|
المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب بَابُ : صَلَاةِ
الْخَوْفِ
قال المصنف
رحمه الله تعالى:"تَجُوزُ صَلَاةُ الْخَوْفِ
فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ لقوله تعالى:
"وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ" وَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي كُلِّ قِتَالٍ مُبَاحٍ كَقِتَالِ أَهْلِ
الْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ
قِتَالٌ جَائِزٌ فَهُوَ كَقِتَالِ
الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْقِتَالُ
الْمَحْظُورُ كَقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ
وَقِتَالِ أَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ
الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُخْصَةٌ
1وَتَخْفِيفٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ
بِالْمَعَاصِي وَلِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى
الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ".
الشرح: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: صَلَاةُ الْخَوْفِ
جَائِزَةٌ فِي كُلِّ قِتَالٍ لَيْسَ
بِحِرَامٍ، سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا كَقِتَالِ
الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ
الطَّرِيقِ إذَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ،
وَكَذَا الصَّائِلُ عَلَى حَرِيمِ
الْإِنْسَانِ، أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، إذَا
أَوْجَبْنَا الدَّفْعَ أَوْ كَانَ مُبَاحًا
مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ كَقِتَالِ مَنْ
قَصَدَ مَالَ الْإِنْسَانِ أَوْ مَالَ
غَيْرِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا
يَجُوزُ فِي الْقِتَالِ الْمُحَرَّمِ
بِالْإِجْمَاعِ كَقِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ
وَقِتَالِ أَهْلِ الْأَمْوَالِ لِأَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ، وَقِتَالِ الْقَبَائِلِ،
عَصَبِيَّةً وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَدَلِيلُ
الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَقَطَعَ
أَصْحَابُنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ من المهذب (أصحاب الأموال بدل
أهل و ( رحمة ) بدل ( رخصة ) (ط )
ج / 4 ص -202-
الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
الْخُرَاسَانِيِّينَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ
قُصِدَ مَالُهُ وَدَافَعَ عَنْهُ أَنْ
يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَمَا ذَكَرْنَا
أَوَّلًا، قَالَ جُمْهُورُ
الْخُرَاسَانِيِّينَ: إذَا كَانَ الْمَالُ
حَيَوَانًا جَازَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ
قَطْعًا، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ: أصحهما
الْجَوَازُ وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ
مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
نُصُوصِهِ، أَمَّا إذَا انْهَزَمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَتْ الْهَزِيمَةُ
جَائِزَةً بِأَنْ يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى
الضِّعْفِ أَوْ كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ
أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَلَهُمْ
صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَإِلَّا فَلَا.
وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ مَعَ نَظَائِرِهَا
وَفُرُوعِهَا فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْبَابِ
فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ إنْ شَاءَ الله
تعالى. وَحَيْثُ مَنَعْنَا صَلَاةَ الْخَوْفِ
لِكَوْنِ الْقِتَالِ مُحَرَّمًا فَصَلَّوْهَا
فَهُوَ كَمَا لَوْ صَلَّوْهَا فِي الْأَمْنِ
اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا،
وَسَنُوَضِّحُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ إنْ
شَاءَ الله تعالى. وَأَمَّا قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ (فِي كُلِّ قِتَالٍ مُبَاحٍ)
فَاسْتَعْمَلَ الْمُبَاحَ عَلَى اصْطِلَاحِ
الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَا لَا إثْمَ فِيهِ،
وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَإِنَّ قِتَالَ
الْبُغَاةِ وَاجِبٌ وَحَقِيقَةُ الْمُبَاحِ
عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مَا اسْتَوَى
طَرَفَاهُ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَهُ
الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ لِيُدْخِلَ فِيهِ
الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ وَغَيْرَهُ، مِمَّا
هُوَ مُبَاحٌ حَقِيقَةً وَقَوْلُهُ: رُخْصَةٌ
بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِهَا.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
الْمُرَادُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ أَنَّ
كَيْفِيَّةَ الْفَرِيضَةِ فِيهَا إذَا
صُلِّيَتْ جَمَاعَةً كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ الله تعالى، وَأَمَّا شُرُوطُ
الصَّلَاةِ وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا
وَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا فَهِيَ فِي الْخَوْفِ
كَالْأَمْنِ إلَّا أَشْيَاءَ اُسْتُثْنِيَتْ
فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ خَاصَّةً
سَنُفَصِّلُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ
الله تعالى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ
أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا يَتَغَيَّرُ
عَدَدُ رَكَعَاتِهَا هُوَ مَذْهَبُنَا
وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ، إلَّا ابْنَ الْعَبَّاسِ
وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَالضَّحَّاكَ
وَإِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ فَإِنَّهُمْ
قَالُوا: الْوَاجِبُ فِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ،
وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَطَاوُسٍ،
لَكِنْ أَبُو حَامِدٍ نَقَلَ عَنْ هَؤُلَاءِ
أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْخَوْفِ عَلَى
الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَعَلَى الْمَأْمُومِ
رَكْعَةٌ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْجُمْهُورُ
عَنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْوَاجِبَ رَكْعَةٌ
فَقَطْ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ لِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"فَرَضَ
اللَّهُ - الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ
نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضَرِ
أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ،
وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْخَوْفِ
ظَاهِرَةٌ فَخَفَّفَ عَنْهُ بِالْقَصْرِ،
دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَمَاعَاتٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "صَلَّى هُوَ
وَأَصْحَابُهُ فِي الْخَوْفِ رَكْعَتَيْنِ"
والجواب: عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي مَعَ
الْإِمَامِ رَكْعَةً وَيُصَلِّي الرَّكْعَةَ
الْأُخْرَى وَحْدَهُ وَبِهَذَا الْجَوَابِ
أَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَصْحَابُنَا فِي
كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ
لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
والجواب: عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الْخَوْفِ
مَشَقَّةٌ: أَنْ يُنْتَقَضَ بِالْمَرَضِ
فَإِنَّ مَشَقَّتَهُ أَشَدُّ، وَلَا أَثَرَ
لَهُ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ
مَعَ أَنَّ الْخَوْفَ يُؤَثِّرُ فِي تَخْفِيفِ
هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَصِفَتِهَا، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي أَصْلِ صَلَاةِ
الْخَوْفِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهَا
مَشْرُوعَةٌ وَكَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم مَشْرُوعَةً لِكُلِّ
أَهْلِ عَصْرِهِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم
وَمُنْفَرِدِينَ عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّتْ
شَرِيعَتُهَا إلَى الْآنَ وَهِيَ
مُسْتَمِرَّةٌ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ
أَصْحَابِنَا: وَبِهَذَا قَالَتْ الْأُمَّةُ
بِأَسْرِهَا إلَّا أَبَا يُوسُفَ
وَالْمُزَنِيَّ فَقَالَ أَبُو
ج / 4 ص -203-
يُوسُفَ: كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالنَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يُصَلِّي مَعَهُ
وَذَهَبَتْ بِوَفَاتِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ:
كَانَتْ ثُمَّ نُسِخَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم وَاحْتُجَّ لِأَبِي
يُوسُفَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ }(النساء: من الآية102) قَالَ: وَالتَّغْيِيرُ الَّذِي يَدْخُلُهَا
كَانَ يَنْجَبِرُ بِفِعْلِهَا مَعَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ غَيْرِهِ
وَاحْتَجَّ الْمُزَنِيّ بِأَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فَاتَهُ صَلَوَاتُ يَوْمِ
الْخَنْدَقِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاةُ
الْخَوْفِ جَائِزَةً لَفَعَلَهَا، وَلَمْ
يُفَوِّتْ الصَّلَاةَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ، وَالْأَصْلُ هُوَ التَّأَسِّي
بِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخِطَابُ مَعَهُ
خِطَابٌ لِأُمَّتِهِ. وَبِقَوْلِهِ صلى الله
عليه وسلم
"صَلُّوا
كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ
عَامٌّ، وَبِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَدْ
ثَبَتَتْ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي مَوَاطِنَ بَعْدَ
وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فِي مَجَامِعَ بِحَضْرَةِ كِبَارٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ. مِمَّنْ صَلَّاهَا عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فِي حُرُوبِهِ بِصِفِّينَ
وَغَيْرِهَا، وَحَضَرَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ
خَلَائِقُ لَا يَنْحَصِرُونَ، وَمِنْهُمْ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
سَمُرَةَ وَحُذَيْفَةُ وَسَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ رَوَى
أَحَادِيثَهُمْ الْبَيْهَقِيُّ وَبَعْضُهَا
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ
رَأَوْا صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم فِي الْخَوْفِ لَمْ يَحْمِلْهَا أَحَدٌ
مِنْهُمْ عَلَى تَخْصِيصِهَا بِالنَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم وَلَا بِزَمَنِهِ، بَلْ
رَوَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ، وَهُوَ يَعْتَقِدُهَا
مَشْرُوعَةً عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رَآهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ احْتِجَاجِهِمْ
بِالْآيَةِ: فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا حُجَّةٌ
لَنَا[لِدَلَالَةِ]الْخِطَابِ وَالْأَصْلُ
التَّأَسِّي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ: عَنْ انْجِبَارِ
الصَّلَاةِ بِفِعْلِهَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا:
الصَّلَاةُ خَلْفَهُ صلى الله عليه وسلم
فَضِيلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ وَاجِبَاتِ
الصَّلَاةِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةٍ، فَإِنْ
لَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الْخَوْفِ جَائِزَةً
مُطْلَقًا لَمَا فَعَلُوهَا (وَأَمَّا
دَعْوَى) الْمُزَنِيِّ النَّسْخَ فَجَوَابُهُ:
أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا
عَلِمْنَا تَقَدُّمَ الْمَنْسُوخِ وَتَعَذُّرَ
الْجَمْعِ بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَلَمْ
يُوجَدْ هُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ
الْمَنْقُولُ الْمَشْهُورُ أَنَّ صَلَاةَ
الْخَوْفِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ
فَكَيْفَ يُنْسَخُ بِهِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ
الْخَوْفِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ جَائِزَةٌ
لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ
تَرْكِهَا النَّسْخُ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ
أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ مَنْسُوخَةً
لَمَا فَعَلُوهَا، وَلَأَنْكَرُوا عَلَى
فَاعِلِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِذَا أَرَادَ
الصَّلَاةَ لَمْ يَخْلُ: إمَّا أَنْ يَكُونَ
الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِي
غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا،
وَلَمْ يَأْمَنُوا وَفِي الْمُسْلِمِينَ
كَثْرَةٌ جَعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ
طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةً فِي وَجْهِ
الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً يُصَلِّي مَعَهُمْ،
وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ
الَّتِي مَعَهُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ
تَخْرُجَ إلَى وَجْهِ
الْعَدُوِّ[ثُمَّ]تَجِيءَ الطَّائِفَةُ
الْأُخْرَى فَتُصَلِّيَ مَعَهُ، فَيَكُونَ
مُتَنَفِّلًا بِالثَّانِيَةِ وَهُمْ
مُفْتَرِضُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "صَلَّى
صَلَاةَ الْخَوْفِ بِاَلَّذِينَ مَعَهُ
رَكْعَتَيْنِ وَبِاَلَّذِينَ جَاءُوا
رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَرْبَعًا وَلِلَّذِينَ جَاءُوا
رَكْعَتَيْنِ" وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ
بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بَعْضَ الصَّلَاةِ
وَبِالْأُخْرَى الْبَعْضَ، وَهُوَ أَفْضَلُ
مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا جَمِيعَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ
أَخَفُّ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ
رَكْعَتَيْنِ صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الَّتِي
مَعَهُ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا
وَأَتَمَّتْ الطَّائِفَةُ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَتَنْصَرِفُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ،
وَتَجِيءُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي
مَعَهُمْ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ
صَلَاتِهِ؛ وَثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمَّتْ
الطَّائِفَةُ[الْأُخْرَى]لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ
يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا
رَوَى صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ
"عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ
الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَذَكَرَ مِثْلَ
مَا قُلْنَا"
ج / 4 ص -204-
الشرح: حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ كَمَا هُوَ فِي الْمُهَذَّبِ،
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ
رِوَايَةِ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ
الْمَغَازِي، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ مَوْضِعَهُ
لِأَنِّي رَأَيْت إمَامَيْنِ كَبِيرَيْنِ
أَضَافَاهُ إلَى رِوَايَةِ مُسْلِمٍ خَاصَّةً
فَأَوْهَمَا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ
يَرْوِهِ وَغَلِطَا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا
حَدِيثُ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ فَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ كَمَا فِي
الْمُهَذَّبِ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم.
قوله: عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم هُوَ سَهْلُ بْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ كَذَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي
الصَّحِيحَيْنِ، وَخَوَّاتٌ - بِخَاءٍ
مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَوَاوٍ مُشَدَّدَةٍ
ثُمَّ أَلْفٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ -
وَصَالِحٌ تَابِعِيٌّ وَأَبُو خَوَّاتٍ
صَحَابِيٌّ، وَهُوَ خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ
الْأَنْصَارِيُّ وَذَاتُ الرِّقَاعِ بِكَسْرِ
الرَّاءِ - مَوْضِعٌ قِبَلَ نَجْدٍ مِنْ
أَرْضِ غَطَفَانَ، اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ
تَسْمِيَتِهَا فَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ فِي
صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ
فِيهَا: "نُقِّبَتْ أَقْدَامُنَا، فَكُنَّا
نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ
فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ؛ لِمَا
كُنَّا نَعْصِبُ عَلَى أَرْجُلِنَا مِنْ
الْخِرَقِ" وَقَوْلُهُ: نُقِّبَتْ - بِضَمِّ
النُّونِ وَفَتْحِهَا - أَيْ تَقَرَّحَتْ
وَتَقَطَّعَتْ جُلُودُهَا، وَقِيلَ: بِاسْمِ
شَجَرَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ، وَقِيلَ: اسْمُ
جَبَلٍ فِيهِ بَيَاضٌ وَحُمْرَةٌ وَسَوَادٌ،
وَيُقَالُ لَهُ: الرِّقَاعُ، وَقِيلَ لِأَرْضٍ
كَانَتْ مُلَوَّنَةً وَقِيلَ لِرِقَاعٍ
كَانَتْ فِي أَلْوِيَتِهِمْ قوله: وَفِي
الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ - هِيَ بِفَتْحِ
الْكَافِ - عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي لُغَةٍ
ضَعِيفَةٍ كَسْرُهَا.
