الحاوي
الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي كتاب الأيمان
مختصر الأيمان والنذور وما دخل فيهما من الجامع من كتاب الصيام ومن الإملاء
ومن مسائل شتى سمعتها لفظاً
قال الماوردي: أَمَّا الْيَمِينُ فَهِيَ الْقَسَمُ، سُمِّيَ يَمِينًا،
لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
يَمِينَهُ عَلَى يَمِينِ صَاحِبِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي الْأَيْمَانِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُوا
اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا
بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) {البقرة: 224) .
أَمَّا الْعُرْضَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا الْقُوَّةُ، وَالشِّدَّةُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكْثُرَ ذِكْرُ الشَّيْءِ حَتَّى يَصِيرَ عُرْضَةً
لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(فَلَا تَجْعَلَنِّي عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ ... )
وَأَمَّا الْعُرْضَةُ فِي الْأَيْمَانِ، فَفِيهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ بِهَا فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَيَبْتَذِلَ
اسْمَهُ، وَيَجْعَلَهُ عُرْضَةً.
والثاني: أن يجعل يمنيه عِلَّةً يَتَعَلَّلُ بِهَا فِي بِرِّهِ، وَفِيهَا
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ: لَا يَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَيَمْتَنِعَ مِنْهُ
لِأَجْلِ يَمِينِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ: لَيَفْعَلَنَّ الْخَيْرَ، فَيَفْعَلَهُ
لِبِرِّهِ فِي يَمِينِهِ لَا لِلرَّغْبَةٍ في ثوابه.
وفي قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبَرُّوا فِي أَيْمَانِكُمْ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَبَرُّوا أَرْحَامَكُمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَتَتَّقُوا} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَّقُوا الْمَعَاصِيَ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتَّقُوا الْخُبْثَ، {وَاللهُ سَمِيعٌ} لِأَيْمَانِكُمْ
{عَلِيمٌ} بِافْتِقَارِكُمْ.
(15/252)
وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) {البقرة: 225) .
وَاللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ مَا كَانَ قَبِيحًا مَذْمُومًا،
وَخَطَأً مَذْمُومًا مَهْجُورًا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وِإِذَا
سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) {القصص: 55) .
وَفِي لَغْوِ الْأَيْمَانِ سَبْعَةُ تَأْوِيلَاتٍ، وَقَدْ أَفْرَدَ
الشَّافِعِيُّ لِذَلِكَ بَابًا يُذْكَرُ فِيهِ، وَفِي تَرْكِ
الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِالْإِثْمِ.
وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بَمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَصَدْتُمْ مِنَ الْأَيْمَانِ.
وَالثَّانِي: مَا اعْتَمَدْتُمْ مِنَ الْكَذِبِ، {وَاللهُ غَفُورٌ}
لِعِبَادِهِ فِيمَا لَغَوْا مِنْ أَيْمَانِهِمْ {حَلِيمٌ} فِي تَرْكِ
مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى مَعَاصِيهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) .
وَعَقْدُهَا هُوَ لَفَظٌ بِاللِّسَانِ، وَقَصْدٌ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّ مَا
لَمْ يَقْصِدْهُ من أيمانه هو لغوٌ لا يؤاخذ له.
وَفِي تَشْدِيدِ قَوْلِهِ {عَقَّدْتُمْ} تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَغْلِيظُ الْمَأْثَمِ بِتَكْرَارِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ تِكْرَارَهَا فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ
وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشْرَة مَسَاكِينَ)
{المائدة: 89) . فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَفَّارَةُ مَا عَقَدُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ،
قَالَهُ الْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا كَفَّارَةُ الْحِنْثِ بَعْدَ عَقْدِ الْأَيْمَانِ،
وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْأَصَحُّ
عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ
الْيَمِينِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ
ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا طَاعَةً، وَحَلُّهَا مَعْصِيَةً.
كقوله: والله لا قتلت نفساً خيرة، وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا.
فَإِذَا حَلَفَ، بِقَتْلِ النَّفْسِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَكَانَتِ
الْكَفَّارَةُ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِ الْحِنْثِ دُونَ عَقْدِ الْيَمِينِ.
(15/253)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ
عَقْدُهَا مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا طَاعَةً.
كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا صُمْتُ.
فَإِذَا حَنِثَ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ
لِتَكْفِيرِ مأثم اليمين دُونِ الْحِنْثِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مُبَاحًا، وَحَلُّهَا
مُبَاحًا.
كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا دَخَلْتُ
هَذِهِ الدَّارَ.
فَالْكَفَّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا، وَهِيَ بِالْحِنْثِ أَحَقُّ،
لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهَا به.
وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: احْفَظُوهَا أَنْ يَحْلِفُوا.
وَالثَّانِي: احْفَظُوهَا أَنْ تَحْنَثُوا.
وَالثَّالِثُ: احْفَظُوهَا لِتُكَفِّرُوا.
وَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ الْحَارِثِيُّ، وَهُوَ إِيَاسُ
بْنُ ثَعْلَبَةَ، عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " مَنِ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ مَالَ امرئٍ مسلمٍ حَرَّمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ " قِيلَ: " وَإِنْ
كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا قَالَ: وَإِنْ كَانَ سِوَاكًا مِنْ أراكٍ "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي
هو خيرٌ، وَيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
قَالَ: " الْيَمِينُ حنثٌ أَوْ مندمةٌ ".
وَقَدْ حلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ
الْفَتْحِ، فَقَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ
لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ".
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ قَالَ: " لَا
وَالَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدِهِ " وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " لَا
وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ".
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَعَقْدُ الْيَمِينِ مَوْضُوعَةٌ لِتَحْقِيقِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاضِيًا، أَوْ لِالْتِزَامِهِ إِنْ
كَانَ مُسْتَقْبَلًا.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ
بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الكفارة ".
(15/254)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ
الْأَيْمَانَ مَعْقُودَةٌ بِمَنْ عَظُمَتْ حُرْمَتُهُ، وَلَزِمَتْ
طَاعَتُهُ وَإِطْلَاقُ هَذَا مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَاقْتَضَى
أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ مُخْتَصَّةً بِاللَّهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ، وَلَهُ
أَسْمَاءٌ وَصَفَاتٌ.
فَأَمَّا أَسْمَاؤُهُ فَأَخَصُّهَا بِهِ قَوْلُنَا: اللَّهُ، لِأَنَّ
أَحَدًا لَمْ يَتَّسِمْ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ،
وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِياً) {مريم: 65) . أَيْ: مَنْ يَتَسَمَّى بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ:
اللَّهُ؟
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي فِيهِ: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ شَبِيهًا؟
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِاسْمِ، هَلْ هُوَ عَلَمٌ لِذَاتِهِ، أَوِ اسْمٌ
مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ
صِفَاتِهِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَ الصِّفَاتِ تَكُونُ تَابِعَةً لِأَسْمَاءِ
الذَّاتِ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ ذَاتٍ يَكُونُ
عَلَمًا، لِتَكُونَ أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ تَبَعًا، وَهَذَا قَوْلُ
الْخَلِيلِ وَالْفَضْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ " أَلِهَ " صَارَ
بِنَاءُ اشْتِقَاقِهِ عِنْدَ حَذْفِ هَمْزِهِ، وَتَفْخِيمِ لَفْظِةِ:
اللَّهَ، فَالْحَالِفُ بِهَذَا الِاسْمِ حَالِفٌ بِيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ
لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ بِهِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ:
إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ لِذَاتِهِ، أَوْ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَاتِهِ، لِأَنَّهُ
لَا يَنْطَلِقُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَفِي مَعْنَى الْحَلِفِ بِهَذَا الِاسْمِ أَنْ تَقُولَ: وَالَّذِي
خَلَقَنِي، أَوْ وَالَّذِي صَوَّرَنِي، فَتَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينُهُ،
لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ هُوَ اللَّهُ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ، وَلَا يَكُونُ هَذِهِ يَمِينًا بَاسْمٍ مُكَنًّى، لِأَنَّهُ
صَرِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.
وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: وَالَّذِي أُصَلِّي لَهُ، أَوْ أَصُومُ لَهُ، أَوْ
أُزَكِّي لَهُ، أَوْ أَحُجُّ لَهُ، انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ وَزَكَاتَهُ وَحَجَّهُ لِلَّهِ
لَا لِغَيْرِهِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا غَيْرُ هَذَا الِاسْمِ الْعَلَمِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى،
فَيَنْقَسِمُ ثَمَانِيَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَجْرِي فِي اخْتِصَاصِهِ بِهِ مَجْرَى الْعَلَمِ مِنْ
أَسْمَائِهِ، وَهُوَ: الرحمن، فيكون المحالف بِهِ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ يتسمى به غيره من خلفه، وَلَئِنْ طَغَى
مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَتَسَمَّى: رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ، فَهِيَ
تَسْمِيَةُ إِضَافَةٍ لَمْ يُطْلِقْهَا لِنَفْسِهِ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ
يَتَسَمَّ بِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ إِلَى هَذَا الِاسْمِ مَا اخْتَصَّ
بِهِ مِنْ قُدْرَتِهِ، وَتَفَرَّدَ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ فَقَالَ:
{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشْ اسْتَوَى} ، فَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَلَمِ
مِنْ أَسْمَائِهِ الَّذِي هُوَ الله.
(15/255)
وَاخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ هَلْ
هُوَ اسْمُ علمٍ أَوْ صِفَةٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اسْمُ عَلَمٍ عَلَى غَيْرِ مُشْتَقٍّ مِنْ صِفَةٍ،
لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ قَدْ سَمَّوْهُ بِهِ، وَلَمْ يَخْتَصَّ
بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ صِفَتِهِ
بِالرَّحْمَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا الرَّحْمَنُ
هَلْ هِيَ رَحْمَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا، أَوْ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ
مِثْلُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا رَحْمَةٌ تُوجَدُ فِي الْعِبَادِ مِثْلُهَا،
وَاخْتِصَاصُهُ مِنْهَا بِاشْتِقَاقِ لَفْظِ الْمُبَالِغَةِ فِي
الرَّحْمَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الرَّحِيمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ
الرَّحْمَنُ مُخْتَصًّا بِهِ، وَالرَّحِيمُ مُشْتَرِكًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ رَحْمَةٍ تَفَرَّدَ اللَّهُ
بِهَا دُونَ خَلْقِهِ، وَفِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا رَحْمَتُهُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ،
فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ، لِأَنَّهُ
مُسْتَحِقٌّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ قَبْلَ خَلْقِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهَا صِفَةٌ لِلرَّحْمَةِ، فَيَكُونُ
مُشْتَقًّا مِنْ رَحْمَةٍ هِيَ صِفَةٌ لِفِعْلِهِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ
لِهَذِهِ الصِّفَةِ بَعْدَ خَلْقِ الرَّحْمَةِ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَكُونُ الْيَمِينُ بِهَذَا الِاسْمِ
مُنْعَقِدَةٌ فِي أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ، كَانْعِقَادِهَا بالله
سواء قبل اشْتِقَاقُهُ مِنْ صِفَةِ ذَاتِهِ، أَوْ صِفَةِ فِعْلِهِ
لِأَنَّهَا يَمِينٌ بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ بِاسْمِ
الْمَعْبُودِ دُونَ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْإِلَهُ، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ
اسْمُ اشْتِقَاقٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا اشْتُقَّ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلَهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَ
يِأْلَهُونَ إِلَيْهِ أَيْ: يَدْعُونَ إِلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَهِيَ
الْعِبَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فُلَانٌ يَتَأَلَّهُ أَيْ: يَتَعَبَّدُ.
وَاخْتُلِفَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ هَلِ اشْتُقَّ اسْمُ الْإِلَهِ
مِنْ فِعْلِ الْوَلَهِ وَالْعِبَادَةِ أَوْ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اشْتُقَّ مِنْ فِعْلِهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا، فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ صِفَاتِ ذاته،
(15/256)
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ
الْحَالِفُ بِالْإِلَهِ مُنْعَقِدَ الْيَمِينِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ
إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمِلَلِ
لَيْسَ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ
الْمِلَلِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ فِي
الظَّاهِرِ، وَكَانَ فِي الْبَاطِنِ مَوْقُوفًا عَلَى إِرَادَتِهِ،
لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا الِاسْمَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَبَيْنَ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ إِطْلَاقُهُ
بِاللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فِي الْإِضَافَةِ مُشْتَرِكًا، وَهُوَ
الرَّبُّ، اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ صِفَةٍ، اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَالِكِ، كَمَا يُقَالُ: رَبُّ
الدَّارِ أَيْ مَالِكُهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّيِّدِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ
يُسَمَّى رَبًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي
رَبَّهُ خَمْراً) {يوسف: 36) . يَعْنِي: سَيِّدَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الرَّبُّ الْمُدَبِّرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) . وَهُمُ
الْعُلَمَاءُ سُمُّوا رَبَّانِيِّينَ، لِقِيَامِهِمْ بِتَدْبِيرِ النَّاسِ
بِعِلْمِهِمْ وَقِيلَ: رَبَّةُ الْبَيْتِ، لِأَنَّهَا تُدَبِّرُهُ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّ الرَّبَّ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّرْبِيَةِ، وَمِنْهُ
قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكِمُ)
{النساء: 23) . فَسُمِّيَ وَلَدُ الزَّوْجَةِ رَبِيبَةً، لِتَرْبِيَةِ
الزَّوْجِ لَهَا، فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ: إِنَّ صِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَنَّهُ رَبٌّ، لِأَنَّهُ مَالِكٌ أَوْ سَيِّدٌ، فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ
صِفَاتِ ذَاتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِخَلْقِهِ أَوْ مُرَبِّيهِمْ، فَذَلِكَ
صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِهِ، وَصِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ، وَصِفَاتُ
فِعْلِهِ مُحْدَثَةٌ، وَهُمَا فِي اشْتِقَاقِ الِاسْمِ مِنْهُ عَلَى
السَّوَاءِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ حَالِفًا بِالِاسْمِ دُونَ الصِّفَةِ،
وَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِالصِّفَتَيْنِ مُخْتَلِفَةً، تَنْعَقِدُ
بِصِفَةِ الذَّاتِ لِقَدَمِهَا، وَلَا تَنْعَقِدُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ،
لِحُدُوثِهَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ اشْتِقَاقُهُ انْقَسَمَتِ الْيَمِينُ بِهِ أَرْبَعَةَ
أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَهُوَ
أَنْ يَصِفَهُ بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ
أَنْ يَقُولَ: رَبُّ العالمين، أو رب السموات وَالْأَرْضِينَ، فَهَذَا
حَالِفٌ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِمَا
اخْتَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ
غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حَالِفٍ بِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ أَنْ
يَقُولَ: وَالرَّبِّ، فَيُدْخِلُ عَلَيْهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَلَا
يُعَرِّفُهُ بِصِفَةٍ، فَيَكُونُ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ
قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ رَبَّ الدَّارِ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَكُنْ
بِهِ حَالِفًا لِاحْتِمَالِهِ، وَكَانَ حَالِفًا بِهِ فِي الظَّاهِرِ
لِإِطْلَاقِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالِفًا بِهِ فِي
(15/257)
الْبَاطِنِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَرَبِّ
هَذِهِ الدَّارِ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ فِي
الْعُرْفِ إِشَارَةٌ إِلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِهِ
خَالِقَهَا، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، كَانَ حَالِفًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اعْتُبِرَ فِيهِ عُرْفُ الْحَالِفِ، وَهُوَ
أَنْ يَقُولَ: وَرَبِّي، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يُسَمُّونَ السَّيِّدَ
فِي عُرْفِهِمْ رَبًّا، لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ
يُرِيدَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا، وَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ لَا يُسَمُّونَ الرَّبَّ فِي عُرْفِهِمْ إِلَّا اللَّهَ
تَعَالَى كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَ
اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ اعْتِبَارًا
بِالْعُرْفِ فِي الْحَالَيْنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمَّا
أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْاً) {يوسف: 36) . يَعْنِي سَيِّدَهُ.
وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)
{الصافات: 99) . يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى، فَكَانَ الرَّبُّ فِي
إِبْرَاهِيمَ وَيُوسُفَ مُخْتَلِفًا فِي الْمُرَادَ بِهِ لِاخْتِلَافِهِمْ
فِي الْعُرْفِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ
مُخْتَصًّا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَاخْتَلَفَ فِي جَوَازِ
الْعُدُولِ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ
أَسْمَاءٍ:
الْقُدُّوسُ، وَالْخَالِقُ، وَالْبَارِئُ.
فَأَمَّا الْقُدُّوسُ: فَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
مُخْتَصٌّ بِهِ فِي الْعُرْفِ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْمُبَارَكُ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الطَّاهِرُ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنَ الْقَبَائِحِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ،
فَإِذَا حَلَفَ بِالْقُدُّوسِ كَانَ كَالْحَالِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي
الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ عَنِ الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ، فَفِيهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ
وَالْبَاطِنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُبَارَكُ أَوِ الطَّاهِرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَكُونُ حَالِفًا، وَيَكُونُ
ظَاهِرًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ
تَقْدِيسِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنَّهُ الْمُنَزَّهُ مِنْ جَمِيعِ
الْقَبَائِحِ.
وَأَمَّا الْخَالِقُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُقَدِّرُ لَهَا بِحِكْمَتِهِ، فَإِذَا حَلَفَ
بِالْخَالِقِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي
الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، ففيه وجهان:
(15/258)
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ
حَالِفًا فِي الْبَاطِنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُقَدِّرُ
لِلْأَشْيَاءِ بِحِكْمَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ:
إِنَّ مَعْنَاهُ الْمُحْدِثُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى إِرَادَتِهِ.
وَأَمَّا الْبَارِئُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَفِي مَعْنَاهُ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْمُمَيِّزُ لِلْخَلْقِ، فَإِذَا حَلَفَ
بِالْبَارِئِ كَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ فِي
الْبَاطِنِ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، وَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ
مَعْنَاهُ الْمُمَيَّزُ لِلْخَلْقِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، وَيَصِيرُ بِهِ حَالِفًا، إِذَا قِيلَ: إِنَّ
مَعْنَاهُ الْمُنْشِئُ لِلْخَلْقِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ مُخْتَصًّا
بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الظَّاهِرِ، وَجَازَ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ إِلَى
غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ وَجْهًا وَاحِدًا:
أَحَدُهُمَا: الْمُهَيْمِنُ.
وَالثَّانِي: الْقَيُّومُ.
فَأَمَّا الْمُهَيْمِنُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي الْعُرْفِ،
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الشَّاهِدُ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْأَمِينُ، قَالَهُ الضَّحَاكُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْمُصَدِّقُ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
زَيْدٍ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ الْحَافِظُ.
فَإِذَا حَلَفَ بِالْمُهَيْمِنِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي
الظَّاهِرِ، فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْبَاطِنِ جَازَ،
وَلَمْ يَكُنْ حَالِفًا.
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
قَالَ: إِنِّي داعٍ فَهَيْمِنُوا، أَيْ: قُولُوا آمِينَ حِفْظًا
لِلدُّعَاءِ، فَسُمِّيَ الْقَائِلُ آمِينَ مُهَيْمِنًا، وَقَدْ قَالَ
الشَّاعِرُ فِي أَبَى بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
(أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ ... مُهَيْمِنُهُ
التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ)
يَعْنِي: الْحَافِظَ لِلنَّاسِ بَعْدَهُ.
(15/259)
وَأَمَّا الْقَيُّومُ: فَمِنْ أَسْمَائِهِ،
وَاخْتُلَفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِالْوُجُودِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ الْقَائِمُ بِالْأُمُورِ.
وَالرَّابِعُ: إِنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ.
فَإِذَا حَلَفَ بِالْقَيُّومِ كَانَ حَالِفًا بِاللَّهِ فِي الظَّاهِرِ،
فَإِنْ عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْبَاطِنِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ
حَالِفًا، لِأَنَّ مَعَانِيَهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي
غَيْرِهِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ
مُخْتَصًّا بِغَيْرِهِ فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ فِي
الْبَاطِنِ، وَهُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْعَالِمُ، وَالْكَرِيمُ،
وَالسَّمِيعُ، وَالْبَصِيرُ.
فَهَذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ صَارَتْ
فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ.
فَإِذَا حَلَفَ بِأَحَدِهَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِاللَّهِ تَعَالَى فِي
الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّهَ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ،
فَيَصِيرُ بِهَا حَالِفًا، وَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ
تَعَالَى، وَقَلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، صَارَ حَالِفًا
بِهَا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: مِنْ أَسْمَائِهِ مَا كَانَ إِطْلَاقُهُ فِي
الظَّاهِرِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ خَلْقِهِ عَلَى
سَوَاءٍ كَالرَّحِيمِ، وَالْعَظِيمِ، وَالْعَزِيزِ، وَالْقَادِرِ،
وَالنَّاصِرِ، وَالْمَلِكِ، فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى إِرَادَةِ الْحَالِفِ
بِهَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ حَالِفًا
بِهَا، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا أَسْمَاءَ الْمَخْلُوقِينَ لَمْ يَكُنْ
حَالِفًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أحدهما: يكونه حَالِفًا بِهَا تَغْلِيبًا لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى،
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَيْمَانُ فِي الْغَالِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَكُونُ حَالِفًا؛ لِأَنَّهَا مَعَ
تَسَاوِي الِاحْتِمَالِ فِيهِ تَصِيرُ كِنَايَةً لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
مَعَ فَقْدِ الْإِرَادَةِ حكمٌ، فَلَوْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي
أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَقَلَّتْ فِي الْمَخْلُوقِينَ صَارَ حَالِفًا بِهَا
فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ الْخَامِسِ، وَلَوْ كَثُرَ
اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَخْلُوقِينَ، وَقُلَّ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللَّهِ
تَعَالَى لَمْ يَكُنْ حَالِفًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ
يَكُونَ حَالِفًا بِهَا فِي الْبَاطِنِ كَالْقِسْمِ السَّادِسِ.
(فَصْلٌ:)
وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ مِنْ أَسْمَائِهِ: الْجَبَّارُ، وَالْمُتَكَبِّرُ،
فَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ كَانَ مُخْتَصًّا
بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ، كَانَ مُخْتَصًّا
بالمخلوقين، وهو اسمان الجبار والمتكبر، لأنهما من صِفَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى مَدْحٌ، وَفِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ذَمٌّ، فَيَصِيرُ بِهِمَا
حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الْمَدْحِ، لِاخْتِصَاصِ اللَّهِ تَعَالَى
(15/260)
بِالْمَدْحِ بِهَا، وَلَا يَصِيرُ بِهِمَا
حَالِفًا إِنْ خَرَجَا مَخْرَجَ الذَّمِّ لِانْتِفَائِهِ فِي صِفَاتِهِ.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ تُعْتَبَرُ بِهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ
تَعَالَى، إِذَا حَلَفَ بِهَا فَيُحْمَلُ جَمِيعُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ
مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِهَا.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: صِفَاتُ ذَاتِهِ.
وَالثَّانِي: صِفَاتُ أَفْعَالِهِ.
فَأَمَّا صِفَاتُ ذَاتِهِ فَقَدِيمَةٌ لِقَدَمِ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ
قَوْلِهِ: وَقُدْرَةِ اللَّهِ، وَعَظَمَةِ اللَّهِ، وَجَلَالِ اللَّهِ،
وَعِزَّةِ اللَّهِ، وَكِبْرِيَاءِ اللَّهِ، وَعِلْمِ الله، لأنه نزل على
هذه الصفات ذات قُدْرَةٍ، وَعَظَمَةٍ، وَجَلَالٍ، وَعَزَّةٍ،
وَكِبْرِيَاءٍ، وَعِلْمٍ، فَجَرَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ اللَّازِمَةُ
لِذَاتِهِ مَجْرَى الْمَوْصُوفِ، فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ أَسْمَائِهِ فِي
انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ
يَمِينًا، وَأَجْرَاهَا مَجْرَى مَعْلُومِهِ، وَلَوْ حَلَفَ بِمَعْلُومِ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، كَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ بِعِلْمِهِ.
وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَانْعَقَدَتْ
بِهِ الْيَمِينُ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ
الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَعْلُومَ مُنْفَصِلٌ عَنْ ذَاتِهِ،
وَالْعِلْمَ مُتَّصِلٌ بِهَا وَأَمَّا صِفَاتُ أَفْعَالِهِ فَهِيَ
مُحْدَثَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ كَقَوْلِهِ: وَخَلْقِ اللَّهِ، وَرِزْقِ
اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ حَالِفًا بِهَا لِخُلُوِّهَا مِنْهُ قَبْلَ
حُدُوثِهَا، وَالْيَمِينُ بِالْمُحْدَثَاتِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ كَذَلِكَ،
مَا كَانَ مُحْدَثًا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ.
فَأَمَّا أَمَانَةُ اللَّهِ فَهِيَ كَصِفَاتِ أَفْعَالِهِ لَا يَنْعَقِدُ
بِهَا يَمِينٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ، وَأَجْرَاهَا أَبُو
حَنِيفَةَ مَجْرَى صِفَاتِ ذَاتِهِ، فَعَقَدَ بِهَا الْيَمِينَ، وَأَوْجَبَ
فِيهَا الْكَفَّارَةَ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فُرُوضُهُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا
عَبِيدَهُ، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاُ) {الأحزاب: 72) .
وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِذَا
دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ اصْفَرَّ مَرَّةً، وَاحْمَرَّ مَرَّةً،
وَقَالَ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عرضت على السموات وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا،
وَحَمَلْتُهَا أَنَا، فَلَا أَدْرِي أسيءُ فِيهَا أَوْ أُحْسِنُ. وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ مُحْدَثَةٌ، فَلَمْ
يَلْزَمْ بِهَا الْكَفَّارَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى أَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ
مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ.
قِيلَ: يُحْتَمَلُ إِنَّهُ يُرِيدُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ أَنَّهُ ذُو
أَمَانَةٍ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
(15/261)
يُرِيدَ بِهَا فُرُوضَ اللَّهِ، فَتَكُونُ
مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْيَمِينُ مَعَ
احْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ، وَاللَّهُ
أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهِيَ يمينٌ مكروهةٌ
وَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ مَعْصِيَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: " أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ " فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا بَعْدُ
ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ
مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا مَكْرُوهَةٌ، سَوَاءٌ حَلَفَ بِمُعَظَّمٍ
كَالْمَلَائِكَةِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ مُعَظَّمٍ، لِرِوَايَةِ
الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي ركبٍ، وَحَلَفَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: "
إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ سَالِمٍ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمع النبي الله عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ:
" إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " قَالَ عُمَرُ:
فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا، وَفِيهِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَعْنِي: عَامِدًا، وَلَا نَاسِيًا.
وَالثَّانِي: مُعْتَقِدًا لِنَفْسِي، وَلَا حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ "، وَفِيهِ
تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي
التَّعْظِيمِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَافِرِينَ.
وَالثَّانِي: فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، فَصَارَ كَافِرًا بِهِ إِنِ
اعْتَقَدَ لُزُومَ يَمِينِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ كَاعْتِقَادِ لُزُومِهَا
بِاللَّهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ:
". . وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ "، وَقَالَ لِأَبِي
الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ: " وَأَبِيكَ لَوْ طَعَنْتَ فِي فَخِذِهِ
لَأَجْزَأَكَ "، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْيَمِينِ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ كَلِمَةً تَخِفُّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فِي مَبَادِئِ الْكَلَامِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
قَبْلَ النَّهْيِ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً ".
(15/262)
هِيَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ،
لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَكْرُوهٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ، فَهِيَ
غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْهِ إِنْ حَنِثَ فِيهَا وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا
إِذَا حَلَفَ بِمَا يَحُظُرُهُ الشَّرْعُ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا
وَكَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ كَافِرٌ بِهِ، أَوْ خَارِجٌ
مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فَأَنَا يَهُودِيٌّ، أَوْ وَثَنِيٌّ لَمْ
تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ بِالْحِنْثِ فِيهَا كَفَّارَةٌ،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَصَاحِبَاهُ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ
إِنْ حَنِثَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ
أيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَرُبَّمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ، وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا
مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ، وَلِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ "
وَلَمْ يُفَرِّقْ.
وَبِمَا رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بملةٍ غَيْرِ مِلَّةِ
الْإِسْلَامِ كَاذِبًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ
يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا " فَجَعَلَهَا يَمِينًا، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْقُضَوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا) {النحل: 91) . فَدَلَّ عَلَى لُزُومِهَا، وَلِأَنَّ لُزُومَ
الْيَمِينِ بِاللَّهِ لِتَوْكِيدِ حُرْمَتِهَا وَحَظْرِ مُخَالَفَتِهَا،
وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَقَدَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ
تَعَالَى، وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَمِنَ الْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ
يَسْتَوِيَا فِي اللُّزُومِ وَفِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ
مِنَ اللَّهِ أَغْلَظُ مَأْثَمًا، وَأَشَدُّ حَظْرًا مِنَ الْحَلِفِ
بِاللَّهِ، فَلَمَّا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ، وَلَزِمَ التَّكْفِيرُ فِي
أَحَقِّ الْمَأْثَمَيْنِ كَانَ لُزُومُهَا فِي أَغْلَظِهِمَا أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ) {الأنعام: 109) . فَجَعَلَهَا غَايَةَ الْأَيْمَانِ
وَأَغْلَظَهَا، فَلَمْ تَتَغَلَّظِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَحْلِفُوا
بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا
تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ، إِلَّا
وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ ".
وَهَذَا نَصٌّ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال:
" من خلف بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ".
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " فَقَدْ أَشْرَكَ " فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ
الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ؟ وَلِأَنَّهُ حَلَفَ
بِغَيْرِ اللَّهِ؟ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ؟ كَمَا لَوْ
قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا زانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أو قاتل نفس،
ولأن حلف بمخلوقٍ يحدث لأنه اعْتِقَادَ الْكُفْرِ وَبَرَاءَتَهُ مِنَ
الْإِسْلَامِ
(15/263)
مُحْدَثٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ
كَفَّارَةٌ كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ فِعْلٍ بِأَمْرٍ
مَحْظُورٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا تُوجِبُ التَّكْفِيرَ،
كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَأَنَا فَاسِقٌ، أَوْ فَعَلَيَّ
قَتْلُ نَفْسِي أَوْ وَلَدِي.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ
إِطْلَاقَهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، لِأَنَّهَا الْيَمِينُ
الْمَعْهُودَةُ، فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ مَعَ ضَعْفِهِ
فَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا لَنَا أَشْبَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
دَلِيلًا عَلَيْنَا؟ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِرْ بِالْحِنْثِ خَارِجًا
مِنَ الْإِسْلَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الزَّجْرِ كَمَا
قَالَ: " مَنْ قَتَلَ عَبْدًا قَتَلْنَاهُ ". جَعْلَ الْوَعِيدَ يُوجِبُ
يَمِينَهُ دُونَ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ تَوْكِيدُ حُرْمَتِهَا،
وَحَظْرُ مُخَالَفَتِهَا، فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ
لِحَظْرِهَا وَتَحْرِيمِهَا، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى
التَّلَفُّظِ بِهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلْحَظْرِ، وَالتَّحْرِيمِ حُرْمَةٌ
مِنَ الِالْتِزَامِ وَالتَّكْفِيرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيظِ الْبَرَاءَةِ مِنَ
اللَّهِ، فَهُوَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنَ اللَّهِ كُفْرٌ، وَلَا يَجِبُ
بِالْكُفْرِ تَكْفِيرٌ كَالْمُرْتَدِّ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَأَكْرَهُ الْأَيْمَانَ عَلَى
كُلِّ حالٍ إِلَّا فِيمَا كَانَ لِلَهِ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَةً وَمَنْ
حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَالِاخْتِيَارُ
أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خيرٌ وَيُكَفِّرَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ بِاللَّهِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى ماضٍ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ عَلَى
خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ عَقْدُهَا، وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةً،
وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَعْصِيَةً، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى
فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لِأُصَلِّيَنَّ فَرْضِي؟
وَلَأُزَكِّيَنَّ مَالِي، وَلَأَصُومَنَّ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَأَحُجَّنَّ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ فقعدها وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا طَاعَةٌ، لِأَنَّهَا
تَأْكِيدٌ لِفِعْلِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَحَلُّهَا
وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ، وَلَا يَصُومَ،
ولا يحج معصية، لأنه ترك لمفروض، وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ
مَحْظُورًا مُحَرَّمًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا زَنَيْتُ وَلَا سَرَقْتُ
وَلَا قَتَلْتُ وَلَا شَرِبْتُ خَمْرًا وَلَا قَذَفْتُ محصناً، كَانَ
عَقْدُهَا بِاجْتِنَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي طَاعَةً، وَحِلُّهَا
بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْمَعَاصِي مَعْصِيَةً.
(15/264)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ
عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ
فِيهَا طَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَلَا زَكَّيْتُ
وَلَا صُمْتُ وَلَا حَجَجْتُ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِأَنْ
لَا يُصَلِّيَ وَلَا يُزَكِّيَ مَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِيهَا
مفروضاً عليه، وجلها وَالْحِنْثُ فِيهَا بِأَنْ يُصَلِّيَ وَيُزَكِّيَ
طَاعَةٌ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَأَزْنِيَنَّ وَلَأَشْرَبَنَّ خَمْرًا وَلَأَسْرِقَنَّ وَلَأَقْتُلَنَّ
كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا طَاعَةً بِأَنْ لَا
يَزْنِيَ وَلَا يَشْرَبَ.
وَالْقَسَمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا
مُسْتَحَبًّا، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا مَكْرُوهًا وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَاللَّهِ لَأُصَلِّيَنَّ النَّوَافِلَ وَلَأَتَطَوَّعَنَّ بِالصَّدَقَةِ،
وَلَأَصُومَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَلَأُنْفِقَنَّ عَلَى الْأَقَارِبِ،
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَعَقْدُهَا وَالْمَقَامُ
عَلَيْهَا بِفِعْلِ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا
بِتَرْكِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَ عَقْدُهَا وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا
مَكْرُوهًا وَحَلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا - مُسْتَحَبًّا، وَهُوَ عَكْسُ
مَا قَدَّمْنَاهُ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا صَلَّيْتُ نَافِلَةً، وَلَا
تَطَوَّعْتُ بِصَدَقَةٍ وَلَا صِيَامٍ، وَلَا أَنْفَقْتُ عَلَى ذِي
قَرَابَةٍ، وَلَا عُدْتُ مَرِيضًا، وَلَا شَيَّعْتُ جِنَازَةً، فَعَقْدُهَا
وَالْمَقَامُ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ، وَحِلُّهَا وَالْحِنْثُ فِيهَا بِفِعْلِ
ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، قَدْ حَلَفَ أَبُو بكر أن لا يبر مسطح، وَكَانَ ابْنَ
خَالَتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْإِفْكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِ: {وَلاَ يَأْتلُ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا
أُولِي القُرْبَى) {النور: 22) إِلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) {النور: 22) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى يَا
رَبِّ، فَبَرَّهُ وَكَفَّرَ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ
وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ
وَلَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا أَكَلْتُ هَذَا الطَّعَامَ
فَعَقْدُهَا لَيْسَ بمستحبٍ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مُبَاحٌ
أَوْ مَكْرُوهٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هريرة أن عَقْدَهَا
مُبَاحٌ، وَحَلَّهَا مُبَاحٌ، لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَا فِعْلُهُ مُبَاحٌ،
وَتَرْكُهُ مُبَاحٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظاهر كلامه هاهنا، أَنَّ عَقْدَهَا
مَكْرُوهٌ، وَحِلَّهَا مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَكْرَهُ
الْأَيْمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَكُونُ عَقْدُهَا مَكْرُوهًا،
لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، وحلها مكروه؛ لِأَنَّهُ
جَعَلَ اللَّهَ عُرْضَةً بِيَمِينِهِ وَقَدْ نَهَاهُ عَنْهُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، وَحَلَفَ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ
الْخَمْسَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِيهَا أَنْ يَبَرَّ أَوْ يَحْنَثَ
فَإِنْ بَرَّ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِرُّهُ فِيهَا
طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ
عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ فِيهَا وَهُوَ قَوْل
عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ
(15/265)
وَقَتَادَةَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا طَلَّقْتُمْ) {المائدة:
89) فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالْيَمِينِ دُونَ الْحِنْثِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَاللَّهِ
لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا " فَغَزَاهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْ. وَقَوْلُهُ:
{ذَلَكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانَكُمْ إِذَا حلفْتُمْ) {المائدة: 89) يَعْنِي:
وَحَنِثْتُمْ، كَمَا قَالَ: {فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فِعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) أَيْ: فَأَفْطَرْتُمْ،
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ
عَلَيْهِ، وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ.
سَوَاءٌ كَانَ حِنْثُهُ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
وَذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ لَا
كَفَّارَةَ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي حِنْثِ
الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الطَّاعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَغَيْرُ آثِمٍ
فِيهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَكْفِيرٍ كَالْقَتْلِ، إِنْ أَثِمَ بِهِ
كَفَّرَ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ لَمْ يُكَفِّرْ، وَهَذَا خَطَأٌ؛
لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ
حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ
الَّذِي هُوَ خيرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ
أَنْ يُكَفِّرَ فِي فِعْلِ الطَّاعَةِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَى
أَكْلِ الصَّيْدِ كَانَ مُطِيعًا فِي قَتْلِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ
بِالْجَزَاءِ وَكَالْقَاتِلِ الْخَطَأِ لَيْسَ يَأْثَمُ، وَعَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي حِنْثِ الطَّاعَةِ
وَالْمَعْصِيَةِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ فِي الْحِنْثِ وَحْدَهُ
لِتَعَلُّقِهَا بِحَلِّ مَا عَقَدَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ
فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمَانِكُمْ) {التحريم: 2) وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابَنَا: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ كَالزَّكَاةِ
تَجِبُ بِالنِّصَابِ وَالْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَكُونُ إِلَّا
بِعَقْدِ الْيَمِينِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ أَنْ
يُعْتَبَرَ حَالُ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَانَ عَقَدُهَا طَاعَةً وَحَلُّهَا
مَعْصِيَةً وَجَبَتْ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، لِأَنَّ التَّكْفِيرَ
بالمعصية أخص والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ
أَثِمَ وَكَفَّرَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْتَلَ
أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى}
نَزَلَتْ فِي رجلٍ حَلَفَ لَا يَنْفَعُ رَجُلًا فأمره الله أن ينفعه وبقول
الله جل ثناؤه في الظهار: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
القَوْلِ وَزُوراً} ثم جعل فيه الكفارة وبقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فليأت الذي هو خيرٌ وليكفر عنه يمينه " فقد أمره
بالحنث عامداً وبالتكفير ودل إجماعهم أن من حلف في الإحرام عمداً أو خطأً
أو قتل صيداً عمداً أو أخطأ في الكفارة سواءٌ على أن الحلف بالله وقتل
المؤمن عمداً أو خطأ في الكفارة سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ
الْمُسْتَقْبَلِ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي
فَضَرْبَانِ:
(15/266)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى إِثْبَاتٍ
كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى نَفْيٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا
فَعَلْتُ كَذَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِيهَا صَادِقًا أَوْ
كَاذِبًا، فإن كان قَدْ فَعَلَ مَا أَثْبَتَ وَتَرَكَ مَا نَفَى فَلَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا يَمِينُ بِرِّهِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَثْبَتَهُ وَفَعَلَ مَا نَفَاهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَقَدْ أَكَلْتُ، وَلَمْ يَأْكُلْ، أَوْ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَكَلْتُ وَقَدْ أَكَلَ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ عَاصٍ آثِمٌ،
وَتُسَمَّى الْيَمِينَ الْغَمُوسَ؛ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ الْحَالِفَ بِهَا
فِي الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: فِي النَّارِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ أَمْ لَا؟
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ،
وَوُجُوبُهَا مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ
وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ
اللهُ بِاللًّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمْ الأَيْماَنَ) {المائدة: 89) وَمِنْهُ دَلِيلَانِ: أَحَدُهُمَا:
إِنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ هِيَ اللَّغْوُ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا
مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَعَقْدُ الْيَمِينِ مَا الْتَزَمَ فِعْلًا
مُسْتَقْبَلًا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، فَخَرَجَتِ الْيَمِينُ
الْغَمُوسُ مِنَ الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهَا
كَفَّارَةٌ، ثُمَّ خَتَمَ الآية بقوله: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ} يَعْنِي
فِي الْمُسْتَقْبَلِ، مِنَ الْحِنْثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً
لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امرئٍ مسلمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ
قَالَ: " الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ مِنْ
أَهْلِهَا ". فَأَخْبَرَ بِحُكْمِهَا وَلَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ فِيهَا.
وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى ماضٍ فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ
كَاللَّغْوِ.
وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَحْظُورَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا كَفَّارَةٌ
كَالْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ يَمْنَعُ مِنِ
انْعِقَادِهَا؛ لِأَنَّ حُدُوثَهُ فِيهَا يَدْفَعُ عَقْدَهَا كَالرَّضَاعِ
لَمَّا رَفَعَ النِّكَاحَ إِذَا طَرَأَ مَنْعَ انْعِقَادَهُ إِذَا تقدم.
ودليلنا: قوله اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ كَفَارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا
حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) بَعْدَ صِفَةِ الْكَفَّارَةِ، فَاقْتَضَى
الظَّاهِرُ لُزُومَهَا فِي كُلِّ يَمِينٍ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ
يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) وَلَغْوُ الْيَمِينِ مَا سَبَقَ
بِهِ لِسَانُ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا نِيَّةٍ، وَالْيَمِينُ
الْغَمُوسُ مَقْصُودَةٌ، فَكَانَ بِهَا مُؤَاخَذًا وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهَا
تُوجِبُ تَكْفِيرَهَا، فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَةِ الْغَمُوسِ
يَمِينًا بَطَلَ مَنْعُهُمْ
(15/267)
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ
بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ) {التوبة: 74)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ
مِنْكُمْ) {التوبة: 56) .
وَمِنَ الْقِيَاسِ: إِنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى قَصَدَهَا
مُخْتَارًا؛ فَوَجَبَ إِذَا خَالَفَهَا بِفِعْلِهِ أَنْ تَلْزَمَهُ
الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْيَمِينِ،
فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى بِرٍّ وَحِنْثٍ كَالْمُسْتَقْبَلِ؛
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ كَذِبًا كَانَ فِي
الْيَمِينِ حِنْثًا كَالْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْحِنْثِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ
الْمَاضِي كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ
بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا
لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ.
وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلْهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَمْ
يَدْخُلْهَا وَهَذَا وِفَاقًا كَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ؛
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْأَيْمَانِ أَعَمُّ فِي
الْمَأْثَمِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَجِبُ فِيمَا يَأْثَمُ بِهِ وَلَا يَأْثَمُ،
فَلَمَّا لَحِقَهُ الْمَأْثَمُ فِي الْغَمُوسِ كَانَ بِوُجُوبِ
الْكَفَّارَةِ أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤاخِذُكُمْ اللهُ
بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ} (البقرة: 225) فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَأَمَّا
الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ فَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ اللَّغْوِ وَهُوَ
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَيْمَانِهِ وَهُوَ مِنْ كَسْبِ قَلْبِ
الْمَأْخُوذِ بِإِثْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) وَلَئِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ
الْمُسْتَقْبَلَةُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ بِرٍّ وحنثٍ، فَالْغَمُوسُ
مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ صِدْقٍ وَكَذِبٍ، فَصَارَتْ ذَاتَ حَالَيْنِ
كَالْمُسْتَقْبَلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْحَالَتَانِ.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ وَلَيَشْرَبَنَّ مَاءَ
الْبَحْرِ حَنِثَ لِوَقْتِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ حِنْثٍ وَبِرٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ
حَلَفَ لِيَقْتُلَنَّ زَيْدًا، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ مَاتَ حَنِثَ،
وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ يَمِينُهُ بَيْنَ
بِرٍّ وَحِنْثٍ وكذبٍ، لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ كَذَلِكَ يَمِينُ الْغَمُوسِ
فِي الْمَاضِي.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أيْمَانَكُمْ) {المائدة: 89)
فَحِفْظُهَا قَبْلَ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْلِفَ وَبَعْدَ الْيَمِينِ أَنْ
لَا يَحْنَثَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(قَلِيَلُ الْأَلَايَا حافظٌ لِعَهْدِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ
الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا اكْتِفَاءٌ
بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ وُجُوبِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا حُكْمُ الْآخِرَةِ، وَالْكَفَّارَةُ
مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا.
(15/268)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ
عَلَى لَغْوِ الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ غَيْرُ
مَقْصُودَةٍ فَخَرَجَ عَنِ الْيَمِينِ الْمَقْصُودَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيَمِينِ بِالْمَخْلُوقَاتِ
فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ في جنسها كفارة فخالفت الأيمان بالله.
وما الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّكَاحِ، فَهُوَ أَنَّهُ
مُنْتَقَضٌ بِيَمِينِهِ أَنْ يَصْعَدَ السَّمَاءَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي
النِّكَاحِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَالِاسْتِبَاحَةُ، فَإِذَا
امْتَنَعَ فِي النِّكَاحِ بَطَلَ وَمَقْصُودُ الْيَمِينِ وُجُوبُ
الْكَفَّارَةِ فِي الْحِنْثِ وَسُقُوطُهَا فِي الْبِرِّ، وَهَذَا مَوْجُودٌ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى
الْمَاضِي فِي إِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ، أَوْ نَفْيِ مَا قَدْ كَانَ،
فَهِيَ يَمِينٌ مَحْلُولَةٌ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ؛ لِأَنَّ عَقْدَهَا
إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُنْتَظَرُ بَعْدَهَا مِنْ بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ،
وَهَذِهِ الْيَمِينُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهَا الْحِنْثُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ
لَفْظِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْعَقِدْ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ
بِاسْتِيفَاءِ الْيَمِينِ.
(فَصْلٌ:)
يَمِينُ الْكَافِرِ مُنْعَقِدَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحِنْثُ، وَتَجِبُ
بِهَا الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْلِمِ سَوَاءٌ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ
بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لَكِنَّهُ إِنْ كَفَّرَ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَفَّرَ
بِالْمَالِ مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، وَلَمْ يُكَفِّرْ
بِالصِّيَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ جَازَ أَنْ يُكَفِّرَ
بِالصِّيَامِ كَالْمُسْلِمِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَمِينُ الْكَافِرِ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا
كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِذَا حَنِثَ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ؛ وَلِأَنَّ
الْكَفَّارَةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ؛ لافتقارها إلى النية ما بِدَلِيلِ
أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ
الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ.
وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ وَالْكِسْوَةَ حَدٌّ مُوجِبُهُ التَّكْفِيرُ،
فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصِّيَامِ.
وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ لَمْ
يَصِحَّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا
يَصِحُّ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَلَا تَجِبُ
عَلَيْهِ فِيهَا كَفَّارَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مُوجِب الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ
مِنْهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَالزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ تَكْفِيرُهُ لَمْ تَنْعَقِدْ
يَمِينُهُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ
(15/269)
بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ) {المائدة: 89) الْآيَةَ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ الْعُمُومِ
اسْتِوَاءَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فِي وُجُوبِهِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الدَّعَاوَى
انْعَقَدَتْ مِنْ غَيْرِ الدَّعَاوَى كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ
يَمِينٍ صَحَّتْ مِنَ الْمُسْلِمِ صَحَّتْ مِنَ الْكَافِرِ كَالْيَمِينِ
بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ
بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ كَالْمُسْلِمِ؛
وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ صَحَّتْ
يَمِينُهُ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ كَالْمُسْلِمِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا صَحَّتْ يَمِينُهُ فِي الْإِيلَاءِ وَبِالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ مُوجِبُهُ مِنَ الطَّلَاقِ
وَالْعِتْقِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مُوجِبُ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى
فِي التَّكْفِيرِ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
قِيلَ: مُوجِبُ الْيَمِينِ هُوَ الْوَفَاءُ بِهَا، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمٌ
تَعَلَّقَ بِالْحِنْثِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ،
وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى التَّكْفِيرِ الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْهُ، أَلَا
تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ فَقَتَلَ فِيهِ صَيْدًا
ضَمِنَهُ بِالْجَزَاءِ، وَإِنِ افْتَقَرَ إِخْرَاجُ الْجَزَاءِ إِلَى
نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَزَاءُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
-: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ مَا وَجَبَ،
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ مَا يَسْقُطُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سُقُوطِ الْمَأْثَمِ دُونَ
الْمَغْرَمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّكْفِيرَ
بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ كَالصِّيَامِ، فَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ
عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ كَالصَّلَاةِ
وَالْمَالُ حق يتصرف إِلَى الْآدَمِيِّينَ، فَصَحَّ مِنَ الْكَافِرِ،
وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ،
وَلَا يَمْنَعُ إِذَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ
أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا
يَصِحُّ مِنْهَا التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وتصح مِنْهَا التَّكْفِيرُ
بِالْمَالِ، وَالْعَبْدُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ،
وَيَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وَالْمَجْنُونُ إِنَّمَا لَا
يَصِحُّ مِنْهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُكَلَّفٍ، وَالْكَافِرُ مُكَلَّفٌ، فَلِذَلِكَ انْعَقَدَتْ يمين الكافر،
وإن لم تنعقد يَمِينُ الْمَجْنُونِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ: فَلِأَنَّهَا فُرِضَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ طُهْرَةً،
فَخَرَجَ مِنْهَا الْكَافِرُ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عقوبة.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَعْنِي
حَلَفْتُ قَدِيمًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ حادثةٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا
فَهِيَ يمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَوْلُهُ: " أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ " يَحْتَمِلُ
أَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي الْحَالِ أَوْ
(15/270)
يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ
مَاضِيَةٍ. وَإِذَا احْتَمَلَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ
مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا فِي الْحَالِ فَتَكُونَ يَمِينًا
مُنْعَقِدَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أيْمَانِهِمْ) {الأنعام: 109) .
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَهُ مُطْلَقًا لَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ
إِرَادَةٌ، فَتَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِإِطْلَاقِهَا
عُرْفَانِ، عُرْفُ شَرْعٍ وَعُرْفُ اسْتِعْمَالٍ. فَعُرْفُ الشَّرْعِ مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ وَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ قَوْلُهُمْ فِي
أَيْمَانِهِمْ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ مِنَ انْعِقَادِ
الْيَمِينِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهِ يَمِينًا حَلَفَ بِهَا
مُنْعَقِدَةً، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ يَمِينِهِ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا
مُوَافِقًا لِإِرَادَتِهِ، فَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي الْحَالِ،
وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ لَهُ يَمِينٌ مُتَقَدِّمَةٌ، فَقَدْ قَالَ فِي
كِتَابِ الْأَيْمَانِ " لَا تَكُونُ يَمِينًا " لِاحْتِمَالِ مَا قَالَ فِي
كِتَابِ الْإِيلَاءِ: تَكُونُ يَمِينًا مُنْعَقِدَةً اعْتِبَارًا بِعُرْفِ
الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَمْعُ بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ وَتَخْرِيجُهُ فِي
الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ فَيَلْزَمُ فِي الْإِيلَاءِ وَلَا يَلْزَمُ فِي
الْأَيْمَانِ لِأَنَّ فِي الْإِيلَاءِ حَقًّا لِآدَمِيِّينَ، فَلَمْ
يَسْقُطْ بِإِرَادَتِهِ، وَهُوَ فِي الْأَيْمَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى الْمَحْضَةِ، فَجَازَ أَنْ يَدِينَ فِيهِ على إرادته.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ ".
قَالَ الماوري: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: أُقْسِمُ لَا فَعَلْتُ كَذَا،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِهِ يَمِينًا عَلَى ثَلَاثَةِ
مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَكُونُ يَمِينًا
سَوَاءٌ أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ يَمِينًا
أَرَادَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرُدْهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إِنْ أَرَادَ الْيَمِينَ
كَانَتْ يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا،
وَهَكَذَا. لَوْ قَالَ: أَحْلِفُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا فَهُوَ عَلَى هَذَا
الْخِلَافِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَشْهَدُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا كَانَ
عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَمِيعِهِ أَنَّهَا
لَا تَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُقْرِنَهُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى:
فَيَقُولَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ أَوْ أشهد بالله واستدل من جعله يميناً يقول
الله تعالى: {وَإذاَ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) {القلم: 17)
. فَدَلَّ عَلَى
(15/271)
أن أقسمت يمين مُنْعَقِدَةً، وَقَالَ
تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرِسُولُ اللهِ) {المنافقون: 1) . ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّة) {المنافقون: 2) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " أَشْهَدَ " يَمِينٌ
لَازِمَةٌ.
وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
قَالَ: أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهُ
عَائِشَةُ، وَأَبْقَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
بِرِّيهَا، فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ " فَجَعْلَهَا يَمِينًا
ذَاتَ برٍّ وحنثٍ.
وَرُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ أَتَى بِأَبِيهِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لِيُبَايِعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ
الْفَتْحِ ". فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: الْآنَ بَرَرْتَ قَسَمِي،
فَسَمَّاهُ قَسَمًا، وَلِأَنَّ عُرْفَ الْقَسَمِ فِي الشَّرْعِ
وَالِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشهَادَةُ أَحِدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (النور: 6) .
وَاللِّعَانُ يَمِينٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شأنٌ " فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى تَقْتَرِنَ
بِذِكْرِ اللَّهِ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَفْظٌ عَرِيَ عَنِ اسْمٍ وَصْفَتِهِ فَوَجَبَ
أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.
