا إِلَى
انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَبْقَى الْكِسْوَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ
مُدَّتِهَا. فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ كِسْوَتُهَا فِي وَقْتِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا
تَقَدَّمَهَا كَمَا لَوْ بَقِيَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهَا إِلَى غَدِهِ
اسْتَحَقَّتْ فِيهِ قُوتَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّ الْكِسْوَةَ مَعَ بَقَائِهَا
بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ الْقُوتِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْكِسْوَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْكِفَايَةِ
وَالْقُوتَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ
هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِسْوَةِ، فَإِنْ بَقِيَتْ
بَعْدَ مُدَّتِهَا لِجَوْدَتِهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَهَا، لِأَنَّ
الْجَوْدَةَ زِيَادَةٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا لِصِيَانَةِ لُبْسِهَا
اسْتَحَقَّتْ بَدَلَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَلْبَسْهَا هَذَا كُلُّهُ فِيمَا
عَدَا الْجِبَابِ. فَأَمَّا الْجِبَابُ فَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ
تَجْدِيدُهُ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ مِثْلُ: جِبَابِ الْقُطْنِ. فَعَلَيْهِ
أَنْ يَكْسُوَهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ جُبَّةً، وَمِنْهَا مَا يُعْتَادُ
أَنْ يُلْبَسَ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالدِّيبَاجِ وَالسَّقْلَاطُونِ.
فَلَا يَلْزَمُهُ إِبْدَالُهَا فِي كُلِّ شَتْوَةٍ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ
عُرْفُ مِثْلِهَا فِيمَا تَلْبَسُ لَهُ مِنَ السِّنِينَ، وَأَمَّا
الدِّثَارُ مِنَ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَمَا
تَسْتَوْطِئُهُ مِنَ الْفُرُشِ وَالْوَسَائِدِ فَهُوَ فِي الْعُرْفِ
أَبْقَى مِنَ الْكِسْوَةِ، وَمُدَّةُ اسْتِعْمَالِهِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ
الثِّيَابِ، وَمُدَّةُ اللُّحُفِ وَالْقُطُفِ أَطْوَلُ مِنْ مُدَّةِ
الْوَسَائِدِ وَالْفُرُشِ لِقُصُورِ مُدَّةِ اسْتِعْمَالِ اللُّحُفِ
لِاخْتِصَاصِهَا بِالشَّتَاءِ، وَالْفَرُشُ مُسْتَدَامَةٌ فِي الصَّيْفِ
وَالشَّتَاءِ. فَيُعْتَبَرُ في ذلك
(11/434)
الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ، وَهِيَ جَارِيَةٌ
بِتَصَرُّفِهَا وَعَمَلِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهَا فِي
كُلِّ سَنَتَيْنِ فَيُرَاعَى فِيهَا الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي مُدَّةِ
اسْتِحْقَاقِهَا. فَإِنْ بَلِيَتْ قَبْلَهَا أَوْ بَقِيَتْ بَعْدَهَا
فَهِيَ كَالثِّيَابِ عَلَى مَا مَضَى.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَأَخَذَتْ مَا تَسْتَحِقُّهُ
وَاسْتَعْجَلَتْهُ فَفَارَقَهَا قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا بِطَلَاقٍ أَوْ
مَوْتٍ وَمَا أَخَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ بَاقٍ بِحَالِهِ. فَلَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ قُوتًا أَوْ كِسْوَةً. فَإِنْ كَانَ قُوتُ يَوْمِهَا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا لِاسْتِحْقَاقِهَا لَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ،
وَإِنْ تَعَجَّلَتْ قُوتَ شَهْرٍ فَطَلَّقَهَا لِيَوْمِهَا اسْتَرْجَعَ
مِنْهَا مَا زَادَ عَلَى قُوتِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ تَعْجِيلُ مَا لَا
تَسْتَحِقُّ فَصَارَ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِذَا ثَبَتَ الْمَالُ قَبْلَ
الْحَوْلِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْآخِذِ وَكَذَلِكَ لَوْ
مَاتَ عَنْهَا اسْتَرْجَعَ الْوَرَثَةُ مِنْهَا نَفَقَةَ مَا زَادَ عَلَى
يَوْمِ الْمَوْتِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرْجِعُ بِهِ بَعْدَ
الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهَا بِرٌّ
وَمُوَاسَاةٌ وَهِيَ عِنْدُنَا مُعَاوَضَةٌ فَرَجَعَ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ
الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ كَانَ كِسْوَةً مِنْ لِبَاسٍ أَوْ دِثَارٍ.
فَفَارَقَهَا بَعْدَ دَفْعِهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ. فَفِي اسْتِحْقَاقِ
الرُّجُوعِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا كَالْقُوتِ الْمُعَجَّلِ لِأَنَّهَا لِمُدَّةٍ
لَمْ تَأْتِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: لا يرجع بها لأنه دَفَعَهَا مُسْتَحِقٌّ لِمَا
تُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا بِخِلَافِ الْقُوتِ الْمُعَجَّلِ. فَجَرَى مَجْرَى
قُوتِ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يُسْتَرْجَعُ.
( [الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْبَدَوِيَّةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ بَدَوِيَّةً فَمَا يَأْكُلُ
أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَمِنَ الْكِسْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَلْبَسُونَ لَا
وَقْتَ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَدْرُ مَا يَرَى بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ
يُخَالِفُونَ الْحَاضِرَةَ فِي الْأَقْوَاتِ وَاللِّبَاسِ، فَأَقْوَاتُهُمْ
أَخْشَنُ وَمَلَابِسُهُمْ أَخْشَنُ، وَمَنْ قَرُبَ مِنْ أَمْصَارِ الرِّيفِ
وَطُرُقِهَا كَانَ فِي الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ أَحْسَنَ حَالًا مِمَّنْ
بَعُدَ عَنْهَا، فَيَنْظُرُ فِي الْأَقْوَاتِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ
لَهَا مِنْهُ، وَفِي الْمَلَابِسِ إِلَى عُرْفِهِمْ فَيَفْرِضُ لَهَا
مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَضَرِيًّا وَالزَّوْجَةُ بَدَوِيَّةً.
فَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْبَادِيَةِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ الْبَادِيَةِ
وَكِسْوَتُهُمْ، وَإِنْ سَاكَنَهَا فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ لَهَا قُوتُ
الْحَضَرِ وَكِسْوَتُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إِذَا تَزَوَّجَ
حَضَرِيَّةً رُوعِيَ مَوْضِعُ مُسَاكَنَتِهِمَا فَكَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ
فِي قُوتِهَا وَمَسْكَنِهَا وَكِسْوَتِهَا.
(الْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ أَنْ يُضَحِّيَ
لِامْرَأَتِهِ وَلَا يُؤَدِّيَ عَنْهَا أَجْرَ طَبِيبٍ وَلَا حَجَّامٍ ".
(11/435)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا
الْأُضْحِيَةُ فَمِمَّا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا فِي
حَقِّهَا، وَهِيَ بِخِلَافِ زَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ فِي
حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّهَا.
فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْعُرْفُ فِيهَا مُعْتَبَرًا كَالْأَقْوَاتِ.
قِيلَ إِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الْأَكْلِ مِنْهَا فَقَدِ اسْتَحَقَّتْ
مِثْلَهُ فِي قُوتِهَا، وَإِنِ اعْتُبِرَ فِيهَا عُرْفُ الصَّدَقَةِ فَهُوَ
عَنِ الزَّوْجِ لَا عَنْهَا، وَأَمَّا أُجْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ
وَثَمَنُ الدَّوَاءِ فِي الْأَمْرَاضِ فَجَمِيعُهُ عَلَيْهَا دُونَ
الزَّوْجِ بِخِلَافِ الدُّهْنِ وَالْمُشْطِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدُّهْنَ مَأْلُوفٌ وَهَذَا نَادِرٌ.
وَالثَّانِي: اخْتِصَاصُ الدُّهْنِ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَاخْتِصَاصُ
الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ بِحِفْظِ الْجَسَدِ. وَاللَّهُ أعلم.
(11/436)
(بَابُ الْحَالِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا
النَّفَقَةُ وَمَا لا يجب من كتاب عشرة النساء) (وكتاب التعريض بالخطبة ومن
الإملاء على مسائل مالك)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ يُجَامَعُ
مِثْلُهَا فَخَلَّتْ أَوْ أَهْلُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ بِهَا
وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّ الْحَبْسَ
مِنْ قبله وقال في كتابين وقد قيل إذا كان الحبس من قبله فعليه وإذا كان من
قبلها فلا نفقة لها ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعة من غيره كان مذهباً
(قال المزني) رحمه الله قد قطع بأنها إذا لم تخل بينه وبينها فلا نفقة لها
حتى قال فإن ادعت التخلية فهي غير مخلية حتى يعلم ذلك منها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْمُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ حُقُوقِ
الْأَمْوَالِ شَيْئَانِ: الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ.
فَأَمَّا الْمَهْرُ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ فِي
كِتَابِ الصَّدَاقِ.
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لِسُقُوطِهَا
بِالنُّشُوزِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَدَخَلَ بِهَا
بَعْدَ سِنْتَيْنِ فَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِ
وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا لَنُقِلَ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهَا لَسَاقَهُ
إِلَيْهَا وَلَمَا اسْتَحَلَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ حَقٍّ
وَجَبَ لَهَا، وَلَكَانَ إِنْ أَعْوَزَهُ فِي الْحَالِ بِسَوْقِهِ
إِلَيْهَا من بعد أو يعملها بِحَقِّهَا ثُمَّ يَسْتَحِلُّهَا لِتَبْرَأَ
ذِمَّتُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِفَرْضٍ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ
النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَا تَجِبُ
النَّفَقَةُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّ الْمَوْطُوءَةَ
بِشُبْهَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا
مَوْجُودًا، وَكَذَلِكَ لا تجب بالعقد والاستماع، لِأَنَّهَا لَوْ
مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ
وَإِنْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، فَدَلَّ إِذَا لَمْ تَجِبْ بِوَاحِدٍ مِنْ
هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِاجْتِمَاعِ
الْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْرِيرِ
الْعِبَارَةِ عَنْهُ. فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ تَجِبُ بِالتَّمْكِينِ
الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْدٍ فَجَعَلُوا الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا
بِالتَّمْكِينِ وَتَقْدِيمَ الْعَقْدِ شَرْطًا فِيهِ وَقَالَ
الْبَصْرِيُّونَ: تَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالتَّمْكِينِ، فَجَعَلُوا
الْوُجُوبَ مُعَلَّقًا بِالْعَقْدِ وَحُدُوثَ التَّمْكِينِ شَرْطًا فِيهِ،
وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَكُونُ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ
لِلتَّمْكِينِ هَلْ تَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ أَمْ لَا. فَمَنْ جَعَلَ
التَّمْكِينَ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ تَقَدُّمَ الْعَقْدِ شَرْطًا
لَمْ يُوجِبْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ التَّأْنِيثِ وَأَوْجَبَهَا
بِكَمَالِ
(11/437)
التَّمْكِينِ، وَمَنْ جَعَلَ الْعَقْدَ فِي
الْوُجُوبِ أَصْلًا وَجَعَلَ حُدُوثَ التَّمْكِينِ شَرْطًا أَوْجَبَ لَهَا
النَّفَقَةَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ التَّأْنِيثِ لِلتَّمْكِينِ إِلَى أَقْصَى
كَمَالِ التَّمْكِينِ.
(الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ فِي الْعَقْدَ الْفَاسِدِ)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ مِنَ الْعَقْدِ
وَالتَّمْكِينِ، فَالْعَقْدُ مَا حُكِمَ لَهُ بِالصِّحَّةِ دُونَ
الْفَسَادِ وَأَمَّا التَّمْكِينُ فَيَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا
يَتِمُّ إِلَّا بِهِمَا.
أَحَدُهُمَا: تَمْكِينُهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَالثَّانِي: تَمْكِينُهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ حَيْثُ شَاءَ فِي
الْبَلَدِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ
إِذَا كَانَتِ السُّبُلُ مَأْمُونَهً فَلَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا
وَلَمْ تُمَكِّنْهُ مِنَ النَّقْلَةِ مَعَهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ
النَّفَقَةُ، لِأَنَّ التَّمْكِينَ لَمْ يَكْمُلْ إِلَّا أَنْ يَسْتَمْتِعَ
بِهَا فِي زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّقْلَةِ، فَتَجِبَ لَهَا
النَّفَقَةُ وَيَصِيرَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا عَفْوًا عَنِ النَّقْلَةِ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنْ أَجَابَتْهُ إِلَى النَّقْلَةِ وَمَنَعَتْهُ مِنَ
الِاسْتِمْتَاعِ. فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ يَحْرُمُ مَعَهُ الِاسْتِمْتَاعُ
كَالْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا؛
لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنَ
الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ جِهَتِهِمَا
جَمِيعًا، فَيَكُونَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يَطَأُ وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ
تُوطَأُ، فَإِذَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ كَانَتْ مُرَاهِقَةً
غَيْرَ بَالِغٍ فَمَكَّنَهُ مِنْهَا وَلِيُّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ
نَفَقَتُهَا سَوَاءٌ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَسْتَمْتِعْ، لِأَنَّ
الِاسْتِمْتَاعَ حَقٌّ لَهُ إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَاهُ وَإِنْ شَاءَ
تَرَكَهُ، وَلَوْ مَنَعَهُ مِنْهَا أَهْلُهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا لَمْ
تَجِبْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً، لِأَنَّ مَا تَجِبُ بِهِ
النَّفَقَةُ مَعْدُومٌ، فَلَوْ بَذَلَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا
وَأَكْرَهَتْ أَهْلَهَا عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْهَا اسْتَحَقَّتِ
النَّفَقَةَ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّسْلِيمِ
الْمُسْتَحَقِّ كَالْمَبِيعِ إِذَا سَلَّمَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي غَيْرَ
بَالِغٍ صَحَّ الْقَبْضُ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَمَكَّنَتْ
مِنْ نَفْسِهَا فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَلَّمَهَا قَبْلَ الْغِيبَةِ
فَالنَّفَقَةُ لَهَا فِي زَمَانِ الْغِيبَةِ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا
مُسْتَدِيمَةٌ لِتَمْكِينٍ كَامِلٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ التَّسْلِيمُ قَبْلَ الْغَيْبَةِ
فَشُرُوعُهَا فِي التَّمْكِينِ أَنْ تَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَتُخْبِرَهُ
بَعْدَ ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَهُ بِأَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا
إِلَى زَوْجِهَا، فَإِذَا فَعَلَتْ كَتَبَ حَاكِمُ بَلَدِهَا إِلَى حَاكِمِ
الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ زَوْجُهَا بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ وَتَسْلِيمِ
نَفْسِهَا، فَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ مِنْ حَاكِمِ بَلَدٍ بِتَسْلِيمِ
نَفْسِهَا إِلَيْهِ فَكَمَالُ التَّمْكِينِ يَكُونُ بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى
الزَّوْجِ بَعْدَ عِلْمِهِ زَمَانُ الِاجْتِمَاعِ إِمَّا بِأَنْ يَنْتَقِلَ
إِلَيْهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَنْقُلَهَا إِلَيْهِ، وَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ
إِلَيْهِ
(11/438)
دُونَهَا وَنَفَقَةُ نَقْلَتِهَا عَلَيْهِ
دُونَهَا، فَإِذَا كَمَلَ التَّمْكِينُ بِمُضِيِّ زَمَانِ الِاجْتِمَاعِ
فَعَلَى قَوْلِ الْبَغْدَادِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا حِينَئِذٍ، وَلَا
تَجِبُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَذْلِ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى قَوْلِ
الْبَصْرِيِّينَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا مِنْ وَقْتِ الشُّرُوعِ فِي
التَّسْلِيمِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمْكِينِ هَلْ هُوَ فِي
وُجُوبِ النَّفَقَةِ أَصْلٌ أَمْ شَرْطٌ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مُمْكِنًا مِنْ
جِهَةِ الزَّوْجِ لِبُلُوغِهِ وَغَيْرَ مُمْكِنٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ
لِصِغَرِهَا وَكَوْنِهَا مِمَّنْ لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا، فَلَا يَلْزَمُ
أَهْلُهَا تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ، لأنه زمان يطأها إِنْ تَسَلَّمَهَا،
وَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي الصِّغَرِ
كَالْمَانِعِ مِنْهُ بِالْمَرَضِ، وَنَفَقَةُ الْمَرِيضَةِ وَاجِبَةٌ
كَذَلِكَ نَفَقَةُ الصَّغِيرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا
اسْتِمْتَاعَ فِيهَا فَصَارَ كَالْعَاقِدِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعُيُوبِ،
فَلَزِمَ فِيهَا حُكْمُ السَّلَامَةِ مِنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ
النَّفَقَاتِ، وَفِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا،
وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. اسْتِدْلَالًا
بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَقْدَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالصِّغَرِ أَغْلَظُ مِنْ
تَعَذُّرِهِ بِالنُّشُوزِ فِي الْكِبَرِ لِإِمْكَانِهِ فِي حَالِ
النُّشُوزِ وَتَعَذُّرِهِ فِي حَالِ الصِّغَرِ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ
بِالنُّشُوزِ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي مُقَابَلَةِ
التَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ فَصَارَتْ بَدَلًا فِي مُقَابَلَةِ
مُبْدَلٍ وَفَوَاتُ الْمُبْدِلِ مُوجِبٌ لِسُقُوطِ الْبَدَلِ سَوَاءٌ كَانَ
فَوَاتُهُ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ لِسُقُوطِ الثَّمَنِ بِتَلَفِ
الْمَبِيعِ.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنَ الزَّوْجَةِ
لِكِبَرِهَا وَمُتَعَذِّرًا مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ لِصِغَرِهِ، فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، هَلْ يَجْرِي
مَجْرَى تَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَإِنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ
عِلْمَهَا بِصِغَرِهِ كَعِلْمِهِ بِصِغَرِهَا فَاسْتَوَى فَوَاتُ
الِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَهُوَ الْأَصَحُّ إِنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِمْتَاعِ مِنْ جِهَتِهِ
مُخَالِفٌ لِتَعَذُّرِهِ مِنْ جِهَتِهَا وَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ
عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّ
الِاسْتِمْتَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دُونَهُ، وَقَدْ وُجِدَ
التَّمْكِينُ مِنْ جهة الزوج فَلَمْ تَسْقُطِ النَّفَقَةُ بِتَعَذُّرِهِ
مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَرَبَ أَوْ جُبَّ
وَكَالْمُسْتَأْجِرِ داراً إذا
(11/439)
مُكِّنَ مِنْ سَكَنَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ
أُجْرَتُهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ سُكَنَاهَا.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِمْتَاعَ مِنْ
جِهَتِهِمَا لِصِغَرِهِمَا وَأَنَّ الزَّوْجَ مِمَّنْ لَا يَطَأُ
وَالزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا تُوطَأُ. فَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ؟ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ أَصَحُّ تَغْلِيبًا لِعِلْمِهَا
بِالْحَالِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْعَجْزِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا اعْتِبَارًا بِتَعَذُّرِ
الِاسْتِمْتَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقَوْلُ فِي نفقة المريضة)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً لَزِمَتْهُ
نَفَقَتُهَا وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ بِالْمَرَضِ
وَإِنْ سَقَطَتْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصِّغَرِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَرِيضَةَ فِي قَبْضَتِهِ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ
تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، وَالصَّغِيرَةَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهُ
لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِي الْمَرِيضَةِ اسْتِمْتَاعًا بِمَا سِوَى
الْوَطْءِ، وَإِنَّهَا سَكَنٌ وَإِلْفٌ وَلَيْسَ فِي الصَّغِيرَةِ
اسْتِمْتَاعٌ. وَلَيْسَتْ بِسَكَنٍ وَلَا إِلْفٍ. وَفَرْقٌ بَيْنَ
تَعَذُّرِ جَمِيعِ الِاسْتِمْتَاعِ وَبَيْنَ تَعَذُّرِ بَعْضِهِ
كَالرَّتْقَاءِ تَجِبُ نَفَقَتُهَا وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
إِصَابَتِهَا.
(الْقَوْلُ فِي حُكْمِ النَّفَقَةِ إِذَا كَانَ فِي الْجِمَاعِ ضَرَرٌ
عَلَيْهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ فِي جِمَاعِهَا شِدَّةُ ضَرَرٍ
مُنِعَ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كان الجماع ينكأها
وَيَنَالُهَا مِنْهُ شِدَّةُ ضَرَرٍ إِمَّا لِضُؤُولَةِ جَسَدِهَا وَضِيقِ
فَرْجِهَا وَإِمَّا لِعَظْمِ خِلْقَةِ الزَّوْجِ وَغِلَظِ ذَكَرِهِ مُنِعَ
مَنْ وَطْئِهَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُخَافُ مِنْ جِنَايَتِهِ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ رُبَّمَا
أَفْضَاهَا وَأَدَّى إِلَى تَلَفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ الْمُسْتَحَقَّ مَا اشْتَرَكَ فِي
الِالْتِذَاذِ بِهِ غَالِبًا. فَإِذَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ لَمْ
يَكُنْ مُسْتَحَقًّا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ الْفَسْخَ.
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَيْبَ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ زَوْجٍ،
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِثْلَهَا لَمْ يَكُنْ عَيْبًا فَسَقَطَ أَنْ
يَكُونَ فِي حقها عيباً.
(11/440)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ
وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجِ عَيْبًا تَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجَةُ لَمْ
يَكُنْ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الزَّوْجَةِ عَيْبًا يَفْسَخُ بِهِ الزَّوْجُ.
فَلَوِ اخْتَلَفَا وَادَّعَتِ الزَّوْجَةُ دُخُولَ شِدَّةِ الضَّرَرِ
عَلَيْهَا فِي جِمَاعِهِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا
فِيهِ ضَرَرٌ فَهَذَا مِمَّا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْمُشَاهَدَةِ
فِيهِ عَدَالَةُ ثِقَاتِ النِّسَاءِ لِيَشْهَدْنَ. فَإِنْ وَصَلْنَ إِلَى
عِلْمِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِيلَاجِ نَظَرْنَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْنَ إِلَى عِلْمِهِ إِلَّا عِنْدَ الْإِيلَاجِ جَازَ
أَنْ يَشْهَدْنَ حَالَ الْإِيلَاجِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ
كَمَا يَشْهَدْنَ الْعُيُوبَ الْبَاطِنَةَ، وَكَمَا يُشَاهِدُ الطَّبِيبُ
عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَرْجَ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَلْ
يَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ أَوِ الشهادة؟ على وجهين:
إحداهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَجْرِي
مَجْرَى الْخَبَرِ فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا شَهَادَةٌ لَا يُقْبَلُ فِيهَا أقل من
أربعة نسوة.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ ارْتَتَقَتْ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
جِمَاعِهَا فَهَذَا عَارِضٌ، لَا مَنْعَ بِهِ مِنْهَا وَقَدْ جُومِعَتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُرْنُ فَهُوَ عَظْمٌ يَعْتَرِضُ الرجم
لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ
كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَلَا يُرْجَى زَوَالُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي أَصْلِ
الْخِلْقَةِ وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ فَإِنْ
أَقَامَ عَلَى نِكَاحِهَا لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، وَلَهُ أَنْ
يَسْتَمْتِعَ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْهَا، وَأَمَّا الرَّتْقُ: فَهُوَ
لَحْمٌ يَنْبُتُ فِي الرَّحِمِ لَا يُمْكِنُ جِمَاعُهَا مَعَهُ لِضِيقِ
الْفَرْجِ بِهِ عَنْ دُخُولِ الذَّكَرِ وَيَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بَعْدَ
كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ بَعْدَ حُدُوثِهِ
فَلِلزَّوْجَ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا بِهِ إِذَا كَانَ
مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ، وَفِي فَسْخِهِ لِنِكَاحِهَا إِذَا وُجِدَ
بَعْدَ الْعَقْدِ قَوْلَانِ مَضَيَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
أَحَدُهُمَا: لَهُ الْفَسْخُ وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْفَسْخِ جَمِيعُ
الْمَهْرِ إِذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا. وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ
يَدْخُلْ بِهَا. فَإِنْ أَقَامَ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ، وَلَهُ
الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا خِيَارَ لَهُ. لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ،
وَلَهَا النَّفَقَةُ لِكَوْنِهَا مُمْكِنًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ
جِمَاعُهَا وَأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا دُونَ
الْفَرْجِ مِنْهَا.
(الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أحرمت أو اعتكفت)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَذِنَ لَهَا
فَأَحْرَمَتْ أَوِ اعْتَكَفَتْ أَوْ لَزِمَهَا نَذْرُ كَفَّارَةٍ كَانَ
عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ".
(11/441)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جُمْلَةُ
الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ، الصَّلَاةُ،
وَالصِّيَامُ، وَالِاعْتِكَافُ وَالْحَجُّ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ
بِالْحَجِّ لِتَغْلِيظِ حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ
مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ مَعَ السَّفَرِ فِيهِ عَنِ الْوَطَنِ، فَإِذَا
أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا فِيهِ مَعَ الزَّوْجِ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بإذنه، أو غير إِذْنِهِ. فَإِنْ
كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَارَتْ بِالْإِحْرَامِ فِي حُكْمِ النَّاشِزِ
وَنَفَقَتُهَا سَاقِطَةٌ عَنْهُ سَوَاءٌ أَحَرَمَتْ بِتَطَوُّعٍ أَوْ
وَاجِبٍ. لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي وَاسْتِمْتَاعَ
الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوْجُ
مُحِلًّا يَقْدِرُ عَلَى الْإِصَابَةِ أَوْ كَانَ مُحْرِمًا لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهَا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحُدُوثِ الِامْتِنَاعِ مِنْ جِهَتِهَا،
وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا. أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ
مُسَافِرًا عَنْهَا وَتَرَكَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ سَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِالْغِيبَةِ عَلَى إِصَابَتِهَا،
وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِإِذْنِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مَعَهَا
فَلَهَا النَّفَقَةُ، لِأَنَّ إِذْنَهُ لَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ
مَعْصِيَتِهِ، وَاجْتِمَاعِهَا مَعَهُ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ
مُبَاعَدَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا
قَوْلَانِ:
أَظْهَرُهُمَا: لَهَا النَّفَقَةُ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إليه هاهنا،
لِأَنَّ إِحْرَامَهَا عَنْ إِذْنِهِ فَأَشْبَهَ إِذَا كَانَ مَعَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا نَفَقَةَ لَهَا. ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
النُّشُوزِ. لِأَنَّهَا سَافَرَتْ عَنْهُ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ
لَهَا وَهَكَذَا حُكْمُ الْعُمْرَةِ.
(فصل)
(القول في نفقة المعتكفة)
وَأَمَّا اعْتِكَافُهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ فِي مَنْزِلِهَا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ
اعْتِكَافِهَا فِيهِ فَلَهَا نَفَقَتُهَا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا.
لِأَنَّهَا لَمْ تَبْعُدْ عَنْهُ وَيَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدٍ خَارِجَ
مِنْ مَنْزِلِهَا. فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَنْ إِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ
إِذْنِهِ. فَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ
كَانَ عَنْ إِذْنِهِ وَهُوَ مَعَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مَعَهَا فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَجِّ.
أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا.
وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلَيْنِ.
(11/442)
(الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ
الصَّائِمَةِ)
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا صَوْمُهَا فَيَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَهَذَا مِنَ الْفُرُوضِ
الْمَشْرُوعَةِ فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ
حُقُوقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ فِيهِ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: قَضَاءُ رَمَضَانَ. فَزَمَانُهُ مَا بَيْنَ
رَمَضَانِهَا الَّذِي أفطرته ورمضانها الذي تستقبله. فإذا كَانَ فِي آخِرِ
زَمَانِهِ وَعِنْدَ تَعْيِينِ وَقْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ،
وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِصَوْمِهَا فِي رَمَضَانَ،
وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ وَقَبْلَ تَعَيُّنِ وَقْتِهِ فَلَهُ
مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الاستمتاع به عَلَى
الْفَوْرِ وَهَذَا الصَّوْمَ عَلَى التَّرَاخِي، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ
فَفِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْفِطْرِ وَجْهَانِ: مُخَرَّجَانِ
مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِجْبَارِهَا عَلَى إِحْلَالِهَا مِنَ
الْحَجِّ.
أَحَدُهُمَا: لَهُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْفِطْرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ
أَفْطَرَتْ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ
سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا بَعْدَ الِامْتِنَاعِ كَالنَّاشِزِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْفِطْرِ
تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ. فَعَلَى هَذَا فِي سُقُوطِ
نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا كَالْحَجِّ.
وَالْوَجْهُ الثاني: لا تسقط به النفقة لأمرين. مما فرق بين الصوم والحج.
أَحَدُهُمَا: لِقُرْبِ زَمَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا
فِي لَيْلِهِ.
وَالثَّانِي: لِمَقَامِهَا فِي مَنْزِلِهِ فَخَالَفَ الْحَجَّ فِي
خُرُوجِهَا مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْهُ
لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا
شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِإِذْنِهِ "، لِأَنَّ
صَوْمَهَا يَمْنَعُ مِمَّا اسْتَحَقَّهُ الزَّوْجُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ
بِهَا فَصَارَتْ مَانِعَةً مِنْ وَاجِبٍ بِتَطَوُّعٍ، فَإِنْ صَامَتْ
وَلَمْ يَدْعُهَا الزَّوْجُ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ
فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ دَعَاهَا إِلَى الْخُرُوجِ
مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا
مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَتْ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا إِنْ كَانَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا
مِنَ النَّفَقَةِ إِنْ كَانَ الِامْتِنَاعُ فِي آخِرِهِ، لِقُرْبِهِ مِنْ
زَمَانِ التَّمْكِينِ فَصَارَ مُلْحَقًا بِوَقْتِ الْأَكْلِ
وَالطَّهَارَةِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: صَوْمُ الْكَفَّارَةِ. فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ
غَيْرُ مُعَيَّنِ الْوَقْتِ فَلَهُ مَنْعُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ،
فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهِ بَعْدَ مَنْعِهِ صَارَتْ نَاشِزًا وَسَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَتْ فِيهِ فَفِي
إِجْبَارِهِ لَهَا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ
الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ إِجْبَارُهَا وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا إِنْ أَقَامَتْ
عليه.
(11/443)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ لَهُ
إِجْبَارُهَا. فَعَلَى هَذَا ينظر. فإن كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ
مُسْتَحَقًّا بَطَلَتْ بِهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ
التَّتَابُعِ فَفِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ فِي أَيَّامِ الصَّوْمِ كَالْمُتَتَابِعِ.
وَالثَّانِي: لَا تَسْقُطُ لِقُوَّتِهِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مِنَ
اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي نَفَقَةِ الْأَمَةِ عَلَى زَوْجِهَا
إِذَا مُكِّنَ مِنْهَا لَيْلًا وَمُنِعَ مِنْهَا نَهَارًا هَلْ تَجِبُ
نَفَقَتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: صَوْمُ النَّذْرِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنِ الزَّمَنِ
فَهُوَ كَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَالضَّرْبُ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنَ الزَّمَانِ، فَلَهَا فِيهِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَقْدُ نَذْرِهَا عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا
فَلَا يَمْنَعُ صَوْمُهُ مِنْ وُجُوبِ نَفَقَتِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ
بِالتَّقْدِيمِ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ كَالَّذِي اسْتَثْنَاهُ الشرع.
والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ نَذْرُهَا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ،
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِإِذْنِهِ لم يكن لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَنْعُهَا وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ النَّفَقَةِ لِأَنَّ فِي إِذْنِهِ
تَرْكًا لَحَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا
وَتَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى نَذْرِهَا.
(فَصْلٌ)
وأما الصلاة فتنقسم ستة أقسام:
أحدهما: مَا كَانَ مِنَ الْفُرُوضِ الْمُوَقَّتَةِ كَالصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْهَا لِاسْتِثْنَاءِ الشَّرْعِ
لَهَا، وَلَهَا تَعْجِيلُهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ جَازَ
تَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، بِخِلَافِ فَرَضِ الْحَجِّ الَّذِي يَجُوزُ
لَهُ مَنْعُهَا مِنْ تَقْدِيمِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا
فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَقْتِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَفْوِيتُ
الْفَضِيلَةِ عَلَيْهَا، وَتَعْجِيلُ الْحَجِّ احْتِيَاطٌ لَا يَخْتَصُّ
فَضِيلَةَ تَفْوِيتٍ فَافْتَرَقَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا سَنَّهُ الشَّرْعُ مِنْ تَوَابِعِ الْفُرُوضِ
الْمُؤَقَّتَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِيهَا فَعَلَيْهِ تَمْكِينُهَا مِنْهَا
عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ وَلَا إِطَالَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: قَضَاءُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ. فَإِنْ
دَخَلَتْ فِيهَا فَأَحْرَمَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطْعُهَا عَلَيْهَا.
لِاسْتِحْقَاقِهَا بِالشَّرْعِ وَقُرْبِ زَمَانِهَا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا،
وَإِنْ لَمْ تُحْرِمْ بِهَا وَتَدْخُلْ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا
مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ. لِاسْتِحْقَاقِ الْقَضَاءِ لَهَا مَعَ
الْإِمْكَانِ. فَإِنْ أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْقَضَاءِ وَأَرَادَ
الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فَفِيهِ وجهان:
(11/444)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ يُقَدَّمُ حَقُّهُ عَلَى حَقِّ الْقَضَاءِ
لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدِي، إِنَّهُ يُقَدَّمُ
حَقُّ الْقَضَاءِ عَلَى حَقِّهِ. لِأَنَّ فَرْضَ الْقَضَاءِ مُسْتَحَقٌّ
فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْمُكْنَةِ فَصَارَتْ كَالْمُؤَقَّتَةِ شَرْعًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ فِي
الْجَمَاعَةِ كَالْعِيدَيْنِ، وَكَذَا الِاسْتِسْقَاءُ وَالْخَسُوفَيْنِ
فَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِلْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا
مِنْ فِعْلِهَا فِي مَنْزِلِهَا لِمُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي الْأَمْرِ بِهَا
وَالنَّدْبِ إِلَيْهَا وَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتٍ يَفُوتُ
بِالتَّأْخِيرِ فَأَشْبَهَتِ الْفُرُوضَ وَإِنْ لَمْ تُفْرَضْ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ نَذْرًا فَتَكُونَ كَالصَّوْمِ
الْمَنْذُورِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّقْسِيمِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ تَطَوُّعًا مُبْتَدَأً فَلَهُ
مَنْعُهَا مِنْهُ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَلَهُ قَطْعُهَا
بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا كَمَا يَقْطَعُ عَلَيْهَا صَوْمَ التَّطَوُّعِ
لِوُجُوبِ حَقِّهِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ بتطوعها والله أعلم بالصواب.
(الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا هَرَبَتِ الزَّوْجَةُ أَوِ امتنعت)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو هربت أو امتنعت أن كَانَتْ أَمَةً
فَمَنَعَهَا سَيِّدُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا هَرَبُهَا أَوْ نُشُوزُهَا عَلَيْهِ مَعَ
الْمَقَامِ مَعَهُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا، وَإِنْ
كَانَتْ بِالْهَرَبِ أَعْظَمَ مَأْثَمًا وَعِصْيَانًا.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِالنُّشُوزِ،
لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ
الِاسْتِمْتَاعِ بِالنُّشُوزِ فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ النَّفَقَةُ، وَهَذَا
فَاسِدٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ
كَمَا تَجِبُ أُجْرَةَ الدَّارِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ السُّكْنَى، وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ الْمُؤْجِرَ إِذَا مَنَعَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ السُّكْنَى
سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ. كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا مَنَعَتْ مِنَ
التَّمْكِينِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْأَمَةُ إِذَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ
لِلْحُرَّةِ فِي التَّمْكِينِ، لِأَنَّ الْحُرَّةَ يَلْزَمُهَا تَمْكِينُ
الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْأَمَةَ يَلْزَمُ
السَّيِّدَ أَنْ يُمَكِّنَ زَوْجَهَا مِنْهَا لَيْلًا وَلَا يَلْزَمَهُ
تَمْكِينُهُ مِنْهَا نَهَارًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأَمَةَ مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ فِي
حَقِّ السَّيِّدِ، وَمَمْلُوكَةُ الِاسْتِمْتَاعِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ
فَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ مَعَ تَغَايُرِهِمَا
وَتَمَيُّزِ زَمَانِهِمَا، وَالِاسْتِخْدَامُ أَخَصُّ بِالنَّهَارِ مِنَ
اللَّيْلِ فَاخْتَصَّ بِهِ السَّيِّدُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا
بِالنَّهَارِ، وَاللَّيْلُ أخص
(11/445)
بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ النَّهَارِ
فَاخْتَصَّ بِهِ الزَّوْجُ وَلَزِمَ السَّيِّدَ تَسْلِيمُهَا فِيهِ،
وَالْحُرَّةُ بِخِلَافِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشَارِكِ الزَّوْجَ
مُسْتَحِقٌّ لِلْخِدْمَةِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا
لَيْلًا وَنَهَارًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهِيَ مَالِكَةٌ لِخِدْمَةِ نَفْسِهَا فَهَلَّا
اسْتَحَقَّتْ مَنْعَ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا فِي زَمَانِ الْخِدْمَةِ
وَهُوَ النَّهَارُ كَالْأَمَةِ؟
قِيلَ: لِأَنَّ الْخِدْمَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ عَلَيْهَا، فَصَارَ فَى
تَزْوِيجِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهَا مِنَ الْخِدْمَةِ، فَخَالَفَتِ
الْأَمَةَ الَّتِي قَدْ مَلَكَ مِنْهَا الْخِدْمَةَ، فَإِنْ قِيلَ فَإِنْ
كَانَتِ الْحُرَّةُ قَدْ أَجَرَتْ نَفْسَهَا لِلْخِدْمَةِ ثُمَّ
تَزَوَّجَتْ أَيَكُونُ نَهَارُ الْخِدْمَةِ خَارِجًا مِنَ اسْتِمْتَاعِ
الزَّوْجِ وَيَخْتَصُّ اسْتِمْتَاعُهُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ قِيلَ
نَعَمْ، وَلَوْ رَامَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُؤْجِرَ نَفْسَهَا بَعْدَ
التَّزْوِيجِ لَمْ يَجُزْ لَهَا؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّزْوِيجِ
مَمْلُوكَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَهِيَ بَعْدَ التَّزْوِيجِ مُفَوِّتَةٌ
لِحَقِّهَا مِنْهُ، وَإِذَا تَقَدَّمَتِ الْإِجَارَةُ وَكَانَ الزَّوْجُ
عَالِمًا بِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَلَهُ
الْخِيَارُ بَيْنَ قِيَامِهِ عَلَى النِّكَاحِ وَبَيْنَ فَسْخِهِ؛ لِأَنَّ
تَفْوِيتَ الِاسْتِمْتَاعِ فِي النَّهَارِ عَيْبٌ فَاسْتَحَقَّ بِهِ
الْفَسْخَ فَلَوْ مَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي
النَّهَارِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنَ الْخِيَارِ، لِأَنَّ
الْمُسْتَأْجِرَ مُتَطَوِّعٌ بِالتَّمْكِينِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَطَوُّعِهِ
خِيَارٌ مُسْتَحَقٌّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الْأَمَةِ
مُسْتَحَقٌّ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ مَا لَمْ
تَتَقَدَّمْ إِجَارَتُهَا فَلِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فَيَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهَا لِكَمَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهَا لَيْلًا فِي زَمَانِ
الِاسْتِمْتَاعِ وَيَمْنَعُهُ مِنْهَا نَهَارًا فِي زَمَانِ
الِاسْتِخْدَامِ. فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ نِكَاحِهَا إِذَا
كَانَ عَالِمًا بِرِقِّهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي نِكَاحِ
الْأَمَةِ، وَفِي نَفَقَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ
أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِقُصُورِ اسْتِمْتَاعِهِ عَنْ
حَالِ الْكَمَالِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي إِنَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَتِهَا بِقِسْطِهِ مِنْ
زَمَانِ الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ على الزوج عشاؤها وعلى السيد
غذاؤها لأن العشاء يراد لزمان الليل والغذاء يُرَادُ لِزَمَانِ النَّهَارِ،
وَعَلَيْهِ مِنَ الْكِسْوَةِ مَا تَتَدَثَّرُ بِهِ لَيْلًا وَعَلَى
السَّيِّدِ مِنْهُ مَا تَلْبَسُهُ نَهَارًا، وَإِنَّمَا تُقَسَّطُ
النَّفَقَةُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِمْتَاعِ
لِئَلَّا يَخْلُوَ اسْتِمْتَاعٌ بِزَوْجَةٍ مِنَ اسْتِحْقَاقِ نَفَقَةٍ.
كَالْحُرَّةِ إِذَا مَكَّنَتْ فِي يَوْمٍ وَنَشَزَتْ فِي يَوْمٍ.
(الْقَوْلُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُبْرِئُهُ مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ
نَفَقَتِهَا وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهَا إِلَّا إِقْرَارُهَا أَوْ
بَيِّنَةٌ تَقُومُ عَلَيْهَا ".
(11/446)
5
- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي قَبْضِ مَا
يُسْتَحَقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَهْرٍ وَنَفَقَةٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ
الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ إِجْمَاعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون بعد الدخول فمذهب الشافعي وأبو حَنِيفَةَ
أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجَةِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهَا كَغَيْرِ
الْمَدْخُولِ بِهَا وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ
مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعُرْفِ فِي أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ
حَالِهَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ صَدَاقَهَا لَمْ تُسَلِّمْ نَفْسَهَا
وَلَوْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ تُقِمْ مَعَهُ فَشَهِدَ بِصِحَّةِ
قَوْلِ الزَّوْجِ دُونَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجِ
مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ دَارًا هِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا
يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ ظَاهِرَ
الْعُرْفِ يَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ
عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ " وَالزَّوْجُ مُدَّعٍ فَلَمْ تُقْبَلْ
دَعْوَاهُ؛ وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمُزَّوْجَيْنِ فِي قَبْضِ حُقُوقِ
الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِ الزَّوْجَةِ الْمُنْكِرَةِ كَغَيْرِ
الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى إِنْكَارُ الْبَائِعِ
لِقَبْضِ الثَّمَنِ فِيمَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَبَعْدَهُ وَإِنْ
كَانَ الْعُرْفُ فِي التَّسْلِيمِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ
قَبْضِ الثَّمَنِ. كَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فِي إِنْكَارِهَا قَبَضَ
الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا قَبِلَ
التَّمْكِينِ وَبَعْدَهُ، وَبِهَذَا يَقَعُ الِانْفِصَالُ عَنِ
اسْتِدْلَالِهِ إِذَا سَلَّمَ لَهُ الْعُرْفُ فِيهِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي الْحَالَيْنِ
مَعَ يَمِينِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، فَإِنْ
كَانَتْ حُرَّةً فَالرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا مَعَ يَمِينِهَا مَا
لَمْ تَقُمْ عَلَيْهَا بَيِّنَةٌ بِقَبْضِهِ أَوْ عَلَى إِقْرَارِهَا
بِالْقَبْضِ، وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مَعًا، وَسَوَاءٌ فِيهِ قَبْلَ
الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ النَّفَقَةِ قَبْلَ
الدُّخُولِ إِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ
عَلَيْهَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ، وَإِنْ
كَانَتْ أَمَةً نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ
رُجِعَ فِيهِ إِلَى قَوْلِ سَيِّدِهَا دُونَهَا، لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَلِكٌ
لَهُ لَا لَهَا. فَإِنْ أَنْكَرَ قَبْضَهُ حَلَفَ وَلَمْ تَحْلِفِ
الْأَمَةُ، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَبْضِ النَّفَقَةِ رُجِعَ
فِيهِ إِلَى قَوْلِهَا دُونَ سَيِّدِهَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا
دُونَ سَيِّدِهَا فَكَانَتْ هِيَ الْحَالِفَةَ دُونَهُ.
(فَصْلٌ)
فَإِنِ ادَّعَى الْإِعْسَارَ وَدَفَعَ نَفَقَةَ مُعْسِرٍ وَادَّعَتِ
الزَّوْجَةُ يَسَارَهُ وَطَالِبَتْهُ بنفقة موسر، فالقول قول الزوج مع
يمنيه مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ يَسَارُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ
الْعَدَمُ حَتَّى يُوجَدَ الْيَسَارُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ
الذِّمَّةِ حَتَّى يُعْلَمَ الِاسْتِحْقَاقُ، فَلِهَذَيْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ
فِي الْإِعْسَارِ وَأُحْلِفَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ
الْيَسَارُ.
(الْقَوْلُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا أسلم أحد الزوجين)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَسْلَمَتْ وَثَنِيَّةٌ وَأَسْلَمَ
زَوْجُهَا فِي الْعِدَّةِ
(11/447)
أَوْ بَعْدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ
لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ متى شاء أسلم وكانت امرأته، وَلَوْ كَانَ
هُوَ الْمُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نفقة في أيام كفرها وإن دفعها إليها
فلم يسلم حتى انقضت عدتها فلا حق له لأنه تطوع بها وقال في كتاب النكاح
القديم فإن اسلم ثم أسلمت فهما على النكاح ولها النفقة في حال الوقف لأن
العقد لم ينفسخ (قال المزني) رحمه الله: الأول أولى بقوله لأنه تمنع
المسلمة النفقة بامتناعها فكيف لا تمنع الوثنية بامتناعها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي زَوْجَيْنِ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ
مَجُوسِيَّيْنِ أَسْلَمَ أَحَدَهُمَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسْلِمِ
مِنْهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ، فَإِنْ كَانَ
الْمُسْلِمُ هُوَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَخْلُ إِسْلَامُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ
قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ يَبْطُلُ
نِكَاحُهَا وَسَقَطَ مَهْرُهَا لِأَنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ، وَالْمَهْرُ قَدِ اسْتَكْمَلَتْهُ بِالدُّخُولِ فَلَمْ
يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ لَهَا فِي زَمَانِ
الْعِدَّةِ سَوَاءٌ اجْتَمَعَا عَلَى النِّكَاحِ بِإِسْلَامِ الزَّوْجِ
قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوِ افْتَرَقَا فِيهِ بِمُقَامِ الزَّوْجِ
عَلَى كُفْرِهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ وَإِنْ
كَانَ مِنْ قِبَلِهَا فَقَدْ كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَلَافِيهِ
بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتْهَا فَصَارَتِ الْفُرْقَةُ
مَنْسُوبَةً إِلَى اخْتِيَارِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا هُوَ الزَّوْجَ لَمْ يَخْلُ
إِسْلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ
كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَ نِكَاحُهَا وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ
مَهْرِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَ النِّكَاحُ مَوْقُوفًا
عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ
عِدَّتُهَا بَطَلَ نِكَاحُهَا وَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا لِاسْتِقْرَارِهِ
بِالدُّخُولِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّهَا بِمُقَامِهَا عَلَى
الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ
النَّاشِزِ فَكَانَتْ بِسُقُوطِ النَّفَقَةِ أَحَقَّ، وَلَئِنْ كَانَ
بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَهَا
تَلَافِي التَّحْرِيمِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هِيَ مَأْمُورَةٌ بِهِ
أَيْضًا، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَا عَلَى
النِّكَاحِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا النَّفَقَةَ فِي زَمَانِ وَقْفِهَا فِي
الشِّرْكِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَهَا النَّفَقَةُ؛ لِأَنَّ
إِسْلَامَ الزَّوْجِ قَدْ شَعَّثَ الْعَقْدَ وَأَحْدَثَ فِيهِ خَلَلًا،
فَإِذَا اسْتَدْرَكَتْهُ الزَّوْجَةُ بِإِسْلَامِهَا زَالَ حُكْمُهُ
فَاسْتَحَقَّتِ النَّفَقَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا نَفَقَةَ لَهَا،
لِأَنَّ مَقَامَهَا عَلَى الْكُفْرِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ النُّشُوزِ
الَّذِي لَا يُوجِبُ الْإِقْلَاعُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ فِيهِ
فَكَانَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ الْكُفْرِ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ
النَّفَقَةَ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ عَجَّلَ لَهَا
نَفَقَةَ شَهْرٍ لَمْ يَسْتَرْجِعْهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
لِاسْتِحْقَاقِهَا فِيهِ.
فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: إنه لا نفقة لها ينظر فِي زَمَانِ
التَّعْجِيلِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ
(11/448)
إِسْلَامِ الزَّوْجِ اسْتَرْجَعَهُ
لِأَنَّهُ كَانَ تَعْجِيلًا عَنْ ظَاهِرِ اسْتِحْقَاقٍ وَإِنْ عَجَّلَهُ
بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْهُ لِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ.
(فَصْلٌ)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا هُوَ
الزَّوْجَ وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَلَزِمَهُ
نِصْفُ الْمَهْرِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ
وَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَهَا النَّفَقَةُ
فِي زَمَانِ عَدَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى دِينِهَا الْمَأْمُورَةِ بِهِ
وَالتَّحْرِيمُ مِنْ قِبَلَ الزَّوْجِ وَيُقْدَرُ عَلَى تَلَافِيهِ
وَاسْتِدْرَاكِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنِ ارْتَدَّتِ الزَّوْجَةُ فَإِنْ
كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ
الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَانِ
الرِّدَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ قِبَلِهَا بِمَا
لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَى تَلَافِيهِ، فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ
النُّشُوزِ فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ حَتَّى مَضَتِ الْعِدَّةُ بَطَلَ
النِّكَاحُ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ انْقِضَائِهَا كَانَا عَلَى
النِّكَاحِ وَاسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا عَنْهَا وَقْتَ إِسْلَامِهَا وَجَبَتِ
النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِهَا وَلَوْ كَانَتْ نَاشِزًا وَغَابَ
الزَّوْجُ عَنْهَا ثُمَّ أَطَاعَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ النُّشُوزِ لَمْ
تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِ الزَّوْجِ لِتَسْلِيمِهِ
وَقُدُومِهِ أَوْ قُدُومِ وَكِيلِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرْتَدَّةِ وَالنَّاشِزِ أَنَّ نَفَقَةَ
الْمُرْتَدَّةِ سَقَطَتْ بِالرِّدَّةِ. فَإِذَا زَالَتِ الرِّدَّةُ عَادَتِ
النَّفَقَةُ، وَنَفَقَةَ النَّاشِزِ سَقَطَتْ بِالِامْتِنَاعِ فَلَمْ
تَعُدْ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ.
( [الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِزَوْجَةِ الْعَبْدِ] )
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ
الْحُرَّةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالْأَمَةِ إذ بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا
وَإِذَا احْتَاجَ سَيَّدُهَا إِلَى خِدْمَتِهَا فَذَلِكَ لَهُ وَلَا
نَفَقَةَ لَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. عَلَى الْعَبْدِ نَفَقَةُ
زَوْجَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ وَالْعَبْدُ مِنْ
أَهْلِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ مُوَاسَاةٌ وَلَيْسَ
الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ
وَالْإِعْسَارِ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ مَعَ إِعْسَارِهِ، وَنَفَقَةَ
الْأَقَارِبِ تَجِبُ فِي الْيَسَارِ دُونَ الْإِعْسَارِ فَسَقَطَتْ عَنِ
الْعَبْدِ لِإِعْسَارِهِ. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ
نَظَرَ فِي زَوْجَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مُكَاتَبَةً لَزِمَهَا
تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا ليلاْ وَنَهَارًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً
نَظَرَ فَإِنْ كَانَ بَوَّأَهَا مَعَهُ السَّيِّدُ مَنْزِلًا لَيْلًا
وَنَهَارًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْهَا
لَيْلًا وَنَهَارًا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَكَانَ السَّيِّدُ مُتَعَدِّيًا
بِمَنْعِهَا مِنْهُ فِي اللَّيْلِ
(11/449)
دُونَ النَّهَارِ، وَإِنْ بَوَّأَهَا
مَعَهُ لَيْلًا وَاسْتَخْدَمَهَا نَهَارًا لَمْ يَتَعَدَّ، وَفِي
نَفَقَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ جَمِيعُهَا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ
الْأَصَحُّ عِنْدِي إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ بِقِسْطِهَا
مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ دُونَ النهار وهو ما قابل العشاء دون الغذاء.
فَإِذَا تَقَرَّرَ اسْتِحْقَاقُهَا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَتْ
مُسْتَحَقَّةً فِي كَسْبِهِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِذِمَّتِهِ وَلَا
بِرَقَبَتِهِ مَعَ وُجُودِ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّ إِذْنَ السَّيِّدِ لَهُ
بِالنِّكَاحِ إِذْنٌ بِاكْتِسَابِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، لِأَنَّهُمَا
مِنْ مُوجِبَاتِ إِذْنِهِ، وَيُنْظَرُ فِي كَسْبِهِ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ
النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ صُرِفَ جَمِيعُهُ فِي
نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةَ زَوْجَتِهِ. وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى
نَفَقَتِهِمَا أَخَذَ السَّيِّدُ فَاضِلَهُ وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النَّفَقَةِ
نُظِرَ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ وَفْقَ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ
صَرَفَهُ الْعَبْدُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَكَانَ على السيد نفقة العبد
في حق نسه وَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ الْتَزَمَ
السيد النفقة للعبد وكمل الباقي في نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ كَمَا لَوْ كَانَ
الْعَبْدُ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا كَانَ غَيْرَ
مُكْتَسِبٍ مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِعَجْزِهِ عَنِ الِاكْتِسَابِ مَعَ تَخْلِيَةِ
السَّبِيلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ، فَعَلَى السَّيِّدِ نَفَقَةُ
الْعَبْدِ، وَفِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ
الْعَبْدِ فَيُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السَّيِّدُ
بِالْتِزَامِهَا، لِأَنَّ وَطْأَهُ كَالْجِنَايَةِ مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ
بِذِمَّةِ الْعَبْدِ لِاسْتِحْقَاقِهَا عَنْ مُعَاوَضَةٍ.
فَيُقَالُ لِزَوْجَتِهِ: قَدْ أَعْسَرَ زَوْجُكِ بِنَفَقَتِكِ فَأَنْتِ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَالصَّبْرِ بِالنَّفَقَةِ إِلَى
حِينِ اكْتِسَابِهِ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عتقه وبين فسخ نكاحه.
والحال الثانية: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ النَّفَقَةِ لِاسْتِخْدَامِ
السَّيِّدِ لَهُ أَوْ لِسَفَرِهِ بِهِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِنًا
لِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ لَهَا جَمِيعَ نَفَقَتِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى
كَسْبِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ لَهُ مِنْ زِيَادَةِ
الْكَسْبِ مَا يَفِي بِنَفَقَتِهَا وَإِنْ زَادَتْ عَلَى كَسْبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَضْمَنُ لَهَا أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
نَفَقَتِهَا أَوْ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا فَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهَا
أَقَلَّ ضَمِنَ لَهَا جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ضَمِنَ لَهَا
قَدْرَ كَسْبِهِ، وَكَانَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا قَوْلَانِ عَلَى مَا
مَضَى.
(11/450)
أَحَدُهُمَا: فِي رَقَبَتِهِ.
وَالثَّانِي: فِي ذِمَّتِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ
اخْتِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَنَعَ السَّيِّدُ
مِنْ بِيعِهِ وَكَانَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِي
ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ جَمِيعَ أَرْشِهَا.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ
جِنَايَتِهِ.
(الْقَوْلُ فِي قَدْرِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ونفقة نَفَقَةُ الْمُقْتِرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَهُوَ فَقِيرٌ لِأَنَّ مَا بِيَدِهِ وَإِنِ اتَّسَعَ
لسيد ومن لم تكمل فيه الحرية فكالمملوك (قال المزني) رحمه الله إذا كان
تسعة أعشاره حراً فهو يجعل له تسعة أعشار ما يملك ويرثه مولاه الذي أعتق
تسعة أعشاره فكيف لا ينفق على قدر سعته (قال المزني) رحمه الله قد جعل
الشافعي رحمه الله من لم تكمل فيه الحرية كالمملوك وقال في كتاب الأيمان
إذا كان نصفه حراً ونصفه عبداً كفر بالإطعام فجعله كالحر ببعض الحرية ولم
يجعله ببعض الحرية هاهنا كالحر بل جعله كالعبد فالقياس على أصله ما قلنا من
أن الحر منه ينفق قدر سعته والعبد منه بقدره وكذا قال في كتاب الزكاة أن
على الحر منه بقدره في زكاة الفطر وعلى سيد العبد بقدر الرق منه فالقياس ما
قلنا فتفهموه تجدوه كذلك إن شاء الله تعالى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَةُ الْعَبْدِ عَلَى زَوْجَتِهِ
فَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنَ الطَّعَامِ وَسَوَاءٌ
كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُوسِرَةً أَوْ مُعْسِرَةً،
لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِيَسَارِ الزَّوْجِ وَإِعْسَارِهِ دُونَ
الزَّوْجَةِ، وَالْعَبْدُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ،
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ وَالْحَرُّ يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَكَانَ
بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ أَخَصَّ، وَهَكَذَا نَفَقَةُ الْمُدَبَّرِ
وَالْمُكَاتَبِ نَفَقَةُ مِعْسَرٍ، وَلَئِنْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ مَا
بِيَدِهِ فَمِلْكُهُ لَهُ ضَعِيفٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ السَّيِّدُ مِنَ
الْحَجْرِ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَلِأَنَّهُ
مُعَرَّضٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا نَفَقَةُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ
فَكَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
أَنَّ نَفَقَتَهُ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ مَا لَمْ تَكْمُلْ حُرِّيَّتُهُ
فَيَلْزَمُهُ لِزَوْجَتِهِ مُدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِمَا
فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِمَا فِيهِ مِنَ
الْحُرِّيَّةِ تَبَعَّضَتِ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ
فَيَلْزَمُهُ بِنِصْفِهِ الْمَمْلُوكِ نِصْفُ نَفَقَةِ مُعْسِرٍ وَذَلِكَ
نِصْفُ مُدٍّ وَبِنِصْفِهِ الْحُرِّ نِصْفُ نَفَقَةِ
(11/451)
مُوسِرٍ وَذَلِكَ مُدٌّ فَيَصِيرُ عَلَيْهِ
لِزَوْجَتِهِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، اسْتِدْلَالًا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ
الْأَيْمَانِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ إِثْبَاتًا
لِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ مُلْتَزِمًا
لِنِصْفِ زَكَاتِهِ بِنِصْفِ حريته والسيد نَصِفُهَا بِالنِّصْفِ مِنْ
رِقِّهِ وَلَمْ يَغْلِبْ حُكْمُ الرِّقِّ فِي إِسْقَاطِهَا عَنْهُ كَذَلِكَ
فِي النَّفَقَةِ.
والثالث: أنه لما كان مورثاً إِذَا مَاتَ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَلَمْ
يَسْقُطِ الْمِيرَاثُ تَغْلِيبًا لِرِقِّهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي
النَّفَقَةِ بِمَثَابَتِهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ يَغْلِبُ حُكْمُ
رِقِّهِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ، فَلَا يَمْلِكُ مِنَ الطَّلَاقِ إِلَّا
اثْنَتَيْنِ وَلَا يَنْكِحُ إِلَّا زَوْجَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي
النَّفَقَةِ يَغْلِبُ حُكْمُ الرِّقِّ، وَلَوْ جَازَ أَنْ تَتَبَعَّضَ
النَّفَقَةُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ حَتَّى يَلْتَزِمَ مُدًّا
وَنِصْفًا، لَمَلَكَ مِنَ الْمَنْكُوحَاتِ ثَلَاثًا وَاحِدَةٌ بِنِصْفِهِ
الْمُسْتَرَقِّ وَاثْنَتَيْنِ بِنِصْفِهِ الْمُعْتَقِ، وَفِي إِبْطَالِ
هَذَا وَتَغْلِيبِ حُكْمِ الرِّقِّ دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِهِ فِي
النَّفَقَةِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الرِّقِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ فِي تَبْعِيضِ أَحْكَامِ
الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا غَلَبَ فِيهِ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. وهو
الجدود وَالْمِيرَاثُ وَالطَّلَاقُ. وَأَعْدَادُ الْمَنْكُوحَاتِ وَزَكَاةُ
الْمَالِ، وَسُقُوطُ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ. فَيَجْرِي عَلَيْهِ
فِيهَا أَحْكَامُ مَنْ رُقَّ جَمِيعُهُ.
وَالثَّانِي: مَا تَغْلِبُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ عَلَى الرِّقِّ وَذَلِكَ
سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ،
وَكَالْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ
الْخِلَافِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ بِحَسْبِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ
وَذَلِكَ الْكَسْبُ وَالنَّفَقَةُ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ، وَإِذَا
اخْتَلَفَتْ فِيهِ أُصُولُ الشَّرْعِ كَانَتْ نَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ
مُحْتَذِيَةً إِلَى أَحَدِ الْأُصُولِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. فَلَمْ يَجُزْ
أَنْ يُرَدَّ إِلَى مَا يَغْلِبُ فِيهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ أَحْكَامِهِ وَضَعْفُ شَوَاهِدِهِ.
وَالثَّانِي: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يُرَدَّ إِلَى مَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَهِيَ لَا
تَتَبَعَّضُ فِيمَا عَدَا النَّفَقَةَ فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ.
(11/452)
وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ
الزَّوْجِيَّةِ لَا تَتَبَعَّضُ، لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى زَوْجَيْنِ
فَوَجَبَ أَلَّا تَتَبَعَّضَ باختلاف الحكمين، فلم يبق فيها من
الْأَقْوَالِ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ فِيهَا حُكْمُ الرِّقِّ مع كثرة أحكامه
وقوة شواهده، أما اسْتِشْهَادُهُ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي
إِطْعَامِهِ في الكفار فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَوَابِ عَنْ
نَصِّهِ على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ. إِنَّ
الْعَبْدَ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَصَارَ بِالتَّمْلِيكِ فِي حُكْمِ مَنْ
عَتَقَ جَمِيعُهُ. فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يَحْمِلُ عَنْهُ الْكَفَّارَةَ فَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ دُونَ الصِّيَامِ.
لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّحَمُّلُ وَيَصِحُّ فِي
الْإِطْعَامِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ حُكْمُ الْحَرِيَّةِ عَلَى
الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَبَعَّضَ بِخُرُوجِهِ
عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ وَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى
تَغْلِيبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَانَ تَغْلِيبُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ
أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الرِّقِّ، لِأَنَّ مَنْ فَرْضُهُ الْإِطْعَامُ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ فَرْضُهُ
الصِّيَامُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ، وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ رَدِّ
نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ إِلَى التَّبْعِيضِ وَيُوجِبُ تَغْلِيبَ أَحَدِ
الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ فَلَمْ يَصِحَّ
اسْتِشْهَادُهُ بِهِ.
وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ فِي تَبْعِيضِهَا
فَيَدْفَعُهُ زَكَاةُ الْمَالِ فِي تَغْلِيبِ الرِّقِّ فِي إِسْقَاطِهَا،
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الْفِطْرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ
زَكَاةَ الْفِطْرِ تَتَبَعَّضُ فِي الْتِزَامِ الشُّرَكَاءِ لَهَا،
وَنَفَقَةَ الزَّوْجِيَّةِ لَا تَتَبَعَّضُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ
يَتَحَمَّلَهَا زَوْجَانِ مُشْتَرِكَانِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ
بِأَنَّهُ يَتَبَعَّضُ فِي مِيرَاثِ مَالِهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ
الشَّافِعِيَّ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يَرِثُ وَاخْتَلَفَ
قَوْلُهُ هَلْ يُورَثُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: وَبِهِ قَالَ مالك إنه لا
يورث لم يرث، وَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ لِسَيِّدِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ
الرِّقِّ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يُورَثُ بِقَدْرِ
حُرِّيَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِثْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ
يُورَثَ مَنْ لَا يَرِثُ، لِأَنَّ الْجَنِينَ إذا سقط ميتاً بجانية كَانَ
مَوْرُوثًا وَلَمْ يَكُنْ وَارِثًا، ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى
تَبْعِيضِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَتَبَعَّضُ
وَنَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَا تَتَبَعَّضُ وَاللَّهُ أعلم.
(11/453)
(باب الرجل لا يجد
نفقة من كتابين)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
عَلَى أَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَعُولَهَا احْتَمَلَ
أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا وَيَمْنَعَهَا حَقَّهَا
وَلَا يُخَلِّيَهَا تَتَزَوَّجُ مَنْ يُغْنِيهَا وَأَنْ تخير بين مقامها
معه وفراقه وكتب عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى
أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نسائهم يأمرهم أن يأخذوهم
بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا وهذا يشبه ما وصفت.
وسئل ابن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما قيل
له فسنة؟ قال سنة والذي يشبه قول ابن المسيب سنة أن يكون سُنَّةُ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ الْمُوسِرِ
وَهِيَ مُدَّانِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ وَهِيَ مُدٌّ
فَلَا يُوجِبُ لِلزَّوْجَةِ خِيَارًا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي
الْأَقْدَارِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِعْسَارُهُ بِنَفَقَةِ
الْمُعْسِرِ وَهِيَ مُدٌّ حَتَّى عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ تَسْتَحِقُّ بِهِ الزَّوْجَةُ خِيَارَ
الْفَسْخِ أَمْ لَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ
بَيْنَ مُقَامِهَا مَعَهُ عَلَى إِعْسَارِهِ لِتَكُونَ النَّفَقَةُ دَيْنًا
لَهَا عَلَيْهِ تَرْجِعُ بِهَا إِذَا أَيْسَرَ وَبَيْنَ فَسْخِ نِكَاحِهِ
عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرَبِيعَةُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا خِيَارَ لَهَا وَعَلَيْهَا الْإِنْظَارُ
إِلَى وَقْتِ يَسَارِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعَيْنِ: الزُّهْرِيُّ،
وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ ابْنُ أَبِي
لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. اسْتِدْلَالًا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى
مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي وُجُوبِ إِنْظَارِ
كُلِّ مُعْسِرٍ بِحَقٍّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يكونوا
فقراء يغنيهم اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] ، فَنَدَبَ الْفُقَرَاءَ
إِلَى النِّكَاحِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْدُبَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ
عَلَيْهِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الصَّدَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْكَدُ
لِتَقَدُّمِهِ وَقُوَّتِهِ ثُمَّ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْفَسْخَ فَلَأَنْ
لَا تَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي هِيَ أَضْعَفُ أَوْلَى.
(11/454)
وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ
بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَمْلِكَ بِهِ الْفَسْخَ
كَالصَّدَاقِ، وَلِأَنَّ مُدَّ الْيَسَارِ إِذَا أَعْسَرَ بِهِ الْمُوسِرُ
لَمْ يُوجِبِ الْخِيَارَ كَذَلِكَ مُدٌّ الْمُعْسِرِ إِذَا أَعْسَرَ بِهِ
لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهِ الْخِيَارَ، وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ
لِنَفْسِهَا وَلِخُدَّامِهَا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا فِي
الْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا فَكَذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهَا فِي
الْإِعْسَارِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهَا وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ
التَّمْكِينِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَوْ أَعْوَزَ التَّمْكِينَ مِنْهَا
بِالنُّشُوزِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الزَّوْجُ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ، كَذَلِكَ
إِذَا أَعْوَزَتِ النَّفَقَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِالْإِعْسَارِ لَمْ
تَسْتَحِقَّ الزَّوْجَةُ بِهِ خِيَارَ الْفَسْخِ وَلِأَنَّ لِلنَّفَقَةِ
حَالَتَيْنِ: مَاضِيَةٌ، وَمُسْتُقْبَلَةٌ.
وَالْمَاضِيَةُ دَيْنٌ لَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ.
وَالْمُسْتُقْبَلَةُ لَمْ تَجِبْ فَتَسْتَحِقُّ بِهَا الْفَسْخَ، فَلَمْ
يَبْقَ سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ.
وَدَلِيلُنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعِبْرَةُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:
229] فَإِذَا عَجَزَ عَنْ إِمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ
التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، وَلِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِذَا
عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْآخَرُ، وَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]
وَزَوْجَةُ الْمُعْسِرِ مُسْتَضَرَّةٌ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِمْسَاكُهَا.
وَالسُّنَّةُ مَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي
النَّجُّودِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّنْ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ
امْرَأَتِهِ فَقَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ قَالَ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ
رَجُلٍ أَعْسَرَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ فَقَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا قِيلَ سُنَّةٌ قَالَ سُنَّةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَوْلُ الرَّاوِي سُنَّةٌ يَقْتَضِي سُنَّةُ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَارَ
كَرِوَايَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ سَعِيدًا
تَابِعِيٌّ قِيلَ: عَضَّدَهُ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَانْعِقَادُ
الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ، وَالْإِجْمَاعُ
أَنَّهُ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَكَتَبَ بِهِ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ
غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ أَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا وَلَيْسَ
لَهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلِهِمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ
أَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يُسَوَّغُ خِلَافُهُ.
وَالْعِبْرَةُ: أَنَّهُ حَقٌّ مَقْصُودٌ لِكُلِّ نِكَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ
يَسْتَحِقَّ الْفَسْخَ بِإِعْوَازِهِ كَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَجْبُوبِ،
وَالْعِنِّينِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ
الْأَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَحَدَهُمَا وَذَكَرَ
أَصْحَابُنَا الْآخَرَ، فَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبَدَنَ
يَقُومُ بِتَرْكِ الْجِمَاعِ وَلَا يَقُومُ بِتَرْكِ الْغِذَاءِ فَلَمَّا
ثَبَتَ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ الْجِمَاعِ كَانَ ثُبُوتُهُ بِفَوَاتِ
النَّفَقَةِ
(11/455)
أَوْلَى، وَالَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا
أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ فِي الْجِمَاعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا
وَالنَّفَقَةَ مُخْتَصَّةٌ بِهَا، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ فِي الْحَقِّ
الْمُشْتَرَكِ كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الْمُخْتَصِّ أَوْلَى، فَإِنْ قِيلَ
إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّهَا لَا
تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا فِي
النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِهِ، قُلْنَا:
نَفَقَةُ الزَّوْجِيَّةِ لَا تُقَدَّرُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ
فَاسْتَوَيَا.
وَقِيَاسٌ ثَانٍ: لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ بِمَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ مِلْكِهِ
فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ كَالْمُعْسِرِ
بِنَفَقَةِ عَبْدِهِ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أُزِيلَ مِلْكُهُ عَنْ
عَبْدِهِ إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهِ، لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ فِي
ذِمَّةِ السَّيِّدِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ
فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهَا، قِيلَ: أُزِيلَ الْمِلْكُ لِإِعْوَازِهَا
فِي الْحَالِ وَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَثْبُتُ عَلَى فَقْدِهَا فَاسْتَوَيَا
فِي الْحَالِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ
يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْإِزَالَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَاهَا
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيمَا سِوَاهَا، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا أُزِيلَ
مِلْكُهُ عَنْ عَبْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى اسْتِهْلَاكِ
مِلْكِهِ لِوُصُولِهِ إِلَى ثَمَنِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ
عَنْ زَوْجَتِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِهْلَاكِ مِلْكٍ لَا يَصِلُ إِلَى
بَدَلِهِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي
الْإِزَالَةِ إِلَى بَدَلٍ وَلَيْسَتِ الزَّوْجَةُ مَالًا يُرْجَعُ فِي
إِزَالَتِهِ إِلَى بَدَلٍ فَافْتَرَقَا فِي الْبَدَلِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ
الْمُفْتَرِقِينَ فِيهِ وَاسْتَوَيَا فِي الْإِزَالَةِ لِاشْتِرَاكِهِمَا
فِي مَعْنَاهَا.
وَقِيَاسٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ مُبْدَلٌ فِي مُعَاوَضَةٍ أَعْوَزَ الْوُصُولُ
إِلَى بَدَلِهِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ خِيَارَ فَسْخِهِ كَالْمَبِيعِ
قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا أَعْسَرَ مُشْتَرِيهِ بِثَمَنِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَنَظِرَةٌ إلى ميسرة} فَهُوَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ
ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ لَا تَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ بِمَا
اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَاضِي نَفَقَتِهَا، وَإِنَّمَا
تَسْتَحِقُّهُ بِنَفَقَةِ الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي
الذِّمَّةِ فَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا الْآيَةُ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فضله} ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْآمِرَ فِي
الْآيَةِ تَوَجَّهَ مِنَ الْفُقَرَاءِ إِلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ
الْفَقِيرِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهَا، بَلْ جَاءَتِ
السُّنَّةُ بِنَهْيِهِ عَنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ
مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ
فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ "، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ
الصَّدَاقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ شَرْحِ
الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ إِعْسَارِ الْمُوسِرِ
بِمُدِّ الْيَسَارِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مُدِّ الْإِعْسَارِ، فَالْجَوَابُ
عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُدَّ الْيَسَارِ يَسْقُطُ بِإِعْسَارِهِ فَلَمْ
تَمْلِكِ الْفَسْخَ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّهُ، وَمُدَّ الْإِعْسَارِ لَا
يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِعْسَارِهِ فَجَازَ أَنْ تَفْسَخَ بِمَا تَسْتَحِقُّهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَقُومُ بَدَنُهَا إِذَا عُدِمَ مُدَّ
الْيَسَارِ بِمَا بَقِيَ مِنْ مُدِّ الْإِعْسَارِ، وَلَا قوام لبدنها وإذا
تَعَذَّرَ مُدُّ الْإِعْسَارِ فَافْتَرَقَا، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ
إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ
تَابِعَةٌ وَلَيْسَتْ عَامَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فَخَالَفَتْ حُكْمَ مَا
كَانَ متبوعاً من
(11/456)
الِاسْتِحْقَاقِ، وَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ
مِنَ النُّشُوزِ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ النُّشُوزَ لَمَّا سَقَطَ مَا
فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِعْوَازُ
النَّفَقَةِ يُسْقِطُ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ،
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِالْمَاضِي وَلَا
بِالْمُسْتُقْبِلِ فَصَحِيحٌ وَالْفَسْخُ إِنِّمَا هُوَ بِحَالِ وَقْتِهَا
دُونَ مَا مَضَى وَمَا يَسْتَقْبِلُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهَا فَلَا
فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعْسِرَ بِالْمُدِّ كُلِّهِ أَوْ يُعْسِرَ بِبَعْضِهِ
حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ وَعَجَزَ عَنْ عُشْرِهِ
كَانَ لَهَا الْفَسْخُ، لِأَنَّهُ إِعْسَارٌ بِمُسْتَحَقٍّ فِي النَّفَقَةِ
فَإِنْ أَعْسَرَ بِمُدٍّ مِنْ حِنْطَةٍ وَقَدَرَ عَلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ،
نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَلَدٍ يَقْتَاتُ فُقَرَاؤُهُ الشَّعِيرَ لَمْ
تُفْسَخْ، سَوَاءٌ جَرَتْ عَادَتُهَا بِاقْتِيَاتِ الشَّعِيرِ أَمْ لَا،
وَإِنْ كَانَتْ فِي بَلَدٍ لَا يَقْتَاتُ فُقَرَاؤُهُ الشَّعِيرَ كَانَ
لَهَا الْفَسْخُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قُوتِهَا وَأَعْسَرَ بأدمها. نظر،
فإن كان قوتاً اينساغ لِلْفُقَرَاءِ أَكْلُهُ عَلَى الدَّوَامِ بِغَيْرِ
أُدْمٍ لَمْ تُفْسَخْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْسَاغُ أَكْلُهُ عَلَى
الدَّوَامِ إِلَّا بِأُدْمٍ فُسِخَتْ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قُوتِهَا
وَأَعْسَرَ بِكِسْوَتِهَا فُسِخَتْ، لِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بَدَنُهَا
إِلَّا بِكِسْوَةٍ تَقِيهَا مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
(الْقَوْلُ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ النَّفَقَةِ مَعَ الْيَسَارِ)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا مَعَ يَسَارٍ لَمْ يُفْسَخْ
وَبَاعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهَا،
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا حَبَسَهُ حَتَّى يُنْفِقَ عَلَيْهَا كَمَا
يُحْبَسُ مَنْ مَطَلَ بِدَيْنٍ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ وَلَوْ كَانَ
غَائِبًا مَفْقُودًا وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ يُصْرَفُ فِي نَفَقَتِهَا
فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِفَسْخِ نِكَاحِهِ بِإِعْوَازِ النَّفَقَةِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا الْفَسْخُ لِتَعَذُّرِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ لَا فَسْخَ لَهَا
لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَطْلِ الْمُوسِرِ وَإِعْوَازِ الْمُعْسِرِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقَوْلُ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَجَدَ نَفَقَتَهَا يَوْمًا
بِيَوْمٍ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ لَهَا
فِي الْيَوْمِ أَكْثَرُ مِنْ نَفَقَتِهَا، فَإِذَا أَعْطَاهَا أَيَّامًا
مِنْ كَسْبٍ لَمْ يَجِدْ فِيهِ سِوَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا، وَلَيْسَ
لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ غَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهَا الْخِيَارُ
بِعَدَمِهِ، وَلَوْ جَازَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ الْغَدِ لَجَازَ
لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِنَفَقَةِ شَهْرِهَا وَسَنَتِهَا، وَهَذَا شَطَطٌ
لَا يُسْتَحَقُّ، وَالْوَقْتُ الَّذِي تَسْتَحِقُّ فِيهِ نَفَقَةَ
يَوْمِهَا هُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، لِأَنَّهَا إِنْ
طَالَبَتْهُ مَعَ طُلُوعِ فَجْرِهِ خَرَجَتْ عَنِ الْعُرْفِ، وَإِنْ
أَخَّرَهَا
(11/457)
إِلَى غُرُوبِ شَمْسِهِ أَضَرَّ بِهَا،
فَلَوْ كَانَ لَا يَجِدُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ إِلَّا نَفَقَةَ الْغَدَاءِ
وَفِي آخِرِهِ إِلَّا نَفَقَةَ الْعَشَاءِ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَسْتَحِقُّهُ لِوُصُولِهَا إِلَى الْكِفَايَةِ فِي
وَقْتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَسْتَحِقُّ الْخِيَارَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ
لَا تَتَبَعَّضُ وَلَوْ تَبَعَّضَتْ لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهَا كَسْرًا أَوْ
لُقَمًا، فَلَوْ وَجَدَ نَفَقَةَ يَوْمٍ وَعَدِمَ نَفَقَةَ يَوْمٍ، كَأَنْ
وَجَدَ فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ نَفَقَةَ يَوْمٍ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ
لِأَنَّهُ عَادِمٌ بَعْضَ نَفَقَتِهَا.
(الْقَوْلُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُؤَجَّلُ فِيهَا الزَّوْجُ
لِلْإِعْسَارِ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يُؤَجَّلْ أَكْثَرَ
مِنْ ثَلَاثٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ أَعْوَزَتْهُ النَّفَقَةُ
مِنْ ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِشُرُوعِهِ فِي عَمَلٍ لَمْ يَسْتَكْمِلْهُ
وَيَقْدِرُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ عَلَى النَّفَقَةِ كَالنَّسَّاجَ الَّذِي
يَنْسِجُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ ثَوْبًا فَإِذَا نَسَجَهُ كَانَتْ أُجْرَتُهُ
نَفَقَةَ أُسْبُوعِهِ فَلَا خِيَارَ لِزَوْجَةِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ فِي
حُكْمِ الْوَاجِدِ لِنَفَقَتِهَا، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ، وَيُنْفِقُ مِنَ
الِاسْتِدَانَةِ لِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ كَالصُّنَّاعِ
بِأَبْدَانِهِمْ مِنْ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ وَحَمَّالٍ إِذَا عَمِلَ فِي
يَوْمِهِ كَسَبَ قَدْرَ نَفَقَتِهِ فَيُعْذَرُ عَلَيْهِ مَنْ
يَسْتَعْمِلُهُ فِي صَنْعَتِهِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ تَعَذُّرُهُ
عَلَيْهِ نادر لَمْ يَكُنْ لِزَوْجَتِهِ خِيَارٌ، وَإِنْ كَانَ غَالِبًا
فلها الخيار.
والقسم الثالث: يَكُونُ لِعَجْزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ كَالصَّانِعِ إِذَا
مَرِضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَمَلِ، فَيُنْظَرُ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ
كَانَ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا خِيَارَ
لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الزَّوَالِ فَلَهَا الْخِيَارُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لِدَيْنٍ لَهُ عَلَى غَرِيمٍ لَا
يَمْلِكُ سِوَاهُ وَقَدْ أَلَظَّ بِهِ الْغَرِيمُ وَمَطَلَهُ فَيُنْظَرُ
فِي الغريم، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أن يكون معسراً فالدين عليه تائه وَمَالِكُهُ مُعْدَمٌ،
فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ الْخِيَارُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ حَاضِرٍ فَمَالِكُ
الدَّيْنِ مُوسِرٌ بِهِ وَلَا خِيَارَ لِزَوْجَتِهِ وَيُحْبَسُ الْغَرِيمُ
حَتَّى يُؤَدِّيَ دَيْنَهُ، وَتَكُونُ الزَّوْجَةُ فِي حُكْمِ مَنْ
زَوْجُهَا مُوسِرٌ وَقَدْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ فَيَسْقُطُ الخيار ويحبس
زوجها على نفقتها، ذلك هاهنا يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُحْبَسُ الْغَرِيمُ
دُونَ الزَّوْجِ.
(11/458)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ
الدَّيْنُ عَلَى مُوسِرٍ غَائِبٍ فَفِي خِيَارِهَا وَجْهَانِ مِنَ
اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي زَوْجَةِ الْمُوسِرِ الْغَائِبِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ هُوَ غَائِبٌ عَنْهُ
يَنْتَظِرُ قُدُومَهُ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَ مِنْهُ، فَيُنْظَرُ فِي غَيْبَةِ
الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ لَا تُقْصَرُ فِي
مِثْلِهَا الصَّلَاةُ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ مَالَهُ فِي حُكْمِ
الْحَاضِرِ وَيُؤْخَذُ بِتَعْجِيلِ نَقْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ
الْمَسَافَةِ عَلَى أَكْثَرَ من يوم وليلة فهو في حكم التائه ومالكه
كالمعدوم فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِمَالٍ حَاضِرٍ قَدِ
اسْتُحِقَّ عَلَيْهِ فِي دُيُونِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا قَبْلَ قَضَاءِ
الدُّيُونِ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ،
وَالْمُسْتَحَقُّ فِي قَضَائِهِ مَا فَضُلَ عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ، فَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ صَارَ بَعْدَ يَوْمِهِ مُعْسِرًا.
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَعْجِزَ عَنْ حَلَالِ الْكَسْبِ وَيَقْدِرَ
عَلَى مَحْظُورِهِ. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَعْيَانًا مُحَرَّمَةً كَأَمْوَالِ السَّرِقَةِ
وَالتَّطْفِيفِ وَأَثْمَانِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ، فَالْوَاجِدُ
لَهَا كَالْعَادِمِ لِحَظْرِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ
الْخِيَارُ بِالْإِعْسَارِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ
مَحْظُورًا كَصُنَّاعِ الْمَلَاهِي الْمَحْظُورَةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ
فِي مَحْظُورٍ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ،
وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَحِقَّ لِتَفْوِيتِ عَمَلِهِ أَجْرًا فَيَصِيرَ بِهِ
مُوسِرًا وَلَا يَكُونَ لِزَوْجَتِهِ خِيَارٌ، وَكَذَلِكَ كَسْبُ
الْمُنَجِّمِ. وَالْكَاهِنِ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ
لَكِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ عَنْهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِ الْمُعْطِي فأجرى مجرى
الهبة، وإن كان محظوراً السَّبَبِ فَسَاغَ لَهُ إِنْفَاقُهُ وَخَرَجَ بِهِ
مِنْ حُكْمِ الْمُعْسِرِينَ وَسَقَطَ بِهِ خِيَارُ زَوْجَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ عَجْزُهُ عَنِ النَّفَقَةِ لِعُدْمٍ
لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ مِنْ مِلْكٍ وَلَا كَسْبٍ فَهَذَا هُوَ
الْمُعْسِرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الَّذِي تَسْتَحِقُّ زَوْجَتُهُ
الْخِيَارَ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا اسْتِحْقَاقُهَا لِلْخِيَارِ
بِالْإِعْسَارِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي يَوْمِهَا مِنْ
غَيْرِ إِنْظَارٍ وَلَا تَأْجِيلٍ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، لِأَنَّهُ
خِيَارُ فَسْخٍ بِعَيْبٍ فَأَشْبَهَ الْفَسْخَ بِسَائِرِ الْعُيُوبِ،
وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُسْتَحَقِّ
عَلَى الْفَوْرِ فَكَانَ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنْ فَسْخِ الْإِعْسَارِ
مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَوْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يُؤَجَّلُ
ثلاثاً لا يزاد عليها ولا تفسح الزَّوْجَةُ قَبْلَ مُضِيِّهَا
لِأَمْرَيْنِ:
(11/459)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِرْهَاقِهِ عَلَى
تَعْجِيلِ الْفَسْخِ إِدْخَالَ ضَرَرٍ عَلَيْهِ فَأُمْهِلَ مِنَ الزَّمَانِ
أَكْثَرَ قليله وهو ثلاث ليزول بها الضرر على الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَالَ الْمُسْتَحَقَّ بِالنِّكَاحِ مَوْضُوعٌ عَلَى
الْمُيَاسَرَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِغَيْرِ مَهْرٍ
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي الْمُيَاسَرَةِ
إِلَى إِرْهَاقٍ بِتَعْجِيلِ الْفَسْخِ، وَإِنْ نُظِرَ مِنَ الزَّمَانِ
بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حد الإرهاق.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُمْنَعُ الْمَرْأَةُ فِي ثَلَاثٍ مِنْ
أَنْ تَخْرُجَ فَتَعْمَلَ أَوْ تَسْأَلَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَتَهَا
خُيِّرَتْ كَمَا وَصَفْتُ فِي هَذَا الْقَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَمْهَلَتِ الزَّوْجَةُ بِالْفَسْخِ ثَلَاثًا
كَانَ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا لِتَكْتَسِبَ نَفَقَتَهَا
بِعَمَلٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مَعَ
تَعَذُّرِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا قِوَامَ لِبَدَنِهَا إِلَّا
بِمَا يَقُوتُهَا، فَلَوْ وَجَدَتْ مِنَ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ
وَأَمَرَهَا بِالْمُقَامِ لِلْإِنْفَاقِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهَا وَجَازَ
لَهَا الْخُرُوجُ لِتَكْسِبَ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا
اكْتِسَابُ النَّفَقَةِ مِنَ الزَّوْجِ جَازَ لَهَا أَنْ تَكْتَسِبَهَا
بِعَمَلٍ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَوْ قَدَرَتْ عَلَى اكْتِسَابِ النَّفَقَةِ
فِي مَنْزِلِهَا بِغَزْلٍ أَوْ خِيَاطَةٍ فَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ
لِلتَّكَسُّبِ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا كَانَ ذَلِكَ لَهَا
لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي أَنْوَاعِ الْكَسْبِ،
هَذَا فِي النَّهَارِ فَأَمَّا اللَّيْلُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ
إِلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ زَمَانُ الْإِيوَاءِ دُونَ الْعَمَلِ
وَالِاكْتِسَابِ فَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا فِي زَمَانِ
الْإِنْظَارِ اسْتَحَقَّهُ لَيْلًا؛ لِأَنَّهُ زَمَانُ الدَّعَةِ، وَلَمْ
يَسْتَحِقُّهُ نَهَارًا لِأَنَّهُ زَمَانُ الِاكْتِسَابِ، فَإِنِ
امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فِي النَّهَارِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا حُكْمُ
النُّشُوزِ، وَكَانَتْ عَلَى حَقِّهَا مِنَ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ،
وَإِنِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ صَارَتْ نَاشِزًا وَلَا
نَفَقَةَ لَهَا، وَهَكَذَا حُكْمُهَا إِذَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ مَعَهُ
عَلَى إِعْسَارِهِ مَكَّنَهَا مِنَ الِاكْتِسَابِ نَهَارًا وَاسْتَمْتَعَ
بِهَا لَيْلًا وَكَانَتِ النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ يُؤْخَذُ بِهَا
بَعْدَ إِيسَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ إِذَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنَ
الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا نَهَارًا أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ نَفَقَتُهَا كَمَا
تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَخْدَمَهَا بِالنَّهَارِ
سَيِّدُهَا، قِيلَ: لِأَنَّ مَنْعَ الْأَمَةِ مِنْ جِهَتِهَا فَجَازَ أَنْ
تَسْقُطَ بِهِ نَفَقَتُهَا وَمَنْعَ الْمُعْسِرِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ
تَسْقُطْ به نفقتها.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَجَدَ نَفَقَتَهَا وَلَمْ يَجِدْ
نَفَقَةَ خَادِمِهَا لم تخير لأنها تماسك بِنَفَقَتِهَا وَكَانَتْ نَفَقَةُ
خَادِمِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ مَتَى أَيْسَرَ أَخَذَتْهُ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَمُسْتَحَقَّةٌ لِمَنْ
يُخْدَمُ مِثْلُهَا وَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ لِمَنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا
فَلَمْ تَكُنْ مِنْ حُقُوقِ كُلِّ زَوْجَةٍ، وَخَالَفَتِ النَّفَقَةُ
وَالْكِسْوَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِكُلِّ زَوْجَةٍ فَإِذَا أَعْسَرَ
الزَّوْجُ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا وَمِثْلُهَا يُخْدَمُ لَمْ تَسْتَحِقَّ
بِهِ الْخِيَارَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَبَعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَخَالَفَتْ فِي الْفَسْخِ
حُكْمَ الْمَتْبُوعِ الْمَقْصُودِ.
(11/460)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخِدْمَةَ
مُسْتَحَقَّةٌ لِلدَّعَةِ وَالتَّرْفِيهِ وَيُمْكِنُ تَحَمُّلُهُ وَيَقُومُ
الْبَدَنُ بِتَحَمُّلِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُدِّ الثَّانِي مِنَ
الْمُسْتَحَقِّ بِالْيَسَارِ وَلَا يُسْتَحَقُّ فِي الْإِعْسَارِ بِهِ
خِيَارٌ، وَنَفَقَةُ نَفْسِهَا لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِعَدَمِهَا كَمُدِّ
الْإِعْسَارِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ الْخِيَارَ فَلِذَلِكَ افْتَرَقَ
حُكْمُ الْإِعْسَارِ بِنَفَقَتِهَا دُونَ نَفَقَةِ خَادِمِهَا، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ نَفَقَةُ خَادِمِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ
خَدَمَتْ نَفْسَهَا أَوِ اسْتَأْجَرَتْ خَادِمًا أَوْ أَنَفَقَتْ عَلَى
خَادِمٍ لَهَا فَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا رَجَعَتْ عَلَى
الزَّوْجِ بِنَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ حُرًّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ
بِأُجْرَتِهِ فَإِنْ بَاشَرَتْ هِيَ الْخِدْمَةَ رَجَعَتْ عَلَيْهِ
بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ خَدَمَهَا لِلزَّوْجِ فِي مُدَّةِ
إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ خَادِمِهَا فَفِي رُجُوعِهَا عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِ
وَجْهَانِ: مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا هَلْ
لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ بِخِدْمَتِهِ لَهَا نَفَقَةَ خَادِمِهَا أَمْ
لَا.
(الْقَوْلُ فِي الْإِعْسَارِ بِالصَّدَاقِ)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ومن قال هذا لَزِمَهُ عِنْدِي إِذَا لَمْ
يَجِدْ صَدَاقَهَا أَنْ يخيرها لأنه شبيه بنفقتها (قال المزني) رحمه الله
قد قال ولو أعسر بالصداق ولم يعسر بالنفقة فاختارت المقام معه لم يكن لها
فراقة لأنه لا ضرر على بدنها إذا أنفق عليها في استئخار صداقها (قال
المزني) فهذا دليل على أن لا خيار لها فيه كالنفقة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي إِعْسَارِ الزوج
بصداق زوجته كلاماً محتملاً قاله هاهنا وَفِي الْإِمْلَاءِ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُهُ لِأَجْلِهِ اخْتِلَافًا مُنْتَشِرًا جُمْلَتُهُ أَنْ
يَتَخَرَّجَ فِي إِعْسَارِهِ بِصَدَاقِهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَهَا الْخِيَارُ فِي إِعْسَارِهِ بِصَدَاقِهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ وَبَعْدِهِ كَالنَّفَقَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ أَقْوَى
الْمَقْصُودَيْنِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ فَإِذَا ثَبَتَ لَهَا
الْخِيَارُ فِي أَضْعَفِهِمَا كَانَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَقْوَى أَحَقَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ لَا خِيَارَ لَهَا
قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ لِمُخَالَفَةِ الصَّدَاقِ النفقة من وجهين:
أحدهما: أن يضعها بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَهْلَكٌ فَصَارَ كَاسْتِهْلَاكِ
الْمَبِيعِ فِي الْفَلَسِ لَا خِيَارَ فِيهِ لِلْبَائِعِ، وَقَبْلَ
الدُّخُولِ يَسْقُطُ صَدَاقُهَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ
يَكُنِ الْفَسْخُ فِيهِ إِلَّا ضَرَرًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا بِتَأَخُّرِ الصَّدَاقِ
عَنْهَا ضَرَرٌ فِي بَدَنِهَا وَيَقُومُ بَدَنُهَا
(11/461)
بِتَأْخِيرِهِ وَفَقْدُ النَّفَقَةَ لَا
يَقُومُ مَعَهُ بَدَنٌ وَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ صَبْرٌ فَافْتَرَقَا فِي
الْخِيَارِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ:
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ
وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا إِنَّ لَهَا الْخِيَارَ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بُضْعَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ مُسْتَهْلَكٌ فَسَقَطَ
خِيَارُهَا كَمَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْبَائِعِ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ فِي
يَدِ الْمُفْلِسِ، وَهُوَ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُسْتَهْلَكٍ فَثَبَتَ
لَهَا الْخِيَارُ كَمَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ مَعَ بَقَاءِ الْمَبِيعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ
نَفْسِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى تَقْبِضَ صَدَاقَهَا وَلَمْ يَكُنْ
لَهَا الِامْتِنَاعُ بَعْدَ الدُّخُولِ كَانَتْ يَدُهَا فِيهِ قَبْلَ
الدُّخُولِ أَقْوَى فَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْإِعْسَارِ وَبَعْدَ
الدُّخُولِ أَضْعَفُ فَسَقَطَ خِيَارُهَا فِي الْإِعْسَارِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْأَقَاوِيلِ
الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَا خِيَارَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ
وَبَعْدَهُ كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ تَرْجِعُ بِهِ مَتَى أَيْسَرَ،
وَتُنْظِرُهُ بِهِ مَا أَعْسَرَ، وَالْقَوْلُ فِي الْمَعْسَرَةِ بِهِ
قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ قِيلَ لَهَا الْخِيَارُ كَانَ خِيَارُهَا
عَلَى الْفَوْرِ بَعْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ
الْفَسْخَ بِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا عِنْدَ حَاكِمٍ، فَإِنْ أَمْسَكَتْ
عَنْ مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِإِعْسَارِهِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ
إِمْسَاكُهَا قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ بِالصَّدَاقِ كَانَتْ عَلَى حَقِّهَا
مِنَ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ
يُوسِرَ بِهِ عِنْدَ مُطَالَبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ إِمْسَاكُهَا بَعْدَ
الْمُطَالَبَةِ بِهِ سَقَطَ خِيَارُهَا، وَكَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ
مُحَاكَمَتِهِ رِضًا بِإِعْسَارِهِ، وَلَوْ حَاكَمَتْهُ وَعَرَضَ عَلَيْهَا
الْحَاكِمُ الْفَسْخَ وَخَيَّرَهَا فِيهِ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ
سَقَطَ خِيَارُهَا، فَإِنْ عَادَتْ تُحَاكِمُهُ وَتَطْلُبُ فَسْخَ
نِكَاحِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ
الْأُولَى بَعْدَ الدُّخُولِ لَاسْتَوَى إِعْسَارُهُ فِي الْحَالَيْنِ،
فَسَقَطَ حُكْمُ الْخِيَارِ فِيهِ مَعَ الرَّضَا بِهِ كَالْخِيَارِ فِي
جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَةُ الْأُولَى وَالرِّضَا
فِيهَا بِالْمُقَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْمُحَاكَمَةُ الثَّانِيَةُ
بَعْدَ الدُّخُولِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِلْخِيَارِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا خِيَارَ لَهَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمُحَاكَمَتَانِ
بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهَا الْخِيَارُ فِي مُحَاكَمَتِهِ بَعْدَ
الْأُولَى وَإِنْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ
مِلْكَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ قَدْ كَانَ مُسْتَقِرًّا عَلَى نِصْفِهِ
وَبَعْدَ الدُّخُولِ عَلَى جَمِيعِهِ، فَصَارَ إِعْسَارُهُ بَعْدَ
الدُّخُولِ بِحَقٍّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا قَبْلَ الدُّخُولِ فَجَازَ
أَنْ تَسْتَجِدَّ بِهِ خِيَارًا لَمْ يَكُنْ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اخْتَارَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ فَمَتَى
شَاءَتْ أَجَّلَ أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ عَفْوٌ عَمَّا مَضَى ".
(11/462)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خُيِّرَتِ
الزَّوْجَةُ فِي إِعْسَارِهِ بِنَفَقَتِهَا فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ رِضًا
بِعُسْرَتِهِ ثُمَّ عَادَتْ تُحَاكِمُهُ تَلْتَمِسُ الْخِيَارَ وَالْفَسْخَ
كَانَ ذَلِكَ لَهَا فِي النَّفَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا فِي
الصَّدَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّدَاقَ يَجِبُ دَفْعَةً
وَاحِدَةً، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَفْوُهَا سَقَطَ خِيَارُهَا، وَالنَّفَقَةُ
يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَفْوُهَا
كَانَ عَفْوُهَا عَمَّا تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُهُ وَلَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ
عَمَّا تَأَخَّرَ اسْتِحْقَاقُهُ فَصَارَ مَا طَالَبَتْ بِالْفَسْخِ فِيهِ
غَيْرَ مَا رَضِيَتْ بِالْمُقَامِ عَلَيْهِ فَثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ
فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعَفْوِ تَأْثِيرٌ
لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْوُجُوبِ كَالشَّفِيعِ إِذَا عَفَا عَنِ الشُّفَعَةِ
قبل الشراء والورثة إذا جازوا الْوَصَايَا قَبْلَ الْوَفَاةِ وَالْأَمَةِ
إِذَا رَضِيَتْ بِرِقِّ زَوْجِهَا قَبْلَ عِتْقِهَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ
كُلِّهِ تَأْثِيرٌ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَوْ عَفَتْ
فِي يَوْمٍ ثُمَّ عَادَتْ تُطَالِبُ فِيهِ بِالتَّخْيِيرِ لَمْ يُمْكِنْ
ذَلِكَ لَهَا لِسُقُوطِ حَقِّهَا فِيهِ بِعَفْوِهَا، فَإِنْ عَادَتْ مِنْ
غَدِهِ خُيِّرَتْ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَلِمَتْ عُسْرَتَهُ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ أَنْ يُوسِرَ وَيُتَطَوَّعَ عَنْهُ بِالْغُرْمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ ثُمَّ
طَلَبَتِ الْفَسْخَ بَعْدَ نِكَاحِهِ لِإِعْسَارِهِ بِالصَّدَاقِ أَوِ
النَّفَقَةِ خُيِّرَتْ فِيهِمَا وَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا بِالْعِلْمِ
الْمُتَقَدِّمِ. لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعُيُوبَ الْمَظْنُونَةِ دُونَ
الْمُتَحَقِّقَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ بَعْدَ وُجُودِهِ،
وَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْعُيُوبِ الْمَظْنُونَةِ
وَالْمُتَيَقَّنَةِ وَبَيْنَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَزُولَ وَلَا يَزُولَ أَلَا
تَرَاهَا لَوْ تَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِعِنَّتِهِ لَمْ يَسْقُطْ
خِيَارُهَا، لِأَنَّ الْعِنَّةَ مَظْنُونَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَزُولَ
بَعْدَ وُجُودِهَا، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِأَنَّهُ مَجْبُوبٌ
لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ، لِأَنَّ الْجَبَّ مُتَيَقَّنٌ وَلَا يَزُولُ
بَعْدَ وُجُودِهِ.
(امْتِنَاعُ الزَّوْجَةِ عَنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا عِنْدَ الْإِعْسَارِ
بِالصَّدَاقِ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِ إِذَا
أَعْسَرَ بِصَدَاقِهَا حَتَى تَقْبِضَهُ وَاحْتَجَّ عَلَى مُخَالِفِهِ
فَقَالَ إِذَا خَيَّرْتَهَا فِي الْعِنِّينِ يُؤَجَّلُ سَنَةً وَرَضِيَتْ
مِنْهُ بِجِمَاعٍ مَرَّةً فَإِنَّمَا هُوَ فَقْدُ لَذَّةٍ وَلَا صَبْرَ
لَهَا عَلَى فَقْدِ النَّفَقَةِ فَكَيْفَ أَقَرَرْتَهَا مَعَهُ فِي
أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ وَفَرَّقْتَ بَيْنَهُمَا فِي أَصْغَرِ
الضَّرَرَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ مَضَتْ فِي كِتَابِ
الصَّدَاقِ وَلِامْتِنَاعِهِ مِنْ دَفْعِ صَدَاقِهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تسليم نفسها.
(11/463)
والثاني: قَبْلَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ
دَفْعِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَيْهِ فَلَيْسَ لَهَا
الِامْتِنَاعُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا بِهِ أُخِذَ جَبْرًا بِدَفْعِهِ وَحُبِسَ بِهِ إِنْ مَطَلَ وَإِنْ
كَانَ مُعْسِرًا بِهِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِفَسْخِ، نكاحه قولان، وإن
كان ذلك قبل التسليم نَفْسِهَا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ فَلَهَا
خِيَارُ الْفَسْخِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِعُسْرَتِهِ كَانَ لَهَا
الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا مَعَ الْعُسْرَةِ إِلَى أَنْ تقبض
الصداق، ولا يكون رضاها بالعسرة سقطاً لِحَقِّهَا مِنَ الِامْتِنَاعِ،
وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَعَادَ الشَّافِعِيُّ ذِكْرَهَا فِي هَذَا
الْكِتَابِ لِئَلَّا يَسْتَهْلِكَ بَعْضَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَإِنْ كَانَ
مُوسِرًا لَمْ يُفْسَخْ وَيُؤْخَذَ جَبْرًا بِدَفْعِهِ، وَلَهَا
الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَإِنْ
تَمَانَعَا وَقَالَ الزَّوْجُ: لَا أَدْفَعُ الصَّدَاقَ إِلَّا بَعْدِ
التَّسْلِيمِ وَقَالَتْ: لَا أُسَلِّمُ نَفْسِي إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ
كَتَمَانُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِ
الثَّمَنِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ فِي تَمَانُعِ
الْمُتَبَايِعَيْنِ أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ، أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: إِنَّهُ
يَقْطَعُ التَّخَاصُمَ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا
حَقٌّ فِي الِامْتِنَاعِ فَإِنْ سَلَّمْتِ أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ نَفْسَكِ
أُجْبِرَ الزَّوْجُ عَلَى دَفْعِ صَدَاقِكِ، وَإِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ
بِدَفْعِ الصَّدَاقِ أُجْبِرَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُ الزَّوْجَ عَلَى
تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ إِلَى عَدْلٍ يَكُونُ أَمِينًا لَهُمَا فَإِذَا يحصل
الصَّدَاقُ عِنْدَهُ أَجْبَرَ الزَّوْجَةَ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا إِلَى
الزَّوْجِ، فَإِذَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا إِلَيْهِ دَفَعَ الأمين الصداق
إليها والله أعلم بالصواب.
(نَفَقَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجْعَتَهَا وَغَيْرُ ذلك)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وجدكم} وَقَالَ تَعَالَى
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يضعن حملهن}
فَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهَا نَفَقَةً بِالْحَمْلِ دَلَّ عَلَى أَنْ
لَا نَفَقَةَ لَهَا بِخِلَافِ الْحَمْلِ ولا أعلم خلافاً أن التي يملك
رجعتها في معاني الأزواج في أن عليه نفقتها وسكناها وأن طلاقه وإيلاءه
وظهاره ولعانه يقع عليها وأنها ترثه ويرثها فكانت الآية على غيرها من
المطلقات وهي التي لا يملك رجعتها وبذلك جاءت سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في فاطمة بنت قيس بت زوجها طلاقها
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فقال " ليس لك عليه نفقة " وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أنه قال " نفقة المطلقة ما لم تحرم " وعن عطاء ليست المبتوتة
الحبلى منه في شيء إلا أنه ينفق عليها من أجل الحبل فإن كانت غير حبلى فلا
نفقة لها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِلْمُطَلَّقَةِ حَالَتَانِ: رَجْعِيَّةٌ
وَمَبْتُوتَةٌ.
(11/464)
فَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا
السُّكْنَى، وَالنَّفَقَةُ إِلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا حَامِلًا كَانَتْ
أَوْ حَائِلًا، وَهَذَا إِجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إِمَّا بِالْخُلْعِ أَوْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ،
فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَقَدِ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا عَلَى
ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لَا سُكْنَى لَهَا
وَلَا نَفَقَةَ.
وَالثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى
وَالنَّفَقَةَ. وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَهَا السُّكْنَى وَلَيْسَ
لَهَا النفقة، وبه قال من ال الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
فَأَمَّا وُجُوبُ السُّكْنَى فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَحْمَدَ
فِي كِتَابِ الْعِدَدِ.
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ
النَّفَقَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنَ النَّفَقَةِ ضِرَارٌ
قَدْ نَهَى عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا لَهَا.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ فَاطِمَةَ
بِنْتَ قَيْسٍ قَالَتْ: مَا جَعَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ
كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلمها غَلِطَتْ أَوْ نَسِيَتْ سَمِعْتُ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَهَا
السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ " وَهَذَا نَصٌّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ طَلَاقٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ
لَهَا النَّفَقَةُ كَالرَّجْعِيَّةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ
عَنِ الْأَزْوَاجِ لِحَقِّهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ
كَالزَّوْجَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ فِي
حَالِ الزَّوْجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْبَيْنُونَةِ
كَالسُّكْنَى.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) [الطلاق: 6] ، فَجَعَلَ نَفَقَةَ الْمَبْتُوتَةَ
مَشْرُوطَةً بِالْحَمْلِ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا بِعَدَمِ الْحَمْلِ
وَرُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَبَتَّ زَوْجُهَا طَلَاقًا
فَأَتَاهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ وَأَتَتِ النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ عَنْ نَفَقَتِهَا فَقَالَ: " لَا
نَفَقَةَ لَكِ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا ".
(11/465)
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: " إِنَّمَا
النَّفَقَةُ لِلَّتِي يَمْلِكُ زَوْجُهَا رَجَعَتْهَا ". وَلِأَنَّهَا
زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ فَوَجَبَ أن تسقط النفقة بزوالها كالوفاة، ولأنه
بَائِنٌ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ نَفَقَتُهَا كَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا،
وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ فَإِذَا زَالَ
التَّمْكِينُ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِمْتَاعَ
بِزَوْجَتِهِ كَمَا يَمْلِكُ رِقَّ أَمَتِهِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ نَفَقَةُ
الْأَمَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ رِقِّهَا وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ نَفَقَةُ
الزَّوْجَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
فَأَمَّا عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الْآيَةِ فهو وروده في السكنى بدليل قوله
تعالى: {ولا تضارهن} . وَآخِرُ الْآيَةِ فِي النَّفَقَةِ دَلِيلُنَا
لِاشْتِرَاطِ الْحَمْلِ في وجوبها واثر عمر فمنقطع، لأن راويه النَّخَعِيِّ
وَلَمْ يَلْحَقْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنِ اتَّصَلَ لَكَانَ
حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَوْلَى مِنْهُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهَا
وَارِدٌ فَكَانَتْ بِمَا تَضَمَّنَهُ أَخْبَرَ كَمَا أَخَذَ الْفُقَهَاءُ
فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَقَوْلِهَا: "
فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- فَاغْتَسَلْنَا "، وَلَوِ اسْتَدَلَّ بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّ طَلَاقَهَا
رَجْعِيٌّ فَأَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِحَدِيثِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلِمَا عَلِمَ أَنَّهُ بَائِنٌ أَسْقَطَ
نَفَقَتَهَا وَأَوْجَبَ سُكْنَاهَا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ كَمَا أَقْطَعَ
الْأَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ مِلْحَ مُآبٍ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ إِنَّهُ
كَالْمَاءِ الْعَدِّ قَالَ: " فَلَا إذن "، وقياسهم عَلَى الرَّجْعِيَّةِ
فَالْمَعْنَى فِيهَا رَجْعَتُهَا، وَالْبَائِنُ فِي حُكْمِ
الْأَجْنَبِيَّاتِ لِعَدَمِ التَّوَارُثِ وَسُقُوطِ أَحْكَامِ
الزَّوْجِيَّةِ بينهما وأنا مُحَرَّمَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى
الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيلُهُمْ بِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ
لِحَقِّهِ يَفْسَدُ بِالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زوجها وبالموطوئة بالشبهة،
وقياسهم عَلَى السُّكْنَى فَالْمَعْنَى فِيهِ وُجُوبُ السُّكْنَى
لِتَحْصِينِ مَائِهِ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِي حَالِ الزَّوْجِيَّةِ
وَبَعْدَهَا، وَالنَّفَقَةُ لِأَجْلِ التَّمْكِينِ وَذَلِكَ فِي حَالِ
الزَّوْجِيَّةِ فَخَالَفَ لِمَا بَعْدَهَا. . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(النَّفَقَةُ فِي حال الفسخ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ مُتْعَةٍ أَوْ
نَفَقَةٍ أَوْ سُكْنَى فَلَيْسَتْ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَأَمَّا
كُلُّ نِكَاحٍ كَانَ مَفْسُوخًا فَلَا نَفَقَةَ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ
حَامِلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النِّكَاحُ ضربان: صحيح، وفاسد. وصحيح يَرْتَفِعُ
بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: طَلَاقٌ وَوَفَاةٌ وَفَسْخٌ.