أما الأحكام: فقال
الْعُلَمَاءُ: جَاءَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى سِتَّةَ
عَشَرَ نَوْعًا، وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ، فِي
صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْضُهَا، وَمُعْظَمُهَا
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَاخْتَارَ
الشَّافِعِيُّ رحمه الله مِنْهَا ثَلَاثَةَ
أَنْوَاعٍ أحدها: صَلَاتُهُ صلى الله عليه
وسلم بِبَطْنِ نَخْلٍ والثاني: صَلَاتُهُ صلى
الله عليه وسلم بِذَاتِ الرِّقَاعِ والثالث:
صَلَاتُهُ صلى الله عليه وسلم بِعُسْفَانَ،
وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ فِي
الصَّحِيحَيْنِ، وَلِصَلَاةِ الْخَوْفِ نَوْعٌ
رَابِعٌ جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَهُ
الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ صَلَاةُ شِدَّةِ
الْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تعالى:
"فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا"
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ
فِي الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي
ذَكَرْتُهُ، قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ
وَالسِّيَرِ: أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْخَوْفِ
صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ بَطْنَ نَخْلٍ مَوْضِعٌ مِنْ
أَرْضِ نَجْدٍ مِنْ أَرْضِ غَطَفَانَ فَهِيَ
وَذَاتُ الرِّقَاعِ مِنْ أَرْضِ غَطَفَانَ
لَكِنَّهُمَا صَلَاتَانِ فِي وَقْتَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ، وَفِي كِتَابِ الْمَغَازِي
مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ
قَالَ:
"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ
نَخْلٍ فَلَقِيَ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ" وَاعْلَمْ: أَنَّ نَخْلَ هَذَا غَيْرُ نَخْلَةِ الَّذِي جَاءَ
إلَيْهَا وَفْدُ الْجِنِّ، تِلْكَ عِنْدَ
مَكَّةَ وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِصَلَاةِ
بَطْنِ نَخْلٍ، وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ
الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ إحداهما
فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ (وَالْأُخْرَى)
يُصَلِّي بِهَا جَمِيعَ الصَّلَاةِ
وَيُسَلِّمُ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا فَإِذَا سَلَّمَ
ذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَ
الْآخَرُونَ فَصَلَّى بِهِمْ تِلْكَ
الصَّلَاةَ مَرَّةً ثَانِيَةً تَكُونُ لَهُ
نَافِلَةً وَلَهُمْ فَرِيضَةً.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ
هَذِهِ الصَّلَاةُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنْ
يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ،
وَأَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ،
وَالْعَدُوُّ قَلِيلٌ، وَأَنْ يُخَافَ
هُجُومُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي
الصَّلَاةِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَهَذِهِ
الْأُمُورُ لَيْسَتْ شَرْطًا لَصِحَّتِهَا،
فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ
ج / 4 ص -205-
خَوْفٍ
فَفِي الْخَوْفِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا
الْمُرَادُ: أَنَّهَا لَا تُنْدَبُ عَلَى
هَذِهِ الْهَيْئَةِ إلَّا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ
الثَّلَاثَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثاني: فَهُوَ صَلَاةُ
ذَاتِ الرِّقَاعِ فَمُعْظَمُ مَسَائِلِ
الْبَابِ فِيهَا فَتَكُونُ ثَلَاثَةً، تَارَةً
رَكْعَتَيْنِ صُبْحًا أَوْ مَقْصُورَةً،
وَتَارَةً ثَلَاثًا وَهِيَ الْمَغْرِبُ.
وَتَارَةً أَرْبَعًا إذَا لَمْ تُقْصَرْ،
فَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ فَرَّقَ
الْإِمَامُ النَّاسَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً
تَقِفُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ؛
وَفِرْقَةً يَنْحَدِرُ بِهَا الْإِمَامُ إلَى
حَيْثُ لَا يَلْحَقُهُمْ سِهَامُ الْعَدُوِّ،
فَيُحْرِمُ بِهِمْ وَيُصَلِّي رَكْعَةً؛
وَهَذَا الْقَدْرُ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ
رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ وَنُصُوصُ
الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ، وَفِيمَا
يَفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ فِي
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
إحداهما: أَنَّهُ إذَا قَامَ الْإِمَامُ إلَى
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ نَوَى الْمُقْتَدِي
الْخُرُوجَ مِنْ مُتَابَعَتِهِ وَصَلَّوْا
لِأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ
وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَذَهَبُوا إلَى
وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَ الْآخَرُونَ
فَأَحْرَمُوا خَلْفَهُ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ، وَأَطَالَهَا حَتَّى
يَلْحَقُوهُ وَيَقْرَءُوا الْفَاتِحَةَ، ثُمَّ
يَرْكَعَ بِهِمْ وَيَسْجُدَ، فَإِذَا جَلَسَ
لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا فَصَلَّوْا
ثَانِيَتَهُمْ وَانْتَظَرَهُمْ فَإِذَا
لَحِقُوهُ سَلَّمَ بِهِمْ، هَذِهِ رِوَايَةُ
سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ الْمَذْكُورِ
فِي الْكِتَابِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ،
وَهِيَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَامَ
إلَى الثَّانِيَةِ لَا يُتِمُّ الْمُقْتَدُونَ
بِهِ الصَّلَاةَ، بَلْ يَذْهَبُونَ إلَى
مَكَانِ إخْوَانِهِمْ فَيَقِفُونَ قُبَالَةَ
الْعَدُوِّ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ،
وَيَقِفُونَ سُكُوتًا وَتَجِيءُ الطَّائِفَةُ
الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ
رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا سَلَّمَ
ذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَ
الْأَوَّلُونَ إلَى مَكَانِ صَلَاةِ
الْإِمَامِ فَصَلَّوْا الرَّكْعَةَ
الْبَاقِيَةَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ ذَهَبُوا إلَى
وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَ الْآخَرُونَ إلَى
مَكَانِ الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا رَكْعَتَهُمْ
الْبَاقِيَةَ وَسَلَّمُوا. وَهَذِهِ رِوَايَةُ
ابْنِ عُمَر عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم هَكَذَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا
عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَهِيَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْن عُمَرَ لَكِنَّ
لَفْظَ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكَعَ بِمَنْ مَعَهُ
وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفُوا
مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ،
فَجَاءُوا فَرَكَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ
ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً
وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ " وَلَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِإِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً ثُمَّ انْصَرَفُوا
فَقَامُوا مَقَامَ أَصْحَابِهِمْ وَجَاءَ
أُولَئِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ
رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى
هَؤُلَاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً" وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى
رِوَايَةَ سَهْلٍ؛ لِأَنَّهَا أَحْوَطُ
لِأَمْرِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهَا أَقَلُّ
مُخَالَفَةً لِقَاعِدَةِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ
تَصِحُّ الصَّلَاةُ عَلَى وَفْقِ رِوَايَةِ
ابْنِ عُمَرَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
أحدهما: لَا تَصِحُّ لِكَثْرَةِ الْأَفْعَالِ
فِيهَا بِلَا ضَرُورَةٍ احْتِرَازًا مِنْ
صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَزَعَمَ
الْمُحْتَجُّ بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ
رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ مَنْسُوخَةٌ.
الْقَوْلُ الثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ: صِحَّةُ الصَّلَاةِ لِصِحَّةِ
الْحَدِيثِ وَعَدَمِ مُعَارَضَتِهِ، فَإِنَّ
رِوَايَةَ سَهْلٍ لَا تُعَارِضُهُ فَكَانَتْ
هَذِهِ فِي يَوْمٍ وَتِلْكَ فِي يَوْمٍ آخَرَ،
وَدَعْوَى الْأَوَّلِ النَّسْخَ بَاطِلَةٌ؛
لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى مَعْرِفَةِ
التَّارِيخِ، وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَيْسَ هُنَا وَاحِدٌ
مِنْهُمَا، وَهَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ فِي كِتَابِ
الرِّسَالَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ:
قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ بَعِيدٌ
فَغَلِطَ فِي شَيْئَيْنِ: أحدهما: نِسْبَتُهُ
إلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ والثاني:
تَضْعِيفُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ الصَّحِيحُ،
وَاخْتَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رِوَايَةَ ابْنِ
عُمَرَ.
ج / 4 ص -206-
قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَفِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ عَلَى اخْتِلَافِ
الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ وَاجِبًا، بَلْ
مَنْدُوبٌ، فَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ
بِبَعْضِهِمْ كُلَّ الصَّلَاةِ
وَبِالْبَاقِينَ غَيْرُهُ أَوْ صَلَّى
بَعْضُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ مُنْفَرِدِينَ
جَازَ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ كَانَتْ
الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لَا يَسْمَحُونَ
بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِعِظَمِ فَضْلِهَا
فَسُنَّتْ لَهُمْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِيَحْصُلَ
لِكُلِّ طَائِفَةِ حَظٌّ مِنْ الْجَمَاعَةِ،
وَالْوُقُوفِ قُبَالَةَ الْعَدُوِّ،
وَتَخْتَصُّ الْأُولَى بِفَضِيلَةِ إدْرَاكِ
تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالثَّانِيَةُ
بِفَضِيلَةِ السَّلَامِ مَعَهُ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ هَذِهِ
الصَّلَاةُ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ
جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ فِيهَا وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ حَائِلٌ يَمْنَعُهُمْ لَوْ
هَجَمُوا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَتُفَارِقُ
الطَّائِفَةُ الْأُولَى الْإِمَامَ حُكْمًا
وَفِعْلًا، فَإِنْ لَحِقَهَا سَهْوٌ بَعْدَ
الْمُفَارَقَةِ لَهَا يَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ
الْإِمَامُ وَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ لَمْ
يَلْزَمْهُمْ سَهْوُهُ، وَهَلْ يَقْرَأُ
الْإِمَامُ فِي حَالِ انْتِظَارِهِ؟ قَالَ فِي
مَوْضِعٍ "إذَا جَاءَتْ الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ قَرَأَ" وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ
"يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ حَتَّى تُدْرِكَهُ
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ" فَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: لَا يَقْرَأُ حَتَّى تَجِيءَ
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْرَأَ
مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ مَعَ الطَّائِفَةِ
الْأُولَى قِرَاءَةً تَامَّةً فَيَجِبُ أَنْ
يَقْرَأَ مَعَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا قِرَاءَةً
تَامَّةً وَالْقَوْلُ الثاني: أَنَّهُ
يَقْرَأُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ
أَفْعَالَ الصَّلَاةِ لَا تَخْلُو مِنْ
ذِكْرٍ. وَالْقِيَامُ لَا يَصْلُحُ لِذِكْرٍ
غَيْرِ الْقِرَاءَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْرَأَ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ أَرَادَ
أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً قَصِيرَةً لَمْ يَقْرَأ
حَتَّى لَا يُفَوِّتَ الْقِرَاءَةَ عَلَى
الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ
أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً قَرَأَ؛
لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ عَلَيْهِمْ
الْقِرَاءَةَ، وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى
هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ فَإِنَّهُمْ يُفَارِقُونَ
الْإِمَام فِعْلًا، وَلَا يُفَارِقُونَهُ
حُكْمًا، فَإِنْ سَهَوْا تَحَمَّلَ عَنْهُمْ
الْإِمَامُ، وَإِنْ سَهَا الْإِمَامُ
لَزِمَهُمْ سَهْوُهُ، وَمَتَى يُفَارِقُونَهُ؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: فِي سُجُودِ
السَّهْوِ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ
التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا
يُفَارِقُ الْإِمَامَ إلَّا بَعْدَ
التَّشَهُّدِ. وَقَالَ فِي الْأُمِّ:
(يُفَارِقُونَهُ عَقِيبَ السُّجُودِ فِي
الثَّانِيَةِ) ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ أَخَفُّ، وَيُفَارِقُ الْمَسْبُوقَ؛
لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا يُفَارِقُ حَتَّى
يُسَلِّمَ الْإِمَامُ وَهَذَا يُفَارِقُ
قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا قلنا: بِهَذَا
فَهَلْ يَتَشَهَّدُ الْإِمَامُ فِي حَالِ
الِانْتِظَارِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. مِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ
كَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
يَتَشَهَّدُ - قَوْلًا وَاحِدًا - وَيُخَالِفُ
الْقِرَاءَةَ، فَإِنَّهُ فِي الْقِرَاءَةِ
قَدْ قَرَأَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى
فَلَمْ يَقْرَأْ حَتَّى تُدْرِكَهُ
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقْرَأَ مَعَهَا
وَالتَّشَهُّدُ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ
الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَلَا يَنْتَظِرُ".
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا قَامَتْ الطَّائِفَةُ
الْأُولَى مَعَ الْإِمَامِ مِنْ سَجْدَتَيْ
الرَّكْعَةِ الْأُولَى نَوَوْا مُفَارِقِينَ
إذَا انْتَصَبُوا قِيَامًا، وَلَوْ فَارَقُوهُ
بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ
جَازَ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفْضَلُ
لِيَسْتَمِرَّ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ
حَالَةَ النُّهُوضِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ
الْمُفَارَقَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقُدْوَةِ
مُسْتَمِرٌّ مَا لَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ،
وَلَا يَجُوزُ لِلْمُقْتَدِي سَبْقُ
الْإِمَامِ، فَإِذَا فَارَقُوهُ خَرَجُوا عَنْ
حُكْمِ الْقُدْوَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَلَا
يَلْحَقُهُمْ سَهْوُهُ، وَلَا يَحْمِلُ
سَهْوَهُمْ، وقول المصنف: وَالْأَصْحَابِ:
يُفَارِقُونَهُ حُكْمًا وَفِعْلًا أَرَادُوا
بِقَوْلِهِمْ حُكْمًا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ
سَهْوَهُمْ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ سَهْوُهُ،
وَلَا يَسْجُدُونَ لِتِلَاوَتِهِ، وَلَا
غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْتَزِمُهُ
الْمَأْمُومُ، وَأَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ
وَفِعْلًا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الرَّكْعَةَ
الثَّانِيَةَ مُنْفَرِدِينَ، مُسْتَقِلِّينَ
بِفِعْلِهَا.