أَصْلُهُ إِذَا قَالَ: أُولِي لِأَفْعَلَنَّ هَذَا، لِأَنَّ الْأَلْيَةَ،
وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ، وَقِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ
مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُكَفَّرَةَ إِذَا كَانَتْ
بِلَفْظٍ مُعَظَّمٍ لَهُ حُرْمَةٌ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْقَسَمُ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ، فَسَقَطَتْ كفارته.
وأما الجواب عن قوله تعالى: {إِذَا أَقْسَمُوا لَيَصْرِمَنَّهَا
مُصْبِحِينَ) {القلم: 17) . فَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَسَمِ،
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِفَةِ الْقَسَمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: حَلَفَ
فَلَانٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا حَلَفَ بِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَذَفَ ذِكْرَ اللَّهِ مِنْهُ
اقْتِصَارًا عَلَى الْعُرْفِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مَحْمُولٌ
عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنَ الْقَسَمِ أَنَّهُ
يَمِينٌ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاللَّهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اللَّهِ
أُخْرَى، كَمَا لَوْ قال: حلفت،
(15/272)
يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِاللَّهِ، وَيَجُوزَ
أَنْ يُرِيدَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَبِمَا لَا تَنْعَقِدُ مِنَ
الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ الْقَسَمُ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " فَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا
يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَوْعِدًا فليست بيمينٍ كقوله
سأحلف (قال المزني) رحمه الله وَفِي الْإِمْلَاءِ هِيَ يمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ: " أُقْسِمُ بِاللَّهِ "
فَيَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهَا يَمِينًا فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ سَيُقْسِمُ يَمِينًا فِي
الْمُسْتَقْبَلِ فَصَارَ احْتِمَالُهُمَا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ
كَاحْتِمَالِ قَوْلِهِ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ، لِأَمْرَيْنِ، وَإِنِ
اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي
أَقْسَمْتُ لِيَمِينٍ مَاضِيَةٍ وَفِي قَوْلِهِ: " أُقْسِمُ " لِيَمِينٍ
مُسْتَقْبَلَةٍ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِأَحْوَالِهِ الثلاثة:
أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهَا عَقْدَ يَمِينٍ فِي الْحَالِ، فَتَنْعَقِدَ
يَمِينُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، فَيَعْقِدَ يمينه اعتباراً في
الإطلاق يعرف الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا}
(المائدة: 107) .
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا مَوْعِدًا فِي يَمِينٍ
مُسْتَقْبَلَةٍ، فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَيْمَانِ أَنَّهَا لَا
تَكُونُ يَمِينًا حَمَلًا عَلَى إِرَادَتِهِ فِي الْمَوْعِدِ،
وَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْإِيلَاءِ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي
الْحَالِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَمْلُ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ عَلَى
قَوْلَيْنِ.
وَالثَّانِي: حَمْلُ الْجَوَابِ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وإِنْ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا
يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ
لَأَفْعَلَنَّ كذا من ثلاثة أحوالٍ:
أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَمِينَ، فَتَكُونُ يَمِينَا مُكَفَّرَةً،
لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَعْنَاهُ عِلْمُ اللَّهِ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَالثَّانِي: بَقَاءُ اللَّهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَالثَّالِثُ: وَحَقِّ اللَّهِ وَأَيُّ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ، فَهُوَ
مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ.
(15/273)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرِيدَ
يَمِينًا فَلَا تَكُونُ يَمِينًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يُرِدْهَا
لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ لَفْظَهُ قَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا
فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: لَعَمْرِي لَقَدْ كَانَ كَذَا
وَمِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي امرؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي ... نَوَائِبَ هَذَا
الدَّهْرِ أَمْ كَيْفَ يَحْذَرُ)
فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفِ بِالْإِرَادَةِ فَلَا
تَكُونُ يَمِينًا لِخُرُوجِهِ عَنْ حُكْمِ الصِّفَاتِ الْمَحْضَةِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَهُ، وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهِ
إِرَادَةٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَكُونُ يَمِينًا لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ
فِي قَوْله تَعَالَى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ) {الحجر: 72) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ يَمِينًا لِأَنَّ عُرْفَ
الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ مُشْتَرَكٌ، وَعُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِ مُحْتَمَلٌ،
لِأَنَّ قَوْلَهُ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ، وَأَقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى
مُخَالِفَةٌ لِأَقْسَامِ عِبَادِهِ، لِجَوَازِ قَسَمِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ
التي لا يجوز أن يقسمه بِهَا الْمَخْلُوقُونَ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا قَوْلُهُ: وَايْمُ اللَّهِ، وَايْمَنُ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ
بِهِ يَمِينًا كَانَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "
وَايْمُ اللَّهِ إِنَهُ لخليقٌ بِالْإِمَارَةِ " وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ
يَمِينًا، أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّ
الْعُرْفَ فِي قَوْلِهِمْ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ
قَوْلِهِمْ؛ وَايْمُ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا يَمِينٌ
مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ وَعَدَمِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَاهَا اللَّهِ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا، فَهُوَ
يَمِينٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
قَالَ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فِي قَتِيلِ أَبِي قَتَادَةَ حِينَ أَخَذَ سَلَبَهُ غَيْرُهُ: لَاهَا
اللَّهِ إِذَنْ تَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُعْطِيكَ
سَلْبَهُ، فَكَانَتْ يَمِينًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْيَمِينَ، أَوْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِعَدَمِ عُرْفِ الشرع
والاستعمال فيه.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ أَوْ وَعَظَمَتِهِ أَوْ وجلال
الله أو وقدرة الله فذلك كله يمينٌ نَوَى بِهَا يَمِينًا أَوْ لَا نِيَّةَ
لَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَقُولَ: وَحَقُّ اللَّهِ واجبٌ وَقُدْرَةُ اللَّهِ ماضيةٌ لَا
أَنَّهُ يمينٌ ".
(15/274)
قال الماوردي: ذكر الشافعي هاهنا إِذَا
حَلَفَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ بِ " حَقِّ اللَّهِ " وَ " عَظَمَةِ اللَّهِ
" وَ " جَلَالِ اللَّهِ "، وَ " قدرة الله ".
فأما عظمة اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ فِي الْأَحْوَالِ
الثَّلَاثَةِ، سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ
لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الْمَحْضَةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا
عُرْفُ شَرْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٍ وَإِنْ كَانَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ
فِيهَا مَوْجُودًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعِرْفَانُ فِيمَا كَانَ مِنَ
الصِّفَاتِ مُحْتَمَلًا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيمَا زَالَ عَنْهُ
الِاحْتِمَالُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَقِّ اللَّهِ، وَقُدْرَةِ اللَّهِ، فَتَكُونُ
يَمِينًا فِي حَالَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثٍ إِذَا أَرَادَ الْيَمِينَ وَإِذَا
أَطْلَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ: وَحَقِّ اللَّهِ لَا
تَكُونُ يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا سَوَاءٌ أَرَادَ بِهِ
الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يُرِدْ، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فُرُوضُهُ
وَعِبَادَاتُهُ، لِرِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ فَقَالَ: " أَنْ لَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَتَعْبُدُوهُ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا
الزَّكَاةَ ".
وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا يَمِينٌ مُعْتَادَةٌ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ أُضِيفَتْ
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا كَصِفَاتِ ذَاتِهِ
مِنَ الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا يَمِينٌ مُسْتَحَقَّةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ،
فَجَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ صِفَاتِ الذَّوَاتِ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ بَعْضَ
حُقُوقِهِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْعِبَادَاتِ، وَتَحْتَمِلُ صِفَاتِ
الذَّاتِ، فَجَازَ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ الْإِرَادَةُ بِحَمْلِهِ عَلَى
أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "
يَعْمَلُ عَلَى إِرَادَتِهِ " فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، لِمَا عَلَّلَ بِهِ
مِنْ جَوَازِ أَنْ يُرِيدَ. وَحُقُّ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَقُدْرَةُ الله
ماضية، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ
الشَّافِعِيُّ، وَعَلَّلَ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكُونُ
يَمِينًا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا تَكُونُ يَمِينًا بِالْإِرَادَةِ إِذَا عَزَاهُ
إِلَى أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَتَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَعْزُهُ إِلَى
أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ قَالَ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَهِيَ يمينٌ
نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: تَاللَّهِ يمينٌ
وَقَالَ فِي الْقَسَامَةِ لَيْسَتْ بيمينٍ (قال المزني) رحمه الله: وقد حكى
الله عز وجل يمين إبراهيم عليه السلام {وتاللهِ لأَكِيدَنَّ أصْنَاَمكُمْ
بَعْدَ أَنْ تَوَلُّوا مُدْبِرِينَ} .
(15/275)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ
حُرُوفَ الْقَسَمِ ثَلَاثَةٌ: الْوَاوُ وَهِيَ أَصْلُهَا، ثُمَّ الْيَاءُ،
ثُمَّ التَّاءُ، فَأَمَّا الْوَاوُ فَقَوْلُهُ: وَاللَّهِ، وَهُوَ
الْحَرْفُ الصَّرِيحُ فِي الْقَسَمِ، فَإِذَا قَالَ: وَاللَّهِ كَانَ
حَالِفًا، لَا يُرْجَعُ إِلَى إِرَادَتِهِ فِي ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ،
وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي حُقُوقِ الله تعالى وحقوق
الآدميين، وأما التاء الْمُعْجَمَةُ مِنْ تَحْتُ. فَقَوْلُهُ: بِاللَّهِ،
وَفِيهَا بَعْضُ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّهُ مَعَ غَالِبِ الْأَحْوَالِ فِي
الْقَسَمِ يحتمل أن يريد: بالله أستعين وبالله أتق، وبالله أومن، فَإِنْ
أَرَادَ بِهِ الْقَسَمَ، أَوْ قَالَ مُطْلَقًا كَانَ يَمِينًا فِي
الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ،
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَسَمَ، وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ
احْتِمَالِهِ دِينَ فِي الْبَاطِنِ حَمْلًا عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَمْ
تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَكَانَ حَالِفًا فِي الظَّاهِرِ، اعْتِبَارًا
بِالْغَالِبِ مِنْ حَالِ الظَّاهِرِ، وَلَزِمَهُ حُكْمُ الْيَمِينِ كَمَا
لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَرَادَ مِنْ وِثَاقٍ دَيْنٍ
فِي الْبَاطِنِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا التَّاءُ الْمُعْجَمَةُ مِنْ فَوْقُ، فَقَوْلُهُ: تَاللَّهِ،
فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِيلَاءِ أَنَّهَا
يَمِينٌ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَتَاللهِ لأَكِيدَنَّ أصْنَامَكُمْ} (الأنبياء: 57) .: {قَالُواْ تَاللهِ
لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا) {يوسف: 91) . وَنَقْلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَسَامَةِ: تَاللَّهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ فَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ مَا نَقَلَهُ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ وَهِمَ فِيهِ وَإِنَّمَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " بِاللَّهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ "، بِالْبَاءِ
مُعْجَمَةٍ مِنْ تَحْتُ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ مَا
يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ
تَاللَّهِ يَمِينًا قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَقْلَ الْمُزَنِيِّ صَحِيحٌ، لِضَبْطِهِ فِي
نَقْلِهِ، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ
فِي كَيْفِيَّةِ تَخْرِيجِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ تَخْرِيجُ قولٍ ثَانٍ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ
لِاخْتِلَافِ النَّقْلِ فِيهِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا فِي
الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُعْتَبَرَ فِيهِ إِرَادَةٌ؛
لِأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ بِهَا واردٌ؛ وَلِأَنَّ التَّاءَ فِي الْقَسَمِ
بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، فَقَامَتْ مَقَامَهَا فِي الْحُكْمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ في المواضع كلها إلا
أن يريديها يَمِينًا، فَتَصِيرُ بِالْإِرَادَةِ يَمِينًا لِخُرُوجِهَا عَنْ
عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْتِبَاسِهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ،
وَالْأَيْمَانُ مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا،
وَعِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ مُشْتَهِرًا، فَهَذَا وَجْهٌ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
إِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا فِي خَوَاصِّ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ
أَنَّ التَّاءَ مِنْ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَلَا تَكُونُ فِي الْعَامَّةِ
الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ
(15/276)
ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ
وَالنِّيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْعَرِبِيَّ إِذَا حَلَفَ بِالْأَعْجَمِيَّةِ
تَكُونُ يَمِينًا إِذْ عَرَفَهَا، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا إِنْ لَمْ
يَعْرِفْهَا، وَكَذَا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ إنها تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَلَا
تَكُونُ يَمِينًا فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُ، فَلَا يَجْعَلُهَا يَمِينًا فِي
الْقَسَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا لِنَفْسِهِ حَقًّا، وَيَجْعَلُهَا
يَمِينًا فِي الْإِيلَاءِ؟ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا على نفسه حقاً.
(مسألة:)
قال الشافعي (قال المزني) : رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قَالَ اللَّهُ
لَأَفْعَلَنَّ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كلامٍ لَا يمينٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ
بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا حَذَفَ مِنَ اسْمِ اللَّهِ حَرْفَ الْقَسَمِ،
فَقَالَ: اللَّهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا، لِأَنَّهُ
يَحْذِفُ حُرُوفَ الْقَسَمِ الْمَوْضُوعَةَ لِلْيَمِينِ يَصِيرُ ابْتِدَاءَ
كَلَامٍ، وَاسْتِفْتَاحَ خِطَابٍ يَخْرُجُ عَنْ عُرْفِ الْأَيْمَانِ فِي
الِاسْتِعْمَالِ وَالشَّرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَ بِهِ عُرْفُ الشَّرْعِ، فَقَدْ أَحْلَفَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُكَانَةَ بْنِ
عَبْدِ يَزِيدَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ
أَرَادَ وَاحِدَةً فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ أَرَدْتَ وَاحِدَةً "؟
فَقَالَ: اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ وَاحِدَةً، وَأَحْلَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ
حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَا جهلٍ، فَقَالَ: " اللَّهِ إِنَّكَ
قَتَلْتَهُ "، فقال: الله إِنِّي قَتَلْتُهُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - قَصَدَ الْيَمِينَ، بِإِحْلَافِهِمَا وَالنِّيَّةُ عِنْدَنَا فِي
الْأَيْمَانِ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ دُونَ الْحَالِفِ، وَلَوْ كَانَ
الْحَالِفُ نَوَى الْيَمِينَ، وَأَرَادَهَا مَعَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ
كَانَتْ يَمِينًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِحْلَافِ رُكَانَةَ وَابْنِ
مَسْعُودٍ، فَتَصِيرُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ إِذَا لَمْ يُرِدْ
وَإِذَا أَطْلَقَ، وَيَمِينًا فِي حالة واحدة إذا أراد.
(مسألة:)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ فَإِنْ نَوَى
الْيَمِينَ فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ
لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ
يَنْوِيهِ يَمِينًا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهَا
يَمِينٌ لِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ) {النور:
6) وَقَالَ: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللهِ) {المنافقون: 1) وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا أَحَدُ
الْعُرْفَيْنِ صَارَتْ يَمِينًا، وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ بِاللَّهِ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينًا قَاطِعَةً، لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ إِنَّهَا تَحْتَمِلُ
أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهِ الشَّهَادَةِ بِالْأَيْمَانِ
بِاللَّهِ، فَخَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ مَا لَا يَحْتَمِلُ.
(15/277)
وَالثَّانِيَةُ: مَا عَلَّلَ بِهِ أَبُو
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنَّهَا مَا كَانَتْ جَارِيَةً فِي عُرْفِ
الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، وَالشَّهَادَةُ بِمَا لَا تَعْرِفُهَا
الْعَامَّةُ فِي الْأَيْمَانِ فَزَالَ عَنْهَا حُكْمُ الْيَمِينِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ بِعُرْفِ الشَّرْعِ، فَقَدْ
قَابَلَهُ فِي حَمْلِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ عُرْفٌ
شَرْعِيٌّ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْعُرْفَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ،
فَتَعَارَضَا، وَرَجَعَ إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي
قَوْلِهِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أحدهما: أَنْ يُرِيدَ بِهَا غَيْرَ يَمِينٍ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا،
وَهُوَ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا الْيَمِينَ، فَتَكُونُ
يَمِينًا بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِمَا وَافَقَهَا مِنْ أَحَدِ
الْعُرْفَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ وَلَا تَكُونُ لَهُ فِيهَا
نِيَّةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا
لِمُوَافَقَةِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَيَكُونُ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ
فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ
بِهَا الْيَمِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَهَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ تَكُونَ
يَمِينًا لِمُخَالَفَةِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَكُونُ جَوَابُ
الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ مَحْمُولًا على هذا
الإطلاق.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ
يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَعْزِمُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ
بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى كَذَا وَإِنْ أَرَادَ يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْزِمُ
بِاللَّهِ يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَانَةَ بُقُولِهِ، وَمَعُونَتِهِ عَلَى
مَقَاصِدِهِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَإِنِ احْتَمَلَ
أَنْ يُرِيدَ عَزْمًا عَلَى الْيَمِينِ بِإِضْمَارِ الْقَسَمِ،
وَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ، أَظْهَرُهُمَا أَنْ تَكُونَ
غَيْرَ يَمِينٍ، وَأَضْعَفُهُمَا أَنْ تَكُونَ يَمِينًا، لَمْ يَجْعَلْهَا
يَمِينًا إِذَا نَوَى غَيْرَ الْيَمِينِ، وَلَا إِذَا أَطْلَقَهَا،
لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِإِطْلَاقِهَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَا عُرْفُ
الِاسْتِعْمَالِ، وَجَعَلْنَاهَا يَمِينًا إِذَا نَوَاهَا لِمَا
يَحْتَمِلُهَا مِنْ حُكْمِ الْيَمِينِ فَتَصِيرُ يَمِينًا فِي حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ وَغَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ وَجْهًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ
الشَّهَادَةِ حَيْثُ احْتَمَلَتْ فِي الْإِطْلَاقِ، وَلِمَا اقْتَرَنَ بها
من عرف الشرع.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ
بالله لتفعلن فإن أراد المستخلف بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يمينٌ وَإِنْ لَمْ
يُرِدْ بِهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بيمينٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ لِغَيْرِهِ: أَسْأَلُكُ بِاللَّهِ،
أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا. فَلَهُ فِيهِ
أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
(15/278)
أَحَدُهَا: أَنْ يُرِيدَ يَمِينًا
لِنَفْسِهِ عَلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ، فَتَكُونُ يَمِينًا لَهُ مُعَلَّقَةٌ
بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَلَ مَا قَالَ بَرَّ الْحَالِفُ، وَإِنْ لَمْ
يَفْعَلْ حَنِثَ الْحَالِفُ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ
دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَأَوْجَبَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ دُونَ الْحَالِفِ، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ
عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى أحدٍ بيمينٍ
وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ سَيَبَرُّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِي لَمْ يَبَرَّهُ ". وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) ،
فَجَعَلَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحَالِفِ دُونَ الْمُحْنِثِ، وَقَدْ
جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا.
رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ فَأَكَلَتْ مِنْهُ
عَائِشَةُ، وَأَبْقَتْ تُمَيْرَاتٍ، فَقَالَتْ لَهَا الْمَرْأَةُ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِرِّيَهَا؟ فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى
الْمُحْنِثِ "، فَجُعِلَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ عَلَى الْحَالِفِ
وَالْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ.
(فَصْلٌ:)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرِيدَ الحالف بيمينه يميناً يعقدها على
المستخلف يُلْزِمُهُ بِرَّهَا وَحِنْثَهَا، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا
لِلْحَالِفِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهَا، وَلَا تَكُونُ يَمِينًا
لِلْمُسْتَحْلِفِ، لأنه لم يحلف بها، ولأنه لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُ
الْمُكْرَهِ مَعَ حَلِفِهِ كَانَتْ يَمِينُ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ أَوْلَى
أَنْ لَا تَنْعَقِدَ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُرِيدَ بِهَا السُّؤَالَ وَالطَّلَبَ،
وَلَا يَقْصِدَ بِهَا يَمِينًا لِنَفْسِهِ وَلَا لِصَاحِبِهِ، فَلَا
تَكُونُ يَمِينًا بِحَالٍ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُطْلِقَهَا، وَلَا تَكُونُ لَهُ نيةٌ
فِيهَا بِيَمِينٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ يَمِينًا، لَا يَخْتَلِفُ
فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا عُرْفُ
شَرْعٍ وَلَا عُرْفُ اسْتِعْمَالٍ، فَخَرَجَتْ عن حكم الأيمان.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ
فَلَيْسَتْ بيمينٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا لِأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ
عَهْدًا أَنْ يُؤَدِّيَ فَرَائِضَهُ وَكَذَلِكَ مِيثَاقُ اللَّهِ بِذَلِكَ
وَأَمَانَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَمَالِكٌ: إِذَا قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ قَالَ: عَلَيَّ
مِيثَاقُ اللَّهِ أَوْ جَمْعَ بَيْنِهِمَا، فَقَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ
اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، كَانَا مِنْ صَرِيحِ الْأَيْمَانِ، فَيَكُونُ
يَمِينًا فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ
التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَيْمَانِ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَعَلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا تَكُونُ يَمِينًا إِذَا لَمْ يَنْوِهَا،
لِأَنَّ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
(15/279)
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ
مِنْ فُرُوضٍ أَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا
أَخَذَهُ اللَّهُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ فِي ظُهُورِ الْآبَاءِ مِنَ
الِاعْتِرَافِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وِإذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) {الأعراف: 72) . وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِهَا اليمن؟ فَلَمَّا كَانَ هُنَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَجَبَ
أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ
يَمِينًا كَانَتْ يَمِينًا، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ
يَمِينًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِرَادَةٌ وَأَطْلَقَ، فَفِي
إِطْلَاقِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ إِطْلَاقَهُ يُخْرِجُهُ عَنِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَمْ
يَقْتَرِنْ بِهِ عُرْفُ شَرْعٍ، وَتَكُونُ غَيْرَ يَمِينٍ فِي حَالَتَيْنِ،
وَيَمِينًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينًا؛
لِأَنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ قَدْ صَارَ
جَارِيًا وَمَحْمُولًا بَيْنَهُمْ عَلَى زِيَادَةِ التَّغْلِيظِ، كَمَا
يَزِيدُ فِي تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ بِاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، فَتَكُونُ يَمِينًا في
حالتين، غير يَمِينٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا صَارَ عَهْدُ اللَّهِ
وَمِيثَاقُهُ يَمِينًا، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ
كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ لِوُجُوبِهَا بِكُلِّ واحدٍ
مِنْهُمَا، فَتَضَاعَفَتْ بِاجْتِمَاعِهِمَا، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ،
لِأَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ زَادَهَا تَغْلِيظًا، فَلَمْ تَجِبْ بِهَا
إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(15/280)
باب الاستثناء في
الأيمان
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ حَلَفَ بِأَيِّ يمينٍ
كَانَتْ ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ فَقَدِ
اسْتَثْنَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ فِي الْأَيْمَانِ والنذور يمنع من انعقادها، وتسقط حُكْمُهَا فِي
الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى
أَوْ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ، وَلَا
يَصِحُّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالنُّذُورِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ
مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ رِوَايَةُ
أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ
فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدِ اسْتَثْنَاهُ ".
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ " إِنْ
شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ "، فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ
يَمِينٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَعْلِيقُ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ مِنْ
عِتْقٍ، وَطَلَاقٍ، وَغَيْرِهِ بِالشُّرُوطِ وَالصِّفَاتِ، كَانَ
تَعْلِيقُهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى، وَمَشِيئَةُ اللَّهِ
غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فِيهَا، فَلَمْ تَنْعَقِدْ، كَمَا لَوْ قَالَ:
وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ الدَّارَ إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، أَوْ قَالَ
لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ عَمْرٌو، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ:
أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ بَكْرٌ، وَلَمْ تُعْلَمْ مَشِيئَتُهُمْ حَتَّى
مَاتُوا سَقَطَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ كُلُّهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشَاءُ الْعِتْقَ؟ .
قِيلَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ فِي الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا
يَشَاءَهُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَ الطَّلَاقَ؟ لِأَنَّهُ قَدْ
أَبَاحَهُ، وَالْمُبَاحُ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: " وَالْوَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَسَقًا وَإِنْ
كَانَتْ بَيْنَهُ سكتةٌ كَسَكْتَةِ الرَّجُلِ لِلتَّذَكُّرِ أَوِ الْعِيِّ
أَوِ التَّنَفُّسِ أَوِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ فَهُوَ استثناءٌ وَالْقَطْعُ
أَنْ يَأْخُذَ فِي كلامٍ لَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ مِنْ أمرٍ أَوْ نهيٍ أَوْ
غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُتَ السُّكُوتَ الَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّهُ قَطَعَ ".
(15/281)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا مَانِعٌ مِنَ
انْعِقَادِهَا، وَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ
الظَّاهِرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي
فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) {الكهف: 23 - 24) .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَى فِي يَمِينِهِ
تَارَةً، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا أُخْرَى، فَقَالَ: " وَاللَّهِ
لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ
شَهْرًا، وَلَمْ يَسْتَثْنِ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - " كَانَ يَحْلِفُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ، لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ".
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: "
وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ ".
وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حَلِّ الْيَمِينِ
فَلَمْ يَجِبْ كَالْحِنْثِ.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ،
أَنْ لَا يَعْزِمَ عَلَى أَمْرٍ إِلَّا أَنْ يُقْرِنَهُ بِمَشِيئَةِ
اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ، وَغَيْرِهَا لِيَكُونَ بِاللَّهِ
مُسْتَعِينًا وَإِلَيْهِ مُفَوِّضًا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ وُجُوبِهِ، فَلَا تَأْثِيرَ
لِاسْتِثْنَائِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ، فَإِنِ
انْقَطَعَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَعَطَاءٍ أَنَّهُ إِنِ اسْتَثْنَى فِي مَجْلِسِ يَمِينِهِ
صَحَّ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْدَ فَرَاغِهِ لَمْ يَصِحَّ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ أَبَدًا فِي طَوِيلِ
الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِنَّهُ يَصِحُّ إِلَى حِينٍ، وَالْحِينُ عِنْدَهُ سَنَةٌ
وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهَا احْتِجَاجًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَاذْكُر رَبَّكَ إذَا نَسِيْتَ) {الكهف: 24) أَيْ: اذْكُرِ
الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا نسيته فعم الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ.
ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ
قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا، وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ
قُرَيْشًا، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فَدَلَّ عَلَى
جَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ انقطاعه قول الله
تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ بِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلَكَ غَدَاً إلاَّ أنْ
يَشَاءَ اللهُ} فَجَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ
التَّرَاخِي، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ -: " من خلف فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَثْنَى "، فَذَكَرَ
الِاسْتِثْنَاءَ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ
وَالْفَوْرِ.
(15/282)
وَلِأَنَّ عُرْفَ النَّاسِ فِي الْكَلَامِ
الْمُنْفَصِلِ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ؟ أَلَا
تَرَاهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ
بَعْدَ زَمَانٍ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ، عَتَقَ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ،
وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الدَّارِ شَرْطًا، وَلَوْ قَالَ
لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ وَقْتٍ:
إِلَّا خَمْسَةً لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً وَلَزِمَتْهُ
الْعَشَرَةُ، لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْكَلَامِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهِ،
كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ
لَسَقَطَتْ كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ بِاسْتِثْنَائِهِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ) {الكهف: 24)
فَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ مَعْنَاهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ
لِيَزُولَ عَنْكَ الْغَضَبُ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ
ذَكَرَ السَّاجِيُّ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو صح جاز أن يَكُونَ
مَحْمُولًا عَلَى سُكُوتِهِ لِانْقِطَاعِ النَّفَسِ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ
تَطَاوُلِ الزَّمَانِ اسْتِعَانَةً بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ
وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِهِ؟ لِأَنَّهُ قَدْ وَفَّى
بِهَا فِي غَزْوِ قُرَيْشٍ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ
الِانْفِصَالِ. فَالْمُتَّصِلُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَصِلَهُ
بِيَمِينِهِ عَلَى نَسَقٍ، فَإِنْ سَكَتَ لِنَحْنَحَةٍ وَانْقِطَاعِ نَفَسٍ
أَوْ عَجْزٍ أَوْ تَذَكُّرِ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ قَطْعًا، وَكَانَ
كَالْمُتَّصِلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لا يمتد، ولا بد أن يتخلله سكتات
الِاسْتِرَاحَةِ، فَأَمَّا إِنْ سَكَتَ بِغَيْرِ هَذَا، أَوْ تَكَلَّمَ
بَيْنَ الْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ
وَنَهْيٍ وَكَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ
بَطَلَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ اسْتِقْرَارَ الْيَمِينِ
بِالْخُرُوجِ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا.
(فَصْلٌ:)
ثُمَّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مَعَ الِاتِّصَالِ إِلَّا
بِالْكَلَامِ، فَإِنْ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ لَمْ
يَصِحَّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمَّا يَنْعَقِدْ بِالنِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ
الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ
الِاسْتِثْنَاءُ نُطْقًا كَمَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ نُطْقًا.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَنَوَى
بِقَلْبِهِ إِنْ دَخَلَ الدَّارَ كَانَ شَرْطًا فِي عِتْقِهِ فِيمَا
بَيْنَهُ وبين الله تعالى، وكلا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدُخُولِ
الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ نُطْقًا فَهَذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ
هَكَذَا.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ كَالنَّسْخِ، وَلَا يَكُونُ
النَّسْخُ إِلَّا بِالْكَلَامِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ
تَخْصِيصُ بَعْضِهِ وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ مِنْ
غَيْرِ كَلَامٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُبْطِلٌ لِظَاهِرِ الْكَلَامِ، فَلَمْ يَبْطُلْ
إِلَّا بِمِثْلِهِ مِنْ كَلَامٍ ظَاهِرٍ، وَالشَّرْطُ مُثْبَتٌ فَحَمْلُ
الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْطِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ
إِلَى الكلام فافترقا.
(15/283)
ثُمَّ لَا حُكْمَ لِتَلَفُّظِهِ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ يَقُولُهُ نَاوِيًا
بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ وَسِيقَ فِي لِسَانِهِ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ جَرَى بِهِ عَادَتُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَشِيئَةَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ لَمْ يَكُنِ اسْتِثْنَاءً.
أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ
وَالْقَصْدِ، وَيَكُونُ اللَّغْوُ فِيهَا عَفْوًا، كَذَلِكَ
اسْتِثْنَاؤُهَا، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي
الِاسْتِثْنَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ
التَّلَفُّظِ بِيَمِينِهِ صَحَّ إِذَا تَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَ يَمِينِهِ،
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَعَ ابْتِدَاءِ الْيَمِينِ وَقَصَدَهُ مَعَ
التَّلَفُّظِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَفِي صِحَّتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِوُجُودِ الْقَصْدِ فِيهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِإِطْلَاقِ الْيَمِينِ عِنْدَ
ذِكْرِهِا، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى الْيَمِينِ
فَيَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ وَسَطًا، فَيَقُولَ: وَاللَّهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي
الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حُكْمُ
أَوَّلِهِ بِآخِرِهِ، وَحُكْمُ آخِرِهِ بِأَوَّلِهِ، وَسَوَاءٌ قَالَ فِي
اسْتِثْنَائِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ
أَحَبَّ اللَّهُ، وَإِنِ اخْتَارَ اللَّهُ، كُلُّ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَوْ
بِاخْتِيَارِ اللَّهِ، فَكُلُّهُ استثناء والله أعلم بالصواب ,
(مسألة:)
قال الشافعي: " لَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا لوقتٍ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ فلانٌ فَإِنْ شَاءَ فلانٌ لم يحنث وإن مات أو غبي عَنَّا
حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ حَنِثَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قَالَ بِخَلَافِهِ فِي
بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ ".
قَالَ الماوردي: قال المزني: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ
الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْيَوْمَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَعَيَّنَ وَقْتَ دُخُولِهِ فِي يَوْمِهِ فَلَا
يَبَرُّ بِالدُّخُولِ فِي غَيْرِهِ، وَجَعَلَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ
اسْتِثْنَاءً لِيَمِينِهِ، فَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: صِفَةُ مَشِيئَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ.
وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِي الشَّرْطِ، فَأَمَّا صِفَةُ مَشِيئَتِهِ فَهُوَ
أَنْ يَشَاءَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ، لِأَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ ضِدُّ المستثنى منه؛ لأنه مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ
إِذَا عَادَ إِلَى إِثْبَاتٍ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا، وَإِذَا عَادَ إِلَى
نَفْيٍ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتًا، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أَرَدْتُ إلا أن
يشاء زيد دخولي، فلا الْتَزَمَ الدُّخُولَ حُمِلَتِ الْمَشِيئَةُ عَلَى
إِرَادَتِهِ، لِاحْتِمَالِهَا، وَإِنْ خَالَفَتْ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ،
وَأَمَّا حُكْمُ مَشِيئَةِ زَيْدٍ فَهُوَ مَعَ الْيَمِينِ بَعْدَ
انْعِقَادِهَا، فَتَكُونُ مَشِيئَةُ زَيْدٍ رَافِعَةً لِعَقْدِ يَمِينِ
الْحَالِفِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلْهَا
شَرْطًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَنْفِي الإثبات
(15/284)
وَيُثْبِتُ النَّفْيَ، وَالْيَمِينٌ
ثَابِتَةٌ، فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهَا نَفْيًا، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ
تَكُونَ مَشِيئَةُ زَيْدٍ شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ الْيَمِينِ لَمْ يُعْمَلْ
عَلَى إِرَادَتِهِ، لِأَنَّهَا تُحِيلُ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ بِمَا لَا
يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ضِدُّ
قَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ زيدٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى اللَّفْظِ
حُكْمُ هَذِهِ، وَخَالَفَ صِفَةَ الْمَشِيئَةِ إِذَا أَرَادَ خِلَافَ
إِطْلَاقِهَا لِاحْتِمَالِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ،
وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ الرَّافِعِ لِعَقْدِ
الْيَمِينِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْحَالِفِ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ
الْبِرُّ أَوْ لَا يُوجَدَ، فَإِنْ كَانَ الْبِرُّ مِنْهُ مَوْجُودًا
بِدُخُولِ الدَّارِ فِي يَوْمِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ
مَشِيئَةُ زَيْدٍ أَوْ لَمْ تُوجَدْ، لَكِنْ يَكُونُ دُخُولُهُ بَعْدَ
مَشِيئَةِ زَيْدٍ دُخُولًا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ، فَلَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ بِرٌّ وَلَا حِنْثٌ، وَدُخُولُهُ مَعَ عَدَمِ
الْمَشِيئَةِ دُخُولًا يُوجِبُ الْبِرَّ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ لَمْ
يَدْخُلِ الْحَالِفُ الدَّارَ فِي يَوْمِهِ فَقَدَ عَدِمَ الْفِعْلَ
الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْبِرُّ، فَتُرَاعَى حِينَئِذٍ مَشِيئَةُ
زَيْدٍ، هَلِ ارْتَفَعَتِ الْيَمِينُ بِمَشِيئَتِهِ، أَوْ كَانَتْ عَلَى
انْعِقَادِهَا لِعَدَمِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ زَيْدٍ فِيهَا
مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ شَاءَ، فَالْيَمِينُ قَدِ
ارْتَفَعَتْ بِمَشِيئَتِهِ، فَلَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ بِتَرْكِ
الدُّخُولِ، لِارْتِفَاعِ الْيَمِينِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَشَأْ
فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فِي رَفْعِهَا، وَالدُّخُولُ
شَرْطٌ فِي الْبِرِّ فَيَكُونُ الحالف حانثاً، بترك الدخول لإخلافه
بِشَرْطِ الْبِرِّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَخْفَى مَشِيئَةُ زَيْدٍ، فَلَمْ يَعْلَمْ
هَلْ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَحْنَثُ بِشَرْطِ الدُّخُولِ،
فَجَعَلَ الشك في المشيئة موجباً لسقوطها، وجعل الْيَمِينُ عَلَى
انْعِقَادِهَا فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ فِيهَا، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي
كِتَابِ الْأُمِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ضِدَّ هَذَا
الْجَوَابِ مَعَ وُجُوبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِيهِ، وَهُوَ إِذَا قَالَ
الحَالِفُ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ
مَشِيئَةَ زَيْدٍ لَمْ يَحْنَثْ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمَشِيئَةِ سَوَاءٌ،
وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصُّورَةِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى تَرْكِ دُخُولِهَا، وَمَشِيئَةُ زَيْدٍ فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا رَافِعَةٌ لِعَقْدِ الْيَمِينِ، وَقَدْ جَعَلَ
الشَّكَّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الشَّكَّ فِيهَا رَافِعًا لِلْيَمِينِ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَلَوْلَا أَنَّ الرَّبِيعَ عَلَّلَ جَوَابَ
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
زَيْدٌ قَدْ شَاءَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ
الرَّبِيعُ إِلَى الْوَهْمِ، أَوْ يُنْسَبَ الْكَاتِبُ إِلَى الْغَلَطِ،
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ مَعَ
اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اسْتِوَاءِ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ خَرَّجُوا جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَحَمَلُوهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
(15/285)
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي
مَشِيئَةِ زَيْدٍ إِثْبَاتًا لِعَقْدِ الْيَمِينِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
لِأَنَّ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ سُقُوطَ حُكْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي مَشِيئَةِ زَيْدٍ
إِثْبَاتًا لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، لِأَنَّ
الشَّكَّ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ تُوجِبُ سُقُوطَهَا اسْتِصْحَابًا
لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ،
وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْسَ اخْتِلَافُ الْجَوَابَيْنِ
عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ،
فَحَنَّثَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِذَا فَاتَ أَنْ
يَسْتَدْرِكَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ بِمَوْتِهِ وَلَمْ يَحْنَثْ فِي
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهَا بِغَيْبَتِهِ
حَيًّا، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى الْعِلْمِ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ
أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالشَّكِّ بِالْمَشِيئَةِ قَالَ: قَدْ قَالَ خِلَافَهُ
فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ، وَالَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ
فِي بَابِ جَامِعِ الْأَيْمَانِ لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي حَكَاهَا
الرَّبِيعُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ إِذَا حلف ليضرب عبده مائة، فضربه بضغثٍ يجمع مِائَةِ
شِمْرَاخٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ
لَيَضْرِبِ امْرَأَتَهُ مِائَةً: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ
وَلاَ تَحْنَثْ} فَإِذَا ضَرَبَ عَبْدَهُ بِمِائَةِ شِمْرَاخٍ مَجْمُوعَةٍ،
فَإِنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِوُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ بَرَّ، وإن
أحاط عليه بِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ جَمِيعُهَا إِلَى بَدَنِهِ حَنِثَ، وَإِنْ
شَكَّ فِي وُصُولِ جَمِيعِهَا إِلَى بَدَنِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَمْ
نَجْعَلْهُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضرب حانثاً، فعبث إِلَى الْمُزَنِيِّ
الْجَوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الضَّرْبِ عَلَى مَا حَكَيْتُ، وَفِي مَسْأَلَةِ
الْمَشِيئَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّكِّ
فِيهَا، فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ وَيَحْنَثُ
بِالشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَشِيئَةِ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْقُ ضَعِيفًا،
هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي وُصُولِ الضَّرْبِ قَدْ وُجِدَ فَغَلَبَ حُكْمُ
الظَّاهِرِ فِي وُصُولِهِ: وليس لوجود المشيئة فعل يعلم عَلَى ظَاهِرِهِ،
فَغَلَبَ حُكْمُ سُقُوطِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ فِي يَمِينِهِ لَا
أَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ فُلَانٌ فَفَعَلَ وَلَمْ يَعْرِفْ شَاءَ أَوْ
لَمْ يَشَأْ لم يَحْنَثْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ: وَاللَّهِ
لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ فِي يَوْمِي هَذَا إِنْ شَاءَ زَيْدٌ، فَمَشِيئَةُ
زيدٍ هُنَا شرطٌ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَلَيَسَ بِشَرْطٍ فِي
اسْتِثْنَائِهَا وَرَفْعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَشِيئَةُ
مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ فَيَشَاءُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا،
بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ ضِدَّ
مَا انْعَقَدَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ
أَنْ
(15/286)
يَعْلَمَ مَشِيئَةَ زَيْدٍ أَوْ لَا
يَعْلَمَ، فَإِنْ عَلِمْنَا حَالَ مَشِيئَةٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا أَنْ
تَكُونَ مُوَافِقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَوْ مُخَالَفَةً، فَإِنْ كَانَتْ
مُوَافَقَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ وَهُوَ أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ أَنْ لَا
يَدْخُلَ الْحَالِفُ الدَّارَ، وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ لِوُجُودِ
الشَّرْطِ فِي انْعِقَادِهَا فَلَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ إِلَّا بِتَرْكِ
دُخُولِهَا فِي يَوْمِهِ، فَإِنْ دَخَلَهَا فِيهِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتْ
مَشِيئَةُ زَيْدٍ مُخَالِفَةً لِعَقْدِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا قَدْ
شَاءَ دُخُولَ الْحَالِفِ إِلَيْهَا، وَقَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا،
فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، لِأَنَّ شَرْطَ انْعِقَادِهَا فِي
الْمَشِيئَةِ مَفْقُودٌ، فَإِنْ قَالَ الْحَالِفُ: أَرَدْتُ بِمَشِيئَةِ
زَيْدٍ أَنْ يَشَاءَ دُخُولِي فَلَا أَدْخُلُهَا بِيَمِينٍ، حُمِلَ عَلَى
إِرَادَتِهِ فِي انْعِقَادِهَا لِاحْتِمَالِهِ، وَإِنْ خَالَفَ الظَّاهِرَ،
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ يَشَاءُ زَيْدٌ أَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ
تَنْعَقِدِ الْيَمِينُ وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا حِنْثٌ، لِأَنَّ الشَّكَّ فِي
وُجُودِ شَرْطِهَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِهَا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(15/287)
باب لغو اليمين من
هذا ومن اختلاف مالك والشافعي
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هشامٍ
بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " لَغْوُ
الْيَمِينِ قَوْلُ الْإِنْسَانِ لَا والله وبلى والله " (قال الشافعي) رحمه
الله: وَاللَّغْو فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْكَلَامُ غَيْرُ الْمَعْقُودِ
عَلَيْهِ وَجِمَاعُ اللَّغْوِ هُوَ الْخَطَأُ وَاللَّغْوُ كَمَا قَالَتْ
عَائِشَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى اللَّجَاجِ
وَالْغَضَبِ وَالْعَجَلَةِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ أَنْ يُثْبِتَهَا عَلَى
الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) {البقرة: 225) يُرِيدُ
بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِاللَّغْوِ فِي الْأَيْمَانِ ارْتِفَاعَ
الْمَأْثَمِ وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي يَسْقُطُ بِهِ
الْمَأْثَمُ وَالتَّكْفِيرُ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى.
أَحَدُهَا: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إِنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ
الْغَمُوسُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمَاضِي كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ
بِالْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ آثِمًا وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: بِأَنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى ماضٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ صَادِقٌ،
فَيَبِينُ كَاذِبًا فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: إِنَّ
لَغْوَ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ نَاسِيًا عَلَى ماضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ،
فَلَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: مَا قاله الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ: هُوَ أَنْ
يَحْلِفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَيَتْرُكَهَا فَيَصِيرُ لَاغِيًا يَمِينَهُ،
لَا يُؤَاخَذُ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ هُوَ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَهُ مِنْ قولٍ أَوْ عَمَلٍ، لَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ
وَلَا كَفَّارَةٍ.
وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ: إِنَّ لَغْوَ
الْيَمِينِ مَا يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا عَقْدٍ
كقوله: لا وَاللَّهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ فِيهِ بِمَأْثَمٍ وَلَا كَفَّارَةٍ،
وهو قول
(15/288)
ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ،
وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ
بَمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) {البقرة: 225) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ
يَقْصِدْهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ وَقَالَ: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ مَا لَمْ يَعْقِدْهُ بِعَزْمِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلِمَا
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَائِشَةَ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَقَدْ رَوَاهُ
حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي لَغْوِ
الْيَمِينِ: " هُوَ كَلَامُ الْعَرَبِ، لَا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ
".
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمِينَ فِي غضبٍ "
فَأَسْقَطَ الْيَمِينَ فِي الْغَضَبِ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِهَا وَعَدَمِ
الْقَصْدِ لَهَا؛ وَلِأَنَّ لَغْوَ الْكَلَامِ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا
تَجَرَّدَ عَنْ غَرَضٍ، وَعَرِيَ عَنْ قَصْدٍ وَكَانَ مِنَ الْبَوَادِرِ
وَالْمُلْغَاةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ) {القصص: 55) فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فِيهِ مَعَ ما قارنه من محايل الشَّرْعِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لغو اليمين لم تخل اليمين مع أَنْ
تَكُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ
تَعَالَى سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ وَجَرَتْ بِهَا عَادَتُهُ، فَقَالَ: لَا
وَاللَّهِ، أَوْ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِعَقْدِ يَمِينٍ
فَلَا مَأْثَمَ عَلَيْهِ وَلَا حِنْثَ، وَلَوْ نَزَّهَ لِسَانَهُ مِنْهَا
كَانَ أَوْلَى، لِئَلَّا يَجْعَلَ اسْمَ اللَّهِ تعالى عرضةً ليمينه، وقد
قال تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ) {البقرة:
224) فَأَمَّا إِنْ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، بَلَى وَاللَّهِ، فَجَمَعَ
بَيْنَهُمَا، كَانَ الْأَوَّلُ لَغْوًا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ
وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مُنْعَقِدَةً، لِأَنَّهَا اسْتِدْرَاكٌ فَصَارَتْ
مَقْصُودَةً، فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ طَلَاقٍ
وَعَتَاقٍ سَبَقَ بِهَا لِسَانُهُ لَغْوًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا عقدٍ
دِينٍ فِيهَا فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا
بِهَا فِي الظَّاهِرِ، بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ فِي أَنَّهُ لَا
يُؤَاخَذُ بِلَغْوِهَا فِي الظَّاهِرِ وَلَا فِي الْبَاطِنِ؟ لِأَنَّ
كَفَّارَةَ الْحِنْثِ بِاللَّهِ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَحْضَةِ، فَاسْتَوَى
فِيهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَالْحِنْثُ فِي الطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهَا فِي الْبَاطِنِ
لِاخْتِصَاصِهِ بِحُقُوقِ اللَّهِ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بها في الظاهر
لاختصاصه بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/289)
بَابُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ
وَبَعْدَهُ
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شيءٍ
وَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأَحَبُّ إِلَيَّ لَوْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى
يَحْنَثَ فَإِنْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِغَيْرِ الصِّيَامِ أَجْزَأَهُ
وَإِنْ صَامَ لَمْ يُجْزِهِ لأنا نزعم أن لله على العباد حقاً في أموالهم
وتسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من العباس صدقة عامٍ
قبل أن يدخل وإن المسلمين قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر فجعلنا
الحقوق في الأموال قياساً على هذا فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزئ
إلا بعد مواقيتها كالصلاة والصوم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَجِبُ
عَلَى ماضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، فَأَمَّا الْيَمِينُ عَلَى ماضٍ
فَالْكَفَّارَةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَحْدَهُ إِذَا
كَانَتْ كَذِبًا، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ
وُجُوبِهَا؟ سَوَاءٌ كَفَّرَ بِإِطْعَامٍ أَوْ صِيَامٍ، لِأَنَّهَا لَا
تَجِبُ إِلَّا بِسَبَبٍ واحدٍ، وَهُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا
الْيَمِينُ عَلَى مستقبلٍ فَالْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ بِعَقْدِ
الْيَمِينِ، وَالْحِنْثِ فَتَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِسَبَبَيْنِ عَقَدٍ
وَحِنْثٍ، وَلَهُ فِي التَّكْفِيرِ بِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْيَمِينِ وَالْحِنْثِ فَلَا تُجْزِئُهُ
سَوَاءٌ كَفَّرَ بمالٍ أَوْ صيامٍ لِفَقْدِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ
السَّبَبَيْنِ كَمَا لَا يُجْزِئُهُ إِذَا عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ
مِلْكِ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ
فَيُجْزِئُهُ، سَوَاءٌ كَفَّرَ بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ، وَقَدْ أَخْرَجَهَا
بَعْدَ وُجُوبِهَا فَصَارَ كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوْلِهَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُكَفِّرَ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ
الْحِنْثِ فَيَكُونُ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ
وَقَبْلَ الْحَوْلِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْجِيلِهَا عَلَى
ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ
قَبْلَ الْحَوْلِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ
الْحِنْثِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ
الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ
الْحِنْثِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ
تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ،
(15/290)
وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ
الْحِنْثِ إِذَا كَانَتْ بمالٍ مِنْ كِسْوَةٍ أَوْ إطعامٍ أَوْ عِتْقٍ،
فَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إِذَا كَانَتْ بِصِيَامٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ
بِمَالٍ أَوْ صِيَامٍ.
فَأَمَّا مَالِكٌ فَهُوَ مُوَافِقٌ فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ مُخَالِفٌ
فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي تَعْجِيلِ
الزكاة، ويتعين الكلام معه هاهنا فِي تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ
الْحِنْثِ. وَلَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ مِنْ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَحْدَهُ دُونَ
الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِهَا بِمَا رُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي هو خيرٌ
ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " فَكَانَ لَهُ مِنَ الخير دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ منها " فقدم فعل
الحنث على الكفارة عرق الْفَاءِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْقِيبِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عن يمينه " وثم مَوْضِعٌ
لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ فَلَمْ يُحَرَّمْ
كَالصِّيَامِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالصِّيَامِ لَمْ
يَجُزِ التَّكْفِيرُ فِيهَا بِالْمَالِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ
الْيَمِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ
وَحْدَهُ دُونَ الْيَمِينِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ
تَمْنَعُ مِنَ الْحِنْثِ، وَالضِّدَّانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنَى
الْوُجُوبِ لِتَنَافِيهِمَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْحِنْثَ لَوْ كَانَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ فِي
الْوُجُوبِ لَمَا رُوعِيَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ إِحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ
جِهَةٍ، كَمَا لَا يُرَاعَى فِي الْحَوْلِ بَعْدَ النِّصَابِ إِحْدَاثُ
فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَمَّا رُوعِيَ فِي الْكَفَّارَةِ حُدُوثُ فِعْلِ
الْحِنْثِ مِنْ جِهَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْحِنْثِ هُوَ
الْمُوجِبُ لِلْكَفَّارَةِ كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الظِّهَارَ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ إِلَّا بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لِمَا كَانَ بِفِعْلٍ حَادِثٍ
مِنْهُ، كَانَ الظِّهَارُ هُوَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ، دُونَ
النِّكَاحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا
رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يمينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ ".
وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: "
يا
(15/291)
عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِذَا حَلَفْتَ عَلَى
يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ ثُمَّ ائْتِ
الَّذِي هُوَ خيرٌ ". فَجَوَّزَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ تَعْجِيلَ
الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ فِيهَا وَفِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ
تَأْخِيرُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْحِنْثِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ أَشْهَرُ مِنْ تَقْدِيمِ
الْحِنْثِ.
وَالثَّانِي: إِنَّنَا نَسْتَعْمِلُ الروايتين معاً، فنحمل تقديم الكفارة
على الجواز تَأْخِيرِهَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَنَسْتَعْمِلُهَا عَلَى وَجْهٍ
ثانٍ أَنْ يُحْمَلَ تَقْدِيمُهَا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ،
وَتَأْخِيرُهَا على التكفير بالصيام. فتكون باستعمال الخيرين أسعد مِمَّنِ
اسْتَعْمَلَ أَحَدَهُمَا وَأَسْقَطَ الْآخَرَ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ مَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ
جَرَحَ إِنْسَانًا وَعَجَّلَ كَفَّارَةَ قَتْلِهِ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ
مَوْتِهِ أَجْزَأهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا لَوْ
قَدَّمَ جَزَاءَهُ بَعْدَ جُرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ أَجْزَأهُ، فَجَعَلَ
هَذَا مَعَهُ أَصْلًا لِلْقِيَاسِ فَنَقُولُ: يُكَفِّرُ لِتَعَلُّقِ
وُجُوبِهِ بِسَبَبَيْنِ فَجَازَ تَقْدِيمُهُ بَعْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا
قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَلِأَنَّهُ يُكَفِّرُ
بِمَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى
مَا بَعْدَ الْحِنْثِ.