(11/466)
فَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ مَضَى
الْكَلَامُ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فِي الرَّجْعِيِّ
وَوُجُوبِ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ فِي الْبَائِنِ، وَأَمَّا
الْمُرْتَفِعُ بِالْوَفَاةِ فَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْفَسْخُ فَلَا مُتْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ
بِالطَّلَاقِ وَهُوَ مَفْقُودٌ وَتَسْتَحِقُّ بِهِ السُّكْنَى دُونَ
النَّفَقَةِ كَالْبَائِنِ. لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إِلَى عَقْدٍ صَحِيحٍ
وَأَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ كَالْمُتْعَةِ وَالشِّغَارِ، وَالنِّكَاحِ
بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ أَوْ إِحْرَامٍ، فَإِنْ
لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دُخُولٌ فَلَا صَدَاقَ فِيهِ وَلَا مُتْعَةَ وَلَا
سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ دُخُولٌ فَفِيهِ مَهْرُ
الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَلَا مُتْعَةَ فِيهِ لِعَدَمِ الطَّلَاقِ،
وَلَا تَخْلُو الْمَوْطُوءَةُ فِيهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِلًا أَوْ
حَامِلًا، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ،
لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّهَا فِي حَالِ الِاجْتِمَاعِ فَأَوْلَى أَنْ
لَا تَسْتَحِقَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَفِي
وُجُوبِ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ لَهَا قَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ
اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ
لِحَمْلِهَا؟ فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا لَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛
لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ فِي حَالِ التَّمْكِينِ فَأَوْلَى
أَنْ لَا تَسْتَحِقَّهَا بَعْدَهُ، وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهَا لِلْحَمْلِ:
كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ وَقِيلَ فِي السُّكْنَى أَيْضًا تَبَعٌ
لِلنَّفَقَةِ، لِأَنَّ حَمْلَهَا فِي اللُّحُوقِ كَحَمْلِ ذَاتِ النِّكَاحِ
الصحيح فكان له النَّفَقَةُ فِي الْحَالَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(أَحْكَامُ الْحَمْلِ في النفقة)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ ادَّعَتِ الْحَمْلَ فَفِيهَا
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا إِنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِيَقِينٍ حَتَّى تَلِدَ
فَتُعْطَى نَفَقَةَ ما مضى لها، وهكذا لو أوصى لحمل أو كان الوارث أو
الموصى له غائبا فلا يعطى إلا بيقين أرأيت لو أعطيناها بقول النساء ثم أنفس
أليس قد أعطينا من ماله ما لم يجب عليه، والقول الثاني أن تحصى من يوم
فارقها فإذا قال النساء بها حمل أنفق عليها حتى تضع ولما مضى (قال المزني)
رحمه الله هذا عندي أولى بقوله لأن الله عز وجل أوجب بالحمل والنفقة وحملها
قبل أن تضع ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ
بِالْحَمْلِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ بِالْوِلَادَةِ وَلَا
يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ قَبْلَ الْوَضْعِ وَذَلِكَ
الْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَوْ بِهِ. فَإِذَا بَانَتْ لِمَا رَأَتْ
وَغَلَبَ وُجُودُهُ فِي الظَّنِّ كَانَ حُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ
مَوْقُوفًا عَلَى أَمْرِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَلَا
يُوقَفُ عَلَى الْيَقِينِ بِالْوِلَادَةِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ "
وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي إِبِلِ
الدِّيَةِ: " مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ".
(11/467)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَلْ يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى الْيَقِينِ أَوْ
عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ فِي
عِدَّتِهَا.
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا عَلَى الْيَقِينِ وَأَنْ لَا
يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ كَالْمِيرَاثِ
وَالْوَصِيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يكون ما ظن بها من الحمل غلطاً أَوْ رِيحًا
فَانْفَشَّ وَلَا تَسْتَحِقُّ بِهِ نَفَقَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ
إِيجَابُ حَقٍّ بِشَكٍّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ
الظَّنِّ.
فَإِذَا قَالَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ مِنَ الْقَوَابِلِ إِنَّ
بِهَا حَمْلًا حَكَمْنَا لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ فِي
الْبَاطِنِ كَمَا قُلْنَا فِي تَحْرِيمِ الْوَطْءِ وَالرَّدِّ بِعَيْبِهِ
فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي
مُدَّةِ الْحَمْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ حَيْثُ عُمِلَ فِيهَا
عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ حَيْثُ
عُمِلَ فِيهِمَا عَلَى الْيَقِينِ أَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ
بِالْحَمْلِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَبْلَ
الْوِلَادَةِ وَالْمِيرَاثُ وَالْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَانِ بحياة فلم يتعلق
إِلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ. فَإِذَا قِيلَ بِالْأَوَّلِ إِنَّهُ لَا
يَعْمَلُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْيَقِينِ وَقَفَ أَمْرُ الْحَامِلِ حَتَّى
تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا تَامًّا أَوْ نَاقِصًا
أُعْطِيَتْ نَفَقَةَ مَا مَضَى لَهَا إِلَى أَنْ وَضَعَتْ وَلَا تُعْطَى
النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ نِفَاسِهَا، لِأَنَّهَا تَحِلُّ فِيهِ لِعَقْدِ
الْأَزْوَاجِ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يُعْمَلُ فِيهِ عَلَى غَلَبَةِ
الظَّنِّ أُعْطِيَتْ نَفَقَةَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ، فَإِنْ وَلَدَتْ لِمُدَّةِ
أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ تَحَقَّقَ اسْتِحْقَاقُهَا لِمَا
أَحْدَثَ وَإِنِ انْفَشَّ مَا بِهَا أَوْ وَلَدَتْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ
فَصَاعِدًا اعلم أَنَّهَا لَمْ تَسْتَحِقَّ مَا أَحْدَثَ فَيَسْتَرْجِعُ
جَمِيعَهُ إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا
اسْتَرْجَعَ مَا زَادَ عَلَى نَفَقَةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ.
(الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمُلَاعَنَةِ)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَنَفَاهُ
وَقَذَفَهَا لَاعَنَهَا وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ
وَلَاعَنَ مِنْهَا بَعْدَ قَذْفِهِ صَحَّ لِعَانُهُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِيهِ. لِأَنَّ نَفْيَهُ تَبَعٌ لِرَفْعِ الْفِرَاشِ وَلَهَا
السُّكْنَى فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ عَنْ نِكَاحٍ
صَحِيحٍ.
وَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لِانْتِفَاءِ حَمْلِهَا
عَنْهُ بِاللِّعَانِ فَصَارَتْ كَالْحَائِلِ سواء قيل إن النفقة لحملها
أولها لِأَجْلِ الْحَمْلِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا
بِوَضْعِهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَاحِقًا بِهِ، فَهَلَّا وَجَبَتْ لَهَا
النَّفَقَةُ كَاللَّاحِقِ؟ قِيلَ: الْعِدَّةُ تَجِبُ لاستبراء الرحم
(11/468)
وَالتَّعَبُّدِ وَلِئَلَّا يَلْحَقَ
بِزَوْجٍ غَيْرِهِ وَهُوَ أَقْوَى مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ،
فَاسْتَوَى فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ مَنْ
يَلْحَقُ وَمَنْ لَا يَلْحَقُ، وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ لِلْحَمْلِ لِأَنَّهُ
مُنَاسِبٌ وَالْمَنْفِيَّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ فَلَمْ تَجِبْ لَهُ وَلَا
نَفَقَةَ، فَإِنْ نَفَى حَمْلَهَا بَعْدَ أَنْ أَبَانَهَا بِالْخُلْعِ أَوْ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَفِي جَوَازِ لِعَانِهِ مِنْهَا لِنَفْيِ
الْحَمْلِ قَوْلَانِ، مَضَيَا فِي كِتَابِ اللِّعَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ اعْتِبَارًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي
نَفْيِهِ وَنَفَقَتِهِ، فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ إِذَا
لَاعَنَ وَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ حَتَّى
تَضَعَ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي نَفْيِهِ وَنَفَقَتِهِ فَعَلَى هَذَا
إِذَا وَضْعَتْ لَاعَنَ وَسَقَطَتْ عَنْهُ النفقة.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ وَلَحِقَ بِهِ
الْوَلَدُ ثُمَّ أَخَذَتْ مِنْهُ النَّفَقَةَ الَّتِي بَطَلَتْ عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِ حَمْلِهَا
أَوْ وَلَدِهَا بِاللِّعَانِ.
وَإِكْذَابُهُ لِنَفْسِهِ قَدْ يَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا
بِأَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِي قَذْفِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُكَذِّبَ
نَفْسَهُ فِي نَفْيِ وَلَدِهَا فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ فِي
الْحَالَيْنِ، وَيُحَدُّ بِقَذْفِهَا عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ،
وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي
أَيَّامِ حَمْلِهَا فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ مُدَّةَ حَمْلِهَا،
وَلَا يَكُونُ لِلِعَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي سُقُوطِهَا كَمَا لَمْ يُؤَثِّرْ
فِي نَفْيِ وَلَدِهَا.
(الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْقَوَابِلِ في النفقة)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَعْطَاهَا بِقَوْلِ الْقَوَابِلِ
أَنَّ بِهَا حَمْلًا ثُمَّ عَلِمَ أَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَمْلٌ أَوْ
أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَجَاوَزَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا
أَخَذَتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا بَانَتْ مِنْهُ بِالْخُلْعِ أَوْ
بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَادَّعَتِ الْحَمْلَ فَصَدَّقَهَا أَوْ أَنْكَرَ
فَشَهِدَ الْقَوَابِلُ بِحَمْلِهَا وَدَفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا ثُمَّ
بَانَ أَنْ لَا حَمْلَ بِهَا أَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا لِأَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعِ سِنِينَ لَا يَلْحَقُ بِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي النَّفَقَةِ
مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا؛
لِأَنَّهُ دَفَعَهَا مُجْبَرًا، وَقَدْ عَلِمَ سُقُوطَهَا فَاسْتَحَقَّ
الرُّجُوعَ بِهَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ كَانَ بِظَاهِرٍ بَانَ
خِلَافُهُ فَبَطَلَ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِاجْتِهَادٍ خَالَفَ فِيهِ نَصًّا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ النَّفَقَةَ إِلَيْهَا بِغَيْرِ
حُكْمٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ النفقة للحامل فتستحقه في الحال يوماً بيوم
رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ صَدَّقَ عَلَى الْحَمْلِ لِأَنَّ الْيَقِينَ
قَدْ رَفَعَ حُكْمَ التَّصْدِيقِ، وَيَكُونُ دَفْعُهَا بِغَيْرِ حُكْمٍ
كَدَفْعِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِحُكْمٍ، لِأَنَّهُ لَوْ حُوكِمَ
(11/469)
لَأُجْبِرَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ نَفَقَةَ
الْحَامِلِ لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا بَعْدَ الْوَضْعِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ
عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا التَّعْجِيلَ أَوْ لَا
يَشْتَرِطَ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ فِيهَا التَّعْجِيلَ لَمْ يَرْجِعْ
بِهَا، لِأَنَّهَا مِنْهُ تَطَوُّعٌ، وَإِنِ اشْتَرَطَ فِيهَا
التَّعْجِيلَ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْ تَضَمَّنَهَا الرُّجُوعُ بِهَا إِنِ انْفَشَّ حَمْلُهَا
فَلَهُ الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا بِالشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُضَمِّنَهَا الرُّجُوعَ بِهَا فَفِي
اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَرْجِعُ بِهَا تَغْلِيبًا
لِحُكْمِ مَا اشْتَرَطَهُ مِنَ التَّعْجِيلِ، كَمَا يَسْتَرْجِعُ تَعْجِيلَ
الزَّكَاةِ عِنْدَ تَلَفِ ماله إذا اشتراطه.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا إِذَا اشْتَرَطَ التَّعْجِيلَ
حَتَّى يَشْتَرِطَ التَّضْمِينَ مَعَهُ لِاحْتِمَالِ التَّعْجِيلِ
وَإِخْلَالِهِ بِالتَّضْمِينِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى، وَلَوْ نَكَحَ
امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا ثُمَّ عَلِمَ فَسَادَ
نِكَاحِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَنْفَقَ بِخِلَافِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
نَفَقَةِ الْحَامِلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَنْفَقَ فِي
مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ، وَفِي الْحَامِلِ
أَنْفَقَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ.
(الْقَوْلُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَلَمْ
تُقِرَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ كَانَ حَيْضُهَا يَخْتَلِفُ فَيَطُولُ
وَيَقْصُرُ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ اليقين
وأطرح الشك (قال المزني) رحمه الله إِذَا حُكِمَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ
قَائِمَةٌ فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ في القياس لها بالعدة قائمة ولو جاز قطع
النفقة بالشك في انقضاء العدة لجاز انقطاع الرجعة بالشك في انقضاء العدة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالنَّفَقَةُ فِي
الْعِدَّةِ فِيهِ وَاجِبَةٌ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِأَنَّ
أَحْكَامَ الزَّوْجَاتِ عَلَيْهَا جَارِيَةٌ وَاسْتِمْتَاعَهُ بِهَا
مُمْكِنٌ إِذَا أَرَادَ وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا وادعت حملاً ظهرت أمارته
وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ مُدَّةَ حَمْلِهَا وَتَتَعَجَّلُهَا يَوْمًا
بِيَوْمٍ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي العدة
مع وجوب الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ فَتَعَجَّلَتْ لِوَقْتِهِ وَلَمْ يُوقَفْ
عَلَى الوضع، ولها فيما بعد حالتان:
أحدهما: أن تنفش حَمْلُهَا وَيَظْهَرَ أَنَّهُ كَانَ رِيحًا وَغِلَظًا
فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ تَسْتَحِقُّ فِيهَا
نَفَقَتَهَا وَتَرُدُّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهَا
فِي مِقْدَارِ الْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِيمَا
تَذْكُرُهُ مِنْ مُدَّةِ أَقْرَائِهَا مِنْ سَبْعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ والظهر مَعْرُوفَةً لَا
تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ قَدْرَ الْعَادَةِ
(11/470)
مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ
فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا، فَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ نُقْصَانَ عَادَتِهَا
فَلَهُ إِحْلَافُهَا، لِأَنَّ النُّقْصَانَ مُمْكِنٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُتَّفِقَةً لَا
تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ زِيَادَةَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي زِيَادَةِ الْعَادَةِ،
لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ وَهِيَ مُصَدِّقَةٌ عَلَى نَفْسِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُتَّفِقَةً لَا
تَخْتَلِفُ فَتَذْكُرَ نُقْصَانَ عَادَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَا
يَمِينَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَضَرُّ بِهَا، وَقَدْ تَقْضِي زَمَانَ
الرَّجْعَةِ فِي زِيَادَةِ الْعَادَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ
إِحْلَافُهَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَذْكُرَ
أَطْوَلَ الْعَادَتَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلِلزَّوْجِ إِحْلَافُهَا.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَذْكُرَ
أَقْصَرَ الْعَادَتَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ
إِحْلَافُهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَضَرُّ بِهَا، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَمْ
يَرُدُّهَا الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا
الْأَقْصَرَ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَأَطْرَحُ لِلشَّكِّ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا مُخْتَلِفَةً فَتَجْهَلَ
انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ هَلْ كَانَتْ بِأَطْوَلِ الْعَادَةِ أَوْ
بِأَقْصَرِهَا فَلَا يَدْفَعُ إِلَيْهَا إِلَّا نَفَقَةَ الْأَقْصَرِ،
لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَالْأَطْوَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ
دَاخِلٌ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: وَكَانَ حَيْضُهَا
يَخْتَلِفُ فَيَطُولُ وَيَقْصُرُ لَمْ أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ،
لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَأَطْرَحُ لِلشَّكِّ، يَعْنِي أَطْوَلَ عَادَتِهَا.
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَجْعَلَ قَدْرَ عَادَتِهَا فِي الطُّولِ
وَالْقِصَرِ، فَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ أَقَلِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي
فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا
وَسَاعَتَانِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ: " لَمْ
أَجْعَلْ لَهَا إِلَّا الْأَقْصَرَ " يَعْنِي أَقْصَرَ مَا يُمْكِنُ
فَيَدْخُلُ هَذَانِ الْقَسَمَانِ فِي مُرَادِهِ بِالْأَقْصَرِ، وَإِنِ
اخْتَلَفَ الْأَقْصَرُ فِيهِمَا فَكَانَ فِي السَّادِسِ مِنْ أَقْصَرِ
عَادَتِهَا وَفِي السَّابِعِ أَقْصَرَ مَا يُمْكِنُ.
(فَصْلٌ)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَضَعَ مَا ادَّعَتْهُ مِنَ الْحَمْلِ
فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَضَعَهُ إِلَى مُدَّةِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ
الطَّلَاقِ فَيَكُونَ الْوَلَدُ لَاحِقًا بِالْمُطَلِّقِ وَتَسْتَحِقَّ
النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ
لِانْقِضَاءِ العدة توضع الْحَمْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ
مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَفِي لُحُوقِهِ قَوْلَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي
كِتَابَيِ " الرَّجْعَةِ " وَ " الْعِدَدِ ".
أَحَدُهُمَا: يَلْحَقُ بِهِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي
أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا
(11/471)
تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَلَهَا
عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ
لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْحَقُ بِهِ كَالْبَائِنِ لِاجْتِمَاعِهِمَا
فِي اسْتِحَالَةِ عُلُوقِهِ قَبْلَ طَلَاقِهَا، فَعَلَى هَذَا تُسْأَلُ
عَنْ حَالِ الْحَمْلِ وَلَا يَخْلُو حَالُ جَوَابِهَا فِيهِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ الزَّوْجَ الْمُطَلِّقَ أَصَابَهَا
بِرَجْعَةٍ أَوْ غَيْرِ رَجْعَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَدَّعِيَ أَجْنَبِيًّا أَصَابَهَا
بِشُبْهَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تقر أن رجلاً زنا بِهَا سَفْحًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا تَعْزِيَهُ إِلَى جِهَةٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ عَلَى الزَّوْجِ
أَنَّهُ أَصَابَهَا فِي الْعِدَّةِ فَيُسْأَلُ الزَّوْجُ عَنْ دَعْوَاهَا
فَإِنْ صَدَّقَهَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَانْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ،
فَأَمَّا النَّفَقَةُ فتستحق منها النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ
أَقْرَاءٍ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا لِنَفَقَةِ مَا بَعْدَهَا مِنْ بَقِيَّةِ
مُدَّةِ الْحَمْلِ قَوْلَانِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَا مِنْ
نِكَاحٍ، وَإِنْ أَكْذَبَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا
يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ عَلَى
الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا
لِانْتِفَائِهِ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ
لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ كَحَمْلِ
الْمُلَاعَنَةِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ
بِاللِّعَانِ وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ؛ لِأَنَّ حَمْلَ
الْمُلَاعَنَةِ كَانَ قبل اللعان لاحقا فجاز أن تنقض بِهِ الْعِدَّةُ
وَحَمْلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةِ قَدْ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى
الْمَرْدُودَةِ غَيْرَ لَاحِقٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ
ثُمَّ نَاقَضَ أَبُو حَامِدٍ فِي قَوْلِهِ فَجَعَلَ عِدَّتَهَا بِوَضْعِ
الْحَمْلِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا النَّفَقَةَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ،
وَكَانَ فَرْقُهُ بَيْنَ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ
عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيمَا عَلَيْهَا
وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِيمَا لَهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِهَذَا الْفَرْقِ
يَفْسَدُ بِالْمُدَّعِيَةِ فِي عِدَّةِ أَقْرَائِهَا زِيَادَةً عَلَى
عَادَتِهَا قَوْلُهَا مَقْبُولٌ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ
وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا وَالنَّفَقَةُ لَهَا، وَقَدْ قَالَ
الْمُزَنِيُّ: إِذَا حُكِمَ بِأَنَّ الْعِدَّةَ قَائِمَةٌ فَكَذَلِكَ
النَّفَقَةُ فِي الْقِيَاسِ لَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَا
تَنْقَضِي بِوَضْعِ هَذَا الْحَمْلِ، أَنْ تُسْأَلَ عَمَّا ادَّعَتْهُ مِنْ
وَطْءِ الزَّوْجِ، فَإِنْ قَالَتْ وَطِئَنِي عَقِيبَ طَلَاقِي لَزِمَهَا
أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، لِأَنَّهَا
مُقِرَّةٌ أَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ لَا
نَفَقَةَ لَهَا فِيمَا تَعْتَدُّ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْرَاءِ
الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِإِقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
بِالْوِلَادَةِ وَلَا رَجْعَةَ فِيهَا لِلزَّوْجِ لِإِكْذَابِهَا فِيمَا
ادَّعَتْهُ مِنَ الْإِصَابَةِ، وَإِنْ قَالَتْ وَطِئَنِي بَعْدَ مُضِيِّ
أَقْرَائِي كَأَنَّهَا قَالَتْ وَطِئَنِي فِي الْقُرْءِ الثَّالِثِ
(11/472)
بَعْدَ مُضِيِّ قُرْأَيْنِ احْتَسَبَتْ
بِالْقُرْأَيْنِ الْأَوَّلِينِ وَاعْتَدَّتْ بِقُرْءٍ ثَالِثٍ بَعْدَ
الْوِلَادَةِ تَنْقَضِي بِهِ بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَنَّ أَجْنَبِيًّا
أَصَابَهَا بِشُبْهَةٍ فَدَعَوَاهَا إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرُ
مَقْبُولَةٍ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ، فَإِنْ صَدَّقَهَا لَحِقَ
بِهِ الْوَلَدُ وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهَا مِنْ إِصَابَتِهِ، فَأَمَّا
عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ فَتُسْأَلُ الْمُطَلَّقَةُ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي
أَصَابَهَا فِيهِ الْأَجْنَبِيُّ، وَلَهَا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ
أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَدَّعِيَهُ عَقِيبَ طَلَاقِهَا فَيَكُونَ ذَلِكَ
إِقْرَارٌ مِنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ عَنْ مُطَلِّقِهَا
فَيَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ عَنْهُ بَعْدَ وِلَادَتِهَا بِثَلَاثَةِ
أَقْرَاءٍ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهَا نَفَقَةَ الْحَمْلِ،
وَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْحَمْلِ،
وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ إِنْ صَدَّقَهَا عَلَى
إِصَابَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ إِنْ أَكْذَبَهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ الثَّلَاثَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا
فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَعْتَدَّ لِلزَّوْجِ
بَعْدَ وِلَادَتِهَا وَيَسْتَرْجِعَ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا إِلَّا
مُدَّةَ أَقْرَائِهَا الثَّلَاثَةِ، وَالْقَوْلُ فِي قَدْرِهَا عَلَى مَا
مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ إِذَا انْفَشَّ حَمْلُهَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ إِصَابَةَ الْأَجْنَبِيِّ فِي
تَضَاعِيفِ أَقْرَائِهَا، كَأَنَّهَا ادَّعَتْ إِصَابَتَهُ فِي الْقُرْءِ
الثَّانِي بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَوَّلِ فَتُحْسَبَ لَهَا بِقُرْءٍ،
وَعَلَيْهَا أَنْ تَأْتِيَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِقُرْأَيْنِ، ويسترجع منها
نفقة الحمل إلا قرء واحد وَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ قُرْأَيْنِ بَعْدَ
الْوِلَادَةِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَجْهَلَ الْوَقْتَ الَّذِي ادَّعَتْ فِيهِ
الْإِصَابَةَ وَلَا تُخْبِرَ بِهِ فَتَصِيرَ شَاكَّةً فِي انْقِضَاءِ
عِدَّتِهَا. فَيَلْزَمَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِثَلَاثَةِ
أَقْرَاءٍ لِتَقْضِيَ عِدَّتَهَا بِيَقِينٍ، وَيَسْتَرْجِعَ الزَّوْجُ
مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ منه، ويدفع
الزَّوْجُ مِنْهَا نَفَقَةَ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِشَيْءٍ
مِنْهُ، وَيَدْفَعَ إِلَيْهَا نَفَقَةَ عِدَّتِهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ،
لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ نَفَقَةَ عِدَّةٍ، وَلَا
يُرَاجِعَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ لِلشَّكِّ فِي اسْتِبَاحَتِهَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ تقر أن رجلاً زنا بِهَا
فَتَعْتَدَّ بِمَا مَضَى مِنْ أَقْرَائِهَا قَبْلَ الزِّنَا وَبَعْدَهُ،
وَلَا تَفِسَدَ الْأَقْرَاءُ بِوَطْءِ الزِّنَا وَتَعْتَدَّ بِحَيْضِهَا
عَلَى الْحَمْلِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ ما تراه الحامل من الدم حيضاً أَوْ
لَيْسَ بِحَيْضٍ، لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ هَذَا
الْحَمْلِ فَاعْتَدَّتْ فِيهِ بِالْحَيْضِ، وَإِنْ سَقَطَ حُكْمُهُ فِي
الْعِبَادَاتِ إِذَا قِيلَ لَيْسَ بِحَيْضٍ وَيَسْتَرْجِعَ مِنْهَا
نَفَقَةَ حَمْلِهَا إِلَى مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ يَرْجِعُ فِيهَا
إِلَى قَوْلِهَا عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ.
(11/473)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ
أَنْ لَا تَعْزِيَ وطأها إلى أحد أن تنكر أو يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا أَحَدٌ
فَيَجْرِيَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ حُكْمُ وَطْءِ الزِّنَا فَيَكُونَ
حُكْمُهَا فِي الْعِدَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْقَوْلُ في نفقة الحمل)
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أَعْلَمُ حُجَّةً بِأَنْ لَا
يُنْفِقَ عَلَى الْأَمَةِ الْحَامِلِ، وَلَوْ زَعَمْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ
لِلْحَمْلِ كَانَتْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ لَا تَبْلُغُ بَعْضَ نَفَقَةِ أمة
ولكنه حكم الله جل ثناؤه (وقال) في كتاب الإملاء: النفقة على السيد (قال
المزني) رحمه الله: الأول أحق به لأنه شهد أنه حكم الله وحكم الله أولى مما
خالفه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ الْمَبْتُوتَةِ وَاجِبَةٌ، وَهَلْ وَجَبَتْ
لِحَمْلِهَا أَوْ لَهَا؟ لِأَنَّهَا حَامِلٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ
إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَجُمْهُورُ
أَصْحَابِنَا. أَنَّهَا وَجَبَتْ لَهَا لِكَوْنِهَا حَامِلًا لِأَرْبَعَةِ
مَعَانٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِكِفَايَةِ الْأُمِّ وَنَفَقَاتُ
الْأَقَارِبِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ بِكِفَايَاتِهِمْ
لَا بِكِفَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لِلْحَمْلِ لَمَا تَقَدَّرَتْ
وَلَكَانَتْ بَعْضَ نَفَقَةِ أَمَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ
الْمُطَالَبَةِ وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ
الْمُطَالِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَهَا لَا لِحَمْلِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ إِذَا مَلَكَ
الْحَمْلُ مَالًا مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ
فِي مَالِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا عَلَى
الْأَبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْحَمْلِ لَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ
الْجَدُّ بِهَا عِنْدَ إِعْسَارِ الْأَبِ وَفِي سُقُوطِهَا عَنْهُ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ لَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "
الْإِمْلَاءِ " إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ لَا لِلْحَامِلِ
لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّفَقَةَ لما وجبت لوجود الحمل وسقطت بعدمه عَلَى
وُجُوبِهَا لِلْحَمْلِ دُونَ أُمِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الْحَمْلِ بَعْدَ
انْفِصَالِهِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ لِتَحْفَظَ بِهَا
حَيَاتَهُ في الحالين.
(11/474)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ
نَفَقَةُ الْمُرْضِعَةِ تَجِبُ لِلْمُرْضِعِ دُونَهَا وَإِنْ تَقَدَّرَتْ
بِكِفَايَتِهَا كَانَتْ نَفَقَةُ الْحَامِلِ بِمَثَابَتِهَا تَجِبُ
لِلْحَمْلِ دُونَهَا وَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا دُونَهُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا إن أبت
الحرة طَلَاقَ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ وَهِيَ حَامِلٌ فَإِنْ قِيلَ
بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا مُدَّةَ حَمْلِهَا، وَإِنْ قِيلَ
بِالْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ
وَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى سَيِّدِهَا دُونَ زَوْجِهَا، لِأَنَّ الْحَمْلَ
مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ دُونَ الأب، ولو
أبى الْعَبْدُ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ وَهِيَ حَامِلٌ فَعَلَى
الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ دُونَ الْحَمْلِ
تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي إِنَّ
النَّفَقَةَ لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْهُ،
لِأَنَّ الْعَبْدَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَلَا تَجِبُ
عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَأَمَّا كُلُّ نِكَاحٍ كَانَ مَفْسُوخًا
فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ (وقال)
في موضع آخر إلا أن يتطوع المصيب لها بذلك ليحصنها فيكون ذلك لها بتطوعه
وله تحصينها وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّكَاحُ الْمَفْسُوخُ فَيَنْقَسِمُ
ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْسُوخَ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ كَالنِّكَاحِ
بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَبِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ
وَالشِّغَارِ فَلَا تَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ لَا فِي حَالِ
الِاجْتِمَاعِ وَلَا فِي حَالِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ إِذَا
كَانَتْ حَائِلًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِحْقَاقِ
التَّمْكِينِ، وَمَعَ فَسْخِ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّمْكِينُ
فَلَمْ تَجِبْ لَهَا النَّفَقَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ لِحُرْمَةِ الْعَقْدِ،
وَلَيْسَ لِلْمَفْسُوخِ حُرْمَةٌ فَلَمْ تَجِبْ بِهِ نَفَقَةٌ، فَإِنْ
كَانَتْ حَامِلًا فِي حَالِ الْعِدَّةِ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ لَهَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا لِلْحَامِلِ دُونَ
الْحَمْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا
لِلْحَمْلِ دُونَ الْحَامِلِ.
(فَصْلٌ)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ
الْعَقْدِ بِمَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتَدَامَتِهِ وَلَا يُوجِبُ رَفْعَهُ مِنْ
أَصْلِهِ كَالْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ إِذَا جُعِلَ لِلزَّوْجِ الْفَسْخُ
لِحُدُوثِهَا فَتَسْتَحِقُّ بَعْدَ فَسْخِهِ الصَّدَاقَ الْمُسَمَّى
وَتَكُونُ فِي عِدَّتِهَا كالمبتوتة لانفقة لَهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا،
وَلَهَا النَّفَقَةُ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا.
(فَصْلٌ)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ بَعْدَ صِحَّةِ
الْعَقْدِ بِمَا يُوجِبُ رَفْعَهُ مِنْ
(11/475)
أَصْلِهِ كَالْعُيُوبِ الْمُتَقَدِّمَةِ
إِذَا فَسَخَ الزَّوْجُ بِهَا. أن يقع العقد من اصله يقدم سَبَبُ الْفَسْخِ
عَلَى الْعَقْدِ وَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَفْسُوخِ حَالَ الْعَقْدِ
كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ كَالْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ
سَقَطَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ وَجَبَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ
الْمُسَمَّى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَسْخِ الطَّارِئِ
الْمَانِعِ مِنَ الِاسْتِدَامَةِ وَلَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ
كَالْقِسْمِ الثَّانِي وهو وُجُوبَ النَّفَقَةِ قَبْلَ الْفَسْخِ
تَسْتَحِقُّ وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ الْفَسْخِ
لِوُجُودِ مُوجِبَيِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْفَسْخِ، وَهُمَا وُجُوبُ
التَّمْكِينِ وَحُرْمَةُ الْعَقْدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَفَقَةُ مَا بَعْدَ الْفَسْخِ مِنْ عِدَّةِ
الْحَمْلِ ذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى إِلْحَاقِهَا
بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْمَفْسُوخِ مِنْ أَصْلِهِ وَخَرَّجَ
اسْتِحْقَاقَهَا فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ اسْتِدْلَالًا
بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِرَفْعِهِ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ الثَّانِي لِاسْتِحْقَاقِ
مَهْرِ الْمِثْلِ فِيهِ دُونَ الْمُسَمَّى، وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ
يَلْحَقُ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فِي الْفَسْخِ الطَّارِئِ الرَّافِعِ
لِاسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا في عدة الحمل على القولين
معاً لوجود مُوجِبَيِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْفَسْخِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ
التَّمْكِينِ وَحُرْمَةِ الْعَقْدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(11/476)
(باب النفقة على
الأقارب من كتاب النفقة ومن ثلاثة كتب)
(مسألة)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " فِي كِتَابِ اللَّهَ
تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانٌ
أَنَّ عَلَى الْأَبِ أَنْ يَقُومَ بِالْمُؤْنَةِ فِي إِصْلَاحِ صِغَارِ
وَلَدِهِ مِنْ رَضَاعٍ وَنَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ دُونَ أُمِّهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ بِدَلِيلِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعِبْرَةِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فَدَلَّتْ
هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْآبَاءِ دُونَ
الْأُمَّهَاتِ، وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ اشْتِغَالَ الْأُمِّ بِتَرْبِيَةِ
وَلَدِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ نَفَقَتِهَا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ
أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، يَعْنِي
الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا أَرْضَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَجَبَتْ لَهُنَّ
أُجْرَةُ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا لَزِمَتْ أُجْرَةُ الرَّضَاعِ كَانَ
لُزُومُ النَّفَقَةِ أَحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}
[الإسراء: 31] ، فَلَوْلَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مَا قَتَلَهُ
خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ مِنَ النَّفَقَةِ.
وَأَمَّا دَلِيلُ السُّنَّةِ فَمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ
عَنْ أَبِي عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: فَقَالَ: إِنَّ مَعِي دِينَارًا قَالَ: أَنْفِقْهُ عَلَى
نَفْسِكَ قال: إن معي آخر قال: أنفقه عَلَى وَلَدِكَ قَالَ: إِنَّ مَعِي
آخَرَ قَالَ: أَنْتَ أَعْلَمُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ
لِلْوَلَدِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ هِنْدَ أُمَّ
مُعَاوِيَةَ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ
لَا يُعْطِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا آخُذُ مِنْهُ سِرًّا وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ
بِالْمَعْرُوفِ)) ، فَدَلَّ هَذَا أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ
الْوَلَدِ.
وَأَمَّا الْعِبْرَةُ فَإِنَّ وُجُودَ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا
وَأَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا
(11/477)
تَعْتِقُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا
يَشْهَدُ لَهُ كَمَا لَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُنْفِقَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ.
(الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ فَهِيَ
مُعْتَبَرَةٌ بِشُرُوطٍ فِي الْوَلَدِ وَشُرُوطٍ فِي الْوَالِدِ.
فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَلَدِ، فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا كَانَ سَيِّدُهُ
أَحَقَّ بِالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ مِنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ مَالِكُ كَسْبِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أن يكون فقيراً لا مال له إن كَانَ لَهُ مَالٌ
كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ
لَا تَجِبُ إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَعَجْزُهُ
عَنْهُ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا بِنُقْصَانِ خَلْقِهِ وَإِمَّا بِنُقْصَانِ أَحْكَامِهِ، أَمَّا
نُقْصَانُ خَلْقِهِ فَكَالْعَمَى وَالزَّمَانَةِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ
أَحْكَامِهِ فَكَالصِّغَرِ وَالْجُنُونِ.
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى الْأَبِ
فَثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ. لِيَكُونَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ،
فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ، لأنه لما
تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِ
نَفَقَةُ وَلَدِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى نَفَقَتِهِ،
وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهَا تَكُونُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا مِنْ
يَسَارٍ بِمَالٍ يَمْلِكُهُ، وَإِمَّا بِكَسْبِ بَدَنِهِ، لِأَنَّ
الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ تُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمَ الْغِنَى
وَتَسْلُبُهُ حُكْمَ الْفَقْرِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِرَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ عَنِ الزَّكَاةِ إِنْ
شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ ".
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا فَاضِلَةً عَنْ نَفَقَةِ
نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْضُلْ عَنْهَا سَقَطَتْ عَنْهُ. لِقَوْلِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ
ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ ".
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " النوفية دلالة أن النفقة ليست على الميراث
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {وعلى الوارث مثل ذلك} من أن
لا تضار والدة بولدها لا أن عليها النفقة ".
قال الماوري: وَهَذَا صَحِيحٌ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِتَحَمُّلِ نَفَقَةِ
الْوَلَدِ أَبَوَاهُ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ
(11/478)
فِيهِمَا شُرُوطُ الِالْتِزَامِ، فَإِنْ
أَعْسَرَ الْأَبُ بِهَا أَوْ مَاتَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ
تَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَبِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْجَدِّ
أبي الأب ثم أباؤه وَإِنْ عَلَوْنَ دُونَ الْأُمِّ. سَوَاءٌ مَاتَ الْأَبُ
أَوْ أَعْسَرَ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ
وَلَا عَلَى الْجَدِّ، سَوَاءٌ مَاتَ الْأَبُ أَوْ أَعْسَرَ؛ لِبُعْدِ
نَسَبِ الْجَدِّ وَضَعْفِ النِّسَاءِ عَنِ التَّحَمُّلِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِنْ
أَعْسَرَ الْأَبُ تَحَمَّلَتْهَا الْأُمُّ لِتَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ إِذَا
أَيْسَرَ وَإِنْ مَاتَ الْأَبُ كَانَتْ عَلَى الْجَدِّ دُونَ الْأُمِّ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَوْتِ
الْأَبِ وَإِعْسَارِهِ عَلَى الْجَدِّ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا
كَالْمِيرَاثِ، ثُلُثُهَا عَلَى الْأُمِّ وَثُلُثَاهَا عَلَى الْجَدِّ.
اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} الْآيَةَ إِلَى أَنْ قَالَ {وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك} يَعْنِي مِثْلَمَا كَانَ عَلَى الْأَبِ مِنْ
رِزْقِهِنَّ وَكِسْوَتِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْأُمُّ وَالْجَدُّ
وَارِثَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي تَحَمُّلِ ذَلِكَ
كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ وَهَذَا نَصٌّ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ الْجَدَّ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ
فَانْطَلَقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ}
[الأعراف: 26] فَسَمَّانَا أَبْنَاءً وَسَمَّى آدَمَ أَبًا، وَقَالَ عَزَّ
وَجَلَّ {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فَسَمَّاهُ أَبًا
وَإِنْ كَانَ جَدًّا بَعِيدًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الْجَدُّ مَقَامَ
الْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ وَاخْتَصَّ دُونَ الْأُمِّ بِالتَّعْصِيبِ وَجَبَ
أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي الْتِزَامِ النَّفَقَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ
فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التأويل في المراد بالوارث هاهنا
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ الْمَوْلُودُ يَلْتَزِمُ نَفَقَةَ أُمِّهِ بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ كَمَا الْتَزَمَهَا أَبُوهُ، وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ بْنِ
ذُؤَيْبٍ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَسْقُطُ الدَّلِيلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَارِثَ الْأَبِ فَعَلَى هَذَا الْجَدُّ
الَّذِي هُوَ أبوه أخص بميراثه نسباً من الأم هي زوجته فسقط الدليل.
والثالث: وَارِثُ الْمَوْلُودِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِ مثل ذلك مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الزُّهْرِيُّ وَالضَّحَّاكُ فِي أَنْ لَا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى
التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِهَا عَلَى الْجَدِّ دُونَ
الْأُمِّ فَهِيَ بَعْدَ الْجَدِّ عَلَى آبَائِهِ وَإِنْ بَعُدُوا دُونَ
الْأُمِّ، وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْعَدِ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ
الْأَقْرَبِ أَوْ عُسْرَتِهِ، فَإِذَا عُدِمُوا أَوْ أَعْسَرُوا انتقل
وجوبها إلى الأم.
قال مَالِكٌ: لَا تَجِبُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي
تَحَمُّلِ النَّفَقَاتِ لِقَوْلِ اللَّهِ
(11/479)
تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] فَأَوْجَبَ النَّفَقَةَ
لَهُنَّ وَلَمْ يُوجِبِ النَّفَقَةَ عَلَيْهِنَّ وَدَلِيلُنَا قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فَلَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْأُمِّ مَا عَجَزَ
عَنْهُ الْأَبُ مِنَ الرَّضَاعِ وَجَبَ عَلَيْهَا مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنَ
النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَفِي الْأَبِ
مَظْنُونَةٌ فَلَمَّا تَحَمَّلَتْ بِالْمَظْنُونَةِ كَانَ تَحَمُّلُهَا
بِالْمُسْتَيْقِنَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَحَمَّلَ الْوَلَدُ
نَفَقَةَ أَبَوَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَبَوَاهُ نَفَقَتَهُ،
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِوُرُودِهَا فِي نَفَقَاتِ
الزَّوْجَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ تَحَمُّلُ الْأُمِّ لَهَا كَالْأَبِ خَرَجَ مِنِ
الْتِزَامِهَا مَنْ عَدَا الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ مِنْ سَائِرِ
الْأَقَارِبِ وَالْعَصَبَاتِ، وَاخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا وَالْتِزَامِهَا
مَنْ فِيهِ بَعْضِيَّةٌ مِنْ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ
عَلَيْهِ مَنْ بَعْدُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ
وُجِدَ مِنْهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُمْ
أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لَا
يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ
الْأُمِّ، فَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ أَقَارِبُ الْأَبِ فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ
الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ فَإِنْ عُدِمَ أَوْ أَعْسَرَ انْتَقَلَتْ عَنْهُ
إِلَى جَدِّ الْجَدِّ، ثُمَّ كَذَلِكَ إِلَى جَدٍّ بَعْدَ جَدٍّ، فَإِذَا
عُدِمَ جَمِيعُ الْأَجْدَادِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى أُمِّ الْأَبِ
لِقِيَامِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَالْمِيرَاثِ مَقَامَ الْأَبِ، وَلَيْسَ
يُشَارِكُهَا فِي دَرَجَتِهَا بَعْدَ الْجَدِّ أَحَدٌ، فَإِذَا صَعِدَتْ
بَعْدَهَا دَرَجَةً اجْتَمَعَ فِيهَا بَعْدَ أَبِي الْجَدِّ ثَلَاثَةٌ:
أُمُّ أُمِّ أَبٍ، وَأَبُ أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِ أَبٍ، فَفِيهِ
لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي تَحَمُّلِهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِي
الدَّرَجَةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَعَدَمِ التَّعَصُّبِ، فَيَشْتَرِكُونَ فِي
تَحَمُّلِهَا بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَتَحَمَّلُهَا أُمُّ أَبِي الْأَبِ، لِأَنَّهَا
مَعَ مُسَاوَاتِهِمْ في الدرجة أقرب إدلاءاً بِعَصَبَةٍ لِتَحَمُّلِهَا،
وَأَرَى وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ عِنْدِي أَصَحُّ، أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ
فِيهِمْ مَعَ اسْتِوَاءِ الدَّرَجِ وَارِثٌ وَغَيْرُ وَارِثٍ كَانَ
الْوَارِثُ بِتَحَمُّلِهَا أَحَقَّ مِنْ غَيْرِ الْوَارِثِ لِقُوَّةِ
الْوَارِثِ عَلَى مَنْ لَا يَرْثُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا لِقُوَّةِ
سَبَبِهِ.
كَمَا تُقَدَّمُ الْعَصَبَةُ فِي تَحَمُّلِهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ
بِعَصَبَةٍ لِقُوَّتِهِمْ بِالتَّعَصُّبِ فَإِنِ اشْتَرَكَا فِي
الْمِيرَاثِ تَحَمَّلَهَا مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إدلاءاً
بِعَصَبَةٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ رَحِمُهُمْ تَحَمَّلَهَا الْأَقْرَبُ
فَالْأَقْرَبُ وَارِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ
كَانَ مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أُمُّ أَبٍ كَانَتْ أَحَقَّ
بِتَحَمُّلِهَا عَلَى الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
غَيْرُهُنَّ اشْتَرَكْ فِي تَحَمُّلِهَا أُمُّ أبي
(11/480)
الْأَبِ، وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ، وَتَسْقُطُ عَنْ أَبِي أُمِّ الْأَبِ
لِسُقُوطِ مِيرَاثِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا قَدَّمْتُهُ مِنْ
هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ فِي جَمِيعِ مَنْ
يَتَحَمَّلُهَا فَإِذَا صَعَدْتَ إِلَى دَرَجَةٍ رَابِعَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ
فِيهَا بَعْدَ جَدِّ الْجَدِّ الَّذِي لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي تَحَمُّلِهَا
مِنْهُمْ أَحَدٌ. سَبْعَةٌ:
أَحَدُهُمْ: أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ.
وَالثَّانِي: أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأَبِ.
وَالثَّالِثُ: أُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبٍ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ
وَارِثَاتٌ.
وَالرَّابِعُ: أَبُ أُمِّ أَبِي أَبٍ.
وَالْخَامِسُ أَبُ أُمِّ أُمِّ أَبٍ.
وَالسَّادِسُ: أَبُ أَبِي أُمِّ أَبٍ.
وَالسَّابِعُ: أُمُّ أَبِي أُمِّ أَبٍ وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ
الْأَرْبَعَةِ وَارِثٌ. فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّفَقَةَ يَتَحَمَّلُونَهَا بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ، فَإِنْ عُدِمَ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ تَحَمَّلَهَا مَنْ بَقِيَ وَلَا يَتَقَدَّمُ بِتَحَمُّلِهَا
وَارِثٌ عَلَى غَيْرِ وَارِثٍ وَلَا مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ عَلَى مَنْ
أَدْلَى بِغَيْرِ عَصَبَةٍ، وَهَذَا قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ فِي تَحَمُّلِ
النَّفَقَةِ قُرْبَ الدَّرَجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَمَّلُهَا مِنْهُمْ مَنْ أَدْلَى
بِعَصَبَةٍ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ وَارِثٌ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَذْكُورِينَ
مِنَ السَّبْعَةِ، أُمُّ أَبِي أَبِي الْأَبِ، وَتَسْقُطُ عَمَّنْ سِوَاهَا
لِاخْتِصَاصِهَا بِقُوَّتَيِ الْمِيرَاثِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ،
فَإِنْ عَدِمَتْ كَانَتْ عَلَى الثَّانِيَةِ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أَبِي
الْأَبِ لِاخْتِصَاصِهَا بَعْدَ الْأُولَى بِالْقُوَّتَيْنِ الْمِيرَاثُ
وَقُرْبُ الْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ فَإِنْ عُدِمَتِ الثَّانِيَةُ كَانَتْ
عَلَى الثَّالِثَةِ لِتَفَرُّدِهَا بِالْقُوَّتَيْنِ، فَإِنْ عُدِمَ
الثَّلَاثُ الْوَارِثَاتُ كَانَتْ عَلَى الرَّابِعِ، وَهُوَ أَبُ أُمِّ
أَبِي الْأَبِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إدلاءاً بعصبة وأقرب إدلاءاً بِوَارِثٍ،
فَإِنْ عُدِمَ الرَّابِعُ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ رَاعَى قُرْبَ الْإِدْلَاءِ بالعصبة
فجعلها على الثلاثة الباقيين بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ دَرَجِهِمْ فِي
الْإِدْلَاءِ بِالْعَصَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي رَأَيْتُ تَخْرِيجَهُ أَصَحَّ فِي
تقديم الوارث على من ليس بوارث. تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ أَقْرَبَ
إِدْلَاءً بِوَارِثٍ وَهُوَ الْخَامِسُ. أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ،
لِأَنَّهُ يُدْلِي بَعْدَ دَرَجَتِهِ بِوَارِثٍ، فَإِنْ عُدِمَ الْخَامِسُ
اسْتَوَى السَّادِسُ وَالسَّابِعُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ
بِالتَّعَصُّبِ عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَهُ وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي
الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ. لَكِنَّ
السَّادِسَ مِنْهُمَا ذَكَرٌ وَالسَّابِعَ أُنْثَى، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي
تَحَمُّلِ النَّفَقَةِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى
(11/481)
وَهُمَا يُدْلِيَانِ بِشَخْصٍ وَاحِدٍ
كَانَ الذَّكَرُ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا مِنَ الْأُنْثَى كَالْأَبَوَيْنِ،
وَلَوْ أَدْلَيَا بِشَخْصَيْنِ تَسَاوَيَا رُوعِيَتْ قُوَّةُ الْأَسْبَابِ،
فَإِنِ اسْتَوَتِ اشْتَرَكَا في التحمل، والسادس والسابع هاهنا يُدْلِيَانِ
بِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبُ أُمِّ الْأَبِ، فَالسَّادِسُ مِنْهُمَا
أَبُوهُ وَالسَّابِعُ أُمُّهُ، فَاخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا السَّادِسُ
الَّذِي هُوَ أَبُ أَبِي أُمِّ الْأَبِ دُونَ السَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ
أُمُّ أَبِي أُمِّ الأب، فإن عدم السادس بتحملها السَّابِعُ حِينَئِذٍ
ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَقَارِبُ
الْأُمِّ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِمْ عَصَبَةٌ وَيَخْتَصُّ
بِمَنْ فِيهِ مِنْهُمْ وِلَادَةً وَهُمْ فِي أَوَّلِ دَرَجَةٍ بَعْدَ
الْأُمِّ أَبَوَاهَا وَهُمَا أَبُ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأُمِّ فَهِيَ عَلَى
قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي
الدَّرَجَةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ فِي التَّرْجِيحِ
بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ تَجِبُ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ دُونَ أَبِي الْأُمِّ،
لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ دُونَهُ، وَلَهُ مَنِ اخْتُصَّ بِالذُّكُورَةِ،
فَالتَّرْجِيحُ بِالْمِيرَاثِ أَقْوَى، فَإِذَا صَعِدْتَ بَعْدَهُمَا إِلَى
دَرَجَةٍ ثَالِثَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ جِهَةِ
أَبِي الْأُمِّ أَبَوَاهُ وَمِنْ جِهَةِ أُمِّ الْأُمِّ أَبَوَاهَا
فَيَكُونُ أَحَدُهُمْ أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ، وَالثَّانِي أَبَ أُمِّ
الْأُمِّ وَالثَّالِثُ أَبَ أَبِي الْأُمِّ وَالرَّابِعُ أُمَّ أَبِي
الْأُمِّ فَهِيَ عَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجِ بَيْنَهُمْ
بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ وَهِيَ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ فِي التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ وَاجِبَةٌ
عَلَى أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا الْوَارِثَةُ مِنْ جَمِيعِهِمْ
فَإِنْ عُدِمَتْ وَجَبَتْ بَعْدَهَا عَلَى أَبِي أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ إِدْلَاءً بِوَارِثٍ، فَإِنْ عدم استوى الأثنان الباقيان فيها
وهما أبرأ أَبِي الْأُمِّ وَقَدْ أَدْلَيَا بِشَخْصٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا
ذَكَرٌ فَكَانَ أَحَقَّ بِتَحَمُّلِهَا وَوَجَبَتْ عَلَى أَبِي الْأُمِّ
دُونَ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، فَإِنْ صَعِدْتَ بَعْدَهُمْ إِلَى دَرَجَةٍ
رَابِعَةٍ اجْتَمَعَ لَكَ فِيهَا ثَمَانِيَةٌ أَحَدُهُمْ أُمُّ أُمِّ أُمِّ
الْأُمِّ وَالثَّانِي أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، وَالثَّالِثُ أَبُ أَبِي
أُمِّ الْأُمِّ، وَالرَّابِعُ أُمُّ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ وَالْخَامِسُ
أَبُ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، وَالسَّادِسُ أُمُّ أَبِي أَبِي الْأُمِّ،
وَالسَّابِعُ أَبُ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، وَالثَّامِنُ أُمُّ أُمِّ أَبِي
الْأُمِّ، فَعَلَى قَوْلِ مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجِ تَجِبُ عَلَى
جَمْعِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ، وَهِيَ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي اعْتَبَرْتُهُ، فِي التَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْمِيرَاثِ
تَجِبُ عَلَى الْأُولَى وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، لِأَنَّهَا
الْوَارِثَةُ مِنْ جَمِيعِهِمْ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَهِيَ عَلَى الثَّانِي
وَهُوَ أَبُ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِدْلَاءً
بِوَارِثٍ فَإِنْ عُدِمَ فَهِيَ عَلَى الثَّالِثِ وَهُوَ أَبُ أَبِي أُمِّ
الْأُمِّ، لِأَنَّهُ مَعَ الرَّابِعَةِ يُدْلِيَانِ بِأَبِي أُمِّ الْأُمِّ
الْمُدْلِي بِوَارِثٍ فَقُدِّمَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمَا لِبُعْدِ
إِدْلَائِهِمْ بِوَارِثٍ وَقُدِّمَ الثَّالِثُ لِذُكُورِيَّتِهِ عَلَى
الرَّابِعَةِ لِأُنُوثِيَّتِهَا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ
بِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنْ عُدِمَ الثَّالِثُ فَهِيَ عَلَى الرَّابِعَةِ
وَهِيَ أُمُّ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ، فَإِنْ عُدِمَتْ فَعَلَى الْخَامِسِ
وَهُوَ أَبُ أَبِي أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُ مَعَ السَّادِسَةِ
يُدْلِيَانِ بِأَبِي أَبِي أَبِي الْأُمِّ، فقدم الخامس لذكوريته
وإدلالئهما بِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ عُدِمَ كَانَتْ بَعْدَهُ عَلَى
السَّادِسَةِ وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبِي الْأُمِّ فَإِنْ عُدِمَتْ فَهِيَ
بَعْدَهَا عَلَى السَّابِعِ وَهُوَ أَبُ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ، لِأَنَّهُ
يُدْلِي مَعَ الثَّامِنَةِ بِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ فَاخْتُصَّ بِهَا
لِذُكُورِيَّتِهِ، فَإِنْ عُدِمَ فَهِيَ بَعْدَهُ عَلَى الثَّامِنَةِ
وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
(11/482)
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا أَقَارِبُ
الْأَبِ وَأَقَارِبُ الْأُمِّ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقَارِبُ الْأَبِ أَقْرَبَ فَهُمُ
الْمُخْتَصُّونَ بِتَحَمُّلِهَا لِقُرْبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ
أَحْكَامِ دَرَجِهِمْ دُونَ أَقَارِبِ الْأُمِّ لِبُعْدِهِمْ،
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَقَارِبُ الْأُمِّ أَقَرَبَ فَهُمْ
أَخَصُّ بِتَحَمُّلِهَا لِقُرْبِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ
دَرَجِهِمْ دُونَ أَقَارِبِ الْأَبِ لِبُعْدِهِمْ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَوِيَ أَقَارِبُ الْأَبِ وَأَقَارِبُ
الْأُمِّ فِي الدَّرَجِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَ الْفَرِيقَانِ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ
مَنِ اعْتَبَرَ الدَّرَجَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يختصر بِتَحَمُّلِهَا أَقَارِبُ الْأَبِ دُونَ
أَقَارِبِ الْأُمِّ وَهَذَا قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ
بِالْعَصَبَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَحَمَّلَهَا الْوَرَثَةُ مِنْهُمْ دُونَ
مَنْ لَمْ يَرِثْ، فَإِنْ لَمْ يَرِثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ اخْتُصَّ بِهَا مَنْ
كَانَ أَقْرَبَ إِدْلَاءً بِإِرْثٍ، وَهَذَا قَوْلِي فِي اعْتِبَارِ
الْقُوَّةِ بِالْإِرْثِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ
أَبٍ، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَشْتَرِكَانِ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ
الدَّرَجَ وَاعْتَبَرَ الْمِيرَاثَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجِ
وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمِيرَاثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ الْأَبِ دُونَ
أُمِّ الْأُمِّ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ بِالْعَصَبَةِ
لِاخْتِصَاصِ أُمِّ الْأَبِ بِتَعْصِيبِ الْأَبِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ أُمُّ
أَبٍ وَأَبُ أُمٍّ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي تَحَمُّلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مَنِ
اعْتَبَرَ الدَّرَجَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ الْأَبِ،
وَهُوَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ الْإِدْلَاءَ بِالْعَصَبَةِ وَقَوْلُ مَنِ
اعْتَبَرَ الْقُوَّةَ بِالْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا فِي جِهَةِ أُمِّ
الْأَبِ دُونَ أَبِي الْأُمِّ، وَلَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةٌ أَبُ
أُمِّ أَبٍ، وَأُمُّ أَبِي أَبٍ، وَأُمُّ أُمِّ أُمٍّ. كَانَ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي تَحَمُّلِهَا لِاسْتِوَاءِ
الدَّرَجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَصَّ بِتَحَمُّلِهَا أُمُّ أَبِي
الْأَبِ، لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إِدْلَاءً بِعَصَبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنِ
اعْتَبَرَ التَّعْصِيبَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِكَ فِي تَحَمُّلِهَا أُمُّ أَبِي
الْأَبِ وَأُمُّ أُمِّ الْأُمِّ لاشتراكهما في
(11/483)
الْمِيرَاثِ دُونَ أَبِي أُمِّ الْأَبِ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ أَبَدًا.
(الْقَوْلُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى
الْأَوْلَادِ)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَيُنْفِقُ الرَّجُلُ عَلَى وَلَدِهِ حَتَّى
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أَوِ الْمَحِيضَ ثُمَّ لَا نَفَقَةَ لَهُمْ إِلَّا
أَنْ يَكُونُوا زَمْنَى فَيُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا لَا يُغْنُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَكَذَلِكَ وَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلُوا مَا لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ أَبٌ دُونَهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا وَجَبَتْ نَفَقَةُ
الْوَلَدِ لِصِغَرِهِ سَقَطَتْ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ تَخْلُفِ الصِّغَرَ
زَمَانَةٌ أَوْ جُنُونٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً،
فَإِذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ أَوْ حَاضَتِ الْجَارِيَةُ سَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ نَفَقَتُهَا حَتَّى تُزَوَّجَ فَإِنْ طُلِّقَتْ
قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ طُلِّقَتْ
بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ مَا سَقَطَتْ بِهِ نَفَقَةُ الْغُلَامِ سَقَطَتْ
بِهِ نَفَقَةُ الْجَارِيَةِ كَالْيَسَارِ، وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى
الْكَسْبِ تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْغُلَامِ، وَلِأَنَّهُ
لَوْ كَانَ لِلْأُنُوثِيَّةِ مَزِيَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ
لَوَجَبَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ وَفِي سُقُوطِهَا لِلْمُطَلَّقَةِ إِسْقَاطٌ
لِحُكْمِ الْأُنُوثِيَّةِ.
(الْقَوْلُ في سقوط نفقة الولد)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ
فَنَفَقَتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَوْلَادِ
مُوَاسَاةٌ فَوَجَبَتْ مَعَ الْعُدْمِ وَسَقَطَتْ مَعَ الْغِنَى، وَإِذَا
سَقَطَتْ نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ بِالْغِنَى، فَسَوَاءٌ كَانَ الولد ذكر
أَوْ أُنْثَى، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا
أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَلَا فَرْقَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهُ بِوَاجِبٍ كَالْمِيرَاثِ أَوْ
بِتَطَوُّعٍ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
نَاضًّا أَوْ عَقَارًا نَامِيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَامٍ فَلَوْ كَانَ
أَبُوهُ قَدْ وَهَبَ لَهُ مَالًا فَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ الِابْنُ
فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْأَبِ، فَإِذَا أَقْبَضَهُ إِيَّاهُ سَقَطَتْ
نَفَقَتُهُ على الْأَبِ، وَوَجَبَتْ عَلَى الْوَلَدِ فِي الْمَالِ الَّذِي
مَلَكَهُ عَنْ أَبِيهِ بِالْهِبَةِ، فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِي
هِبَتِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ وَعَلَيْهِ أَنْ ينفق بعد رجوعه عليه، إن كَانَ
مَالُهُ غَائِبًا فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ فَرْضًا
مَوْقُوفًا، فَإِنْ قَدِمَ مَالُهُ سَالِمًا رَجَعَ الْأَبُ بِمَا أَنْفَقَ
سَوَاءٌ أَنَفَقَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ إِذَا قَصَدَ
بِالنَّفَقَةِ الرُّجُوعَ، لِأَنَّ أَمْرَ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ
أَنْفَذُ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنْ هَلَكَ مَالُ الْوَلَدِ قَبْلَ
قُدُومِهِ بَانَ اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتِهِ عَلَى الْأَبِ مِنَ الْوَقْتِ
الَّذِي تَلِفَ مَالُهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ بِتَلَفِ مَالِهِ صَارَ فَقِيرًا
مِنْ أَهْلِ الْمُوَاسَاةِ، فَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ مِنْ أَوَّلِ
إِنْفَاقِهِ سَقَطَ جميعه، وبرئت ذمة الولد
(11/484)
سقط
(11/485)
سقط
(11/486)
سقط
(11/487)
سقط
(11/488)
سقط
(11/489)
سقط
(11/490)
سقط
(11/491)
سقط
(11/492)
سقط
(11/493)
سقط
(11/494)
سقط
(11/495)
سقط
(11/496)
سقط
(11/497)
سقط
(11/498)
سقط
(11/499)
سقط
(11/500)
من شاءت من أبويها، وتزول عنها الكفارة
بِالتَّزْوِيجِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِهَا، فَإِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ
الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ تَعُدِ الْكَفَالَةُ عَلَيْهَا، وَأَقَامَتْ
حَيْثُ شَاءَتْ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ عَلَى الْجَارِيَةِ أَنْ تُقِيمَ
مَعَ الْأُمِّ حَتَّى تتزوج، فإن طلقت قبل الدخول عادة الْكَفَالَةُ
عَلَيْهَا لِلْأُمِّ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ ذَلِكَ عَلَى
أَصْلِهِمَا فِي بَقَاءِ النَّفَقَةِ لَهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ.
وَالشَّافِعِيُّ يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا بِالْبُلُوغِ فَأَسْقَطَ
الْكَفَالَةَ عَنْهَا بِالْبُلُوغِ وَاسْتَبْقَى مَالِكٌ الْحَجْرَ عَلَى
مَالِهَا حَتَّى تَزُوَّجَ وَجَعَلَ حَجْرَ الْكَفَالَةِ تَبَعًا
لِمَالِهَا، وَفِيمَا مَضَى مَعَهَا مِنَ الْكَلَامِ فِيمَا جَعَلَاهُ
أَصْلًا لِغَايَةٍ عَنْ تَجْدِيدِ الِاحْتِجَاجِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمَا
لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ فِي ثُبُوتِ
الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَارْتِفَاعِهَا بَعْدَ التَّزْوِيجِ،
وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا بَيْنَ الْبُلُوغِ والتزويج والله اعلم.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا اسْتَكْمَلَ سَبْعَ سِنِينَ ذَكَرًا
كَانَ أَوْ أنثى وهو يعقل عقل مثله خير وقال في كتاب النكاح القديم إذا بلغ
سبعاً أو ثمان سنين خير إذا كانت دارهما واحدة وكانا جميعاً مأمونين على
الولد فإن كان أحدهما غير مأمون فهو عند المأمون منهما حتى يبلغ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ثَبَتَ تَخْيِيرُ الْوَلَدِ
بَيْنَ أَبَوَيْهِ فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ وَبَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ حَدِّ
الْحَضَانَةِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِشُرُوطٍ فِي الْوَلَدِ وَشُرُوطٍ فِي
الْأَبَوَيْنِ، فَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْوَلَدِ
فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ فَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا كَفَالَةَ
لِأَبَوَيْهِ سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ، وَسَيِّدُهُ
أَحَقُّ بِهِ مِلْكًا لَا كَفَالَةً، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ لَهُ بِمَا
عَجَزَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ
أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ وَفِي جَوَازِ
التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ مَا بَيْنَ سَبْعٍ
وَالْبُلُوغِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ،
فَفِي إِجْرَاءِ حُكْمِ الْأُمِّ عَلَيْهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ
التَّفْرِقَةِ بينهما وجهان. فلو بَعْضُ الْوَلَدِ حُرًّا وَبَعْضُهُ
مَرْقُوقًا خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ
إِذَا كَانَا حُرَّيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا اجْتَمَعَ مَعَ
سَيِّدِهِ الْمَالِكِ لِرِقِّهِ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ فِي
كفالته من اشتراك فِيهَا أَوْ مُهَايَأَةٍ عَلَيْهَا أَوِ اسْتِنَابَةٍ
فِيهَا، فَإِنْ تَنَازَعَا اخْتَارَ الْحَاكِمُ لَهُمَا أَمِينًا يَنُوبُ
عَنْهُمَا فِي كَفَالَتِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يُمَيِّزَ وَيَعْقِلَ عَقْلَ مِثْلِهِ
لِيَكُونَ مُتَصَوِّرًا حَظَّ نَفْسِهِ فِي الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ كَانَ
مَخْبُولًا أَوْ مَجْنُونًا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ مَنَافِعِهِ وَمَضَارِّهِ
لَمْ يُخَيَّرْ، وَكَانَ مَعَ أُمِّهِ كَحَالِهِ فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ،
فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا لَمْ يَمْنَعِ الْمَرَضُ مِنْ تَخْيِيرِهِ لِصِحَّةِ
تَمْيِيزِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِحَظِّ نَفْسِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: انْتِهَاؤُهُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي يَسْتَحِقُّ
التَّخْيِيرَ فيها قال الشافعي: هاهنا
(11/501)
فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَقَالَ فِي كِتَابِ
عِشْرَةِ النِّسَاءِ مِنَ النِّكَاحِ الْقَدِيمِ، إِذَا بَلَغَ سَبْعًا
أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ خُيِّرَ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ
قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فِي مُرَاعَاةِ
أَمْرِهِ فِي ضَبْطِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَمَعْرِفَتِهِ أَسْبَابَ
الِاخْتِيَارِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِيهِ وَوَجَدَ لِسَبْعٍ لِفَرْطِ
ذَكَائِهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لِبُعْدِ فِطْنَتِهِ خُيِّرَ فِي الثَّامِنَةِ
عِنْدَ ظُهُورِ ذَلِكَ فِيهِ وَيَكُونُ مَوْكُولًا إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ
وَاجْتِهَادِهِ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الأبوين فخمسة يشترك الأبوان فيها
وسادس تختص به الأم وسابع مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِ
الْوِلَايَةِ، وَيُرْفَعُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ السَّيِّدِ، فَإِنْ كَانَ
الْأَبُ حُرًّا وَالْأُمُّ أَمَةً، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَالْكَفَالَةُ
لِلْأَبِ دُونَ الْأُمِّ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً وَالْأَبُ
عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَالْكَفَالَةُ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ، وَلَوْ
كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلَ الرِّقِّ، وَالْآخِرُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ
رَقِيقٌ فَلَا كَفَالَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا
كَامِلَ الْحُرِّيَّةِ وَالْآخِرُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَرْقُوقٌ،
فَالْكَفَالَةُ لِمَنْ كَمَلَتْ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ دُونَ مَنْ
تَبَعَّضَتْ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَسْقَطْتُمْ كَفَالَةَ مَنْ رُقَّ بَعْضُهُ، وَلَمْ
تُسْقِطُوا تَخْيِيرَ الْوَلَدِ إِذَا رُقَّ بَعْضُهُ. قِيلَ: لِوُقُوعِ
الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَفَالَةَ وِلَايَةٌ تَسْقُطُ بِقَلِيلِ
الرِّقِّ، وَتَخْيِيرُ الْوَلَدِ لِطَلَبِ حَظِّهِ فَلَمْ يُمْنَعْ رِقُّ
بَعْضِهِ مِنْ طَلَبِ حَظِّهِ فِي بَقِيَّةِ حُرِّيَّتِهِ، فَإِنْ عَتَقَ
الْمَرْقُوقُ وَصَارَ حُرًّا اسْتَحَقَّ الْحَصَانَةُ، وَنَازَعَ فِيهَا
مَنْ كَانَتْ لَهُ.
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الْوِلَايَةُ،
وَتَقُومُ مَعَهُ بِالْكَفَالَةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا
أَوْ مَعْتُوهًا أَوْ مَخْبُولًا فَلَا كَفَالَةَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ
صَارَ مَكْفُولًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كاملاً، فَلَوْ طَرَأَ
عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ خَرَجَ مِنْهَا، فَأَمَّا
الَّذِي يُجَنُّ زَمَانًا، وَيُفِيقُ زَمَانًا، فَلَا كَفَالَةَ لَهُ،
لِأَنَّهُ فِي زَمَانِ الْجُنُونِ زَائِلُ الْوِلَايَةِ وَفِي زَمَانِ
الْإِفَاقَةِ مُخْتَلُّ التَّدْبِيرِ، وَرُبَّمَا طَرَأَ جُنُونُهُ عَلَى
عَقْلِهِ لَا يُؤْمَنُ معه على الولد إلا أَنْ يَقِلَّ جُنُونُهُ فِي
الْأَحْيَانِ النَّادِرَةِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّمْيِيزِ بَعْدَ
زَوَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ.
وَأَمَّا الْمَرَضُ فَإِنْ كَانَ طَارِئًا يُرْجَى زَوَالُهُ لَمْ يَمْنَعْ
مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ، وَإِنْ كَانَ مُلَازِمًا كَالْفَالِجِ
وَالسُّلِّ الْمُتَطَاوِلِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ أَثَّرَ فِي عَقْلِهِ أَوْ
تَشَاغَلَ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ فَلَا كَفَالَةَ لَهُ لِقُصُورِهِ عَنْ
مُرَاعَاةِ الْوَلَدِ وَتَرْبِيَتِهِ، وَإِنْ أَثَّرَ فِي قُصُورِ
حَرَكَتِهِ مَعَ صِحَّةِ عَقْلِهِ وَقِلَّةِ أَلَمِهِ رُوعِيَتْ حَالُهُ
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُبَاشِرُ كَفَالَتَهُ بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقُّهُ
مِنْهَا لِمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَلَدِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيهَا وَإِنْ
كَانَ مِمَّنْ يُرَاعِي بِنَفْسِهِ التَّدْبِيرَ، وَيَسْتَنِيبُ فِيمَا
تَقْتَضِيهِ الْمُبَاشَرَةُ. كَانَ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْكَفَالَةِ
وَسَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا، فَلَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَبَرَأَ
الْمَرِيضُ عاد إِلَى حَقِّهِمَا مِنَ الْكَفَالَةِ.
(11/502)
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ فِي الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ فَإِنْ
كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كَافِرًا سَقَطَتْ كَفَالَتُهُ بِكُفْرِهِ وَقَالَ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا تَبْطُلُ كفالته يكفره وَحَكَاهُ ابْنُ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ رَافِعِ بْنِ
سِنَانٍ: أَنَّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ فَأَتَتِ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: ابْنَتِي،
وَقَالَ رَافِعُ ابْنَتِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لِرَافِعٍ: " اقْعُدُ نَاحِيَةً " وَلَهَا: " اقْعُدِي نَاحِيَةً "
وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: ادْعُوَاهَا، فَمَالَتْ
إِلَى أُمِّهَا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
اللَّهُمَّ اهْدِهَا، فَمَالَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُسْقِطُ الْكَفَالَةَ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مُتَدَيِّنٌ بِاعْتِقَادِهِ فَكَانَ
مَأْمُونًا عَلَى وَلَدِهِ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}
[النساء: 141] وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ، وَلِأَنَّ افْتِرَاقَ
الْأَدْيَانِ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ كَمَا يَمْنَعُ مِنْهَا
عَلَى الْمَالِ، وَفِي النِّكَاحِ وِلَايَةٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ
عَنْ دِينِهِ وَرُبَّمَا أَلِفَ مِنْ كُفْرِهَا مَا يَتَعَذَّرُ
انْتِقَالُهُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ ظهور المعجزة باستحبابه دَعَوْتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ فَطِيمًا، وَالْفَطِيمُ لَا يُخَيَّرُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَعَا بِهِدَايَتِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّ
كَفَالَتِهَا لَا إِلَى الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ إِسْلَامِهَا بِإِسْلَامِ
أبيها فلو كان للأم حق لأقرها علي، وَلَمَا دَعَا بِهِدَايَتِهَا إِلَى
مُسْتَحِقِّهَا.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَافِرَ مَأْمُونٌ عَلَى وَلَدِهِ.
قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى بَدَنِهِ فَغَيْرُ مَأْمُونٍ
عَلَى دِينِهِ، وَحَظُّهُ فِي الدِّينِ أَقْوَى، فَلَوْ أَسْلَمَ
الْكَافِرُ مِنْهُمَا عَادَ إِلَى كَفَالَتِهِ، وَلَوِ ارْتَدَّ
الْمُسْلِمُ سَقَطَتْ كَفَالَتُهُ.
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْأَمَانَةُ بِوُجُودِ الْعَدَالَةِ، وَعَدَمِ
الْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ
فَكَانَتْ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ
عَادِلٌ عَنْ صَلَاحِ نَفْسِهِ فَكَانَ بِأَنْ يَعْدِلَ عَنْ صَلَاحِ
وَلَدِهِ أَشْبَهَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا اقْتَدَى الْوَلَدُ بِفَسَادِهِ
لِاقْتِرَانِهِ بِهِ ونشوئه معه، والعدالة المعتبرة فيه عدالة الظاهرة
الْمُعْتَبَرَةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَلَا يُرَاعَى عَدَالَةُ
الْبَاطِنِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ
بِعَدَالَةِ ظَاهِرِهِ مَأْمُونًا عَلَى وَلَدِهِ قَيِّمًا بِمَصَالِحِهِ
فَلَوْ صَارَ بَعْدَ فِسْقِهِ عَدْلًا اسْتَحَقَّ الْكَفَالَةَ، وَلَوْ
فَسَقَ بَعْدَ عَدَالَتِهِ خَرَجَ مِنَ الْكَفَالَةِ وَيَسْتَوِي فِيهِ
الْأَبَوَانِ، فَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا فِسْقَ صَاحِبِهِ لِيَنْفَرِدَ
بِالْكَفَالَةِ مِنْ غَيْرِ
(11/503)
تَخْيِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِحْلَافُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ عَلَى ظَاهِرِ
الْعَدَالَةِ حَتَّى يُقِيمَ مُدَّعِي الْفِسْقِ بَيِّنَةً عَلَيْهِ
فَيَثْبُتَ بِهَا فِسْقَهُ، وَتَسْقُطَ بِهَا كَفَالَتُهُ.