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ
فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ
الطَّائِفَةِ الْأُولَى عَنْ حُكْمِ
الْإِمَامِ، وَلَا يَحْمِلُ سَهْوَهُمْ، وَلَا
يَلْحَقُهُمْ سَهْوُهُ وَجْهَيْنِ: أحدهما:
إذْ انْتَصَبَ الْإِمَامُ قَائِمًا والثاني:
إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
ج / 4 ص -207-
مِنْ
السَّجْدَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَفْع
رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَهُمْ فِيهِ
فَسَهَوْا فِيهِ لَمْ يَحْمِلْهُ، وَنَقَلَ
الرَّافِعِيُّ الْوَجْهَيْنِ، ثُمَّ قَالَ:
وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: قَدْ نَصُّوا عَلَى
أَنَّهُمْ يَنْوُونَ الْمُفَارَقَةَ عِنْدَ
رَفْعِ الرَّأْسِ وَالِانْتِصَابِ، فَلَا
مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِي وَقْتِ
الِانْقِطَاعِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَقْتَصِرَ عَلَى وَقْتِ نِيَّةِ
الْمُفَارَقَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الرَّافِعِيُّ مُتَعَيِّنٌ لَا يَجُوزُ
غَيْرُهُ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ:
فَسَهْوُهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى لَهَا
- الَّتِي هِيَ ثَانِيَةُ الْإِمَامِ -
مَحْمُولٌ؛ لِأَنَّهُمْ فِي قُدْوَةٍ
حَقِيقَةً، وَفِي سَهْوِهِمْ فِي رَكْعَتِهِمْ
الثَّانِيَةِ الَّتِي يَأْتُونَ بِهَا
وَالْإِمَامُ يَنْتَظِرُهُمْ فِي الْجُلُوسِ
وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَغَيْرُهُمَا: أحدهما: لَا يَحْمِلُهُ
لِمُفَارَقَتِهِمْ لَهُ فِي الْفِعْلِ،
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي
عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ، فَعَلَى هَذَا لَا
يَلْزَمُهُمْ سَهْوُهُ فِي حَالِ انْتِظَارِهِ
لَهُمْ وأصحهما، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ
أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَكْثَرُونَ: يَحْمِلُهُ وَيَلْحَقُهُمْ
سَهْوُهُ، وَلِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ
الْقُدْوَةِ، وَهُوَ مُنْتَظِرٌ لَهُمْ
كَسَهْوِهِمْ فِي سَجْدَةٍ رَفَعَ الْإِمَامُ
مِنْهَا، وَيُعَبَّرُ عَنْ الْوَجْهَيْنِ
بِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ حُكْمًا أَمْ لَا؟
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُ
حُكْمًا. قَالُوا: وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي
الْمَزْحُومِ فِي الْجُمُعَةِ إذَا سَهَا فِي
وَقْتِ تَخَلُّفِهِ، وَأَجْرُوهُمَا فِيمَنْ
صَلَّى مُنْفَرِدًا فَسَهَا، ثُمَّ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ فِي أَثْنَائِهَا
وَجَوَّزْنَاهُ وَأَتَمَّهَا مَأْمُومًا،
وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
إجْرَاءَهُمَا هُنَا وَقَالَ: الْوَجْهُ
الْقَطْعُ بِأَنَّ حُكْمَ السَّهْوِ لَا
يَرْتَفِعُ بِالْقُدْوَةِ اللَّاحِقَةِ،
وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ سَهْوَ الْإِمَامِ فِي
الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَلْحَقُ الطَّائِفِينَ
فَتَسْجُدُ لَهُ الطَّائِفَةُ الْأُولَى إذَا
تَمَّتْ صَلَاتُهَا، فَإِنْ سَهَا بَعْضُهُمْ
فِي رَكْعَتِهِ الثَّانِيَةِ فَهَلْ
يَقْتَصِرُ عَلَى سَجْدَتَيْنِ أَمْ يَسْجُدُ
أَرْبَعًا لِكَوْنِهِ سَهَا فِي حَالِ
قُدْوَةٍ وَفِي حَالِ انْفِرَادٍ؟ فِيهِ
الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي بَابِ سُجُودِ
السَّهْوِ أصحهما: سَجْدَتَانِ. قَالَ صَاحِبُ
الْبَيَانِ: فَإِنْ قلنا: سَجْدَتَانِ فَعَنْ
مَاذَا تَصِحَّانِ؟ فِيهِ الْأَوْجُهُ
الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ فِي بَابِ سُجُودِ
السَّهْوِ أحدها: تَقَعَانِ عَنْ سَهْوِهِ
وَيَكُونُ سَهْوُ إمَامِهِ تَابِعًا والثاني:
عَكْسُهُ وَأَصَحُّهَا: يَقَعَانِ عَنْهُمَا.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ
نَوَى خِلَافَ مَا جَعَلْنَاهُ مَقْصُودًا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إذَا قَامَ
الْإِمَامُ إلَى الثَّانِيَةِ هَلْ يَقْرَأُ
فِي حَالِ انْتِظَارِهِ فَرَاغَ الْأُولَى
وَمَجِيءَ الثَّانِيَةِ؟ فِيهِ نَصَّانِ
لِلشَّافِعِيِّ، قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ:
يَقْرَأُ وَيُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فَإِذَا
جَاءَتْ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ قَرَأَ
مَعَهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً
قَصِيرَةً. وَقَالَ فِي الْأُمِّ: لَا
يَقْرَأُ بَلْ يُسَبِّحُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ
تَعَالَى حَتَّى تَأْتِيَ الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ، هَذَانِ نَصَّانِ،
وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِمَا ثَلَاثُ طُرُقٍ،
أَصَحُّهَا وَأَشْهُرُهَا وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ وَآخَرُونَ:
فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا بِاتِّفَاقِهِمْ
تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ، فَيَقْرَأُ
الْفَاتِحَةَ وَبَعْدَهَا سُورَةً طَوِيلَةً
حَتَّى تَجِيءَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ،
فَإِذَا جَاءَتْ قَرَأَ مِنْ السُّورَةِ
قَدْرَ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةً قَصِيرَةً
لِتَحْصُلَ لَهُمْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ
وَشَيْءٌ مِنْ زَمَنِ السُّورَةِ، وَدَلِيلُ
هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ مَبْنِيَّةٌ
عَلَى أَنْ لَا سُكُوتَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي
أَنْ يَقْرَأَ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَا
يُشْرَعُ فِيهِ إلَّا الْقِرَاءَةُ
وَالْقَوْلُ الثاني: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا
يَقْرَأَ حَتَّى تَجِيءَ الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ مَعَ
الْأُولَى الْفَاتِحَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ
يَقْرَأَهَا أَيْضًا مَعَ الثَّانِيَةِ، وَلَا
يُشْرَعُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ قَبْلَهَا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: يَشْتَغِلُ بِمَا شَاءَ مِنْ
الذِّكْرِ كَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ.
ج / 4 ص -208-
وَالطَّرِيقُ الثاني وَبِهِ قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ: إنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ سُورَةٍ
قَصِيرَةٍ لَمْ يَقْرَأْ لِئَلَّا تَفُوتَ
الْقِرَاءَةُ عَلَى الطَّائِفَةِ
الثَّانِيَةِ، وَإِنْ أَرَادَ سُورَةً
طَوِيلَةً قَرَأَ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفُوتُهُمْ
وَحَمَلَ النَّصَّيْنِ عَلَى هَذَيْنِ
الْحَالَيْنِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ
الْفُورَانِيُّ وَالْإِمَامُ وَآخَرُونَ مِنْ
الْخُرَاسَانِيِّينَ: تُسْتَحَبُّ
الْقِرَاءَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ
يُخَفِّفَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَى؛
لِأَنَّهَا حَالَةُ شُغْلٍ وَحَرْبٍ
وَمُخَاطَرَةٍ عَنْ خِدَاعِ الْعَدُوِّ،
وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا لِلطَّائِفَتَيْنِ
تَخْفِيفُ قِرَاءَةِ رَكْعَتِهِمْ
الثَّانِيَةِ لِئَلَّا يَطُولَ الِانْتِظَارُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ قَرَأَ
الْإِمَامُ فِي حَالِ الِانْتِظَارِ أَمْ لَا،
يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْكَعَ حَتَّى
تَفْرُغَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ
الْفَاتِحَةِ، فَلَوْ لَمْ يَنْتَظِرْهُمْ
الْإِمَامُ فَأَدْرَكَتْهُ الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ رَاكِعًا أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ
بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي غَيْرِ حَالَةِ
الْخَوْفِ، كَذَا قَالُوهُ. وَيَجِيءُ فِيهِ
الْوَجْهُ الشَّاذُّ السَّابِقُ فِي بَابِ
صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَنْ ابْن خُزَيْمَةَ
مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُحْسَبَ
الرَّكْعَةُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ، وَلَا
تُحْسَبَ حَتَّى يُدْرِكَ شَيْئًا مِنْ
قِيَامِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ فَإِذَا صَلَّى بِهِمْ
الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فَارَقُوهُ
لِيُتِمُّوا الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ
عَلَيْهِمْ، وَلَا يَنْوُونَ مُفَارَقَتَهُ؛
وَمَتَى يُفَارِقُونَهُ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ:
الصحيح مِنْهُمَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، فِيهِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ
مِنْهَا الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ،
وَأَحَدُهُمَا يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ
التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَهَذَا
نَصُّهُ فِي بَابِ سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ
كُتُبِ الْأُمِّ، فَعَلَى هَذَا إذَا قَارَبَ
السَّلَامَ فَارَقُوهُ ثُمَّ انْتَظَرَهُمْ،
وَطُوَّلَ الدُّعَاءَ حَتَّى يُصَلُّوا
رَكْعَتَهُمْ وَيَتَشَهَّدُوا، ثُمَّ
يُسَلِّمَ بِهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثاني: وَهُوَ أَصَحُّهَا عِنْدَ
الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ وَأَشْهَرُهَا،
وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَهُوَ نَصُّهُ
في"الأم" وَالْبُوَيْطِيِّ وَالْإِمْلَاءِ
وَالْقَدِيمِ: يُفَارِقُونَهُ عَقِبَ
السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
أَخَفُّ وَيُخَالِفُ الْمَسْبُوقَ، فَإِنَّهُ
لَا يُفَارِقُهُ إلَّا بَعْدَ السَّلَامِ
وَلِأَنَّ الْمَسْبُوقَ إذَا فَارَقَ لَا
يَنْتَظِرُهُ أَحَدٌ وَهُنَا يَنْتَظِرُهُ
الْإِمَامُ لِيُسَلِّمَ بِهِ، فَكُلَّمَا
طَالَ مُكْثُهُ طَالَ انْتِظَارُ الْإِمَامِ
وَطَالَتْ صَلَاتُهُ؛ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ
مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ.
والثالث: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْ
الْقَدِيمِ يُفَارِقُهُ عَقِبَ السَّلَامِ
كَالْمَسْبُوقِ حَقِيقَةً، وَالطَّرِيقُ
الثَّانِي: حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ أَنَّهُمْ
يُفَارِقُونَهُ عَقِبَ السُّجُودِ - قَوْلًا
وَاحِدًا - قَالَ هَذَا الْقَائِلُ وَنَصَّ
الشَّافِعِيُّ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عَلَى
أَنَّهُ إذَا صَلَّى رُبَاعِيَّةً يَتَشَهَّدُ
مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَشَهُّدِ
الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا. قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الْمُجَرَّدِ:
هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ يَرُدُّهُ، فَإِذَا قُلْنَا
بِالْأَصَحِّ: إنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ عَقِبَ
السُّجُودِ فَهَلْ يَتَشَهَّدُ فِي حَالِ
انْتِظَارِهِمْ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما:
أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ السَّابِقَيْنِ
فِي الْقِرَاءَةِ وَهُمَا الْأَوَّلُ
وَالثَّالِثُ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي
يَتَشَهَّدُ قَوْلًا وَاحِدًا. وَفَرَّقَ
الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَا
يُقْرَأُ عَلَى قَوْلٍ لِيُسَوِّيَ بَيْن
الطَّائِفَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ
مَعَهُمْ، وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ
أَنْ يَتَشَهَّدَ لِئَلَّا يَخُصَّ
الثَّانِيَةَ بِالتَّشَهُّدِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلْنَا: لَا
يَتَشَهَّدُ اشْتَغَلَ فِي حَالِ انْتِظَارِهِ
بِالذِّكْرِ كَمَا قلنا: إذَا لَمْ يَقْرَأْ،
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُهُمْ حَتَّى
يُسَلِّمَ بِهِمْ
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ
الْإِمَامَ إذَا سَهَا فِي الْأُولَى لَحِقَ
الطَّائِفَتَيْنِ سَهْوُهُ، فَإِذَا
فَارَقَتْهُ الْأُولَى قَالَ الشَّافِعِيُّ:
أَشَارَ إلَيْهِمْ إشَارَةً يَفْهَمُونَ بِهَا
أَنَّهُ سَهَا لِيَسْجُدُوا فِي آخِرِ
صَلَاتِهِمْ. هَذَا نَصُّهُ في"الأم"
وَالْمُخْتَصَرِ. فَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أصحهما وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
ج / 4 ص -209-
الْمَرْوَزِيُّ إنَّمَا يُشِيرُ إلَيْهِمْ
إذَا كَانَ سَهْوًا يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَإِنْ
كَانَ سَهْوًا جَلِيًّا لَا يَخْفَى
عَلَيْهِمْ لَمْ يُشِرْ. قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ: وَأَظُنُّ الشَّافِعِيَّ
أَشَارَ إلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي
الْإِمْلَاءِ. وَجَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي
الْإِمْلَاءِ. والثاني: يُشِيرُ إلَيْهِمْ،
وَإِنْ كَانَ السَّهْوُ جَلِيًّا؛ لِأَنَّ
الْمَأْمُومَ قَدْ يَجْهَلُ السُّجُودَ بَعْدَ
مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ.