وَلِأَنَّهُ حَقُّ مالٍ يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ يَخْتَصَّانِ فه فَجَازَ
تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا قِيَاسًا عَلَى تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ،
فَإِنْ مَنَعُوا مِنْ وُجُوبِهَا بِسَبَبَيْنِ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِهَا
بِالْحِنْثِ وَالْيَمِينِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) وَبِقَوْلِهِ:
{ذَلِكَ كَفَّارَةٌ أيْمَانِكُمْ) {المائدة: 89) فَجَعَلَهَا تَكْفِيرًا
لِلْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ،
وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْحِنْثِ فَوَجَبَ أَنْ
يَتَعَلَّقَ بِالْيَمِينِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ
فَعَبْدِي حرٌّ كَانَ عِتْقُهُ مُتَعَلِّقًا بِيَمِينِهِ بِدُخُولِ
الدَّارِ، وَإِنْ مَنَعَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ تَعْلِيقِ
عِتْقِهِ بِيَمِينِهِ وَبِدُخُولِ الدَّارِ، وَارْتَكَبُوا أَنَّ عِتْقَهُ
مُخْتَصٌّ بِدُخُولِ الدَّارِ وَحْدَهُ مَنَعُوا مِنِ ارْتِكَابِ هَذِهِ
الدَّعْوَى بِمَا لَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا
الْعَبْدِ إِذَا ادَّعَى الْعِتْقَ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ، فَأَنْكَرَهُ
السَّيِّدُ فَأَقَامَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالْيَمِينِ
وَشَاهِدَيْنِ بِالْحِنْثِ وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع شاهد الْيَمِينِ
وَشَاهِدَا الْحِنْثِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى
شَاهِدَيِ الْيَمِينِ خَاصَّةً نِصْفَيْنِ وَعِنْدَنَا تَجِبُ عَلَى
شَاهِدَيِ الْيَمِينِ وَشَاهِدَيِ الْحِنْثِ أَرْبَاعًا، فقد جعل عتقه
باليمين أخص مِنَ الْحِنْثِ، فَكَانَتِ الْأَيْمَانُ بِاللَّهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَقَدْ مَضَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْقِيَاسِ عَلَى تَعْجِيلِ الصِّيَامِ فَهُوَ
أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ
(15/292)
فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ
وُجُوبِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ وَصِيَامُ شَهْرِ
رَمَضَانَ عَلَى وُجُوبِهِمَا، وَالْمَالُ مِمَّا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ
قَبْلَ وُجُوبِهِ لِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ مَا يَقُولُهُ فِي
حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّ تَقْدِيمَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ مِنَ
الدِّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ قَبْلَ مَحَلِّهَا جَائِزٌ، وَتَقْدِيمَ مَا
تَعَلَّقَ بِالْأَبْدَانِ مِنَ الْقَصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ
وُجُوبِهَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أحمد بن حنبل في
جمعه بن الأمرين في الجواز.
وعبر آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الصِّيَامَ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ بَعْدَ
الْعَجْزِ عَنِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلِاعْتِبَارِهِ
عِنْدَ الْحِنْثِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ فَخَالَفَ
الْمَالُ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى تَعْجِيلِهَا قَبْلَ
الْيَمِينِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ سَبَبَيِ الْوُجُوبِ
فَامْتَنَعَ التَّقْدِيمُ كَمَا امْتَنَعَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ
مِلْكِ النِّصَابِ وَجَازَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِوُجُودِ أَحَدِ
السَّبَبَيْنِ كَمَا جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحِنْثَ ضِدُّ
الْيَمِينِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْوُجُوبِ فَهُوَ أَنَّ
الْيَمِينَ عَقْدٌ وَالْحِنْثَ حَلٌّ، وَالْحَلُّ لَا يَكُونُ إِلَّا
بَعْدَ عَقْدٍ فَلَمْ يَتَضَادَّا، وَإِنِ اخْتَلَفَا كَمَا أَنَّ
قَوْلَهُ: لَا إِلَهَ كفرٌ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ إيمانٌ، فَإِذَا
اجْتَمَعَا كَانَ الْإِيمَانُ بِهِمَا مُنْعَقِدًا وَلَمْ يَتَنَافَيَا
بِالْمُضَادَّةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعَلُّقَ
الْكَفَّارَةِ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ يَمْنَعُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِمَا
تَقَدَّمَهُ مِنَ الْيَمِينِ كَالظِّهَارِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الكفارة
فيه بالنكاح وهو مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْحِنْثَ فِي الْأَيْمَانِ ما لا يتعلق لَهُ
بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَاللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ
فِي يَوْمِي هَذَا فَيَنْقَضِي الْيَوْمُ قَبْلَ دُخُولِهَا حَنِثَ
بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَقَدْ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ تَعْجِيلِ
الْكَفَّارَةِ فِيهِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَاثُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ
فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ، فَكَانَ يَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ إِنْ
أَرَادَ صِحَّةَ تَعْلِيلِهِ أَنْ يُجِيزَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ فِي
اخْتِصَاصِهِ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ،
وَيَمْتَنِعُ مِنْهُمَا فِيمَا كَانَ الْحِنْثُ بِفِعْلِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ الظِّهَارِ
فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ
كَفَّارَةُ الظِّهَارِ بِالظِّهَارِ وَالْعَوْدِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا
قَبْلَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ الْعَوْدِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ مُتَرَدِّدٌ
بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِنْ بِرٍّ وَحِنْثٍ فَصَارَ لِوُقُوفِهِ بينهما نسباً
فِي وُجُوبِ التَّكْفِيرِ عَلَى أَنَّ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: إِنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ تَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ
بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَبِلَفْظِ الظِّهَارِ، وَبِالْعَوْدِ، فَلَمْ يَجُزْ
تَقْدِيمُهَا بَعْدَ النِّكَاحِ وَقَبْلَ الظِّهَارِ لِوُجُودِ سَبَبٍ
وَاحِدٍ وَبَقَاءِ سَبَبَيْنِ. وَعَلَّلَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ
الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهِ
لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَةِ محظورٍ عَلَيْهِ وَالْحِنْثُ غَيْرُ
مُحَرَّمٍ فَجَاءَ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ
الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَمَنْ حَلَفَ: لَا
صَلَّيْتُ فَرْضًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَمَنْ حَلَفَ:
(15/293)
لَا صَلَّيْتُ نَفْلًا أَوْ مُبَاحًا،
كَمَنْ حَلَفَ: لَا أَكَلْتُ لَحْمًا جَازَ تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا
قَبْلَ الْحِنْثِ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ مَحْظُورًا كَمَنْ حَلَفَ
بِاللَّهِ لَا شَرِبْتُ خَمْرًا، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ يَجُزْ
تَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا قَبْلَ الْحِنْثِ فَصَارَ تَعْجِيلُهَا
فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا جَائِزًا، وَجْهًا وَاحِدًا، وَجَوَازُ
تَعْجِيلِهَا فِيمَا كَانَ حِنْثُهُ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهَيْنِ: فَأَمَّا
تَعْجِيلُ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَبْلَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ
وَجَرْحِهِ فَلَا يَجُوزُ وَجْهًا وَاحِدًا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي
تَعْلِيلِهِ، فَعِنْدَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عِلَّةَ
الْمَنْعِ أَنَّ الْجَزَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
بِالْإِحْرَامِ وَالْجِرَاحِ وَالْمَوْتِ، فَلَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهُ
بِفَقْدِ أَحَدِهَا وَبَقَاءِ أَكْثَرِهَا، وَعِنْدَ مَنْ رَاعَى الْحَظْرَ
وَالْإِبَاحَةَ عَلَّلَ بِأَنَّ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ مُوجِبٌ
لِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، فَلَمْ يَجُزْ فَإِنْ حَلَّ لَهُ قَتْلُ
الصَّيْدِ لِضَرُورَةٍ إِلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ،
وَحَكَاهُ عَنْهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيلُ
جَزَائِهِ بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ قَتْلِهِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ
أَصْحَابِنَا إِنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ أَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ
لِقَتْلِ الصَّيْدِ فَلَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ،
فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْجَزَاءِ بَعْدَ الْجِرَاحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ
فَجَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ وَهِمَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفِرَايِينِيُّ فَخَرَّجَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ؟ لِأَنَّهُ لَيْسَ
يَسْتَبِيحُ بِالْجَزَاءِ بَعْدَ الْجَزَاءِ مَحْظُورًا، لِأَنَّ مَوْتَ
الصَّيْدِ حَادِثٌ عَنِ الْجُرْحِ الْمُتَقَدِّمِ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/294)
بَابُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ
أَنْ يَتَزَوَّجَ عليها
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ
أَنْتِ طالقٌ إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَطَلَّقْهَا وَاحِدَةً تَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طُلِّقَتْ
بِالْحِنْثِ وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا لَمْ يَحْنَثْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا قَالَ: إِنْ تَزَوَّجَتْ
عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُ
تَزْوِيجُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى نِكَاحِهِ،
فَقَدْ طُلِّقَتْ سَوَاءٌ قَرُبَ زَمَانُ تَزْوِيجِهِ أَوْ بَعُدَ؟
لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ فَاسْتَوَى
حُكْمُهُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ
عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا وَجِمَالِهَا، أَوْ تَقَدَّمَ
عَنْهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ، وَوَافَقَنَا مَالِكٌ عَلَى هَذَا،
وَإِنْ خَالَفَنَا إِذَا حَلَفَ، لِيَتَزَوَّجْنَ عَلَيْهَا، عَلَى مَا
سَنَذْكُرُ وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لَمْ يَحْنَثْ،
لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الشَّرْطِ، وَسَوَاءٌ
دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ إِنَّهُ
يَحْنَثُ إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا،
عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا نَكَحَ الْوَلِيَّانِ وَدَخَلَ الثَّانِي
صَحَّ عَقْدُهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَقَدْ طَلَّقَهَا
طَلَاقًا رَجْعِيًّا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا فِيهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ
بَاقِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ خَارِجَةً عَنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ
بَاقِيَةً فِي عِدَّتِهَا طُلِّقَتْ بِالْحِنْثِ أُخْرَى لِأَنَّهَا لَمَّا
طُلِّقَتْ فِي الْعِدَّةِ إِذَا بَاشَرَهَا بِالطَّلَاقِ طُلِّقَتْ
بِالْحِنْثِ فِي الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ
عَبْدِهِ إِنْ بَاعَهُ، فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بَعْدَ بَيْعِهِ،
لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ عِتْقَهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عُتق، كَذَلِكَ
إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِهِ عَتَقَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لَمْ يَلْحَقْهَا بِالْحِنْثِ طَلَاقٌ، لِأَنَّهُ
لَا يَلْحَقُهَا بِالْمُبَاشِرَةِ طَلَاقٌ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا نُظِرَت، فَإِنْ كَانَ
قَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَبْلَ
اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا تَزَوَّجَ عَلَيْهَا بَعْدَ
اسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا لِسُقُوطِ الشَّرْطِ بِالتَّزْوِيجِ الْأَوَّلِ
وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ
الْبَاقِي عَلَيْهَا، فَفِي حِنْثِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُطَلِّقُ لِوُجُودِ عَقْدِ الْيَمِينِ، وَشَرْطِ الْحِنْثِ
فِي نِكَاحِهَا.
(15/295)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُطَلِّقُ
بِالْحِنْثِ لِاخْتِصَاصِ يَمِينِهِ بِنِكَاحٍ مَضَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ
يَقَعَ الْحِنْثُ بِهَا فِي نِكَاحٍ مستقبلٍ، لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ
نِكَاحٍ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ
وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِطَلَاقِهَا،
لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقَعِ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ لَوْ بَاشَرَهَا
بِالطَّلَاقِ، كَذَلِكَ لَمْ تُطَلَّقْ إِذَا حَنِثَ بِالطَّلَاقِ، فَإِنْ
تَزَوَّجَهَا مِنْ بَعْدِ نِكَاحٍ مُسْتَجَدٍّ، وَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا
بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ تَزَوَّجَ
عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَزَوَّجَ، فَإِنْ قِيلَ فِي الطَّلَاقِ
الرَّجْعِيِّ: لَا يَحْنَثُ، فَفِي هَذَا أَوْلَى أَنْ لَا يَحْنَثَ وَإِنْ
قِيلَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ: إِنَّهُ يَحْنَثُ فَفِي هَذَا
الطَّلَاقِ الْبَائِنِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ وَقَدْ مَضَى مِثْلُ هَذَا فِي كتاب الطلاق
مشروحاً معللاً.
(مسألة:)
قال الشافعي: " فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طالقٌ ثَلَاثًا إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ
عَلَيْكِ وَلَمْ يُوَقِّتْ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا يَحْنَثُ حَتَى
يَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ قبل أن يتزوج عليها وإن تزوج عليها من يشبهها أو
لا يشبهها خرج من الحنث دخل بها أو لم يدخل بها وإن ماتت لم يرثها وإن مات
ورثته في قول من يورث المبتوتة إذا وقع الطلاق في المرض (قال المزني) قد
قطع في غير هذا الكتاب أنها لا ترث (قال المزني) وهو بالحق أولى لأن الله
تبارك وتعالى ورثها منه بالمعنى الذي ورثه به منها فلما ارتفع ذلك المعنى
فلم يرثها لم يجز أن ترثه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَالْحِنْثُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ يُخَالِفُ الْحِنْثَ فِي الَّتِي تَقَدِّمَهَا، لِأَنَّهُ
جَعَلَ تَزْوِيجَهُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَرْطًا فِي
وُقُوعِ الْحِنْثِ، وَجَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَرْطًا فِي
الْبِرِّ، وَإِذَا قَالَ فِي هَذِهِ
(الْمَسْأَلَةِ:)
إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ عَلَى
التَّرَاخِي لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَفُوتَهُ التَّزْوِيجُ عَلَيْهَا
بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِهَا، فلو قال: إذا لم أتزوج عليها فَأَنْتِ طَالِقٌ
كَانَ عَلَى الْفَوْرِ يَحْنَثُ إِنْ أخر التزويج عليها، والفرق بين إن
وإذا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، حَيْثُ جَعَلْنَا إِنْ عَلَى التراخي وإذا
عَلَى الْفَوْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِأَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلْفِعْلِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ
فَوَاتُ الْفِعْلِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِنْ
فَاتَنِي التَّزْوِيجُ عَلَيْكِ فأنت طالق، " وإذا " موضوعةٌ لِلزَّمَانِ،
فَاعْتُبِرَ فِيهَا إِمْكَانُ الزَّمَانِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِذَا مَضَى
زَمَانُ التَّزْوِيجِ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهُوَ فَرْقُ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا.
(15/296)
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ أَبُو
عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ " إِنْ " مَوْضُوعَةٌ لِلشَّكِّ
فِيمَا قَدْ يَكُونُ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشك
بالفوات فصارت على التراخي، وإذا مَوْضُوعَةٌ لِلْيَقِينِ فَاعْتُبِرَ
فِيهَا التَّعْجِيلُ فَصَارَتْ عَلَى الْفَوْرِ.
فَهَذَانِ الْفَرْقَانِ بَيْنَ " إِنْ " وَ " إِذَا " كَانَا عَلَى نَفْيِ
فعلٍ فَقَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ، وَإِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ. وَأَمَّا
إِذَا كَانَا شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ فِعْلٍ، فَقَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ
عليك، وإذا تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَهُمَا سَوَاءٌ، فِي أَنَّ الْفِعْلَ
مَتَى وُجِدَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي، تَعَلَّقَ بِهِ
حُكْمٌ وَاسْتَوَى فِيهِ " إِنْ " وَ " إِذَا "؛ لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ
بِالْفِعْلِ كَانَ وُجُودُهُ هُوَ الشَّرْطَ الْمُعْتَبَرَ فَاسْتَوَى
فِيهِ الْفَوْرُ وَالتَّرَاخِي فَأَمَّا إِذَا جُعِلَا شَرْطًا فِي
مُعَاوَضَةِ الْخُلْعِ، فَقَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ
طَالِقٌ، أَوْ قَالَ: إِذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَهُمَا سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ الْعَطِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَيَسْتَوِي
حُكْمُ: " إِنْ " وَ " إِذَا "؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ فِيهِ حِكَمُ
الْمُعَاوَضَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فِيهَا، وَذَلِكَ عَلَى مَا
يَقْتَضِيهِ افْتِرَاقُ الْحَرْفَيْنِ وَلَوْ قَالَ: مَتَى أَعْطَيْتِنِي
أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ عَلَى التراخي بخلاف إن وإذا، لِأَنَّ
لَفْظَةَ مَتَى صَرِيحَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَاسْتَوَى فِيهِ
حُكْمُ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي يَمِينِهِ
هَذِهِ مِنْ بِرٍّ أَوْ حَنِثٍ؟ فَإِنْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِأَنْ
تَزَوَّجَ عَلَيْهَا عَلَى الْفَوْرِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ
عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فِي قَوْلِهِ: إِنْ
لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. كَانَ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا
بِوُجُودِ عَقْدِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَلَى مُكَافِئَةٍ لَهَا فِي النَّسَبِ
وَالْجَمَالِ؟ أَوْ غَيْرِ مُكَافِئَةٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبَرُّ
حَتَّى يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا مَنْ يُكَافِئُهَا فِي نَسَبِهَا
وَجِمَالِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَ دُونَهَا فِي النَّسَبِ وَالْجَمَالِ لَمْ
يَبَرَّ؟ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِيَمِينِهِ إِدْخَالُ الْغَيْظِ عَلَيْهَا،
وَغَيْظُهَا يَخْتَصُّ بِمَنْ يُكَافِئُهَا، فَأَمَّا مَنْ لَا
يُكَافِئُهَا فهو نقص يدخل عليها دُونَهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ حُكْمَ الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرٌ بِصَرِيحِ الْأَلْفَاظِ
دُونَ الْمَقَاصِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَالِاسْمُ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ
فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْبِرِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى
حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ إِذَا قَالَ إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَنْتِ
طَالِقٌ، أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ
مُكَافِئَةٍ حَنِثَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فِي
الْبِرِّ إِذَا قَالَ: إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ،
أَنَّهُ مَتَى تَزَوَّجَ عَلَيْهَا مُكَافِئَةً أَوْ غَيْرَ مُكَافِئَةٍ
أَنْ يَبَرَّ، وَمَا اعْتُبِرَ مِنْ إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا، وَلَوْ
قُلِبَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إِدْخَالَ الْغَيْظِ عَلَيْهَا بِنِكَاحِ غَيْرِ
الْمُكَافِئَةِ أَكْثَرُ لَكَانَ أَشْبَهَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِدْخَالُ
الْغَيْظِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرًا وَمَتَى وُجِدَ الْعَقْدُ اسْتَقَرَّ
الْبِرُّ، وَلَمْ يَكُنِ الدُّخُولُ فِيهِ شَرْطًا فِي الْبِرِّ، وَقَالَ
مَالِكٌ: لَا يَبَرُّ بِالْعَقْدِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ الدُّخُولُ؛
لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَقْدِ فِي إِدْخَالِ الْغَيْظِ عَلَيْهَا وَهَذَا
خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الدُّخُولُ فِيهِ إِذَا
عُلِّقَ بِالْحِنْثِ كَذَلِكَ لَا يعتبر إذا علق
(15/297)
وَالثَّانِي: إِنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ
تُذْكَرْ فَكَانَ مُلْغًى كَالْحَبَلِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَخْلُ حِنْثُهُ أَنْ يَكُونَ
بِالثَّلَاثِ أَوْ دُونِهَا، فَإِنْ كَانَ بِمَا
دُونَ الثَّلَاثِ تَوَارَثَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَمْ يَتَوَارَثَا فِيمَا
بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَ حِنْثُهُ بِالثَّلَاثِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ
مُعْتَبَرًا بِالْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي، فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا
بِالْفَوْرِ، لِأَنَّهُ قَالَ: إِذَا لَمْ أَتَزَوَّجْ فَأَنْتِ طَالِقٌ
ثَلَاثًا، لَمْ يَتَوَارَثَا فِيهِ إِذَا كَانَ عَقْدُ الْيَمِينِ فِي
الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالتَّرَاخِي، لِأَنَّهُ قَالَ:
إِنْ لَمْ أَتَزَوَّجْ عَلَيْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَلَا حِنْثَ
مَا لَمْ يَمُتْ واحدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَعَ
الْحِنْثُ قَبْلَ الْمَوْتِ بِزَمَانٍ يَضِيقُ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ،
فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِ الْعَقْدِ لِقُصُورِ زَمَانِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ،
وَتَصِيرُ كَالْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ
الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ
كَانَ هُوَ الْمَيِّتَ فَفِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ قَوْلَانِ مِنْ مِيرَاثِ
الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ بالامتناع من التزويج عليها
كالموقع إطلاقها فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/298)
بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي
الْبُلْدَانِ كُلِّهَا ومن له أن يطعم وغيره
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينُ مُدٌّ بمدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَإِنَّمَا قُلْنَا يُجْزِئُ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتي بِعَرَقٍ فِيهِ تمرٌ فَدَفَعَهُ إِلَى رجلٍ
وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَالْعَرَقُ فِيمَا يقدر
خمسة عشرة صَاعًا وَذَلِكَ سِتُّونَ مُدًا فِلِكُلِّ مسكينٍ مدٌّ فِي كُلِّ
بلادٍ سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي جَمِيعِهِ.
وَقِسْمٌ وَجَبَ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ وَالتَّرْتِيبِ فِي
بَعْضِهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي
جَمِيعِهِ فَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْوَطْءِ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ، يَبْدَأُ بِالْعِتْقِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَالصِّيَامُ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَالْإِطْعَامُ، وَأَمَّا مَا كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى
التَّخْيِيرِ فَكَفَّارَةُ الْأَذَى، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ دَمِ شَاةٍ
أَوْ إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أيامٍ،
وَجَزَاءُ الصَّيْدِ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مِثْلِهِ مِنَ النَّعَمِ أَوْ
قِيمَةِ الْمِثْلِ طَعَامًا أَوْ عَدْلِ ذَلِكَ صِيَامًا، وَأَمَّا مَا
كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى التَّخْيِيرِ فِي بَعْضِهِ، وَالتَّرْتِيبِ فِي
بَعْضِهِ فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{فَكَفَّارَتُهُ إَطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ) {المائدة: 89) الْآيَةَ،
فَجَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ قَالَ: فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَعَلَ الصِّيَامَ مُرَتَّبًا
عَلَى الْعَجْزِ بَعْدَ الْمَالِ، فَبَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِالْإِطْعَامِ،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {فَكَفَّارَتُهُ
إَطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ) {المائدة: 89) فَنَصَّ عَلَى عَدَدِ
الْمَسَاكِينِ أَنَّهُمْ عَشَرَةٌ فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى
أَقَلَّ مِنْهُمْ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَقَالَ فِي طَعَامِ كُلِّ
مِسْكِينٍ احْتِمَالًا لَا يُقَدِّرُهُ بِحَدٍّ فقال: " من أوسط ما تطعمون
أهليكم " فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُطْعِمُ كُلَّ
مِسْكِينٍ مِنْهُمْ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى.
أَحَدُهَا: مَا حَكَاهُ الْحَارِثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَقَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
إِنَّهُ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ
يَعْتَبِرُ الْمُكَفِّرُ فِي عِيَالِهِ فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُهُمْ أَشْبَعَ
الْمَسَاكِينَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِعُهُمْ فَيُقَدِّرُ ذَلِكَ فِي
طَعَامِ الْمَسَاكِينِ.
(15/299)
وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ بَعْضُ
فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ إِنَّهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَدَاءٍ
وَعَشَاءٍ.
وَالرَّابِعُ: مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، إِنَّهُ إِنْ كَفَّرَ
بِالْحِنْطَةِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، وَإِنْ كَفَّرَ
بِالتَّمْرِ أَوِ الشَّعِيرِ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا، وَعَنْهُ فِي
الزَّبِيبِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: صَاعٌ كَالتَّمْرِ.
وَالثَّانِيَةُ: نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ.
وَالْخَامِسُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ مُسْلِمٍ
مُدًّا وَاحِدًا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ أَخْرَجَ مِنَ الْحُبُوبِ وَبِهِ قَالَ
مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ
وَقَتَادَةُ، وَهَكَذَا كُلُّ كَفَّارَةٍ أَمْسَكَ عَنْ تَقْدِيرِ
الْإِطْعَامِ فِيهَا مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا
قِيلَ: إِنَّ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إِطْعَامًا عَلَى أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ يُقَدَّرُ إِطْعَامُ كُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدٍّ وَاحِدٍ فِي
أَيِّ يد كَفَّرَ، وَمِنْ أَيِّ جِنْسٍ أَخْرَجَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَمِنَ
الدَّلِيلِ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلِيلُ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89) ، فَكَانَ الْأَوْسَطُ مَحْمُولًا عَلَى
الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَأَوْسَطُ الْقَدْرِ فِيمَا يَأْكُلُهُ كُلُّ
إنسانٍ رِطْلَانِ مِنْ خُبْزٍ، وَالْمُدُّ رطلٌ وَثُلُثٌ من حب إذا أخبز
كان رطلين مِنْ خُبْزٍ هُوَ أَوْسَطَ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ الْوَاطِئِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ "
أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَأُتِيَ بفرقٍ
مِنْ تمرٍ فَقَالَ: أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْفَرَقُ: خَمْسَةَ
عَشَرَ صَاعًا يَكُونُ سِتِّينَ مُدًّا، فَجَعَلَ لِكُلِّ مِسْكِينَ
مُدًّا، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِطْعَامِ
لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ بِالنَّصِّ لَكَانَ معتبراً بالعرق، وعرق مَنِ
اعْتَدَلَ أَكْلُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَا
مِنَ الْمُقَتِّرِينَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالْمُدِّ فِي أَكْلِهِ، وَلَيْسَ
يَنْتَهِي إِلَى صَاعٍ، هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَمَانِيَةُ أرطالٍ،
وَمَا خَرَجَ عَنِ الْفَرَقِ لَمْ يُعْتَبَرْ إِلَّا بِنَصٍّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَدَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - الْإِطْعَامَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ
مِسْكِينٍ فَلِمَا لَا جَعَلْتُمُوهُ أَصْلًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ
وَقَدَّرْتُمُوهُ بِمُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قِيلَ: لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا قُدِّرَ فِي كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ بِمُدٍّ
وَفِي كَفَّارَةِ الْأَذَى بِمُدَّيْنِ، وَتَرَدَّدَتْ كَفَّارَةُ
الْيَمِينِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ
تَعْيِنٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا خُفِّفَتْ فِدْيَةُ الْأَذَى بِالتَّخْيِيرِ
بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ تَغَلَّظَتْ بِمِقْدَارِ الطَّعَامِ،
وَلَمَّا غُلِّظَتْ كَفَّارَةُ الْأَيْمَانِ بِتَرْتِيبِ الْإِطْعَامِ
عَلَى الصِّيَامِ تَخَفَّفَتْ بِمِقْدَارِ الْإِطْعَامِ تَعْدِيلًا
بَيْنَهُمَا فِي أَنْ تَتَغَلَّظَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ وَجْهٍ
وَتَتَخَفَّفُ من وجه.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَا أَرَى أَنْ يُجْزِئَ دَرَاهِمَ وَإِنْ كَانَتْ
أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَمْدَادِ ".
(15/300)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ
يُخْرِجَ فِي الْكَفَّارَةِ قِيمَةَ الطَّعَامِ، كَمَا لَا يَحِقُّ أَنْ
يُخْرِجَ فِي الزَّكَاةِ قِيمَتَهَا، وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ إِخْرَاجَ
الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ وَقَدْ مَضَى الكلام معه.
فأما ما نقله المزني هاهنا: " وَلَا يُجْزِئُ طَعَامٌ "، فَلَمْ يُرِدْ
بِهِ طَعَامَ الْبُرِّ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ هُوَ
الْأَصْلَ الْأَغْلَبَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ، وَلَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ،
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَ الطَّعَامَ فِي
قِيمَةِ الْكِسْوَةِ، كَمَا لَا يُخْرِجُ الْكِسْوَةَ فِي قِيمَةِ
الطَّعَامِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الطَّعَامِ
الْمَطْبُوخِ مِنَ الْخُبْزِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
إِخْرَاجُ الْحَبِّ مِنَ الْبُرِّ وَجَمِيعُ الْحُبُوبِ دُونَ الْخُبْزِ
وَإِنْ كُنْتُ أُفْتِي بِإِخْرَاجِ الْخُبْزِ فِي الْكَفَّارَةِ
اعْتِبَارًا بِالْأَرْفَقِ الْأَنْفَعِ فِي الْغَالِبِ، وَأَنْ يُعْطَى
كُلُّ مِسْكِينٍ رِطْلَيْنِ مِنَ الْخُبْزِ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْسَبُهُ أَرَادَ الْأَنْمَاطِيَّ،
أَنَّهُ جَوَّزَ إِخْرَاجَ الدَّقِيقِ فِي الْكَفَّارَةِ وَزَكَاةِ
الْفِطْرِ اعْتِبَارًا بالأرفق.
(مسألة:)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وما اقتات أهل البلدان في شيءٍ أَجْزَأَهُمْ
مِنْهُ مدٌّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُبُوبِ
الْمُقْتَاةِ، فَكَمَا جَازَ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ جَازَ
إِخْرَاجُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَقْوَاتِ، فَمِنْ
أَيِّهِمَا شَاءَ أطعم.
القول الثاني: أنه يخرج في الْغَالِبِ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَفِي اعْتِبَارِ
الْغَالِبِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ غَالَبِ قُوتِ بَلَدِهِ.
وَالثَّانِي: مِنْ غَالَبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {فَمِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89)
وَإِنْ عَدَلَ عَنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَخْلُ مَا
عَدَلَ إِلَيْهِ عَنِ الْأَغْلَبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنْهُ أَوْ
أَعْلَى، فَإِنْ كَانَ دُونَ مِنْهُ لَمْ نُجِزْهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْفَعَ
مِنْهُ كَإِخْرَاجِ الْبُرِّ إِذَا كَانَ أَغْلَبُ قُوتِهِ شَعِيرًا فَفِي
جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَجُوزُ
لِفَضْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْعُدُولِ
إِلَيْهِ كَالْقِيمَةِ.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مُدُّ أقطٍ (قَالَ
الْمُزَنِيُّ) رحمه الله أجاز الأقط ههنا وَلَمْ يُجْزِهِ فِي الْفِطْرَةِ
".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اقْتَاتَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ غَيْرَ
الْأَقِطِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي
(15/301)
الْكَفَّارَةِ وَلَا فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوتٌ غَيْرُ الْأَقِطِ فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ
إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
صَاعًا مِنْ أقطٍ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا أَنَّهُ كان يَأْمُرَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ بِعِلْمِهِ
وَإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ جَازَ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ
وَالْكَفَّارَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ
بِعِلْمِهِ، فَفِي جَوَازِ إخراجه في زكاة الفطرة وَالْكَفَّارَاتِ
قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عليه هاهنا في الكفارات لأنه قوت
مدخر تحت الزَّكَاةِ فِي أَصْلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ عَلَى مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يجز
إخراجه في الكفارة الزكاة، وَقَدْ جَعَلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُعَضِّدْهُ قِيَاسٌ،
هَلْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ أَوْ يُعْدَلُ إِلَى الْقِيَاسِ،
فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَعَلَى
هَذَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَزَكَاةِ
الْفِطْرِ، أَخْذًا بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَلَى قَوْلِهِ
فِي الْجَدِيدِ يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى الْقِيَاسِ فَعَلَى هَذَا لَا
يَجُوزُ إِخْرَاجُ الأقط.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ بلادٍ قوتٌ مِنْ طعامٍ سِوَى
اللَّحْمِ أَدَّوْا مُدًّا مِمَّا يُقْتَاتُ أَقْرَبُ الْبُلْدَانِ
إِلَيْهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اقْتَاتَ قَوْمٌ مَا لَا يُزَكَّى مِنَ
الْأَقْوَاتِ، مِثْلُ أَنْ يَقْتَاتُوا اللَّحْمَ كَالتُّرْكِ، أَوِ
اللَّبَنِ كَالْأَعْرَابِ، أَوِ السَّمَكِ كَسُكَّانِ الْبِحَارِ، فَإِنْ
قِيلَ: إِنَّ إِخْرَاجَ الْأَقِطِ لَا يُجْزِئُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ
غَيْرِهِ مِنَ اللَّحْمِ أَوِ اللَّبَنِ أَوِ السَّمَكِ، وَإِنْ قِيلَ:
إِنَّهُ يُجْزِئُ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ، لِأَنَّهَا أَقْوَاتٌ كَالْأَقِطِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِخِلَافِ الْأَقِطِ، لِلْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ، وَعَدَمُهُ فِي سواء.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَقِطَ يَبْقَى وَيُدَّخَرُ، وَلَيْسَ يَبْقَى مَا
سِوَاهُ وَيُدَّخَرُ وَلَا يُكَالُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِذَا لَمْ يُجْزِهِمْ إِخْرَاجُ ذَلِكَ عَدَلُوا فِي
كَفَّارَاتِهِمْ وَزَكَاةِ فِطْرِهِمْ إِلَى أَقْوَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ
أَهْلِ الْبِلَادِ، وَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُونَ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ جَمِيعِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَعْدِلُونَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ قُوتِ أَقْرَبِ
الْبِلَادِ بِهِمْ فَيُخْرِجُونَهُ، فَإِنْ
(15/302)
عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَدْنَى
لَمْ يُجْزِهِمْ وَإِنْ عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى كَانَ
عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَيُعْطِي الرَّجُلُ الْكَفَّارَةَ وَالزَّكَاةَ مَنْ لَا
تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الولد
والوالد والزوجة إذا كانوا أهل حاجةٍ فَهُمْ أحقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ
وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ تَطَوُّعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ. كُلُّ مَنْ يَلْزَمُهُ
الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، أَوْ
بِسَبَبٍ كَالزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ
كَفَّارَتِهِ وَلَا مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ وَمَنْ لَا يَلْزَمُهُ
الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ كَفَّارَتِهِ
وَزَكَاتِهِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ فَهَذَا أصلٌ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا
لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا كَالْأَغْنِيَاءِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَصِيرُ كَالْعَائِدَةِ إِلَيْهِ لِمَا يُسْقِطُ
مِنْ نَفَقَتِهِمْ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ الْوَلَدُ
صَغِيرًا فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ لِوُجُوبِ
نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا نَاقِصًا بِزَمَانَةٍ أَوْ
جُنُونٍ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ،
كَالصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلَ الصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَمْ تَجِبْ
نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَجَازَ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ، وَفِيهِ مِنَ
الْخِلَافِ مَا سَنَذْكُرُهُ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ وَإِنْ
سَفِلُوا، وَأَمَّا الْوَالِدُ فَإِنْ تَعَطَّلَ عَنِ الِاكْتِسَابِ
بِزَمَانَةٍ أَوْ جُنُونٍ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ
دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاكْتِسَابِ
بِالصِّحَّةِ وَالْعَقْلِ لَكِنَّهُ فَقِيرٌ فَفِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ
عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَجِبُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفَقْرِ،
فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَارِته إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا تَجِبُ اعْتِبَارًا بِالْقُدْرَةِ
عَلَى الْكَسْبِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ إِلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ الْوَالِدَ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ إِلَّا
بِالْفَقْرِ وَالزَّمَانَةِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَالْوَلَدُ
أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَحْدَهُ عَلَى
قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ فَفِي الْوَلَدِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ كَالْوَالِدِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِالْفَقْرِ
وَحْدَهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَجِبُ بِالْفَقْرِ وَعَدَمِ الِاكْتِسَابِ،
بِخِلَافِ الْوَالِدِ، لتأكيد نفقة الوالد كما تتأكد بوجوب إعقاف الولد دون
الولد، وَهَكَذَا الْأُمُّ كَالْأَبِ وَالْأَجْدَادُ كَالْأَبِ،
وَالْجَدَّاتُ كَالْأُمِّ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُنَاسَبِينَ
كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَلَا تَجِبُ
نَفَقَاتُهُمْ بِحَالٍ، وَيَجُوزُ دَفْعُ كَفَّارَتِهِ وَزِكَّاتِهِ
إِلَيْهِمْ، وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا
(15/303)
مِنْ غَيْرِهِمْ لِمَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي رحمٍ كاشحٍ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
صَدَقَةَ امرئٍ وَذُو رحمٍ محتاجٍ " وَسَوَاءٌ كَانَ يَتَطَوَّعُ
بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ أَمْ لَا.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنْ تَطَوَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ
لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَجْزَأهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ
لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَفِي دَفْعِ ذَلِكَ إِلَيْهِمُ امتناعٌ
بِهَا مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الزَّوْجَاتُ فَلَا يَجُوزُ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَدْفَعَ كَفَّارَتَهُ إِلَى زَوْجَتِهِ لِوُجُوبِ
نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ؟ فَصَارَتْ غَنِيَّةً بِهِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ
فَيَجُوزُ أَنْ تَدْفَعَ كَفَّارَتَهَا إِلَى زَوْجِهَا وَكَذَلِكَ
زَكَاتَهَا وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ، لِأَنَّ
نَفَقَتَهُ عَلَيْهَا فَصَارَ عَائِدًا إِلَيْهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ،
لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَتُهُ، فَصَارَ بَاقِيًا عَلَى
فَقْرِهِ فَجَرَى عَلَى حُكْمِ الْإِيجَابِ، وَإِنْفَاقُهُ عَلَيْهَا لَا
يَمْنَعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ
وَأَطْعَمَهُ إِيَّاهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ المسألة
مستوفاة من قبل.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ حُرًّا مُسْلِمًا
مُحْتَاجًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ فِيمَنْ
يَجُوزُ أَنْ يُصَرِفَ إِلَيْهِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنِ
الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَنْ جَمَعَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ ثَلَاثَةَ
أَوْصَافٍ: الْحُرِّيَّةَ، وَالْإِسْلَامَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ ذَوِي
الْقُرْبَى، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ،
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَلِأَنَّهُ غنيٌّ بِسَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ
الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُعَتَقُ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ
رِقِّهِ يَأْخُذُ مِنْهَا قَدْرَ حَقِّهِ وَهُوَ غنيٌّ، وَكَذَلِكَ
الْمَكَاتَبُ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ، وَجَوَّزَ
أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرْفَهَا إِلَيْهِ كَالزَّكَاةِ،
وَهَذَا فاسدٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ لِمَا يَجُوزُ مِنْ
صَرْفِهَا إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحَدِ صِنْفَيِ
الْغَارِمِينَ، وَالْكَفَّارَةُ أَضْيَقُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا
إِلَى غنيٍّ بِحَالٍ؛ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ
الرِّقِّ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْكَفَّارَةِ إِلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ زَكَاةُ
الْمَالِ وَيَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَزَكَاةُ
الْفِطْرِ، إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهِدًا؛ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ
دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاةِ الْمَالِ
إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَزَكَاةُ
الْفِطْرِ، كَالْحَرْبِيِّ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يُخْرَجُ لِلطُّهْرَةِ فَلَمْ
يَجُزْ صَرْفُهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَأَمَّا ذَوُو
قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا
يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَيْهِمُ الزِّكْوَاتُ وَلَا الْكَفَّارَاتُ،
وَإِنْ جَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ، واستوفيناه والله
أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَهُمْ فَعَلَيْهِ
عِنْدِي أن يعيد ".
(15/304)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
إِذَا أَخْطَأَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ اعْتُبِرَ حَالُ
الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا ظَنَّهُ حُرًّا أَوْ كَافِرًا
ظَنَّهُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى ظَنَّهُ مِنْ غَيْرِ ذَوِي
الْقُرْبَى لَمْ يُجْزِهِ مَا دَفَعَ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ إِذَا لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ
الْإِجْزَاءِ مَعَ الْعَمْدِ لَمْ تَقَعْ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ الْخَطَأِ،
كَرَدِّ الْوَدَائِعِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ لِأَسْبَابِ الْمَنْعِ مِنَ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ
وَالنَّسَبِ عَلَامَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا وَأَمَارَاتٍ لَا تَخْفَى
مَعَهَا، فَكَانَ الْخَطَأُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ
بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غنيٍّ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَفِي وُجُوبِ
الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ وَلَا يُجْزِئُهُ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ
الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْأَمْوَالِ كَالْعَمْدِ وَالْقَوَدِ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ لِعَدَمِ التَّعْلِيلِ الثَّانِي
فِي فَقْدِ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى غِنَاهُ، لِأَنَّ الْمَالَ
يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَالرِّقُّ وَالْكُفْرُ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُمَا،
فَكَانَ بِخَطَئِهِ فِي الْغَنِيِّ مَعْذُورًا وَفِي الْعَبْدِ
وَالْكَافِرِ مُقَصِّرًا.
وَإِنْ دَفْعَ كَفَّارَتَهُ وَزَكَاتَهُ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَخْطَأَ
السُّلْطَانُ فِي دَفْعِهَا إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا نُظِرَ، فَإِنْ
بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى غَنِيٍّ أَجْزَأَ لِخَفَاءِ حَالِهِ
عَلَيْهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ
ذِي قُرْبَى فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهَا وَيُعِيدُهَا، كَمَا يَلْزَمُ رَبُّ الْمَالِ
أَنْ يُعِيدَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُهَا وَتَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ
بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ
مُبَاشَرَةَ السُّلْطَانِ لِعُمُومِ الْأُمُورِ يَقْطَعُ عَنِ التَّفَرُّدِ
بِالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَبُّ الْمَالِ عَنِ التَّوَفُّرِ
فِي الِاجْتِهَادِ.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَا يُطْعِمُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا مِائَةً
وَعِشْرِينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ فِي
أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ لَمْ يُجْزِهِ فَقَالَ أَرَاكَ جَعَلْتَ وَاحِدًا
سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {وَأَشْهِدُوا ذَوي عَدْلٍ
مِنْكُمْ} فَإِنْ شَهِدَ الْيَوْمَ شاهدٌ بحقٍّ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ
فَشَهِدَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهَا مَرَّتَيْنِ فَهُوَ كَشَاهِدَيْنِ
فَإِنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ الْعَدَدَ
قِيلَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ الْعَدَدَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
نَصَّ عَلَى عَدَدِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّهَا
عَشَرَةُ مَسَاكِينَ، وَإِنْ دَفْعَ إِلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مُدَّيْنِ
أَجَزَأَهُ أَحَدُهُمَا،
(15/305)
وَلَمْ يُجْزِهِ الْآخَرُ سَوَاءٌ دَفَعَهُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي يَوْمَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " إِذَا دَفَعَ لَهُ حَقَّ
مِسْكِينٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ فِي
يَوْمَيْنِ أَجْزَأَهُ حَتَّى قَالَ: لَوْ دَفَعَ إِلَى مِسْكِينٍ حَقَّ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ وَقَامَ مَقَامَ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَاعْتَبَرَ عَدَدَ الْإِطْعَامَ وَلَمْ يَعْتَبِرْ
عَدَدَ الْمَسَاكِينِ. وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُهُمَا مَعًا، وَيَمْنَعُ
أَنْ يأخذ مسكين واحد من كفارة واحد مَرَّتَيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ
الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ فِي
الْوَصَايَا لَوْ أَوْصَى بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ؟ فَكَانَ فِي
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَاتِ أَوْلَى، وَقَدْ مَضَتْ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ.
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ أَطْعَمَ تِسْعَةً وَكَسَا
وَاحِدًا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يُطْعِمَ عشرةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ {أَوْ كِسْوَتُّهُمْ} .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُكَفِّرِ عَنْ
يَمِينِهِ الْخِيَارَ فِي التَّكْفِيرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أشياء الطعام أو
الكسوة أو العتق، فبأيهما كَفَّرَ أَجَزْأَهُ، إِذَا اسْتَوْفَاهُ وَلَمْ
يُفَرِّقْ، فَإِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً لَمْ يُجْزِهِ،
وَكَانَ مُخَيَّرًا إِنْ شَاءَ تَمَّمَ إِطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ،
وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْكِسْوَةِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَ كِسْوَةَ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِالْإِطْعَامِ، وَقَالَ
مَالِكٌ: يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيَكْسُوَ خَمْسَةً،
لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْزَأَهُ إِطْعَامُهُمْ وَأَجْزَأَتْهُ كِسْوَتُهُمْ
أَجْزَأَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِطْعَامِهِمْ وَكَسَوْتِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَطْعَمَ خَمْسَةً وَكَسَا خَمْسَةً،
وَجَعَلَ كِسْوَةَ الخمسة بقية إِطْعَامِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ
جَعْلَ إِطْعَامَ الْخَمْسَةِ بِقِيمَةِ كِسْوَةِ الْخَمْسَةِ أَجْزَأَهُ
فَأَجَازَ إِخْرَاجَ قِيمَةِ الْكِسْوَةِ طَعَامًا وَلَمْ يُجِزْ إِخْرَاجَ
قِيمَةِ الطَّعَامِ كِسْوَةً فَلَمْ يَسْتَمِرَّ فِي جَوَازِ الْقِيمَةِ
عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْهَا عَلَى أَصْلِنَا،
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ المكفر بين ثلاثة، من
طعام أو كسرة أَوْ عِتْقٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ خِيَارًا
رَابِعًا فِي التَّبْعِيضِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي
الْكَفَّارَةِ تَبْعِيضُ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ امْتَنَعَ فِيهَا تبعيض
الكسوة والإطعام.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ثَلَاثَةِ أيمانٍِ
مختلفةٍ فَأَعْتَقَ وَأَطْعَمَ وَكَسَا يَنْوِي الْكَفَّارَةَ وَلَا
يَنْوِي عَنْ أَيِّهَا الْعِتْقُ وَلَا الْإِطْعَامُ وَلَا الْكِسْوَةُ
أَجْزَأَهُ وَأَيُّهَا شَاءَ أَنْ يَكُونَ عِتْقًا أَوْ طَعَامًا أَوْ
كِسْوَةً كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ فَالنِّيَّةُ الْأُولَى تُجْزِئُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا كَانَتْ عليه ثلاثة
كَفَّارَاتٍ عَنْ ثَلَاثِ أَيْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ فِي التَّكْفِيرِ
عَنْهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ جِنْسٍ واحدٍ
فَيُطْعِمَ عَنْ جَمِيعِهَا وَيَكْسُوَ عَنْ جَمِيعِهَا، أَوْ يَعْتِقَ
عَنْ جَمِيعِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا مِنْ أَجْنَاسٍ
مُخْتَلِفَةٍ فَيُطْعِمَ عَنْ أَحَدِهَا، وَيَكْسُوَ عَنْ أَحَدِهَا،
وَيُعْتِقَ عَنْ أَحَدِهَا، لِأَنَّ لِكُلِّ كَفَّارَةٍ حُكْمَ
(15/306)
نفسها، وسواء عينها أَوْ أَطْلَقَهَا؛
لِأَنَّ عَلَيْهِ النِّيَّةَ فِي الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ
يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ كَفَّارَةٍ كَالْوُضُوءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ
أَنَّهُ عَنِ الْحَدَثِ، وَلَا يَلْزَمَهُ عَنْ أَيِّ حَدَثٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ عَنْ أَيِّ
كَفَّارَةٍ، كَمَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ مِنْ
ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ، فَيُقَالُ لَهُ: لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِي قَضَاءِ
الصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيِّ يَوْمٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَنْ يُعَيِّنَ عَنْ أَيْ حِنْثٍ، فَلَا
يَكُونُ فِي إِثْبَاتِهِ التَّعْيِينُ فِي الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ
نَفْيِهِ لِلتَّعْيِينِ فِي الْقَضَاءِ، فَاسْتَوَيَا ثُمَّ تَرَجَّحَ مَا
ذَكَرْنَا بِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَمْ
يَعْرِفْهَا بِعَيْنِهَا لَمْ يُجْزِهِ فِي قَضَائِهَا أَنْ يَنْوِيَ
قَضَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ كَانَتْ
عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَا يَعْرِفُ مُوجِبَهَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ
بِالتَّكْفِيرِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فَعُلِمَ أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ
فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَتَعْيِينُهَا فِي الْكَفَّارَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فِي تَعْيِينِ
النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الطَّهَارَةِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي
وُجُوبِ النِّيَّةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ عَنِ
الْمُزَنِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْمُزَنِيِّ: لِمَ افْتَقَرَتِ الصَّلَاةُ
إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ وَلَمْ تَفْتَقِرِ الطَّهَارَةُ إِلَى
تَعْيِينِ النِّيَّةِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُرَادُ لِنَفْسِهَا،
وَالطَّهَارَةَ تُرَادُ لِغَيْرِهَا وَهَذَا صَحِيحٌ. وَهَكَذَا
الْكَفَّارَةُ تُرَادُ لِغَيْرِهَا، وَهُوَ تَكْفِيرُ الْحِنْثِ،
فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا تَعْيِينُ النِّيَّةِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ،
إِنَّ الطَّهَارَةَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنَ
الْحَدَثِ فَلَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ، وَالصَّلَاةُ
لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا،
وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَكَذَا الْكَفَّارَةُ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَهُوَ مَا
سَبَقَ مِنَ الْيَمِينِ؟ فَلَمْ يُعْتَبَرْ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا.
فَإِنْ قِيلَ: النِّيَّةُ فِي الْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ مِنْهَا فِي
الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ أَنَّهَا عَنْ نومٍ
فَكَانَتْ عَنْ بولٍ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ نَوَى بِعِتْقِهِ فِي
الْكَفَّارَةِ أَنَّهُ عَنْ ظِهَارٍ فَكَانَ عَنْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ
فَجَازَ أَنْ تَتَغَلَّظَ الْكَفَّارَةُ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَإِنْ
لَمْ تَتَغَلَّظْ بِهَا الطَّهَارَةُ.
قِيلَ: إِنَّمَا أَجْزَأَتْهُ الطَّهَارَةُ وَلَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ
بِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّهَارَةَ تَرْفَعُ جَمِيعَ الْأَحْدَاثِ
لِأَنَّهَا تَتَدَاخَلُ، فَكَذَلِكَ أَجْزَأَتْ فِي مُخَالَفَةِ
التَّعْيِينِ، وَالْعِتْقُ لَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْكَفَّارَاتِ،
لِأَنَّهَا لَا تَتَدَاخَلُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ فِي مخالفة التعيين.
(مسألة:)
قال الشافعي: " ولا يُجْزِئُ كفارةٌ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ قَبْلَهَا
أَوْ مَعَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّيَّةُ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ
وَالْكَفَّارَةِ فَوَاجِبَةٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ،
لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَتَطَوُّعًا، فَافْتَقَرَ
الْفَرْضُ إِلَى تَمْيِيزِهِ بِالنِّيَّةِ، وَلَهُ فِي النِّيَّةِ
ثَلَاثَةُ أحوالٍ، تُجْزِئُهُ فِي إِحْدَاهَا وَلَا تُجْزِئُهُ فِي
الْآخَرِ، وَمُخْتَلَفٌ فِي إِجْزَائِهِ فِي
(15/307)
الثَّالِثُ، فَأَمَّا مَا تُجْزِئُهُ
فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عند دفعها فيجزئ ما لِأَنَّ أَغْلَظَ أَحْوَالِ
النِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَا لَا يُجْزِئُ فَهُوَ
أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنِ
الْفِعْلِ، فَكَانَتْ قَصْدًا وَلَمْ تَكُنْ نِيَّةً، وَأَمَّا
الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ عَزْلِهَا مِنْ مَالِهِ
وَقَبْلَ دَفْعِهَا فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُ وَإِنْ لَمْ تُجْزِئْ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ،
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ
قَبْلَهَا وَمَعَهَا، لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِي دَفْعِهَا يَصِحُّ،
وَلَا يُمْكِنُ الْمُسْتَنِيبُ أَنْ يَنْوِيَ مَعَ الدَّفْعِ،
فَأَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ مَعَ الْعَزْلِ، وَخَالَفَتِ الصَّلَاةَ الَّتِي
لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ
مُقَارِنَةً لِأَوَّلِهَا وَجَرَتِ الضَّرُورَةُ مَجْرَى الصِّيَامِ
الَّذِي تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ
تَعَذُّرِهَا مَعَ دُخُولِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِبَقَائِهَا مَعَ الْقَوَدِ عَلَى
مُلْكِهِ فَأَشْبَهَ النِّيَّةَ قَبْلَ عَزْلِهِ، وَتَأَوَّلَ مَنْ قَالَ
بِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يُقَدِّمَ النِّيَّةَ
قَبْلَهَا، أَوْ مَعَهَا بِتَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَهَا إِذَا اسْتَصْحَبَ النِّيَّةَ إِلَى
دفعها.
والثاني: قبلها في الصيام ومعها في الكسوة.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ كَفَّرَ عَنْهُ رجلٌ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ وَهَذِهِ
كَهِبَتِهِ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهِ وَدَفْعِهِ إِيَّاهَا بِأَمْرِهِ كقبضٍ
وَكِيلِهِ لِهِبَتِهِ لَوْ وَهَبَهَا لَهُ وَكَذَلِكَ إِنْ قَالَ أَعْتِقْ
عَنِّي فَوَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقَ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ
الْعِتْقِ وَكَانَ عِتْقُهُ مِثْلَ الْقَبْضِ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ فَلَمْ
يَقْبِضْهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ كَانَ الْعِتْقُ كَالْقَبْضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ
الْكَفَّارَةُ فَكَفَّرَ عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى
ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ لِلْآمِرِ، فَيَكُونَ
المأمور هاهنا وَكِيلًا لِلْآمِرِ فِي إِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا
مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ لِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِي التَّكْفِيرِ،
لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْمَالُ وَالْعَمَلُ تَبِعٌ، فَأُجْرِيَتْ مَجْرَى
حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، وَتَكُونُ النِّيَّةُ فِي إِخْرَاجِهَا
مُسْتَحِقَّةً، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الْعِبَادَةِ، وَلِلْآمِرِ
وَالْمَأْمُورِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ وينوي المأمور عند
دفعه، فهذا أكمل أموال الجواز.
والثاني: أن لا ينوي واحد مِنْهَا فَلَا يُجْزِئُ الْمُخْرِجُ عِتْقًا
كَانَ أَوْ إِطْعَامًا لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْإِجْزَاءِ
وَلَا يَضْمَنُهُ الْمَأْمُورُ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي الْأَمْرِ.