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: اجْتِمَاعُ الْأَبَوَيْنِ فِي وَطَنٍ وَاحِدٍ لَا
يختلف بهما بلد ليتساويا في الولد ويتساوا بِهِمَا حَالُ الْوَلَدِ، فَإِنْ
سَافَرَ أَحَدُهُمَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ سَفَرَ الْحَاجَةِ إِذَا نجزت عَادَ،
فَالْمُقِيمُ مِنْهُمَا أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ
ابْنًا كَانَ أَوْ بِنْتًا، لِأَنَّ الْمُقَامَ أَوْدَعُ وَالسَّفَرَ
أَخْطَرُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ لِنَقْلَةٍ يَسْتَوْطِنُ
فِيهَا بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِ الْآخَرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ قَرِيبَةً
لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ وَلَا يَسْقُطُ بِهِ
تَخْيِيرُ الِابْنِ سَوَاءٌ انْتَقَلَ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ، وَيُخَيَّرُ
بَيْنَهُمَا، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ سَوَاءٌ
اخْتَارَ الْمُقِيمَ مِنْهُمَا أَوِ الْمُتَنَقِّلَ أَبًا كَانَ أَوْ
أُمًّا؛ لِأَنَّ قُرْبَ الْمَسَافَةِ كَالْإِقَامَةِ فِي انْتِفَاءِ
أَحْكَامِ السَّفَرِ وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْبَلَدِ الْوَاسِعِ إِذَا
تَبَاعَدَتْ، فَحَالُهُ لَمْ يَمْنَعِ التَّنَقُّلُ فِيهِ مِنَ
اسْتِحْقَاقِ الْكَفَالَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ
بَعِيدَةً يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، فَالْأَبُ أَحَقُّ
بِكَفَالَةِ وَلَدِهِ لِحِفْظِ نَسَبِهِ مِنَ الْأُمِّ، سواء كان هو المقيم
أو المننتقل.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنِ انْتَقَلَ الْأَبُ فَالْأُمُّ أَحَقُّ
بِكَفَالَتِهِ وَإِنِ انْتَقَلَتِ الْأُمُّ نُظِرَ فِي انْتِقَالِهَا،
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى بَلَدٍ كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ
بِكَفَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَ انْتِقَالُهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى قَرْيَةٍ
كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، لِفَضْلِ الْبُلْدَانِ عَلَى
الْقُرَى بِمَا فِيهَا مِنْ صِحَّةِ الْأَغْذِيَةِ وَظُهُورِ التَّأْدِيبِ
وَصِحَّةِ التَّعْلِيمِ وَالتَّقْوِيمِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا فِي
انْتِقَالِ الْأُمِّ لَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي انْتِقَالِ الْأَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حِفْظَ نَسَبِهِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى
اكْتِسَابِهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ وَالِاعْتِبَارِ مِمَّا يَقْدِرُ
عَلَى اكْتِسَابِهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ.
فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ التي يشترك الأبوان في اعتبارهما فيهما.
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: الْمُخْتَصُّ بِالْأُمِّ أَنْ تَكُونَ خَلِيَّةً
مِنْ زَوْجٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا اعْتِبَارَ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَلَا
يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا الْكَفَالَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما زوج أُمَّ سَلَمَةَ
أَقَرَّهَا عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِهَا زَيْنَبَ، وَجَعَلَ كَفَالَةَ بِنْتِ
حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا وَزَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
(11/504)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لِلْمُنَازِعَةِ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهَا: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ
تُنْكَحِي، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَمْنَعُ مِنْ مقصود الكفالة لاشتغالها
بحقوق الزوج، ولأن الزوج مَنْعَهَا مِنَ التَّشَاغُلِ بِغَيْرِهِ،
وَلِأَنَّ عَلَى الْوَلَدِ وعصبته عار فِي الْمُقَامِ مَعَ زَوْجِ أُمِّهِ
فَأَمَّا أُمُّ سَلَمَةَ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى كَفَالَةِ بِنْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
مِنْ عُصْبَتِهَا نِزَاعٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَالْمَضْمُومُ إِلَيْهِ
أَفْضَلُهُمْ نَشْأً فَخَالَفَ مَنْ عَلَاهُ وَإِقْرَارُهُ بِنْتَ حَمْزَةَ
مَعَ خَالَتِهَا وَزَوْجِهَا جَعْفَرٍ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَضَى بِهَا
لِجَعْفَرٍ تَرْجِيحًا لِخَالَتِهَا، وَقِيلَ قَضَى بِهَا لِلْخَالَةِ
تَرْجِيحًا لِجَعْفَرٍ، لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ
كَانَ زَوْجُ الْأُمِّ عَصَبَةً لِلْوَلَدِ، فَإِنْ مَنَعَهَا مِنَ
الْكَفَالَةِ سَقَطَ حَقُّهَا، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فِي الْكَفَالَةِ
وَمَكَّنَهَا مِنَ الْقِيَامِ بِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّ الْكَفَالَةَ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمَانِعِ
بِالتَّمْكِينِ وَانْتِفَاءِ الْعَارِ بِامْتِزَاجِ النَّسَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا كَفَالَةَ لَهَا لِعُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِمَا
يَجْذِبُهَا الطَّبْعُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوَفُّرِ عَلَى الزَّوْجِ،
وَمُرَاعَاةِ أَوْلَادِهَا مِنْهُ إِنْ كَانُوا.
(فَصْلٌ)
وَالشَّرْطُ السَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ: أَنْ يُوجَدَ مِنْ كُلٍّ
وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ شُرُوطُ الْكَفَالَةِ، وَيُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا
عَلَى الْآخَرِ بِزِيَادَةٍ فِي الدِّينِ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْمَالِ أَوْ
زِيَادَةٍ فِي الْمَحَبَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ يُسْقِطُهُ التخيير وتكون
الكفالة وفضلهما لِظُهُورِ الْحَظِّ فِيهِ لِلْوَلَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ، وَلَا
يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ فَضِيلَةٍ إِذَا خَلَا مِنْ نَقْصٍ
لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْكَفَالَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَافِلِ
وَالْمَكْفُولِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْكَافِلِ بِالزِّيَادَةِ فِي
حَقِّ الْمَكْفُولِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُرُوطِ الْكَفَالَةِ فِي
الْأَبَوَيْنِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا فِيهِ من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَتَنَازَعَا فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَدَافَعَا عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُسَلِّمَهَا أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَنَازَعَا فِيهَا
وَيَطْلُبَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا،
وَيَتَوَلَّى الْحَاكِمُ تَخْيِيرَهُ، لِأَنَّ التَّنَازُعَ إِلَيْهِ
وَنُفُوذَ الْحُكْمِ مِنْهُ.
وَلِلْوَلَدِ فِي التَّخْيِيرِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
(11/505)
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْتَارَ أَحَدَهُمَا
فَيَكُونَ مَنِ اخْتَارَهُ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ أَبًا كَانَ أَوْ أُمًّا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَهُمَا فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِيهِ
مَعَ التَّنَازُعِ، وَيُقْرَعَ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَأَيَّهُمَا قَرَعَ
كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَجَّحَ بِالْقُرْعَةِ مَعَ
التَّسَاوِي فِي الِاخْتِيَارِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَلَّا يَخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيَكْفُلُهُ مِنْ قَرَعَ مِنْهُمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ
لِاسْتِحْقَاقِهَا لِحَضَانَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ غَيْرَهَا
لِكَفَالَتِهَا، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَتَدَافَعَا كَفَالَتَهُ
وَيَمْتَنِعَا مِنْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُمَا مَنْ يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ
كَالْجَدِّ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدَّةِ بَعْدَ الْأُمِّ، فَيَخْرُجَانِ
بِالتَّمَانُعِ مِنْهَا وَتَنْتَقِلُ الْكَفَالَةُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمَا
وَيُخَيَّرُ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا إِذَا تَكَافَأَتْ أَحْوَالُهُمَا،
لِأَنَّ حَقَّ الْوَلَدِ بِتَمَانُعِ الْأَبَوَيْنِ مُحْفَظٌ
بِغَيْرِهِمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ بعدهما مستحقاً لِكَفَالَتِهِ
لِتَفَرُّدِ الْأَبَوَيْنِ بِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ الْوَلَدُ عَلَى خِيَارِهِ وَيُجْبَرُ مَنِ
اخْتَارَهُ عَلَى كَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ حَقًّا لَهُمَا
وَحَقًّا عَلَيْهِمَا، فَإِذَا سَقَطَ بِالتَّمَانُعِ حَقُّهُمَا لَمْ
يُسْقُطْ بِهِ حَقُّ الْوَلَدِ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كَانَ هَذَا
التَّمَانُعِ فِي وَقْتِ الْحَضَانَةِ وَقَبْلَ الِانْتِهَاءِ إِلَى وَقْتِ
التَّخْيِيرِ فِي الْكَفَالَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَأُجْبِرَ عَلَيْهَا
مَنْ قَرَعَ مِنْهَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمُ اختصموا تنازعاً لكفالتهما فَتُسَاهِمُوا
عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا تَدَافُعًا لِكَفَالَتِهَا
فَاسْتَهَمُوا فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْقُرْعَةِ فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ
التَّنَازُعِ وَالتَّدَافُعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ
النَّفَقَةُ مِنْهُمَا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدَهُمَا
كَفَالَتَهُ إِلَى الْآخَرِ فَيَكُونَ مَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ أَحَقَّ
بِكَفَالَتِهِ، وَيَسْقُطَ تَخْيِيرُ الْوَلَدِ فِيهَا فَإِنْ عَادَ بَعْدَ
التَّسْلِيمِ مُطَالِبًا بِهَا عَادَ إِلَى حَقِّهِ مِنْهَا، فَإِنْ
تَنَازَعَا بَعْدَ عَوْدِهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ. وَلَوْ جَعَلْتَ
الْكَفَالَةَ لِأَحَدِهِمَا بِاخْتِيَارِ الْوَلَدِ فَدَفَعَهَا عَنْ
نَفْسِهِ إِلَى الْآخَرِ، فَإِنْ دَفَعَهَا الْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ
فَكَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ قَبِلَهَا فَكَالْقِسْمِ الثَّالِثِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(11/506)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ وَهُمَا فِي
قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ
وَعَلَى أَبِيهِ نَفَقَتُهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَأْدِيبِهِ وَيَخْرُجُ
الْغُلَامُ إِلَى الْكُتَّابِ أَوِ الصِّنَاعَةِ إِذَا كَانَ مِنْ
أَهْلِهَا وَيَأْوِي إِلَى أُمِّهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَ زَمَانِ الْحَضَانَةِ
وَزَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَأَنَّ الْحَضَانَةَ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ،
وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ فِيهَا بِالْوَلَدِ، وَالْكَفَالَةُ
مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الْأَبِ سَوَاءٌ اخْتَارَهُ الْوَلَدُ أَوِ اخْتَارَ
أُمَّهُ، وَكَذَلِكَ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ الْوَلَدُ مِنْ تَعْلِيمٍ
وَتَأْدِيبٍ، لِأَنَّهُ مِنْ مَصَالِحِ الْوَلَدِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقِيَامُ بِهَا وَزَمَانُ التَّعْلِيمِ فِي إِسْلَامِهِ إِلَى الكتاب أو
الصناعة الْوَلَدِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا وَزَمَانُ
التَّعْلِيمِ فِي إِسْلَامِهِ إِلَى الْكُتَّابِ أَوِ الصِّنَاعَةِ
بِحَسْبِ عَادَتِهِ وَعُرْفِ أَهْلِهِ مُخْتَصٌّ بِالْبَنِينَ دُونَ
الْبَنَاتِ وَزَمَانُهُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْوَلَدِ فَإِنْ كَانَ فَطِنًا
ذَكِيًّا قُدِّمَ فِي زَمَانِ الْحَضَّانَةِ إِذَا بَلَغَ خَمْسًا أَوْ
سِتًّا، وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا ضَعِيفَ التَّخْيِيرِ أُخِّرَ إِلَى زَمَانِ
الْكَفَالَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا، فَإِذَا احْتَاجَ
الْوَلَدُ إِلَى خِدْمَةٍ فِي الْحَضَانَةِ وَالْكَفَالَةِ وَمِثْلُهُ مَنْ
يُخْدَمُ قَامَ الْأَبُ بِمَؤُونَةِ خِدْمَتِهِ إِمَّا بِاسْتِئْجَارِ
خَادِمٍ أَوِ ابْتِيَاعِهِ عَلَى حَسَبِ عَادَةِ أَهْلِهِ وَعُرْفِ
أَمْثَالِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا لِحَضَانَتِهِ
أَنْ تَقُومَ بِخِدْمَتِهِ إِذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يَخْدِمُ لِأَنَّ
الْحَضَانَةَ هِيَ الْحِفْظُ وَالْمُرَاعَاةُ وَتَدْبِيرُ الْوَلَدِ
وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ مُبَاشَرَةَ
الْخِدْمَةِ، وَالْخِدْمَةُ إِذَا وَجَبَتْ فَهِيَ مُسْتَحَقَّةٌ
لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ وَالتَّأْدِيبُ
مُخْتَصَّا بِالْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ، وَتَخْتَصُّ الْجَارِيَةُ
بِأَنْ تؤخذ بالخفر والصيانة.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اخْتَارَ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أُمَّهُ وَتَأْتِيهِ فِي الْأَيَّامِ وَإِنْ
كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ تُمْنَعُ أُمُّهَا مِنْ أَنْ تَأْتِيَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْوَلَدِ
الْمَكْفُولِ مِنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً، فَإِنْ كَانَ
غُلَامًا فَلَهُ حَالَتَانْ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ أُمَّهُ فَيَأْوِيَ فِي اللَّيْلِ إِلَيْهَا
وَيَكُونَ فِي النَّهَارِ مَعَ أَبِيهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الصِّنَاعَةِ أَوْ فِي الكتاب إنه كَانَ مَنْ أَهْلِ التَّعْلِيمِ وَلَيْسَ
لِلْأُمِّ أَنْ تَقْطَعَهُ فِي النَّهَارِ إِلَيْهَا؛ لِمَا يَدْخُلُ
عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِهِ عَنْ تَعْلِيمٍ أَوْ صِنَاعَةٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْتَارَ أَبَاهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِيَأْوِيَ فِي اللَّيْلِ إِلَيْهِ وَيَكُونَ فِي
النَّهَارِ مُتَصَرِّفًا بِتَدْبِيرِ أَبِيهِ، إِمَّا فِي كُتَّابٍ
يَتَعَلَّمُ فِيهِ، وَإِمَّا فِي صِنَاعَةٍ يَتَعَاطَاهَا وَعَلَيْهِ أَنْ
يُنْفِذَهُ إِلَى زِيَارَةِ أُمِّهِ فِي كُلِّ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ،
وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهَا قَرِيبًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ لِيَأْلَفَ بِرَّهَا، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْهَا
فَيَأْلَفَ الْعُقُوقَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً: فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَخْتَارَ أُمَّهَا فَتَكُونَ أحق به لَيْلًا
وَنَهَارًا بِخِلَافِ الْغُلَامِ، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ
(11/507)
مِنْ ذَوَاتِ الْخَفَرِ فَتُمْنَعُ مِنَ
الْبُرُوزِ لَيْلًا وَنَهَارًا لِتَأْلَفَ الصِّيَانَةَ وَلِأَبِيهَا إِذَا
أَرَادَ زِيَارَتَهَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مُشَاهِدًا لَهَا
وَمُتَعَرِّفًا لِخَبَرِهَا، لِتَأْلَفَهُ وَيَأْلَفَهَا، وَلَا يُطِيلَ،
وَلْيَكُنْ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ دُخُولِ الْأَبِ لِزِيَارَةِ بِنْتِهِ ذُو
مَحْرَمٍ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِتَنْتَفِيَ رِيبَةُ الْخَلْوَةِ بَعْدَ
تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَخْتَارَ أَبَاهَا فَتَكُونَ مَعَهُ
وَعِنْدَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَإِنْ أَرَادَتِ الْأُمُّ زِيَارَتَهَا
دَخَلَتْ عَلَيْهَا وَلَزِمَ الْأَبَ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنَ الدُّخُولِ
عَلَيْهَا وَلَا يَمْنَعَهَا فَتَوْلَهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا، وَقَدْ
نُهِيَ عَنْهُ، وَيُنْظَرُ حَالُ الْأَبِ عِنْدَ دُخُولِ الْأُمِّ عَلَى
بِنْتِهَا، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا جَازَ أَنْ تَدْخُلَ الْأُمُّ وَحْدَهَا،
وَإِنْ كَانَ مَعَ بِنْتِهِ فِي دَارِهِ لَمْ تَدْخُلْ إِلَّا مَعَ
امْرَأَةٍ ثِقَةٍ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمَا التُّهْمَةُ، وَلَا يَحْصُلَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ خَلْوَةٌ، وَلَيْسَ لِلْأُمِّ
إِذَا أَرَادَتْ زِيَارَتَهَا أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا مِنْ
ذَوَاتِ الْخَفَرِ فَتَمْنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى لَا تَأْلَفَ
التَّبَرُّجَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْأَمْرُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، فَكَيْفَ تَكُونُ هِيَ
الْخَارِجَةَ إِلَى بِنْتِهَا وَلَا تَكُونُ الْبِنْتُ خَارِجَةً
إِلَيْهَا.
قِيلَ: لِأَنَّ الْحَذَرَ عَلَى الْبِنْتِ أَكْثَرُ وَحَالُهَا فِي
الصِّغَرِ أَخْطَرُ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَعْلَمُ عَلَى أَبِيهَا إِخْرَاجَهَا
إِلَيْهَا إِلَّا أَنْ تَمْرَضَ فَيُؤْمَرَ بِإِخْرَاجِهَا عَائِدَةً
وَإِنْ مَاتَتِ الْبِنْتُ لَمْ تُمْنَعِ الْأُمُّ مِنْ أَنْ تَلِيَهَا
حَتَّى تُدْفَنَ وَلَا تُمْنَعْ فِي مَرَضِهَا مِنْ أَنْ تَلِيَ
تَمْرِيضَهَا فِي مَنْزِلِ أَبِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا مَرِضَتِ الْأُمُّ وَجَبَ
عَلَى الْأَبِ إِخْرَاجُ بِنْتِهَا لِتَزُورَهَا زِيَارَةَ الْعَائِدِ،
وَلَئِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنَ الْبُرُوزِ لِتَأْلَفَ الْخَفَرَ،
فَهَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ يَتَّسِعُ حُكْمُهَا، وَتَعُودُ الْبِنْتُ
إِلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْعِيَادَةِ، لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهَا مَعَ الصِّغَرِ فَاضِلٌ لِتَمْرِيضِ الْأُمِّ، فَانْصَرَفَتْ
بَعْدَ الْعِيَادَةِ، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ أَقَامَتْ عِنْدَهَا حَتَّى
تُوَارَى وَمَنَعَهَا مِنَ اتِّبَاعِ جِنَازَتِهَا وَزِيَارَةِ قَبْرِهَا
لِمَا فِيهَا مِنَ التَّبَرُّجِ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ زَوَّرَاتِ الْقُبُورِ " فَلَوْ مَرِضَتِ
الْبِنْتُ فِي مَنْزِلِ أَبِيهَا كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ بِتَمْرِيضِهَا
مِنَ الْأَبِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّسَاءَ بِتَعْلِيلِ الْمَرَضِ أَقْوَمُ مِنَ
الرِّجَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَصِيرُ بِضَعْفِ الْمَرَضِ كَالْعَائِدَةِ إِلَى
حَالِ الصِّغَرِ، وَالْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا فِي صِغَرِهَا مِنَ الْأَبِ
فَإِذَا أَرَادَتِ الْأُمُّ تَمْرِيضَهَا فَالْأَبُ فِيهَا بَيْنَ
خِيَارَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى مَنْزِلِ الْأُمِّ، لِتَقُومَ
بِتَمْرِيضِهَا فِيهِ فَإِذَا بَرَأَتْ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهَا
مَنْعُ الْأَبِ مِنَ الدُّخُولِ لِعِيَادَةِ بِنْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ
يُفْرِدَ لَهَا فِي مَنْزِلِهِ مَوْضِعًا تَخْلُو لِتَمْرِيضِهَا فِيهِ،
وَلْيَكُنْ بَيْنَهُمَا مِنْ
(11/508)
ثِقَاتِ النِّسَاءِ أَوْ ذَوِي
الْأَرْحَامِ الْمَحَارِمِ مَنْ تَنْتَفِي بِهِ التُّهْمَةُ عَنْهُمَا،
فَإِذَا بَرَأَتِ انْصَرَفَتِ الْأُمُّ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ
أَقَامَتِ الْأُمُّ لمواراتها حتى تدفن، وليس الأب أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ
الْبُكَاءِ عَلَيْهَا، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ النِّيَاحَةِ
وَاللَّطْمِ، وَيَمْنَعَهَا مِنَ اتِّبَاعِ جِنَازَتِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى وَحَقِّهِ، وَيَمْنَعَهَا مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِهَا إِنْ دُفِنَتْ
فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ دُفِنَتْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مَنَعَهَا مِنَ الزيادة
فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّهِ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لعن الله زورات القبور ".
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَخْبُولًا فَهُوَ
كَالصَّغِيرِ فَالْأُمُّ أحق بِهِ وَلَا يُخَيَّرُ أَبَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى فِي شُرُوطِ التَّخْيِيرِ،
لِأَنَّ الْمَخْبُولَ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ، وَفَقْدِ
تَمْيِيزِهِ يَكُونُ كَالصَّغِيرِ، فَصَارَتِ الْأُمُّ بِهِ أَحَقَّ،
كَالْمَحْضُونِ سَوَاءٌ كَانَ ابْنًا أَوْ بِنْتًا، هَكَذَا لَوْ طَالَ
الْخَبَلُ وَالْجُنُونُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الصِّحَّةِ وَالْبُلُوغِ
كَانَتِ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِمَا مِنَ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ
لِلْمَخْبُولِ وَالْمَجْنُونِ زَوْجَةٌ أَوْ كَانَ لِلْمَخْبُولَةِ
وَالْمَجْنُونَةِ، زوجا، كَانَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ أَحَقَّ
بِكَفَالَتِهِمَا مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا عَوْرَةَ
بَيْنَهُمَا وَلِوُفُورِ السُّكُونِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ
كَانَ لِلْمَخْبُولِ أم ولد كان الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ مِنْ أُمِّ
وَلَدِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْلَاءِ يَدِهَا،
لَكِنْ تَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَتَقُومُ الْأُمُّ بِكَفَالَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا خُيِّرَ فَاخْتَارَ أَحَدَ
الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ اخْتَارَ الْآخَرَ حُوِّلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ تَخْيِيرَ الْوَلَدِ حَقٌّ لَهُ لَا
عَلَيْهِ يَقِفُ عَلَى شَهْوَتِهِ وَالْمَيْلِ إِلَى مَصْلَحَتِهِ، فَإِذَا
اخْتَارَ أَحَدَ أَبَوَيْهِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى اخْتِيَارِ الْآخَرِ
حُوِّلَ إِلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى اخْتِيَارِ الْأَوَّلِ أُعِيدَ
إِلَيْهِ على هذا أبداً، كلما اختار واحد بَعْدَ وَاحِدٍ حُوِّلَ إِلَيْهِ
لِوُقُوفِهِ عَلَى شَهْوَتِهِ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا حَدَثَ مِنْ تَقْصِيرِ
مَنِ اخْتَارَهُ مَا يَبْعَثُهُ عَنِ الِانْتِقَالِ عَنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مُنِعَتْ مِنْهُ بِالزَّوْجِ
فَطَلَّقَهَا طَلَاقًا يَمْلِكُ فيه الرجعة أولا لَا يَمْلِكُهَا رَجَعَتْ
عَلَى حَقِّهَا فِي وَلَدِهَا لَأَنَّهَا مَنَعَتْهُ بِوَجْهٍ فَإِذَا
ذَهَبَ فَهِيَ كَمَا كانت فإن قيل فكيف تعود إلى ما بطل بالنكاح، قيل لو
كان بطل ما كان لأمها أن تكون أحق بولدها من أبيهم وكان ينبغي إذا بطل عن
الأم أن يبطل عن الجدة التي إنما حقها لحق الأم وقد قضى أبو بكر على عمر
رضي الله عنهما بأن جدة ابنه أحق به منه فإن قيل فما حق الأم فيهم؟ قيل كحق
الأب هما والدان يجدان بالولد فلما
(11/509)
كان لا يعقل كانت أولى به على أن ذلك حق
للولد للأبوين لأن الأم أحنى عليه وأرق من الأب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمِّ يُسْقِطُ
حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ وَالْكَفَالَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي "، فَلَمْ
يَكُنْ لِخِلَافِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيهِ مَعَ هَذَا النص وجه، وإذا
سقط حضانتها انتقلت عنها إلى أمها إذ لَمْ تَكُنْ أُمُّهَا ذَاتَ زَوْجٍ،
فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ نُظِرَ فِي الزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ جَدَّ
الْوَلَدِ لَمْ يُسْقِطْ حَضَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ أَجْنَبَيًّا
أَسْقَطَهَا، وَصَارَتْ لِلْأَبِ، فَإِنْ أَتَمَّتِ الْأُمُّ بَعْدَ
التَّزْوِيجِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقٍ عَادَتْ إِلَى حَقِّهَا مِنْ
حَضَانَةِ وَلَدِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ بَطَلَ حَقُّهَا بِالتَّزْوِيجِ، فَلَا يَعُودُ
إِلَيْهَا وَإِنْ أَيْمَنَ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُقُوطَ حَضَانَتِهَا بِالزَّوْجِ كَسُقُوطِهَا
بِجُنُونٍ أَوْ فَسْقٍ، وَهِيَ تَعُودُ إِلَى حَقِّهَا بِالْإِفَاقَةِ مِنَ
الْجُنُونِ، وَالْعَدَالَةِ بَعْدَ الْفِسْقِ، فَكَذَلِكَ تَعُودُ
بِالطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ
يُوجِبُ إِسْقَاطَهَا بِزَوَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَضَانَتَهَا بِالتَّزْوِيجِ تَأَخَّرَتْ، وَلَمْ
يَبْطُلْ لِانْتِقَالِهَا إِلَى أُمِّهَا المدلية بها، ولو بطلت حضانتها
فانتقلت إِلَى مَنْ أَدْلَى بِهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ ثَبَتَ عَوْدُهَا إِلَى الْحَضَانَةِ بَعْدَ طَلَاقِهَا فَسَوَاءٌ
كَانَ طَلَاقُهَا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا لَمْ تَعُدِ
الْحَضَانَةُ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَوَافَقَهُ
الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي
أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ تجري عليها أحكام الزوجية، ونحن
نبينه عَلَى أُصُولِنَا فِي أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ
كَالْبَائِنِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ
الرَّجْعَةِ صَارَتْ بِهِ كَالْخَلِيَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ
كَمَا صَارَتْ كَالْخَلِيَّةِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ رَاجَعَهَا
الزَّوْجُ فِي عِدَّتِهَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا بِرَجْعَتِهِ، وَلَوْ
ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ آلَى لَمْ تَسْتَحِقَّ الْحَضَانَةَ لِبَقَائِهَا
عَلَى الزَّوْجِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلَغَ الْغُلَامُ وَلِيَ نَفْسَهُ
إِذَا أُونِسَ رُشْدُهُ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أحدهما
وأختار له برهما وترك فراقهما وإذ بلغت الجارية كانت مع أحدهما حتى تزوج
فتكون مع زوجها فإن أبت وكانت مأمونة سكنت حيث شاءت ما لم تر ريبة وأختار
لها أن لا تفارق أبويها ".
(11/510)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُ
الْوَلَدِ عِنْدَ اكْتِفَائِهِ بِنَفْعِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ
وَخُرُوجِهِ مِنْ كَفَالَةِ أَبَوَيْهِ غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً،
وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ،
وَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْهَا.
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُقِرَّهُ فِي
مَنْزِلِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى
تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ وَلَوْ سَأَلَاهُ الْمُقَامَ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ
أَحَدِهِمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُقَامُ فِيهِ، لأنه قد ملكت تَصَرُّفَ
نَفْسِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ التَّفَرُّدُ عَنْهُمَا مُحَافَظَةً عَلَى
بِرِّهِمَا، وَحَذَرًا مِنْ عُقُوقِهِمَا وَمُقَامِهِ مع أبويه أَوْلَى
مِنْ مُقَامِهِ عِنْدَ أُمِّهِ لِلتَّجَانُسِ وَإِنْفَاقِهِمَا عَلَى
التَّصَرُّفِ وَالتَّعَاوُنِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَقَاءِ مَعَ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ وَلَمْ يَأْثَمْ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ
حَدِّ الْبِرِّ إِلَى الْعُقُوقِ.
فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إِذَا بَلَغَتْ فَحُكْمُهَا أَغْلَظُ لِكَوْنِهَا
عَوْرَةً تَرْمُقُهَا الْعُيُونُ، وَتَسْبِقُ إِلَيْهَا الظُّنُونُ
فَيَلْزَمُهَا وَيَلْزَمُ أَبَوَيْهَا مِنْ نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهَا مَا
لَا يَلْزَمُهَا فِي حَقِّ الِابْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَوْلَى
بِهَا أَلَّا تُفَارِقَ أَحَدَ أَبَوَيْهَا، وَمُقَامِهَا مَعَ أُمِّهَا
أَوْلَى مِنْ مُقَامِهَا مَعَ أَبِيهَا، لِأَنَّهَا أَقْدَرُ عَلَى
حِفْظِهَا، وَأَخْبَرُ بِتَدْبِيرِهَا، لِأَنَّ النِّسَاءَ أَعْرَفُ مِنَ
الرِّجَالِ بِعَادَاتِ النِّسَاءِ، كَمَا كَانَ الرِّجَالُ أَعْرَفُ مِنَ
النِّسَاءِ بِعَادَاتِ الرِّجَالِ، لِأَجْلِ التَّجَانُسِ وَتَشَابُهِ
الْأَخْلَاقِ، فَإِنْ فَارَقَتْ أَبَوَيْهَا نُظِرَ فِي حَالِهَا فَإِنِ
انْتَفَتِ الرِّيبَةُ عَنْهَا فِي فِرَاقِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عليه
اعْتِرَاضٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى بِهَا أَلَّا تُفَارِقَ بِرَّهُمَا،
وَإِنْ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهَا رِيبَةٌ كَانَ لَهُمَا فِي حَقِّ
صِيَانَتِهَا أَنْ يَأْخُذَاهَا بِمَا يَنْفِي الرِّيبَةَ عَنْهَا مِنْ
مُقَامِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَوْ عِنْدَ مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ
أَهْلِهَا وَالنِّسَاءُ مِنْهُمْ أَوْلَى مِنَ الرِّجَالِ لِفَضْلِ
الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ طَلَبَتِ الْمُقَامَ عِنْدَ أَحَدِ أَبَوَيْهَا
فَامْتَنَعَ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ لِخَوْفِهَا عَلَى عَقَّهَا أُخِذَا
جَبْرًا بِمُقَامِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لِسُقُوطِ مُؤْنَةِ
السُّكْنَى لَمْ يُجْبَرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَيْهَا كَمَا لا يجبر على
نفقتهما، ويكره لهما تضيعها فَإِذَا تَزَوَّجَتْ صَارَ الْأَبُ أَحَقَّ
بِهَا مِنْهُمَا فَإِنْ أُيِّمَتْ بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقٍ،
كَانَتْ حَالُهَا فِي الِانْفِرَادِ عَنْ أَبَوَيْهَا بَعْدَ الْأَيْمَةِ
أَخَفَّ مِنْ حَالِهَا قَبْلَهَا، لِأَنَّهَا قَدْ خَبَرَتْ وَخَرَجَتْ
عَنْ حَدِّ الْغِرَّةِ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ الْأَيْمَةِ رِيبَةٌ
تَوَلَّى الْأَبَوَانِ حَسْمَهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَرَابَةُ مِنَ
النِّسَاءِ فَتَنَازَعْنَ الْمَوْلُودَ فَالْأُمُّ أَوْلَى ثُمَّ أُمُّهَا
ثُمُّ أُمَّهَاتُ أُمِّهَا وَإِنْ بَعُدْنَ ثُمَ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأَبِ
ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا ثُمَّ الْجَدَّةُ أُمُّ الْجَدِّ
لِلْأَبِ ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ
وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْأُخْتُ لِلْأُمِّ ثُمَّ
الْخَالَةُ ثُمَّ الْعَمَّةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَضَانَةِ ثُمَّ
الْكَفَالَةِ مُسْتَحَقَّةٌ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ
النَّسَبِ لِحُدُوثِ الْوِلَادَةِ عَنْهُمَا فَتَفَرَّعَ عَنْهُمَا جَمِيعُ
مَنْ عَلَا مِنَ القرابات، كما ترفع
(11/511)
عَنِ الْوَلَدِ جَمِيعُ مَنْ نَزَلَ مِنَ
الْقِرَابَاتِ، لِأَنَّ أَبَوَيْهِ أَصْلٌ لِمَنْ عَلَا مِنْ قِرَابَاتِهِ.
وهو أصلاً لِمَنْ نَزَلَ عَنْهُ مِنْ قِرَابَاتِهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَحَضَانَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِمْ يَتَقَدَّمُ
بِهَا مِنْهُمْ أَقْوَاهُمْ سَبَبًا فِيهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي
الْحَضَانَةِ قَرَابَاتُ الْمَوْلُودِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أن يكونوا نساء لا رجلاً فِيهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا رِجِالًا لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا رِجِالًا وَنِسَاءً.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ مَسْطُورُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ
يَكُونُوا نِسَاءً لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ فَيَخْرُجَ مِنْهُنَّ مَنْ لَا
حَضَانَةَ لَهَا، وَهِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِنَقْصٍ كَإِخْلَالِهَا بِأَحَدِ
الشُّرُوطِ السِّتَّةِ لِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ
بُعْدِ وَطَنٍ أَوْ تَزْوِيجٍ بِأَجْنَبِيِّ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِضَعْفِ قَرَابَتِهَا،
وَهِيَ كُلُّ مُدْلِيَةٍ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ كَأُمَّ ابْنِ الْأُمِّ،
وَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ ابْنِ الْأُخْتِ فَلَا حَضَانَةَ لَهُنَّ
لِإِدْلَائِهِنَّ بِذَكَرٍ قَدْ فَقَدَ آلَةَ التَّرْبِيَةِ مِنَ
الْأُنُوثِيَّةِ، وَعَدَمِ قُوَّةِ الْقَرَابَةِ لِسُقُوطِ الْمِيرَاثِ،
فَلِذَلِكَ سَقَطَتْ حَضَانَةُ الْمُدْلِينَ بِهِ، فَأَمَّا مَنْ سَقَطَتْ
حَضَانَتُهُنَّ لِلنَّقْصِ، فَلَا حَضَانَةَ لَهَا من مُسْتَحِقِّ
الْحَضَانَةِ وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا مَنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا لِضَعْفِ
قَرَابَتِهَا فَلَا حَضَانَةَ لَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّهَا، وَفِي
اسْتِحْقَاقِهَا لِلْحَضَانَةِ مَعَ عَدَمِ مُسْتَحِقِّهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْقُرْبَى،
وَإِنْ ضَعُفَتْ، لِأَنَّ ضَعْفَهَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مَعَ مَنْ هُوَ
أَقْوَى مِنْهَا، وَلَا يُسْقِطُهَا مَعَ مَنْ عُدِمَ قَرَابَتَهَا،
فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الْأَجَانِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، وَإِنْ
عُدِمَ جَمِيعُ الْقِرَابَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مُثْبِتٌ
لِاسْتِحْقَاقٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ بِذَلِكَ عَلَى
الْأَجَانِبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ، كَمَا
نُقَدِّمُ الْمُرْضِعَةَ وَالْجَارَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ
الْأَوْلَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَدَّى اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ إِلَى
الْعُدُولِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَجَانِبِ جَازَ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا مستحقات الحضانة فهو من الصفين الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ جَمِيعِ
الْقِرَابَاتِ، فَيَتَقَدَّمْنَ فِيهَا بِقُوَّةِ النَّسَبِ.
وَقُوَّةُ النَّسَبِ شَيْئَانِ:
(11/512)
أَحَدُهُمَا: دُنُوُّ الْقَرَابَةِ
كَالْأُمِّ مَعَ ابْنِهَا، وَالْأُخْتِ مَعَ بِنْتِهَا.
وَالثَّانِي: قُوَّةُ الْقَرَابَةِ وَقُوَّتُهَا تَكُونُ بِخَمْسَةِ
أَسْبَابٍ: أَوَّلُهَا: مُبَاشَرَةُ الْوِلَادَةِ، وَوُجُودُ
الْبَعْضِيَّةِ.
ثَانِيهَا: التَّعْصِيبُ.
ثَالِثُهَا: الْمِيرَاثُ.
رَابِعُهَا: الْمَحْرَمُ.
خَامِسُهَا: الْإِدْلَاءُ بِمُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ.