فرع: إذَا قُلْنَا:
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ تُفَارِقُهُ عَقِبَ
السُّجُودِ فَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَهَا
سَجَدُوا مَعَهُ فِي آخِرِ صَلَاةِ
الْجَمِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَتَشَهَّدُونَ
مَعَهُ سَجَدُوا لِلسَّهْوِ مَعَهُمْ ثُمَّ
قَامُوا إلَى رَكْعَتِهِمْ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَفِي إعَادَتِهِمْ سُجُودَ
السَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ الْقَوْلَانِ
فِي الْمَسْبُوقِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ
الْخَوْفِ أصحهما: يُعِيدُونَ، وَإِنْ
قُلْنَا: يَقُومُونَ عَقِبَ السُّجُودِ
وَيَنْتَظِرُهُمْ بِالتَّشَهُّدِ فَتَشَهَّدَ
قَبْلَ فَرَاغِهِمْ فَأَدْرَكُوهُ فِي آخِرِ
التَّشَهُّدِ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ
تَشَهُّدِهِمْ فَهَلْ يُتَابِعُونَهُ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبَا الشَّامِلِ
وَالْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ أحدهما: لَا
يُتَابِعُونَهُ، بَلْ يَتَشَهَّدُونَ ثُمَّ
يَسْجُدُونَ السَّهْوَ ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ
والثاني: يَسْجُدُونَ؛ لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ
لَهُ فَعَلَى هَذَا يُعِيدُونَهُ بَعْدَ
تَشَهُّدِهِمْ؟ قَالُوا: فِيهِ الْقَوْلَانِ،
يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّهُمْ لَا
يُعِيدُونَهُ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَتْ
الصَّلَاةُ مَغْرِبًا صَلَّى بِإِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ
رَكْعَةً[وَبِالْأُخْرَى]رَكْعَتَيْنِ وَفِي
الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ قَالَ فِي
الْإِمْلَاءِ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ
رَكْعَتَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ 1أَنَّ عَلِيًّا
رضي الله عنه صَلَّى لَيْلَةَ الْهَرِيرِ
هَكَذَا وَقَالَ فِي الْأُمِّ: الْأَفْضَلُ
أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ
وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً ، وَهُوَ
الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ؛
لِأَنَّهُ تَتَشَهَّدُ كُلُّ طَائِفَةٍ
تَشَهُّدَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ
تَتَشَهَّدُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ
ثَلَاثَ تَشَهُّدَاتٍ، فَإِنْ قلنا:
بِقَوْلِهِ فِي الْإِمْلَاءِ فَارَقَتْهُ
الطَّائِفَةُ الْأُولَى فِي الْقِيَامِ فِي
الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
مَوْضِعُ قِيَامِهَا، وَإِنْ قلنا: بِقَوْلِهِ
في"الأم" فَارَقَتْهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ؛
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَشَهُّدِهَا، وَكَيْفَ
يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الطَّائِفَةَ
الثَّانِيَةَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي
الْمُخْتَصَرِ يَنْتَظِرُهُمْ جَالِسًا حَتَّى
يُدْرِكُوا مَعَهُ الْقِيَامَ مِنْ أَوَّلِ
الرَّكْعَةِ[لِأَنَّهُ]إذَا انْتَظَرَهُمْ
قَائِمًا فَاتَهُمْ مَعَهُ بَعْضُ الْقِيَامِ
وَقَالَ فِي الْأُمِّ: (إنْ انْتَظَرَهُمْ
قَائِمًا فَحَسَنٌ وَإِنْ انْتَظَرَهُمْ
جَالِسًا فَجَائِزٌ) فَجَعَلَ الِانْتِظَارَ
قَائِمًا أَفْضَلَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛
لِأَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِنْ الْقُعُودِ،
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم "صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ
مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ".
الشرح: حَدِيثُ "صَلَاةُ
الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ
الْقَائِمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ،
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ كَمَا
سَبَقَ هُنَاكَ، وَلَيْلَةُ الْهَرِيرِ -
بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ -
لَيْلَةٌ مِنْ لَيَالِي صِفِّينَ، سُمِّيَتْ
بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ هَرِيرٌ
عِنْدَ حَمْلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله
عنه ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِغَيْرِ
إسْنَادٍ وَأَشَارَ إلَى ضَعْفِهِ فَقَالَ:
"وَيُذْكَرُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى
الْمَغْرِبَ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَيْلَةَ
الْهَرِيرِ"، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط)
ج / 4 ص -210-
وَقَوْلُهُ "ِلأَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِنْ
الْقُعُودِ" هَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي
إطَالَةِ الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ أَيُّهُمَا
أَفْضَلُ؟ وَمَذْهَبُنَا أَنَّ إطَالَةَ
الْقِيَامِ أَفْضَلُ، ، وَقَدْ سَبَقَتْ
الْمَسْأَلَةُ بِدَلَائِلِهَا فِي أَوَّلِ
بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ:
لِأَنَّهُ تَتَشَهَّدُ كُلُّ طَائِفَةِ
تَشَهُّدَيْنِ، هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى
الْأَصَحِّ، وَهُوَ نَصُّهُ في"الأم" أَنَّ
الثَّانِيَةَ تُفَارِقُ الْإِمَامَ عَقِبَ
السُّجُودِ، وَلَا يَتَشَهَّدُونَ مَعَهُ،
أَمَّا إذَا قُلْنَا بِنَصِّهِ فِي سُجُودِ
السَّهْوِ: إنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ
تَشَهُّدِهِ فَإِنَّهُمْ يَتَشَهَّدُونَ
ثَلَاثَةَ تَشَهُّدَاتٍ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَمُخْتَصَرُهُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى
رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً،
وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فِيهِ طَرِيقَانِ الْمَشْهُورُ: قَوْلَانِ
أصحهما أَنْ يُصَلِّيَ بِالْأُولَى
رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً
والثاني: عَكْسُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَدَاوُد وَالطَّرِيقُ
الثاني بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ - قَوْلًا
وَاحِدًا - وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ. فَإِنْ
قُلْنَا: بِالْأُولَى رَكْعَةً فَارَقَتْهُ
إذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ، وَأَتَمَّتْ
لِأَنْفُسِهَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي ذَاتِ
الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: بِالْأُولَى
رَكْعَتَيْنِ جَازَ أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ فِي
التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَجَازَ فِي قِيَامِ
الثالثة: وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ
قَوْلَانِ: أصحهما بِاتِّفَاقِهِمْ
الِانْتِظَارُ فِي الْقِيَامِ، وَعَلَى هَذَا
هَلْ يَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْفَاتِحَةَ
وَمَا بَعْدَهَا أَمْ لَا يَقْرَأُ
وَاشْتَغَلَ بِالذِّكْرِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ
السَّابِقُ فِي ذَاتِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَا
خِلَافَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَا
تُفَارِقُهُ إلَّا بَعْدَ التَّشَهُّدِ؛
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَشَهُّدِهِمْ، وَهَلْ
تُفَارِقُهُ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ عَقِبَ
سُجُودِهِ فِي الثالثة:؟ أَمْ عَقِبَ
التَّشَهُّدِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ
فِيمَا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ،
وَكَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ
فِي حَالِ انْتِظَارِهِمْ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قلنا: يَنْتَظِرُهُمْ
فِي التَّشَهُّدِ انْتَظَرَهُمْ حَتَّى
يُحْرِمُوا خَلْفَهُ ثُمَّ يَقُومُ
مُكَبِّرًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَغَيْرُهُ: وَيُكَبِّرُونَ مُتَابَعَةً لَهُ،
قَالُوا: وَإِنَّمَا قُلْنَا: يَنْتَظِرُهُمْ
جَالِسًا حَتَّى يُحْرِمُوا لِيُدْرِكُوا
مَعَهُ الرَّكْعَةَ مِنْ أَوَّلِهَا كَمَا
أَدْرَكَتْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنْ
أَوَّلِهَا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَتْ
الصَّلَاةُ ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا أَوْ عِشَاءً
وَكَانَ فِي الْحَضَرِ صَلَّى بِكُلِّ
طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ جَعَلَهُمْ
أَرْبَعَ فِرَقٍ وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ
رَكْعَةً فَفِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ:
أحدهما: أَنَّهَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ
الرُّخْصَةَ وَرَدَتْ بِانْتِظَارَيْنِ، فَلَا
تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا والثاني:
أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛
لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَرْبَعِ
انْتِظَارَاتٍ بِأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ
أَرْبَعَمِائَةٍ، وَالْعَدُوُّ سِتَّمِائَةٍ
فَتَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَيُصَلِّيَ بِمِائَةٍ
مِائَةٍ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ الثَّالِثَ
وَالرَّابِعَ بِالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ
وَالْجُلُوسِ وَالذِّكْرِ وَذَلِكَ لَا
يُبْطِلُ الصَّلَاةَ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ
صَلَاةَ الْإِمَامِ لَا تَبْطُلُ صَحَّتْ
صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأَخِيرَةِ؛
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الْإِمَامَ،
وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ
وَالثالثة: فَارَقُوهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمَنْ
فَارَقَ الْإِمَامَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِي
بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ فَإِنْ
قُلْنَا: إنَّ صَلَاةَ الْإِمَامِ تَبْطُلُ
فَفِي وَقْتِ بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ، وَقَالَ
أَبُو الْعَبَّاسِ: تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ
الثَّالِثِ فَتَصِحُّ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ
الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثالثة:،
وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَإِنْ عَلِمُوا
بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ،
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا لَمْ تَبْطُلْ،
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَنْصُوصُ
أَنَّهُ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ
بِالِانْتِظَارِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم انْتَظَرَ
الطَّائِفَةَ الْأُولَى حَتَّى فَرَغَتْ
وَرَجَعَتْ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ
الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى وَانْتَظَرَ بِقَدْرِ
مَا أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا، وَهَذَا قَدْ زَادَ
عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ انْتَظَرَ
الطَّائِفَةَ الْأُولَى حَتَّى أَتَمَّتْ
صَلَاتَهَا، وَمَضَتْ
ج / 4 ص -211-
إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَانْتَظَرَ
الثَّانِيَةَ حَتَّى أَتَمَّتْ صَلَاتَهَا،
وَمَضَتْ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ
الطَّائِفَةُ الثالثة:، وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى
انْتِظَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَعَلَى هَذَا إنْ عَلِمَتْ الطَّائِفَةُ
الثالثة: بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ لَمْ
يَعْلَمُوا لَمْ تَبْطُلْ".
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَتْ صَلَاةُ
الْخَوْفِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِأَنْ صَلَّى
فِي الْحَضَرِ أَوْ أَتَمَّ فِي السَّفَرِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ
فَيُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ هَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَنْتَظِرَ
الثَّانِيَةَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ؟
أَمْ فِي الْقِيَامِ الثَّالِثِ؟ فِيهِ
الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمَغْرِبِ.
وَيَتَشَهَّدُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ بِلَا
خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَشَهُّدِ
الْجَمِيعَ، وَإِذَا قلنا: فِي الْقِيَامِ،
فَهَلْ يَقْرَأُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ
وَإِذَا قُلْنَا: يَنْتَظِرُهُمْ فِي
التَّشَهُّدِ انْتَظَرَهُمْ فِيهِ حَتَّى
يُحْرِمُوا، فَلَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ
فِرَقٍ فَصَلَّى بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً
وَيَنْتَظِرُ فَرَاغَهَا وَيَجِيءُ الَّتِي
بَعْدَهَا فَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي
الْمُخْتَصَرِ وَالْأُمِّ وَيَنْبَنِي
عَلَيْهِمَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ
أصحهما عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ:
جَوَازُ وَصِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَالثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُهُ وَبُطْلَانُ
صَلَاةِ الْإِمَامِ وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ
يَزِدْ عَلَى انْتِظَارَيْنِ، وَالرُّخَصُ لَا
يُتَجَاوَزُ فِيهَا النُّصُوصُ، وَوَجْهُ
الصِّحَّةِ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى
ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ
سِتَّمِائَةٍ وَالْمُسْلِمُونَ
أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَقِفُ بِإِزَائِهِمْ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَيُصَلِّي مَعَهُ مِائَةٌ
مِائَةٌ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ إنَّمَا
هُوَ بِإِطَالَةِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ
وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ، وَهَذَا لَا
يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى
انْتِظَارَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي
احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَعَلَّهُ لَوْ احْتَاجَ
زِيَادَةً زَادَ.
وَهَذَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي
الْمُسَافِرِ إذَا أَقَامَ لِحَاجَةٍ يَرْجُو
قَضَاءَهَا هَلْ يَقْصُرُ أَبَدًا؟ أَمْ لَا
يَتَجَاوَزُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا؟
وَمِثْلُهُ الْوِتْرُ، هَلْ هُوَ مُنْحَصِرٌ
بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً؟ أَوْ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ؟ أَمْ لَا حَصْرَ لَهُ؟ فِيهِ
خِلَافٌ سَبَقَ، وَإِذَا قلنا: بِالْجَوَازِ؛
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: شَرْطُهُ
الْحَاجَةُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ
فَهُوَ كَفِعْلِهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ،
وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْثَرُونَ هَذَا
الشَّرْطَ، بَلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ
وَالْأَصْحَابِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا
يُشْرَطُ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لِأَنَّهُ
قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ
بِأَنَّ الْحَاجَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا
فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ
تَكُونُ الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ
كَالثَّانِيَةِ فِي ذَاتِ الرَّكْعَتَيْنِ،
فَيَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُمْ
يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ أَمْ
بَعْدَهُ؟ وَقَبْلَ السَّلَامِ أَمْ بَعْدَ
سَلَامِ الْإِمَامِ؟ وَالصَّحِيحُ: قَبْلَ
التَّشَهُّدِ، وَتَتَشَهَّدُ الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةُ مَعَهُ عَلَى أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ، وَفِي وَجْهٍ تُفَارِقُهُ
قَبْلَ التَّشَهُّدِ، قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَصِحُّ صَلَاةُ
الْإِمَامِ وَالطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ؛
لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَفِي
الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ الْقَوْلَانِ فِيمَنْ
فَارَقَ الْإِمَامَ بِلَا عُذْرٍ أصحهما:
الصِّحَّةُ، هَكَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ:
إنَّهُمْ فَارَقُوا بِلَا عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ
غَيْرُ مُضْطَرِّينَ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ لِإِمْكَانِ صَلَاتِهِ بِهِمْ
رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ صَلَاتِهِمْ
فُرَادَى.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا أَنَّهُمْ
يُفَارِقُونَ بِعُذْرٍ، وَلَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُمْ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ
الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ
لَيْسَ إلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَوْ
أَرَادُوا الْبَقَاءَ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ
يُمْكِنْهُمْ، فَكَانَ عُذْرًا.
وَالْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْأَصْحَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ عُذْرًا،
وَأَمَّا إذَا قُلْنَا: لَا يَجُوزُ
تَفْرِيقُهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَصَلَاةُ
الْإِمَامُ تَبْطُلُ، وَفِي وَقْتِ
بُطْلَانِهَا وَجْهَانِ: الصحيح عِنْدَ
الْأَصْحَابِ، وَهُوَ
ج / 4 ص -212-
ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ
الْمُتَقَدِّمِينَ: تَبْطُلُ بِالِانْتِظَارِ
فِي الرَّكْعَةِ الثالثة:؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ
والثاني: قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: تَبْطُلُ
بِالِانْتِظَارِ فِي الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهُ
يُبَاحُ انْتِظَارَانِ، وَيَحْرُمُ
الثَّالِثُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الثَّالِثُ
بِانْتِظَارِ مَجِيءِ الرَّابِعَةِ، فَعَلَى
هَذَا تُفَارِقُهُ الثالثة:، وَصَلَاتُهُ
صَحِيحَةٌ، فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ أحدهما: تَبْطُلُ بِمُضِيِّ
الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّانِي
بِمُضِيِّ قَدْرِ رَكْعَةٍ مِنْ انْتِظَارِهِ
الثَّانِي. وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ
فَالطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ
فَارَقَتَاهُ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ،
فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ الْقَوْلَانِ
فِيمَنْ فَارَقَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، كَمَا
سَبَقَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِ صِحَّةِ
صَلَاتِهِ، وَيَجِيءُ وَجْهُ الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيِّ، وَجَزَمَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ بِصِحَّةِ
صَلَاتِهِمَا، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى
الْأَصَحِّ فِيمَنْ فَارَقَ بِلَا عُذْرٍ
أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ وَإِلَّا فَقَدْ
ذَكَرُوا كُلُّهُمْ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا
قُلْنَا: صَلَاةُ الْإِمَامِ صَحِيحَةٌ،
وَهَذَا أَوْلَى بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ
وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ هُنَا
الْمُتَوَلِّي، وَآخَرُونَ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ
فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إنْ
كَانُوا عَالِمِينَ.، وَلَا يَبْطُلُ إنْ لَمْ
يَعْلَمُوا، وَفِيمَا يُعْتَبَرُ عِلْمُهُمْ
بِهِ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ
الشَّامِلِ أحدهما: يُعْتَبَرُ أَنْ يَعْلَمَ
أَنَّ الْإِمَامَ انْتَظَرَ مَنْ لَا يَجُوزُ
انْتِظَارُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ
أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ صَلَاةَ الْإِمَامِ،
كَمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُ
أَنَّهُ جُنُبٌ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ
جَهِلَ كَوْنَ الْجَنَابَةِ تُبْطِلُ
الِاقْتِدَاءَ - وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي
الْمُخْتَصَرِ - فَإِنَّهُ قَالَ: وَتَبْطُلُ
صَلَاةُ مَنْ عَلِمَ مَا صَنَعَ الْإِمَامُ
وأصحهما وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ: أَنْ
يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا لَا يُبْطِلُ
الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ هَذَا
غَامِضَةٌ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، لَا
سِيَّمَا إذَا رَأَوْا الْإِمَامَ يُصَلِّي
بِهِمْ، بِخِلَافِ الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَا
يَخْفَى حُكْمَهَا عَلَى أَحَدٍ إلَّا فِي
نَادِرٍ جِدًّا. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ
الثالثة: فَعِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ هِيَ
كَالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا
فَارَقَتْ الْإِمَامَ قَبْلَ بُطْلَانِ
صَلَاتِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ حُكْمُهَا
حُكْمُ الرَّابِعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَابَعَتْهُ
بَعْدَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَلَوْ فَرَّقَهُمْ فِي صَلَاةِ
الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِكُلِّ
فِرْقَةٍ رَكْعَةً، فَإِنْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ
فَهُوَ كَمَا سَبَقَ فِي الْفِرَقِ
الْأَرْبَعِ عَلَى قَوْلِ الْجَوَازِ، وَإِنْ
لَمْ نُجَوِّزْهُ فَصَلَاةُ الطَّوَائِفِ
الثَّلَاثَةِ صَحِيحَةٌ عِنْدَ ابْنِ
سُرَيْجٍ. وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ
فَصَلَاةُ الْأُولَيَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ
فِي الْأَرْبَعِ، وَصَلَاةُ الثالثة:
بَاطِلَةٌ إنْ عَلِمُوا، وَإِلَّا
فَصَحِيحَةٌ، وَفِيمَا يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ
فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ، إذَا
اخْتَصَرْتُ حُكْمَ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ،
قُلْتُ: فِيهِمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: أصحها
صِحَّةُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ والثاني:
بُطْلَانُ الْجَمِيعِ والثالث: صِحَّةُ
صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالطَّائِفَةِ
الْأَخِيرَةِ فَقَطْ والرابع: صِحَّةُ صَلَاةِ
الْأُولَتَيْنِ وَبُطْلَانُ صَلَاةِ
الْآخِرَتَيْنِ إنْ عَلِمَتَا والخامس:
صِحَّةُ الطَّوَائِفِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ،
وَبُطْلَانُ الْإِمَامِ، وَالرَّابِعَةِ إنْ
عَلِمَتْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ.
أَمَّا إذَا فَرَّقَهُمْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ
فِرْقَتَيْنِ فَصَلَّى بِالْفِرْقَةِ
الْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا
أَوْ عَكْسَهُ فَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَصَاحِبَا الْحَاوِي وَالشَّامِلِ
وَالْأَصْحَابُ، وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّهِ فِي
الْأُمِّ: تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ
وَالطَّائِفَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَكَانَتْ
مَكْرُوهَةً، وَيَسْجُدُ الْإِمَامُ
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ سُجُودَ
السَّهْوِ لِلْمُخَالَفَةِ بِالِانْتِظَارِ
فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ بَعْدَ أَنْ حَكَى
هَذَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ: وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامِدَ كَالسَّاهِي
فِي سُجُودِ السَّهْوِ، عَلَى أَنَّهُ إذَا
فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ وَقُلْنَا: لَا
تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ فَعَلَيْهِمْ سُجُودُ
السَّهْوِ. وَانْفَرَدَ
ج / 4 ص -213-
صَاحِبُ التَّتِمَّةِ فَقَالَ: لَا خِلَافَ
فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ
مَكْرُوهَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ
بِالتَّسْوِيَةِ بَيْن الطَّائِفَتَيْنِ.
قَالَ: وَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ
أَمْ لَا؟ إنْ قُلْنَا: لَوْ فَرَّقَهُمْ
أَرْبَعَ فِرَقٍ تَصِحُّ فَهُنَا أَوْلَى،
وَإِلَّا فَقَدْ انْتَظَرَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ فَيَكُونُ كَمَنْ قَنَتَ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِهِ، قَالَ: وَأَمَّا
الْمَأْمُومُونَ فَعَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا
لَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ. وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ شَاذٌّ، وَالصَّوَابُ مَا
قَدَّمْنَاهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ
وَالْأَصْحَابِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ فِي الْحَضَرِ.
هَذَا مَذْهَبُنَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا
تَجُورُ فِي الْحَضَرِ، دَلِيلُنَا عُمُومُ
الْآيَةِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ
جُوِّزَتْ لِلِاحْتِيَاطِ لِلصَّلَاةِ
وَالْحَرْبِ. وَهَذَا مَوْجُودٌ؛ وَلِأَنَّهَا
تَجُوزُ فِي الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ وَهُمَا
تَامَّتَانِ. فَإِنْ قَالُوا: الْإِمَامُ
يَطُولُ انْتِظَارُهُ لِمَنْ يَأْتِي
بِرَكْعَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ طُولِهِ لِمَنْ
يَأْتِي بِرَكْعَةٍ وَإِنَّمَا انْتَظَرَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يَأْتِي
بِرَكْعَةٍ فَقَطْ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ
الِانْتِظَارَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْدُودٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ:
وَلِهَذَا يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ
الطَّائِفَتَيْنِ أَنْ تُطَوِّلَ صَلَاتَهَا
لِنَفْسِهَا، وَالْإِمَامُ يَنْتَظِرُهَا،
وَلَوْ طَالَتْ رَكْعَتُهَا قَدْرَ رَكَعَاتٍ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ كَانَ الْخَوْفُ
فِي بَلَدٍ وَحَضَرَتْ الْجُمُعَةُ
فَالْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّ لَهُمْ
صَلَاةَ الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةِ
ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَقِيلَ فِي جَوَازِهَا
قَوْلَانِ، وَقِيلَ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ؛ ثُمَّ
لِلْجَوَازِ شَرْطَانِ أحدهما: أَنْ يَخْطُبَ
بِجَمِيعِهِمْ ثُمَّ يُفَرِّقَهُمْ
فِرْقَتَيْنِ، أَوْ يَخْطُبَ بِفِرْقَةٍ
وَيَجْعَلَ مِنْهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ
الْفِرْقَتَيْنِ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا،
فَلَوْ خَطَبَ بِفِرْقَةٍ وَصَلَّى بِأُخْرَى
لَمْ يَجُزْ الثاني: أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ
الْأُولَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ
نَقَصَتْ عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ
الْجُمُعَةُ، وَلَوْ نَقَصَتْ الْفِرْقَةُ
الثَّانِيَةُ عَنْ أَرْبَعِينَ فَطَرِيقَانِ
حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ أصحهما وَبِهِ
قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ لَا يَضُرُّ قَطْعًا
لِلْحَاجَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فِي صَلَاةِ
الْخَوْفِ. والثاني: أَنَّهُ عَلَى خِلَافٍ
فِي الِانْفِضَاضِ، وَلَوْ خَطَبَ بِهِمْ
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ
عُسْفَانَ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ
شَاءَ الله تعالى، فَهُوَ أَوْلَى
بِالْجَوَازِ مِنْ صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ،
وَلَا يَجُوزُ كَصَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ بِلَا
خِلَافٍ؛ إذْ لَا تُقَامُ جُمُعَةٌ بَعْدَ
جُمُعَةٍ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ.
فرع: صَلَاةُ ذَاتِ
الرِّقَاعِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ بَطْنِ
نَخْلٍ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ؛
لِأَنَّهَا أَعْدَلُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ،
وَلِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِالْإِجْمَاعِ،
وَتِلْكَ صَلَاةُ مُفْتَرِضٍ خَلْفَ
مُتَنَفِّلٍ وَمِنْهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ
والثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ:
صَلَاةُ بَطْنِ نَخْلٍ أَفْضَلُ لِتُحَصِّلَ
كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ جَمَاعَةٍ تَامَّةٍ
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ: وَالطَّائِفَةُ
ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ وَأَكْرَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ، وَأَنْ
يَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ، هَذَا
نَصُّهُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا،
قَالُوا: الطَّائِفَةُ الَّتِي يُصَلِّي بِهَا
يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ جَمْعًا أَقُلُّهُمْ
ثَلَاثَةٌ، وَكَذَلِكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي
تَحْرُسُهُ يَكُونُونَ جَمْعًا أَقَلُّهُمْ
ثَلَاثَةٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةٌ
مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَقَلَّ مِنْ
ثَلَاثَةٍ. وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَقَلُّ
الطَّائِفَةِ ثَلَاثَةٌ خَطَأٌ؛ لِأَنَّ
الطَّائِفَةَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ
يُطْلَقُ عَلَى وَاحِدٍ، فَأَمَّا اللُّغَةُ
فَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ الْفَرَّاءِ أَنَّهُ
قَالَ: مَسْمُوعٌ مِنْ الْعَرَبِ أَنَّ
الطَّائِفَةَ الْوَاحِدُ. وَأَمَّا الشَّرْعُ
فَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ احْتَجَّ فِي
قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِ اللَّهِ
تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}(التوبة: من الآية122)فَحَمَلَ الطَّائِفَةَ عَلَى الْوَاحِدِ.
وَقال تعالى:{وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}(النور: من الآية2)وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ.
ج / 4 ص -214-
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَجْوِبَةٍ: أحدها
وَهُوَ الْمَشْهُورُ تَسْلِيمُ أَنَّ
الطَّائِفَةَ يَجُوزُ إطْلَاقُهَا عَلَى
وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ
أَنَّ الطَّائِفَةَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَكُونَ أَقَلَّ مِنْ
ثَلَاثَةٍ لقوله تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}(النساء: من الآية102)وَقَالَ تَعَالَى فِي الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}(النساء:
من الآية102)فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ
فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ؛ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ
ثَلَاثَةٌ. وَأَمَّا الطَّائِفَةُ فِي قوله
تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}(التوبة: من الآية122)" فَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَاحِدِ
لِلْقَرِينَةِ، وَهُوَ حُصُولُ الْإِنْذَارِ
بِالْوَاحِدِ، كَمَا حَمَلْنَاهُ هُنَا عَلَى
الثَّلَاثَةِ بِقَرِينَةٍ، وَهُوَ ضِمْنُ
الْجَمْعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ الله
تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ
"فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ" فَأَعَادَ عَلَى الطَّائِفَةِ ضَمَائِرَ الْجَمْعِ، وَلَمْ
يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الطَّائِفَةِ
ثَلَاثَةً فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْجَمْعَ
هُنَا عَلَى عَوْدِ الضَّمَائِرِ إلَى
الطَّوَائِفِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا
قَوْلُهُ تعالى:
{مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ}
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتُكْرَهُ صَلَاةُ
الْخَوْفِ إذَا كَانُوا خَمْسَةً سِوَى
الْإِمَامِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ، وَلَا تَزُولُ الْكَرَاهَةُ
حَتَّى يَكُونُوا سِتَّةً، فَإِذَا كَانُوا
خَمْسَةً أَوْ أَقَلَّ صَلَّى مَعَهُمْ
جَمِيعَ الصَّلَاةِ ثُمَّ انْصَرَفُوا وَجَاءَ
الْآخَرُونَ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ
جَمَاعَةً. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ:
فَإِنْ خَالَفَ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ
الْخَوْفِ، وَهُمْ خَمْسَةٌ فَأَقَلُّ أَسَاءَ
وَكُرِهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَصَحَّتْ
صَلَاةُ الْجَمِيعِ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ
الْعَدُوُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ لَا
يَسْتُرُهُمْ عَنْهُمْ شَيْءٌ وَفِي
الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ صَلَّى بِهِمْ
صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِعُسْفَانَ، فَيُحْرِمُ بِالطَّائِفَتَيْنِ،
وَيَسْجُدُ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ،
فَإِذَا رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ سَجَدَ الصَّفُّ
الْآخَرُ، فَإِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ
حَرَسَ الصَّفُّ الَّذِي سَجَدَ فِي الْأُولَى
وَسَجَدَ الصَّفُّ الْآخَرُ، فَإِذَا رَفَعُوا
سَجَدَ الصَّفُّ الْآخَرُ؛ لِمَا رَوَى
جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم صَلَّى هَكَذَا".
الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
رِوَايَةِ أَبِي عَيَّاشٍ بِالْيَاءِ
الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَالشِّينِ
الْمُعْجَمَةِ الزُّرَّقِي الصَّحَابِيُّ
الْأَنْصَارِيُّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ
الصَّامِتِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ لَفْظَ
رِوَايَةِ جَابِرٍ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
وَلَفْظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي عَيَّاشٍ
فِيهَا كُلِّهَا مُخَالَفَةٌ؛ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ وَأَلْفَاظُهَا كُلُّهَا
مُتَقَارِبَةٌ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ
"شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ
فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا
وَبَيْن الْقِبْلَةِ فَكَبَّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا
جَمِيعًا فَرَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا،
ثُمَّ رَفْعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ
وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ
بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ
وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ
الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ
الَّذِي يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ
الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا ثُمَّ
تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ
الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ؛ ثُمَّ رَكَعَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَكَعْنَا
جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَرَفَعْنَا
جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ
وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ
مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى،
وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ
الْعَدُوِّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي
يَلِيهِ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ
بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا
جَمِيعًا"
هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَكُلُّ طُرُقِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى
تَأَخُّرِ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَتَقَدُّمِ
الْمُؤَخَّرِ بَعْدَ سُجُودِهِ فِي الْأُولَى
ج / 4 ص -215-
وَأَمَّا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فَمُخَالِفٌ؛
لِمَا فِي الْحَدِيثِ وَلِمَا فِي
الْمُهَذَّبِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ
الْمُزَنِيِّ: صَلَّى بِهِمْ الْإِمَامُ
وَرَكَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ جَمِيعًا إلَّا
صَفًّا يَلِيهِ وَبَعْضَ صَفٍّ يَنْتَظِرُونَ
الْعَدُوَّ، وَإِذَا قَامُوا بَعْدَ
السَّجْدَتَيْنِ سَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي
حَرَسَهُمْ، فَإِذَا رَكَعَ رَكَعَ بِهِمْ
جَمِيعًا، وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ مَعَهُ
الَّذِينَ حَرَسُوا أَوَّلًا إلَّا صَفًّا
أَوْ بَعْضَ صَفٍّ يَحْرُسُهُ مِنْهُمْ،
فَإِذَا سَجَدُوا سَجْدَتَيْنِ وَجَلَسُوا
سَجَدَ الَّذِينَ حَرَسُوهُ، ثُمَّ
يَتَشَهَّدُونَ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعًا
مَعًا، وَهَذَا نَحْوُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم بِعُسْفَانَ، قَالَ: وَلَوْ
تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي حَرَس إلَى
الصَّفِّ الثَّانِي وَتَقَدَّمَ الثَّانِي
فَحَرَسَ فَلَا بَأْسَ هَذَا نَصُّهُ فِي
مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ، وَنَصُّهُ في"الأم"
مِثْلُهُ سَوَاءً.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ
الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْقَفَّالُ
وَمُتَابِعُوهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ:
يُصَلِّي كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ
وَالشَّيْخُ نَصْرٌ وَآخَرُونَ: هُوَ
الصَّوَابُ، قَالُوا: وَهُوَ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى إذَا صَحَّ
الْحَدِيثُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَهُوَ
مَذْهَبُهُ، وَأَنَّهُ يَتْرُكُ نَصَّهُ
الْمُخَالِفَ لَهُ، قَالُوا: وَلَعَلَّ
الشَّافِعِيَّ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ أَوْ
ذَهِلَ عَنْهُ.
قَالَ الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيُّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُحَقِّقِينَ: يَجُوزُ
الْأَمْرَانِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ،
وَهُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ الْحَدِيثَ في"الأم" كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ، وَصَرَّحَ فِيهِ بِسُجُودِ
الصَّفِّ الَّذِي يَلِي النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم ثُمَّ ذَكَرَ الْكَيْفِيَّةَ
الْمَشْهُورَةَ، فَأَشَارَ إلَى جَوَازِهِمَا،
وَاسْتَغْنَى بِثُبُوتِ الْحَدِيثِ عَنْ أَنْ
يَقُولَ: وَيَجُوزُ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ فِي
الْمُخْتَصَرِ: إنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي
ذَكَرهَا هِيَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بِعُسْفَانَ، بَلْ قَالَ: وَهَذَا
نَحْوُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِعُسْفَانَ، فَأَشْبَهَ تَجْوِيزُهُ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ
في"الأم" أَنَّ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي
ذَكَرَهَا، وَهِيَ حِرَاسَةُ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ وَسُجُودُ الثَّانِي رَوَاهَا
أَبُو عَيَّاشٍ.
وَأَمَّا الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْحَدِيثِ
وَلِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَلَكِنَّهَا
جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَلَى وَفْقِ
الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ تَقَدُّمَ
الصَّفِّ الْمُتَأَخِّرِ، وَتَأَخَّرَ
الْمُقَدَّمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَا
يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَقَدْ ذَكَرَ
الشَّافِعِيُّ جَوَازَ التَّقَدُّمِ
وَالتَّأَخُّرِ وَتَرْكَهُمَا كَمَا
قَدَّمْنَاهُ عَنْ نَصِّهِ في"الأم"
وَالْمُخْتَصَرِ، فَحَصَلَ أَنَّ الصَّحِيحَ
أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ
وَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
وَالْمُصَنِّفُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ،
وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْأَفْضَلِ
لِمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، وَلِتَفْضِيلِ
الصَّفِّ الْأَوَّلِ. فَخُصُّوا بِالسُّجُودِ
أَوَّلًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْحِرَاسَةُ
مُخْتَصَّةٌ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَحْرُسُونَ
فِي غَيْرِهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ
الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،
وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُمْ يَحْرُسُونَ فِي
الرُّكُوعِ أَيْضًا، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: لِهَذِهِ الصَّلَاةِ
ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونُ الْعَدُوُّ
فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى
جَبَلٍ أَوْ مُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا
يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَبْصَارِ
الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكُونَ
الْمُسْلِمُونَ كَثْرَةً تَسْجُدُ طَائِفَةٌ
وَتَحْرُسُ أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الشُّرُوطَ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَلَا تَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ
عَلَى صَفَّيْنِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا
صُفُوفًا كَثِيرَةً ثُمَّ يَحْرُسُ صَفَّانِ
كَمَا سَبَقَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ
يَحْرُسَ جَمِيعُ الصَّفِّ، وَلَا صَفَّانِ،
بَلْ لَوْ حَرَسَ فِرْقَتَانِ مِنْ صَفٍّ
وَاحِدٍ عَلَى الْمُنَاوَبَةِ جَازَ بِلَا
ج / 4 ص -216-
خِلَافٍ، وَلَوْ حَرَسَتْ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ
فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَفِي صِحَّةِ صَلَاةِ
هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا
الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ أصحهما: الصِّحَّةُ،
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ، وَبِهِ
قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمَا.
فرع: إذَا تَأَخَّرَ الصَّفُّ
الْأَوَّلُ السَّاجِدُونَ أَوَّلًا مَعَ
الْإِمَامِ عَلَى وَفْقِ الْحَدِيثِ
وَتَقَدَّمَ الْآخَرُونَ جَازَ بِلَا شَكٍّ،
اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِلْحَدِيثِ، لَكِنْ
قَالَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ:
يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكْثُرَ عَمَلُهُمْ،
وَلَا يَزِيدَ عَلَى خُطْوَتَيْنِ بَلْ
يَتَقَدَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ خُطْوَتَيْنِ
وَيَتَأَخَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَوَّلِينَ خُطْوَتَيْنِ، وَيَدْخُلُ
الَّذِي يَتَقَدَّمُ بَيْنَ مَوْقِفَيْنِ
وَأَمَّا عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي
ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ: أَنَّ
الصَّفَّ الْأَوَّلَ يَحْرُسُ فَيَجُوزُ
التَّقَدُّمُ أَيْضًا وَالتَّأَخُّرُ وَلَكِنْ
هَلْ هُوَ أَفْضَلُ؟ أَمْ مُلَازَمَةُ كُلِّ
إنْسَانٍ مَوْضِعَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَالَ
الْمَسْعُودِيُّ وَالصَّيْدَلَانِيّ
وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْخُرَاسَانِيِّينَ: التَّقَدُّمُ أَفْضَلُ،
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: الْمُلَازَمَةُ
أَفْضَلُ، وَفِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي
قَدَّمْنَاهُ إشَارَةٌ إلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ
قَالَ: فَلَا بَأْسَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ صَلَاةَ
عُسْفَانَ هَذِهِ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَنَا،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بَلْ
تَتَعَيَّنُ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:"وَلَا يَحْمِلُ
فِي الصَّلَاةِ سِلَاحًا نَجِسًا، وَلَا مَا
يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، كَالرُّمْحِ فِي
وَسَطِ النَّاسِ، وَهَلْ يَجِبُ حَمْلُ مَا
سِوَاهُ؟ قَالَ فِي الْأُمِّ: يُسْتَحَبُّ،
وَقَالَ بَعْدَهُ: يَجِبُ، قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: يَجِبُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ
أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ
تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}(النساء: من الآية102) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ جُنَاحًا
إذَا وَضَعُوا مِنْ غَيْرِ أَذًى وَلَا
مَرَضٍ. والثاني: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ
السِّلَاحَ إنَّمَا يَجِبُ حَمْلُهُ
لِلْقِتَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَاتِلٍ فِي
حَالِ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجِبْ حَمْلُهُ،
وَعَنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنْ كَانَ
السِّلَاحُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ
كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَجَبَ حَمْلُهُ،
وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ
وَعَنْ غَيْرِهِ كَالرُّمْحِ وَالسِّنَّانِ
لَمْ يَجِبْ وَحَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى
هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ، وَالصَّحِيحُ مَا
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ".
الشرح: قَالَ أَصْحَابنَا:
حَمْلُ السِّلَاحِ فِي صَلَاةِ بَطْنِ نَخْلٍ
وَصَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَصَلَاةِ
عُسْفَانَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَلْ هُوَ
مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ
طُرُقٍ أَصَحُّهَا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ:
فِيهِ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ
الْأَصْحَابِ: مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ نَصُّهُ
فِي الْمُخْتَصَرِ، وَأَحَدُ الْمَوْضِعَيْنِ
فِي الْأُمِّ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ.