(15/308)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْمَأْمُورُ
عِنْدَ دَفْعِهِ، وَلَا يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ، فَهُنَا
يُجْزِئُ، لِأَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِالدَّفْعِ أَصَحُّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَنْوِيَ الْآمِرُ عِنْدَ أَمْرِهِ، وَلَا يَنْوِيَ
الْمَأْمُورُ عِنْدَ دَفْعِهِ، فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ عَلَى مَا
مَضَى مِنْ وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ النِّيَّةَ عِنْدَ الْعَزْلِ وَالدَّفْعِ،
فَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِنَوْعٍ فَعَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ
كَانَ الْمَأْمُورُ ضَامِنًا لِمَا كَفَّرَ بِهِ سَوَاءٌ عَدَلَ عَنِ
الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، كَعُدُولِهِ عَنِ الْإِطْعَامِ إِلَى
الْعِتْقِ، أَوْ عَدَلَ عَنِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى، كَعُدُولِهِ
عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الْإِطْعَامِ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ مَقْصُورُ
التَّصَرُّفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْآمِرُ
الْإِذْنَ لِلْمَأْمُورِ فِي التَّكْفِيرِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ عَلَى
جِنْسِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ لَمْ تَخْلُ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ
كَفَّارَةَ تَرْتِيبٍ كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، فَإِطْلَاقُ إِذْنِ
الْآمِرِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْعِتْقِ أَوَجَبَ إِطْلَاقَ إِذْنِهِ أَنْ يَعْتِقَ عَنْهُ،
وَإِنْ أَطْعَمَ ضَمِنَ وَلَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْإِطْعَامِ أَوَجَبَ إِطْلَاقُ إِذْنِهِ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ، وَإِنْ
أَعَتَقَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ، وَلَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ الْمَالِ
الَّذِي قَدْ مَلَكَهُ الْمُعْطَى، فَضِمْنَهُ الْمُعْطِي وَإِنْ كَانَتْ
كَفَّارَةً لَحِنْثٍ مِثْلِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، فَإِنْ كَفَّرَ
الْمَأْمُورُ بِأَقَلِّ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا، فَكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ
دُونَ الْعِتْقِ أَجْزَأَ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ أَوْ
غَيْرَ موجودٍ، وَإِنْ كَفَّرَ بِأَكْثَرِ الْأَجْنَاسِ ثَمَنًا فَكَفَّرَ
بِالْعِتْقِ دُونَ الْإِطْعَامِ، فَلَا يَخْلُو مَالُ الْآمِرِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أحوال:
أحدها: أن يوجد في ملكه للأدنى مِنَ الْإِطْعَامِ، وَلَا يُوجَدَ فِيهِ
الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَيَصِيرَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ عُدُولِهِ إِلَى
الْعِتْقِ مِنْ غَيْرِ مِلْكِهِ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْأَذَى، فَلَا
يُجْزِئُ الْعِتْقُ، وَيَكُونُ عَنِ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ،
وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةٌ فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَعْلَى مِنَ
الْعِتْقِ، وَلَا يُوجَدُ فِيهِ الْأَدْنَى مِنَ الطَّعَامِ فَهَذَا
الْعِتْقُ يُجْزِئُ عَنِ الْآمِرِ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ
إِذْنِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مِلْكِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنِ
الْإِطْعَامِ، وَلَا الْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَلَيْسَ لَهُ
التَّكْفِيرُ عَنْهُ بِالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ فَضْلَ الْقِيمَةِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يُدْخِلُ وَلَاءَ الْمُعْتِقِ فِي مِلْكِ الْآمِرِ
بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُوجَدَ فِي مِلْكِهِ الْأَدْنَى مِنَ
الطَّعَامِ وَالْأَعْلَى مِنَ الْعِتْقِ، فَهَلْ يَكُونُ إِطْلَاقُ
الْإِذْنِ يُوجِبُ تَخْيِيرَ الْمَأْمُورِ، كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِخِيَارِ
الْآمِرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُوجِبٌ لِخِيَارِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَقَامَهُ
بِالْإِذْنِ فِيهِ مَقَامَ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْطُلُ الْعِتْقُ
وَيُجْزِئُ عَنِ الْمُكَفِّرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ التَّخْيِيرَ يَسْقُطُ فِي حَقِّ
الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْآمِرِ،
(15/309)
لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي مِلْكِهِ دُونَ
الْمَأْمُورِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عِتْقُهُ بَاطِلًا؟ وَالْعَبْدُ عَلَى
رِقِّهِ وَالْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالُ التَّكْفِيرِ مِلْكًا
لِلْمَأْمُورِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْزَائِهِ عَلَى
ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ
بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جعلٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لَا يُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَ
بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ يُجْزِئُ إِنْ
كَانَ بِجُعْلٍ، وَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ.
وَدَلِيلُنَا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مُسْتَوْفًى،
أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِجُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْبِيَاعَاتِ، وَإِنْ كَانَ
بِغَيْرِ جُعْلٍ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ، وَالْإِخْرَاجُ فِيهَا قَبْضٌ
يَلْزَمُ بِهِ الْهِبَةُ، وَيَسْتَقِرُّ بِهِ الْبَيْعُ، فَإِنْ قِيلَ:
فَكَيْفَ يَصِحُّ مِلْكُ الْأَمْرِ لَهُ، حَتَّى يُجْزِئَهُ فِي
كَفَّارَتِهِ، قِيلَ: قَدْ حَكَى فِيهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَجْهَيْنِ خَرَّجَهُمَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ
الشَّافِعِيِّ فِي دِيَةِ النَّفْسِ، هَلْ يَمْلِكُهَا الْمَقْتُولُ فِي
آخِرِ أَجْزَاءِ حَيَّاتِهِ، أَوْ يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ فِي أَوَّلِ
أَجْزَاءِ مَوْتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهَا فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ،
وَإِنْفَاذِ وَصَايَاهُ، حُكْمُ مِلْكِهِ عَلَى قولين كذلك هاهنا عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يَصِيرُ بِإِخْرَاجِهَا مَالِكًا لَهَا قَبْلَ
إِخْرَاجِهَا، فَإِنْ كَانَ عِتْقًا بَانَ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ كَانَ
مِلْكًا لَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ، وَإِنَّمَا يَجْرِي
عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ،
وَبَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ، فَصَارَ حُكْمُ الْمِلْكِ
جَارِيًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ كَمَا نَقُولُ فِي حَافِرِ
الْبِئْرِ إِذَا تَلِفَ فِيهَا حَيَوَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ
الْجَانِي عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَانِيًا، لِأَنَّهُ قَبْلَ
مَوْتِهِ لَمْ يَجْنِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْفِعْلُ،
فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَيَكُونُ وَلَاءُ
الْمُعْتِقِ لِلْآمِرِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَمِثْلُ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَالَ: أَلْقِ مَتَاعَكَ فِي
الْبَحْرِ وَعَلَيَّ قِيمَتُهُ، هَلْ يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ
إِلْقَائِهِ أَمْ لَا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّنَا نَعْلَمُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ
مَالِكًا لَهُ قَبْلَ إِلْقَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهُ، وَإِنَّمَا
يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِلْكِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْإِلْقَاءِ لَمْ
يَمْلِكْ، وَبَعْدَ الْإِلْقَاءِ لَا يَصِحُّ أن يملك.
(15/310)
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَفَّرَ عَنْ رجلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ
فَأَطْعَمَ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ هو المعتق لعبده
فَوَلَاؤُهُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ كَفَّرَ
عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكَفِّرًا عَنْ حيٍّ
أَوْ مَيِّتٍ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ حيٍّ لَمْ يَجُزِ الْكَفَّارَةُ عَنِ
الْحَيِّ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ، وَعَدَمُ الْإِذْنِ
مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ، فَكَانَ مَا أَخْرَجَهُ النَّائِبُ
وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ إِطْعَامًا كَانَ صَدَقَةً، وَإِنْ
كَانَ عِتْقًا كَانَ تَطَوُّعًا مِنْهُ وَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَإِنْ نَوَاهُ
عَنْ غَيْرِهِ كَمَنْ حَجَّ عَنْ حيٍّ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، كَانَ الْحَجُّ
وَاقِعًا عَنِ الْحَاجِّ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي وَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ،
فَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمُعْتِقِ بِكُلِّ حالٍ، وَجَعَلَ مَالِكٌ
لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ، وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُعْتِقِ
إِنْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلِلْمُعْتَقِ عَنْهُ إِنْ أَعْتَقَ
بِأَمْرِهِ، وَإِنْ كَفَّرَ عَنْ مَيِّتٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
بِوَصِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِوَصِيَّةٍ كَانَتِ
الْوَصِيَّةُ أَمْرًا، فَيَصِيِرُ كالمكفر بأمرٍ، فيكون على ما مضى، فإن
كَفَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ مِنْهُ، فَلَا يَخْلُو الْمُكَفِّرُ
عَنْهُ مِنْ أَنْ يَمُوتَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، فَإِنْ مَاتَ مُوسِرًا
فَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بَاقٍ فِي تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ
مِنْهَا غَيْرَ وَارِثٍ وَلَا ذِي وِلَايَةٍ كَانَ ضَامِنًا مُتَعَدِّيًا،
وَلَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَفَّرَ عَنْهُ مِنْهَا
وَارِثٌ، فَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ طَعَامًا أَجْزَأَ، وَصَارَ كَقَضَاءِ
الدِّيُونِ الْوَاجِبَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ التَّكْفِيرُ عِتْقًا
فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِتْقٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ
الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَيُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرٍ وَلَا
وَصِيَّةٍ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُسْتَحَقٌّ، فَإِذَا فَاتَ مَنْ ضَمِنَهُ
بِالْمَوْتِ وَجَبَ عَلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ فِي مَالِهِ كَالْحَجِّ لَا
يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَيَجِبُ
عَلَى وَارِثِهِ الْحَجُّ عَنْهُ فِيمَا وَجَبَ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِتْقًا فِيهِ تَخْيِيرٌ، كَالْعِتْقِ
فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِيهِ يَمْنَعُ مِنْ
تَعْيِينِ وُجُوبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَصِحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا نَابَ عَنْ وَاجِبٍ صَارَ
وَاجِبًا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءٌ عَلَى اختلاف أصحابنا في ما وجب
في كفارة الْيَمِينِ وَسَائِرِ كَفَّارَاتِ التَّخْيِيرِ هَلْ وَجَبَ
بِالنَّصِّ أَحَدُهَا، أَوْ وَجَبَ بِهِ جَمِيعُهَا، وَلَهُ إِسْقَاطُ
الْوُجُوبِ بِأَحَدِهِمَا، فَأَحَدُ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا أَنَّ
الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ أَحَدُهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ، فَعَلَى هَذَا
لَا يَصِحُّ الْعِتْقُ.
(15/311)
وَالثَّانِي: إِنَّ جَمِيعَهَا وَاجِبٌ
بِالنَّصِّ، وَلَهُ إِسْقَاطُ جَمِيعِهَا بِفِعْلِ أَحَدِهَا، فَعَلَى
هَذَا يَصِحُّ الْعِتْقُ.
وَإِنْ مَاتَ الْمُكَفَّرُ عَنْهُ مُعْسِرًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
هَلْ يَكُونُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ أَوْ
بِالتَّطَوُّعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْوَاجِبِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالتَّطَوُّعِ، فَيَكُونُ
عَلَى مَا يأتي.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ أَبَوَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ
إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بوصيةٍ مِنْهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّطَوُّعُ بِذَلِكَ عَنْ وَصِيَّةِ
الْمَيِّتِ فَجَائِزٌ، سَوَاءٌ كَانَ عِتْقًا أَوْ صَدَقَةً وَيَكُونُ
الْوَلَاءُ لِلْمَيِّتِ؟ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى الذُّكُورِ مِنْ
عَصَبَتِهِ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ بِهِ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ
وَصِيَّةٍ، فَإِنْ كَانَ صَدَقَةً جَازَ مِنْ وَارِثٍ وَغَيْرِ وَارِثٍ؟
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أَنَّهُ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وقاصٍ " أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ أُمِّهِ
بَعْدَ مَوْتِهَا ".
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي افتلت،
وَأَظُنُّ لَوْ تَكَلَّمَتْ لَتَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا مِنْ أجرٍ إِنْ
تَصَدَّقْتُ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ ".
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ غَيْرُ وَارِثٍ لَمْ يَجُزْ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الصَّدَقَةَ برٌّ مَحْضٌ
لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الثَّوَابِ، وَالْعِتْقَ تَكَسُّبُ وَلَاءٍ
يَجْرِي مَجْرَى النَّسَبِ، لِقَوْلِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَلَيْسَ لأحدٍ
إِلْحَاقُ نَفْسِهِ بِغَيْرِهِ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَإِنْ كَانَ
الْمُعْتِقُ وَارِثًا، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُ الْوَرَثَةِ لَمْ
يَجُزْ كَالْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ
يُلْحِقَ بِالْمَيِّتِ نَسَبًا، وَإِنْ تَطَوَّعَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ
فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَطَوَّعَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا يَصِحُّ لُحُوقُ النَّسَبِ
بِالْمَيِّتِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ وَلَا يَصِحُّ إِذَا
أقر به بعضهم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ صَامَ رجلٌ عَنْ رجلٍ بِأَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ
لِأَنَّ الْأَبْدَانَ تُعُبِّدَتْ بعملٍ فَلَا يُجْزِئُ أن يعلمه غيرها إلا
الحج والعمرة للخير الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبأن فيهما نفقةٌ ولأن الله تبارك وتعالى إنما
فرضهما على من وجد السبيل إليهما والسبيل بالمال ".
(15/312)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصِّيَامُ
عَنِ الحيِّ فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا بِأَمْرٍ أَوْ غَيْرِ أمرٍ، عَنْ
قَادِرٍ أَوْ عَاجِزٍ، لِلظَّاهِرِ مِنْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ
لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) وَلِأَنَّ مَا
تَمَحَّضَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ لَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ،
كَالصَّلَاةِ، وَخَالَفَ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ
بِالْمَالِ لَمْ يَتَمَحَّضْ عَلَى الْأَبْدَانِ، فَصَحَّتْ فِيهِ
النِّيَابَةُ كَالزَّكَاةِ.
فَأَمَّا الصِّيَامُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ وَقَفَهُ الشَّافِعِيُّ فِي
الْقَدِيمِ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ أَنَّ امْرَأَةً
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ
صَوْمِ نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهَا؟ فَمَاتَتْ قَبْلَ صِيَامِهِ،
فَأَجَازَ لَهَا أَنْ تَصُومَ عَنْهَا.
وَقَدْ حَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ الْخَبَرَ قَدْ صَحَّ فَصَارَ مَذْهَبُهُ فِي
الْقَدِيمِ جَوَازَ الصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ، وَقَدْ رَوَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ
مَاتَ وَعَلَيْهِ صيامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ "؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ
يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَصَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ
كَالْحَجِّ طَرْدًا وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَدُخُولُ الْمَالِ فِي
جُبْرَانِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جُبْرَانُ الصِّيَامِ فِي الْوَطْءِ بِالْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: عَجْزُ الشيخ الهم عَنِ الصِّيَامِ، وَانْتِقَالُهُ إِلَى
إِخْرَاجِ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ
النِّيَابَةَ فِي الصِّيَامِ لَا تَجُوزُ بحالٍ عَنْ حيٍّ وَلَا مَيِّتٍ،
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِرِوَايَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صيامٌ أَطْعَمَ عَنْهُ
وَلِيُّهُ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ لَا يَتَعَلَّقُ
وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَالصَّلَاةِ
طَرْدًا، وَالْحَجِّ عَكْسًا، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَعْلُولٌ وَإِنْ صَحَّ
كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يُرِيدَ بِالصِّيَامِ عَنِ الْمَيِّتِ الصَّدَقَةَ
عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ جَوَازُهُ، وَهُوَ قولٌ شَاذٌّ
تَفَرَّدَا بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي رَكْعَتِي
الطَّوَافِ إِجْمَاعًا جَازَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ قِيَاسًا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمَّا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ مَعَ الْعَجْزِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَصَحَّتْ فِي الزَّكَاةِ
مَعَ الْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ لَمْ تَخْرُجِ النِّيَابَةُ فِي الصَّلَاةِ
عَنْ أَحَدِهِمَا، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَسَائِرُ الْعُلَمَاءِ
إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَصِحُّ بِحَالٍ مع قدرة ولا
عجز؛ لقول الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَابَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا
تَصِحُّ بِحَالٍ مَعَ قُدْرَةٍ وَلَا عَجْزٍ؛ لِقَوْلِ النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ
عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثلاثٍ حَجٍّ بقضاءٍ، أَوْ دينٍ يُؤَدَّى، أَوْ صدقةٍ
جاريةٍ "
(15/313)
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ كَالْإِيمَانِ
لِأَنَّهَا قولٌ وعملٌ ونيةٌ، ثُمَّ لَمْ تَجُزِ النِّيَابَةُ فِي
الْإِيمَانِ إِجْمَاعًا فَلَمْ تَجُزْ فِي الصَّلَاةِ حِجَاجًا، فَأَمَّا
رَكْعَتَا الطَّوَافِ؛ فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِمَا تَصِحُّ فِيهِ
النِّيَابَةُ فَخُصَّتْ بِالْجَوَازِ؛ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْمَعْنَى، وَمَا
ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِالنِّيَابَةِ
لِاخْتِصَاصِ وُجُوبِهِ بالمال.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَمَنِ اشْتَرَى مِمَّا أَطْعَمَ أَوْ كَسَا أَجَزْتُهُ
وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُكْرَهُ إِنْ تَصَدَّقَ
بِصَدَقَةٍ عَنْ وَاجِبٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنَ
الْمُعْطِي، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ فَرَسًا تَصَدَّقَ بِهِ فَيَ سَبِيلِ اللَّهِ
يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها بفقيرٍ، وَدَعْهَا
حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، وَلِأَنَّ
مِنْ عُرْفِ الْمُعَطَى أَنْ يَسْمَحَ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْمُعْطِي،
فَصَارَ بِالِابْتِيَاعِ كَالرَّاجِعِ فِي بَعْضِ عَطِيَّتِهِ، فَإِنِ
ابْتَاعَهَا صَحَّ الِابْتِيَاعُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِحُّ الِابْتِيَاعُ وَتُعَادُ إِلَى
الْبَائِعِ احْتِجَاجًا بِمَا مَضَى، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا
تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغنيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ " ذَكَرَ مِنْهَا رَجُلًا
رَآهَا تُبَاعُ فَاشْتَرَاهَا فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا
جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مِيرَاثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا ابْتِيَاعًا
كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْتَاعَهَا
غَيْرُهُ مِنَ الرِّجَالِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبْتَاعَ
كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ
مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ دُونَ التَّحْرِيمِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: " وَمَنْ كَانَ لَهُ مسكنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ
وَأَهْلُهُ وخادمٌ أُعْطِيَ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ
فِي مَسْكَنِهِ فضلٌ عَنْ خَادِمِهِ وَأَهْلِهِ الْفَضْلُ الَّذِي يَكُونُ
بِهِ غَنِيًّا لَمْ يُعْطَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ،
وَخَادِمٌ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ
الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَجَازَ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ دُونَ
الْمَالِ وَلَوْ كَانَ مُفْلِسًا بِيعَ ذَلِكَ فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ
يُبَعْ فِي كَفَّارَتِهِ، لِأَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُشَاحَّةً،
وَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُسَامَحَةً، فَإِنْ كَانَ فِي ثَمَنِ
مَسْكَنِهِ أَوْ فِي ثَمَنِ خَادِمِهِ فَضْلٌ يَكُونُ بِهِ غَنِيًّا
حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا
فَضْلٌ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لَمْ يُجْزِهِ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِذَا حَنِثَ مُوسِرًا ثُمَّ أَعْسَرَ لَمْ أَرَ
الصَّوْمَ يُجْزِئُ عَنْهُ وَآمُرُهُ احْتِيَاطًا أَنْ يَصُومَ فَإِذَا
أَيْسَرَ كَفَّرَ وَإِنَّمَا أُنْظِرُ فِي هَذَا إلى الوقت الذي يحنث فيه
ولو حنث معسراً فأيسر أحببت له أن يكفر ولا يصوم وإن صام أجزأ عنه لأن حكمه
حين حنث حكم الصيام (قال المزني) وقد قال في الظهار إن حكمه حين يكفر وقد
قال في
(15/314)
جماعة العلماء إن تظاهر فلم يجد رقبةً أو
أحدث فلم يجد ماءً فلم يصم ولم يدخل في الصلاة بالتيمم حتى وجد الرقبة
والماء إن فرضه العتق والوضوء وقوله في جماعة العلماء أولى به من انفراده
عنها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَخْتَلِفُ
بِالْيَسَارِ والإعساء فَفَرْضُ الْمُوسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ
وَفَرْضُ الْمُعْسِرِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ
الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ، فَيَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ مُوسِرًا،
وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُعْسِرًا، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ الْوُجُوبِ
مُعْسِرًا، وَعِنْدَ التَّكْفِيرِ مُوسِرًا، فَاخْتَلَفَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ هَلْ يُعْتَبَرُ بِالْكَفَّارَةِ حَالَ الْوُجُوبِ أَوْ
يُعْتَبَرُ بِهَا حَالَ الْأَدَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ
وَثَالِثٍ مُخَرَّجٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ،
فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ بِالْمَالِ حَتَّى
أَعْسَرَ فَفَرْضُهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ وَتَكُونُ
الْكَفَّارَةُ بَاقِيَةً فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ فَيُكَفِّرَ،
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِالتَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ
اسْتِظْهَارًا حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ التَّكْفِيرِ بِالْمَوْتِ
لِاسْتِدَامَةِ الْإِعْسَارِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّكْفِيرِ
بِالصِّيَامِ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَفَرْضُهُ
التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، فإن عدل عنه إلى التكفير بالمال أجزأ لِأَنَّهُ
عَدَلَ عَنِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَغْلَظِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي
اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ بِحَالِ الْوُجُوبِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلْحَاقُهَا بِالْحُدُودِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الْحُدُودَ
كفاراتٌ " وَالْحُدُودُ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ دُونَ الْفِعْلِ،
لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أُعْتِقَ حُدَّ حَدَّ
الْعَبِيدِ، وَالْبِكْرَ إِذَا زَنَا فَلَمْ يُحَدَّ حَتَّى أَحَصَنَ حُدَّ
حَدَّ الْأَبْكَارِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ.
وَالثَّانِي: إِنَّ التَّكْفِيرَ لذنبٍ مُتَقَدِّمٍ، فَاعْتَبَرَ بِحَالِ
الْوُجُوبِ لِقُرْبِهِ مِنْ سَبَبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ
الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ
الظِّهَارِ فَإِذَا حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى
أَعْسَرَ كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ، وَلَوْ حَنِثَ وَهُوَ
مُعْسِرٌ فَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى أَيْسَرَ كَانَ فَرْضُهُ التَّكْفِيرَ
بِالْمَالِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَّارَةِ
بِحَالِ الْأَدَاءِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِلْحَاقُهَا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ
مِنْهَا ذَاتُ بدلٍ فَلَمَّا اعْتُبِرَتِ الطَّهَارَةُ بِحَالِ الْأَدَاءِ
فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاعْتُبِرَتْ بِأَقْرَبِ الْأَحْوَالِ
مِنْ مُوَاسَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ
بِالْكَفَّارَةِ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ حَالِ
الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَكْفِيرٌ عَنْ ذَنْبٍ، فَكَانَتْ بِالتَّغْلِيظِ
أَخَصَّ، وَقَدِ استوفينا هذه
(15/315)
المسألة فيما تقدم بفروعها.
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ
وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ
وَلَا يَعْتِقَ فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَاتِ فِي
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ خَاصَّةً، وَمَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي
الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَفِي بَقِيَّةِ أَهْلِ السُّهْمَانِ
الثَّمَانِيَةِ فَاشْتَرَكَ الفقراء والمساكين في الكفارات والزكوات،
وَاخْتُصَّتِ الزَّكَاةُ بِبَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ دُونَ الْكَفَّارَاتِ
هَذَا الْكَلَامُ فِي مَصْرِفِهَا.
فَأَمَّا وُجُوبُهَا، فَكُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَجَبَ
عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ
عَلَى مَنْ لَا تُجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ
نِصَابٍ، وَقَدْ يَجِبُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ يَحِلُّ لَهُ
الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ، وَهُوَ مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ
وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَلَا يَصِيرُ بِفَضْلِهَا غَنِيًّا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ
التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ دُونَ الصِّيَامِ، لِوُجُودِهَا فِي مِلْكِهِ
فَاضِلَةً عَنْ كِفَايَةِ وَقْتِهِ، وَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ
الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ لِدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْفَقْرِ
وَالْمَسْكَنَةِ بِعَدَمِ الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ، وَقَدْ يُسْقِطُ
التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ مَنْ يَحْرُمُ
عَلَيْهِ أَخْذُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ، وَهُوَ الْجَلْدُ
الْمُكْتَسِبُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ دُونَ الْمَالِ لِعَدَمِهِ فِي مِلْكِهِ،
وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالزَّكَاةُ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا
بِمَكْسَبِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلِمَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْكَفَّارَةِ
وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ؟ وَقَدْ قلتم فيما فضلتم: إِنَّهُ قَدْ
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ
أَنْ يَصُومَ عَنْهُ فِي الْكَفَّارَةِ، فَمِنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الشَّافِعِيَّ أَشَارَ إِلَى الْأَغْلَبِ مِنْ
أَحْوَالِ النَّاسِ، وَالْأَغْلَبُ مَا قَالَهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ أبا حنيفة حيث اعتبر الغنى
والفقر بوجوب النِّصَابِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِوُجُودِ
الْكِفَايَةِ الْمُسْتَدِيمَةِ فَيَكُونُ غَنِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ
نِصَابًا إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا بِيَدَيْهِ، وَيَكُونُ فَقِيرًا وَإِنْ
مَلَكَ نِصَابًا إِذَا كَانَ دُونَ كِفَايَتِهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ
فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَمَالُهُ غائبٌ عَنْهُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَى يَحْضُرَ مَالُهُ إِلَّا بِالْإِطْعَامِ
أَوِ الْكِسْوَةِ أَوِ الْعِتْقِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: جُعِلَ حُكْمُهُ حُكْمَ
الْمُوسِرِ إِذَا كَانَ الْمُكَفِّرُ ذَا مالٍِ غَائِبٍ، إِمَّا بِأَنْ
سَافَرَ عَنْ مالٍ خَلَّفَهُ بِبَلَدِهِ، وَإِمَّا بِأَنْ سَافَرَ
بِالْمَالِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي بَلَدِهِ فلم
(15/316)
يَقْدِرْ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ
لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ
الْمُوسِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ
فَيُكَفِّرَ بِالْمَالِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ فِي حُكْمِ الْمُعْسِرِينَ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ لِحَاجَتِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ
الْفَقْرِ مِنْ كَفَّارَتِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَاجَةَ
مُخْتَصَّةٌ بِمَكَانِهِ، وَالْكَفَّارَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِإِمْكَانِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيِسَ الْمُتَمَتِّعُ فِي الْحَجِّ إِذَا كَانَ
مُعْسِرًا فِي مَكَّةَ مُوسِرًا فِي بَلَدِهِ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ
كَالْمُعْسِرِ، فَهَلَّا كَانَ كَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَكَانَ الدَّمِ فِي التَّمَتُّعِ مُسْتَحَقٌّ
بِمَكَّةَ، فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ أَوْ إِعْسَارُهُ بِهَا وَمَكَانُ
الْإِطْعَامِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقٌ فَاعْتُبِرَ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ
عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ التَّمَتُّعِ مُعَيَّنٌ
لِلزَّمَانِ فِي صَوْمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا
رَجَعَ فَكَانَ فِي تَأْخِيرِهِ فَوَاتُ بَدَلِهِ، وَلَيْسَ لِصِيَامِ
الْيَمِينِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ فَافْتَرَقَا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِي كَمَالِ
فُرُوضِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى حَالِ الْكَمَالِ، وَذَلِكَ
مِثْلُ صَلَاةِ الْعُرْيَانِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَكَفَّارَةِ
الْمُتَمَتِّعِ، فَفَرْضُهُ تَعْجِيلُ أَدَائِهِ عَلَى غِنًى.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَلَا يَدْخُلُ
عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِالتَّأْخِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ
وَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَفَرْضُهُ إِذَا قَدِرَ عَلَى الْكَمَالِ أَنْ
يُؤَخِّرَهُ إِلَى حَالِ الْإِمْكَانِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ لَكِنْ يَلْحَقُهُ
بِالتَّأْخِيرِ ضرر مثل كفارة الظهار يلحقه بتأخيرها ضرب فِي امْتِنَاعِهِ
مِنَ الْجِمَاعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ تَأْخِيرُهَا بِالْيَسَارِ فِي بَلَدِهِ حَتَّى
يَعْتِقَ لِأَنَّهُ غنيُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَ التكفير بالصيام؛ لأنه
مستنصر، وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ ضَالًّا أَوْ مَغْصُوبًا لَا
يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَالِهِ فَيُكَفِّرَ بِهِ،
فَإِنْ تَلَفَ مَالُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ لَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ
إِلَيْهِ بِأَنْ يُكَاتِبَ أَوْ يُرَاسِلَ إِلَى بَلَدِ الْمَالِ
بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَلَا يَفْعَلُ حَتَّى يَتْلَفَ الْمَالُ فَهَذَا
فِي حُكْمِ مَنْ كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْوُجُوبِ مُعْسِرًا عِنْدَ
الْأَدَاءِ فَيَكُونُ فِي تَكْفِيرِهِ بِالصِّيَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حال
الأداء.
(15/317)
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ
إِلَّا بِالْمَالِ إِذَا اعْتُبِرَ بِهَا حَالُ الْوُجُوبِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ
حَتَّى يَتْلَفَ فَيُجْزِئُهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ قَوْلًا وَاحِدًا
لِإِعْسَارِهِ فِي حَالَتَيْ وُجُوبِهَا وَأَدَائِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/318)
بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْكِسْوَةِ فِي
الْكَفَّارَةِ
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ
الْكِسْوَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كسوةٍ مِنْ عمامةٍ أَوْ
سَرَاوِيلَ أَوْ إزارٍ أو مقنعةٍ وغير ذلك لرجلٍ أو امرأةٍ أو صبيٍّ ولو
استدل بما يجوز فيه الصلاة من الكسوة على كسوة المساكين لجاز أن يستدل بما
يكفيه في الشتاء والصيف أو في السفر من الكسوة وقد أطلقه الله فهو مطلقٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُكَفِّرَ عَنِ
الْيَمِينِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إِطْعَامِ عَشَرَةِ أَوْ كِسْوَةِ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ عِتْقِ رَقَبَةٍ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي
الْإِطْعَامِ فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَقَلُّ تُعْتَبَرُ
بِهِ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إِنَّهُ لَا
يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ
وَرِدَاءٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ إِنَّهُ لَا
يُجْزِئُ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ ثَوْبَيْنِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِنَّهُ لَا
يُجْزِئُ إِلَّا كِسْوَةُ ثَوْبٍ جَامِعٍ كَالْمِلْحَفَةِ وَالْكِسَاءِ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنَ
الْكِسْوَةِ إِلَّا مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِنْ كَانَ لِرَجُلٍ،
فَمَا يَسْتُرُ بِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَإِنْ كَانَتِ
امْرَأَةً فَمَا تَسْتُرُ بِهِ جَمِيعَ بَدَنِهَا.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ
كِسْوَةُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَتَرَ
الْعَوْرَةَ أَوْ لَمْ يَسْتُرْهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ
الْأَقَاوِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ مِنْ
ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ سَوَاءٌ سَتَرَ
الْعَوْرَةَ، وَأَجْزَأَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؛ لأمرين:
أحدهما: التزام بقيمة متفق عليه، وما يجاوزه التزام زيادة يختلف فِيهَا،
فَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا
يَخْلُو إِطْلَاقُ الْكِسْوَةِ مِنَ اعْتِبَارِهَا بِمَا انْطَلَقَ
عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ بِمَا
(15/319)
دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَلَمْ
يَلْزَمِ اعْتِبَارُهَا بِمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّهَا
تَدْعُو إِلَى مَا يُدْفِئُ مِنَ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ، وَيَقِي مِنَ
الْحَرِّ فِي الصَّيْفِ، وَإِذَا لَمْ يُغَيِّرْ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ
حَاجَةُ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ مَا
ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ سِتْرِ الْعَوْرَةِ وَإِجْزَاءِ الصَّلَاةِ
مِنْ وَجْهَيْنِ:
أْحَدُهُمَا: خُرُوجُهُ مِنَ اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَهُوَ أَصْلٌ عَنِ
اعْتِبَارِ الْكِفَايَةِ وَهِيَ عُرْفٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ مِنْ رَقِيقِ الثِّيَابِ مَا يَعُمُّ
الْعَوْرَةَ وَلَا يَسْتُرُهَا لِرِقَّتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ
فِيهِ الصَّلَاةُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى قَدْرُ الْإِطْعَامِ فِي
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَدْرُ الْكِسْوَةِ
فِيهِمَا وَفِي اعْتِبَارِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ
الْقَدْرِ فِيهِمَا لِاخْتِلَافِ الْعَوْرَةِ مِنْهُمَا فَكَانَ ذَلِكَ
مَدْفُوعًا، وَإِذَا بَطَلَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يُعْتَبَرَ مَا زَادَ
عَلَى انْطِلَاقِ الِاسْمِ ثَبَتَ أَنَّ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْكِسْوَةِ
عَلَيْهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَنَقُولُ: كَسَاهُ قَمِيصًا أَوْ كَسَاهُ
مِنْدِيلًا وَكَسَاهُ سَرَاوِيلَ وَكَذَلِكَ الْمِقْنَعَةُ وَالْخِمَارُ
فَأَجْزَاهُ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُجْزِئُهُ
السَّرَاوِيلُ، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا فاسدٌ بِالْعِمَامَةِ
وَالْمِنْدِيلِ، فَأَمَّا الْقَلَنْسُوَةُ فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ؟
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُكْتَسَى.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ وَلَا يَنْفَرِدُ
بِلِبَاسِهَا، وقال أبو الغياض الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً
تُغَطِّي نِصْفَ الرَّأْسِ لَمْ تَجُزْ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَعُمُّ
الرَّأْسَ وَتُغَطِّي الْآذَانَ وَالْقَفَا أَجْزَأَتْ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ
يُعْطِي خُفَّيْنِ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا تِكَّةً، وَلَا مَا يُلْبَسُ
مِنَ الْعَصَائِبِ وَلَا تُجْزِئُ مِنْطَقَةٌ وَلَا مُكَعَّبٌ وَلَا
هِمْيَانُ لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنِ الكسوات الملبوسة.
(فصل:)
ما أُعْطِيَ مِنْ ثِيَابِ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ شَعْرٍ أَجْزَأَ
فَأَمَّا ثِيَابُ الْحَرِيرِ وَالْإِبِرِيسَمِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَاهُ
النِّسَاءُ لِإِحْلَالِهِ لَهُنَّ، وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ، وَفِي جَوَازِ
إِعْطَائِهِ لِلرِّجَالِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى
لِلرِّجَالِ ثِيَابُ النِّسَاءِ، وَيُعْطَى النِّسَاءُ ثِيَابَ الرِّجَالِ،
وَسَوَاءٌ بَيَاضُ الثياب ومصبوغها، وخامها ومقصورها، وجديدها وغسليها
فَأَمَّا اللَّبِيسُ مِنْهَا، فَإِنْ أَذْهَبَ اللُّبْسُ أَكْثَرَ
مَنَافِعِهِ لَمْ يَجْزِهِ وَإِنْ أَذَهَبَ أَقَلَّهَا أَجْزَأَهُ
كَالرَّقَبَةِ الْمَعِيبَةِ إِنْ كَانَ عَيْبُهَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ
إِضْرَارًا بَيِّنًا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَمَلِ
إِضْرَارًا بَيِّنًا أَجْزَأَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثَوْبًا
نَجِسًا، لِأَنَّهُ يُطَهَّرُ بِالْغَسْلِ، لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ
يُعْلِمَهُمْ بِنَجَاسَتِهِ حَتَّى لَا يُصَلُّوا فِيهِ إِلَّا بَعْدَ
غَسْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا نُسِجَ مِنْ
(15/320)
صُوفٍ مَيِّتَةٍ، وَلَا مِنْ شَعْرِهَا؟
لِعُمُومِ تَحْرِيمِهِ وَخُصُوصِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَأَنْ لَا سَبِيلَ
إِلَى طَهَارَتِهِ.
(فَصْلٌ:)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الزُّلَالِيَّ وَالْبُسُطَ وَالْأَنْطَاعَ،
لِخُرُوجِهَا عَنِ اسْمِ الْكِسْوَةِ وَالْمَلْبُوسِ، وَكَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ غَزْلًا غَيْرَ منسوج فأما لباس الجلود والفراءة
فإن كان من بَلَدٍ يَلْبِسُ أَهْلُهُ ذَلِكَ أَجْزَأَ وَإِنْ كَانَ فِي
بلدٍ لَا يَلْبَسُهُ أَهْلُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ
اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي أَجْنَاسِ الْحُبُوبِ فِي الْإِطْعَامِ هَلْ
يَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا أَوْ يُعْتَبَرُ بِالْغَالِبِ مِنْهَا،
وَكَذَلِكَ قَمِيصُ اللُّبُودِ، وَلَكِنْ يجزئ أن يعطيهم الأكيسة
لِأَنَّهَا تُلْبَسُ دِثَارًا، وَإِنْ لَمْ تُلْبَسْ شِعَارًا وَلَوْ
أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا طَوِيلًا فَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِمْ
بَعْدَ قَطْعِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَتْ كُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ
كِسْوَةً، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ صَحِيحًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ
ثوبٌ واحدٌ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا كِسْوَةً وَاحِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/321)
بَابٌ مَا يَجُوزُ فِي عِتْقِ
الْكَفَّارَاتِ وَمَا لا يجوز
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا يُجْزِئُ رقبةٌ فِي كفارةٍ
وَلَا واجبٍ إِلَّا مؤمنةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْكَفَّارَاتِ
لَا يُجْزِئُ إِلَّا فِي رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُجْزِئُ عِتْقُ الكافرة في
جمعيها إِلَّا فِي كَفَّارَةِ الْقِتَالِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ
إِيمَانَهَا فَحُمِلَ الْمَشْرُوطُ عَلَى تَقْيِيدِهِ، وَالْمُطْلَقُ عَلَى
إِطْلَاقِهِ، وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مُطْلَقٍ قُيِّدَ
بَعْضُ جِنْسِهِ بشرطٍ كَانَ جَمِيعُ الْمُطْلَقِ مَحْمُولًا عَلَى
تَقْيِيدِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، كَمَا أُطْلِقَ قَوْله تَعَالَى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) {البقرة: 282) ، وَقَيَّدَ
قَوْلَهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) {الطلاق: 2) فَحُمِلَ
ذَلِكَ الْمُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ،
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، هَلْ قَالَهُ لُغَةً أَوْ شَرْعًا
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أنه قال مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ لِسَانُ
الْعَرَبِ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ دليلٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَالَهُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَمَا دَلَّتْ
عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا
عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِالْإِطْلَاقِ إِلَّا إِنْ تَفَرَّقَا
فِي الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بَعْدَ
اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ أَنَّهُ عِتْقٌ فِي
كَفَّارَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لا يجزئ فيه إلا مُؤْمِنَةٌ، كَالْعِتْقِ فِي
كَفَّارَةِ الْقَتْلِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ
لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا فِي سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، قِيَاسًا عَلَى
الْمَعِيبَةِ وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كتاب الظهار مستوفاة.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ عَلَى
الْأَعْجَمِيِّ أَنْ يَصِفَ الْإِيمَانَ إِذَا أُمِرَ بِصِفَتِهِ ثُمَّ
يَكُونَ بِهِ مُؤْمِنًا ".
(15/322)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ،
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ شَرْطٌ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَةِ
فَإِيمَانُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِيمَانُ فِعْلٍ.
وَالثَّانِي: إِيمَانُ حُكْمٍ، فَأَمَّا إِيمَانُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ
إِلَّا مِنْ بَالَغٍ عَاقِلٍ، تُؤْخَذُ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِيمَانِ
قَطْعًا، وَشُرُوطُهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَقُولَ:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَيُقِرُّ بِالْبَعْثِ
وَالْجَزَاءِ، وَيَبْرَأُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، فَأَمَّا
إِقْرَارُهُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ يَقِفُ
إِيمَانُهُ عَلَى إِقْرَارِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْإِيمَانِ،
وَأَمَّا بَرَاءَتُهُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ شَرْطٌ فِيهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ كَالْبَعْثِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ قومٍ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانَ إِقْرَارُهُ
بِنُبُوَّتِهِ يُغْنِي عَنْ بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ
الْإِسْلَامَ، وَيَكُونُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِيهِ مُسْتَحَبًّا، وَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى قَوْمِهِ مِنَ
الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَيَهُودِ خَيْبَرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا
يَقُولُونَ: هُوَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ دُونَنَا،
وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ مَبْعُوثًا إِلَيْنَا مِنْ وَلَدِ إِسْحَاقَ
فَتَكُونُ الْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ شَرْطًا فِي
صِحَّةِ إِيمَانِهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
فَإِذَا صَحَّ مَا يَكُونُ شَرْطًا فِي إِيمَانِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ
عَرَبِيَّ اللِّسَانِ تَلَفَّظَ بِهِ نُطْقًا وَلَا نَقْتَنِعُ مِنْهُ
بِالْإِشَارَةِ مَعَ سَلَامَةِ لِسَانِهِ وَفَهْمِ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ
أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ نُظِرَ، فَإِنْ حَضَرَ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ
لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إِلَّا بِالنُّطْقِ دُونَ الْإِشَارَةِ
كَالْعَرَبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَفْهَمُ لِسَانَهُ دَعَتِ
الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ تُؤْخَذَ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ،
بِالْإِشَارَةِ دُونَ النُّطْقِ كَالْأَخْرَسِ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ
بْنَ الْحَكَمِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - بِعَبْدٍ أَعْجَمِيٍّ جَلِيبٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي
نَذَرْتُ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَفَيُجْزِئُ هَذَا فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ رَبُّكَ،
فَأَشَارَ إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ: رَبُّ السَّمَاءِ؟ فَقَالَ: مَنْ
نَبِيُّكُ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعتقه فإنه مؤمنٌ ".
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ فِيهِ الصَّغِيرُ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِيمَانُ الْحُكْمِ، فَمُعْتَبَرٌ فِيمَنْ
لَا يُحْكُمُ بِقَوْلِهِ فِي صَغِيرٍ أَوْ مَجْنُونٍ، فَيَكُونُ الصَّغِيرُ
مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أُمِّهِ وَحْدَهَا،
وَإِنْ صَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ
(15/323)
وَحْدَهُ، اعْتِبَارًا بِلُحُوقِ نَسَبِهِ
بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ أَحْكَامَهُ
فِي اتِّبَاعِ أبويه تنقسم قسمين:
أحدهما: مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، وَهُوَ
النَّسَبُ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ فِيهَا تَابِعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَهُوَ
الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ، فَأَمَّا مَا يَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنَ الْأَبَوَيْنِ فخارجٌ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) {الطور: 21) فَأَخْبَرَ
أَنَّ الْأَوْلَادَ يَتَّبِعُونَ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتَ فَيَ
الْإِيمَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
الْإِسْلَامُ يَعْلُو " وَلَا يُعْلَى " وَقَدْ خُلِقَ الوَلَدُ مِنْ مَاءِ
الْأَبَوَيْنِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا وَكُفْرُ
الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يَعْلُوَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَرُوِيَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: "
كُلُّ مولودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ
يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ " فَجَعَلَ اجْتِمَاعَ أَبَوَيْهِ
سَبَبًا لِشُهُودِهِ فَخَرَجَ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا مِنَ
الْيَهُودِيَّةِ؟ وَلِأَنَّهُ لَوِ افْتَرَقَ حُكْمُ أَبَوَيْهِ فِي
إِسْلَامِهِ لَكَانَ اعْتِبَارُهُ بِأُمِّهِ أَحَقُّ، لِأَنَّهُ مِنْهَا
قَطْعًا، وَمِنْ أَبِيهِ ظَنًّا.
فَأَمَّا السَّبَبُ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي التَّحْرِيمِ
مُعْتَبَرٌ لِكُلٍّ واحدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ بِالدِّينِ أَشْبَهَ، وَأَمَّا
اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَقْسِيمِ الْحُكْمَيْنِ فَقَدْ يَقْتَرِنُ بِهِمَا
ثَالِثٌ وهو أن حربة الْأَبِ تُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ إِذَا وَطِئَهَا
بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَرِقُّ الْأُمِّ يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ إِذَا
وَطِئَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَصَارَتِ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ
مُعْتَبَرَيْنِ بِكُلِّ واحدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ
وَيَصِيرُ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا صَحَّ إِسْلَامُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ بِإِسْلَامِ كُلٍّ
واحدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ فَعِتْقُ الصَّغِيرِ فِي الْكَفَّارَةِ مجزئٌ،
وَإِنْ كَانَ نَاقِصَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ الزَّمِنِ؟ لِأَنَّ نَقْصَ
الصَّغِيرِ يَزُولُ، وَنَقْصِ الزَّمَانَةِ لَا يَزُولُ، سَوَاءٌ كَانَ
الصَّغِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، مُسْتَغْنِيًا عَنِ التَّرْبِيَةِ
كَالْمُرَاهِقِ، أَوْ كَانَ طِفْلًا يُرَبَّى كَالرَّضِيعِ؟ لِأَنَّهُ
يَنْشَأُ وَيَسْتَكْمِلُ وَنَفَقَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ
وَفِي الصَّدَقَاتِ وَلَا يَجِبُ عَلَى مُعْتِقِهِ وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهَا
حَتَّى يَبْلُغَ هُوَ الِاكْتِسَابَ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ تَجِبْ،
فَأَمَّا عِتْقُ الْمَجْنُونِ فَلَا يُجْزِئُ إِنْ كَانَ جُنُونُهُ
مُسْتَدِيمًا طَبْعًا وَكَذَلِكَ الْمَعْتُوهُ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ فِي
زَمَانٍ وَيُفِيقُ فِي زَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ زَمَانُ جُنُونِهِ أَكْثَرَ
مِنْ زَمَانِ إِفَاقَتِهِ، أَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُجْزِهِ عِتْقُهُ،
وَإِنْ كَانَ زَمَانُ إِفَاقَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ جُنُونِهِ، فَفِي
إِجْزَاءِ عِتْقِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ كَمَا يُجْزِئُ عِتْقُ مَنْ قَلَّ عَيْبُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّ قَلِيلَ الْجُنُونِ يَصِيرُ
كَثِيرًا، فَأَمَّا عِتْقُ الْأَحْمَقِ فَيُجْزِئُ، لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ
بِتَدْبِيرِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا عِتْقُ الْفَاسِقِ فَمُجْزِئٌ لِإِجْرَاءِ
أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ.
(15/324)
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَوَلَدُ الزِّنَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَنْسَابِ فِي
عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؟ وَلِأَنَّ سَلَامَةَ بَدَنِهِ
وَصِحَّةَ عَمَلِهِ مماثلٌ لِذَوِي الْأَنْسَابِ؟ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا فِي نُقْصَانِ ثَمَنِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ
عَيْبًا فِي إِجْزَاءِ عِتْقِهِ، وَأَحْسَبُ الشَّافِعِيَّ قَالَ ذَلِكَ،
وَنَصَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافٍ شَذَّ مِنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَمَسُّكًا
بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَدُ
الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ " وَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُسْتَعْمَلٍ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ شَرُّهُمْ نَسَبًا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرُّهُمْ إِذَا زَنَا لِأَنَّهُ صَارَ مَعَ شَرِّ
نَسَبِهِ زانياً.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَكُلُّ ذِي نقصٍ بعيبٍ لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا
بَيِّنًا مِثْلُ الْعَرَجِ الْخَفِيفِ وَالْعَوَرِ وَالشَّلَلِ فِي
الْخِنْصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يُجْزِئُ الْمُقْعَدُ وَلَا الْأَعْمَى
وَلَا الْأَشَلُّ الرِّجْلِ وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ وَالْخِصِيُّ
وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَيْسَ بِهِ مرضٌ زمانةٍ مِثْلُ الْفَالَجِ
وَالسُّلِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ عِتْقَ
الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَاقْتَضَى إِطْلَاقُهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ
إِمَّا السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ كَالْغِرَّةِ فِي الْجَنِينِ
وَالْإِبِلِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِمَّا جَوَازُهَا مَعَ كُلِّ الْعُيُوبِ
اعْتِبَارًا بِمُطْلَقِ الِاسْمِ كَالنُّذُورِ، لَكِنِ انْعَقَدَ فِيهَا
إجماعٌ منع من اعتبار أحمد هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا يُجْزِئُ، وَهِيَ الْعَوْرَاءُ
وَالْبَرْصَاءُ وَالْجَدْعَاءُ، وَمِنْ ذَوَاتِ الْعُيُوبِ مَا لَا
يُجْزِئُ، وَهِيَ الْعَمْيَاءُ وَالْقَطْعَاءُ وَالشَّلَّاءُ
فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى مَا أَجَازُوهُ، وَمَعْنَى مَا رَدُّوهُ،
فَوَجَدْنَاهُمْ قَدْ أَجَازُوا مِنْهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ
إِضْرَارًا بَيِّنًا وَرَدُّوا مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا
بَيِّنًا، فَصَارَ هَذَا أَصْلًا عَقَدَهُ الْإِجْمَاعُ فِي الْكَفَّارَةِ
خَارِجًا عَنِ الْأَصْلَيْنِ فِي إِطْلَاقِهَا فَاعْتَبَرُوا كَمَالَ
الْمَنْفَعَةِ دُونَ كَمَالِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِتْقِ
تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ مَنَافِعَ نَفْسِهَا، فَاعْتَبَرْنَا كَمَالَ مَا
تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّمْلِيكُ مِنَ الْمَنَافِعِ دُونَ الصِّفَاتِ،
فَإِذَا صَارَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا انْسَاقَ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ،
فَقُلْنَا: إِنَّ الْعَوْرَاءَ تُجْزِئُ بِكَمَالِ مَنَافِعِهَا؟
وَإِنَّهَا تُدْرِكُ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ مَا تُدْرِكُهُ بِهِمَا،
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ بِالْعَوْرَاءِ
قِيلَ: لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ كَمَالَ اللَّحْمِ وَاسْتَطَابَتِهِ فِي
الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَوَرُ مُؤَثِّرٌ فِيهِ، فَمَنَعَ مِنْهُ، وَلَمْ
يَمْنَعْ مِمَّا قَصَدَ بِهِ كَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعِتْقِ
فَأُجِيزَ فِيهِ. وَإِذَا أَجْزَأَتِ الْعَوْرَاءُ فِي عِتْقِ الرَّقَبَةِ
فَأَوْلَى أَنْ يُجْزِئَ عِتْقُ الْحَوْلَاءِ وَالْخَيْفَاءِ
وَالْمَقْطُوعَةِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْبَرْصَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ
هَذِهِ الْعُيُوبِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ
عِتْقُ الْخَرْسَاءِ، وَعِتْقُ الصَّمَّاءِ، لِأَنَّ عَمَلَهَا كَامِلٌ
وَالْإِشَارَةَ مَعَهُمَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، فإن لم يفهما الإشارة
لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُمَا، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
(15/325)
أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ عَتَقَهُمَا وَمَنَعَ
مِنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ،
وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِهِمَا فِي فَهْمِ الْإِشَارَةِ،
فَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ فِيهِمَا الْخَرَسُ وَالصَّمَمُ لَمْ يَجُزْ،
لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُؤَثِّرٌ مِنَ الْعَمَلِ ومقتضى عرفهم
الْإِشَارَةُ وَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْعَمْيَاءِ لِإِضْرَارِ الْعَمَى
بِالْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ أَوْ
إِحْدَاهُمَا وَلَا عِتْقُ الْمَقْطُوعَةِ الرِّجْلَيْنِ أَوْ
إِحْدَاهُمَا، بِخِلَافِ الْعَوْرَاءِ لِأَنَّ ذَهَابَ إِحْدَى الْيَدَيْنِ
مُضِرٌّ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَذَهَابَ إِحْدَى
الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْعَرْجَاءِ
إِذَا كان عرجها قليلاً، وَلَا يُجْزِئُ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، لِأَنَّ
قَلِيلَهُ غَيْرُ مُضِرٍّ؟ وَكَثِيرَهُ مضرٍ، وَتُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ
الْخِنْصَرِ أَوِ الْبِنْصِرِ مِنْ إِحْدَى الْأَطْرَافِ، أَوِ
الْخَنَاصِرِ وَالْبَنَاصِرِ مِنَ الْأَطْرَافِ كُلِّهَا، وَلَا يُجْزِئُ
إِذَا اجْتَمَعَ قَطْعُ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْ طَرَفٍ واحدٍ،
وَيَجُوزُ إِنْ كَانَا مِنْ طَرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا مُضِرٌّ
وَافْتِرَاقَهُمَا غَيْرُ مُضِرٍّ، وَلَا تُجْزِئُ الْمَقْطُوعَةُ
الْإِبْهَامِ أَوِ السَّبَّابَةِ أَوِ الْوُسْطَى، لِأَنَّ قَطْعَ كُلِّ
وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصَابِعِ الثَّلَاثِ مُضِرٌّ، فَأَمَّا قَطْعُ
الْأُنْمُلَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي
الْإِبْهَامِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِهَا مِنَ
الْأَصَابِعِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ أَنَامِلِ غَيْرِ الْإِبْهَامِ
أَكْثَرُ، بِخِلَافِ الْإِبْهَامِ وَالشَّلَلُ فِي الْأَطْرَافِ
كَالْقَطْعِ فَمَا مُنِعَ مِنْهُ الْقَطْعُ مُنِعَ مِنْهُ الشَّلَلُ، وَمَا
جَازَ مَعَ الْقَطْعِ جَازَ مَعَ الشَّلَلِ، فَإِذَا لَمْ تُجْزِ
الْقَطْعَاءُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُجْزِئَ الْمُقْعَدَةُ وَلَا ذَاتُ
الزَّمَانَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيضَةُ فَإِنْ كَانَ مَرَضُهَا مَرْجُوًّا
كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ مَاتَتْ، وَإِنْ كَانَ
مَرَضُهَا غَيْرَ مَرْجُوٍّ كَالسُّلِّ وَالْفَالِجِ لَمْ تُجْزِ وَإِنْ
صَحَّتْ، وَأَمَّا عِتْقُ الشَّيْخِ وَالْعَجُوزِ، فَعِتْقُهُمَا مُجْزِئٌ،
مَا لَمْ يَنْتَهِيَا إِلَى الْهِرَمِ الْمُضِرِّ بِالْعَمَلِ فَلَا
يُجْزِئُ، وَسَوَاءٌ فِي الْإِجْزَاءِ أَعَتَقَ ذَاتَ الضَّعَةِ وَغَيْرَ
ذَاتِ الضَّعَةِ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ لِكَمَالِ
عَمَلِهِمَا، وَكَذَلِكَ يُجْزِئُ عِتْقُ الْخُنْثَى، فَأَمَّا عِتْقُ
الْجَذْمَاءُ فَإِنْ كَانَ الْجُذَامُ فِي الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ أَوِ
الشَّفَةِ أَجْزَأَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي أَطْرَافِ الْبَدَنِ
وَالرِّجْلَيْنِ لَمْ يُجْزِ، لِأَنَّهُ مضرٌّ بِالْعَمَلِ فِي
الْأَطْرَافِ وَغَيْرُ مُضِرٍّ بِالْعَمَلِ فِي غَيْرِ الْأَطْرَافِ
وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْأَبْرَصِ وَالْبَرْصَاءِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضِرٍّ
بالعمل، وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ
وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إِلَّا الْوَالِدون وَالْمَوْلُودُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَحَدًا مِنْ
وَالِدَيْهِ أَوْ مَوْلُودَيْهِ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ
غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ، وَأَعْتَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ
كُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ فِي كِتَابِ
الْعِتْقِ، وَإِنْ مَضَى فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ
اشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ نَاوِيًا بِهِ الْعِتْقَ عَنْ
كَفَّارَتِهِ لَمْ تَجْزِهِ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ مَضَى
الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا
فِي تَعْلِيلِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ
عَلَى وَجْهَيْنِ:
(15/326)
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ، وَهَذَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
تَحْرِيرٍ مِنْهُ، فَلَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ فِعْلِ
التَّحْرِيرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ تَعْلِيلَ الْمَنْعِ مِنْ إِجْزَائِهِ أَنَّ
الرَّقَبَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُجْزِئُ عِتْقُهَا بِسَبَبَيْنِ حَتَّى
يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا، وَهَذَا عِتْقٌ بِسَبَبَيْنِ،
فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى أَثْبَتِهِمَا.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوِ اشْتَرَى رَقَبَةً بِشَرْطٍ يُعْتِقُهَا لَمْ تُجْزِ
عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ
الْبُيُوعِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ العتق فللشافعي في البيع
والشرط ثلاثة أقاويل:
أحدها: إنَّ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ بَاطِلَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ لَمْ يُجْزِهِ،
لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَمْ يَمْلِكْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يُجْزِئُهُ، وَيَكُونُ مَأْخُوذًا بِعِتْقِهِ، لِأَجْلِ الشَّرْطِ حَكَاهُ
أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ احْتِجَاجًا بِأَنَّ عَائِشَةَ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فَأَجَازَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَيْعَ
وَأَمْضَى الشَّرْطَ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عِتْقُهُ عَنْ
كَفَّارَتِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي
الْكَفَّارَةِ إِلَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ يختص بسببها.