وَيَنْقَسِمُ الْإِدْلَاءُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: الْإِدْلَاءُ بِالْوِلَادَةِ، كَإِدْلَاءِ أُمِّ الْأُمِّ
بِوِلَادَةِ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ بِوِلَادَةِ الْأَبِ، وَهَذَا
أَقْوَى أَقْسَامِ الْإِدْلَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْإِدْلَاءُ بِالِانْتِسَابِ كَإِدْلَاءِ الأخوات
بالأبوين، وإدلاء بناتهن بهن، وهذا يتلوا الْأَوَّلَ فِي الْقُوَّةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْإِدْلَاءُ بِالْقُرْبَى كَإِدْلَاءِ الْخَالَةِ
بِالْأُمِّ وَالْعَمَّةِ بِالْأَبِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ عَلَى
التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ كَانَ أَحَقَّ الْقُرَابَاتِ
بِالْحَضَانَةِ الْأُمُّ لِاجْتِمَاعِ مَعَانِي الِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا،
وَأَنَّهَا أَكْثَرُهُنَّ إِشْفَاقًا وَحُنُوًّا ثُمَّ تَلِيهَا أُمُّهَا
لِمُشَارَكَتِهَا فِي الْوِلَادَةِ وَأَنَّهَا بَعْضُ أُمِّهَا كَمَا كَانَ
الْوَلَدُ بَعْضَهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ بَعُدْنَ يَتَقَدَّمْنَ
عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَبِ، وَإِنْ قَرُبْنَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهِنَّ مُتَحَقِّقَةٌ، وَفِي أُمَّهَاتِ
الْأَبِ لِأَجْلِ الْأَبِ مَظْنُونَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ أَقْوَى مِيرَاثًا مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَبِ،
لِأَنَّهُنَّ لَا يُسْقُطْنَ بِالْأَبِ وَتَسْقُطُ أُمَّهَاتُ الْأَبِ
بِالْأُمِّ وَتَسْقُطُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ مَنْ أَدْلَتْ بِأَبٍ
بَيْنَ أُمَّيْنِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا عُدِمَتْ أُمَّهَاتُ الْأُمِّ قُرْبًا وَبُعْدًا انْتَقَلَتِ
الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى أُمَّهَاتِ الْأَبِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ
الشَّافِعِيِّ، وَمُقْتَضَى أُصُولِهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا حَكَاهُ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ
أُمَّهَاتِ الْأُمِّ إِلَى الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ
لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأَبَوَيْنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوِلَادَةَ وَالْبَعْضِيَّةَ أَقْوَى وَلِثُبُوتِ
مِيرَاثِهِنَّ مَعَ الْأَبْنَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فأحق أمهات الأب
بالحضانة أمه لمباشرته لولادته ثم أمهاتها وإن علوان مُقَدَّمَاتٌ عَلَى
أُمِّ الْجَدِّ لِتَقْدِيمِ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ، فَكَانَ الْمُدْلِي
بِالْأَبِ أَحَقَّ مِنَ الْمُدْلِي بِالْجَدِّ، فَإِذَا عُدِمَ
(11/513)
أُمَّهَاتُ الْأَبِ فَأُمُّ الْجَدِّ ثُمَّ
أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ ثُمَّ أُمُّ ابْنِ الْجَدِّ ثُمَّ
أُمَّهَاتُهَا، وإن علوان ثم أم جد الجد أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ،
ثُمَّ كَذَلِكَ فِي أُمَّهَاتِ مَنْ عَلَا مِنْ كُلِّ جَدٍّ وَلَا
حَضَانَةَ فيهن لما أَدْلَتْ بِأَبٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ، كَأُمِّ ابْنِ
الْأُمِّ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا عُدِمَ أُمَّهَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْأَخَوَاتِ
وَتَقَدَّمْنَ عَلَى الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، لِأَنَّهُنَّ رَاكَضْنَ
الْمَوْلُودَ فِي الرَّحِمِ، وَشَارَكْنَهُ فِي النَّسَبِ، فَتَكُونُ
الْحَضَانَةُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ
ثُمَّ لِلْأُخْتِ لِلْأُمِّ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: الْأُخْتُ
لِلْأُمِّ مُقَدِّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، لِأَنَّ الْمُدْلِي
بِالْأُمِّ أَحَقُّ مِنَ الْمُدْلِي بِالْأَبِ كَالْجَدَّاتِ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قُوَّتُهَا بِالْمِيرَاثِ وَتَعْصِيبِ الْبَنَاتِ مَعَ
مُسَاوَاتِهَا فِي الْأُنُوثِيَّةِ.
وَالثَّانِي أَنَّهَا تَقُومُ فِي الْمِيرَاثِ مَقَامَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ
وَالْأُمِّ إِذَا عُدِمَتْ فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ، وَمَا
اعْتَبَرُوهُ مِنْ إِدْلَاءِ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ بِالْأُمِّ، فَالْقُوَّةُ
بِالْمِيرَاثِ صِفَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ أَوْلَى فِي التَّرْجِيحِ
مِنَ اعْتِبَارِ صِفَةٍ مِنْ غَيْرِهَا.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا عُدِمَ الْأَخَوَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْخَالَاتِ
وَتَقَدَّمْنَ فِيهَا عَلَى الْعَمَّاتِ لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأُمِّ،
وَإِدْلَاءُ الْعَمَّاتِ بِالْأَبِ مَعَ اسْتِوَائِهِنَّ فِي الدَّرَجَةِ
وَعَدَمِ الْمِيرَاثِ فَتُقَدَّمُ الْخَالَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ ثُمَّ
الْخَالَةُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْخَالَةُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ
الْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ تُقَدَّمُ الْخَالَةُ لِلْأُمِّ عَلَى
الْخَالَةِ لِلْأَبِ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَسْقَطَ حَضَانَةَ الْخَالَةِ لِلْأَبِ
لِإِدْلَائِهَا بِأَبِي الْأُمِّ، وَالْأُنْثَى إِذَا أَدْلَتْ بِذَكَرٍ
لَا يَرِثُ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا كَأُمِّ ابْنِ الْأُمِّ.
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمُسَاوَاتِهَا لِلْأُمِّ فِي دَرَجَتِهَا
فَصَارَتْ مُدْلِيَةً بِنَفْسِهَا، وَخَالَفَتْ أُمَّ ابْنِ الْأُمِّ
الْمُدْلِيَةَ بِغَيْرِهَا.
فَإِذَا عُدِمَ الْخَالَاتُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ إِلَى
الْعَمَّاتِ لِإِدْلَائِهِنَّ لِأُخُوَّةِ الْأَبِ كَإِدْلَاءِ الْخَالَاتِ
بِإِخْوَةِ الْأُمِّ فَتُقَدَّمُ الْعَمَّةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ
الْعَمَّةُ لِلْأَبِ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قَوْلِ
الْمُزَنِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ تُقَدَّمُ الْعَمَّةُ لِلْأُمِّ عَلَى
الْعَمَّةِ لِلْأَبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي
الْأَخَوَاتِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا عُدِمَ الْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ فِي مُسْتَحِقَّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُنَّ لِانْتِهَائِهَا
إِلَيْهِنَّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ الْأُخْوَةِ
وَالْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَصِبَاتِ قُرْبًا فَقُرْبًا ثُمَّ
بَنَاتِ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ ثُمَّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ
عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصِبَاتِ اعْتِبَارًا بِالْمِيرَاثِ.
(11/514)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا
تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ
عَمَلًا عَلَى تَدْرِيجِ الْأُبُوَّةِ.
فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ
إِلَى بَنَاتِ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ تُقَدَّمُ فِيهَا بَنَاتُ
الْأَخَوَاتِ عَلَى بَنَاتِ الْإِخْوَةِ لِتَقَدُّمِ الْأَخَوَاتِ فِيهَا
عَلَى الْإِخْوَةِ، فَتُقَدَّمُ فِيهَا بَنَاتُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ
وَالْأُمِّ ثُمَّ بَنَتُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنَتُ الأخت للأم على
قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ تُقَدَّمُ بِنْتُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ عَلَى بِنْتِ
الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إلى بنات الإخوة فيقدم
بِنْتُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ بِنْتُ الْأَخِ للأب، ثم بنت
الأخ للأم.
وعلى قول ابن سريج على ما ذكرنا ثُمَّ تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ
إِلَى بَنَاتِ بَنِي الْإِخْوَةِ دُونَ بَنَاتِ بَنِي الْأَخَوَاتِ؛
لِأَنَّ بَنِي الْأُخْوَةِ عَصَبَةٌ يَرْثُونَ، وَبَنُو الْأَخَوَاتِ لَا
يَرْثُونَ فتقدم الحصانة بِنْتَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، ثُمَّ
لِبِنْتِ الأخ للأب، لأحضانة لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهَا
تُدْلِي بِذَكَرٍ لَا يَرْثِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى بَنَاتِ
الْأَعْمَامِ فَتُقَدَّمُ بِنْتُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ
بِنْتُ الْعَمِّ لِلْأَبِ، وَلَا حَضَانَةَ لِبِنْتِ الْعَمِّ لِلْأُمِّ
لِإِدْلَائِهَا بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ بَنَاتِ
الْعَصِبَاتِ إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ ثُمَّ بَنَاتِ الْعَمَّاتِ.
(فَصْلٌ)
وَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الثَّانِي: فِي انْتِقَالِهَا بَعْدَ
الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إِلَى خَالَاتِ الْأَبَوَيْنِ انْتَقَلَتِ
الْحَضَانَةُ إِلَى خَالَاتِ الْأُمِّ يَتَرَتَّبْنَ فِيهَا تَرْتِيبَ
الْخَالَاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ، وَلَا حَضَانَةَ لِعَمَّاتِ الْأُمِّ
لِإِدْلَائِهِنَّ بِأَبِي الْأُمِّ، وَهُوَ ذَكَرٌ لَا يَرِثُ، ثُمَّ
تَنْتَقِلُ بَعْدَ خَالَاتِ الْأُمِّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ إِلَى
عَمَّاتِهِ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ خَالَاتِ الْأَبِ وَعَمَّاتِهِ إِلَى
خَالَاتِ أُمِّ الْأُمِّ دُونَ عَمَّاتِهَا، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ
إِلَى خَالَاتِ الْجَدِّ ثُمَّ إِلَى عَمَّاتِهِ، ثُمَّ تَسْتَعْلِي
كَذَلِكَ إِلَى دَرَجَةٍ بَعْدَ دَرَجَةٍ، وَلَا تَسْتَوْعِبُ عَمُودَ
الْأُمَّهَاتِ كَمَا اسْتَوْعَبَتْ أُمَّهَاتِ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّ
الْبُعْدَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ وَارِثَةٌ كَالْقُرْبَى، فَلَمْ
يُعْتَبَرْ فِي حَضَانَتِهِنَّ قُرْبُ الدَّرَجِ، وَالْخَالَاتُ
وَالْعَمَّاتُ بِخِلَافِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَرِثْنَ، فَاعْتُبِرَ
فِيهِنَّ قُرْبُ الدَّرَجِ، فَإِذَا عُدِمَ خَالَاتُ الْأُمَّهَاتِ
وَخَالَاتُ الْآبَاءِ وَعَمَّاتُهُ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ بَعْدَهُنَّ
إِلَى بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ بَنَاتِ الْأُخْوَةِ ثُمَّ
إِلَى بَنَاتِ الْعَصَبَةِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ، ثُمَّ إِلَى
بَنَاتِ الْعَمَّاتِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَإِذَا اسْتَوْضَحْتَ مَا قَرَّرْتُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ صَحَّ لَكَ
التَّفْرِيعُ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقُرَابَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ
الْجِهَاتِ، وَسَنَذْكُرُ تَفَرُّدَ الرَّجُلِ بِهَا، وَاشْتِرَاكَهُمْ
مَعَ النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ بَعْدُ وبالله التوفيق.
(11/515)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وِلَايَةَ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ
لِأَنَّ قَرَابَتَهَا بِأَبٍ لَا بِأُمٍّ فَقَرَابَةُ الصَّبِيِّ مِنَ
النِّسَاءِ أَوْلَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ ذكر لها يَرِثُ فَلَا
حَضَانَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ عُدِمَ آلَةَ التَّرْبِيَةِ مِنَ
الْأُنُوثِيَّةِ وَفَقَدَ قُوَّةَ النَّسَبِ لِسُقُوطِ للميراث فَجَرَى
مَجْرَى الْأَجَانِبِ فَمِنْهُمْ أَبُو الْأُمِّ وَلَا حَضَانَةَ لَهُ
وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَالْعَمُّ لِلْأُمِّ، وَبَنُو الْخَالَاتِ
وَالْعَمَّاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَؤُلَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ
حَضَانَةٌ، فَلَا حَضَانَةَ لِبَنَاتِهِمْ لِإِدْلَائِهِنَّ بِمَنْ لَا
يَسْتَحِقُّهَا، فَصِرْنَ فِيهِ أَضْعَفَ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ
إِذَا سَقَطَتْ حَضَانَةُ الْكَافِرَةِ وَالْفَاسِقَةِ وَذَاتِ الزَّوْجِ
لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَةُ بَنَاتِهِنَّ، وَإِنْ أَدْلَيْنَ بِمَنْ لَا
يَسْتَحِقُّهَا، فَهَلَّا كَانَتِ الْمُدْلِيَةُ بِذَكَرٍ لَا يَرِثُ فِي
اسْتِحْقَاقِهَا، كَذَلِكَ.
قِيلَ: لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَضَانَةِ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْفِسْقِ
لِعَارِضِ نَقْصٍ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي تَسْتَحِقُّ بِهِ
الْحَضَانَةَ، وَقَدْ يَزُولُ فَتَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ وَلَيْسَ كَمَنْ
ذَكَرْنَا مِنَ الذُّكُورِ الَّذِينَ لَا يَرْثُونَ لِأَنَّهُمْ سَقَطُوا
لِعَدَمِ النَّسَبِ لَا لِنَقْصِ عِرْضٍ فَافْتَرَقُوا فَعَلَى هَذَا فَلَا
حَضَانَةَ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَلَا لِأُمَّهَاتِ آبَائِهِ
وَأُمَّهَاتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جَدَّةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدِ
الْأَبَوَيْنِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ.
فَإِنِ انْفَرَدَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ مِنَ الْقَرَابَاتِ
عَنْ مُسْتَحِقِّهَا فَهَلْ يُسَاوِينَ الْأَجَانِبَ فِيهَا، وَيَصِرْنَ
أَحَقَّ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ وَالْأَجَانِبَ فِيهَا سَوَاءٌ، فَإِنْ قَدِمُوا
مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهَا بَعْدَ عَدَمِ
مُسْتَحِقِّهَا لِتَمَيُّزِهِمْ بِقَرَابَةٍ بَانُوا بِهَا جَمِيعَ
الْأَجَانِبِ فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا الذُّكُورُ، وَمَنْ
أَدْلَى بِهِمْ مِنَ الْإِنَاثِ فَفِي أَحَقِّهِمْ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذُّكُورَ أَحَقُّ بِهَا لِقُرْبِهِمْ مِمَّنْ أَدْلَى
بِهِمْ لِبُعْدِهِمْ فَيَكُونُ أَبُو الْأُمِّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ
أُمِّهِ. وَالْخَالُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ بِنْتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنَاثَ مَعَ بَعْدَهُنَّ أَحَقُّ بِهِمَا
مِمَّنْ أَدْلَيْنَ بِهِ مِنَ الذُّكُورِ مع قربهم لاختصاصهن بالأنثوية
الَّتِي هِيَ آلَةُ التَّرْبِيَةِ، وَمَقْصُودُ الْحَضَانَةِ فَتَكُونُ
أُمُّ أَبِي الْأُمِّ
(11/516)
أَحَقَّ مِنْ أَبِيهَا، وَبِنْتُ الْخَالِ
أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْخَالِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا انْفَرَدَ الذُّكُورُ مِنْهُمْ عَنِ الْإِنَاثِ، وَتَنَازَعَ
الْحَضَانَةَ مِنْهُمُ اثْنَانِ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا
وِلَادَةٌ كَأَبِي الْأُمِّ وَالْخَالِ كَانَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنِ
اخْتُصَّ مِنْهُمَا بِالْوِلَادَةِ فَتَكُونُ لِأَبِي الْأُمِّ دُونَ
الْخَالِ لِبَعْضِيَّتِهِ، وَأُجْرَى حُكْمُ الْأُبُوَّةِ عَلَيْهِ فِي
سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ وَعِتْقِهِ عَلَيْهِ إِذَا مَلَكَهُ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهَا وِلَادَةٌ كَالْخَالِ وَالْعَمِّ مِنَ الْأُمِّ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، فَيَتَقَرَّعُ بَيْنَهُمَا فِيهَا وَلَا
اعْتِبَارَ بِمَنْ أَدْلَيَا بِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي سُقُوطِ
الْحَضَانَةِ مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهُمَا
مَنْ قَوِيَ بِسَبَبِ إِدْلَائِهِ، فَيَكُونُ الْخَالُ لِإِدْلَائِهِ
بِالْأُمِّ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْعَمِّ لِلْأُمِّ لِإِدْلَائِهِ بِالْأَبِ
الَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْأُمُّ، وَلَوْ كَانَ ابْنَ أَخٍ لِأُمِّ
وَعَمٍّ لِأُمٍّ، كَانَ الْعَمُّ لِلْأُمِّ أَحَقَّ بِهَا مِنَ ابْنِ
الْأَخِ لِلْأُمِّ لِإِدْلَائِهِ لِأُمِّ الْأَبِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ
بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَهَكَذَا لَوِ انْفَرَدَ
النِّسَاءُ مِنْهُمْ عَنِ الذُّكُورِ، وَتَنَازَعَهَا مِنْهُنَّ اثْنَتَانِ
وَكَانَتْ فِي إِحْدَاهُمَا وِلَادَةٌ لَيْسَتْ فِي الْأُخْرَى كَأُمِّ
أَبِي الْأُمِّ مَعَ بِنْتِ الْخَالِ كَانَتْ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ أَحَقَّ
بِهَا لِأَجْلِ الْوِلَادَةِ مِنْ بِنْتِ الْخَالِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وِلَادَةٌ كَبِنْتِ الْخَالِ وَبِنْتِ الْعَمِّ
لِلْأُمِّ كَانَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
وَلَكِنْ لَوْ تَنَازَعَ فِيهَا مِنْهُنَّ أُنْثَى وَذَكَرٌ، وَلَيْسَ
يُدْلِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَانَتِ الْأُنْثَى أَحَقَّ بِهَا
مِنَ الذَّكَرِ وَجْهًا وَاحِدًا لِاخْتِصَاصِهَا بِآلَةِ التَّرْبِيَةِ
مَا لَمْ يَكُنْ فِي الذَّكَرِ وِلَادَةٌ سَوَاءٌ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ مَعَ الْأَبِ غَيْرَ
الْأُمِّ وأمهاتها فأما أخواته وغيرهين فَإِنَّمَا حُقُوقُهُنَّ بِالْأَبِ
فَلَا يَكُونُ لَهُنَّ حَقٌّ مَعَهُ وَهُنَّ يُدْلِينَ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
اجْتِمَاعُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ بَعْدَ أَنْ
قَدَّمَ انْفِرَادَ النِّسَاءِ بِهَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ
الرِّجَالَ بِهَا عَلَى النِّسَاءِ كَمَا قَدَّمَ انْفِرَادَ النِّسَاءِ
بِهَا عَلَى الرِّجَالِ لِيَكُونَ حُكْمُ اجْتِمَاعِهِمَا مَبْنِيًّا عَلَى
مَا اسْتَقَرَّ مِنْ حُكْمِ انْفِرَادِهِمَا.
فَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ مِنْ أَقَارِبِ الْمَوْلُودِ يَتَنَازَعُونَ
حَضَانَتَهُ، مُنْفَرِدِينَ عَنِ النِّسَاءِ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِمَنْ
كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ وَارِثٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَعْفِ قِسْمِهِمْ
لِسُقُوطِ مِيرَاثِهِمْ وَتَمَيُّزِهِمْ عَمَّنْ لَا يَرِثُ من النساء بعد
الْأُنُوثِيَّةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْأَقْوَى فِي اسْتِحْقَاقِ
(11/517)
الْحَضَانَةِ وَإِذَا اخْتَصَّتْ
بِالْوَرَثَةِ مِنَ الذُّكُورِ لِمَنْ يستحقها من قبل الأم إلا واحد،
وَهُوَ الْأَخُ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَرْثِ مِنْ جِهَتِهَا ذَكَرٌ
سِوَاهُ، وَكَثُرَ مُسْتَحِقُّوهَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِكَثْرَةِ
الْوَرَثَةِ مِنْهُمْ، وَلَا يَرْثِ مِنْهُمْ إِلَّا عَصَبَةٌ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَأَحَقُّ الذُّكُورِ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْوَرَثَةِ
الْأَبُ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْوِلَادَةِ وَتَمَيُّزِهِ
بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُ إِلَى
آبَائِهِ الَّذِينَ وَلَدُوهُ، وَيَتَقَدَّمُ بِهَا الْأَقْرَبُ
فَالْأَقْرَبُ، وَيَكُونُ أَبْعَدُ الْآبَاءِ دَرَجَةً أَحَقَّ بِهَا مِنَ
الْإِخْوَةِ، وَإِنْ قَرُبُوا، فَإِذَا عُدِمَ الْأَجْدَادُ انْتَقَلَتْ
بَعْدَهُمْ إِلَى الْإِخْوَةِ فَيُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ والأم ثم الأخ
ثُمَّ الْأَخُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
سُرَيْجٍ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا عُدِمَ الْإِخْوَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ
يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى بَنِي الْإِخْوَةِ،
وَيَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى الْأَعْمَامِ لِقُوَّةِ تَعَصُّبِهِمْ فِي
حَجْبِ الْأَعْمَامِ عَنِ الْمِيرَاثِ فَيَتَقَدَّمُ بِهَا ابْنُ الْأَخِ
لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ ولاحق فِيهَا لِابْنِ
الْأَخِ لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ وَارِثٍ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ
إِلَى أَوْلَادِهِمَا وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى
الْأَعْمَامِ فَيَتَقَدَّمُ بِهَا الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِلْعَمِّ
لِلْأُمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَهَا إِلَى
أَوْلَادِهَا وَإِنْ جَعَلُوا يَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى أَعْمَامَ
الْأَبِ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى بَنِي الْأَعْمَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْإِخْوَةِ إِلَى
الْأَعْمَامِ دُونَ بَنِي الْأُخْوَةِ لِقُوَّتِهِمْ فِي الدَّرَجَةِ عَلَى
غَيْرِ الْأُخْوَةِ فَإِذَا عُدِمَ الْأَعْمَامُ انْتَقَلَتْ إِلَى بَنِي
الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا دُونَ بَنِي الْأَعْمَامِ، وَإِنْ قَرُبُوا
عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا لِاخْتِصَاصِ بَنِي الْإِخْوَةِ بِالْمَحْرَمِ
دُونَ بَنِي الْأَعْمَامِ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى
أَعْمَامِ الْأَبِ فَإِذَا عُدِمَ بَنُو الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ فَفِي
مُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى بَنِي الْأَعْمَامِ إِذَا قِيلَ
يَتَقَدَّمُ بِهَا بَنُو الْإِخْوَةِ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى الْعَمِّ ثُمَّ
يَنْتَقِلُ بَعْدَهُمْ إِلَى عَمِّ الْأَبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى عَمِّ الْأَبِ
يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى بَنِي الْعَمِّ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْعَمَّ
مُقَدَّمٌ بِهَا عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ فَإِذَا عُدِمَ عَمُّ الْأَبِ
انْتَقَلَتْ بَعْدَهُ إِلَى بَنِي الْعَمِّ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا وَإِنْ
سَفَلُوا عَلَى بَنِي الْعَمِّ، وَإِنْ قَرُبُوا لِاخْتِصَاصِهِمْ
بِالْقُرْبِ وَتَسَاوِيهِمْ فِي عَدَمِ الْمَحْرَمِ ثُمَّ عَلَى هَذَا
التَّرْتِيبِ فِي بَنِي أَبٍ بَعْدَ أَبٍ فَإِذَا عُدِمَ جَمِيعُ
الْعَصَبَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى الْمُعْتَقِ فِيهَا حَقٌّ، لِأَنَّهُ
قَدْ أَسْقَطَ بِالْعِتْقِ حَقَّ نَفْسِهِ عَنِ الْمُعْتِقِ فَسَقَطَتْ
حَضَانَتُهُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى الْمُعْتَقِ نَسَبٌ هُوَ أَبْعَدُ
مَنْ نَسَبِ مَنْ حَضَرَ، فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِوِلَايَةِ مَنْ بَعْدِهِ
عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ كَعَمٍّ وَعَمِّ أَبٍ مُعْتَقٍ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
(11/518)
أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ بِهِ وَإِنْ
بَعُدَ لِجَمْعِهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَجْرِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حُكْمُ التعصب فَتَكُونُ الْحَضَانَةُ لِعَمِّ الْأَبِ
لِوَلَائِهِ دُونَ الْعَمِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ بِهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَا
يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحَضَانَةَ فَلَمْ يَتَرَجَّحْ بِهِ الْحَضَانَةُ
إِلَّا مَعَ التَّكَافُؤِ فَيَكُونُ الْعَمُّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ
بِقُرْبِهِ مِنْ عَمِّ الْأَبِ مَعَ ولادته، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ حُكْمُ مَا أَوْضَحْنَا مِنْ حُكْمِ النِّسَاءِ إِذَا
انْفَرَدُوا عَنِ الرِّجَالِ، وَمِنْ حُكْمِ الرِّجَالِ إِذَا انْفَرَدَتْ
عَنِ النِّسَاءِ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ حُكْمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ
مَعَ النِّسَاءِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَأَحَقُّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
بِالْحَضَانَةَ الْأُمُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي " وَلِأَنَّهَا
مُبَاشَرِةٌ لِلْوِلَادَةِ قَطْعًا وَإِحَاطَةً وَهِيَ فِي الْأَبِ
مَظْنُونَةٌ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا، وَلِأَنَّهَا
بِتَرْبِيَتِهِ أَخْبَرُ وَعَلَى التَّشَاغُلِ لِحَضَانَتِهِ أَصْبَرُ،
فَإِذَا أُعْدِمَتِ الْأُمُّ فَأُمُّهَا لِأَنَّهَا تَلِي الْأُمَّ فِي
مَعَانِيهَا ثُمَّ أُمَّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى
الْأَبِ مَعَ قُرْبِهِ. فَإِذَا عُدِمَتِ الْأُمُّ وَأُمَّهَاتُهَا
انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ إِلَى الْأَبِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا دَلَّ فِيهِ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ تَقْدِيمِ مَنْ أَدْلَى بِالْأُمِّ
مِنَ النِّسَاءِ كَالْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى
الْأَبِ، لِأَنَّ فِي الْأَبِ مِنَ الولادة، والاختصاب بِالنَّسَبِ،
وَفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ مَا لَا يَكُونُ فِيمَنْ عُدِمَ
الْوِلَادَةَ وَيَكُونُ مَنِ اخْتُصَّ بِالْوِلَادَةِ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فَمَنْ عُدِمَ الْوِلَادَةَ فَإِنْ
تَسَاوَى فِي الْوِلَادَةِ أَبَوَانِ قُدِّمَتِ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ
بِالْأُنُوثِيَّةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالتَّرْبِيَةِ، فَعَلَى هَذَا
يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتِهَا إِلَى الْأَبِ، فَإِنْ عُدِمَ
انْتَقَلَتْ إِلَى أُمِّهِ، وَمَنْ عَلَا تَقَدَّمَ عَلَى أَبِيهِ فَإِنْ
عُدِمَ أُمَّهَاتُ الْأَبِ انْتَقَلَتْ إِلَى أَبِي الْأَبِ وَهُوَ
الْجَدُّ، ثُمَّ أُمَّهَاتِهِ ثُمَّ إِلَى أَبِي الْجَدِّ ثُمَّ
أُمَّهَاتِهِ عَلَى هَذَا، حَتَّى تَسْتَوْعِبَ عَمُودَ الْآبَاءِ
وَالْأُمَّهَاتِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِمْ مَعَ وُجُودِ الْوِلَادَةِ
فِيهِمْ مَنْ عُدِمَهَا، فَإِذَا عُدِمَ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُسْتَحِقِّ الْحَضَانَةِ بَعْدَهُمْ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَ النِّسَاءِ مِنَ الْأَقَارِبِ أَحَقُّ
بِالْحَضَانَةِ مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ فَتُقَدَّمُ الْأَخَوَاتُ
وَالْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَمَنْ أَدْلَى بِهِمْ مِنَ الْبَنَاتِ عَلَى
جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ
وَبَنِيهِمْ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْأُنُوثِيَّةِ الَّتِي هِيَ
بِالْحَضَانَةِ أَخَصُّ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ
تَفَاضَلُوا فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْعَصَبَاتِ بَعْدَ الْآبَاءِ
وَالْأُمَّهَاتِ أَحَقُّ مِنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ مِنَ الْأَخَوَاتِ
وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ، وَمَنْ يُدْلِي بِهِنَّ مِنْ بَنَاتِهِنَّ
لِاخْتِصَاصِ الْعَصِبَاتِ بِالنَّسَبِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِلْقِيَامِ
بِتَأْدِيبِ الْمَوْلُودِ وَتَقْوِيمِهِ وَلِقُوَّتِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِ
مِيرَاثِهِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِنَقْلِهِ إِلَى وَطَنِهِمْ، فَصَارُوا
بِذَلِكَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ، بِخِلَافِ مَنْ عُدِمَ هَذِهِ
الْمَعَانِيَ مِنَ النساء.
(11/519)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّهَا
أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ
تَفَاضُلِ الدَّرَجِ، وَيَتَرَتَّبُونَ تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ فِي
دَرَجَتِهِ فَالْمُسَاوِي لِلْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَقْرَبِ
فَالْأَقْرَبِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ الرِّجَالُ
أَقْرَبَ قُدِّمُوا وَإِنْ كَانَ النِّسَاءُ أَقْرَبَ قُدِّمْنَ وَإِنِ
اسْتَوَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الدَّرَجِ قُدِّمَ النِّسَاءُ فِيهَا
عَلَى الرِّجَالِ لِاخْتِصَاصِهِنَّ بِالْأُنُوثِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا
يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إِلَى الْإِخْوَةِ،
وَالْأَخَوَاتِ فَتُقَدَّمْنَ الْأَخَوَاتُ لِأُنُوثَتِهِنَّ ثُمَّ
تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى الْإِخْوَةِ، فَإِذَا عُدِمُوا انْتَقَلَتْ
إلى بنوات الْأَخَوَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنِي الْإِخْوَةِ.
فَإِذَا اجْتَمَعَ ابن أخت وابن أخ كانت بنت الأخ أحق من الْأُخْتِ، وَإِنْ
كَانَ مُدْلِيًا بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ اعْتِبَارًا بِأُنُوثِيَّةِ
الْمُسْتَحِقِّ فَإِذَا عُدِمَ دَرَجَةُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ
الْمُسَاوِينَ لِلْوَلَدِ فِي دَرَجَتِهِ انْتَقَلَتْ بَعْدَهُمْ إِلَى
الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِيهِمْ وَهُمْ مِنْ مُسَاوِي الْأَبَوَيْنِ فِي
دَرَجَتِهِمَا الْخَالَاتُ، وَالْمُسَاوِينَ لِلْأَبِ فِي دَرَجَتِهِ
الْأَعْمَامُ وَالْعَمَّاتُ لِإِدْلَائِهِنَّ بِالْأُمِّ الَّتِي هِيَ
أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنَ الْأَبِ تَنْتَقِلُ بَعْدَهُنَّ إِلَى
الْعَمَّاتِ يَتَقَدَّمُونَ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَامِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ
بَعْدَهُنَّ إِلَى الْأَعْمَامِ فَإِذَا عُدِمَ الْأَعْمَامُ انْتَقَلَتْ
إِلَى بَنَاتِ الْخَالَاتِ ثُمَّ إِلَى بَنَاتِ الْعَمَّاتِ ثُمَّ إِلَى
بَنَاتِ الْعَمِّ ثُمَّ إِلَى بَنِي الْعَمِّ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ انْتَقَلْتَ إِلَى الدَّرَجَةِ
الَّتِي تَلِيهَا، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الَّتِي تُسَاوِي دَرَجَةَ الْجَدِّ
وَالْجَدَّةِ فَيُسَاوِي دَرَجَةَ الْجَدَّةِ خَالَاتُ الْأُمِّ وَتُسَاوِي
دَرَجَةَ الْجَدِّ أَعْمَامُ الْأَبِ وَعَمَّاتُهُ فَتَنْتَقِلُ
الْحَضَانَةُ إِلَى خَالَاتِ الْأُمِّ ثُمَّ إِلَى خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ
إِلَى عَمَّاتِ الْأَبِ ثُمَّ إِلَى أَعْمَامِ الْأَبِ. ثُمَّ إِلَى
أَوْلَادِهِمْ فَتَكُونُ بعدهم بنات خَالَاتِ الْأُمِّ ثُمَّ لِبَنَاتِ
خَالَاتِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنَاتِ عَمَّاتِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنَاتِ
أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ لِبَنِي أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ تُسْتَعْلَى
عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ
جَمِيعَ الدَّرَجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَصْلٌ)
فَلَوِ اجْتَمَعَ مَعَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ خُنْثَى
مُشْكِلٌ نُظِرَ فِي مُسْتَحِقِّهَا، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يُسَاوِهِ
الْخُنْثَى فِيهَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَهَلْ يَتَقَدَّمُ
بِذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرِّجَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهَا امْرَأَةً لَمْ يُسَاوِهَا
الْخُنْثَى، وَهَلْ يَتَقَدَّمُ بِذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ أَمْ لَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَيْهِ
الْمَرْأَةُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ
بِأَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَوْ أَخْبَرَ الْخُنْثَى عَنِ اخْتِيَارِهِ
لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رجلاً أَوِ امْرَأَةٌ عُمِلَ عَلَى قَوْلِهِ فِي
سُقُوطِ الْحَضَانَةِ وَهَلْ يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهَا
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أعرف بنفسه.
(11/520)
وَالثَّانِي: لَا يُعْمَلُ عَلَى قَوْلِهِ
لِتُهْمَتِهِ.
(فَصْلٌ)
إِذَا وَقَعَ التَّنَازُعُ فِي كَفَالَةِ الْمَوْلُودِ، وَلَهُ زَوْجَةٌ
كَبِيرَةٌ نُظِرَ، فَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا أَوِ
اسْتِمْتَاعِهَا بِهِ، فَهِيَ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ
أَجْنَبِيَّةً مِنْ جَمِيعِ قِرَابَاتِهِ، لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى
بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْمَوَدَّةِ، فَكَانَ أَسْكَنَ إِلَيْهَا،
وَكَانَتْ أَعْطَفَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا
وَاسْتِمْتَاعُهَا بِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي كَفَالَتِهِ، وَأَقَارِبُهُ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَحَقُّ مِنْهُمَا بِهِ، فَلَوْ كَانَتِ
الزَّوْجَةُ مِنْ أَقَارِبِهِ، فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ
عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَقَارِبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُ أَحَقَّ
بِكَفَالَتِهِ مِنْ جَمِيعِهِمْ لِجَمْعِهَا بَيْنَ سَبَبَيْنِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ بِهِ عَلَى غَيْرِهَا،
وَتَقِفُ فِي الْكَفَالَةِ عَلَى دَرَجَتِهَا مِنَ الْقَرَابَةِ الَّتِي
هِيَ أَخَصُّ بِالْكَفَالَةِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَوْلُودُ
جَارِيَةً، وَلَهَا زَوْجٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِمْتَاعُ
بِهَا كَانَ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهَا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنُهُ فَالْأَقَارِبُ
أَحَقُّ بِكَفَالَتِهَا مِنْهُ، فَإِنْ شَارَكَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ
فَهَلْ يَتَرَجَّحُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلِيُّهُمْ أَمْ لَا؟ عَلَى
وَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ
الْأَبِ إِذَا لم يكن أبا أَوْ كَانَ غَائِبًا أَوْ غَيْرُ رَشِيدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْجَدُّ يَقُومُ مَقَامَ
الْأَبِ عِنْدَ مَوْتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ بِرِقٍّ، أَوْ كُفْرٍ، أَوْ مَعَ
غَيْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْأُمِّ
تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ مَوْتِهَا، وَنَقْصِهَا وَمَعَ
غَيْبَتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ فلما نَقَلْتُمُ الْحَضَانَةَ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا
بِالْغَيْبَةِ، وَلَمْ تَنْقُلُوا وِلَايَةَ النِّكَاحِ عَنِ الْغَائِبِ؟
قِيلَ: لِأَنَّ الْغَيْبَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَلَمْ
يَسْقُطْ بِهَا حَقُّ الْوَلِيِّ، وَتَمْنَعُ مِنَ الْكَفَالَةِ فَسَقَطَ
بِهَا حَقُّ الْكَفِيلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ
يَتَقَدَّمُ بِالْحَضَانَةِ، فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَهُمْ
فِي الْكَفَالَةِ فَأَصْلُ تَخْيِيرِهِ يَكُونُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ الْأُمِّ
وَالْأَبِ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا، فَإِنْ
عُدِمَتِ الْأُمُّ خُيِّرَ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ جَمِيعِ أُمَّهَاتِ
الْأُمِّ، وَكُنَّ فِي تَخْيِيرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْأَبِ
وَبَيْنَهُنَّ كَالْأُمِّ، وَلَوْ عُدِمَ الْأَبُ مَعَ بَقَاءِ الْأُمِّ،
خُيِّرَ الْمَوْلُودُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَمِيعِ آبَاءِ الْأَبِ مِنْ
سَائِرِ الْأَجْدَادِ، وَكَانُوا فِي تَخْيِيرِ الْمَوْلُودِ بَيْنَ
الْأُمِّ وَبَيْنَهُمْ كَالْأَبِ وَإِذَا وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ
الْأَبِ وَجَمِيعِ الْجَدَّاتِ وَبَيْنَ الْأُمِّ وَجَمِيعِ الْأَجْدَادِ،
ثبت
(11/521)
التَّخْيِيرُ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَجْدَادِ
وَجَمِيعِ الْجَدَّاتِ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ.