(وَالطَّرِيقُ الثاني: إنْ كَانَ يَدْفَعُ
عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ كَالسَّيْفِ
وَالسِّكِّينِ وَجَبَ، وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُ
عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ كَالنُّشَّابِ
وَالرُّمْحِ اُسْتُحِبَّ، وَهَذَانِ
الطَّرِيقَانِ فِي الْكِتَابِ والثالث حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيُّونَ، مِنْهُمْ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ
وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ تَجِبُ قَوْلًا
وَاحِدًا والرابع: لَا يَجِبُ قَوْلًا
وَاحِدًا حَكَاهُ هَؤُلَاءِ، فَمَنْ قَالَ
بِالْوُجُوبِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ }(النساء: من الآية102)وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَمَنْ قَالَ
بِالنَّدْبِ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ؛
لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ. وَمَنْ
قَالَ بِالْفَرْقِ قَالَ: لِأَنَّهُ
مُتَحَقِّقُ الْحَاجَةِ إلَى مَا يَدْفَعُ
بِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ،
وَعَلَّلَهُ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ
بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ
دُونَ غَيْرِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلِلْخِلَافِ شُرُوطٌ:
أحدها: طَهَارَةُ السِّلَاحِ، فَإِنْ كَانَ
نَجِسًا كَالسَّيْفِ الْمُلَطَّخ بِدَمٍ،
ج / 4 ص -217-
وَاَلَّذِي سُقِيَ سُمًّا نَجُسَ وَالنَّبْلُ
الْمُرَيَّشُ بِرِيشِ مَا لَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ أَوْ بِرِيشِ مَيْتَةٍ لَمْ يَجُزْ
حَمْلُهُ بِلَا خِلَافٍ. الثاني: أَلَّا
يَكُونَ مَانِعًا مِنْ بَعْضِ أَرْكَانِ
الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ كَبَيْضَةٍ تَمْنَعُ
مُبَاشَرَةَ الْجَبْهَةِ لَمْ يَجُزْ بِلَا
خِلَافٍ إلَّا أَنْ يُمْكِنَ رَفْعُهَا حَالَ
السُّجُودِ فَيَجُوزُ حَمْلُهَا، وَلَا
يَجِبُ. الثالث: أَنْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ
أَحَدٌ كَرُمْحٍ فِي وَسَطِ النَّاسِ، فَإِنْ
خِيفَ الْأَذَى كُرِهَ حَمْلُهُ. الرابع: أَنْ
يَكُونَ فِي تَرْكِ السِّلَاحِ خَطَرٌ
مُحْتَمَلٌ لَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَلَا
مَظْنُونٌ، فَأَمَّا إذَا تَعَرَّضَ
لِلْهَلَاكِ غَالِبًا لَوْ تَرَكَهُ فَيَجِبُ
حَمْلُهُ قَطْعًا، صَرَّحَ بِهِ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَقَالَ
الْإِمَامُ: وَيَحْرُمُ تَرْكُ السِّلَاحِ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي الصَّلَاةِ
وَغَيْرِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ تَرْجَمُوا
الْمَسْأَلَةَ بِحَمْلِ السِّلَاحِ. قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَيْسَ الْحَمْلُ
مُتَعَيِّنًا بَلْ لَوْ وَضَعَ السَّيْفَ
بَيْن يَدَيْهِ وَكَانَ مَدُّ الْيَدَ إلَيْهِ
فِي السُّهُولَةِ كَمَدِّهَا إلَيْهِ، وَهُوَ
مَحْمُولٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى
الْحَمْلِ، وَلَهُ حُكْمُهُ قَطْعًا، وَإِنْ
كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي تَرْكِهِ خَلَلٌ
وَلَكِنْ لَا يُؤْمَنُ إفْضَاؤُهُ إلَى خَلَلٍ
فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الصَّلَاةِ
وَغَيْرِهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا
أَوْجَبْنَا حَمْلَهُ فَتَرَكُوهُ صَحَّتْ
صَلَاتُهُمْ بِلَا خِلَافٍ، كَالصَّلَاةِ فِي
أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ
فِي الْبَسِيطِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ:
الْمُرَخِّصُ فِي تَغْيِيرِ هَيْئَةِ
الصَّلَاةِ هُوَ الْأَخْذُ بِالْجَزْمِ،
فَتَارِكُهُ كَمَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ
بِلَا خَوْفٍ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ
احْتِمَالٌ لَهُمَا وَإِلَّا فَلَا خِلَافَ
فِي صِحَّةِ الصِّحَّةِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَيَجُوزُ تَرْكُ السِّلَاحِ لِلْعُذْرِ
بِمَرَضٍ أَوَ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ
غَيْرِهِ لقوله تعالى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ}(النساء: من الآية102)" قَالَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ: وَالسِّلَاحُ
يَقَعُ عَلَى السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ
وَالرُّمْحِ وَالنُّشَّابِ وَنَحْوِهَا،
فَأَمَّا التُّرْسُ وَالدِّرْعُ فَلَيْسَ
بِسِلَاحٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ:
السِّلَاحُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: حَرَامٌ
وَمَكْرُوهٌ وَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ
وَمُخْتَلِفُ الْحَالِ. فَالْحَرَامُ
النَّجِسُ كَالشَّابِّ الْمُرَيَّشِ بِرِيشٍ
نَجِسٍ وَالسِّلَاحِ الْمُلَطَّخِ بِدَمٍ
وَغَيْرِهِ، وَالْمَكْرُوهُ مَا كَانَ
ثَقِيلًا يَشْغَلُهُ عَنْ الصَّلَاةِ
كَالْجَوْشِ وَالتُّرْسِ وَالْجَعْبَةِ
وَنَحْوِهَا، وَالْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِهِ
مَا سِوَى ذَلِكَ، وَمُخْتَلِفُ الْحَالِ
كَالرُّمْحِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَأَذَّى
بِهِ جَارُهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ
النَّاسِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِمْ
فَلَا إذَا قُلْنَا: الْمَسْأَلَةُ عَلَى
قَوْلَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالطَّرِيقِ
الثَّانِي: إنَّهَا عَلَى حَالَيْنِ كَانَ
السِّلَاحُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
مُحَرَّمٌ وَمَكْرُوهٌ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَوَاجِبٌ، وَهُوَ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ
نَفْسِهِ، وَمُسْتَحَبُّ، وَهُوَ مَا يَدْفَعُ
بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَمُخْتَلِفُ الْحَالِ
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حَمْلِ
السِّلَاحِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا
أَنَّهُ لَا يَجِبُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ
وَدَاوُد وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ
بِقَوْلِهِ تعالى:{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}(النساء: من الآية102)وَبِقَوْلِهِ تعالى:
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ
كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ}(النساء: من الآية102) قَالُوا: وَرَفْعُ الْجُنَاحِ عِنْدَ
الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ إذَا لَمْ
يَكُنْ عُذْرٌ، وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ
بِأَنَّ الْأَمْرَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى
النَّدْبِ، وَرَفْعُ الْجُنَاحِ لَا
يَلْزَمُهُ مِنْهُ الْوُجُوبُ، بَلْ مَعْنَاهُ
رَفْعُ الْكَرَاهَةِ. فَأَمَّا إذَا قُلْنَا:
لَا يَجِبُ نَقُولُ: يُكْرَهُ تَرْكُ
السِّلَاحِ إذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَإِذَا
كَانَ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ وَالْجُنَاحُ.
هَكَذَا أَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْأَصْحَابُ
قال المصنف رحمه الله تعالى:"فَإِنْ اشْتَدَّ
الْخَوْفُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَفْرِيقِ
الْجَيْشِ صَلَّوْا رِجَالًا
ج / 4 ص -218-
رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ
وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا}(البقرة: من الآية239)قَالَ ابْنُ عُمَرَ: "مُسْتَقْبِلِي
الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا"
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "إذَا
كَانَ الْخَوْفُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلَّى
رَاكِبًا وَقَائِمًا يُومِئُ إيمَاءً" قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَضْرِبَ
الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ، فَإِنْ
تَابَعَ أَوْ عَمِلَ مَا يَطُولُ بَطَلَتْ
صَلَاتُهُ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ
رحمهما الله - أَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ
مُضْطَرًّا إلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،
وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ لَمْ
تَبْطُلْ كَالْمَشْيِ وَحَكَى عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ اضْطَرَّ
إلَيْهِ فَعَلَ وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ كَمَا نَقُولُ فِيمَنْ لَمْ
يَجِدْ مَاءً، وَلَا تُرَابًا: إنَّهُ
يُصَلِّي وَيُعِيدُ فَإِنْ اسْتَفْتَحَ
الصَّلَاةَ رَاكِبًا ثُمَّ أَمِنَ فَنَزَلَ
فَإِنْ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فِي
النُّزُولِ - بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ
تَرَكَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ،
وَإِنْ لَمْ يَسْتَدْبِرْ قَالَ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله: بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ
عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَمْ يُمْنَعْ الْبِنَاءَ
وَإِنْ اسْتَفْتَحَهَا رَاجِلًا فَخَافَ
فَرَكِبَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: ابْتَدَأَ
الصَّلَاةَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: إنْ
لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ اُبْتُدِئَ؛
لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَا ضَرُورَةَ بِهِ
إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لَمْ
تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ فَلَمْ
تَبْطُلْ كَالْمَشْيِ، وَقَوْلُ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَقْيَسُ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ
بِظَاهِرِ النَّصِّ
إذَا رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا
وَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ
بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا فَفِيهِ
قَوْلَانِ أحدهما: تَجِبُ الْإِعَادَةُ
لِأَنَّهُ فَرْضٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْخَطَأِ
كَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ أَتَى بِفَرْضٍ
ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ
والثاني: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ
الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَوَازِ
الصَّلَاةِ شِدَّةُ الْخَوْفِ وَالْعِلَّةُ
مَوْجُودَةٌ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ
أَنْ يُجْزِئَهُ كَمَا لَوْ رَأَى عَدُوًّا
فَظَنَّ أَنَّهُمْ عَلَى قَصْدِهِ فَصَلَّى
بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ
يَكُونُوا عَلَى قَصْدِهِ فَأَمَّا إذَا رَأَى
الْعَدُوَّ فَخَافَهُمْ فَصَلَّى صَلَاةَ
شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ
بَيْنَهُمْ حَاجِزٌ مِنْ خَنْدَقٍ أَوْ مَاءٍ
فَفِيهِ طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ
قَالَ: عَلَى قَوْلَيْنِ كَاَلَّتِي
قَبْلَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ
الْإِعَادَةُ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا؛
لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي تَرْكِ تَأَمُّلِ
الْمَانِعِ فَلَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَأَمَّا
إذَا غَشِيَهُ سَيْلٌ أَوْ طَلَبَهُ سَبُعٌ
جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ
الْخَوْفِ، فَإِذَا أَمِنَ لَمْ تَلْزَمْهُ
الْإِعَادَةُ. قَالَ الْمُزَنِيّ: قِيَاسُ
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ
الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ
نَادِرٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ
جِنْسَ الْخَوْفِ مُعْتَادٌ فَسَقَطَ
الْفَرْضُ بِجَمِيعِهِ"1.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
بِقَرِيبٍ مِنْ مَعْنَاهُ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ
فِي أَوَّلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَيْضًا أَنَّ قوله
تعالى: "رِجَالًا" جَمْعُ رَاجِلٍ لَا جَمْعُ
رَجُلٍ. وَقَوْلُهُ (وَيَطْعُنُ) هُوَ بِضَمِّ
الْعَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيُقَالُ
بِفَتْحِهَا، يُقَالُ طَعَنَ فِي النَّسَبِ
وَنَحْوِهِ يَطْعَنُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ -
وَيَطْعُنُ بِالرُّمْحِ بِضَمِّهَا، وَقِيلَ
لُغَتَانِ فِيهِمَا.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ:
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم
الله: إذَا الْتَحَمَ الْقِتَالُ، وَلَمْ
يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَرْكِهِ بِحَالٍ
لِقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ،
وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَحِمْ
الْقِتَالُ فَلَمْ يَأْمَنُوا أَنْ يَرْكَبُوا
أَكْتَافَهُمْ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ
وَانْقَسَمُوا فِرْقَتَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ
لَهُمْ تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ بِلَا
خِلَافٍ، وَيُصَلُّونَ رُكْبَانًا وَمُشَاةً،
وَلَهُمْ تَرْكُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه القطعة التي أثبتناها بين المعقوفين
إنما هي فصل كبير في متن المهذب سقط من ش و ق
فتأمل (ط)
ج / 4 ص -219-
قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ
بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي
الْجِهَةِ كَالْمُصَلِّينَ فِي الْكَعْبَةِ
وَحَوْلَهَا قَالَ أَصْحَابُنَا: وَصَلَاةُ
الْجَمَاعَةِ فِي هَذَا الْحَالِ أَفْضَلُ
مِنْ الِانْفِرَادِ كَحَالَةِ الْأَمْنِ
لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِي فَضِيلَةِ
الْجَمَاعَةِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِتَفْضِيلِ
الْجَمَاعَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ هُنَا
صَاحِبُ الشَّامِلِ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ
الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فِي التَّعْلِيقِ فَإِنْ قِيلَ:
إذَا صَلَّوْا جَمَاعَةً لَا يُمْكِنُهُمْ
الِاقْتِدَاءُ لِعَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الِاقْتِدَاءِ الْعِلْمُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ
لَا الْمُشَاهَدَةُ كَمَا لَوْ صَلَّى فِي
آخِرِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ،
وَلَا يَرَاهُ، لَكِنْ يَعْلَمُ صَلَاتَهُ
فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَحَكَى
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ: أَنَّهُ قَالَ: لَا تَصِحُّ
صَلَاتُهُمْ جَمَاعَةً قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا
جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى مِنْ إتْمَامِ
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوَمَأَوْا بِهِمَا
وَجَعَلُوا السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ
الرُّكُوعِ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَاشِيَ
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ، وَلَا فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا
وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ بِلَا
خِلَافٍ، بِخِلَافِ الْمُتَنَفِّلِ فِي
السَّفَرِ، وَالْفَرْقُ شِدَّةُ الْحَاجَةِ
وَالضَّرُورَةِ هُنَا، وَلَا يَجُوزُ
الصِّيَاحُ، وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْكَلَامِ
بِلَا خِلَافٍ، فَإِنْ صَاحَ فَبَانَ مَعَهُ
حَرْفَانِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ
بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَغَيْرِهِ.