والقول الثالث: إنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ باطلٌ وَلَا يَلْزَمُهُ
عتقها من غَيْرِ الْكَفَّارَةِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ أَعْتَقَهَا فِي
الْكَفَّارَةِ فَفِي إِجْزَائِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُجْزِئُ، لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ
التَّكْفِيرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهَا لَا تُجْزِئُ لِأَنَّ الشَّرْطَ قَدْ
أَخَذَ من الثمر قِسْطًا، فَصَارَ الْعِتْقُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ
فَجَرَى مَجْرَى الْعِتْقِ بِسَبَبَيْنِ، وَخَرَجَ عَمَّا انْفَرَدَ
عِتْقُهُ عن التكفير.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَيُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يَجُوزُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى
يَعْجِزَ فَيُعْتَقَ بَعْدَ الْعَجْزِ وَيُجْزِئُ الْمُعْتَقُ إِلَى
سِنِينَ واحتج في كتاب اليمين مع الشاهد على من أجاز عتق الذمي في الكفارة
بأن الله عز وجل لما ذكر رقبةً في كفارةٍ فقال " مؤمنةٍ " ثم ذكر رقبةً
أخرى في كفارةٍ كانت مؤمنةً لأنهما يجتمعان في أنهما كفارتان ولما رأينا ما
فرض الله عز وجل على المسلمين في أموالهم منقولاً إلى المسلمين لم يجز أن
يخرج من ماله فرضاً عليه فيعتق به ذمياً ويدع مؤمناً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ
الْكَفَّارَةِ لِبَقَائِهِ عَلَى الرِّقِّ وَجَوَازِ
(15/327)
بَيْعِهِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ
إِجْزَائِهِ لِمَنْعِهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ وَسَائِرُ الْكَلَامِ مَعَهُ
فِي كِتَابِ الْمُدَبَّرِ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ
إِذَا عَجَّلَ عِتْقَهُ عَنْ كَفَّارَةٍ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الصفة
معلقة بالزمان، كقوله: إذا هل شَهْرُ كَذَا فَأَنْتَ حرٌّ كَانَتِ
الصِّفَةُ مُعَلَّقَةً بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ
فَأَنْتَ حرٌّ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمُدَبَّرِ،
كَمَا أَنَّ بَيْعَهُ يَجُوزُ كَالْمُدَبَّرِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى فِيهِ
أَنْ يَصِيرَ بِمَجِيءِ الصِّفَةِ حُرًّا عَنْ كَفَّارَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ،
لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا بِسَبَبَيْنِ، وَتَعْجِيلُ عِتْقِهِ قَبْلَ
الصِّفَةِ يَجْعَلُهُ مُعْتَقًا بِسَبَبٍ واحدٍ، فَأَمَّا عِتْقُ أُمِّ
الْوَلَدِ فَلَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْمَنْعِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: التَّحْرِيمُ بَيْعُهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: استحقاقٌ عِتْقِهَا
بِالْوِلَادَةِ يَجْعَلُهَا مُعْتَقَةً بِسَبَبَيْنِ وَأَمَّا عِتْقُ
الْمَكَاتَبِ قَبْلَ عَجْزِهِ فَلَا يُجْزِئُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
إِنْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ نُجُومِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَدَّى
شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ
الظِّهَارِ. فَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ فَأَعْتَقَهُ بَعْدَ
التَّعْجِيزِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى الرِّقِّ فِي جَوَازِ
الْبَيْعِ، وَجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ شقصا لَهُ
مِنْ عَبْدٍ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ، وَكَانَ مُوسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ
جَمِيعُهُ وَأَجْزَأَهُ مِنْهُ قَدَّرَ حِصَّتِهِ، وَفِي إِجْزَاءِ حِصَّةِ
شَرِيكِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
التَّكْفِيرِ فَصَارَ عِتْقًا بِسَبَبَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ عِتْقَهُ تَبَعٌ لِعِتْقِ
حِصَّتِهِ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُهَا فِي الْإِجْزَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ نَوَى عِنْدَ عِتْقِ حِصَّتِهِ
عِتْقَ جَمِيعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قَصَرَ نِيَّتَهُ
عَلَى عِتْقِ حِصَّتِهِ وَحْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِذَا أَكْمَلَ عِتْقَ
رَقَبَةٍ مِنْ عَبْدَيْنِ أَعْتَقَ مِنْ كُلٍّ واحدٍ نِصْفَهُ، وَفِي
إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا.
وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ: إنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ كُلٍّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حُرًّا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهُمَا مَمْلُوكًا
لَمْ يُجْزِهِ، فَأَمَّا إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مَرْهُونًا أَوْ جَانِيًا،
فَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ عِتْقِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ
الْأَقَاوِيلِ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ عِتْقِهِمَا
أَجْزَأَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ثُمَّ خَتَمَ الْمُزَنِيُّ الْبَابَ
بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَنْعِ مِنْ إِجْزَاءِ عِتْقِ
الْكَافِرِ بِمَا مَضَى وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(15/328)
بَابُ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ
الَأَيْمَانِ الْمُتَتَابِعِ وَغَيْرِهِ
(مسألة:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " كُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صومٌ
لَيْسَ بمشروطٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا أَجَزَأهُ
مُتَفَرِّقًا قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {فَعِدَّةٌ
مِنْ أيَّامٍ أُخَر} والعدة أن يأتي بعدد صومٍ لا ولاءٍ وقال في كتاب
الصيام إن صيام كفارة اليمين متتابعٌ والله أعلم (قال المزني) رحمه الله
هذا ألزم له لأن الله عز وجل شرط صوم كفارة المتظاهر متتابعاً وهذا صوم
كفارةٍ مثله كما احتج الشافعي بشرط الله عز وجل رقبة القتل مؤمنةً (قال
المزني) فجعل الشافعي رقبة الظهار مثلها مؤمنةً لأنها كفارةٌ شبيهةٌ
بكفارةٍ فكذلك الكفارة عن ذنبٍِ بالكفارة عن ذنبٍ أشبه منها بقضاء رمضان
الذي ليس بكفارةٍ عن ذنبٍ فتفهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ
الْأَيْمَانِ مُتَرَتِّبٌ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ
الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَة
أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) {المائدة: 89) وَهَلْ يَكُونُ تَتَابُعُ
صَوْمِهَا شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، أَنَّ
التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي صِيَامِهَا، فَإِنْ صَامَ مُتَفَرِّقًا لَمِ
يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مسعودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أيامٍ متتابعاتٍ " وَقِرَاءَةِ أُبِيٍّ " فَصِيَامُ ثَلَاثَة أيامٍ
متتابعةٍ " وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ تَقُومُ مَقَامَ خَبَرِ الْوَاحِدِ
فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، لِأَنَّهَا منقولةٌ عَنِ الرَّسُولِ، وَلِأَنَّهُ
صَوْمُ تَكْفِيرٍ فِيهِ عِتْقٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّتَابُعُ مِنْ
شَرْطِهِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِمَا
ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ
عَلَى مَا قُيِّدَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا حُمِلَ إِطْلَاقُ الْعِتْقِ فِي
كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ عَلَى مَا قُيِّدَ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ مِنَ
الْأَيْمَانِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ إِطْلَاقَ هَذَا الصِّيَامِ عَلَى
مَا قُيِّدَ مِنْ تَتَابُعِهِ فِي الْقَتْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ
قَوْلُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ أَنَّ التَّتَابُعَ اسْتِحْبَابٌ
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَنَّ صَوْمَهُ مُتَفَرِّقًا جَائِزٌ اسْتِدْلَالًا
بِمَا وَرَدَ بِهِ الْقِرَانُ مِنْ إِطْلَاقِ صِيَامِهَا فَاقْتَضَى الظاهر
إجزاء صيامها في حالتي تتابعهما وتفريقها، ولا يجب
(15/329)
حَمْلُهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَمَا أَلْزَمَهُ الْمُزَنِيُّ لِتَرَدُّدِ هَذَا
الْإِطْلَاقِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي أَحَدِهَا وَهُوَ
كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَلَا يَجُبْ فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَضَاءُ
رَمَضَانَ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ فِي التَّتَابُعِ بِأَوْلَى
مِنَ الْآخَرِ فِي التَّفَرُّقِ.
وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ يَتَرَدَّدُ مُوجِبُهُ بَيْنَ إِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ،
فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ فِيهِ التَّتَابُعُ قِيَاسًا عَلَى قَضَاءِ
رَمَضَانَ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيٍّ فَإِنَّمَا
تَجْرِي في وجوب العمل بها مجرى خير الْوَاحِدِ، إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى
التَّنْزِيلِ وَإِلَى سَمَاعِهَا من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَأَمَّا إِذَا أُطْلِقَتْ جَرَتْ مَجْرَى التَّأْوِيلِ دُونَ
التَّنْزِيلِ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَتْ لَحُمِلَتْ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ
وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْقَتْلِ فَلَمَّا
تَغَلَّظَ صَوْمُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ تَغَلَّظَ بِالتَّتَابُعِ،
وَلِمَّا تَخَفَّفَ صَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ
تَخَفَّف بالتفرقة.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الصَّوْمُ مُتَتَابِعًا فَأَفْطَرَ فِيهِ
الصَّائِمُ أَوِ الصَّائِمَةُ مِنْ عذرٍ وَغَيْرِ عذرٍ اسْتَأْنَفَا
الصِّيَامَ إِلَّا الْحَائِضَ فَإِنَّهَا لَا تَسْتَأَنِفُ وَقَالَ فِي
الْقَدِيمِ الْمَرَضُ كَالْحَيْضِ وَقَدْ يَرْتَفِعُ الْحَيْضُ بِالْحَمْلِ
وَغَيْرِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ الْمَرَضُ قَالَ وَلَا صَوْمَ فِيمَا لَا
يَجُوزُ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى
وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ
مُتَتَابِعٌ فِي كَفَّارَةِ قَتْلٍ أَوْ ظِهَارٍ فَيُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ
صِيَامِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ بَاقِيهِ فَلَا يَخْلُو فِطْرُهُ
مِنْ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ
عُذْرٍ أَبْطَلَ بِهِ التَّتَابُعَ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
صيامه، وإن كان أكثر من باقيه، واستأنف صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ،
وَإِنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَالْأَعْذَارُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الْأَبْدَانِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ أَعْذَارِ الزَّمَانِ، فَأَمَّا أَعْذَارُ
الْأَبْدَانِ فَأَرْبَعَةُ أعذارٍ.
أَحَدُهَا: الْحَيْضُ، فَهُوَ منافٍ لِلصَّوْمِ، فَإِذَا دَخَلَتِ
الْمَرْأَةُ فِي صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِكَفَّارَةِ قَتْلٍ
ثُمَّ حَاضَتْ فِي تَضَاعِيفِهَا لَا يَبْطُلُ بِهِ تَتَابُعُ صِيَامِهَا
وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا
لِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إنَّهُ فِطْرٌ بِعُذْرٍ، لَا يُقْدَرُ مَعَهُ عَلَى
الصِّيَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: إنَّ طَرْقُ الْحَيْضِ معتادٌ لَا يَسْلَمُ لَهَا فِي
الْعُرْفِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا حَيْضَ فِيهَا.
وَالْعُذْرُ الثَّانِي: الْمَرَضُ تُفْطِرُ بِهِ فِي تَضَاعِيفِ
صِيَامِهَا، فَهَلْ يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ أَمْ لَا؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
(15/330)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ إنَّهُ
يَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ
كَالْحَيْضِ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ فطر بعذر، لا يمكن مع الصوم.
والقول الثاني: وهو الجديد يجب مع الِاسْتِئْنَافُ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ
التَّتَابُعُ، تَعْلِيلًا بِأَنَّهُ لَا يُعْتَادُ اسْتِمْرَارُهُ.
وَالْعُذْرُ الثَّالِثُ: الْفِطْرُ بِالسَّفَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ،
فَالْفِطْرُ بِالسَّفَرِ أَوْلَى أَنْ يَقْطَعَهُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْفِطْرَ بِالْمَرَضِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ
فَفِي قَطْعِهِ بِالسَّفَرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقْطَعُهُ وَيَجُوزُ مَعَهُ الْبِنَاءُ، لِأَنَّهُ
فِطْرٌ بِعُذْرَيْنِ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِبَاحَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْطَعُ التَّتَابُعَ وَيُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ،
لِأَنَّ فِطْرَهُ بِالْمَرَضِ ضَرُورَةٌ وَبِالسَّفَرِ عَنِ اخْتِيَارٍ،
وَلِذَلِكَ إِذَا مَرِضَ فِي يَوْمٍ كَانَ صَحِيحًا فِي أَوَّلِهِ
أَفْطَرَ، وَلَوْ سَافَرَ فِي يَوْمٍ كَانَ سَقِيمًا فِي أَوَّلِهِ لَمْ
يُفْطِرْ.
وَالْعُذْرُ الرَّابِعُ: أَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ فِي تَضَاعِيفِ صِيَامِهِ
جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ، فَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَبْنِي فَهَذَا
أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَرَضِ يَسْتَأْنِفُ فَفِي الِاسْتِئْنَافِ
بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ كَالْمَرِيضِ.
وَالثَّانِي: يَبْنِي وَلَا يَسْتَأْنِفُ لِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمَرَضِ
يَصِحُّ، وَمَعَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ لَا يَصِحُّ وَأَمَّا أَعْذَارُ
الزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ يَتَخَلَّلَ مُدَّةَ صِيَامِهِ زَمَانٌ لَا يَجُوزُ
صِيَامُهُ مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، فَهَذَا قَاطِعٌ
لِلتَّتَابُعِ وَمُوجِبٌ لِلِاسْتِئْنَافِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ
مُمْكِنٌ، وَهَكَذَا لَوْ تَخَلَّلَ صِيَامَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ قُطِعَ
التَّتَابُعُ، فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ
يَوْمِ النَّحْرِ قُطِعَ التَّتَابُعُ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ
بِصِيَامِهَا فِي الْكَفَّارَةِ فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى فِي
الْقَدِيمِ جَوَازَ صِيَامِهَا فِي كَفَّارَةِ تَمَتُّعِهِ، لِقَوْلِ
اللَّهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة:
196) ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا
لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صِيَامِهَا، وَقَوْلِهِ: " إِنَّهَا أَيَّامُ
أكلٍ وشربٍ وبعالٍ، فَلَا تَصُومُوهَا " فَإِنْ مَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا
لِلْمُتَمَتِّعِ، كَانَ غَيْرُ الْمُتَمَتِّعِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَإِنْ
جَوَّزَ صِيَامَهَا لِلْمُتَمَتِّعِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُصَامَ تَطَوُّعًا
لِغَيْرِ سَبَبٍ، وَفِي جَوَازِ صِيَامِهَا بِسَبَبٍ مُوجِبٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ
كَالْمُتَمَتِّعِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ.
(15/331)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُجْزِئُ
لِأَنَّ صِيَامَ التَّمَتُّعِ مُخْتَصٌّ بِأَيَّامِ الْحَجِّ، وَصِيَامَ
غَيْرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ
التَّتَابُعَ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ لَمْ يَمْنَعِ الْفِطْرُ فِي
تَضَاعِيفِهَا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ التَّتَابُعَ فِيهَا شَرْطٌ مُسْتَحَقٌّ كَانَ
الْفِطْرُ فِيهَا بِالْحَيْضِ قَاطِعًا لِلتَّتَابُعِ قَوْلًا وَاحِدًا،
بِخِلَافِهِ في كفارة القتل، لأن لتحرز مِنْهُ بِصِيَامِهَا فِي أَوَّلِ
الطُّهْرِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّ أَقَلَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ
أَفْطَرَ فِيهَا بِمَرَضٍ، كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَفِطْرِهِ
فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هُجُومِ الْمَرَضِ
غير ممكن، وكذلك يكون حكم فطره السفر وَالْجُنُونِ، كَحُكْمِهِ فِي
كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَوَاءٌ، وَلَا يُجْزِئُ صَوْمُهُ فِي الْكَفَّارَةِ
إِلَّا بِنْيَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَتُجَدَّدُ النِّيَّةُ لِكُلِّ يَوْمٍ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/332)
بَابُ الْوَصِيَّةِ بِكَفَّارَةِ
الْأَيْمَانِ وَالزَّكَاةِ
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ لَزِمَهُ حَقُّ
الْمَسَاكِينِ فِي زكاةٍ أَوْ كفارةٍ يمينٍ أَوْ حَجٍّ فَذَلِكَ كُلُّهُ
مِنْ رَأْسِ مَالِهِ يُحَاصُ بِهِ الْغُرَمَاءُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَا أَخَصُّ الْحُقُوقِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ
فَهُوَ الْكَفَنُ وَمؤونَةُ الدَّفْنِ يُقَدَّمُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنِ اسْتَوْعَبَتْ جَمِيعَ
التَّرِكَةِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ فَلَا
خِلَافَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) {النساء: 11)
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَفْسُ
الْمَيِّتِ معلقةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى " وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ
تَعَالَى مِنَ الزِّكْوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ وَالنُّذُورِ
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ
وَجَبَتْ بِاخْتِيَارِهِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ أَوْ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ كَالزَّكَوَاتِ وَالْحَجِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يَسْقُطُ جَمِيعُهَا بِالْمَوْتِ، وَفَرَّقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ
مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ وَمَا وَجَبَ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَعَكَسَ بَعْضُهُمْ هَذَا
فَأَسْقَطَ بِالْمَوْتِ مَا وَجَبَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُسْقِطْ
بِهِ مَا وَجَبَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ هَذِهِ
الْمَذَاهِبَ كُلَّهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ
مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ بِمَا أَغْنَى
عَنِ الْإِعَادَةِ فإذا تقررت هذه الجملة لم يحل حَالُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ
فِيمَا لَزِمَهُ مِنَ الْحُقُوقِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَهِيَ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ، فَجَمِيعُ
أَرْبَابِهَا أُسْوَةٌ فِي التَّرِكَةِ، إِنِ اتَّسَعَتْ لَهَا قُضِيَ
جَمِيعُهَا، وَإِنْ ضَاقَتْ عَنْهَا تَحَاصُّوهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ
دُيُونِهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ
كَالرَّهْنِ، وَالْعَبْدِ الْجَانِي، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعَيْنَانِ
اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْعَيْنِ الَّتِي تَعَلَّقَ حَقُّهُ
بِهَا وَإِنْ تَعَلَّقَتْ حُقُوقُهُمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكُوا
فِيهَا بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثالث: أن يكون بَعْضُ الْحُقُوقِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ،
وَبَعْضُهَا مُتَعَلِّقًا بالعين
(15/333)
فَيُقَدَّمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ
عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ قَدْ جَمَعَ
بَيْنَ حقين، وتفرد صاحب الذمة بأحدهما.
(فصل:)
الحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَعَلَّقَ جَمِيعُهَا بِالذِّمَّةِ كَالْحَجِّ
وَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ تَلَفِ الْحَالِ وَالنُّذُورِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ، فَإِنِ اتَّسَعَتِ التَّرِكَةُ
لِجَمِيعِهَا قُضِيَتْ، فَإِنْ فَضُلَ عَنْهَا شَيْءٌ كَانَ لِلْوَرَثَةِ
وَإِنِ اسْتَوْعَبَتِ التَّرِكَةَ فَلَا شَيْءَ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ
ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ عَلَى الْحُقُوقِ
بِالْحِصَصِ، فَإِنْ كَانَ مَا خَرَجَ بِقِسْطِ الْحَجِّ يُمْكِنُ أَنْ
يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ من ميقات بلده أخرج عنه وإن لَمْ يُمْكِنْ سَقَطَ
وَتَدَبَّرَ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُقُوقِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ
تَخْيِيرٌ كَالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ إِذَا ضَاقَ
قِسْطُهُ عَنْ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَعَادَ عَلَى مَا
سِوَاهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مُتَعَلِّقَةً
بِالْعَيْنِ، كَالزَّكَاةِ فِي نِصَابٍ مَوْجُودٍ وَالنَّذْرِ فِي عِتْقِ
عَبْدٍ مُعَيَّنٍ، أَوِ الصَّدَقَةِ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ
الْأَعْيَانُ اخْتَصَّتْ كُلُّ عَيْنٍ بِالْحَقِّ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا،
وَإِنِ اتَّفَقَتْ قُسِّطَتْ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهَا بِالذِّمَّةِ
وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهَا بِالْعَيْنِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ
أَحَقُّ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا
فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ.
(فَصْلٌ:)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُجْمَعَ فِي تَرِكَتِهِ حُقُوقُ اللَّهِ
تَعَالَى وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةً
بِالْعَيْنِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُخْتَصَّةً بِالذِّمَّةِ،
فَيُقَدَّمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِالْعَيْنِ عَلَى
حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى
مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً
بِالْعَيْنِ فَيُقَدَّمَ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ
الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالذِّمَّةِ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ
أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى " وَلِأَنَّهَا حُقُوقٌ لَا
تَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ فَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ
السَّاقِطَةِ بِالْإِبْرَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى
حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ:
(15/334)
أَحَدُهُمَا: إنَّ نُفُوسَ الْآدَمِيِّينَ
أَشَحُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى بِحُقُوقِهِ أَسْمَحُ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ
لَهَا أَبْدَالًا وَأَسْقَطَهَا بِالشُّبَهَاتِ.
وَالثَّانِي: إنَّ مُسْتَحِقِّيهَا مُتَعَيَّنُونَ؟ وَحُقُوقُ اللَّهِ
تَعَالَى لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّهَا، وَمَا تَعَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ
أَوْكَدُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إنَّ كِلَا الْحَقَّيْنِ سَوَاءٌ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَتَسَاوِيهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ
فَتُقَسَّطُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْحَقَّيْنِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقُ
الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَيْنِ، فَإِنْ تَغَايَرَتِ اخْتَصَّتْ
كُلُّ عَيْنٍ بِمُسْتَحَقِّهَا، وَإِنِ اتَّفَقَتْ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ
فَقَدْ أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى وجهين:
أحدهما: أن يَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ كَالْمُتَعَلِّقِ
بِالذِّمَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ يُقَدِّمُ فِيهَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ
عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا فِي أيديهم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ فِي كفارةٍ فَإِنْ
حَمَلَ ثُلُثُهُ الْعِتْقَ أُعْتِقَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ
الثُّلُثُ أُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ ماله ".
قال الماوردي: وهذا كما قال، إن مَاتَ وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ لَمْ يَخْلُ
حَالُهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ، فَإِنْ
كانت على الترتيب مثل كفارة وَالظِّهَارِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ
أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ أُخْرِجَتِ
الْكَفَّارَةُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتَمَلَ الْعِتْقَ صَارَ مِنْ
أَهْلِهِ فَأُعْتِقَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَحْتَمِلْ تَرِكَتُهُ
الْعِتْقَ صَارَ مُعْسِرًا بِهِ، فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الصِّيَامِ؟
لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَابَةُ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى
الْإِطْعَامِ وَإِنْ أَوْصَى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ
فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَيَكُونَ مِنْ أَصْلِ
التَّرِكَةِ وَتَكُونَ الْوَصِيَّةُ بِهِ تَأْكِيدًا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ ثُلُثِهِ فَتَصِيرَ
الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَهُوَ بِهَا مرفهٌ عَلَى وَرَثَتِهِ، فإن وفى
العتق من الثلث والأكمل مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْوَصِيَّةَ بِهِ وَلَا
يُسَمِّيَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا مِنَ الثُّلُثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ عَلَى
التَّأْكِيدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ حَمْلًا لِلْوَصِيَّةِ
عَلَى التَّأْثِيرِ وَالتَّرْفِيهِ.
(15/335)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُنْظَرَ
فَإِنْ قَرَنَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ، صَارَ
الْعِتْقُ فِي الثُّلُثِ، وَإِنْ قَرَنَ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ رَأْسِ
الْمَالِ صَارَ الْعِتْقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلَ كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ فِيهَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِهَا أَوْ لَا
يُوصِيَ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَأْسِ
مَالِهِ أَقَلَّ لأمرين مِنَ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ فَإِنْ عَدَلَ
الْوَارِثُ إِلَى أَعْلَاهُمَا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَدَلَ عَنْهُمَا إِلَى
الْعِتْقِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُ لِأَنَّهُ يَقُومُ فِي التَّكْفِيرِ مَقَامَ
الْمَوْرُوثِ فَاسْتَحَقَّ التَّخْيِيرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي
وِلَايَةِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِتْقَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَانِ
الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَا
أَوْجَبَهُ التَّخْيِيرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزِ الْعِتْقُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ
لِجَمِيعِهَا وَلَهُ إِسْقَاطُ وُجُوبِهَا بِإِخْرَاجِ أَحَدِهَا أَجْزَأَ،
وَإِنْ وَصَّى بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ مِمَّا
يُكَفِّرُ بِهِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُوصِ فِيمَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ،
فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ إِذْكَارًا أَوْ
تَوْكِيدًا، وَإِنْ عَيَّنَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْهُ لَمْ يَخْلُ مَا
عَيَّنَهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعَيِّنَ الْإِطْعَامَ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ فَيُكَفِّرُ
عَنْهُ بِالْإِطْعَامِ وَيَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ
يَجْعَلَهُ فِي الثُّلُثِ فَيَصِيرَ بِالْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِالْكِسْوَةِ وَهُوَ فَوْقَ
الْإِطْعَامِ وَدُونَ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ
الْإِطْعَامِ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَلْ يَصِيرُ قِدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ
بِذَلِكَ مِنَ الثُّلُثِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ نَذْكُرُهُمَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِالْعِتْقِ فَيَكُونَ مَا زَادَ
عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مِنَ الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ. وَفِي قَدْرِ
قِيمَةِ الْإِطْعَامِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي الثُّلُثِ أَيْضًا، فَيَصِيرُ جَمِيعُ قِيمَةِ
الْعِتْقِ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنِ امْتَنَعَ لَهُ الثُّلُثُ أُعْتِقَ
عَنْهُ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْهُ الثُّلُثُ بطلب الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ،
وَأُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَيِّمَ
قِيمَةَ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ الثُّلُثُ مِنَ الْعِتْقِ
لِيَسْتَكْمِلَ بِهِ جَمِيعَ الْعِتْقِ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالْمُعَوَّلُ مِنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ يَجْعَلُ فِي الثُّلُثِ
مِنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْإِطْعَامِ، وَيَكُونُ
قَدْرُ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ
(15/336)
مُسْتَحَقًّا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ
لِاسْتِحْقَاقِ إِخْرَاجِهِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، فَإِذَا ضَاقَ
الثُّلُثُ عَنْ قِيمَةِ الْعِتْقِ، وَكَانَ فِي قِيمَةِ الْإِطْعَامِ مَا
يَسْتَكْمِلُ بِهِ قِيمَةَ الْعِتْقِ أُعْتِقَ عَنْهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ
قِيمَةِ الْعِتْقِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَعُدِلَ عَنْهُ
إِلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ فَرْضُهُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ وَيَكُونُ
مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لِأَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصَايَا دُونَ
الْفُرُوضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(15/337)
بَابُ كَفَّارَةِ يَمِينِ الْعَبْدِ بَعْدَ
أَنْ يُعْتَقَ
(مسألة:)
قال الشافعي: " لَا يُجْزِئُ الْعَبْدَ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَّا الصَّوْمُ
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَالًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا لم يملكه
السَّيِّدُ مَالًا أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْمَالِ وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ
الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْمَالِ وَإِنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ
مَالًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِهِ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ
السَّيِّدُ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ سَوَاءٌ حُكِمَ لَهُ بِمِلْكِ الْمَالِ
أَوْ لَمْ يُحْكَمْ لِأَنَّهُ محجورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ وَإِنْ
أَذِنَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُ وَإِنْ ملك وَبِهِ قَالَ فِي
الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَقَدْ
مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي غير موضع.
فإن قيل: بالجديد أن لَا يَمْلِكَ لَمْ يُكَفِّرْ إِلَّا بِالصِّيَامِ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِإِطْعَامٍ وَلَا كِسْوَةٍ وَلَا عِتْقٍ،
وَإِنْ قِيلَ بِالْقَدِيمِ إنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ جَازَ أَنْ
يُكَفِّرَ بِالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ مَعَ
مِلْكِهِ، وَفِي جَوَازِ تَكْفِيرِهِ بِالْعِتْقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِحْقَاقِ
الْوَلَاءِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَلَا يَثْبُتُ
لَهُ بِهِ وِلَايَةٌ وَلَا إِرْثٌ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ عَلَى
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِي وَلَائِهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: لِلسَّيِّدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُهُ مِنْ
عِتْقٍ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ لَهُ أَوْ يَمُوتُ عَلَى رِقِّهِ، فَيَكُونُ
لِسَيِّدِهِ، وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
وَالْمُعْتَقِ بِالصِّفَةِ فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ
الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ
إِلَّا بِالصِّيَامِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فَفِي جَوَازِ
تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ قَوْلَانِ:
(15/338)
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْعَبْدِ وَلَيْسَ
بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ إِلَّا بِالصِّيَامِ،
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ، لِأَنَّ مِلْكَ
السَّيِّدِ لِمَالِ مُكَاتَبِهِ ضَعِيفٌ، فَضَعُفَ إِذْنِهِ مَعَهُ،
وَمِلْكَهُ لِمَالِ عَبْدِهِ قَوِيٌّ فَقَوِيَ إذنه معه.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَهُ بِإِذْنِهِ وَلَوْ صَامَ فِي أَيِّ حالٍ
أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ
الصِّيَامُ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا أَضَرَّ
الصِّيَامُ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فِي عَقْدِ يَمِينِهِ وَحِنْثِهِ مِنْ
أَرْبَعَةِ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَيَحْنَثَ بِإِذْنِهِ
فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ عَنِ الْكَفَّارَةِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ
مُوَجَبِي الْكَفَّارَةِ عَنْ إِذْنِهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَيَحْنَثَ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ
سَيِّدِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي خِدْمَتِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَيَحْنَثَ
بِإِذْنِهِ، فَلِلْعَبْدِ أَنْ يَصُومَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، لِأَنَّ وُجُوبَ
الصِّيَامِ بِإِذْنِهِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِإِذْنِهِ وَيَحْنَثَ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ فَفِي جَوَازِ صِيَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ يَمِينِهِ بِإِذْنِهِ فَصَارَ مَا
أَفْضَى إِلَيْهِ مِنَ الْحِنْثِ دَاخِلًا فِي حُكْمِ إِذْنِهِ، كَمَا لَوْ
أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ كَانَ إِذْنًا لَهُ بِالنَّفَقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِهِ
لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الْحِنْثِ، فَلَمْ يَجُزْ
أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِذْنِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّوْمِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ على ما
فصلناه لم يحل مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ فِيهِ مُؤَثِّرًا فِي الضَّعْفِ
كَالصَّيْفِ أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيهِ كَالشِّتَاءِ، فَإِنْ كَانَ
الزَّمَانُ صَائِفًا يُؤَثِّرُ فِي ضَعْفِ الصَّائِمِ فَهُوَ الْمَمْنُوعُ
مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ
شَاتِيًا لَا يُؤَثِّرُ صِيَامُهُ فِي ضَعْفِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي صِيَامِهِ
لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي عَمَلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُهُ وَلِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ،
لِأَنَّهُ وَإِنْ قَلَّ تَأْثِيرُهُ فِي إِضْعَافِهِ، فَالْفِطْرُ أَنْشَطُ
لِعَمَلِهِ وَأَبْلَغُ فِي تَوَفُّرِهِ، فَإِنْ خَالَفَ الْعَبْدُ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي نُهِيَ عَنِ الصِّيَامِ
(15/339)
إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَصَامَ
بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يَقِفُ
انْعِقَادُهَا عَلَى إِذْنِهِ فَصَحَّتْ، وَإِنْ جَازَ لِلسَّيِّدِ
مَنْعُهُ مِنْهَا كَالْحَجِّ.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَنِثَ ثُمَّ أَعْتَقَ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ حُرٍّ
أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مالكٌ وَلَوْ صَامَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ
حُكْمَهُ يَوْمَ حَنِثَ حُكْمُ الصِّيَامِ (قَالَ المزني) رحمه الله قد مضت
الحجة أن الحكم يوم يكفر لا يوم يحنث كما قال إن حكمه في الصلاة حين يصلي
كما يمكنه لا حين وجبت عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ حَلَفَ فِي حَالِ رِقِّهِ
ثُمَّ حَنِثَ وَأُعْتِقَ فَلَا يَخْلُو حَالُ حِنْثِهِ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ.
فَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَهُوَ فِي الْكَفَّارَةِ كَالْحُرِّ
لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وَهُوَ حُرٌّ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَفَّرَ
بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَفَّرَ بِالصِّيَامِ، فَإِنْ عَدَلَ
عَنْهُ إِلَى الْمَالِ أَجْزَأَهُ سَوَاءٌ كَانَ إِطْعَامًا أَوْ عِتْقًا،
وَإِنْ حَنِثَ فِي حَالِ رِقِّهِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ وَلَمْ يُكَفِّرْ
حَتَّى أُعْتِقَ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ مُعْسِرًا كَفَّرَ
بِالصِّيَامِ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ، مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ
كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ
حَالُ الْأَدَاءِ، أَوْ أَغْلَظُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَالِ الْوُجُوبِ أَوْ
حَالِ الْأَدَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ إِذَا قِيلَ:
إِنَّ الْمُعْتَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ حَالُ الْوُجُوبِ.
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الصِّيَامِ إِلَى الْمَالِ مِنْ
إِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْعَبْدَ
يَجُوزُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ
يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ، كَانَ بَعْدَ عِتْقِهِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ،
وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ
عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ، فَهَلْ
يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ عِنْدَ تَكْفِيرِهِ حُرٌّ فَأَشْبَهَ
الْحُرَّ الْمُعْسِرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّكْفِيرَ
بِالْمَالِ عِنْدَ الْوُجُوبِ لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلَافِ الْحُرِّ
الْمُعْسِرِ الَّذِي لَوْ كَفَّرَ بِالْمَالِ أَجْزَأَهُ فَلَزِمَهُ
اسْتِصْحَابُ هَذَا الْحُكْمِ بَعْدَ عِتْقِهِ لِاسْتِقْرَارِ وُجُوبِهِ
فِي حَالِ رِقِّهِ فَصَارَ فِي مَحْصُولِ تَكْفِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ.
وَالثَّانِي: لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ.
(15/340)
وَالثَّالِثُ: إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْ بالصيام. مسألة قال الشافعي: " وَلَوْ
وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَنِصْفُهُ عبدٌ وَنِصْفُهُ حرٌّ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ
مالٌ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ
يُكَفِّرَ مِمَّا فِي يديه لنفسه (قال المزني) رحمه الله إنما المال لنصفه
الحر لا يملك منه النصف العبد شيئاً فكيف يكفر بالمال نصف عبدٍ لا يملك منه
شيئاً فأحق بقوله أنه كرجلٍ موسرٍ بنصف الكفارة فليس عليه إلا الصوم وبالله
التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الْمُزَنِيُّ: إِذَا حَنِثَ عَنْ نِصْفِهِ
حُرٍّ وَنِصْفِهِ عَبْدٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِنِصْفِهِ
الْحُرِّ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفَرْضُهُ
التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَامَ بِالْإِعْسَارِ مَعَ
كَمَالِ حُرِّيَّتِهِ كَانَ صِيَامُهُ مَعَ تَبْعِيضِ الْحَرِيَّةِ
أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ مُوسِرًا فَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: كَفَّرَ بِالْمَالِ فَقَلَبَ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ
عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ فِي الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ يَغْلِبُ حُكْمُ
الرِّقِّ عَلَى حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ
وَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالشَّهَادَةِ. فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي
كَفَّارَتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ إنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْمَالِ
عَلَى قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ وَعَلَيْهِ
خَرَّجَ الْجَوَابَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ إِذَا مُلِّكَ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ الْمُزَنِيُّ وَسَاعَدَهُ غَيْرُهُ مِنْ
أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالصِّيَامِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ
تَكْفِيرِهِ بِالْمَالِ مُخَالِفٌ لِأُصُولِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِيمَا عَدَا الْكَفَّارَةِ حُكْمُ
الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي
الْكَفَّارَةِ.
وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّ نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ
إِذَا كَانَ بَعْضُهُ حُرًّا مَمْلُوكًا كَنُقْصَانِ التَّكْفِيرِ، إِذَا
وُجِدَ بَعْضُ الْإِطْعَامِ وَعُدِمَ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
عَجْزُهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ
كَعَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الْكَفَّارَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ
جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، إنَّهُ لَا يُكَفِّرُ إِلَّا بِالْمَالِ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ، مَعًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ
وَإِنْ غَلَبَ حُكْمُ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فِي غَيْرِ
الْكَفَّارَةِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامٌ) {المائدة: 89) وَهَذَا واحد فَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ،
وَلِأَنَّ تَكْفِيرَ الْحُرِّ الْمُوسِرِ بِالْمَالِ وَتَكْفِيرَ الْعَبْدِ
الْقِنِّ بِالصَّوْمِ، فَلَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ تَبَعَّضَتْ فِيهِ
الْحُرِّيَّةُ وَالرِّقُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوالٍ، إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ
حُكْمُ الْحَرِيَّةِ مِنْ تَكْفِيرٍ بِالْمَالِ، أَوْ يَغْلِبَ حُكْمُ
الرِّقِّ فِي تَكْفِيرِه
(15/341)
بِالصِّيَامِ، أَوْ بِبَعْضِ تَكْفِيرِهِ
بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ بِحَسْبِ مَا فِيهِ مِنْ حُرِّيَّةٍ وَرِقٍّ،
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى إِبْطَالِ التَّبْعِيضِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا
تَغْلِيبُ أَحَدِهَا فَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَرِيَّةِ عَلَى الرِّقِّ فِي
التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ الرِّقِّ عَلَى
الْحُرِّيَّةِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا تَغَلَّبَ حُرِّيَّةُ بَعْضِهِ فِي
السَّرَايَةِ إِلَى عِتْقِ جَمِيعِهِ تَغَلَّبَ حُكْمُهَا فِي تَكْفِيرِهِ.
وَالثَّانِي: إنَّ التَّكْفِيرَ بِالْمَالِ أَصْلٌ، وَبِالصِّيَامِ بَدَلٌ،
وَلِذَلِكَ كَانَ لِمَنْ فَرْضُهُ الصِّيَامُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْمَالِ
وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ فَرْضُهُ الْمَالُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصِّيَامِ
فَكَانَ تَغْلِيبُ مَا أَوْجَبَ الْأَصْلُ مِنَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ
تَغْلِيبِ مَا أَوْجَبَ الْبَدَلُ مِنَ الصِّيَامِ، أَمَّا تَغْلِيبُ
الرِّقِّ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلِأَنَّ تَبْعِيضَ
الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ أَغْلَظِ حُكْمَيْهِ،
فَكَانَ أَغْلَظُهُمَا مِنَ الْكَفَّارَةِ حُكْمَ الْجِزْيَةِ،
وَأَغْلَظُهُمَا فِيمَا عَدَاهَا حُكْمَ الرِّقِّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ أَنَّ
نُقْصَانَ الْمُكَفِّرِ كَنُقْصَانِ الْكَفَّارَةِ، فَهُوَ أَنَّ نُقْصَانَ
الْكَفَّارَةِ مُفْضٍ إِلَى التَّبْعِيضِ فَسَقَطَ، وَنُقْصَانَ
الْمُكَفِّرِ مُوجِبٌ لِكَمَالِ الْكَفَّارَةِ، فَافْتَرَقَا في النقض
لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمُوجَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ،
وَبِاللَّهِ التوفيق.
(15/342)
باب جامع الأيمان
(مسألة:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَإِذَا كَانَ فِي دارٍ فَحَلَفَ
أَنْ لَا يَسْكُنَهَا أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ مَكَانَهُ وَإِنْ تَخَلَّفَ
سَاعَةً يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ سَاكِنًا فِي
دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُسْكِنَهَا فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا
عَقِيبَ يَمِينِهِ بَرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ
مَعَ القُدْرَة عَلَيْهِ حَنِثَ، سَوَاءٌ قَلَّ مُقَامُهُ، أَوْ كَثُرَ
وَشَرَعَ فِي إِخْرَاجِ رِجْلِهِ، أَوْ لَمْ يَشْرَعْ، وَقَالَ مَالِكٌ:
إِنْ أَقَامَ بَعْدَ يَمِينِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً حَنِثَ، وَإِنْ أَقَامَ
أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى إِلَّا بِاسْتِكْمَالِ هَذَا الزَّمَانِ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَقَامَ لِنَقْلِ رَحْلِهِ وَجَمْعِ
مَتَاعِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ لِغَيْرِ ذَلِكَ حَنِثَ، لِأَنَّهُ
بِإِخْرَاجِ مَتَاعِهِ مُفَارِقٌ لِحُكْمِ السُّكْنَى، وَقَالَ زُفَرُ بْنُ
الْهُذَيْلِ: قَدْ حَنِثَ بِنَفْسِ الْيَمِينِ، وَلَا يَبَرُّ أَنْ
يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ، لِأَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى السُّكْنَى قَبْلَ
مُفَارَقَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمُقَامِ فِيهَا سُكْنَى
لِاسْتِصْحَابِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَالِهِ فَحَنِثَ لِانْطِلَاقِ اسْمِ
السَّكَنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ،
وَإِذَا بَادَرَ بِالْخُرُوجِ فَهُوَ تَارِكٌ وَلَا يَكُونُ تَرْكُ
الْفِعْلِ جَارِيًا مَجْرَى الْفِعْلِ، لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، فَيَبْطُلُ
بِهِ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ يُقَالُ لِمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ: قَدْ
وَافَقْتُمَا أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا أُقِيمُ فِي هَذِهِ الدَّارِ
فَلَبِثَ فِيهَا بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ كَذَلِكَ، إِذَا حَلَفَ لَا
يُسْكِنُهَا، لِأَنَّ الْمُقَامَ فِيهَا سُكْنَى وَالسُّكْنَى فِيهَا
مقامٌ، وَيَتَحَرَّرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا فَيُقَالُ: إِنَّ مَا
حَنِثَ بِهِ فِي الْمُقَامِ حَنِثَ بِهِ فِي السُّكْنَى قِيَاسًا عَلَى
الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَعَ مَالِكٍ وَعَلَى مَنْ أَمْسَكَ عَنْ جَمِيعِ
رَحْلِهِ وَقِيَاسُهُ مَعَ أبي حنيفة.
(مسألة:)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَيَخْرُجُ بِبَدَنِهِ مُتَحَوِّلًا وَلَا
يَضُرُّهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعِهِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ
لِأَنَّ ذَلِكَ ليس يسكنى ".
(15/343)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا بِمَاذَا
يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَبَرُّ إِذَا انْتَقَلَ
مِنْهَا بِبَدَنِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مذهب مالك إنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ
بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ مَالِهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ لَا يَبَرُّ، حَتَّى
يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ وَمَالِهِ؟ فَمَتَّى خَلَّفَ أَحَدَهَا
حَنِثَ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إنَّ بِرَّهُ
مُعْتَبَرٌ بِنَقْلِ بَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يَنْقُلَ مِنْ مَالِهِ
مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَإِنْ خَلَّفَ فِيهَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي
سُكْنَاهَا بَرَّ، وَإِنْ خلف ما يستقل به في سكانها حَنِثَ،
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي أَنَّ الْبِرَّ لَا
يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ رَجُلًا بِبَدَنِهِ لَمْ يُنْسَبْ
إِلَى السُّكْنَى عِنْدَهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ عرف السكنى، فصار العيال
والمال من جملة السكنى.
وَالثَّانِي: إنَّ مَنْ خَلَّفَ عِيَالَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِهِ، وَخَرَجَ
مِنْهَا إِلَى دُكَّانِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ لَا يُشَارُ بِسُكْنَاهُ إِلَى
مَكَانِهِ وَيُشَارُ بِهِ إِلَى دَارِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِيَالِهِ
وَمَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {رَبَّنَا إِنِّي أسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ)
{إبراهيم: 37) فَكَانَ بِالشَّامِ وَوَلَدُهُ وَأُمُّهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ
يَخْرُجْ عَنْ سُكْنَى الشَّامِ وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ فِي غَيْرِهَا.
وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا بَعْدَ الِانْتِقَالِ
عَنْهَا بِبَدَنِهِ، لِبَقَاءِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ لَوَجَبَ إِذَا سَافَرَ
بِبَدَنِهِ أن يكون كالمقيم في المنع من قصره وفطره، فَلَمَّا أُجْرِي
عَلَيْهِ حُكْمُ السَّفَرِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ
الِانْتِقَالِ، وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
لَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ كَانَ كَالْمُسْتَوْطِنِ لَهَا فِي سُقُوطِ الدَّمِ
عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ وَمَالُهُ فِي غَيْرِهَا فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ أَنَا مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَكُتُبِي بمكة
أفتراني ساكن بِمَكَّةَ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ يَمِينَهُ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ
الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالضَّيْفِ فَهُوَ أَنَّهُ
نَزَلَهَا ضَيْفًا، فَلَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى، وَإِنْ
كَانَ مَعَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ السُّكْنَى
فَكَانَ اخْتِلَافُ الِاسْمَيْنِ
(15/344)
لِاخْتِلَافِ الْمَقْصِدَيْنِ مُوجِبًا
لِاخْتِلَافِ الْحُكْمَيْنِ، وَبِمَثَلِهِ يُجَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمُ
الثَّانِي مِنَ الْخَارِجِ إِلَى دُكَّانِهِ وَبُسْتَانِهِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شَرْطِ بِرِّهِ أَنَّهُ يَكُونُ
مُعْتَبِرًا بِتَعْجِيلِ خُرُوجِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ
أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ أَوْ مَمْنُوعًا، فَإِنْ كَانَ
مَمْنُوعًا مِنَ الْخُرُوجِ، إِمَّا لِحَبْسِهِ فِي دَارِهِ الْمُغْلَقِ
أَبْوَابُهُ، أَوْ لِتَقْيِيدِهِ وَإِمْسَاكِهِ، أَوْ لِزَمَانَتِهِ،
وَهُوَ لَا يَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهَا مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ مَا كَانَ
بَاقِيًا عَلَى عَجْزِهِ وَمَنْعِهِ، لِأَنَّ وُجُودَ الْمُكْنَةِ شَرْطٌ
فِي الْأَفْعَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَخَرَّجَ فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلًا آخَرَ إنَّهُ يَحْنَثُ مِنَ اخْتِلَافِ
قَوْلَيْهِ فِي حَنْثِ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا عَلَّلْنَا.
وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ فَتَوَقَّفَ لِلُبْسِ ثِيَابِهِ
الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهُ فِي الْخُرُوجِ بِهَا لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ
تَوَقَّفَ لِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَقَّفَ
لِطَهَارَةٍ أَوْ صَلَاةٍ حَنِثَ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ
فِي غَيْرِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَيَعْلَمُ
أَنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْهَا فَاتَتْهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالصَّلَاةِ
فِيهَا، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ قَبْلَ
الصَّلَاةِ فَكَانَ أَوْكَدَ مِنْ مَنَعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَوْ
تَوَقَّفَ فِيهَا لِغَلْقِ أَبْوَابِهِ، أَوْ إِحْرَازِ مَا يَخَافُ
عَلَيْهِ تَلَفَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى
اسْتِنَابَةِ أَمِينٍ فِيهِ حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
الِاسْتِنَابَةِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ
أَخْذَهُ فِي ذَلِكَ شُرُوعٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ
إنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ منعٌ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ، وَإِنْ قَدَرَ
عَلَى الْخُرُوجِ وَارْتَفَعَتْ عَوَارِضُ الْمَنْعِ حَنِثَ بِقَلِيلِ
الْمُقَامِ وَكَثِيرِهِ فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِهِ بَابَانِ يَقْرُبُ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَيَبْعُدُ مِنَ الْآخَرِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْخُرُوجِ
مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَلَا يَحْنَثُ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَبْعَدِهِمَا،
لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ وَإِنْ بَعُدَ مَسْلَكُهُ، فَإِنْ صَعِدَ
إِلَى عُلُوِّهَا لِلْخُرُوجِ مِنْ سَطْحِهِمَا، وَلَهُ بابٌ يَخْرُجُ
مِنْهُ حَنِثَ، لِأَنَّهُ بِالصُّعُودِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَلَوْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَابِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِالصُّعُودِ
لِلْخُرُوجِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا لِنَقْلِ عِيَالِهِ، أَوْ
مَالِهِ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي ذَلِكَ، أَوْ لَمْ
يَقْدِرْ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الْخُرُوجِ لِنَقْلِ
أَهْلٍ، أَوْ رحل سَاكِنًا، فَإِنْ لَبِثَ بَعْدَ الْعَوْدِ لِغَيْرِ
نَقْلِ أَهْلٍ أَوْ رَحْلٍ حَنِثَ، قَلَّ زَمَانُ لُبْثِهِ أَوْ كَثُرَ،
وَيُرَاعَى فِي لُبْثِهِ لِنَقْلِ الرَّحْلِ وَالْأَهْلِ مَا جَرَى بِهِ
الْعُرْفُ مِنْ غَيْرِ إِرْهَاقٍ، وَلَا اسْتِعْجَالٍ.