فَأَمَّا تَخْيِيرُ الْمَوْلُودِ بَيْنَ الْأُمِّ وَبَيْنَ سائر العصبات
عشر عَدَمِ الْأَبِ وَالْأَجْدَادِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ
وَبَيْنَهُمْ فَفِيهِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُخَيَّرُ وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ مِنْ
غَيْرِ تَخْيِيرٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ أَبُو أَبِي الْأَبِ وَكَذَلِكَ
الْعَصَبَةُ يَقُومُونَ مَقَامَ الْأَبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ مَعَ الْأُمِّ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمِّهَاتِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْجَدُّ أَبُو أَبِي الْأَبِ يَقُومُ مَقَامَ
الْأَبِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ نَقْصِهِ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ يقوم
مَقَامَ الْأُمِّ، عِنْدَ مَوْتِهَا أَوْ نَقْصِهَا، فَأَمَّا التخيير
الْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي حَضَانَتِهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ
أَبَوَيْهِ، والأم والأب، ولا تخير بَيْنَ غَيْرِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا،
فَإِنْ عُدِمَتِ الْأُمُّ خُيِّرَ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ جَمِيعِ
أُمَّهَاتِ الْأُمِّ وَإِنْ عُدِمَ الْأَبُ خُيِّرَ بَيْنَ الْأُمِّ
وَجَمِيعِ آبَاءِ الْأَبِ، هَذَا فِيمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ
الْأُمِّ وَسَائِرِ الْعَصَبَاتِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُخَيَّرُ وَتَكُونُ الْأُمُّ أَحَقَّ بِكَفَالَتِهِ
لِاخْتِصَاصِهَا بِالْوِلَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخَيَّرُ كَمَا يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وبين الأب
لأنهم عصبة مناسبون كالأب ولحديث عُمَارَةَ الْجُرَمِيِّ قَالَ: خَيَّرَنِي
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ أُمِّي وَعَمِّي وَقَالَ لِأَخٍ لِي
هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي، وَهَذَا أَيْضًا لَوْ قَدْ بَلَغَ لَخَيَّرْتُهُ.
فَأَمَّا تَخْيِيرُهُ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَ غَيْرِ الْأُمِّ
وَأُمَّهَاتِهَا مِنْ نِسَاءِ الْحَضَانَةِ، فَإِنْ أَدْلَيْنَ بِالْأَبِ
لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْأَبِ، وَإِنْ أَدْلَيْنَ
بِالْأُمِّ كَالْخَالَاتِ فَفِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْأَبِ وَبَيْنَهُنَّ
مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا تَخْيِيرُهُ بَيْنَ سَائِرِ الْعَصَبَاتِ، وَبَيْنَ سَائِرِ
النِّسَاءِ سِوَى الْأُمَّهَاتِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا تخير وَتَكُونُ الْعَصَبَاتُ أَحَقَّ.
وَالثَّانِي: لَا يُخَيَّرُ وَيَكُونُ نِسَاءُ الْقُرَابَاتِ أَحَقَّ.
وَالثَّالِثُ: يُخَيَّرُ بَيْنَ عَصَبَاتِهِ وبين نساء قراباته إذا تساوت
درجتهم فَإِنْ تَسَاوَى اثْنَانِ فِي عَصَبَتِهِ لِأَخَوَيْنِ أَوِ
اثْنَتَانِ مِنْ قِرَابَاتِهِ كَالْأُخْتَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يخير بينهما.
(11/522)
وَالثَّانِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَلَا
يُخَيَّرُ وَيَسْتَحِقُّهُ مِنْ قرع منهما.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَرَادَ الْأَبُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ
الْبَلَدِ الَّذِي نَكَحَ بِهِ الْمَرْأَةَ كَانَ بَلَدَهُ أَوْ بَلَدَهَا
فَسَوَاءٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إِذَا قَالَ أَرَدْتُ النَّقْلَةَ وَهُوَ
أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مُرْضَعًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا انْتَقَلَ الْأَبُ عَنْ
وَطَنِ الْأُمِّ لِاسْتِيطَانِ غَيْرِهِ مِنَ البلاد يكون بِوَلَدِهِ
أَحَقَّ مِنْ أُمِّهِ سَوَاءٌ كَانَ رَضِيعًا فِي زَمَانِ الْحَضَانَةِ
أَوْ فَطِيمًا فِي زَمَانِ الْكَفَالَةِ، وَهَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْأَبُ
وَانْتَقَلَتِ الْأُمُّ، كَانَ الْأَبُ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ مِنْهَا
سَوَاءٌ كَانَتْ بَلَدَهُ أَوْ بَلَدَهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِ انْتَقَلَتِ الْأُمُّ
إِلَى بَلَدِهَا الَّذِي نَكَحَهَا فِيهِ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنِ
انْتَقَلَتْ إِلَى غَيْرِهِ، فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ حِفْظَ نَسَبِهِ مُخْتَصٌّ بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ،
وَهُوَ أَوْلَى بِمَصَالِحِهِ لِثُبُوتِ التَّوَارُثِ بِهِ، وَلَوْ خَرَجَ
لِسَفَرِ حَاجَةٍ فَالْأَمْرُ عَلَى حَقِّهَا مِنْ كَفَالَتِهِ، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ لِمَا يَنَالُهُ مِنْ شَقَاءِ السَّفَرِ
وَكَثْرَةِ الحظر فلو اختلفا في السفرن فَقَالَ الْأَبُ أُرِيدُهُ
لِلنَّقْلِ فِي الِاسْتِيطَانِ وَقَالَتِ الْأُمُّ: بَلْ تُرِيدُهُ
لِلْحَاجَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ مع يمنيه لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ
عَزْمُهُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي
كَفَالَةِ وَلَدِهِ جَازَ.
وَلَوْ أَرَادَتِ الْأُمُّ الِاسْتِنَابَةَ لَمْ يَجُزْ، لِاخْتِصَاصِ
الْأَبِ بِالْمُرَاعَاةِ، وَهِيَ تُمَكِّنُهُ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ
وَاخْتِصَاصُ الْأُمِّ بِمُبَاشَرَةِ التَّرْبِيَةِ، وَهَى مَعْقُودَةٌ
مَعَ الاستنابة.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ الْعَصَبَةُ إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ
الْأُمُّ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَتَكُونُ أَوْلَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْعَصَبَةَ بَعْدَ الْأَبِ
يَقُومُونَ مَقَامَهُ إِذَا انْتَقَلُوا فِي إِخْرَاجِهِ مَعَهُمْ لِحِفْظِ
نَسَبِهِ بِهِمْ، كَالْأَبِ، فَإِنِ انْتَقَلَ بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ
بَعْضُهُمْ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْتَقِلَ أَبَاعِدُهُمْ وَيُقِيمَ أَقَارِبُهُمْ
فَالْمُقِيمُونَ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْتَقِلَ أَقَارِبُهُمْ وَيُقِيمَ أَبَاعِدُهُمْ
فَالْمُنْتَقِلُونَ أَوْلَى بِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ قُرْبًا وَبُعْدًا
فَالْمُقِيمُونَ أَوْلَى به من المتنقلين لِاسْتِوَائِهِمْ فِي حِفْظِ
نَسَبِهِ وَحُصُولِ الدَّعَةِ بِإِقَامَتِهِ.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ
الْحُرِّيَّةُ فِي وَلَدِ الْحُرِّ وَإِذَا كَانَ وَلَدُ الْحُرِّ
مَمَالِيكَ فَسَيِّدُهُمْ أَحَقُّ بِهِمْ ".
(11/523)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا حَقَّ
لِلْمَمْلُوكِ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهِ، لِأَنَّ فِي الْحَضَانَةِ وِلَايَةً
لَا تَسْتَحِقُّ مَعَ الرِّقِّ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ
وَأُمُّ الْوَلَدِ وَمَنْ رَقَّ بَعْضُهُ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ
عَلَيْهِمْ جَارِيَةٌ، فَإِنْ عَتَقُوا زَاحَمُوا أَهْلَ الْحَضَانَةِ
فِيهَا وَلَا يَمْنَعُهُمْ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ عَلَيْهِمْ مُنَازَعَةَ مَنْ
لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْحُرِّيَّةِ وَلِكَمَالِ
التصرف.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانُوا مِنْ حُرَّةٍ وَأَبُوهُمْ
مَمْلُوكٌ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِمْ وَلَا يُخَيَّرُونَ فِي وَقْتِ الْخِيَارِ
".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو دُخُولُ الرِّقِّ بَيْنَ الْوَلَدِ
وَأَبَوَيْهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَأَبَوَاهُ مَمْلُوكَيْنِ فَلَا حَضَانَةَ
لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرِقِّهِ وَلَا لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ
لَهُ فِي وَلَدِ مَمْلُوكِهِ لِحُرِّيَّتِهِ وَيَكُونُ فِي حُكْمِ
الْعَادِمِ لِأَبَوَيْهِ فَيَقُومُ بِكَفَالَتِهِ وَنَفَقَتِهِ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ إِلَى أَنْ يُرَاهِقَ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْ مُرَاعَاةِ غَيْرِهِ،
وَيَقْدِرَ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِنَفْسِهِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ
إِلَّا فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بَيْتِ
الْمَالِ حَالُ الضَّرُورَةِ، وَفِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَمَالُ
الْوَلَدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا وَأَبَوَاهُ
حُرَّيْنِ فَلَا كَفَالَةَ لَهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ لِرِقِّ الْوَلَدِ،
وَلَا حَضَانَةَ لِأَبِيهِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ
الْأُمِّ لِحَضَانَتِهِ فِي السَّبْعِ رَضِيعًا أَوْ فَطِيمًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا لِفَضْلِ حُنُوِّهَا، وَعَجْزِ السَّيِّدِ
عَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا
تَثْبُتُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَأَبُوهُ حُرَّيْنِ،
وَأُمُّهُ مَمْلُوكَةً فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ حَاضِنًا وَكَفِيلًا
لِحُرِّيَّتِهِ وَرِقِّ الْأُمِّ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ وَأُمُّهُ مَمْلُوكَيْنِ
وَأَبُوهُ حُرًّا، فَلَا حَقَّ لِأَبِيهِ فِي حضانته ولا في كفالة،
فَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي
حَضَانَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِسَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ
بَيْنَهُمَا فِي حَالِ صِغَرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تولد وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا ".
وَهَلْ تَصِيرُ بِالْمَنْعِ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مُسْتَحِقَّةً
لِحَضَانَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْتَحِقُّهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْرِقَةِ
بَيْنَهُمَا قَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَسْتَحِقُّهَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّقِّ
عَلَيْهَا مَانِعٌ مِنْ وِلَايَتِهَا.
(11/524)
(باب نفقة المماليك)
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ بَكْرٍ أَوْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ " الْمُزَنِيُّ شَكَّ " عَنْ عَجْلَانَ أَبِي مُحْمَدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
" لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُكَلَّفُ
مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ (قَالَ) فَعَلَى مَالِكِ الْمَمْلُوكِ
الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْبَالِغَيْنِ إِذَا شَغَلَهُمَا فِي عَمَلٍ لَهُ
أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمَا وَيَكْسُوَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: النَّفَقَةُ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ،
بِنَسَبٍ، وَزَوْجِيَّةٍ وَمِلْكِ يَمِينٍ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا
بِالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ، فَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَتَجِبُ بِهِ
نَفَقَاتُ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ
بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ، مَا لَا يُطِيقُ فَبَيَّنَ
بِهَذَا الخبر ما يجب المملوك مِنَ النَّفَقَةِ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ
الْعَمَلِ وَلِأَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِنَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لِمَا
يَلْزَمُهُ من حراسة نفسه.
(فيما تجب فيه نفقة المملوك)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ عَلَى سَيِّدِهِ
فَسَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا صَحِيحًا
أَوْ زَمِنًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا مُكْتَسِبًا أَوْ غَيْرَ
مُكْتَسِبٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ أَنَفَقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ
مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا فَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ فِي
اسْتِخْدَامِهِ وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ
لَهُ فِي الِاكْتِسَابِ وَيَكُونُ اكْتِسَابُهُ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ،
لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِتَصَرُّفِهِ، وَعَلَى السَّيِّدِ نَفَقَتُهُ، وَهُوَ
فِيهَا بِالْخِيَارِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَأَخْذِ
جَمِيعِ كَسْبِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَإِنِ اكْتَسَبَ وَفْقَ نَفَقَتِهِ مِنْ غَيْرِ
زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ السَّيِّدُ شَيْئًا مِنْ
كَسْبِهِ وَلَمْ يَلْزَمْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ
الْكَسْبُ أَقَلَّ مِنْ نَفَقَتِهِ رَجَعَ عَلَى سَيِّدِهِ بِالْبَاقِي
مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْكَسْبُ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ رَجَعَ
السَّيِّدُ عَلَيْهِ بِفَاضِلِ كَسْبِهِ.
(11/525)
(الْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ
الْمَمْلُوكِ وَجِنْسِهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَذَلِكَ نَفَقَةُ رَقِيقِ بَلَدِهِمَا
الشِّبَعُ لِأَوْسَاطِ النَاسِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنْ
أَيِّ الطَّعَامِ كَانَ قَمْحًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ ذُرَةً أَوْ تَمْرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُكْمُ فِي نَفَقَةِ الْعَبْدِ مُشْتَمِلٌ عَلَى
قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مِقْدَارِهَا.
وَالثَّانِي: فِي جِنْسِهَا.
فَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَيُعْتَبَرُ بِالْكِفَايَةِ فِيمَا يَقْتَاتُهُ
أَمْثَالُهُ فِي الْغَالِبِ وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بِخِلَافِ الزَّوْجَاتِ،
لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ مُعَاوَضَةٌ وَهَذِهِ مُوَاسَاةٌ
فَتُعْتَبَرُ بِالْأَغْلَبِ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ، فَإِنَّ مِنَ الناس
زهيد يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ وَهُوَ نَادِرٌ، وَمِنْهُمْ رَغِيبٌ لَا
يَكْفِيهِ إِلَّا الْكَثِيرُ وَهُوَ نَادِرٌ، وَلَا اعْتِبَارَ فِيهِ
بِالنَّادِرَيْنِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَيُعْتَبَرُ وَسَطُ
الطَّرَفَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ
الْعَبْدُ، وقد يختلف ذلك على وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَإِنَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ مقدار
لا يكتفي به الكبير، وللكبير مقدار لَا يَسْتَحِقُّهُ الصَّغِيرُ،
فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَسَبِ حَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ مِقْدَارُهُ بِعُرْفِ الْبِلَادِ، فَإِنَّ
أَهْلَ الْحِجَازِ يَكْتَفُونَ بِالْقَلِيلِ وَأَهْلَ الْعِرَاقِ
يَتَوَسَّطُونَ، وَالْأَعَاجِمَ وَأَهْلَ الْجِبَالِ يُكْثِرُونَ، فَلَوْ
أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعُرْفِ الْمُتَوَسِّطِ لَمْ
يَخْلُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ وفق كفايته فقد ملكه: ولي لِلسَّيِّدِ أَنْ
يَسْتَرْجِعَهُ، وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَهُ مَتَى شَاءَ إِذَا تَاقَتْ
نَفْسُهُ إِلَيْهِ فِي مَرَّةٍ أو مرتين أو مرار، فَإِنْ أَرَادَ
السَّيِّدُ أَنْ يُبَدِّلَهُ بِغَيْرِهِ فِي وَقْتِ أَكْلِهِ لَمْ يَجُزْ
وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ جَازَ لِيُعْتَبَرَ فِيهِ حَقُّهُ عِنْدَ الْأَكْلِ،
وَعِنْدِي إِنْ كَانَ إِبْدَالُهُ يُؤَخِّرُ أَكْلَهُ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ
لَمْ يُؤَخِّرْ جَازَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ،
لِأَنَّهُ زَهِيدٌ مُقَلِّلٌ فَلِلسَّيِّدِ اسْتِرْجَاعُ الْفَاضِلِ مِنْهُ
لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَهَبَهُ وَلَا أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا عَنْ إِذْنِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ كِفَايَتِهِ،
لِأَنَّهُ رَغِيبٌ مُكْثِرٌ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ اقْتِصَارُهُ
عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَوَسِّطِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي بَدَنِهِ وَقُوَّتِهِ
لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا
فِي بَدَنِهِ وَقُوَّتِهِ لَزِمَ أَنْ يُتِمَّ لَهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ
وَإِنْ نَدَرَتْ لِأَنَّ عَلَيْهِ حراسة نفسه.
(11/526)
(الْقَوْلُ فِي جِنْسِ نَفَقَةِ
الرَّقِيقِ)
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا جِنْسُ قُوتِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ بِعُرْفِ بَلَدِهِ فِيمَا
يَقْتَاتَهُ غَالِبُ مُتَوَسِّطِهِمْ، فَإِنِ اقْتَاتُوا الْحِنْطَةَ
أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَإِنِ اقْتَاتُوا غَيْرَهَا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ ذُرَةٍ
أَوْ أَقِطٍ أَوْ تَمْرٍ كَانَ حَقُّهُ مِنْهَا، وَلَا اعْتِبَارَ
بِالسَّيِّدِ إِذَا تَنَعَّمَ فَأَكَلَ السَّمِيدَ وَالْمُحَوَّرَ
لِوُقُوعِ الْفَرْقِ فِي الْأَغْلَبِ بَيْنَ السَّادَةِ وَالْعَبِيدِ
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلْمَمْلُوكِ
طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ "، وَالْمَعْرُوفُ هُوَ اعْتِبَارُ
الْعُرْفِ بِالْمَأْلُوفِ وَكَذَلِكَ حَالَةُ الْعَبْدِ فِي إِدَامِهِ
يُؤْدِمُ بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ فِي بَلَدِهِ مِنْ
لَحْمٍ أَوْ سَمَكٍ أَوْ دُهْنٍ أَوْ لَبَنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِإِدَامِ
السَّيِّدِ إِذَا تلذذ بأكل الدجاج والخرفان، وكذلك لوقتر عَلَى نَفْسِهِ،
لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُتَحَكِّمٌ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ
مُلْتَزِمٌ، وَعَلَى السَّيِّدِ فِي طَعَامِ عَبْدِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ
إِلَيْهِ مَخْبُوزًا، وَفِي إِدَامِهِ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ
مَصْنُوعًا. بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّهُ حَبًّا
لِثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّيِّدِ إِذَا تَوَلَّى
عَبْدُهُ صُنْعَ طَعَامِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ مَا يَدْفَعُ بِهِ
شَهْوَتَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - انه قال: " إذا كفى خادم أحدكم طَعَامَهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ
فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُرَوِّغْ لَهُ اللُّقْمَةَ
وَاللُّقْمَتَيْنِ، وَالتَّرْوِيغُ أَنْ يُرَوِّيَهَا مِنَ الدَّسَمِ
فَإِنِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبِرْهُ.
(الْقَوْلُ في كسوة المملوك)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكِسْوَتُهُمْ كَذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُ
أَهْلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَنَّهُ معروف صُوفٌ أَوْ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ
أَيُّ ذَلِكَ كَانَ الْأَغْلَبَ بِذَلِكَ الْبَلَدِ وَكَانَ لَا يُسَمَّى
مِثْلُهُ ضَيِّقًا بِمَوْضَعِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: كِسْوَةُ الْعَبْدِ مُعْتَبَرَةٌ بِمِثْلِ مَا
اعْتُبِرَ بِهِ قُوتُهُ مِنْ غَالِبِ كِسْوَاتِ الْعَبِيدِ فِي الْبَلَدِ،
وَالْإِمَاءِ فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيَمْلِكُ الْعَبْدُ لِبَاسَ
كِسْوَتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَثْمَانَهَا وَإِذَا خَلَقَتِ اسْتَجَدَّ لَهُ
السَّيِّدُ غَيْرَهَا، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِذَا كَانَ يَلْبَسُ
مُرْتَفِعَ الثِّيَابِ وَنَاعِمَهَا مِنَ الْوَشْيِ وَالْحَرِيرِ أَنْ
يُسَاوِيَ فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، وَيَلْزَمُهُ إِذَا
كَانَ يَلْبَسُ أَدْنَى الثِّيَابِ كَالْبَوَادِي وَأَهْلِ الْقُرَى أَنْ
يُسَوِّيَ بَيْنَ نَفْسِهِ وَعَبْدِهِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: إخوانكم حولكم
تَحْتَ أَيْدِيكُمْ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا
تَلْبَسُونَ وَذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي
مَأْكَلِهِمْ وَمَلْبَسِهِمْ بِمُسَاوَاةِ عَبِيدِهِمْ دُونَ
الْمُتَمَيِّزِينَ عَنْهُمْ، وَالسَّادَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
(11/527)
أَحَدُهَا: مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ
الْمُوسِرِينَ، فَلَا تَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ
وَعَبْدِهِ.
وَالثَّانِي: مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَعْمَالَ الْمُعْسِرِينَ فَهَذَا
يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ عَبْدِهِ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ مُوسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أَفْعَالَ الْمُعْسِرِينَ
فَيَلْزَمُهُ مُسَاوَاةُ عَبْدِهِ.
وَالرَّابِعُ: مُعْسِرٌ يَسْتَعْمِلُ أفعال الموسرين فيمنع من مساواة عبده
لترفهه فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
(الْقَوْلُ فِي كِسْوَةِ الْجَوَارِي)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْجَوَارِي إِذَا كَانَتْ لَهُنَّ
فَرَاهَةٌ وَجَمَالٌ فَالْمَعْرُوفُ انهن يكسين أحسن من كسوة اللائي
دُونَهُنَّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَمْلُوكِينَ أَطْعِمُوهُمْ مما
تأكلون واكسوهم مما تلبسون (قال الشافعي) رحمه الله: هذا كلام مجمل يجوز أن
يكون على الجواب فيسال السائل عن مماليكه وإنما يأكل تمراً أو شعيراً ويلبس
صوفاً فقال أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون والسائلون عرب ولبوس
عامتهم وطعامهم خشن ومعاشهم ومعاش رقيقهم متقارب فأما من خالف معاش السلف
فأكل رقيق الطعام ولبس جيد الثياب فلو آسى رقيقه كان أحسن وإن لم يفعل فله
ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نفقته وكسوته
بالمعروف " فأما من لبس الوشي والمروي والخز وأكل النقي وألوان لحوم الدجاج
فهذا ليس بالمعروف للمماليك وقال عليه السلام " إِذَا كَفَى أَحَدِكُمْ
خَادِمُه طَعَامَهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فليدعه فليجلسه معه فإن أبى فليروغ
له لقمة فيناوله إياها " أو كلمة هذا معناها فلما قال - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فليروغ له لقمة " كان هذا عندنا والله أعلم على
وجهين أولاهما بمعناه أن إجلاسه معه أفضل وإن لم يفعل فليس بواجب إِذْ
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وإلا فليروغ له
لقمة " لأن إجلاسه لو كان واجبا لم يجعل له أن يروغ له لقمة دون أن يجلسه
معه أو يكون بالخيار بين أن يناوله أو يجلسه وقد يكون أمر اختيار غير الحتم
وهذا يدل على ما وصفنا من بيان طعام المملوك وطعام سيده والمملوك الذي يلي
طعام الرجل مخالف عندي للمملوك الذي لا يلي طعامه ينبغي أن يناوله مما يقرب
إليه ولو لقمة فإن المعروف أن لا يكون يرى طعاماً قد ولي العمل فيه ثم لا
ينال منه شيئاً يرد به شهوته وأقل ما يرد به شهوته لقمة وغيره من المماليك
لم يله ولم يره والسنة خصت هذا من المماليك دون غيره وفي القرآن ما يدل على
ما يوافق بعض معنى
(11/528)
هذا قال الله جل ثناؤه {وَإِذَا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فارزقوهم
منه} ولم يقل يرزق مثلهم ممن لم يحضر وقيل ذلك في المواريث وغيرها من
الغنائم وهذا أوسع وأحب إلي ويعطون ما طابت به نفس المعطي بلا توقيت ولا
يحرمون ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
فَجِوَارِي الْخِدْمَةِ مُبْتَذَلَاتٌ، فَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ
تَكُونَ أَدْوَنَ، وَجِوَارِي التَّسَرِّي مَصُونَاتٌ لِلِاسْتِمْتَاعِ،
وَالْعُرْفُ فِي كِسْوَتِهِنَّ أَنْ تَكُونَ أَرْفَعَ، فَكَذَلِكَ
الْعَبِيدُ كِسْوَةُ مَنْ هُوَ بَيْنَ الدَّوَابِّ أَدْوَنُ مِنْ كِسْوَةِ
مَنْ قَامَ بِتَمْيِيزِ الْأَمْوَالِ، وَكِسْوَاتُ الْجَوَارِي أَعَمُّ
مِنْ كِسْوَاتِ الْعَبِيدِ لِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ فَضْلِ السَّتْرِ
لِئَلَّا تَمْتَدَّ إِلَيْهِنَّ الْأَبْصَارُ فَتَتَحَرَّكَ بِهَا
الشَّهَوَاتُ.
(الْقَوْلُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ من العمل)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَعْنَى لَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ
إِلَّا مَا يُطِيقُ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا مَا يُطِيقُ
الدَّوَامَ عَلَيْهِ لَا مَا يُطِيقُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ ثَمَّ يَعْجِزُ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ مَا لَا
يَضُرُّ بِبَدَنِهِ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى مَا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى سَيِّدِهِ مِنَ
الْقُوتِ وَالْكِسْوَةِ، فَأَمَّا مَا لِلسَّيِّدِ عَلَى مَمْلُوكِهِ مِنَ
الْعَمَلِ وَالْخِدْمَةِ فَيَفْتَرِقُ فِيهِ حَالُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ،
لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعُرْفِ نَوْعًا مِنَ الْخِدْمَةِ
وَصِنْفًا مِنَ الْعَمَلِ، لِاخْتِلَافِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيهِمَا،
فَيُكَلَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْهُودَ خِدْمَتِهِ وَمَأْلُوفَ
عَمَلِهِ، فَإِنِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي عَمَلٍ اسْتَعْمَلَ فِيهِ
مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ مِنْ
صِنَاعَةٍ قَدِ اخْتَصَّ بِهَا إِلَى تَعَلُّمِ غَيْرِهَا مِنْ صَنَائِعِ
مِثْلِهِ، فَأَمَّا قَدْرُ الْعَمَلِ فَمُعْتَبَرٌ بِمَا يُطِيقُ
الدَّوَامَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنٍ
وَإِضْعَافِ قُوَّةٍ، فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَوْمًا أَوْ
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ
يُؤَثِّرُ فِي إِنْهَاكِ بَدَنِهِ وَإِضْعَافِ قُوَّتِهِ فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يُكَلِّفَهُ إِيَّاهُ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَلَا فِي قَصِيرِهِ،
لِأَنَّهُ نَوْعٌ خَرَجَ مِنْ مُسْتَحِقِّ عَمَلِهِ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ
الْعَبْدُ فِي مُدَّةِ طَاقَتِهِ جَازَ. وَإِنْ كَثُرَ مُنِعَ مِنَ
الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ
(الْقَوْلُ فِي نَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ إذا عمي أو زمن)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ عَمِيَ أَوْ زَمِنَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ
مَوْلَاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ
بِالْمِلْكِ دُونَ الْعَمَلِ فَاسْتَوَى فِيهَا الصَّحِيحُ وَالزَّمِنُ،
كَمَا يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَيَجُوزُ أَنْ
يُسْتَعْمَلَ الْأَعْمَى وَالزَّمِنُ فِيمَا يَصِحُّ مِنَ الْعُمْيَانِ
وَالزَّمْنَى.
(11/529)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْأَمَةَ
غَيْرَ وَلَدِهَا فَيَمْنَعَ مِنْهَا وَلَدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا
فَضْلٌ عَنْ رِيِّهِ أَوْ يَكُونَ وَلَدُهَا يَغْتَذِي بِالطَّعَامِ
فَيُقِيمَ بَدَنَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا، فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعُهُ
عَلَى أَبِيهِ دُونَ سَيِّدِ أُمِّهِ، وَلِسَيِّدِهَا أَنْ يَسْتَرْضِعَ
لَبَنَهَا مَنْ أَرَادَ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ
لِسَيِّدِ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِا، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ
سَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ
لِسَيِّدِهَا فَنَفَقَتُهُ وَرَضَاعَتُهُ عَلَى سَيِّدِهَا وَأُمُّهُ
أَحَقُّ بِرَضَاعِهِ مِنْ غَيْرِهَا لِفَضْلِ حُنُوِّهَا وَاسْتِمْرَاءِ
لَبَنِهَا وَإِدْرَارِهِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا يَخْلُو
لَبَنُهَا مَعَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ رِيِّهِ وَوَفْقَ كِفَايَتِهِ فَعَلَى
السَّيِّدِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَضَاعِ وَلَدِهَا، وَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَهَا غَيْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا قَاصِرًا عَنْ رِيِّهِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ رَضَاعِهِ وَيُتَمِّمَ لَهُ مِنْ
غَيْرِهَا بِقِيمَةِ رِيِّهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَبَنُهَا أَكْثَرَ مِنْ رِيِّهِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ ارْتِضَاعِ رِيِّهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَسْتَرْضِعَ فَاضِلَ لَبَنِهَا مَنْ شَاءَ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِ أُمِّ وَلَدِهِ مِنْ
غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا وَلَدُهُ مِنْهَا فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ
نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ كَسَائِرِ وَلَدِهِ، وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ
غَيْرِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَتَبَعٌ لِأُمِّهِ يُمْنَعُ مَنْ بِيعِهِ
وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ مَعَ أُمِّهِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا،
وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِيعَهُمَا لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الرِّقِّ
عَلَيْهِمَا، وَيَمْلِكُ أَكْسَابَهُمَا وَيَسْتَخْدِمُهُمَا للأم دون
الولد.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَمْنَعُهُ الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلْ عَلَى
أَمَتِهِ خَرَاجًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلٍ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ
الْعَبْدُ إِذَا لَمْ يُطِقِ الْكَسْبَ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ " لَا تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ
الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ فَتَكْسِبَ
بِفَرْجِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ
هُوَ أَنْ يُخْلِفَ السَّيِّدُ بَيْنَ عَبْدِهِ وَكَسْبِهِ عَلَى أَنْ
يَدْفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَيَكُونَ لَهُ
فَاضِلُ كَسْبِهِ بِنَفَقَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ،
وَلَا اعْتِرَاضَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَقَدْ سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(11/530)
موالي أَبِي طِيبَةَ حِينَ حَجَّمَهُ
وَقَدْ ضَرَبُوا عَلَيْهِ خَرَاجًا أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ، وخَرَاجَهُ
دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ
اللَّازِمَةِ، وَجَوَازُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَرَاضَيَا بِهِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا
يَصِحُّ مِنَ الْإِجْبَارِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُكْتَسِبًا لِقَدْرِ خَرَاجِهِ فَمَا
زَادَ، فَإِنْ قَصَرَ كَسْبُهُ عَنْ خَرَاجِهِ لَمْ يَصِحَّ لِقَوْلِ
عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ لَا تُكَلِّفِ الصَّغِيرَ
الْكَسْبَ فَيَسْرِقَ وَلَا الْأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ
فَتَكْتَسِبَ بِفَرْجِهَا، ويستوفي منه السيد خراجه. قال عَجَزَ عَنْهُ
جَازَ أَنْ يُنْظِرَ بِهِ وَجَازَ لَهُ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدَ الْمُخَارَجَةِ بِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ
فَإِنْ فَسَخَهُ أَحَدُهُمَا وَفِي يَدِ الْعَبْدِ فَاضِلٌ مِنْ كسبه كان
ملكاً لسيده، وبالله التوفيق.
(مسألة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ دَابَّةٌ فِي
الْمِصْرِ أَوْ شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ عَلَفَهُ بِمَا يُقِيمُهُ فَإِنِ
امْتَنَعَ أَخَذَهُ السُلْطَانُ بِعَلَفِهِ أَوْ بَيْعِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَفَقَاتُ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ وَاجِبَةٌ
عَلَى أَرْبَابِهَا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " وَنَهَى عَنْ تَعْذِيبِ
الْبَهَائِمِ وَعَنْ قَتْلِهَا إِلَّا لِمَأْكَلِهِ وَرُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ:
أُطْلِعْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي. فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً
تُعَذَّبَ فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا رَبَطَتْ هِرَّةً فَلَمْ
تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ
الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ فَعَذَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَاطَّلَعَتُ
عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ امْرَأَةً مُوَمِسَةً يَعْنِي زَانِيَةً
فَسَأَلْتُ عَنْهَا فَقِيلَ إِنَّهَا مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى بِئْرٍ
يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ فَأَرْسَلَتْ إِزَارَهَا فَبَلَّتْهُ وَعَصَرَتْهُ
فِي حَلْقِهِ حَتَّى رُوِيَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا، فَدَلَّ كِلَا
الْأَمْرَيْنِ عَلَى حِرَاسَةِ نُفُوقِ الْبَهَائِمِ بِإِطْعَامِهَا حَتَّى
تَشْبَعَ وَيسَقْيِهَا حَتَّى تُرَوَى سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ
غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا حَتَّى هَلَكَتْ أَوْ نُهِكَتْ
أَثِمَ.
(مَسْأَلَةٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ بِبَادِيَةٍ
غَنَمٌ أَوْ إِبِلٌ أَوْ بقر أخذت على المرعى خلاها والرعي فإن أجدبت الأرض
علفها أو ذبحها أو باعها ولا يحبسها فتموت هزلا إن لم يكن في الأرض متعلق
وأجبر على ذلك إلا أن يكون فيها متعلق لأنها على ما في الأرض تتخذ وليست
كالدواب التي لا ترعى والأرض مخصبة إلا رعيا ضعيفاً ولا تقوم للجدب قيام
الرواعي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عُلُوفَةُ الْبَهَائِمِ مُعْتَبَرَةٌ بِعُرْفِهَا،
وَلَهَا فِي الْعُرْفِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً لَا تَرْعَى فَعَلَيْهِ أَنْ
يَعْلِفَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَوَّلِ شِبَعِهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ
الِانْتِهَاءُ إِلَى غَايَتِهِ وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى
رِيِّهَا دُونَ غَايَتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَدِّلَ بِهَا إِلَى
الرَّعْيِ إِذَا لَمْ تَأْلَفْهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا أَوْ
قَصَّرَ عَنْ كِفَايَتِهَا رُوعِيَ حالها، فإن
(11/531)
كَانَتْ مَأْكُولَةً خُيِّرَ مَالِكُهَا
بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ. بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ ذَبْحِهَا أَوْ
بَيْعِهَا.
فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ السُّلْطَانُ مِنْهَا بِقَدْرِ عَلَفِهَا، فَإِنْ
تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهَا بَاعَ عَلَيْهِ جَمِيعَهَا، وَإِنْ كَانَتْ
غَيْرَ مَأْكُولَةٍ، خُيِّرَ بَيْنَ عَلْفِهَا أَوْ بَيْعِهَا وَحَرُمَ
عَلَيْهِ ذَبْحُهَا لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ إِلَّا لِمَأْكِلِهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ رَاعِيَةً لَا تَعْتَلِفُ.
فَعَلَيْهِ إِرْسَالُهَا فِي الْمَرْعَى حَتَّى تَشْبَعَ مِنَ الْكَلَأِ،
وَتَرْتَوِيَ من الماء وعليه في تسريحها للمرعى حقاً أَحَدُهُمَا أَنْ
تَكُونَ أَرْضُ الْمَرْعَى ذَاتَ مَاءٍ مَشْرُوبٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ غَيْرَ مُشْبِعَةٍ حَتَّى لَا
تَفْتَرِشَ، ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الشِّبَعِ وَالرَّعْيِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ
عَوَامِلَهَا. فَإِنْ جَدَبَتِ الْأَرْضُ وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ
تَرْعَى نَقَلَهَا إِلَى أَرْضٍ خِصْبَةٍ إِنْ وَجَدَهَا، فَإِنْ لَمْ
يَجِدِ ارْتَادَ لَهَا مَا يُمْسِكُ رَمَقَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فُعِلَ
مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ جَامِعَةً بَيْنَ الْعُلُوفَةِ
وَالرَّعْيِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدها: أَنْ تَكْتَفِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونَ مُخَيَّرًا
فِيهِمَا. فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكْتَفِيَ إِلَّا بِهِمَا فَعَلَيْهِ
لَهَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَقْتَصِرَ بِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا
فَإِنِ امْتَنَعَ فَعَلَى مَا مَضَى.
(الْقَوْلُ في حلب أمهات النسل)
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُحْلَبُ أُمَّهَاتُ النَّسْلِ إِلَّا
فَضْلًا عَمَّا يُقِيمُ أَوْلَادَهُنَّ لَا يَحْلِبُهُنَّ فَيَمُتْنَ
هَزَلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَدُ الْبَهِيمَةِ فِي ارْتِوَائِهِ مِنْ
لَبَنِهَا إِذَا كَانَ رَضِيعًا كَوَلَدِ الْأَمَةِ فِي تَمْكِينِهِ مِنْ
رِيِّهِ لِحُرْمَةِ نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يجلب مِنْ لَبَنِهَا إِذَا
كَانَ رَضِيعًا إِلَّا مَا فضل عن ريه حتى يستغنى عنه برعي أَوْ عُلُوفَه
أَوْ ذَبْحِهِ إِذَا كَانَ مَأْكُولًا، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى لَبَنٍ
غَيْرِ أُمِّهِ جَازَ إِنِ اشْتَرَاهُ، وَإِنْ أَبَاهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ
كان أحق بلبن أمه، وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.
(11/532)
|