فَإِنْ قَالَ: " أَرَدْتُ بِيَمِينِي لَا سَكَنْتُ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا
" فَإِنْ كَانَتْ بِاللَّهِ، حُمِلَتْ عَلَى مَا نَوَاهُ ظَاهِرًا
وَبَاطِنًا، لِأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِحَقِّ اللَّهِ الَّذِي يَحْمِلُ
فِيهِ عَلَى نِيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ، أَوْ عَتَاقٍ حُمِلَ
عَلَى التَّأْبِيدِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ خَصْمٍ فِيهِ، وَكَانَ
فِي الْبَاطِنِ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَمَحْمُولًا عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَوْ قَالَ " لَا سَكَنْتُهَا يَوْمًا،
كَانَتْ مُعَلَّقَةً إِلَى مِثْلِ وَقْتِهِ مِنْ غَدِهِ، وَلَوْ قَالَ "
لَا سَكَنتهَا يَوْمِي هَذَا " انْقَضَتْ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ
(15/345)
من يومه، ليكون في الأولة مُسْتَوْفِيًا
لِلْيَوْمِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مُسْتَوْفِيًا لِبَقِيَّةِ الْيَوْمِ:
لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ وَهُوَ ساكنٌ فَإِنْ
أَقَامَا جَمِيعًا سَاعَةً يُمْكِنُهُ التَّحْوِيلُ عَنْهُ حَنِثَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمُسَاكَنَةُ فَهِيَ الْمُفَاعَلَةُ
بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَأَكْثَرَ، فَإِذَا حَلَفَ " لَا سَاكَنْتُ فُلَانًا "
فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَا فِي مَسْكَنٍ واحدٍ،
وَبَرَّ الْحَالِفُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ،
وَبَقِيَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، بَرَّ وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ، وَبَقِيَ الْحَالِفُ بَرَّ. وَإِنْ خَرَجَا مَعًا كَانَ أَوْكَدَ
فِي الْبِرِّ، وَإِنْ بَقِيَا فِيهَا مَعًا، حَنِثَ الْحَالِفُ، وَإِنْ
قَالَ " وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ مَعَ زَيْدٍ " فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ أَحْسَبُهُ " أَبَا الْفَيَّاضِ " إِلَى
أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الْحَالِفِ وَحْدَهُ،
فَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ بَرَّ، وَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ،
لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَكَذَا لَوْ
قَالَ: " وَاللَّهِ لَا سَكَنَ مَعِي زَيْدٌ كَانَ تَعَلُّقُ الْبِرِّ
بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ خَرَجَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ بَرَّ، وَإِنْ خَرَجَ الْحَالِفُ لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّهُ أَضَافَ
الْفِعْلَ إِلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى نَفْسِهِ وَفَرْقٌ بَيْنَ
هَذَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسَاكَنَةِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ
فَهُوَ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبَرُّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ
الثَّلَاثِ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعَهَا مَعْقُودَةٌ
عَلَى الْإِجْمَاعِ فِيهَا، وَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا يَزُولُ
الِاجْتِمَاعُ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْبِرُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا سَكَنْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَرَّ بِخُرُوجِ
أَحَدِهِمَا.
وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا سَاكَنْتُ زَيْدًا، وَلَا عَمْرًا، لَمْ
يَبَرَّ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْلُوفٌ
عَلَيْهِ، وَكَانَ بَرُّهُ بِخُرُوجِهِ دُونَهُمَا، أَوْ بِخُرُوجِهِمَا
مَعًا دُونَهُ، وَفِي الأولى يبر بخروجه، أو بخروج أحدهما لأنه يَمِينَهُ
فِي الْأُولَى مَعْقُودَةٌ عَلَى الِاجْتِمَاعِ، وَفِي الثانية معقودة على
الإفراد. والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " ولو كانا في بيتين فجعل بينهما حداً وَلِكُلِّ واحدٍ مِنَ
الْحُجْرَتَينِ بابٌ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُسَاكَنَةٍ وَإِنْ كَانَا فِي
دارٍ واحدةٍ وَالْمُسَاكَنَةُ أَنْ يَكُونَا فِي بيتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ
حُجْرَتُهُمَا واحدةٌ وَمَدْخَلُهُمَا واحدٌ وَإِذَا افْتَرَقَ
الْبَيْتَانِ أَوِ الْحُجْرَتَانِ فَلَيْسَتْ بمساكنةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
لَهُ نيةٌ فهو على ما نوى، فإن قيل ما الحجة في أن النقلة ببدنه دون متاعه
وأهله وماله؟ قيل أرأيت إذا سافر أيكون من أهل السفر فيقصر؟ أو رأيت لو
انقطع إلى مكة ببدنه أيكون من حاضري المسجد الحرام الذين إن تمتعوا لم يكن
عليهم دمٌ؟
(15/346)
فإذا قال نعم فإنما النقلة والحكم على
البدن لا على مالٍ وأهلٍ وعيالٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا
يُسَاكِنُهُ، وَقَدْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُمَا
فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ، أَوْ غَيْرَ
مُجْتَمِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مُجْتَمِعَيْنِ، وَكَانَا
خَارِجَيْنِ، أَوْ أَحَدَهُمَا فَقُسِّمَتِ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بِحَائِطٍ
بُنِيَ فِي وَسَطِهَا، وَسَكَنَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ
الْجَانِبَيْنِ بِبَابٍ مُفْرَدٍ، يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، بَرَّ فِي
يَمِينِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُسَاكَنَةً، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَاوِرَةٌ،
وَإِنْ كَانَا فِي وَقْتِ الْيَمِينِ مُجْتَمِعَيْنِ فَشَرَعَا فِي بِنَاءِ
حائط بينهما، حنث، لأنها قَبْلَ كَمَالِ مَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا
مُتَسَاكِنَانِ وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ، فَسَكَنَ أَحَدَهُمَا
فِي الْحُجْرَةِ، وَالْآخِرُ فِي الدَّارِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بَابُ
الْحُجْرَةِ إِلَى الدَّارِ، حَنِثَ لِأَنَّهُمَا مُتَسَاكِنَانِ، وَإِنِ
انْفَرَدَتِ الْحُجْرَةُ بِبَابٍ غَيْرِ بَابِ الدَّارِ نُظِرَ، فَإِنْ
كَانَ بَابُهَا إِلَى الدَّارِ مَسْدُودًا بَرَّ، وَإِنْ كَانَ بَابُهَا
إِلَى الدَّارِ مَفْتُوحًا حَنِثَ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَتَانِ
فَسَكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِحْدَى الْحُجْرَتَيْنِ، فَإِنْ
لَمْ تَكُنِ الدَّارُ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَرَّ، وَإِنْ كَانَ بَابُ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى الدَّارِ صَارَتْ كَالْخَانِ الَّذِي فِيهِ
حُجَرٌ فَلَا يَحْنَثُ إِذَا سَكَنَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي حُجْرَةٍ
مِنَ الْخَانِ، كَذَلِكَ الدَّارُ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ مَعَ
أَحَدِهِمَا، فَهُوَ عَلَى مَا مَضَى، إِذَا كَانَ فِي الدَّارِ حُجْرَةٌ
وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ حَتَّى تَنْفَرِدَ الْحُجْرَةُ عَنِ
الدَّارِ بِبَابٍ لِلدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ قَطْعِ مَا
بَيْنَ الْحُجْرَةِ وَالدَّارِ.
وَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ فَاخْتَصَّ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا
بِبَيْتٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ صَغِيرَةً، حَنِثَ لِأَنَّهَا
مَسْكَنٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ وَاسِعَةً فَإِنِ اعْتَزَلَا الدَّارَ،
وَتَفَرَّدَا بِالْبَابَيْنِ مِنْهَا بِبَابٍ يَغْلِقُ كُلُّ واحدٍ
مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، بَرَّ وَصَارَا كَسَاكِنَيْ بَيْتَيْنِ مِنْ
خَانٍ جَامِعٍ، فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ
مِنْهُ، كَذَلِكَ هَذِهِ الدَّارُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلَا الدَّارَ،
حَنِثَ وَلَوْ كان الدَّارُ وَاحِدَةً، فَسَكَنَ أَحَدُهُمَا فِي
عُلُوِّهَا، وَسَكَنَ الْآخَرُ فِي سِفْلِهَا، فَإِنْ كَانَ مَدْخَلُهُمَا
وَمَخْرَجُهُمَا وَاحِدًا حَنِثَ، وَإِنِ انْفَرَدَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا
بِمَدْخَلٍ وَمَخْرَجٍ، وَانْقَطَعَ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسِّفْلِ بر.
(فصل:)
قال الشافعي: " إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى
" يُرِيدُ بِذَلِكَ إنَّ مَا بَيَّنَهُ مِنَ اعْتِزَالِهِمَا فِي
حُجْرَتَيْنِ، أَوْ بَيْتَيْنِ مِنْ دارٍ، إذا كان يَمِينُهُ مُطْلَقَةً
عَلَى الْمُسَاكَنَةِ، فَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِنِيَّةِ أَلَّا
يُجَاوِرَهُ فِي مَوْضِعٍ، أَوْ فِي مَحَلَّةٍ، أَوْ فِي قَبِيلَةٍ، أَوْ
فِي بلدٍ كَانَتْ يَمِينُهُ مَحْمُولَةً عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَا يَبَرُّ
بِانْفِرَادِهِمَا فِي حُجْرَتَيْنِ مِنْ دارٍ، ثُمَّ ذَكَّرَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ
بِالْبَدَنِ دُونَ الْعِيَالِ، وَالْمَالِ مُزِيلٌ لِحُكْمِ السكنى،
والمساكنة وقد ذكرناه.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَرَقي فَوْقَهَا لَمْ يحنث
حتى يدخل بيتاً منها أو عرضتها ".
(15/347)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا
قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَرَقي عَلَى سَطْحِهَا
وَالسَّطْح غَيْرُ مُحْجِزٍ لَمْ يَحْنَثْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ احْتِجَاجًا، بِأَنَّهُ مِنْ
حُقُوقِهَا، وَإِنَّ سُورَهَا مُحِيطٌ بِهِ فَأَشْبَهَ قَرَارَهَا.
وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا: إنَّ السَّطْحَ حَاجِزٌ فَأَشْبَهَ
سُورَهَا، فَصَارَ الرَّاقِي عَلَيْهِ كَالرَّاقِي عَلَى السُّورِ، وَقَدْ
وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، بِارْتِقَائِهِ عَلَى السُّورِ،
كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بِارْتِقَائِهِ عَلَى السَّطْحِ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ لِمَا فِيهَا، يقطع سارقه، وما
فوق السطح ليس بمحرز، وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنْ
حُكْمِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ وَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ الدَّارِ
فِي الْحِنْثِ.
وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِهَا يَبْطُلُ بِارْتِقَائِهِ
عَلَى سُورِهَا.
وَاسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ مُحِيطٌ بِهَا كَالسُّورِ فَصَحِيحٌ، لَكِنْ
مَا فَوْقَ السَّطْحِ جارٍ مَجْرَى مَا وَرَاءَ السُّورِ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى السَّطْحِ تَحْجِيزٌ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَانِعٍ كَالْقَصَبِ، وَمَا ضَعُفَ مِنَ
الْخَشَبِ، فَلَا يَحْنَثُ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَانِعًا بِبِنَاءٍ يَمْتَنِعُ
بِمِثْلِهِ وَيَتَحَرَّزُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ خَشَبٍ وَثِيقٍ فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حِنْثِهِ بِارْتِقَائِهِ عَلَيْهِ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَحْنَثُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّ إِحَاطَةَ السَّطْحِ بِالدَّارِ تَحْجِزُ عَمَّا
فَوْقَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ السُّتْرَةَ مُحِيطَةٌ بِالدَّارِ، فَأَشْبَهَتِ
السُّورَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ طَرِيقَةُ أبي الغياض، إِنْ كَانَتِ
السُّتْرَةُ عَالِيَةً يَحْجِزُ مِثْلُهَا، لَوْ كان في العرضة حَنِثَ،
وَإِنْ كَانَتِ السُّتْرَةُ قَصِيرَةً لَا يَحْجِزُ مثلها، لو كان في
العرضة، لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّطْحِ غُرْفَةٌ فَدَخَلَهَا
يَحْنَثُ، وَلَوْ نَزَلَ مِنَ السَّطْحِ إِلَى مَرْقَاةٍ مِنْ دَرَجَتِهَا
الدَّاخِلَةِ فِيهَا، حَنِثَ. وَلَوْ صَعِدَ مِنْ دَرَجِ الدَّارِ إِلَى
سَطْحِهَا، وَالدَّرَجَةُ خَارِجَ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ، أَوْ غَيْرُ
مَعْقُودَةٍ، فَإِنْ لم يدخل فِي سُورِ الدَّارِ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ
دَخَلَتْ فِي سُورِ الدَّارِ، حَتَّى تَجَاوَزَتْهُ فِي الدُّخُولِ حَنِثَ،
وَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ السُّورِ لَمْ يحنث،
(15/348)
وَإِنْ رَقِيَ عَلَى شَجَرَةٍ خَارِجَ
الدَّارِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدَّارِ، وَعَدَلَ عَنْ أَغْصَانِهَا
الدَّاخِلَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ صَارَ فَوَقَ أَغْصَانِهَا
الدَّاخِلَةِ نُظِرَ فِيهَا فَإِنْ كَانَتِ الْأَغْصَانُ فَوْقَ السَّطْحِ،
لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ السَّطْحِ حَنِثَ، وَلَوْ جَلَسَ
خَارِجَ الدَّارِ فِي مَاءٍ يَجْرِي إِلَى الدَّارِ، فَحَمَلَهُ الْمَاءُ
إِلَيْهَا حَنِثَ، وَصَارَ الْمَاءُ كَالدَّابَّةِ، إِذَا رَكِبَهَا
فَأَدْخَلَتْهُ الدَّار حَنِثَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِمَا دَاخِلًا، إِلَى
الدَّارِ، وَلَوْ رَقِيَ عَلَى سُورِهَا فَأَلْقَتْهُ الرِّيحُ إِلَيْهَا
لَمْ يَحْنَثْ، إِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا، لِأَنَّ دُخُولَهَا
مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ، وَلَوْ أَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ بَابِ
الدَّارِ دُونَ الْأُخْرَى، لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ
يَكْمُلْ، وَلَوْ ثَقَبَ حَائِطَ الدَّارِ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا مِنْ
ثُقْبِهَا، حَنِثَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا
مِنْ بَابِهَا، فَيُحْمَلُ عَلَى مَا نَوَاهُ، وَلَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ
مِنْ غَيْرِ الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا
يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا فَإِنْ نَزَعَ أَوْ نَزَلَ مَكَانَهُ
وَإِلَّا حَنِثَ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَفْعَالِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَحْنَثُ فِيهِ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَاسْتَدَامَتِهِ،
وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ السُّكْنَى، وَاللِّبَاسُ، وَالرُّكُوبُ،
وَالْغَصْبُ، وَالْجِمَاعُ، فَإِذَا حَلَفَ لَا سَكَنْتُ دَارًا حَنِثَ
بِأَنْ يَبْتَدِئَ سُكْنَاهَا، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا،
فَيَسْتَدِيمُ سُكْنَاهَا إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا.
وَلَوْ حَلَفَ لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ لِبَاسَهُ،
وَحَنِثَ أَنْ يَكُونَ لَابِسَهُ، فَيَسْتَدِيمُ لِبَاسُهُ إِلَّا أَنْ
يُبَادِرَ بِنَزْعِهِ.
وَلو حَلَفَ " لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، حَنِثَ " بِأَنْ يَبْتَدِئَ
رُكُوبَهَا وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا، فَيَسْتَدِيمُ رُكُوبُهَا
إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِالنُّزُولِ عَنْهَا، وَلَوْ حَلَفَ: لَا غَصَبْتُ
مَالًا؛ حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِالْغَصْبِ، وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ
غَاصِبًا، فَيَسْتَدِيمُ الْغَصْبُ إِلَّا أَنْ يُبَادِرَ بِرَدِّهِ.
وَلَوْ حَلَفَ، لَا جَامَعْتُ حَنِثَ بِأَنْ يَبْتَدِئَ الْجِمَاعَ،
وَحَنِثَ بِأَنْ يَكُونَ مُجَامِعًا، فَيَسْتَدِيمُ الْجِمَاعُ إِلَّا أَنْ
يُبَادِرَ بِالْإِخْرَاجِ.
وَإِنَّمَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِالِابْتِدَاءِ،
وَالِاسْتِدَامَةِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِعْلِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِ فِي
الْحَالَيْنِ، فَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا فِي الْحِنْثِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَحْنَثُ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ، وَلَا
يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ النِّكَاحُ
وَالْإِحْرَامُ، وَالرَّهْنُ وَالشِّرَاءُ، وَالْوَقْفُ، فَإِذَا حَلَفَ
لَا يَنْكِحُ، وَقَدْ نَكَحَ. وَأَنْ لَا يُحْرِمَ وَقَدْ أَحْرَمَ، أَوْ
لَا يَرْهَنَ، وَقَدْ رَهَنَ، أَوْ لَا يَقِفَ وَقَدْ وَقَفَ، لَمْ
يَحْنَثْ، حَتَّى يَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا، وَإِحْرَامًا، وَرَهْنًا،
وَشِرَاءً، وَوَقْفًا، لِأَنَّهَا عُقُودٌ. فَلَمْ يَحْنَثْ
بِاسْتِدَامَتِهَا لِتَقَدُّمِ العقد فيها.
(15/349)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ
هَلْ تَكُونُ الِاسْتِدَامَةُ فِيهِ كَالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ: الدُّخُولُ، وَالطِّيبُ وَالسَّفَرُ، هَلْ يَكُونُ
الِاسْتِدَامَةُ كَالِابْتِدَاءِ فَإِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ
الدَّارَ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ دُخُولَهَا، إِذَا كَانَ خَارِجًا،
وَفِي حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَةِ دُخُولِهَا، إِذَا كَانَ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ إنَّهُ يَحْنَثُ،
بِاسْتِدَامَةِ جُلُوسِهِ فيها لما كَمَا يَحْنَثُ بِاسْتِئْنَافِ
دُخُولِهَا، كَالسُّكْنَى، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لو حَلَفَ لَا
يَدْخُلُهَا فَأُكْرِهَ عَلَى دُخُولِهَا، فَإِنْ عَجَّلَ الْخُرُوجَ
مِنْهَا بَعْدَ الْمُكْنَةِ، لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ أَقَامَ حَنِثَ،
فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ كَالدُّخُولِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ، وَقَالَهُ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، لَا يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ،
حَتَّى يَسْتَأْنِفَهُ، لِأَنَّ الدُّخُولَ يَكُونُ بَعْدَ خُرُوجٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا تَطَيَّبْتُ حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ الطِّيبَ، وَفِي
حَنِثِهِ بِاسْتِدَامَةِ طِيبٍ مُتَقَدِّمٍ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَحْنَثُ بِاسْتِدَامَتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى
التَّطَيُّبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَسْتَحْدِثْ فِعْلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إنَّهُ إِنْ كَانَ أَثَرُ طِيبِهِ بَاقِيًا،
حَنِثَ، وَإِنْ بَقِيَتِ الرَّائِحَةُ دُونَ الْأَثَرِ لم يحنث، وهي طريقة
أبي الغياض اعْتِبَارًا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ، وَزَوَالِهَا وَلَوْ حَلَفَ
لَا يسافر، لم حَنِثَ بِأَنْ يَسْتَأْنِفَ السَّفَرَ طَوِيلًا. كَانَ أَوْ
قَصِيرًا فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ، وَهُوَ مُسَافِرٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ
أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَوْدِ مِنْ سَفَرِهِ، فَلَا يَحْنَثُ،
لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي تَرْكِ السَّفَرِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا عَلَى وَجْهِهِ فِي
السَّفَرِ، فَيَحْنَثُ بِاسْتِدَامَةِ مَسِيرِهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي
السَّفَرِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُقِيمَ بِمَكَانِهِ مِنْ سَفَرِهِ، فَفِي
حِنْثِهِ بِاسْتِدَامَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهَا: يَحْنَثُ كَالتَّوَجُّهِ، لِبَقَائِهِ عَلَى السَّفَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِكَفِّهِ عَنِ السَّيْرِ، فَصَارَ
كَالْعَوْدِ.
وَكُلُّ مَا لَمْ نُسَمِّهِ فَهُوَ معتبرٌ بِمَا سَمَّيْنَاهُ مِنْ هَذِهِ
الْأَقْسَامِ، فيكون ملحقاً بأشبههما به والله أعلم.
(15/350)
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا وَهُوَ بدويٌّ أَوْ
قرويٌّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَيُّ بيتٍ مِنْ شَعَرٍ أَوْ أدمٍ أَوْ خيمةٍ
أَوْ بيتٍ مِنْ حجارةٍ أَوْ مدرٍ أَوْ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ بيتٍ
سَكَنَهُ حَنِثَ ".
قَالَ المارودي: اعْلَمْ أَنَّ بُيُوتَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أحدهما: بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ.
فَأَمَّا الْمُخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلِلْبَوَادِي بُيُوتُ
النُّقْلَةِ مِنَ الْأَدَمِ، وَالشَّعْرِ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَجِعُونَ فِي
طَلَبِ الْكَلَأِ، فَيَسْكُنُونَ مِنَ الْبُيُوتِ مَا يَنْتَقِلُ مَعَهُمْ
فِي النَّجْعَةِ مِنَ الْخِيَامِ، وَالْفَسَاطِيطِ، وَلِأَهْلِ الْقُرَى
بُيُوتُ الِاسْتِقْرَارِ فَيَسْكُنُونَ مَا يَدُومُ ثُبُوتُهُ فِي
أَوْطَانِهِمْ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ. وَأَمَّا مَا
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ، فَهُوَ أَنَّ بُيُوتَ أَهْلِ
الْأَمْصَارِ لِتَشْيِيدِهَا، وَقِسْمَةِ مَسَاكِنِهَا، مُخَالِفَةٌ
لِبُيُوتِ أَهْلِ الْقُرَى فِي ذَهَابِهَا، وَاحْتِلَالٍ قَسْمِهَا،
وَتَخْتَلِفُ الْعَادَاتُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْأَحْجَارِ
وَالنُّورَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَبْنِي بِاللَّبِنِ، وَالطِّينِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي
بِالْخَشَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي بِالْقَصَبِ، وَاخْتِلَافُ
الْعَادَاتِ، لَا تُؤَثِّرُ فِي الْأَيْمَانِ وَجَمِيعُهَا بُيُوتٌ لِمَنِ
اعْتَادَهَا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ
بَيْتًا، حَنِثَ بِسُكْنَى كُلِّ بَيْتٍ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْتَدْ
سُكْنَاهُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ طِينٍ أَوْ خَشَبٍ، أَوْ قَصَبٍ،
مُحْكَمٍ يَدُومُ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، وَلَا يَحْنَثُ أَنْ يَسْكُنَ
بُيُوتَ الرُّعَاةِ مِنَ الْهَشِيمِ وَالْجَرِيدِ، وَالْحَشِيشِ، لِأَنَّهُ
يَسْتَدْفِعُ بِهِ أَذَى وَقْتٍ مِنْ حرٍ أَوْ بردٍ، وَلَا يُسْتَدَامُ
سُكْنَاهَا. فَأَمَّا إِنْ سَكَنَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا، لَمْ يَحْنَثْ
لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ انْطِلَاقَ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمَا مَجَازٌ لَا
حقيقةٌ.
وَالثَّانِي: إنَّهُمَا لَا يُسْكَنَانِ فِي الْعُرْفِ، فَلِهَذَا لَمْ
يَحْنَثْ لِسُكْنَاهُمَا.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ بُيُوتِ
النُّقْلَةِ لِلْبَوَادِي وَبُيُوتِ الِاسْتِقْرَارِ لِأَهْلِ
الْأَمْصَارِ، فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ
أَصْحَابِهِ، إنَّ بُيُوتَ الِاسْتِقْرَارِ، مِنْ أَبْنِيَةِ أَهْلِ
الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِسُكْنَاهَا بَدَوِيًّا،
كَانَ أَوْ قَرَوِيًّا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْطِلَاقُ اسْمِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا، وَوُجُودُ عُرْفِ
الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا، فَاقْتَرَنَ بِحَقِيقَةِ الِاسْمِ عُرْفُ
الِاسْتِعْمَالِ.
وَأَمَّا بُيُوتُ النُّقْلَةِ مِنْ خِيَمِ الشَّعْرِ، وَفَسَاطِيطِ
الْأَدَمِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا الْبَدَوِيُّ،
وَالْقَرَوِيُّ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُهُ أَنَّ الْحَالِفَ لَا
يَسْكُنُ بَيْتًا، إِذَا كَانَ
(15/351)
بدويا حنث بسكناها، لانطلاق اسم الحقيقية
عَلَيْهَا وَوُجُودِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ
الْحَالِفُ قَرَوِيًّا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ هَلْ يَحْنَثُ
بِسُكْنَاهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ لَا يَحْنَثُ بِسُكْنَاهَا،
إِذَا كَانَ قَرَوِيًّا لَمْ تَجْرِ عَادَتُهُ بِسُكْنَاهَا، وَحَمَلَ
كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَهْلِ قُرًى عَرَبِيَّةٍ، يَسْكُنُ أَهْلُهَا
بُيُوتَ الْمَدَرِ تَارَةً، وَبُيُوتَ الشَّعْرِ أُخْرَى، فَأَمَّا مَنْ
لَا يَسْكُنُ إِلَّا بُيُوتَ الْمَدَرِ فَلَا يَحْنَثُ بِسُكْنَى بُيُوتِ
الشَّعْرِ وَالْأَدَمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِخُرُوجِهَا عَنِ
الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا لَوْ حلف لا يأكل رؤوساً، لم يحنث برؤوس
الطير والجراد، حتى يأكل رأي النَّعَمِ مِنَ الْإِبِلِ، وَالْبَقَرِ،
وَالْغَنَمِ وَإِنِ انْطَلَقَ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَى جَمِيعِهَا
اعْتِبَارًا، بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا
يَأْكُلُ بَيْضًا لَمْ يَحْنَثْ بِبَيْضِ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ، وَإِنِ
انْطَلَقَ اسْمُ الْبَيْضِ عَلَيْهَا حَقِيقَةً، حَتَّى يَأْكُلَ مِنَ
الْبَيْضِ مَا فَارَقَ بَائِضَهُ حَيًّا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّهُ يَحْنَثُ الْقَرَوِيُّ بِسُكْنَاهَا،
كَمَا يَحْنَثُ الْبَدَوِيُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْطِلَاقُ اسْمُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: اقْتِرَانُ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالَ فِيهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ
عَنْ عَادَةِ الْحَالِفِ لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ كَمَا حَنِثَ
الْبَدَوِيُّ بِسُكْنَى بُيُوتِ الْمَدَرِ.
وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ عَادَتِهِ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ، وَكَمَا لَوْ
حَلَفَ عِرَاقِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ، أَنْ لَا يَأْكُلَ خُبْزًا
حَنِثَ بِخُبْزِ الذُّرَةِ، وَالْأُرْزِ، وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عُرْفِهِ
وَعَادَتِهِ، لِوُجُودِهَا فِي غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ
عَادَةُ الْحَالِفِ إِذَا وُجِدَتْ فِي غَيْرِهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي
الْوَكَالَةِ عَادَةُ الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي
شِرَاءِ الْخُبْزِ، وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَاشْتَرَى لَهُ حَبَّ
الْأُرْزِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ
وَعَادَتُهُ أَكْلُ الْبُرِّ فَأَكَلَ حَبَّ الْأُرْزِ حنث.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ طَعَامًا اشْتَرَاهُ فلانٌ
فَاشْتَرَاهُ فلانٌ وَآخَرُ مَعَهُ طَعَامًا وَلَا نيةٌ لَهُ فَأَكَلَ
مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ، إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ
طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَاشْتَرَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو طَعَامًا
صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ قَدْ أَكَلَ طَعَامًا قَدِ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ،
وَعَمْرٌو، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ في صفقتين.
(15/352)
وَالثَّانِي: إِلْزَامٌ لَنَا أَنَّهُ
لَمَّا أَجْرَى الشَّافِعِيُّ على اجتماعهما في الشراء حُكْمَ
الصَّفْقَتَيْنِ فِي انْفِرَادِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، بِالرَّدِّ
بِالْعَيْبِ، وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّفْقَتَيْنِ فِي
الْحِنْثِ.
وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ الشِّرَاءَ عَقْدٌ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ، لَمْ
يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِهِ وَاخْتَصَّ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي العرف
بنصفه، فلم تكمل الصفة، فلم يَقَعِ الْحِنْثُ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ فِي
الْأَيْمَانِ يَخْتَصُّ بِالْعُرْفِ.
وَالثَّانِي: إنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لَمْ يَخْتَصَّ الْحَالِفُ
بِشِرَائِهِ، فَإِنْ قَلَّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ لَهُ الْحِنْثُ كَمَا
لَوْ حَلَفَ، لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَ دَارًا بَيْنَ زَيْدٍ
وَعَمْرٍو، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ زَيْدٍ، فَلَبِسَ ثَوْبًا
بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقِ أَبِي حَنِيفَةَ،
كَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَحْنَثَ بطعامٍ اشْتَرَاهُ زَيْدٌ
وَعَمْرٌو.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالشِّرَاءِ فِي صَفْقَتَيْنِ
مُشَاعًا فَهُوَ أَنَّ كُلَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطَّعَامِ قَدِ
اشْتَرَى زَيْدٌ نِصْفَهُ، بِعَقْدٍ تَامٍّ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ،
وَإِذَا كَانَ بعقدٍ واحدٍ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ، فَلَمْ يُكْمَلْ شَرْطُ
الْحِنْثِ فَافْتَرَقَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَهُوَ
أَنَّ الْأَيْمَانَ وَالْأَحْكَامَ وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي اعْتِبَارِ
الْأَسْمَاءِ فَقَدِ افْتَرَقَا فِي غَيْرِهَا، فَاعْتُبِرَ الْعُرْفُ فِي
الْأَيْمَانِ، وَاعْتُبِرَ الْمَعْنَى فِي الْأَحْكَامِ، فَصَارَ هَذَا
الْفَرْقُ مَانِعًا مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِمَا
عَلَى سَوَاءٍ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى زَيْدٌ طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ، وَاشْتَرَى
عَمْرٌو طَعَامًا انْفَرَدَ بِهِ. وَخَلَطَاهُ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ،
فَفِي حِنْثِهِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إنَّهُ لَا
يَحْنَثُ بحالٍ، وَإِنْ أَكَلَ جَمِيعَ الطَّعَامَيْنِ، لِأَنَّ اخْتِلَاطَ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ خارجٌ، فِي الْعُرْفِ عَنِ اسْمِ
الِانْفِرَادِ، فَخَرَجَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْأَيْمَانِ، حَتَّى قَالَ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جُبْنًا
فَأَكَلَ خُبْزًا وَجُبْنًا لَمْ يَحْنَثْ، وَزَعَمَ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ
بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
لِلْمُزَنِيِّ: " أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ زَيْتًا فَأَكَلَ
خُبْزًا وَزَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ "، وَهَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي
الْجَامِعِ الْكَبِيرِ سَهْوٌ مِنْ حَاكِيهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي
الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ " أَنَّهُ لَوْ
حَلَفَ لَا آكُلُ خُبْزًا وَجُبْنًا فَأَكَلَ خُبْزًا وَزَيْتًا، لَمْ
يَحْنَثْ " وَرُدَّ بِهَذَا الْقَوْلِ عَلَى مَالِكٍ حَيْثُ حَنَّثَهُ
بِذَلِكَ فَهَذَا وَجْهٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه
إِذَا اخْتَلَطَ الطَّعَامَانِ وَكَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقَدْرِ
فأكل منهما أكثر من النصف حنثه، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ مِمَّا
اشْتَرَاهُ
(15/353)
زَيْدٌ، وَإِنْ أَكلَ أَقَلَّ مِنَ
النِّصْفِ، لَمْ يَحْنَثْ لِلِاحْتِمَالِ وَجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ
أَكَلَ مَا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، لِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ
بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَوَازِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ إن كان الطعام مانعاً،
كَاللَّبَنِ، وَالْعَسَلِ، حَنِثَ بِأَكْلِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ،
لِامْتِزَاجِهِ، وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ لِأَنَّهُ كَالْمَانِعِ فِي
الِامْتِزَاجِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا مِثْلَ التَّمْرِ، وَالرُّطَبِ،
لَمْ يَحْنَثْ، حَتَّى يَأْكُلَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ لِدُخُولِ
الِاحْتِمَالِ فِي الْمُتَمَيِّزِ، وَانْتِفَائِهِ عَنِ الْمُمْتَزِجِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَوْ حَلَفَ عَلَى تَمْرَةٍ أَنْ لَا
يَأْكُلَهَا فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ كَثِيرٍ. فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إِلَّا
تَمْرَةً، لَمْ يَحْنَثْ " لِجَوَازٍ أَنْ تَكُونَ الْبَاقِيَةُ هِيَ
التَّمْرَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا.
(فَصْلٌ:)
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَأَكَلَ مِنْ
طَعَامٍ وَرِثَهُ زَيْدٌ، أَوِ اسْتَوْهَبَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ
جَعَلَ الشِّرَاءَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَلِكُ زَيْدٍ، وَلَوْ
كَانَ زَيْدٌ فِي الشِّرَاءِ وَكِيلًا، فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ
يَحْنَثْ، لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِهِ، وَحَنَّثَهُ مَالِكٌ،
لِأَنَّهُ مِنْ مِلْكِهِ، ولو توكل زيد لغيره فَاشْتَرَى طَعَامًا
لِمُوَكِّلِهِ، حَنِثَ الْحَالِفُ بِأَكْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ
زَيْدٌ، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الشِّرَاءِ، دُونَ
الْمِلْكِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً فَأَمَّا إِنْ
كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ فِي الْحِنْثِ عَلَى نِيَّتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فلانٍ هَذِهِ
بِعَيْنِهَا فَبَاعَهَا فلانٌ حَنِثَ بِأَيِّ وجهٍ سَكَنَهَا إِنْ لَمْ
تَكُنْ لَهُ نيةٌ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَا كَانَتْ لفلانٍ لَمْ
يَحْنَثْ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ ملكِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَلَفَ عَلَى دَارِ زَيْدٍ
أَنْ لَا يَسْكُنَهَا، وَلَا يَدْخُلَهَا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ فَيَقُولَ لَا دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ
هَذِهِ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى عَيْنِ الدَّارِ،
وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى زَيْدٍ تَعْرِيفًا فَإِنْ دَخَلَهَا، وَهِيَ
عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ حَنِثَ، بِإِجْمَاعٍ، وَإِنْ دَخَلَهَا بَعْدَ أَنْ
بَاعَهَا زَيْدٌ حَنِثَ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ
الْإِضَافَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ بِزَوَالِ مِلْكِ
زَيْدٍ عَنْهَا، وَجَعْلُ إِضَافَتِهَا إِلَى زَيْدٍ شَرْطًا فِي عَقْدِ
الْيَمِينِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:
(15/354)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ
الْيَمِينِ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ، وَإِظْهَارُ الْعَدَاوَةِ وَالدَّارُ لَا
تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَصَارَ صَاحِبُهَا مَقْصُودًا، فَكَانَ بَقَاءُ
مِلْكِهِ فِي الْيَمِينِ شَرْطًا.
وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا كَانَ دُخُولُهَا مَوْقُوفًا عَلَى إِذْنِهِ،
وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مِلْكِهِ شَرْطًا فِي حِنْثِهِ.
وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِعَيْنٍ مُضَافَةٍ
وَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيَقَعُ
بِهِمَا الْحِنْثُ مَعَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ زَوْجَةَ زَيْدٍ، فَطَلَّقَهَا " زَيْدٌ حَنِثَ بِكَلَامِهَا،
تَغْلِيبًا لِلْعَيْنِ عَلَى الْإِضَافَةِ، كَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَا
دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ، الَّتِي لَزَيْدٍ، وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ
بِدُخُولِهَا وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ زَيْدٍ، فَإِنْ قِيلَ:
الزَّوْجَةُ تُوَالِي وَتُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ الْعَيْنِ عَلَى
الْإِضَافَةِ، وَالدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي فَغَلَبَ حُكْمُ
الْإِضَافَةِ عَلَى الْعَيْنِ. قِيلَ اعْتِبَارُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي
إِيقَاعِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْعِ، وَالْأَصْلِ بَاطِلٌ فِي الْفَرْعِ
بِأَنْ يَقُولَ: لَا دَخَلْتُ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ، فَيَحْنَثُ
بِدُخُولِهَا، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ لَا تُوَالِي وَلَا تُعَادِي
وَبَاطِلٌ فِي الْأَصْلِ بِأَنْ يَقُولَ لَا كَلَّمْتُ عَبْدَ زَيْدٍ
فَيَحْنَثُ عِنْدَهُ بِكَلَامِهِ، إِذَا بَاعَهُ زَيْدٌ، وَإِنْ كَانَ
الْعَبْدُ لَا يُوَالِي وَلَا يُعَادِي وَإِذَا بَطَلَ التَّعْلِيلُ فِي
الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سَقَطَ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَيْنَ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى صِفَةٍ،
كَانَتِ الصِّفَةُ تَعْرِيفًا وَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، كَمَا لَوْ قَالَ:
لَا كَلَّمْتُ هَذَا الرَّاكِبَ، لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ رُكُوبِهِ شَرْطًا
فِي حِنْثِهِ، وَحَنِثَ بِكَلَامِهِ رَاكِبًا، وَنَازِلًا لِأَنَّهُمَا
إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ، كَذَلِكَ دَارُ زَيْدٍ وَقَدْ مَضَى الْجَوَابُ عَنِ
اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُوَالَاةِ، وَالْمُعَادَاةِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ دُخُولَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى
إِذْنِ مَالِكِهَا، فَهُوَ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الدُّخُولِ غَيْرُ
مُعْتَبَرٍ فِي الْبِرِّ، وَالْحِنْثِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا
يَعْتَبِرَ بِهِ، مُسْتَحِقُّ الْإِذْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ:)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعَيِّنَ الدَّارَ بِأَنْ يَقُولَ: لَا
دَخَلْتُ دَارَ زَيْدٍ، فَتَكُونَ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً عَلَى مِلْكِ
زَيْدٍ لِلدَّارِ، فَأَيُّ دارٍ دَخَلَهَا، وَزَيْدٌ مَالِكُهَا حَنِثَ
بِدُخُولِهَا فَإِنْ بَاعَهَا زَيْدٌ بَعْدَ مِلْكِهِ لَهَا، فَدَخَلَهَا
الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ بِوِفَاقٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ
وَالتَّعْيِينِ، إنَّ عَدَمَ الْعَيْنِ فِي الْإِطْلَاقِ أَوْجَبَ عَقْدَ
الْيَمِينِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَوُجُودُ الْعَيْنِ فِي التَّعْيِينِ،
أَوْجَبَ عَقْدَهَا عَلَى الْعَيْنِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي
ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ. كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا بِالصِّفَةِ، وَلَوِ
اشْتَرَى هَذَا الثَّوْبَ الْهَرَوَيَّ، كَانَ الْعَقْدُ مُخْتَصًّا
بِالْعَيْنِ دُونَ الصِّفَةِ، فَإِنْ وَجَدَهُ هَرَوِيًّا لَمْ يَبْطُلِ
الْبَيْعُ، فَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا
بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لَمْ يَحْنَثْ قَلَّ سَهْمُ زَيْدٍ فِيهَا، أَوْ
كَثُرَ، لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَكْمُلْ وَإِنْ أَعَارَ زَيْدٌ
(15/355)
دَارَهُ، أَوْ رَهَنَهَا حَنِثَ،
بِدُخُولِهَا، لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ وَقَفَهَا لَمْ
يَحْنَثْ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ مَلْكِ وَاقِفِهِ. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا
اسْتَأْجَرَهَا زيد من مالكها، لم يحنث بدخولها لأن حقيقية الْإِضَافَةِ
مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا مَعَ
إِطْلَاقِ يَمِينِهِ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ بِهَذَا كُلِّهِ فَأَمَّا
إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ، فَحِنْثُهُ مَحْمُولٌ عَلَى نِيَّتِهِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَانْهَدَمَتْ حَتَى صَارَتْ
طَرِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بدارٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا حَلَفَ، لَا يَدْخُلُ هذه
الدار، فانهدمت وصارت عراصاً، فَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَهَكَذَا لَوْ
حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَانْهَدَمَ، وَصَارَ بَرَاحًا لَمْ
يحنث.
وقال أبو حنيفة: إِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الدَّارِ بَعْدَ انْهِدَامِهَا
حَنِثَ، وَإِذَا دَخَلَ عَرْصَةَ الْبَيْتِ بَعْدَ انْهِدَامِهِ، لَمْ
يَحْنَثْ فَوَافَقَ فِي الْبَيْتِ، وَخَالَفَ فِي الدَّارِ إِلَّا أَنْ
يَبْنِيَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا، أَوْ يَجْعَلَ بُسْتَانًا،
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَرْصَةِ بَعْدَ
ذَهَابِ الْعِمَارَةِ، كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا مَعَ الْعِمَارَةِ كَمَا
يَقُولُونَ هَذِهِ دِيَارُ عادٍ، وَدِيَارُ ثَمُودَ، وَدِيَارُ رَبِيعَةَ،
وَدِيَارُ مُضَرَ، وَإِنْ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهَا، وَبَقِيَتْ عِرَاصُهَا،
وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ النَّابِغَةُ:
(يَا دَارَ مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأحد)
وَقَالَ لَبِيَدٌ:
(عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا ... بِمِنًى تأبد غولها
فرجامها)
(فماها داراً بعد أقواتها ... )
وَالْعَفَا: الدَّرْسُ، فَسَمَّاهَا دِيَارًا بَعْدَ دُرُوسِهَا، فَكَانَ
بَقَاءُ الِاسْمِ عَلَى عَرْصهَا مُوجِبًا، لِوُقُوعِ الْحِنْثِ
بِدُخُولِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا فَأُدْخِلَ مِنْهُ
إِلَى عَرْصَةٍ ضِمْنَهَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي بِنَاءٍ وَلَا
صَارَ فِي عِمَارَةٍ فَكَذَلِكَ، إِذَا انْهَدَمَ جَمِيعُ بِنَائِهَا
حَنِثَ بِدُخُولِ عَرْصَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ مَعَ الْبِنَاءِ زَالَ
عَنْهُ حُكْمُ الْحِنْثِ بِذَهَابِ الْبِنَاءِ، كَالْبَيْتِ فَإِنْ قِيلَ:
الْبَيْتُ لَا يُسَمَّى بَعْدَ انْهِدَامِهِ بَيْتًا، وَتُسَمَّى الدَّارُ
بَعْدَ انْهِدَامِهَا دَارًا بِطُلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتِلْكَ
بُيُوتُّهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) {النمل: 52) فَسَمَّاهَا بَعْدَ
الْخَرَابِ بُيُوتًا، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الْحِنْثِ بِدُخُولِ
عَرْصَةِ الْبَيْتِ، مَنَعَ مِنْهُ بِدُخُولِ عَرْصَةِ الدَّارِ، كَمَا
لَوْ بَنَى الْعَرْصَةَ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ
وَافَقَنَا، أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا، وَلَمْ
يُعَيِّنْهَا، فَدَخَلَ عَرْصَةَ دَارٍ قَدِ انْهَدَمَ بِنَاؤُهَا لَمْ
يَحْنَثْ كَذَلِكَ إِذَا عينها.
(15/356)
وَتَحْرِيرُهُ إنَّ كُلَّ مَا لَا
يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ، مَعَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، لَمْ
يَتَنَاوَلْهُ مَعَ وُجُودِ، التَّعْيِينِ كَالْبَيْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ فِي الْأَيْمَانِ بَيْنَ
التَّعْيِينِ وَالْإِبْهَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ فَقَالَ: لَا جَلَسْتُ
فِي سِرَاجٍ فَجَلَسَ فِي الشَّمْسِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ سَمَّاهَا
اللَّهُ تَعَالَى سِرَاجًا، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ لَا جَلَسْتُ فِي هَذَا
السِّرَاجِ إِشَارَةً إِلَى الشَّمْسِ حَنِثَ بِجُلُوسِهِ فِيهَا، وَلَوْ
حَلَفَ لَا جَلَسْتُ عَلَى بِسَاطٍ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ
وَإِنْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِسَاطًا، وَلَوْ عَيَّنَ، فَقَالَ لَا
جَلَسْتُ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ مُشِيرًا إلى الأرض فجلس عليها حنث فصارت
التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِسَاطًا مَعَ الْإِبْهَامِ كَذَلِكَ
وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَرْصَةُ دَارًا مَعَ التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ دَارًا مَعَ الْإِبْهَامِ قُلْنَا: لَيْسَ يَفْتَرِقُ التَّعْيِينُ،
وَالْإِبْهَامُ فِي حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ اسْمَ السِّرَاجِ
يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّمْسِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ، وَالتَّعْيِينِ،
وَاسْمُ الْبِسَاطِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَرْضِ مَجَازًا فِي الْإِبْهَامِ،
وَالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا جعل التعيين مقصوداً والاسم مستعاراً، فإن
أُبْهِمَ الِاسْمُ اعْتُبِرَ فِيهِ الْحَقِيقَةُ، دُونَ الْمَجَازِ
الْمُسْتَعَارِ وَالتَّعْيِينِ فِي الدَّارِ تَوَجَّهَ إِلَى شَيْئَيْنِ
جَمْعَهُمَا حَقِيقَةُ الِاسْمِ وَهِيَ الْعَرْصَةُ وَالْبِنَاءُ، فَإِذَا
ذَهَبَ الْبِنَاءُ زَالَ شَطْرُ الْعَيْنِ، فَارْتَفَعَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ
وَلِأَنَّ الْإِبْهَامَ إِذَا حَلَفَ لَا دَخَلْتُ دارٍ، وَلَا يَحْنَثُ
فِي التَّعْيِينِ، إِلَّا بِدُخُولِ تِلْكَ الدَّارِ فَلَمَّا ارْتَفَعَ
بِالْهَدْمِ حُكْمُ الْأَعَمِّ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِهِ حُكْمُ
الْأَخَصِّ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ
ينطلق عليها بعد انهدامها هو أَنَّ الِاسْمَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا بَعْدَ
الْهَدْمِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْأَيْمَانُ تُرَاعَى
فِيهَا حَقَائِقُ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهَا
كَانَتْ دَارًا فَاسْتُصْحِبَ اسْمُهَا اتِّسَاعًا، وَالْأَسْمَاءُ فِي
الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ، بِالْحَالِ دُونَ مَا سَلَفَ، كَمَا لَوْ
حَلَفَ لَا كَلَّمْتُ عَبْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتِقًا، ثُمَّ يُقَالُ
لِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، وَالتَّعْيِينُ يَفْسَدُ
بِالْإِطْلَاقِ فِي الْإِبْهَامِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِدُخُولِهِ
إِلَى صَحْنِهَا مِنْ هَدْمٍ فِي سُورِهَا، فَسَنَشْرَحُ مِنْ مَذْهَبِنَا
فِيهِ مَا يَكُونُ انْفِصَالًا عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو
حَالُ مَا انْهَدَمَ مِنْهَا، وَبَقِيَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ سُكْنَى شَيْءٍ مِنْهَا، فَيَحْنَثَ
بِدُخُولِهِ مِنَ الْمُسْتَهْدَمِ وَالْعَامِرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُمْنَعَ بِالْهَدْمِ مِنْ سُكْنَى الْبَاقِي،
وَسُكْنَى الْمُسْتَهْدَمِ، فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ مَا بَقِيَ، وَلَا
بِدُخُولِ مَا انْهَدَمَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ الْهَدْمُ مِنْ سُكْنَى مَا
اسْتُهْدِمَ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى مَا بَقِيَ عَلَى عِمَارَتِهِ،
وَلَمْ يُسْتَهْدَمْ فَلَا يَحْنَثُ بِدُخُولِ الْمُسْتَهْدَمِ مِنْهَا،
وَيَحْنَثُ بدخول الباقي
(15/357)
مِنْ عَامِرِهَا، وَلَوِ انْهَدَمَتْ
بُيُوتُهَا، وَبَقِيَ سُورُهَا، فَإِنْ كَانَ السُّورُ مَانِعًا
لِعُلُوِّهِ حَنِثَ بِدُخُولِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَانِعٍ لِقِصَرِهِ
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ، وَخَرَّجَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخر فمن حلف لا يدخل الدار، ورقا عَلَى سَطْحِهَا
أَنَّهُ يَحْنَثُ، إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ وَلَيْسَ هَذَا
التَّحْرِيمُ صَحِيحًا، لِأَنَّ السَّطْحَ مُمْتَنِعٌ بِسُكْنَى
أَسْفَلِهِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قِصر سُتْرَتِهِ مَانِعًا فَخَالَفَ
الْبَاقِيَ مِنْ سُتْرَةِ الدَّارِ.
(فَصْلٌ:)
وَإِذَا انْهَدَمَتِ الدَّارُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهَا، فَبُنِيَتْ
مَسْجِدًا، أَوْ حَمَّامًا، لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ كان البناء
بتلك الْآلَةِ، أَوْ بِغَيْرِهَا لِزَوَالِ اسْمِ الدَّارِ عَنْهَا. وَإِنْ
أُعِيدَ بِنَاؤُهَا داراُ، لَمْ يَخْلُ أَنْ تُبْنَى بِتِلْكَ الْآلَةِ،
أَوْ بِغَيْرِهَا، فَإِنْ بُنِيَتْ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ، لَمْ
يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ دَخَلَ غَيْرَ تِلْكَ الدَّارِ، وَإِنْ بُنِيَتْ
بِتِلْكَ الْآلَةِ فَفِي حِنْثِهِ بِدُخُولِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا
يَحْنَثُ، لِأَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الْبِنَاءِ يَجْعَلُهَا غَيْرَ تِلْكَ
الدَّارِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ لِأَنَّ تِلْكَ الْعَرْصَةَ، وَتِلْكَ
الْآلَةَ تَجْعَلُهَا تِلْكَ الدَّارُ وَجَرَى تَغْيِيرُ بِنَائِهَا،
مَجْرَى تَغْيِيرِ سُقُوفِهَا وَأَبْوَابِهَا.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ
فِي موضعٍ فَحَوَّلَ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَدْخُلَهَا
فَيَحْنَثَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ،
لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أحدها: أن يطلق بيمينه فِي دُخُولِهَا، وَلَا يُسَمِّيَ مَوْضِعَ دُخُولِهِ
إِلَيْهَا، فَيَحْنَثُ بِدُخُولِهَا مِنْ بَابِهَا، وَغَيْرِ بَابِهَا،
مِنْ ثُقْبٍ فِيهَا، أَوْ جدارٍ تَسَوَّرَهُ، حَتَّى دَخَلَهَا لِأَنَّ
عَقْدَ الْيَمِينِ فِي الْإِطْلَاقِ مقصورٌ عَلَى الدُّخُولِ، دُونَ
الْمَدْخَلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ " لَا دَخَلْتُهَا مِنْ هَذَا
الْبَابِ " فَإِنْ دَخَلَهَا مِنْهُ حَنِثَ، وَإِنْ دَخَلَهَا مِنْ بَابٍ
اسْتُحْدِثَ لها، لم يحنث، سواء فعل ذلك الباب مِنَ الْأَوَّلِ إِلَى
الْمُسْتَحْدَثِ، أَوْ تُرِكَ. وَحَكَى أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ
عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِنْ نَقَلَ بَابَ الْأَوَّلِ إِلَى
الثَّانِي، حَنِثَ بِدُخُولِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَرَكَ
عَلَى الْأَوَّلِ حَنِثَ بِدُخُولِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِ
الثَّانِي فَجَعَلَ الْبَابَ مُعْتَبَرًا بِالْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ دُونَ
الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا هُوَ
الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْبَابَ
مُعْتَبَرٌ بِالْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، دُونَ الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ،
لِأَنَّ الْبَابَ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ الدُّخُولُ، وَالْخُرُوجُ،
وَذَلِكَ مِنَ الْفَتْحِ الْمَعْقُودِ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالِاسْمِ مِنَ
الْخَشَبِ الْمَنْصُوبِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْلِفَ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ
بَابِهَا، وَلَا يُشِيرُ إِلَى بَابٍ
(15/358)
بِعَيْنِهِ، فَإِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا
مِنْ جِدَارِهَا، أَوْ دَخَلَ مِنْ ثُقْبٍ فِي حَائِطِهَا لَمْ يَحْنَثْ،
وَإِنْ دَخَلَ مِنْ بَابِهَا الْمَوْجُودِ لَهَا وَقْتَ يَمِينِهِ حَنِثَ،
وَإِنِ اسْتُحْدِثَ لَهَا بَابٌ غَيْرُهُ فَدَخَلَ مِنْهُ فَفِي حِنْثِهِ
وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ، أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ عَلَى بَابٍ مَوْجُودٍ،
فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ " لَا دَخَلْتُ دَارَ
زَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ لَمْ يَحْنَثْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا وَبِهِ، قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَابٌ لَهَا
فَصَارَ دَاخِلًا مِنْ بَابِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ حَلَفَ " لَا دَخَلْتُ
هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي لِزَيْدٍ " فَبَاعَهَا زَيْدٌ، حَنِثَ
بِدُخُولِهَا، فَيَكُونُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولًا عَلَى تعيين الباب
دون إبهامه.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ رداءٌ
فَقَطَعَهُ قَمِيصًا أَوِ ائْتَزَرَ بِهِ أَوْ حَلَفَ لا يلبس سراويل
فَائْتَزَرِ بِهِ أَوْ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِهِ فَهَذَا كُلُّهُ لبسٌ
يَحْنَثُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نيةٌ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا عَلَى
نِيَّتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَطَ فِيهَا كَلَامُ
أَصْحَابِنَا، حَتَّى خَبَطُوا خَبْطَ عَشْوَاء، وَسَنَذْكُرُ مَا يَسره
اللَّهُ تَعَالَى، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِالصَّوَابِ مَقْرُونًا،
فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ، فَلَبِسَهُ
وَهُوَ عَلَى خِلَافِهَا، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا هُوَ رِدَاءٌ
فَائتَزَرَ بِهِ، أَوْ قَطَعَهُ قَمِيصًا، أَوْ حَلَفَ لَا يلبس قميصاً،
فارتدى به، أو قطعه سراويل أو حلف لا يلبس سراويل، فَاتَّزَرَ بِهِ، أَوْ
حَوَّلَهُ مِنْدِيلًا، أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ طَيْلَسَانًا، فَتَعَمَّمَ
بِهِ، أَوْ قَطَعَهُ مَلْبُوسًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ يَمِينِهِ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَيْنِ الثَّوْبِ، وَيُلْغِيَ صِفَتَهُ،
وَصِفَةَ لُبْسِهِ، فَهَذَا يَحْنَثُ عَلَى أَيِّ حَالٍ لَبِسَهُ، وَعَلَى
أَيِّ صفةٍ لَبِسَهُ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ، وَأَوْصَافِهِ
اعْتِبَارًا، بِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى عَيْنِهِ، دُونَ صِفَتِهِ، وَهَذَا
مِمَّا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى صِفَةِ الثَّوْبِ
وَصِفَةِ لُبْسِهِ فَيَحْنَثُ بِلُبْسِهِ إِذَا كَانَ عَلَى حَالِهِ،
وَعَلَى الصِّفَةِ الْمُعْتَادَةِ فِي لُبْسِهِ، وَلَا يَحْنَثُ إِنْ
جَعَلَ الْإِزَارَ قَمِيصًا، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ، وَلَا إِنْ جَعَلَ القميص
سراويل، أو ارتدى به ولا أن جعل السراويل منديلاً، أو اتزر بِهِ، حَتَّى
يَجْمَعَ فِي لُبْسِهِ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَبَيْنَ
الْمَعْهُودِ فِي لُبْسِهِ، اعْتِبَارًا بِمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَيْهِ،
مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَيْضًا
عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الَّذِي اخْتَلَطَ فِيهِ الْكَلَامُ،
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْجَوَابُ وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى
الْإِطْلَاقِ، فَيَقُولُ: لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، أو هذا القميص، أو
هذا السراويل،
(15/359)
فَيُغَيِّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، أَوْ
يَلْبَسُهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا
يَقَعُ بِهِ حِنْثُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عنه أنه يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ، فَإِنْ غير
القميص سراويل أو ارتدى به أو غير السراويل مَنْدِيلًا، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ
حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ
الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ وَلِحُكْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ
نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ يَحْنَثُ بِهِ
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ مِنْ كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ صِفَةً لِلثَّوْبِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْحَالِفِ
شَرْطًا فِي الْحِنْثِ، لِأَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ: " هَذَا لَمْ
يَحْنَثْ إِذَا لَبِسَهُ وَهُوَ غَيْرُ رِدَاءٍ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُزَنِيِّ، وطائفةٌ مِنْ
مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ، إِذَا
غَيَّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، وَلَا إِذَا لَبِسَهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ،
فَإِنْ جعل الرداء قميصاً، أو القميص سراويل، وارتدى بالقميص، أو اتزر
بالسراويل، لم يحنث، حق يتقمص بالقميص، ويتسرول بالسراويل وَيَرْتَدِيَ
بِالرِّدَاءِ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَبَيْنَ
لُبْسِهِ عَلَى عَادَتِهِ، حَتَّى حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ
لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ
مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ عَادَةِ
لُبْسِهِ، وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ،
ولأن المحرم ممنوع من لبس القميص، والسراويل، ولو ارتدى بالقميص واتزر
بالسراويل، جَازَ وَلَمْ يُكَفِّرْ.
وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ، فَهَذَا
كُلُّهُ لَيْسَ بِحِنْثٍ عَلَى النَّفْيِ أَيْ لَا يَحْنَثُ بِهِ وَهَذَا
التَّأْوِيلُ لِكَلَامِهِ زَلَلٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ
قَالَ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا نَحْسُبُهُ إِلَّا
عَلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ
حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فَلَمْ
يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى نَفْيٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يستثني النَّفْي
مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَيسْتَثْني الْإِثْبَات مِنَ النَّفْيِ، فَدَلَّ عَلَى
فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا قَالَهُ مِنَ الْحُكْمِ
وَجْهٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ
إنَّهُ إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الثَّوْبِ حَنِثَ بِلُبْسِهِ، عَلَى
جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنِ اشْتَمَلَ بِهِ أَوِ ارْتَدَى أَوْ
تَعَمَّمَ، أَوْ قَطَعَهُ قميصاً، أو سراويل حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتْ
يَمِينُهُ عَلَى قَمِيصٍ لَمْ يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أَوِ ارْتَدَى
بِهِ، وَلَمْ يَتَقَمَّصْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الثَّوْبِ وَالْقَمِيصِ
بِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ عَامٌّ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَلْبُوسٍ، وَلَا
يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الثَّوْبِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ، وَاسْمَ
الْقَمِيصِ خَاصٌّ، يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَمِيصِ، إِذَا غَيَّرَهُ فجعل
سراويل، أَوْ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، إِذَا لُبِسَ عَلَى غَيْرِ
الْمَعْهُودِ مِنَ الِارْتِدَاءِ بِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِتَغْيِيرِ
لُبْسِهِ، وَلَا بِتَخْيِيرِ قَطْعِهِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا
بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الثَّوْبِ إِذَا غُيِّرَ لِعُمُومِهِ وَزَوَالِهِ
عَنِ الْقَمِيصِ، إِذَا غُيِّرَ
(15/360)
لِخُصُوصِهِ وَمَنْ حَكَى عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ غَيْرَ هَذَا حَرَّفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ شَرْحَهُ دَالٌّ عَلَى
ما ذكرنا.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ رجلٍ مَنَّ عَلَيْهِ
فَوَهَبَهُ لَهُ فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا لَبِسَهُ لَمْ
يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الَّذِي حلف عليه بعينه وإنما أنظر إلى مخرج
اليمين ثم أحنث صاحبها أو أبره وذلك أن الأسباب متقدمةٌ والأيمان بعدها
محدثةٌ قد يخرج على مثالها وعلى خلافها فأحنثه على مخرج يمينه أرأيت رجلاً
لو كان قال وهبت له مالي فحلف ليضربنه أما يحنث إن لم يضربه؟ وليس يشبه سبب
ما قال؟ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ابْتَدَأَ الْحَالِفُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا سَبَبٌ يَدْعُو إليه، فيقول مبتدأ
وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ كَلَامِهِ، أَوْ
يَقُولُ: لَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ. فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ أَكْلِ
طَعَامِهِ، أَوْ لَا لَبِسْتُ لَهُ ثَوْبًا، فَلَا يَحْنَثُ بِغَيْرِ
لُبْسِ ثِيَابِهِ، أَوْ لَا رَكِبْتُ لَهُ دَابَّةً، فَلَا يَحْنَثُ
بِغَيْرِ رُكُوبِ دَوَابِّهِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ
يُخَالِفْنَا مَالِكٌ فِي شَيْءٍ. وَتَكُونُ الْيَمِينُ مَقْصُورَةً عَلَى
مَا اقْتَضَاهُ الِاسْمُ مِنْ خُصُوصٍ وَعُمُومٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْيَمِينَ أَسْبَابٌ دَعَتْ
إِلَيْهَا مِثْلَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِإِحْسَانٍ أوصله
إِلَيْهِ، أَوْ بِمَالٍ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، فَبَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى
الْيَمِينِ فَيَقُولُ وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ لَكَ ثَوْبًا، وَلَا شَرِبْتُ
لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي هَذَا هَلْ تَكُونُ الْيَمِينُ مَحْمُولَةً عَلَى السَّبَبِ
الْمُتَقَدِّمِ أَوْ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَقْدِ الْمُتَأَخِّرِ، فذهب
الشافعي وأبو حنيفة إِلَى أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ
لَفْظُ الْحَالِفِ فِي عُقُودِهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَهُ
مِنْ سَبَبِهَا، فَإِذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ
بِرُكُوبِ دَوَابِّهِ، وَلَا بِأَكْلِ طَعَامِهِ. وَلَا بِدُخُولِ دَارِهِ.
وَإِذَا حَلَفَ لَا شربت لك من عطش لم يحنث ليشرب غير الماء من الشراب ولا
يلبس الثِّيَابِ وَلَا بِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ: إِنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي
إِلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهَا الْمِنَّةَ عَامَّةً، حَنِثَ بِكُلِّ
نَفْعٍ عَادَ إِلَيْهِ. فَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ لَهُ ثَوْبًا حَنِثَ
بِأَكْلِ طَعَامِهِ، وَرُكُوبِ دَوَابِّهِ، وَسُكْنِ دَارِهِ، وَلَوْ
حَلَفَ لَا شَرِبْتُ لَكَ مَاءً مِنْ عَطَشٍ حَنِثَ بِكُلِّ أَقْوَالِهِ
وَحَنِثَ إِنِ اسْتَظَلَّ بِجِدَارِ دَارِهِ اعْتِبَارًا بِعُمُومِ
السَّبَبِ. وَإِلْغَاءِ الْخُصُوصِ فِي الْيَمِينِ اسْتِدْلَالًا
بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا
بِالْعُرْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا بَعْضُ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ
الِاسْمُ جَازَ أَنْ يَتَجَاوَزَ خُصُوصُهَا بِالْعُرْفِ إِلَى غَيْرِ مَا
انْطَلَقَ عَلَيْهِ الاسم.
(15/361)
وَالثَّانِي: إنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي
أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ فِي قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ
وُجُودِ الِاسْمِ، وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي
الْبُرِّ أَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ وَجَبَ
اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي الْأَيْمَانِ فَيَخُصُّ عُمُومَهَا بِالْعُرْفِ
تَارَةً مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَيَتَخَطَّاهُ بِالْعُرْفِ تَارَةً مَعَ
عَدَمِ الِاسْمِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْمِ وَإِسْقَاطِ السَّبَبِ هُوَ أَنَّ
السَّبَبَ قَدْ يَتَجَرَّدُ عَنِ الْيَمِينِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
حُكْمٌ، وَقَدْ تَنْفَرِدُ الْيَمِينُ عَنْ سَبَبٍ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا
الْحُكْمُ، فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَا وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ أَنْ
يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْيَمِينِ دُونَ السَّبَبِ لأمرين:
أحدها: لِقُوَّةِ الْيَمِينِ عَلَى السَّبَبِ.
وَالثَّانِي: لِحُدُوثِ الْيَمِينِ وَتَقَدُّمِ السَّبَبِ وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُؤَاخُِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ)
{المائدة: 89) وَلِأَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ
الْمُظْهَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرًا أَلَا
تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا، وَقَطَعَ كَلَامَهُ، وَقَالَ: أَرَدْتُ
لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ
مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنْ أَرَادَهُ بِقَلْبِهِ وَقَرَنَهُ بِيَمِينِهِ
فَلِأَنْ لَا تَنْعَقِدَ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْيَمِينِ
وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِالْقَلْبِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ
وَيَتَوَلَّى اللَّهُ السَّرَائِرَ ".
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى إِلْغَاءِ السَّبَبِ
بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَالًا فَحَلَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ
لِيَضْرِبَنَّ الْوَاهِبَ. حَنِثَ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ، وَإِنْ كَانَ
يَمِينُهُ مُخَالِفَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنَ السَّبَبِ، وَقَدْ كَانَ
يَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَسْبَابِ أَنْ لَا يُحَنِّثَهُ فِيهَا وَإِنْ
لَمْ نَقُلْهُ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ اعْتِبَارِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي
الْأَيْمَانِ تَخْصِيصُ عُمُومِهَا بِالْعُرْفِ جَازَ تَخَطِّي خُصُوصِهَا
بِالْعُرْفِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنْ تَخْصِيصِهَا مُقَارَنٌ
بِعَقْدِهَا فَجَازَ اعْتِبَارُهُ وَالْعُرْفُ فِي تَخَطِّي خُصُوصِهَا
مُفَارِقٌ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ
اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ تَخْصِيصُ
الْعُمُومِ مَعَ وُجُودِ الِاسْمِ وَجَازَ تَجَاوُزُ النَّصِّ فِي ثُبُوتِ
الرِّبَا فِي الْبُرِّ إِلَى مَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبُرِّ
كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ فَهُوَ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ يُجْمَعُ
فِيهَا بَيْنَ اعْتِبَارِ الْأَسَامِي وَالْمَعَانِي، وَأَحْكَامَ
الْأَيْمَانِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْأَسَامِي دُونَ الْمَعَانِي، لِأَنَّ
الضَّرُورَةَ دَعَتْ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ
إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَتَجَاوُزِ الْأَسَامِي، وَلَمْ تَدْعُ
الضَّرُورَةُ فِي الْأَيْمَانِ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي، فَوَقَفَتْ
عَلَى اعْتِبَارِ الأسامي والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْتَ فلانٍ فدخل بيتاً
سكنه فلانٌ بكراءٍ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ نَوَى مَسْكَنَ
فلانٍ فَيَحْنَثَ ".
(15/362)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا
قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَسْكَنَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا
يَسْكُنُهَا زَيْدٌ بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ حَنِثَ،
لِأَنَّهَا مَسْكَنٌ لَهُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا
يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ، فَدَخَلَ دَارًا يَمْلِكُهَا زيدٌ حَنِثَ. سَوَاءٌ
كَانَ يَسْكُنُهَا أَوْ لَا يَسْكُنُهَا. وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ يَمْلِكُ
نِصْفَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا
يَسْكُنُهَا زيدٍ بِإِجَارَةٍ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهَا لَمْ يَحْنَثْ عَلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ يَحْنَثُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ)
{الأنفال: 5) وَكَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ مِنْ بَيْتِ خَدِيجَةَ: فَأَضَافَ
الْبَيْتَ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنَهُ.
وَقَالَ تعالى: {اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) {الطلاق: 1) أَيْ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَضَافَهَا
إِلَيْهِنَّ بِسُكْنَاهُنَّ لِأَنَّ مِلْكَهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ
مِنْهُ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَلَا بِغَيْرِهَا وَلِأَنَّهُ
لَمَّا كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا مَقْصُورًا عَلَيْهِ دُونَ
مَالِكِهَا صَارَ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ أَحَقَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
بِالْحِنْثِ أَلْزَمَ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَمْلَاكِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ تَقْتَضِي
إِضَافَةَ الْمِلْكِ لِلرِّقَابِ دُونَ الْمَنَافِعِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ
قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ كَانَ هَذَا إِقْرَارًا مِنْهُ لَهُ
بِالْمِلْكِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ مَالِكٌ
لِمَنَافِعِهَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِقْرَارِ
مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَيْمَانِ مَحْمُولًا
عَلَى الْمِلْكِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَكَنَ زَيْدٌ دَارَ عَمْرٍو. فَحَلَفَ
رَجُلٌ أَلَّا يَدْخُلَ دَارَ زَيْدٍ وَحَلَفَ آخَرُ لَا يَدْخُلُ دَارَ
عَمْرٍو ثُمَّ دَخَلَهَا كُلُّ واحدٍ مِنَ الْحَالِفَيْنِ قَالُوا
يَحْنَثَانِ جَمِيعًا فَجَعَلُوهَا كُلَّهَا دَارَ زَيْدٍ، وَجَعَلُوهَا
كُلَّهَا دَارَ عَمْرٍو وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّارِ
لِزَيْدٍ وَكُلُّهَا لِعَمْرٍو، فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَى أَحَقِّهِمَا
بِهَا وَالْمَالِكُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ السَّاكِنِ، لِأَنَّ السَّاكِنَ
لَوْ حَلَفَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ، حَنِثَ وَالْمَالِكَ إِنْ حَلَفَ أَنَّ
الدَّارَ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَانِثُ مِنَ
الْحَالِفَيْنِ مَنِ اخْتَصَّ بِالْمِلْكِ دُونَ السَّاكِنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَتَيْنِ فِي إِضَافَةِ
الدَّارِ إِلَى سَاكِنِهَا فَهُوَ أَنَّهَا إِضَافَةُ مَجَازٍ لَا
حَقِيقَةٍ كَمَا يُقَالُ: مَالُ الْعَبْدِ وَسَرْجُ الدَّابَّةِ،
وَالْأَيْمَانُ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ
مَجَازِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِذْنِ فَهُوَ أَنَّ
اسْتِحْقَاقَ الْإِذْنِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمِلْكِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ
الْمَالِكُ لَا دَخَلْتُ دَارِي فَدَخَلَ دَارًا قَدْ أَجَّرَهَا حَنِثَ،
وَإِنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي دُخُولِهَا حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِذَا
تَقَرَّرَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ
النِّيَّةِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ تُخَالِفُ هَذَا
الْإِطْلَاقَ حُمِلَ فِي الحنث على نيته.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ هُوَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَرَاخَى أَوْ لم يتراخ ".
(15/363)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا
حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ دَارًا فَدَخَلَهَا مُخْتَارًا ذَاكِرًا حَنِثَ
بِدُخُولِهَا مَاشِيًا كَانَ أَوْ رَاكِبًا لِأَنَّهُ دَخَلَ إِلَيْهَا
حَقِيقَةً، وَلَوْ دَخَلَهَا نَاسِيًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ
نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ، وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ إِلَيْهَا مَحْمُولًا
فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بِأَمْرِهِ أَوْ
بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قد أمر بحمله فعل الدُّخُولِ، وَإِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَنْ أَمْرِهِ
فَأَشْبَهَ دُخُولَهُ إِلَيْهَا رَاكِبًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ حَلَفَ لو بَاعَ، وَلَا ضَرَبَ فَأَمَرَ غَيْرَهُ
بِالضَّرْبِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَحْنَثْ. فَهَلَّا كَانَتْ فِي الْأَمْرِ
بِالدُّخُولِ كَذَلِكَ.
قِيلَ: لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ
فَالْفِعْلُ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ مِثَالُهُ مِنْ دُخُولِ
الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْنَثُ. فَهَذَا
إِذَا دَخَلَ الدَّارَ بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أُدْخِلَ عَقِيبَ الْأَمْرِ أَوْ
بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي،
لِإِضَافَتِهِ إِلَى أَمْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ، فَأَمَّا إِذَا حُمِلَ
وَأُدْخِلَ الدَّارَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ، اسْتَصْعَبَ أَوْ
تَرَاخَى، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِ اسْتَصْعَبَ عَلَى
الْحَامِلِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ تَرَاخَى حَنِثَ لِأَنَّهُ مَعَ
الِاسْتِصْعَابِ كَارِهٌ وَمَعَ التَّرَاخِي مُخْتَارٌ، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ وَلَا آمِرٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُضَافَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَوْ جَازَ
أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِصْعَابِ
وَالتَّرَاخِي، لِأَنَّ يَمِينَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ
الِاخْتِيَارِ وَالْكَرَاهِيَةِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: "
تَرَاخَى أَوْ لَمْ يَتَرَاخَ " فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى
الرَّدِّ عَلَى مَالِكٍ فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ مَعَ الِاسْتِصْعَابِ
وَالتَّرَاخِي، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَمْرِ فِي وُقُوعِ
الْحِنْثِ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا
يَحْنَثُ إِذَا حُمِلَ نُظِرَ فَإِنْ بَادَرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ عَقِبَ
قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ فَهُوَ عَلَى بِرِّهِ وَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ
قُدْرَتِهِ عَلَى الْخُرُوجِ. فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا
بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ هَلْ يَكُونُ اسْتِدَامَةُ الدُّخُولِ جَارِيًا
مَجْرَى ابْتِدَائِهِ أَمْ لَا؟
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ فَكَانَ
أَوْلَاهُمَا بِمَذْهَبِهِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ قَالَ نَوَيْتُ شَهْرًا
لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَدِينَ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ أَنْ لَا يَدْخُلَ
الدَّارَ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنْ قَيَّدَهَا نُطْقًا فِي
الِامْتِنَاعِ مِنْ دُخُولِهَا شَهْرًا لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهَا بَعْدَ
انْقِضَائِهِ وَلَوْ نَوَى مَعَ إِطْلَاقِ يَمِينِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا
شَهْرًا لَمْ تَخْلُ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ
آدَمِيٍّ أَوْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهِيَ الْيَمِينُ
بِاللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْإِيلَاءِ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
نِيَّتِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِاخْتِصَاصِهَا بِحُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى الْمَحْضَةِ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إِلَى دِيَانَتِهِ، وَإِنْ
تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ كَالْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَبِاللَّهِ فِي الْإِيلَاءِ مِنَ الزَّوْجَةِ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ
(15/364)
الْحُكْمِ عِنْدَ نِزَاعِهِ عَلَى مَا
اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنَ التَّأْبِيدِ دُونَ مَا نَوَاهُ مِنَ
التَّقْيِيدِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَحْمُولٌ
عَلَى الظَّاهِرِ فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ،
وَهُوَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَوَى مِنَ التقييد.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فلانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ
عَلَى رجلٍ غَيْرِهِ بَيْتًا فَوَجَدَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ لَمْ
يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي
الْبَيْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ يُحَنِّثُ عَلَى
غَيْرِ النِّيَةِ وَلَا يَرْفَعُ الْخَطَأَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ
اللَّهُ: قَدْ سَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الْحِنْثِ بَيْنَ مَنْ حَلَفَ
فَفَعَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ
عَلَى زَيْدٍ بَيْتًا فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي هُوَ سَاكِنُهُ
إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ غَصْبٍ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا
لِيَمِينِهِ حَنِثَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ،
وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مُكْرَهًا على ما سنذكره منا تَوْجِيهِ
الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ بِنَفْسِ الدُّخُولِ، وَلَا بِاسْتِدَامَتِهِ
مَعَ تَعَذُّرِ الْخُرُوجِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْخُرُوجُ فَأَقَامَ وَلَمْ
يَخْرُجْ حَنِثَ بِاسْتِدَامَةِ الدُّخُولِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قد
وجد منه العقل وَتَجَدَّدَ مِنْهُ الذِّكْرُ فَصَارَ كَالْعَمْدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ فَقَدْ نَصَّ
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ
الْبَيْتِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَسْجِدِ مَجَازًا، وَالْحَقِيقَةُ أَنْ
يُسَمَّى مَسْجِدًا، فَحُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ،
وَعِنْدَ مَالِكٍ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْأَسْبَابَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عَمْرٍو بَيْتًا، فَيَكُونَ
زَيْدٌ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ
كَلَامُ الشَّافِعِيِّ فِي حِنْثِهِ بِهَذَا الدُّخُولِ فَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَحْنَثُ عَلِمَ
أَنَّهُ بِالْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمِ اعْتِبَارًا بِالْفِعْلِ دُونَ
الْقَصْدِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ حَنَّثَ الْعَامِدَ وَالنَّاسِيَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ
عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّهُ داخلٌ عَلَى
غَيْرِهِ اعْتِبَارًا بِالْمَقَاصِدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
سُرَيْجٍ إنَّهُ يَحْنَثُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْبَيْتِ
(15/365)
وَلَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ،
لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلْمِ قاصدٌ وَمَعَ الْجَهْلِ غَيْرُ قَاصِدٍ، وَهَذَا
قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ إنَّهُ إِنْ لَمْ
يَعْلَمْ بِهِ أَوْ عَلِمَ فَاسْتَثْنَاهُ بِقَلْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ
عَلِمَ وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ حَنِثَ تَخْرِيجًا مِمَّنْ حَلَفَ لَا
يُكَلِّمُ زَيْدًا فَسَلَّمَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَهُوَ فِيهِمْ،
وَاسْتَثْنَاهُ بِنِيَّتِهِ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ
شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا ثَبَتَ تَعْلِيلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ
الْأَرْبَعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: بِوُقُوعِ الْحِنْثِ بِهَذَا الدُّخُولِ
حَنِثَ إِذَا جَمَعَهُمَا بَيْتٌ واحدٌ، فَإِنْ كَانَا فِي بَيْتَيْنِ مِنْ
دَارٍ واحدةٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ
بَيْتًا، وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً
لَا يُفَرِّقُ الْمُتَبَايِعَانِ فِيهَا حَنِثَ، لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ
مُنْطَلِقٌ عَلَى الدَّارِ عُرْفًا، لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَبِيتِ،
وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ كَبِيرَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَكَانٍ
يَفْتَرِقُ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، يَرَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَ
عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ
فِي صَحْنِهَا أَوْ صُفَّتِهَا لَمْ يَحْنَثِ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ
اسْمِ الْبَيْتِ أَنَّهُ مُنْطَلِقٌ عَلَى مَا تَمَيَّزَ مِنَ الدَّارِ
بِهَذَا الِاسْمِ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ بَيْتًا
فَدَخَلَ صَحْنَ الدَّارِ أَوْ صُفَّتَهَا، أَوِ اسْتَطْرَقَ دِهْلِيزَهَا
لَمْ يَحْنَثْ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي، وَإِنْ
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْحِنْثِ كَمَا سَوَّى
أَبُو الْعَبَّاسِ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ.
وَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِهَذَا الدُّخُولِ، فَإِنْ
بَادَرَ بِالْخُرُوجِ سَاعَةَ دُخُولِهِ أَوْ بَادَرَ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا فِي الْحَالِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا
يَدْخُلُ دَارًا وَهُوَ دَاخِلُهَا، هَلْ يَحْنَثُ بِالِاسْتِدَامَةِ كَمَا
يَحْنَثُ بِالِابْتِدَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ هَذَا إِذَا جَعَلَ الِاسْتِدَامَةَ
كَالِابْتِدَاءِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ إِذَا فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِدَامَةِ
وَالِابْتِدَاءِ فَلَوْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بَيْتًا عَلَى
الْحَالِفِ فَإِنْ بَادَرَ الْحَالِفُ بِالْخُرُوجِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ،
وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ لَا
تَكُونُ دُخُولًا لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ هَاهُنَا.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ تَكُونُ كَابْتِدَائِهِ فَفِي
حِنْثِ الْحَالِفِ هَاهُنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ كَالدَّاخِلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مدخولٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ
بِدَاخِلٍ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا
الطَّعَامَ غَدًا فَهَلَكَ قَبْلَ غدٍ لَمْ يَحْنَثْ لِلإِكْرَاه قَالَ
اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
(15/366)
مُطْمَئِنُ بِالإيْمَانِ} فَعَقَلْنَا
أَنَّ قَوْلَ الْمُكْرَهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ وَعَقَلْنَا
أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ أَنْ يُغْلَبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ فَإِذَا
تَلَفَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ فعلٍ
مِنْهُ فَهُوَ فِي أَكْثَرَ مِنَ الْإِكْرَاهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ
حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ
مُكْرَهًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ:
أْحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
فَإِذَا قِيلَ: يَحْنَثُ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: 89) فَكَانَ
عَقْدُهَا مُوجِبًا لِلْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى عُمُومِ
الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَعِلْمٍ وجهلٍ وَاخْتِيَارٍ وإكراهٍ
وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ
النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهَا فِي الْحِنْثِ
عَلَى إِطْلَاقِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهَا مُوجِبٌ
لِتَقْيِيدِ الْحِنْثِ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ فِي
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ إِطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) {المائدة: 95) مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ
وَالْخَطَأِ، وَإِطْلَاقَ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
- " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ " مُوجِبٌ لِإِبْطَالِ
النِّكَاحِ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ
تَطْهِيرٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ
الْحَدَثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ
الْحِنْثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَإِذَا قِيلَ لَا يحنث، فدليله قول
الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ
مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) {الأحزاب: 5) فَكَانَ رَفْعُ الْجَنَاحِ فِي
الْخَطَأِ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْخَاطِئِ، وَبِمَا
رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ
الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَكَانَ حُكْمُ
الْأَيْمَانِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذَا التَّجَاوُزِ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ
النَّوَاهِي فِي الشَّرْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمْدِ دُونَ السَّهْوِ،
كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ، كَذَلِكَ فِي
الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا
بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَجَبَ أن يكون حلها بِالْحِنْثِ لَا يَكُونُ
إِلَّا عَنْ قصدٍ وَاخْتِيَارٍ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ،
وَالْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُونَ إِلَى تَصْحِيحِ
الْقَوْلِ بِأَنْ لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي، لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنْ
خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالَ لِي أَبُو
الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ: مَا أَفْتَيْتُ فِي يَمِينِ النَّاسِي بشيءٍ
قَطُّ، وحكى عن شيخه أبي الغياض أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ،
وَحَكَى أبو الغياض عَنْ شَيْخِهِ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ
لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ فَاقْتَدَيْتُ بِهَذَا السَّلَفِ وَلَمْ
أُفْتِ فِيهَا بشيءٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّوَقِّي أَحْوَطُ مِنْ
وَرَطَاتِ الْإِقْدَامِ.
(15/367)
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا يَمِينُ الْمُكْرَهِ فَلَا تَنْعَقِدُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَنْعَقِدُ كَالْمُخْتَارِ، وَقَدْ مَضَى
الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ.
وَدَلِيلُهُ فِي الْأَيْمَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْيَمَانَ وَالِدَ
حُذَيْفَةَ حَلَّفَهُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ لَا يُعِيرَ رَسُولَ الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، فَقَالَ: " أَوْفِ بِعَهْدِكَ "
فَسَوَّى بَيْنِ يَمِينِ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْتَارِ وَلِأَنَّهَا يَمِينُ
مُكَلَّفٍ فَانْعَقَدَتْ كَالْمُخْتَارِ.
ودليلينا رِوَايَةُ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ وَعَنْ
أَبِي أُمَامَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " لَيْسَ عَلَى مقهورٍ يمينٌ "، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتُ
الْكُفْرِ مِنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ كَالْجُنُونِ، وَأَمَّا يَمِينُ
الْيَمَانِ فَحَلَفَ بِهَا مُخْتَارًا، لِأَنَّهُ كَانَ مُشْرِكًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُخْتَارِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْكُفْرِ.
(فَصْلٌ:)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَصُورَةُ
مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَنْ يَحْلِفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا
أَوْ لَيَرْكَبَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ غَدًا، أَوْ لَيَلْبِسَنَّ هَذَا
الثَّوْبَ غَدًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى وَقْتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ،
وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي غَدِهِ وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ
وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ، فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ إِذَا جَعَلَ
ذَلِكَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ، لِأَنَّ الْغَدَ
هُوَ يَوْمٌ يَسْتَوْعِبُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ
وَلَيْسَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ
الْغَدِ وَلَا هُمَا وَقْتَ الْبِرِّ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ
وَقْتِهِ فَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ فِي يَوْمِهِ وَيَرْكَبَ فِيهِ
الدَّابَّةَ، وَيَلْبَسَ فِيهِ الثَّوْبَ، فَلَا يَبَرُّ بِذَلِكَ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ وَيَحْنَثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ
مَقْصُودَ يَمِينِهِ أَنْ لَا يؤخر فعل ذلك من غَدِهِ وَهُوَ فِي
التَّقْدِيمِ غَيْرُ مُؤَخِّرٍ لَهُ فبر فيه.
ودليلنا هو أن البر مفيد بِزَمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ
كَالْمُقَيَّدِ بِالْمَكَانِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ
الْمَكَانِ كَتَأْخِيرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الزَّمَانِ
كَتَأْخِيرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ بِفِعْلِ
(15/368)
ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ فَإِنْ كَانَ طَعَامًا
قَدْ أكله حنث، إذا لَا سَبِيلَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ فِي غَدِهِ إِلَّا
أَنَّ حِنْثَهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فِي غَدِهِ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ حِنْثُهُ
بِطُلُوعِ فَجْرِهِ أَوْ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِطُلُوعٍ فَجْرِهِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ وَقْتِ
الْبِرِّ فِيمَا فَاتَ، فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَكُونُ خُرُوجُ
وَقْتِهَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا بِأَوَّلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْنَثُ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ لِبَقَاءِ
زَمَانِ الْبِرِّ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمُ
الْفَوَاتِ كَأَوَّلِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ
دَابَّةً إِنْ رَكِبَهَا فِي غَدِهِ أَوْ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ فِيهِ لَمْ
يَحْنَثْ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ فِي يَوْمِهِ
لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي غَدِهِ فَإِنْ رَكِبَ وَلَيْسَ فِي غَدِهِ فِيمَا
بَيْنَ طُلُوعِ فَجْرِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ
لَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّ
إِمْكَانَ الْفِعْلِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَطْعِ بِالْحِنْثِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَ فِعْلَ ذَلِكَ عَنْ
وَقْتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَامِدًا حَنِثَ، وَإِنْ أَخَّرَهُ نَاسِيًا
فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فَوَاتِ
وَقْتِهِ، فَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ فِي يَوْمِهِ وَبَاقِيَهُ فِي
غَدِهِ حَنِثَ لِأَنَّ إِكْمَالَ الْأَكْلِ فِي غَدِهِ شَرْطٌ فِي بِرِّهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي
وَقْتِهِ، فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أضربٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَفُوتَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْحَالِفِ قَبْلَ الْغَدِ فَلَا
حنث عليه لزوال تكليفه بالموت.
والضرب الثَّانِي: أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ قَبْلَ
غَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَحْنَثُ فِي غَدِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ
قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ فِي الْغَدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ غَدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ
فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ لِزَوَالِ قُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مُكْنَتِهِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَفُوتَهُ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ
وَوُجُودِهِ إِمَّا بِحَبْسٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ مَرَضٍ، فَيَكُونُ
حِنْثُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُكْرَهِ فَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى
فِعْلِهِ فِي غَدِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى تَلَفَ فِي
بَقِيَّةِ غَدِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ يَجْرِي عَلَى
فَوَاتِهِ فِيهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ أَوْ حُكْمُ الْمُكْرَهِ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُخْتَارِ لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ
فِي وَقْتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا.
(15/369)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْرِي عَلَيْهِ
حُكْمُ الْمُكْرَهِ لِبَقَاءِ وَقْتِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي
حِنْثِهِ قَوْلَانِ، والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " ولو حلف ليقضينه حقه لوقتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ
يُؤَخِّرَهُ فَمَاتَ قبل يَشَاءُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَنَّهُ لَا حِنْثَ
عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فلانٌ فَمَاتَ فلانٌ
الَّذِي جَعَلَ الْمَشِيَئَةَ إِلَيْهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا غلطٌ
لَيْسَ فِي مَوْتِهِ مَا يَمْنَعُ إِمْكَانَ بِرِّهِ وَأَصْلُ قَوْلِهِ
إِنْ أَمْكَنَهُ الْبِرُّ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَى فَاتَهُ الْإِمْكَانُ
أَنَّهُ يحنث وقد قال لو حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ
فلانٍ فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الْإِذْنَ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ دخلها حنث
(قال المزني) وهذا وذاك سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ مَسْأَلَتَانِ جَمَعَ الْمُزَنِيُّ
بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ قَبْلَ شَرْحِهِمَا مَسْأَلَتَيْنِ
لِيَكُونَا أَصْلًا يَتَمَهَّدُ بِهِ جَوَابُ مَسَائِلِهِمْ، فَتَصِيرُ
الْمَسَائِلُ أَرْبَعًا: فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ:
وَاللَّهِ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ، وَلَا يُعَيِّنُ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا،
فَيَكُونُ بِرُّهُ مُعْتَبَرًا بِقَضَائِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْغَرِيمِ
وَصَاحِبِ الْحَقِّ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ وَبِعِيدِهِ سَوَاءٌ، لِأَنَّ
إِطْلَاقَ الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةَ الْحَيَاةِ فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ
الْحَقِّ قَبْلَ قَضَائِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ
الْغَرِيمُ الْحَالِفُ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَنِثَ أَيْضًا فَيَقَعُ
الْحِنْثُ بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ لِحُدُوثِ
الْمَوْتِ مَعَ إِمْكَانِ الْبِرِّ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ فِي
يَوْمِ الْجُمْعَةِ، فَيَجْعَلَ لِلْقَضَاءِ وَقْتًا، فَلَا يَبَرُّ
الْحَالِفُ إِلَّا بِقَضَائِهِ فِيهِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ يَوْمِ
الْجُمْعَةِ أَوْ بَعْدَهُ حَنِثَ، فَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ
الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا لِمَوْتِهِ قَبْلَ إِمْكَانِ
بِرِّهِ، وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَفِي
حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ حَلَفَ
لِيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدًا، فَهَلَكَ الطَّعَامُ الْيَوْمَ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، لَا يَحْنَثُ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ
التَّفْرِيعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِطْلَاقِ الْيَمِينِ، فَيَحْنَثُ
بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، وَبَيْنَ تَقْيِيدِهَا بِوَقْتٍ فَلَا
يَحْنَثُ بِمَوْتِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ الْوَقْتِ هُوَ إِمْكَانُ
الْبِرِّ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَتَعَذُّرُ إِمْكَانِهِ مَعَ التَّوْقِيتِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ أُولَى الْمَنْصُوصَيْنِ أن يحلف
ليقضينه حقه في يوم الجمعة، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ
يُؤَخِّرَهُ فَبِرُّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا أَنْ يَشَاءَ
صَاحِبُ الْحَقِّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ،
وَإِمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ حَقَّهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنَّ
مَشِيئَةَ تَأْخِيرِهِ حلٌ لِيَمِينِهِ وَالْقَضَاءُ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ
فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لم يَحْنَث
(15/370)
بِفَوَاتِ الْقَضَاءِ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ
صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثِ الْحَالِفُ
أَيْضًا، لَكِنَّهُ إِنْ مَاتَ بَعْدَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ
بِحَلِّ الْيَمِينِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مَشِيئَتِهِ ارْتَفَعَ الْحِنْثُ
بِتَعَذُّرِ إِمْكَانِ الْبِرِّ، وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَحْلِفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي
يَوْمِ الْجُمْعَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ تَأْخِيرَهُ، فَارْتِفَاعُ
حِنْثِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ إِمَّا بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ
لِلتَّأْخِيرِ فَتَحِلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَإِمَّا بِقَضَاءِ الْحَقِّ فِي
يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَيَبَرُّ فِي الْيَمِينِ، فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ
قَبْلَ يَوْمِ الْجُمْعَةِ لَمْ يَحْنَثْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ مَاتَ
صَاحِبُ الْحَقِّ قَبْلَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ
الْمَذْهَبِ وَإِنِ احْتَمَلَ تَخْرِيجَ الْحِنْثِ، وَإِنْ مَاتَ زَيْدٌ
صَاحِبُ الْمَشِيئَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَهُ قَبْلُ مَوْتِهِ
ثَلَاثَةُ أحوالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ، فَالْيَمِينُ قَدِ
انْحَلَّتْ وَلَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِيهَا بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ مَشِيئَةِ التَّأْخِيرِ،
فَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ
زَمَانَ الْبِرِّ مُنْتَظَرٌ، وَهُوَ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ مُعْتَبَرٌ
فَإِنْ قَضَاهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ بَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَنِثَ
لِإِمْكَانِ الْبِرِّ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى
الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ
(الْمَسْأَلَةِ:)
إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ كَمَا لَوْ كَانَتِ
الْمَشِيئَةُ مَرْدُودَةً إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ ظَنَّ أَنَّهُ جَمَعَ
بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ بِمَوْتِهِمَا فِي الْأَحْوَالِ
كُلِّهَا، فَقَالَ: كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُقُوطِ الْحِنْثِ
بِمَوْتِهِمَا وَالْبِرُّ فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ مُتَعَذِّرٌ وَفِي
مَوْتِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ مُمْكِنٌ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا جَمَعَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْحِنْثَ لَا
يَقَعُ فِي حَالِ مَوْتِهِمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْقَضَاءِ لَمْ يَأْتِ
فَصَارَا فِيهِ سَوَاءً فِي الْحَالِ، وَإِنِ افْتَرَقَا بِتَأْخِيرِ
الْقَضَاءِ، فَيَحْنَثُ بتأخيره إذا كان الْمَشِيئَةُ إِلَى غَيْرِ صَاحِبِ
الْحَقِّ، وَلَا يَجِبُ تأخيره إذا كان الْمَشِيئَةُ إِلَى صَاحِبِ
الْحَقِّ بِمَا عَلَّلَ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِ
صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ إِمْكَانِهِ بِمَوْتِ غَيْرِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: مِنْ أَحْوَالِ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ قَبْلَ
مَوْتِهِ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي مَشِيئَتِهِ، فَلَا يَعْلَمُ هَلْ شَاءَ
التَّأْخِيرَ أَوْ لَمْ يَشَأْهُ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ لَمْ
يَشَأِ التَّأْخِيرَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ حَتَّى
يَعْلَمَ حُدُوثَهَا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى مَا مَضَى.
وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ
حُكْمُ التَّأَنِّي فَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ بِتَأْخِيرِ الْقَضَاءِ
اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَاحْتِجَاجًا بِأَنَّ
الْحِنْثَ لَا يَقَعُ بِالشَّكِّ وَهَذَا زَلَلٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ
مُنْعَقِدَةٌ فَلَا تَحِلُّ بِالشَّكِّ.
(فَصْلٌ:)
ثُمَّ إِنَّ الْمُزَنِيَّ وَصَلَ احْتِجَاجَهُ عَلَى مَا وَهِمَ فِي
تَأْوِيلِهِ وَإِنْ أَصَابَ في جوابه
(15/371)
بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: إِنْ حَلَفَ
لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ، فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ
الْإِذْنَ إِلَيْهِ، أَنَّهُ إِنْ دَخَلَهَا حَنِثَ وَهَذَا وَذَاكَ
سَوَاءٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَالْجَوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا اخْتِلَافٌ وَإِنَّمَا وَهِمَ فِيمَا
أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،
فَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا
بَعْدَ مَوْتِ زَيْدٍ فَإِنْ كَانَ زَيْدٌ قَدْ أَذِنَ قَبْلَ مَوْتِهِ
لَمْ يَحْنَثْ، وَيَكُونُ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي الْبِرِّ وَتَكُونُ
الْمَشِيئَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ شَرْطًا فِي حَلِّ
الْيَمِينِ لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي دُخُولِ الدَّارِ مَعْقُودَةٌ عَلَى
الْإِذْنِ، وَفِي الْمَشِيئَةِ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ مَاتَ
زَيْدٌ قَبْلَ إِذْنِهِ حَنِثَ فِي الدُّخُولِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ
لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى شَكٍّ مِنْ وُجُودِ إِذْنِهِ وَعَدَمِهِ
حَنِثَ وَجْهًا وَاحِدًا عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَالْفَرْقُ
بَيْنَ الْإِذْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَشِيئَةِ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَيْثُ خَرَجَ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا
مِنَ الِاحْتِمَالِ عَلَى مَا خَرَجَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِذْنَ ظَاهِرٌ وَالْمَشِيئَةَ بَاطِنَةٌ.
وَالثَّانِي: إنَّ الْإِذْنَ فِي هَذِهِ شَرْطٌ فِي الْبِرِّ،
وَالْمَشِيئَةَ فِي تِلْكَ شَرْطٌ فِي الْحَلِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قال الشافعي رحمه الله: " ولو حلف ليقضينه عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ أَوْ
إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ فرأى في الليلة التي يهل فيها الهلال حنث (قال
المزني) رحمه الله وقد قال في الذي خلف ليقضينه إلى رمضان فهل إنه حانثٌ
لأنه حد (قال المزني) رحمه الله: هذا أصح كَقَوْلِهِ إِلَى اللَّيْلِ
فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حَنِثَ ".
قال الماوردي: وهذا صحيح كَقَوْلِهِ إِلَى اللَّيْلِ، فَإِذَا جَاءَ
اللَّيْلُ حنث، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ ثَلَاث مَسَائِلَ، اتَّفَقَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ
وَاخْتَلَفَ فِي الثَّالِثَةِ، إِحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ
الْمَذْهَبُ فِي الْجَوَابِ عَلَيْهَا إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ
حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ فَوَقْتُ
بَرِّهِ مُعَيَّنٌ بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ وَهُوَ أَنْ يَقْضِيَهُ مَعَ
رَأْسِ الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْهِلَالِ
حَنِثَ وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَ الْهِلَالِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ
مَعَهُ حَنِثَ بِمُضِيِّ زَمَانِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِلَالِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لا يحنث بقضائه قبل القضاء يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَجَعَلَ
زَمَانَ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْهِلَالِ مُعْتَبَرًا بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،
وَاعْتَبَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْإِمْكَانِ وَهُوَ
أَصَحُّ، لِأَنَّ مَقَادِيرَ الزَّمَانِ إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ عَنْ نَصٍّ
أَوْ قِيَاسٍ بَطَلَتْ لما يتوجه عليها من المعارضة وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ
ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِالْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْقَضَاءِ
مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ فَيَسْتَوِي حُكْمُ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ
الشَّهْرِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا لَا
يَكُونُ زَمَانُ قَضَائِهِ كَوَزْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ
(15/372)
أَوْ فِضَّةٍ، ضَاقَ زَمَانُ بِرِّهِ
لِإِمْكَانِ وَزْنِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانٍ بَعْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ، فَإِنْ
أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَقَلِّ زَمَانٍ حَنِثَ، فَإِنْ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ
إِلَيْهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ، وَكَانَ بَعِيدَ الدَّارِ مِنْهُ حَتَّى
مَضَتِ اللَّيْلَةُ أَوْ أَكْثَرُهَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ
فِي الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَطُولُ زَمَانُ قَضَائِهِ
كَمِائَةِ كُرٍّ مِنْ بُرٍّ اتَّسَعَ زَمَانُ بِرِّهِ إِذَا شَرَعَ فِي
الْقَضَاءِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ وَامْتَدَّ بِحَسْبِ الْوَاقِعِ مِنْ
كَيْلِ هَذَا الْقَدْرِ حتى ربما اعتد أياما، فإ، أَخَّرَ عِنْدَ رَأْسِ
الشَّهْرِ فِي جَمْعِ مَا يَقْضِيهِ وَتَحْصِيلِهِ لِلْقَضَاءِ حَنِثَ،
وَلَوْ أَخَذَ فِي نَقْلِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ نَقْلَهُ
مَشْرُوعٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَيْسَ جَمْعُهُ مَشْرُوعًا فِيهِ، وَقَوْلُ
الشافعيب رحمه الله في هذه المسألة فرأى يفي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ
فِيهَا الْهِلَالُ حَنِثَ، يَعْنِي إِذَا لَمْ يَقْضِهِ فِيهَا، فَإِنْ
قَضَاهُ بَرَّ، وَلَيْسَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ شَرْطًا، وَإِنَّمَا دُخُولُ
الشَّهْرِ بِأَوَّلِه جُزْءٍ مِنْ لَيْلَتِهِ هُوَ الزَّمَانُ
الْمُعْتَبَرُ، لِأَنَّ الْهِلَالَ رُبَّمَا غُمَّ بسحابٍ مَنَعَ مِنْ
رُؤْيَتِهِ إِلَّا أَنْ يُغَمَّ فِي لَيْلَةِ شَكٍّ، فَلَا يَكُونَ مِنَ
الشَّهْرِ.
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَنْ
يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حقه إلى رمضان، فجعل رمضان غايةً واحداً،
لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِحَرْفٍ وُضِعَ لِلْغَايَةِ وَالْحَرْفُ هُوَ " إِلَى
"، فَيَكُونُ زَمَانُ بِرِّهِ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى أَوَّلِ جُزْءٍ
مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ) {البقرة: 187) فَكَانَ زَمَانُ الصِّيَامِ إِلَى أَوَّلِ
جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ حَتَّى
دَخَلَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ رَمَضَانَ حَنِثَ وَيَجِيءُ عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِانْقِضَاءِ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ قَبْلَ رَمَضَانَ
وَكَمَّلَهُ فِي رَمَضَانَ لِطُولِ زَمَانِهِ بَرَّ، لِأَنَّ الشُّرُوعَ
فِي الْقَضَاءِ كَالْقَضَاءِ، فَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ فِي لَيْلَةِ
شَكٍّ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، فَفِي
حِنْثِهِ قَوْلَانِ كَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ
بِقَوْلِي إِلَى رَمَضَانَ أَيْ: فِي رَمَضَانَ، دِينَ فِي الْبَاطِنِ
لِاحْتِمَالِ مَا أَرَادَ لِأَنَّهَا حُرُوفٌ تُقَامُ بَعْضُهَا مَقَامَ
بَعْضٍ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ) {طه: 71) أَيْ: عَلَيْهَا فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ
فَيَحْنَثُ إِذَا تَعَلَّقَ بِيَمِينِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ
عَتَاقٍ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ دُونَ مَجَازِهِ، فَإِنْ حَلَفَ
لَأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ عِنْدَ رَمَضَانَ لَمْ يَبَرَّ بِقَضَائِهِ قَبْلَ
رَمَضَانَ، لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ، فَإِذَا
أَهَلَّ رَمَضَانُ احْتَمَلَ مَا يُعْتَبَرُ فِي بِرِّهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِإِمْكَانِ الْقَضَاءِ عِنْدَ دُخُولِهِ، فَإِنْ
أَخَّرَهُ حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ جَمِيعُ الشَّهْرِ وَقْتًا لِلْبِرِّ،
لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ عَلَى جُزْءٍ مِنْهُ، فَصَارَ حُكْمُ آخِرِهِ
كَحُكْمِ أَوَّلِهِ.
(15/373)
(فَصْلٌ:)
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، فَهُوَ أَنْ
يَحْلِفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَوْ إِلَى
رَأْسِ الْهِلَالِ، فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِيهَا عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ،
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ فِي أَنَّهُ يَحْنَثُ
بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، لِيَكُونَ زمان البر فيها بين وقتي حنث بتقدم
أَحَدِهِمَا عَلَى رَأْسِ الْهِلَالِ وَيتَأَخر الْآخَرِ عَنْهُ، وَجَمَعَ
الْمُزَنِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ، وإلى رَمَضَانَ فِي
أَنَّ زَمَانَ الْبِرِّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ، وَإِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ،
كَمَا كَانَ فِي وَقْتِ يَمِينِهِ إِلَى رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا قَالَهُ
الْمُزَنِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ
الْهِلَالِ، فِي أَنَّ وَقْتَ الْبِرِّ يَكُونُ مَعَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ
بَيْنَ زَمَانَيْ حِنْثٍ، وَقَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ، أَنَّ
الْبِرَّ مِنْ وَقْتِ يَمِينِهِ وَإِلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَكُونُ
رُؤْيَةُ الْهِلَالِ وَقْتًا لِحِنْثِهِ، وَرُؤْيَتُهُ فِي قَوْلِهِ:
عِنْدَ رَأْسِ الْهِلَالِ وَقْتًا لِبَرِّهِ لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى "
مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِلْحَدِّ وَالْغَايَةِ، وَلَفْظَةَ: عِنْدَ
مَوْضُوعَةٌ لِلْمُقَارَبَةِ، فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا لِاخْتِلَافِ
مَوْضُوعِهِمَا، كَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ قَوْلِهِ: إلى رمضان، وعند
رَمَضَانَ، وَأَجَابَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ جَمْعِ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَوَابَهُ وَإِنْ
كَانَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِمَا فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: عِنْدَ
رَأْسِ الْهِلَالِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الْهِلَالِ،
وَلِلشَّافِعِيِّ عَادَةٌ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ يَعْطِفُ
بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا، فَيُرِيدُ به إِحْدَاهُمَا اكْتِفَاءً بِمَا
عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْأُخْرَى وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّ "
إِلَى " وَ " عِنْدَ " مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ، وَيَجِبُ
أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ جَمْعَ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ عِنْدَ رَأْسِ
الْهِلَالِ، وإلى رَأْسِ الْهِلَالِ صحيحٌ. وَأَنَّ كِلَيْهِمَا فِي
الْبِرِّ وَالْحِنْثِ واحدٌ، وَأَنَّ رَأْسَ الْهِلَالِ وَقْتُ الْبِرِّ
فِيهِمَا، وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَقْتُ الْحِنْثِ فِيهِمَا،
لِأَنَّ لَفْظَةَ " إِلَى " قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْحَدِّ تَارَةً
وَلِلْمُقَارَبَةِ تَارَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ أنْصَارِيَ إِلَى
اللهِ) {الصف: 14) أَيْ: مَعَ اللَّهِ، {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ) {المائدة: 6) ، أَيْ: مَعَ الْمَرَافِقِ، فَلَمَّا احْتَمَلَ
أَنْ تَكُونَ لِلْحَدِّ تَارَةً، وَلِلْمُقَارَبَةِ أُخْرَى، صَارَ
الْحِنْثُ فِي جَعْلِهَا لِلْحَدِّ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَفِي جَعْلِهَا
لِلْمُقَارَبَةِ مُتَيَقِّنًا، فَحَنِثَ بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ،
وَفَرَّقَ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ، بَيْنَ قَوْلِهِ إِلَى رَأْسِ
الشَّهْرِ فَيَكُونُ لِلْمُقَارَبَةِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إِلَى رَمَضَانَ
فَيَكُونُ لِلْحَدِّ بِأَنَّ رَأْسَ الشَّهْرِ مُعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ،
فَغَلَبَ حُكْمُ الْوَقْتِ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ فَحُمِلَ
(15/374)
علَى الْمُقَارَبَةِ، وَرَمَضَانُ غَيْرُ
مُعَيَّنٍ لِلْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُهُ وَقْتًا لَهُ، فَغَلَبَ
حُكْمُ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْتِ فَحُمِلَ عَلَى الْحَدِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ إنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ " عِنْدَ " وَ " إِلَى " فِي
الْحِنْثِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْبِرِّ، فَإِذَا قَالَ عِنْدَ
رَأْسِ الشَّهْرِ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِدَفْعِهِ مَعَ رَأْسِ الشَّهْرِ
وَإِذَا قَالَ: إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ بَرَّ بِدَفْعِهِ فِي وَقْتِهِ،
وَإِلَى عِنْدِ رَأْسِ الشَّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَ لَمْ توضع إلا للمقاربة،
وإلى قد وصفت للمقاربة تارة، وللحد آخر: فَاجْتَمَعَ فِيهِمَا حُكْمُ
الْمُقَارَبَةِ وَحُكْمُ الْحَدِّ فَوَجَبَ أن يتعلق بهما الحكمان معاً
فصارا الأجل ذَلِكَ مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْحِنْثِ إِنْ لَمْ يَقْضِهِ
حَتَّى جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ حَنِثَ، وَمُفْتَرِقَيْنِ فِي الْبِرِّ إِنْ
قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرَّ،
وَإِنْ قَضَاهُ فِي قَوْلِهِ: عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ قَبْلَ الشَّهْرِ
لَمْ يبر والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ إِلَى حينٍ فَلَيْسَ بمعلومٍِ لِأَنَّهُ
يَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا ويومٍ وَالْفُتْيَا أَنْ يُقَالُ لَهُ
الْوَرَعُ لَكَ أَنْ تَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يومٍ لِأَنَّ الْحِينَ
يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ حَلَفْتَ وَلَا نُحَنِّثُكَ أَبَدًا لِأَنَّا
لَا نَعْلَمُ لِلْحِينِ غَايَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْحِينُ من الزمان فجمعهم لَا حَدَّ لَهُ
فِي الشَّرْعِ عِنْدَنَا، وَحَدَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
وَحَدَّهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ إِلَى
حِينٍ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا بِفَوَاتِ
الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَوْتِ صَاحِبِ الْحَقِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ قَضَاهُ فِي سِتَّةِ أَشْهُرِ بَرَّ، وَإِنْ
قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ قَضَاهُ إِلَى سَنَةٍ
بَرَّ، وَإِنْ قَضَاهُ بَعْدَهَا حَنِثَ، وَاسْتِدْلَالُنَا عَلَى ذَلِكَ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا} فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لِأَنَّهَا فِي
النَّخْلِ مُدَّةُ حَمْلِهَا مِنْ أَوَّلِ طَلْعِهَا إِلَى آخر جذاؤها،
وَقَدَّرَهُ مَالِكٌ بِسَنَةٍ، لِأَنَّهَا تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ سنة، فتكون
من الإطلاع إلى الإطلاع ستة. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْحِينَ اسْمٌ
مُبْهَمٌ، يَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) {الروم: 17)
وَأَرَادَ بِهِ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مُدَّةِ
الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حينٍ)
{ص: 88) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَيْنَ
الزَّمَانَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ
مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ) {الإنسان: 1) يَعْنِي: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ هِيَ
مُدَّةُ حَمْلِهِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرْبَعُونَ سَنَةً إِشَارَةً إِلَى آدَمَ
أَنَّهُ صُوِّرَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَطِينٍ لازبٍ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُرَادُ بِهِ
فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَا يَخْتَصُّ
بِزَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى قَلِيلِ الزَّمَانِ
وَكَثِيرِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَقَضَاهُ قَبْلَ مَوْتِهِ،
(15/375)
وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ بَرَّ فِي
يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَضَاهُ فِي زَمَانٍ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ
الْحِينِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأُفْتِيهِ وَرَعًا
أَنْ يَقْضِيَهُ فِي يَوْمِهِ، وَأَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ إِنْ قَضَاهُ
بَعْدَ انْقِضَائِهِ، لِيُحْمَلَ عَلَى أَقَلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ،
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذلك في الحكم.
(فصل:)
قال: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا إِذَا حَلَفَ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا
إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ يَمِينِهِ بَرَّ
لِوُجُودِ الْكَلَامِ بَعْدَ زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ.
وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا يَبَرُّ حَتَّى يُكَلِّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى
حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ أَنَّ هَذِهِ نَفْيٌ وَتِلْكَ
إِثْبَاتٌ، فَإِذَا وُجِدَ الْفِعْلُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي
زَمَانٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْحِينِ عَلَيْهِ بَرَّ، وَقَلِيلُ الزَّمَانِ
حِينٌ، فَبَرَّ في النفي، وكثيره حين فبر الإثبات والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وكذلك زمانٌ ودهرٌ وأحقابٌ وكل كلمةٍ مفردةٍ ليس لها ظاهرٌ
يدل عليها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: إِذَا حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ
حَقَّهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَعْدَ دهرٍ أَوْ بَعْدَ أَحْقَابٍ بَرَّ
إِذَا قَضَاهُ بَعْدَ قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ كَالْحِينِ،
لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ مُبْهَمَةٌ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا قَلَّ وَكَثُرَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقَلُّ الزَّمَانِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَقَلُّ
الْحِقَبِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَالَ مَالِكٌ أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ
سَنَةً وَلَيْسَ لِهَذَا التَّحْدِيدِ وَجْهٌ لِعَدَمِ النَّصِّ فِيهِ
وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانٍ غَيْرِ
مَحْدُودٍ وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ
قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ فَجَازَ أَنْ
يَقْضِيَهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَكَذَلِكَ قَرِيبُ
الزَّمَانِ وَبِعِيدُهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرِيبِ: إِنَّهُ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ،
وَفِي الْبَعِيدِ: إِنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ،
لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَبْعَدُ
وَيَكُونُ بَعِيدًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ، فَصَارَ
كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " ولو حلف لا يشتري فأمر غيره أَوْ لَا يُطَلِّقُ فَجَعَلَ
طَلَاقَهَا إِلَيْهَا فَطلقت أَوْ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ
فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ حَلَفَ لَا
يَفْعَلُ شَيْئًا فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَحْوَالٍ:
(15/376)
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ لَا يَفْعَلُهُ
بِنَفْسِهِ، فَلَا يحنث إذا أمر غيره بفعله، لا يختلف المذهب فيه اعتباراً
بنيته، سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا كَانَ مِنْهُ مَا
يَقْتَضِي ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ
إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِفِعْلِهِ كَمَا يَحْنَثُ إِذَا فَعَلَهُ
بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ
الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ يَمِينُهُ مُطْلَقَةً لَمْ
تَقْتَرِنْ بِهَا نِيَّةٌ، فَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ
عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أقسامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا بِالْأَمْرِ
دُونَ الْمُبَاشَرَةِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا
احْتَجَمْتُ، وَلَا افْتَصَدْتُ وَلَا حَلَقْتُ رَأْسِي، وَلَا بَنَيْتُ
دَارِي، فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْحِجَامَةِ وَفَصَدَهُ وَحَلَقَ رأسه،
وبناء دَارَهُ حَنِثَ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي الْعُرْفِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ جَلِيلٍ أَنْ
يُبَاشِرَ فِعْلَهَا فِي نَفْسِهِ إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَصَارَ الْعُرْفُ
فِيهِ شَرْطًا يَصْرِفُ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ إِلَى مَجَازِهِ فَيَصِيرُ
اعْتِبَارُ الْمَجَازِ إِذَا اقْتَرَنَ بِالْعُرْفِ أَوْلَى مِنَ
اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ إِذَا فَارَقَ الْعُرْفَ لِأَنَّ الْعُرْفَ ناقلٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ فِي فِعْلِهِ جَارِيًا
بِمُبَاشَرَتِهِ دُونَ أَمْرِهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَقَوْلِهِ:
وَاللَّهِ لَا كَتَبْتُ، وَلَا قَرَأْتُ وَلَا حَجَجْتُ، وَلَا اعْتَمَرْتُ
فَإِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ سَوَاءٌ جَلَّ قَدْرُ الْحَالِفِ أَوْ قَلَّ،
لِأَنَّ الْعُرْفَ جارٍ بَيْنَ النَّاسِ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ
قَلِيلٍ وَجَلِيلٍ، فَصَارَ الْعُرْفُ مُقْتَرِنًا بِالْحَقِيقَةِ دُونَ
الْمَجَازِ فَخَرَجَ مَجَازُهُ عَنْ حُكْمِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ مُخْتَلِفًا فِي
مُبَاشَرَةِ فِعْلِهِ فَيُبَاشِرُهُ مَنْ دَنَا، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ
عَلَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَرِنَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الِاخْتِلَافِ
بَيْنَهُمَا عُرْفُ الشَّرْعِ وَهُوَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ الَّتِي لَا
يُقِيمُهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ إِلَّا أُولُو الْأَمْرِ مِنْ ذِي
وِلَايَةٍ وَسُلْطَانٍ، فَيَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أُولِي
الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهَا، كَمَا قِيلَ: جَلَدَ النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَانِيًا، وَرَجَمَ مَاعِزًا وَقَطَعَ
سَارِقًا، وَلَا يَحْنَثُ بِهَا غَيْرُ أُولِي الْأَمْرِ حَتَّى
يُبَاشِرَهَا بِفِعْلِهِ، لأنه غير نافذ الأسر فِيهِمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا
بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ عُرْفِ الشَّرْعِ، فَيُبَاشِرُهُ مَنْ
دَنَا، وَلَا يُبَاشِرُهُ مَنْ عَلَا تَنَزُّهًا وَتَصَوُّنًا كَعُقُودِ
الْبُيُوعِ وَالْأَشْرِبَةِ وَتَأْدِيبِ الْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ،
فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا بِمُبَاشَرَتِهِ،
كرجلٍ مِنْ عَوَامِّ السُّوقَةِ حَلَفَ
(15/377)
لَا بَاعَ وَلَا اشْتَرَى، وَلَا تَزَوَّجَ
وَلَا طَلَّقَ، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا، فَإِذَا
أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى وَزَوَّجَهُ وَطَلَّقَ
عَنْهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَأَدَّبَ خَادِمَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي هَذَا
كُلِّهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ فِي هَذَا كُلِّهِ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا إِذَا بَاشَرَهُ الْوَكِيلُ
أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالشِّرَى، يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ
الدَّارَ لِمُوَكِّلِي لَمْ يَحْنَثِ الْمُوَكِّلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا
لَا يُضِيفُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَالنِّكَاحِ يَقُولُ: قَبِلْتُ هَذَا
النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِي، وَلَا يَقُولُ: نَكَحْتُ لِمُوَكِّلِي، كَمَا
يَقُولُ: اشْتَرَيْتُ لِمُوَكِّلِي حَنِثَ الْمُوَكِّلُ، وَكِلَا
الْمَذْهَبَيْنِ مدخولٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ جَمِيعَهَا سَوَاءٌ فِي
أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ الْآمِرُ بِهَا وَالْمُوَكِّلُ فِيهَا إِذَا كَانَ
الْعُرْفُ بِمُبَاشَرَتِهِ لَهَا جَارِيًا، لِأَنَّ الْأَيْمَانَ تُحْمَلُ
عَلَى حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ، مَا لَمْ يَنْقُلْهَا عُرْفُ
الْحَقِيقَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِمُبَاشَرَتِهَا، وَالْعُرْفُ
مُقْتَرِنٌ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ فِي الْأَمْرِ بِهَا عَنِ
الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ إِلَى مَجَازٍ تَجَرَّدَ عَنِ الْعُرْفِ فَعَلَى
هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا، فَرَدَّ
إِلَيْهَا الطَّلَاقَ، فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ لَا
يَكُونُ مُطَلِّقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُخَيِّرًا فِي الطَّلَاقِ، وَلَوْ
قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا
طُلِّقَتْ وَحَنِثَ، لِأَنَّهُ مُطَلِّقٌ لَهَا عَلَى صفةٍ وَقَعَتْ
مِنْهَا فَلِذَلِكَ افْتَرَقَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا
بِالِاسْتِنَابَةِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ، وَإِنْ بَاشَرَهُ اسْتَنْكَرَتْهُ
النُّفُوسُ مِنْهُ، كَالسُّلْطَانِ أَوْ مَنْ قاربه في رتبته إذا حلف، ولا
بَاعَ وَلَا اشْتَرَى، وَلَا ضَرَبَ عَبْدًا، وَلَا أَدَّبَ خَادِمًا،
فَإِذَا وَكَّلَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَأَمَرَ بِضَرْبِ عَبْدِهِ
وَبِأَدَبِ خَادِمِهِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَفَرَّدَ الرَّبِيعُ بِنَقْلِهِ وَتَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ،
لِأَنَّ الْعُرْفَ قَدْ صَارَ مُقْتَرِنًا بِالْمَجَازِ دُونَ
الْحَقِيقَةِ، وَالْعُرْفُ نَاقِلٌ، كَمَا لَوْ حَلَفَ: لَا أَكَلْتُ
رُؤوسًا، لَمْ يَحْنَثْ بِرُؤُوسِ الطَّيْرِ وَالْجَرَادِ، وَإِنْ وُجِدَ
حَقِيقَةُ الِاسْمِ فِيهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَمَّا اخْتَصَّ بِرُؤُوسِ
الْغَنَمِ نَقَلَ عَمَّا عَدَاهَا حَقِيقَةَ الِاسْمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَمَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ
مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهَا
الْمُبَاشَرَةُ لَهَا دُونَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَقِيقَةُ لَا تُنْقَلُ
إِلَّا بِعُرْفٍ عَامٍّ، كَمَا قِيلَ فِي الرُّؤوسِ، وَهَذَا عُرْفٌ
خَاصٌّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ بِهِ الْحَقِيقَةُ، كَمَا لَوْ
حَلَفَ سُلْطَانٌ: لَا أَكَلْتُ خُبْزًا وَلَا لَبِسْتُ ثَوْبًا، فَأَكَلَ
خُبْزَ الذُّرَةِ وَلَبِسَ عَبَاءَةً حنث وإن لم تجز عَادَتُهُ بِأَكْلِ
الذُّرَةِ وَلُبْسِ الْعَبَاءَةِ، لِأَنَّهُ عُرْفٌ خاصٌ وَلَيْسَ
بِعَامٍّ، فَلِذَلِكَ سَاوَى فِيهِ عُرْفَ الْعُمُومِ فَكَذَلِكَ فِي
هَذِهِ الْعُقُودِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عُرْفُ الْحَالِفِ جَارِيًا
بِالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ بَاشَرَهُ لَمْ تَسْتَنْكِرْهُ
النُّفُوسُ مِنْهُ، وَلَا تَسْتَقْبِحْهُ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ، لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُبَاشِرَهُ
بِنَفْسِهِ، فَإِذَا حَلَفَ سُلْطَانٌ لَا نَكَحَ وَلَا طَلَّقَ، وَلَا
أَعْتَقَ، فوكل في
(15/378)
النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يعتبر حكم عرفه أو يعتبر ما
تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ فِعْلِهِ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ حُكْمُ عُرْفِهِ، لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ، فَعَلَى
هَذَا فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ مَا لَا تَسْتَنْكِرُهُ النُّفُوسُ مِنْ
فِعْلِهِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَعَلَى هَذَا لَا يَحْنَثُ قَوْلًا وَاحِدًا،
والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ فِعْلَيْنِ أَوْ لَا يَكُونُ
أَمْرَانِ، لَمْ يَحْنَثْ حَتَى يَكُونَا جَمِيعًا وحتى يأكل كل الذي حلف
أن لا يأكله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عَقْدُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلَيْنِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى إِثْبَاتِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَى نَفْيِهِمَا.
فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى إِثْبَاتِهِمَا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ
لَآكُلَنَّ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَأَلْبَسَنَّ هَذَيْنِ
الثَّوْبَيْنِ، وَلِأَرْكَبَنَّ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ، فَلَا خِلَافَ
بَيْنِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا بِفِعْلِهِمَا فَيَأْكُلُ
الرَّغِيفَيْنِ، وَيَلْبَسُ الثَّوْبَيْنِ وَيَرْكَبُ الدَّابَّتَيْنِ
فَإِنْ أكل إحدى الرَّغِيفَيْنِ وَلَبِسَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَرَكِبَ
إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَبَرَّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى نَفْيٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا
أَكَلْتُ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَا لَبِسْتُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ،
وَلَا رَكِبْتُ هَاتَيْنِ الدَّابَّتَيْنِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِهِمَا، كَمَا لَا يَبَرُّ
إِلَّا بِهِمَا، فَإِنْ أَكَلَ أَحَدَ الرَّغِيفَيْنِ، وَلَبِسَ أَحَدَ
الثَّوْبَيْنِ، وَرَكِبَ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَبَرَّ
إِلَّا بِهِمَا وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِثْبَاتَ إِبَاحَةٌ، وَالنَّفْيَ حظرٌ، وَالْحَظْرَ
أَغْلَبُ مِنَ الْإِبَاحَةِ.
وَالثَّانِي: إنَّ الْأَيْمَانَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّغْلِيظِ،
وَالتَّغْلِيظُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَحْنَثَ بِأَحَدِهِمَا، وَفِي
الْإِثْبَاتِ أَنْ لَا يَبَرَّ إِلَّا بِهِمَا، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ فِعْلَ بَعْضِ الشَّيْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ
جَمِيعِهِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا وِفَاقًا وَشَرْعًا،
لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ
أَوْ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّهَا، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ أَوْ إِحْدَى
رِجْلَيْهِ لَمْ يَبَرَّ وَهَذَا وِفَاقٌ قَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، قَدِ
اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي
مَسَاجِدِهِ فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْهُ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا لِتَغْسِلَهُ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ في اعتكافه.
(15/379)
وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ
عَلَى أحدٍ قَبْلِي إِلَّا عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى
أُعْلِمَكَ فَتَوَجَّهَ لِلْخُرُوجِ، وَقَدَّمَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ
فَأَخْرَجَهَا ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَسْتَفْتِحُ صَلَاتَكَ قَالَ:
بِبسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: " هِيَ، هِيَ ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ لَا يَكُونُ خُرُوجًا،
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْفِعْلِ لَا يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ الْفِعْلِ،
فَأَحَدُ الْفِعْلَيْنِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَ الْفِعْلَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْفِعْلَانِ فِي شَرْطِ الْبِرِّ
وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي شَرْطِ الْحِنْثِ، لِتَرَدُّدِ الْيَمِينِ
بَيْنَ بِرٍّ وَحِنْثٍ؟ وَفَرقاه بَيْنَهُمَا منتقضٌ بِفِعْلِ بَعْضِ
الشَّيْءِ حَيْثُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ جَمِيعِهِ فِي الْإِثْبَاتِ
وَالنَّفْيِ مَعًا مَعَ وُجُودِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهِمَا.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ مَاءَ هَذِهِ
الْإِدَاوَةِ أَوْ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَشْرَبَ
مَاءَ الْإِدَاوَةِ كُلَّهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى شُرْبِ مَاءِ
النَّهْرِ كُلِّهِ وَلَوْ قَالَ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مِنْ
مَاءِ هَذَا النَّهْرِ حَنِثَ إِنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ
هَذِهِ الْإِدَاوَةِ، وَلَا شَرِبْتُ مِنْ مَاءِ هَذَا النَّهْرِ،
فَالْيَمِينُ مَعْقُودَةٌ عَلَى بَعْضِ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَبَعْضِ مَاءِ
النَّهْرِ، لِدُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
(مِنْ) فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ وَمَاءِ النَّهْرِ
حَنِثَ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَكَذَا فِي الْإِثْبَاتِ لَوْ حَلَفَ
لَيَشْرَبَنَّ مِنْ مَاءِ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ أَوْ مِنْ مَاءِ هَذَا
النَّهْرِ، فَأَيُّ قَدْرٍ شَرِبَ مِنْهُمَا مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ
بَرَّ فِي يَمِينِهِ ارْتَوَى بِهِ أَوْ لَمْ يَرْتَوِ.
فَأَمَّا إِذَا حَذَفَ مِنْ يَمِينِهِ حَرْفَ التبعض فَأَطْلَقَهَا،
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ مَاءَ هَذِهِ الْإِدَاوَةِ لَمْ يَحْنَثْ
بِشُرْبِ بَعْضِهِ، وَإِنْ حَنَّثَهُ مَالِكٌ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي
إِطْلَاقِ الْيَمِينِ تُوجِبُ الِاسْتِيعَابَ فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ
لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ طَعَامًا اشْتَرَاهُ زَيْدٌ، فَأَكَلَ
بَعْضَهُ حَنِثَ، فَهَلَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِ الْمَاءِ، كَمَا حَنِثَ
بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ.
قِيلَ: لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بَعْضِ
الْمَاءِ وَفِي حِنْثِهِ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ كَمَا لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِهِ فَعَلَى هَذَا
قَدِ اسْتَوَيَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ، إنَّهُ يَحْنَثُ بِأَكْلِ بَعْضِ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ
يَحْنَثْ إِلَّا بِشُرْبِ جَمِيعِ الْمَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ
الْمَاءَ فِي الْإِدَاوَةِ مِقْدَارٌ يَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، وَلَا
يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِ بَعْضِهِ
وَشِرَاءُ زَيْدٍ لِلطَّعَامِ صِفَةٌ تَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِهِ، كَمَا
تَنْطَلِقُ عَلَى جَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِهِ، فَإِذَا
ثَبَتَ أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْإِدَاوَةِ يَقَعُ بِشُرْبِ مَائِهَا
كُلِّهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِشُرْبِ بعضه، فذهب
(15/380)
مِنْ مَاءِ الْإِدَاوَةِ قَطْرَةٌ
انْحَلَّتِ الْيَمِينُ لِأَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهَا إِنْ شَرِبَ بَاقِيَ
مَائِهَا، فَلَوْ شَكَّ أَذَهَبَ مِنْهَا قَطْرَةٌ أَوْ لَمْ يَذْهَبْ،
فَشَرِبَ جَمِيعَ مَائِهَا، فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ، لِأَنَّ ذَهَابَ الْقَطْرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ.
والوجه الثاني: لا يحنث، لأت الحنث مشكوك فيه.
فصل
: فأما إذا حلفت لَا شَرِبْتُ مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ
النَّهْرِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِبَرِّهِ وَلَا لِحِنْثِهِ فِيمَا
شَرِبَ مِنْهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي شُرْبِهِ مِنْهُ عَلَى
وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ بحنث بِمَا
شَرِبَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، صَارَتِ
الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَا لَا يَسْتَحِيلُ لِأَنْ لَا يَصِيرَ
بِيَمِينِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ لَغْوًا.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ حَنِثَ
بِشُرْبِ مَا قَلَّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ
يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ شُرْبُ جَمِيعِهِ
مِنَ الْمُسْتَحِيلِ، حُمِلَ عَلَى شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ، كَذَلِكَ
مَاءُ النَّهْرِ لَمَّا اسْتَحَالَ شُرْبُ جَمِيعِهِ، حُمِلَ عَلَى مَا لَا
يَسْتَحِيلُ مِنْ شُرْبِ بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ
عَلَى حَمْلِ يَمِينِهِ عَلَى مَا يَجِدُ السَبِيل إِلَيْهِ، وَهُوَ أَنْ
يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، فَعَلَى هَذَا: أَيُّ شَيْءٍ شَرِبَ مِنْ
مَائِهِ حَنِثَ بِهِ مِمَّا يَرْوِي أَوْ لَا يَرْوِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِشُرْب شَيْء مِنْ مَائِهِ، لِأَنَّ يَمِينَهُ
تَوَجَّهَتْ إِلَى شُرْبِ جَمِيعِهِ، لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى مَاءِ
النَّهْرِ، وَلَمْ يُطْلِقْ فَصَارَ النَّهْرُ مِقْدَارًا كَالْإِدَاوَةِ
وَلَيْسَ إِذَا اسْتَحَالَ شُرْبُ الْجَمِيعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى
شُرْبِ مَا لَا يَسْتَحِيلُ.
أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ
لَمْ يُحْمَلْ عَلَى صُعُودِ السَّقْفِ، وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً،
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ، وَوَجَبَ حَمْلُ يَمِينِهِ فِي صُعُودِ
السَّمَاءِ عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فِي شُرْبِ مَاءِ
النَّهْرِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ: لَا شَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْأَلِفُ
وَاللَّامُ لَفْظُ تَعْرِيفٍ وُضِعَ لِاسْتِيعَابِ الْجِنْسِ تَارَةً
وَلِلْمَعْهُودِ أُخْرَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، فَإِذَا اسْتَحَالَ
اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ حُمِلَ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَكَانَ حَقِيقَةً
فِيهِ، وَفَارَقَ مَاءَ النَّهْرِ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي
جَمِيعِهِ وَمَجَازٌ فِي بَعْضِهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: "
وَلَا سَبِيلَ إِلَى شُرْبِ مَاءِ النَّهْرِ كُلِّهِ " بِسُقُوطِ حِنْثِهِ.
ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي النَّفْيِ أَنْ
يَعْقِدَ بيمينه عَلَى الْإِثْبَاتِ فَيَقُولَ: وَاللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ
مَاءَ هَذَا النَّهْرِ، فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ: مَتَى
شَرِبَ بَعْضَ مَائِهِ بَرَّ، لِأَنَّهُ
(15/381)
لَمَّا حَنِثَ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي
النَّفْيِ وَجَبَ أَنْ يَبَرَّ بِشُرْبِ بَعْضِهِ فِي الْإِثْبَاتِ،
وَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَبَرَّ فِي الْإِثْبَاتِ
بِشُرْبِ بَعْضِهِ كَمَا لَا يَحْنَثُ فِي النَّفْيِ بِشُرْبِ بَعْضِهِ،
وَإِذَا لَمْ يَبَرَّ صَارَ مَحْكُومًا بِحِنْثِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ
إِلَى بِرِّهِ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَأَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ،
يَكُونُ حَانِثًا، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ وَفِي
زَمَانِ حِنْثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَقِيبَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ الْبِرِّ يَمْنَعُ
مِنْ تَأْخِيرِ الْحِنْثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَحْنَثُ مِنْ آخِرِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ عَقْدَ
يَمِينِهِ عَلَى التَّرَاخِي، فَكَانَ تَحْقِيقُ الْحِنْثِ عَلَى
التَّرَاخِي.
(فصل:)
وإذا حلف لأشرب ما مَاءِ دِجْلَةَ، فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ، أَوْ
لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْفُرَاتِ فَشَرِبَ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ لَمْ
يَحْنَثْ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَخُصُّ الْيَمِينَ، وَلَوْ قَالَ:
وَاللَّهِ لَأَشْرَبُ مَاء فُرَاتا حَنِثَ بِشُرْبِهِ مِنْ دِجْلَةَ وَمِنَ
الْفُرَاتِ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْفُرَاتَ هُوَ الْعَذْبُ، فَحَنِثَ
بِشُرْبِ كُلِّ مَاءٍ عَذْبٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) {المرسلات:
27) أَيْ: عَذْبًا، وَلَا فَرْقَ إِذَا حَلَفَ لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ
دِجْلَةَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَهُ مِنْ إِنَاءٍ اغْتَرَفَ بِهِ وَبَيْنَ
أَنْ يَشْرَبَهُ كَرْعًا بِفِيهِ كَالْبَهِيمَةِ.
فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ، لَا شَرِبْتُ مِنْ دِجْلَةَ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا
كَرْعًا بِفَمِهِ حَنِثَ بِإِجْمَاعٍ، وَإِنِ اغْتَرَفَ مِنْهَا بِإِنَاءٍ
وَشَرِبَ مِنَ الْإِنَاءِ حَنِثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا بِفَمِهِ،
وَلَا يَبَرُّ إِنِ اغْتَرَفَ بِيَدِهِ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّهُ لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ،
فَاغْتَرَفَ مِنْ مَائِهِ، وَشَرِبَهُ لَمْ يحنث كذلك إذا حلف لأشربت مِنْ
دِجْلَةَ، فَاغْتَرَفَ مَا شَرِبَهُ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَحْنَثْ بِوُقُوعِ
الْيَمِينِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْمَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
وَالثَّانِي: إنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ، وَمِنْ مَائِهَا مجازٌ،
وَحَمْلُ الْأَيْمَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى
الْمَجَازِ.
وَدَلِيلُنَا: أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ الْمَشْرُوبَ مُضْمَرٌ فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ
الْمَقْصُودُ بِالشُّرْبِ، كَمَا يُقَالُ: شَرِبَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ
دِجْلَةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْفُرَاتِ، أَيْ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ
وَمَاءِ الْفُرَاتِ فَصَارَ إِضْمَارُهُ كَإِظْهَارِهِ، فَلَمَّا كَانَ
لَوْ حَلَفَ: لَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ حَانِثًا فَشَرِبَهُ مِنْهَا
عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَجَبَ إِذَا حَلَفَ، لَأَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ
أَنْ يَحْنَثَ بِشُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى كُلِّ حالٍ، لِأَنَّ الْمُضْمَرَ
مَقْصُودٌ كَالْمُظْهَرِ.
(15/382)
وَالثَّانِي: إنَّ إِجْمَاعَنَا مُنْعَقِدٌ
عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا شَرِبْتُ مِنَ الْبِئْرِ، وَلَا أَكَلْتُ
مِنَ النَّخْلَةِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِشُرْبِ مَا اسْتَقَاهُ من البئر،
ويأكل مَا لَقَطَهُ مِنَ النَّخْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكْرَعْ مَاءَ
الْبِئْرِ بِفَمِهِ، وَلَا تَنَاوَلَ ثَمَرَةَ النَّخْلَةِ بِفَمِهِ،
كَذَلِكَ الدِّجْلَةُ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إنَّ مَا كَانَ حِنْثًا فِي مَاءِ الْبِئْرِ كَانَ
حِنْثًا فِي مَاءِ الدِّجْلَةِ قِيَاسًا عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا كَرَعَ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: إِذَا تَلَفَّظَ بِاسْمِ الْمَاءِ فِيهِمَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَاءُ الْبِئْرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ إِلَّا
بِاسْتِقَائِهِ وَثَمَرُ النَّخْلَةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْكَلَ إِلَّا
بِلِقَاطِهِ.
قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يُشْرَبَ مَاءُ الْبِئْرِ بِنُزُولِهِ إِلَيْهَا،
وَيُؤْكَلُ مِنَ النَّخْلَةِ بِصُعُودِهِ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ
تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكْرَعَ مِنَ الدِّجْلَةِ
بِالْمَشَقَّةِ.
وَالثَّالِثُ: إنَّ حَقِيقَةَ الدِّجْلَةِ اسْمٌ لِقَرَارِهَا،
وَالْحَقِيقَةُ فِي هَذَا الِاسْمِ مَعْدُولٌ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إنَّ الْقَرَارَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ.
وَالثَّانِي: إنَّ مَا بَاشَرَ الْقَرَارَ لَا يَصِلُ إِلَى كَرْعِهِ
لِعُمْقِهِ وَإِذَا سَقَطَ حَقِيقَةُ الِاسْمِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
وَجَبَ الْعُدُولُ إِلَى مَجَازِهِ، وَهُوَ الْمَاءُ، لِأَنَّ اسْمَ
الدِّجْلَةِ حَقِيقَةٌ فِي قَرَارِهَا، وَمَجَازٌ فِي مَائِهَا،
وَالْمَجَازُ الْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمَتْرُوكَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ إِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ
هَذَا الْإِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْإِنَاءَ آلَةٌ لِلشُّرْبِ، فَصَارَتِ
الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَتِ الدِّجْلَةُ آلَةً
لِلشُّرْبِ، فَصَارَتِ الْيَمِينُ مَعْقُودَةً عَلَى مَائِهَا، أَلَا
تَرَاهُ إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذِهِ النَّاقَةِ
حَنِثَ إِذَا شَرِبَ مِنْ لَبَنِهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْتَصَّهُ مِنْ
أَخْلَافِ ضُرُوعِهَا.
وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا شَرِبْتُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ فَشَرِبَ مِنْ
لَبَنِ الْإِنَاءِ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ. وَأَمَّا
الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا حَقِيقَةٌ،
وَمِنْ مَائِهَا مَجَازٌ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَجَازَ
الْمُسْتَعْمَلَ أَوْلَى مِنَ الْحَقِيقَةِ المتركة وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
(15/383)
بَابُ مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا
يُفَارِقُهُ حتى يستوفي حقه
(مسألة:)
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " مَنْ حَلَفَ عَلَى غَرِيمِهِ لَا
يُفَارِقُهُ حَتَى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ
لِأَنَّهُ لَمْ يُفَارِقْهُ وَلَوْ قَالَ: لَا أَفْتُرِقُ أَنَا وَأَنْتَ
حَنِثَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْبَابِ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ
عُلِّقَتْ عَلَى فِعْلِ فَاعِلٍ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى فِعْلِهِ،
وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ الْبِرُّ وَالْحِنْثُ
مُعْتَبَرًا بِفِعْلِ مَنْ قَصَدَ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا لَازَمَ صَاحِبُ
الدَّيْنِ غَرِيمَهُ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَفْتَرِقَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ
حَقَّهُ لَمْ يَخْلُ يَمِينُهُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ.
وَالثَّانِي: عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ.
وَالثَّالِثُ: على فعلهما.
فأما الْقِسْمَ الْأَوَّلَ: وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى فِعْلِهِ،
فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ حَتَّى أَسْتَوْفِيَ
حَقِّي مِنْكَ، فَالْبِرُّ وَالْحِنْثُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الْحَالِفِ
دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ مختارا ذاكرا
حنث، وإن فارقه مكرها أو نَاسِيًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، عَلَى مَا
مَضَى فِي حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي، فَأَمَّا إِنْ فَارَقَهُ
الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، وَفَرَّ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثِ
الْحَالِفُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إِمْسَاكِهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، لِأَنَّ
الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِهِ فَكَانَ حِنْثُهُ بِأَنْ يَكُونَ
الْفِرَاقُ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ، وَهَذَا الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَى
فِعْلِ غَرِيمِهِ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ، وَوَهِمَ ابْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ فَخَرَجَ حِنْثُهُ بِفِرَاقِ الْغَرِيمِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ
حِنْثِ الْمُكْرَهِ وَالنَّاسِي وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ يَمِينَهُ عَلَى
فِعْلِ غَرِيمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتَنِي حَتَّى
أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، فَإِنْ فَارَقَهُ الْغَرِيمُ مُخْتَارًا
ذَاكِرًا حَنث، وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَقَدِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْإِكْرَاهِ إِذَا كَانَ فِي فِعْلِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِكْرَاهِ فِي فِعْلِ
الْحَالِفِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ
فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ، فَعَلَى هَذَا فِي حِنْثِ الْحَالِفِ قَوْلَانِ:
(15/384)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ
الْبَصْرِيِّينَ، إنَّ الْإِكْرَاهَ مُعْتَبَرٌ فِي فِعْلِ الْحَالِفِ
وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا
يَحْنَثُ الْحَالِفُ قَوْلًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَالِفُ
هُوَ الْمُفَارِقَ لِلْغَرِيمِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِأَنَّ يَمِينَهُ
مَعْقُودَةٌ عَلَى فِعْلِ غَرِيمِهِ، لَا عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَهَذَا
الْفِرَاقُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الْغَرِيمِ،
فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ.
وَأَمَّا القسم الثالث: وهو أن يعقد بيمينه عَلَى فِعْلِهِ، وَفِعْلِ
غَرِيمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا افْتَرَقْنَا أَنَا
وَأَنْتَ، أَوْ وَاللَّهِ لا فارق واحدٌ منها صَاحِبَهُ، حَتَّى
أَسْتَوْفِيَ حَقِّي مِنْكَ، فَالْحِنْثُ هَاهُنَا وَاقِعٌ بِفِرَاقِ كُلِّ
واحدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِهِمَا،
فَإِنْ فَارَقَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا مُخْتَارًا، وَفِي
حِنْثِهِ إِنْ كَانَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا قَوْلَانِ، وَإِنْ فَارَقَهُ
الْغَرِيمُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ ذَاكِرًا، مُخْتَارًا حَنِثَ الْحَالِفُ،
وَإِنْ فَارَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَفِي حِنْثِ الْحَالِفِ مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِلَافِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي
مَعَانِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي الْيَمِينِ إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ
أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ، فَإِنْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ،
حَنِثَ لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَلَّمَهُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لم يحنث ولو قال: والله لا كلمتن فَكَلَّمَهُ
الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ حَنِثَ، وَلَوْ كَلَّمَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ
لِعَقْدِ الْيَمِينِ عَلَى كَلَامِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ:
وَاللَّهِ لَا تُكَلِّمُنَا أَوْ لَا كَلَّمَ واحدٌ مِنَّا صَاحِبَهُ،
فَأَيُّهُمَا كَلَّمَ الْآخَرَ حَنِثَ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ
عَلَى كَلَامِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ أَفْلَسَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ
غَرِيمُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَأَفْلَسَ الْغَرِيمُ
فَفَارَقَهُ لِأَجْلِ الْفَلَسِ الْمُوجِبِ لِإِطْلَاقِهِ لَا لِخَدِيعَةٍ،
فَلَا يَخْلُو حَالُ فِرَاقِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحُكْمٍ أَوْ بِغَيْرِ
حُكْمٍ، فَإِنْ فَارَقَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ
إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ حَنِثَ، لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ إِذَا
خَالَفَتْ عَقْدَ الْيَمِينِ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْحِنْثِ كَمَنْ غَصَبَ
مَالًا، وصف لَا رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَنِثَ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ،
وَإِنْ كَانَ رَدُّهُ بِالشَّرْعِ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ
مُخْتَارًا، وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ وَحَلَفَ لَا خَرَجَ
مِنْهَا حَنِثَ بِخُرُوجِهِ، وَإِنْ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ، فَأَمَّا إِنْ
حَكَمَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِمُفَارَقَتِهِ لَمَّا حَكَمَ بِهِ مِنْ
فَلَسِهِ، فَهُوَ فِي هَذَا الْفِرَاقِ مُكْرَهٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ،
لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى إِجْبَارِ الْحَاكِمِ، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ
قولان من حنث المكره.
(مسألة:)
قال الشافعي: " أَوِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِيمَا يَرَى فَوَجَدَ فِي
دَنَانِيرِهِ زُجَاجًا أَوْ نُحَاسًا حَنِثَ فِي قَوْلِ مَنْ لَا يَطْرَحُ
الْغَلَبَةَ وَالْخَطَأَ عَنِ النَّاسِ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَعْمَدْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ
وَجَدَ فِيهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ نُحَاسًا أَوْ
(15/385)
رَصَاصًا أَوْ زُجَاجًا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ
صَارَ فِيهِ كَالْمَغْلُوبِ وَالنَّاسِي، فَيَكُونُ فِي حِنْثِهِ
قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِوُجُودِ الْفِعْلِ وَإطرَاحًا
لِلْقَصْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا بِالْقَصْدِ وَإطرَاحًا
لِلْفِعْلِ.
وَأَمَّا إِذَا وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ فَهُوَ
عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنَ انْطِلَاقِ اسْمِ
الْحَقِّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ حَقَّهُ دَنَانِيرُ مَغْرِبِيَّةٌ فَأَعْطَاهُ
دَنَانِيرَ مَشْرِقِيَّةً، فَتَكُونُ خِلَافَ الصِّفَةِ فِي الْيَمِينِ
جَارِيًا مَجْرَى خِلَافِ الْجِنْسِ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ فِرَاقِهِ
حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ فِرَاقِهِ كَانَ حِنْثُهُ
عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنَ
انْطِلَاقِ اسْمِ الْحَقِّ عَلَيْهَا، بِأَنْ تَكُونَ دَنَانِيرَ
مَغْرِبِيَّةً لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ عَيْبُهَا مِمَّا
يُسْمَحُ بِهِ فِي الْأَغْلَبِ لِقِلَّة أَرْشِهِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ،
وَإِنْ كَانَ ضِدَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَرْشِهِ حَنِثَ.
فَإِنْ قِيلَ: نُقْصَانُ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ فِيمَا قَلَّ
وَكَثُرَ فَهَلَّا كَانَ نُقْصَانُ الْأَرْشِ بِمَثَابَتِهِ فِي وُقُوعِ
الْحِنْثِ بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ قِيلَ: لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقَدْرِ
مُسْتَحَقٌّ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَنُقْصَانَ
الْأَرْشِ مَظْنُونٌ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا
وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَنْكَسِرُ بِكَثِيرِ الْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ مِنَ
التَّمَاثُلِ فِي الرِّبَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ،
قِيلَ: لِأَنَّ الظَّنَّ فِي كَثِيرِهِ أَقْوَى، وَفِي قَلِيلِهِ أَضْعَفُ
فَافْتَرَقَا فِي بِرِّ الْيَمِينِ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي تماثل الربا.
(مسألة:)
قال الشافعي: " وَلَوْ أَخَذَ بِحَقِّهِ عَرَضًا فَإِنْ كَانَ قِيمَةَ
حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ
حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْكَ مِنْ حَقِّي شيءٌ فَلَا يَحْنَثُ (قَالَ
الْمُزَنِيُّ) رحمه الله: لَيْسَ لِلْقِيمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ يَمِينَهُ
إِنْ كَانَتْ على عين الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ وَإِنْ
كَانَتْ على البراءة فقد برئ والعرض غير الحق سوى أو لم يسو ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى
غَرِيمِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ
فَيَأْخُذَ مِنْهُ عِوَضَ حَقِّهِ مَتَاعًا أَوْ عَرُوضًا أَوْ يَأْخُذَ
بَدَلَ الدَّرَاهِمَ دَنَانِيرَ أَوْ بَدَلَ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ،
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بِرِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ
لَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ، وَيَحْنَثُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَخَذَهُ
بِقِيمَةِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّهُ يَبَرُّ فِي
يَمِينِهِ وَلَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ
مِنْهُ.
(15/386)
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
إنَّهُ يَبَرُّ إِنْ كَانَ بِقِيمَةِ حَقِّهِ، وَيَحْنَثُ إِنْ كَانَ
أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ حَقِّهِ، وَوَهِمَ الْمُزَنِيُّ فَنَقَلَ هَذَا
الْمَذْهَبَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: لَيْسَ
لِلْقِيمَةِ مَعْنًى، لِأَنَّ يَمِينَهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ
الْحَقِّ لَمْ يَبَرَّ إِلَّا بِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى
الْبَرَاءَةِ فَقَدْ بَرِئَ، وَالْعِوَضُ غير الحق، سوى أو لم يساو
فَيُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ: نَقْلُكَ خَطَأٌ وَجَوَابُكَ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا
حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ أَفْصَحَ بِمَذْهَبِهِ فِي
كِتَابِ الْأُمِّ إنَّهُ يَحْنَثُ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى
بِرِّهِ بِأَخْذِ الْبَدَلِ بِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ عَنْ مِائَةِ دِينَارٍ
أَلْفَ دِرْهَمٍ صَارَ عَلَيْهِ بِأَخْذِ الْأَلْفِ مِائَةُ دِينَارٍ،
فَصَارَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَأْخُوذِ
وَهُوَ دَرَاهِمُ وَالْحَقُّ دَنَانِيرُ، فَصَارَ آخذا لِبَدَلِ الْحَقِّ،
وَلَيْسَ بآخذٍ لِلْحَقِّ، وَلِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ
إنَّهُ لَوْ كَانَ حَقُّ الْحَالِفِ ثَوْبًا فَصَالَحَ عَنْهُ بِدَرَاهِمَ
أَخَذَهَا مِنْهُ أَنَّهُ يَحْنَثُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ عَنِ
الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ أَخَذَ عَنِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ حَنِثَ،
لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْحَالَيْنِ بَدَلَ حَقِّهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ
بِعَيْنِهِ وَفِيهِ جوابٌ.
(فَصْلٌ:)
فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا عَلَيْهِ
وَلَمْ يَقُلْ: أَسْتَوْفِي حَقِّي فَأَخَذَ بِحَقِّهِ بَدَلًا بَرَّ فِي
يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِأَخْذِ الْبَدَلِ مُسْتَوْفِيًا مَا
عَلَيْهِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الْحَقِّ حَنِثَ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ
لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ، وَلَوْ أَخَذَ بِهِ رَهْنًا حَنِثَ أَيْضًا، لِأَنَّ
الرَّهْنَ وثيقةٌ، وَلَوْ أَحَالَهُ بِالْحَقِّ حَنِثَ، لِأَنَّهُ مَا
اسْتَوْفَى مَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ إِلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ،
وَلَوْ أَحَالَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ عَلَى الْغَرِيمِ بَرَّ لِأَنَّهُ قَدِ
اسْتَوْفَى بِالْحَوَالَةِ حَقَّهُ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً
أَرْشُهَا بِقَدْرِ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً لَمْ يَبَرَّ، لِأَنَّ
أَرْشَهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَأَرْشُهَا فِي
ذِمَّتِهِ، وَحَقُّهُ فِي ذِمَّةِ غَرِيمِهِ، فَإِنْ كَانَا مِنْ
جِنْسَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَاضَاهُ، لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ
بِدَيْنٍ، فَيَحْنَثُ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى غريمه، وإن كانا جنس واحدٍ
فَهَلْ يَكُونُ قِصَاصًا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: يَكُونُ قِصَاصًا، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا، فَعَلَى هَذَا
فَقَدَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قِصَاصًا وَإِنْ تَرَاضَيَا، فَعَلَى
هَذَا قَدْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَكُونُ قِصَاصًا مَعَ التَّرَاخِي، وَلَا يَكُونُ
قِصَاصًا مَعَ عَدَمِ التَّرَاخِي، فَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَاضَيَا قَبْلَ
الِافْتِرَاقِ بَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا حَنِثَ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " حَدُّ الْفِرَاقِ أَنْ
يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي كَانَا فِيهِ أَوْ مَجْلِسِهِمَا
".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيحٌ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَنْ
يَصِيرَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا فِي مَكَانٍ لَا يُنْسَبُ إِلَى مَكَانِ
صَاحِبِهِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَعَلْنَاهُ افْتِرَاقًا فِي
الْبَيْعِ فِي سقوط
(15/387)
الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ جَعَلْنَاهُ
افْتِرَاقًا فِي الْيَمِينِ فِي وُقُوعِ الْحِنْثِ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ
فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الْحَالِفُ عَلَى
الِافْتِرَاقِ كَانَ فِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، وَلَوْ مَاتَ الْحَالِفُ
قَبْلَ فِرَاقِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ
يَكُنْ مُفَارِقًا لَهُ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الِافْتِرَاقِ بِالْبَيْعِ
حَتَّى يُفَارِقَهُ بِبَدَنِهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ بِبَدَنِهِ، فَفِي
حِنْثِهِ حِينَئِذٍ قَوْلَانِ كَالْمُكْرَهِ.
(مَسْأَلَةٌ:)
قَالَ الشافعي: " وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ
الْيَوْمَ حَنِثَ لِأَنَّ قَضَاءَهُ غَدًا غَيْرُ قَضَائِهِ الْيَوْمَ
فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ غدٌ حَتَّى أَقْضِيَكَ حَقَّكَ
فَقَدْ بَرَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِذَا حَلَفَ
لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ غَدًا فَقَضَاهُ الْيَوْمَ أَنَّهُ يَحْنَثُ،
لِأَنَّ قَضَاءَهُ الْيَوْمَ لَيْسَ بقضاءٍ فِي غَدٍ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا يَحْنَثُ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بِيَمِينِهِ أَنْ
لَا يَخْرُجَ غَدًا حَتَّى أَقْضِيَكَ بَرَّ، لِأَنَّهُ جَعَلَ خُرُوجَ
الْغَدِ حَدًّا، وَلَمْ يَجْعَلْهُ وَقْتًا وَلَوْ حَلَفَ، لَأَدْخُلَنَّ
الدَّارَ فِي غدٍ فَدَخَلَهَا الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ
عَلَى دُخُولِهَا فِي غدٍ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فِي غدٍ حَنِثَ، وَلَوْ
حَلَفَ لَيَبِيعَنَّ عَبْدَهُ فِي غدٍ فَبَاعَهُ الْيَوْمَ لَا يَحْنَثُ،
لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ابْتِيَاعِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ
فِي غدٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِلَّا حَنِثَ حينئذٍ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ
قَبْلَ غدٍ حَنِثَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ بَعْدَ
عِتْقِهِ، وَلَوْ دَبَّرَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى
بَيْعِهِ، وَلَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ لِجَوَازِ أَنْ
يَعْجِزَ الْعَبْدُ نَفْسُهُ قَبْلَ غدٍ فَيَقْدِرَ عَلَى بَيْعِهِ فِي
غدٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيُطَلِّقَنَّ زَوْجَتَهُ فِي غدٍ، فَطَلَّقَهَا الْيَوْمَ،
فَإِنِ اسْتَوْفَى بِهِ جَمِيعَ طَلَاقِهَا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ
يَسْتَوْفِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا فِي غدٍ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فِي غَدٍ
فَتَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، وَلَمْ يَتَعَجَّلْ حِنْثَهُ، لِأَنَّهُ
يَقْدِرُ عَلَى طَلَاقِهَا وَاسْتِئْنَافِ نِكَاحِهَا فِي غدٍ، فَإِنْ
فَعَلَ وَإِلَّا حَنِثَ.
وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْتِقَنَّ عَبْدَهُ فِي غدٍ فَأَعْتَقَهُ الْيَوْمَ
حَنِثَ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ عِتْقِهِ بَعْدَ
نُفُوذِهِ الْيَوْمَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَإِذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ
الْمَسَائِلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَفِي زَمَانِ حِنْثِهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ احْتِمَالًا، إنَّهُ يَحْنَثُ
لِوَقْتِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْبِرِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي أَوَّلِ دُخُولِ غَدِهِ.
لِأَنَّهُ أَوَّلُ أَوْقَاتِ بِرِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِخُرُوجِ غَدِهِ،
لِأَنَّهُ أَخَّرَ أَوْقَاتَ بِرِّهِ، فَصَارَ وقتاً لحنثه، والله أعلم.
(مسألة:)
قال الشافعي: " هَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ رَبُّ الْحَقِّ حَنِثَ إِلَّا
أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ
(15/388)
لَا يَبْقَى عَلَيَّ غَدًا مِنْ حَقِّكَ
شيءٌ فَيَبَرَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِسُقُوطِ الْحَقِّ عَنْهُ بِغَيْرِ أَدَاءٍ
حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: هِبَةٌ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ.
وَالثَّانِي: إِبْرَاءٌ يَتَوَجَّهُ إِلَى الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الْهِبَةُ
فَهِيَ تَمْلِيكٌ محضٌ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْبَدَلِ
وَالْقَبْضِ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَإِذَا حَلَفَ لَيَقْضِينَّهُ حَقَّهُ فِي
غدٍ أَوْ لَيَدْفَعَنَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ فِي غدٍ فَوَهَبَهُ صَاحِبُ
الْحَقِّ لَهُ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّ الْحَقَّ سَقَطَ بِغَيْرِ
دَفْعٍ، وَقَدِ اخْتَارَ التَّمَلُّكَ فَصَارَ مُخْتَارًا لِلْحِنْثِ،
فَحَنِثَ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الذِّمَّةِ فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ،
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ يَقِفُ عَلَى الْقَبُولِ
حَنِثَ كَالْهِبَةِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِسْقَاطٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى
الْقَبُولِ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ، كَالْمَغْلُوبِ عَلَى الْحِنْثِ،
وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا فَارَقْتُكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقٌّ،
فَوَهَبَهُ لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ بَرَّ فِي يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ
لَمْ يَبْقَ لَهُ بَعْدَ الْهِبَةِ، وَالْإِبْرَاءِ حقٌ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَفَارَقَهُ قَبْلَ اسْتِرْجَاعِهَا
نُظِرَ مَخْرَجُ يَمِينِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عَلَيْكَ
حقٌّ بَرَّ مَعَ بَقَاءِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ،
وَإِنْ قَالَ: لَا أُفَارِقُكَ وَلِي عِنْدَكَ حَقٌّ حَنِثَ بِبَقَاءِ
الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ لَهُ عِنْدَهُ.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَهُ عَارِيَةٌ حَنِثَ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ
قَالَ: عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَهَا وَعِنْدَهُ
عينها.
(فصل:)
ولو حلف لا بعت لِزَيْدٍ مَتَاعًا فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ
فَبَاعَهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، وَعَلَى مَذْهَبٍ مَالِكٍ يَحْنَثُ،
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْمَتَاعَ إِلَى زيد بلام التمليك،
فصارت يمين مَقْصُورَةً عَلَى مِلْكِ زَيْدٍ، وَهَذَا الْمَتَاعُ مِلْكٌ
لِغَيْرِ زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا بِعْتُ مَتَاعًا فِي يَدِ
زَيْدٍ فَوُكِّلَ زَيْدٌ فِي بَيْعِ مَتَاعِهِ فَبَاعَهُ الْحَالِفُ نُظِرَ
فِي تَوْكِيلِ زَيْدٍ فَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ كَيْفَ رَأَى
بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ حَنِثَ الْحَالِفُ، لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَ
مَتَاعًا فِي يَدِ زَيْدٍ، وَإِنْ وُكِّلَ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ
فَدَفَعَهُ إِلَى الْحَالِفِ حَتَّى بَاعَهُ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا،
وَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ الْحَالِفُ وَيَكُونُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِمَا
يَصِحُّ مِنَ الْبَيْعِ دُونَ مَا فَسَدَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ
إذا حلف لا يعقدها، فعقدها عقداً فاسد لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: يَحْنَثُ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَالْفَاسِدِ اسْتِدْلَالًا
بِأَنَّ الْعَقْدَ فِعْلٌ، وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ حُكْمٌ، وَعَقْدَ
يَمِينِهِ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْحُكْمِ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا تَمَّ، وَالْفَسَادَ يَمْنَعُ مِنْ
تَمَامِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ لَمْ يَقعْ كَالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِهِ، وَخَالَفَ
فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ،
(15/389)
فَأَوْقَعَ الْحِنْثَ بِهِ، فَإِنِ
اعْتَبَرَ الْحِنْثَ بِفِعْلِ الْعَقْدِ بَطَلَ النِّكَاحُ، وَإِنِ
اعْتَبَرَهُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَلَمْ يَسْلَمْ لَهُ
دَلِيلٌ، وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ تَعْلِيلٌ. |