وَلَا تَضُرُّ الْأَفْعَالُ الْيَسِيرَةُ
بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ فِي
غَيْرِ الْخَوْفِ فَفِيهِ أَوْلَى، وَأَمَّا
الْأَفْعَالُ الْكَثِيرَةُ فَإِنْ لَمْ
تَتَعَلَّقْ بِالْقِتَالِ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ
بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ
كَالطَّعَنَاتِ وَالضَّرَبَاتِ
الْمُتَوَالِيَةِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ
إلَيْهَا أَبْطَلَتْ بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا؛
لِأَنَّهَا عَبَثٌ وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهَا
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يَبْطُلُ وَبِهِ
قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ
وَالْقَفَّالُ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ
الشَّامِلِ وَالْمُسْتَظْهَرَيْ
وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ قِيَاسًا عَلَى
الْمَشْيِ، وَلِأَنَّ مَدَارَ الْقِتَالِ
عَلَى الضَّرْبِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ
غَالِبًا بِضَرْبَةٍ وَضَرْبَتَيْنِ، وَلَا
يُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الضَّرَبَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: يَبْطُلُ وَرَجَّحَهُ
الْمُصَنِّفُ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَكَثِيرُونَ
مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَحَكَاهُ الْمُصَنِّفُ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ عَنْ النَّصِّ، وَحَكَاهُ
غَيْرُهُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ وَادَّعَى
الْمُحْتَجُّونَ لَهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى
تَتَابُعِ الضَّرَبَاتِ نَادِرٌ فَلَمْ
تَسْقُطْ الْإِعَادَةُ كَصَلَاةِ مَنْ لَمْ
يَجِدْ مَاءً، وَلَا تُرَابًا وَهَذَا
اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ
إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
والثالث: تَبْطُلُ إنْ كَرَّرَ فِي شَخْصٍ،
وَلَا تَبْطُلُ إنْ كَرَّرَ فِي أَشْخَاصٍ،
حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَبَعْضُهُمْ
عَبَّرَ عَنْ الْأَوْجُهِ بِأَقْوَالٍ،
وَمِمَّنْ سَمَّاهَا أَقْوَالًا
الْغَزَالِيُّ، فِي الْبَسِيطِ وَالْمَشْهُورُ
أَنَّهَا أَوْجُهٌ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ
الْأَوَّلِ الصَّحِيحِ تَأَوَّلَ نَصَّ
الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرِهِ
عَلَى مَنْ تَابَعَ الضَّرَبَاتِ مِنْ غَيْرِ
عُذْرٍ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ تَلَطَّخَ
سِلَاحُهُ بِدَمٍ أَلْقَاهُ أَوْ جَعَلَهُ فِي
قُرَابَةٍ تَحْتَ رِكَابِهِ إنْ احْتَمَلَ
الْحَالُ ذَلِكَ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى
إمْسَاكِهِ فَلَهُ إمْسَاكُهُ لِلضَّرُورَةِ
ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ الْقَطْعُ
بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَنَقَلَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ وُجُوبَ
الْإِعَادَةِ لِنُدُورِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ
عَلَيْهِمْ كَوْنَهُ عُذْرًا نَادِرًا؛
وَقَالَ: تَلَطُّخُ السِّلَاحِ فِي الْقِتَالِ
بِالدَّمِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ فِي
حَقِّ الْمُقَاتِلِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى
تَكْلِيفِهِ تَنْحِيَةَ السِّلَاحِ فَتِلْكَ
النَّجَاسَةُ فِي حَقِّهِ ضَرُورِيَّةٌ
كَنَجَاسَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي حَقِّهَا،
ثُمَّ جَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى
قَوْلَيْنِ مُرَتَّبَيْنِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ
فِيمَنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ، وَجَعَلَ
هَذِهِ الصُّورَةَ أَوْلَى بِعَدَمِ
الْإِعَادَةِ لِإِلْحَاقِ الشَّرْعِ
الْقِتَالَ لِسَائِرِ مُسْقِطَاتِ
الْإِعَادَةِ فِي سَائِرِ الْمُحْتَمَلَاتِ،
كَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ وَالْإِيمَاءِ
بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
ج / 4 ص -220-
فرع: قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَآخَرُونَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا
بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ
مُمْسِكًا عِنَانَ فَرَسِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ
يَسِيرٌ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ
نَازَعَهُ فَرَسُهُ فَجَبَذَهُ إلَيْهِ
جَبْذَةً أَوْ جَبْذَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً
وَنَحْوَ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْحَرِفٍ عَنْ
الْقِبْلَةِ - فَلَا بَأْسَ فَإِنْ كَثُرَتْ
مُجَاذَبَتُهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ قَالَ
صَاحِبُ الشَّامِلِ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا
ذَكَرْنَاهُ فِي الضَّرَبَاتِ وَالطَّعَنَاتِ،
قَالَ وَإِنَّمَا فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ
بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْجَبَذَاتِ أَخَفُّ
عَمَلًا مِنْ الضَّرَبَاتِ، قَالَ: وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَبِرُ كَثْرَةَ
الْعَمَلِ دُونَ الْعَدَدِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
في"الأم" وَالْأَصْحَابُ: يُصَلُّونَ صَلَاةَ
الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ.
عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَلَا
تَجُوزُ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ لِذَلِكَ،
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ
بِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتُ الْعِيدِ،
وَالْكُسُوفِ دُونَ الِاسْتِسْقَاءِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: تَجُوزُ صَلَاةُ شِدَّةِ
الْخَوْفِ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ
مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ، وَلَا تَجُوزُ فِي
الْمَعْصِيَةِ؛ وَسَبَقَ إيضَاحُ صُورَةٍ فِي
أَوَّلِ الْبَابِ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ
يَجُوزُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ
وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلَا يَجُوزُ
لِلْبُغَاةِ، وَلَا لِلْقُطَّاعِ، وَلَوْ
قُصِدَتْ نَفْسُهُ أَوْ نَفْسُ غَيْرِهِ
فَاشْتَغَلَ بِالدَّفْعِ فَلَهُ هَذِهِ
الصَّلَاةُ وَلَوْ قُصِدَ مَالُهُ فَلَهُ
هَذِهِ الصَّلَاةُ إنْ كَانَ الْمَالُ
حَيَوَانًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ
فَطَرِيقَانِ: أصحهما: جَوَازُهَا والثاني:
مَنْعُهَا لِخِفَّةِ أَمْرِهَا، وَلَوْ
انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُفَّارٍ إنْ
كَانُوا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ
مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ، أَوْ كَانَ
بِإِزَائِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلَيْهِمْ
فَالْهَزِيمَةُ جَائِزَةٌ فَلَهُمْ صَلَاةُ
شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِلَّا فَلَا؛
لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ؛ قَالَ أَصْحَابُنَا،
وَلَوْ انْهَزَمَ الْكُفَّارُ فَتَبِعَهُمْ
الْمُسْلِمُونَ وَكَانُوا بِحَيْثُ لَوْ
أَكْمَلُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْأَرْضِ إلَى
الْقِبْلَةِ فَاتَهُمْ الْعَدُوُّ لَمْ يَجُزْ
صَلَاةُ شَدِّهِ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهُمْ
لَيْسُوا خَائِفِينَ، بَلْ يَطْلُبُونَ،
وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ
لِلْخَائِفِ، فَإِنْ خَافُوا كَمِينًا أَوْ
كَرَّهُمْ فَلَهُمْ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ
لِوُجُودِ سَبَبِهِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: لَا تَخْتَصُّ صَلَاةُ
شِدَّةِ الْخَوْفِ بِالْقِتَالِ بَلْ تَجُوزُ
فِي كُلِّ خَوْفٍ، فَلَوْ هَرَبَ مِنْ سَيْلٍ
أَوْ حَرِيقٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ جَمَلٍ أَوْ
كَلْبٍ ضَارٍ أَوْ صَائِلٍ أَوْ لِصٍّ أَوْ
حَيَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ
عَنْهُ مَعْدِلًا فَلَهُ صَلَاةُ شِدَّةِ
الْخَوْفِ بِالِاتِّفَاقِ، لِوُجُودِ
الْخَوْفِ. وَأَمَّا الْمَدْيُونُ الْمُعْسِرُ
الْعَاجِزُ عَنْ بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ،
وَلَا يُصَدِّقُهُ غَرِيمُهُ وَلَوْ ظَفِرَ
بِهِ حَبَسَهُ فَإِذَا هَرَبَ مِنْهُ فَلَهُ
أَنْ يُصَلِّيَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ
قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
فِي الْإِمْلَاءِ: مَنْ طُلِبَ لَا لِيُقْتَلَ
بَلْ لِيُحْبَسَ أَوْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ
لَا يُصَلِّيهَا حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ
الشَّامِلِ وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ
بِالْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ خَائِفٌ مِنْ ظُلْمٍ
فَأَشْبَهَ خَوْفَ الْعَدُوِّ، وَلَوْ كَانَ
عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَيَرْجُو الْعَفْوَ إذَا
سَكَنَ غَضَبُ الْمُسْتَحِقِّ؛ قَالَ
الْأَصْحَابُ: لَهُ أَنْ يَهْرُبَ،
وَيُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ
هَارِبًا، ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي
التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَحِقِّ الْعَفْوُ
فَكَأَنَّهُ مُسَاعِدٌ لَهُ عَلَى
التَّوَصُّلِ إلَى الْعَفْوِ إذَا سَكَنَ
غَضَبُهُ، وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
جَوَازَ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَهُ، وَحَيْثُ
جَوَّزْنَا لَهُ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ
بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ غَيْرَ الْقِتَالِ
فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ عَنْ
الْمُزَنِيِّ: أَنَّهُ خَرَّجَ قَوْلًا
لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تَلْزَمُهُ
الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ،
قَالَ الْأَصْحَابُ: هَذَا دَاخِلٌ فِي
جُمْلَةِ الْخَوْفِ فَلَا يُنْظَرُ إلَى
أَفْرَادِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ عُذْرٌ
عَامٌّ فَلَوْ وُجِدَ نَوْعُ مَرَضٍ مِنْهُ
نَادِرٍ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْعَامِّ فِي
التَّرَخُّصِ. أَمَّا إذَا كَانَ مُحْرِمًا
بِالْحَجِّ وَضَاقَ وَقْتُ وُقُوفِهِ وَخَافَ
فَوْتَ الْحَجِّ إنْ صَلَّى لَابِثًا عَلَى
الْأَرْضِ بِأَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ
أَرْضِ عَرَفَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
لَيْلَةَ النَّحْرِ،
ج / 4 ص -221-
وَقَدْ
بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
قَدْرُ مَا يَسَعُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَقَطْ،
وَلَمْ يَكُنْ صَلَّاهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ: حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَآخَرُونَ عَنْ الْقَفَّالِ الصحيح:
يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ وَيَذْهَبُ إلَى
عَرَفَاتٍ؛ لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الْحَجِّ
ضَرَرًا وَمَشَقَّةً شَدِيدَةً، وَتَأْخِيرُ
الصَّلَاةِ يَجُوزُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ
الصَّلَاتَيْنِ، وَمَشَقَّتُهُ دُونَ هَذَا.
والثاني: يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي
مَوْضِعِهِ وَيُفَوِّتُ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهَا
آكَدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ
بِخِلَافِ الْحَجِّ، وَأَشَارَ الرَّافِعِيُّ
إلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِكَلَامِ
الْأَئِمَّةِ. والثالث: لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ
صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَيُحَصِّلُ
الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا
ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لَا خَائِفٌ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا صَلَّى
مُتَمَكِّنًا عَلَى الْأَرْضِ إلَى
الْقِبْلَةِ فَحَدَثَ خَوْفٌ فِي أَثْنَاءِ
الصَّلَاةِ فَرَكِبَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ
مَشْهُورَةٍ أصحها عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالرَّافِعِيِّ
وَالْجُمْهُورِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ:
أَنَّهُ إنْ اُضْطُرَّ إلَى الرُّكُوبِ لَمْ
تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَيَبْنِي، وَإِنْ لَمْ
يُضْطَرَّ بَلْ كَانَ قَادِرًا عَلَى
الْقِتَالِ وَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ رَاجِلًا
فَرَكِبَ احْتِيَاطًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،
وَلَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ، وَهَذَا
الطَّرِيقُ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا
الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي:
هُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ
وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَالطَّرِيقُ الثاني: بُطْلَانُ الصَّلَاةِ
مُطْلَقًا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْأَصْحَابُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَقَطَعَ
بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
تَعْلِيقِهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي
التَّنْبِيهِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: فِيهِ
قَوْلَانِ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي
التَّنْبِيهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ
أحدهما[عِنْدَ]الْمَحَامِلِيِّ فِي
الْمَجْمُوعِ: تَبْطُلُ وأصحهما عِنْدَ
الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ: لَا تَبْطُلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْكِتَابِ:
قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَقْيَسُ
فَمَعْنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضْطَرِّ
وَغَيْرِهِ أَقْيَسُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ،
وَهُوَ الْبُطْلَانُ مُطْلَقًا، قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا: لَا تَبْطُلُ
بِالرُّكُوبِ فَإِنْ قَلَّ عَمَلُهُ بَنَى،
وَإِنْ كَثُرَ فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ
فِي الضَّرَبَاتِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ
لِلْحَاجَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ يُصَلِّي - رَاكِبًا -
صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَأَمِنَ وَجَبَ
النُّزُولُ فِي الْحَالِ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ
اسْتَمَرَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِلَا خِلَافٍ
فَإِنْ نَزَلَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَنَى
عَلَى صَلَاتِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ
وَجَمَاعَاتٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إنْ
قَلَّ فِعْلُهُ فِي نُزُولِهِ بَنَى، وَإِنْ
كَثُرَ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الضَّرَبَاتِ،
وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَبْنِي مُطْلَقًا
كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ وَقَالَهُ الْجُمْهُورُ،
فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا
يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ فِي نُزُولِهِ،
فَإِنْ اسْتَدْبَرَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
بِلَا خِلَافٍ، صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ
وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَائِرُ
الْأَصْحَابِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
إذَا لَمْ يَسْتَدْبِرْهَا بَلْ انْحَرَفَ
يَمِينًا وَشِمَالًا يُكْرَهُ، وَلَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي
وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْن
الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ حَيْثُ نَصَّ عَلَى
الْبِنَاءِ فِي النُّزُولِ وَعَلَى
الِاسْتِئْنَافِ فِي الرَّكُوبِ بِأَنَّ
النُّزُولَ عَمَلٌ خَفِيفٌ، وَالرُّكُوبَ
كَثِيرٌ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُزَنِيّ
وَقَالَ: قَدْ يَكُونُ الْفَارِسُ أَخَفَّ
رُكُوبًا وَأَقَلَّ شُغْلًا لِفُرُوسِيَّتِهِ
مِنْ نُزُولِ ثَقِيلٍ غَيْرِ فَارِسٍ،
فَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَجْوِبَةٍ: أحدها:
أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ الْغَالِبَ
مِنْ عَادَةِ النَّاسِ، وَمَا ذَكَرَهُ
الْمُزَنِيّ نَادِرٌ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ،
فَإِنْ وُجِدَ مِنْ النَّاسِ مَنْ هُوَ
بِخِلَافِ ذَلِكَ أُلْحِقَ بِالْغَالِبِ
والثاني: أَنَّ الشَّافِعِيَّ اعْتَبَرَ حَالَ
الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَالْوَاحِدُ
الْخَفِيفُ الرُّكُوبِ نُزُولُهُ أَخَفُّ مِنْ
رُكُوبِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ حَالَ
شَخْصَيْنِ فِي نُزُولِ أَحَدِهِمَا وَرُكُوبِ
الْآخَرِ
ج / 4 ص -222-
فرع: إذَا رَأَوْا سَوَادًا أَوْ إبِلًا أَوْ شَجَرًا أَوْ غَيْرَهُ،
فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ
شِدَّةِ الْخَوْفِ فَبَانَ الْحَالُ، فَفِي
وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أحدهما: تَجِبُ الْإِعَادَةُ لِعَدَمِ
الْخَوْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ
نَصُّهُ في"الأم" وَالْمُخْتَصَرِ والثاني:
لَا إعَادَةَ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْإِمْلَاءِ
لِوُجُودِ الْخَوْفِ حَالَ الصَّلَاةِ،
وَاخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّ الْقَوْلَيْنِ
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا إذَا أَخْبَرَهُمْ
ثِقَةٌ بِالْخَوْفِ فَبَانَ خِلَافُهُ، فَإِنْ
ظَنُّوا الْعَدُوَّ مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ
وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمَا جَارِيَانِ
مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ
الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي
حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْبَغَوِيُّ فِي
الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
(الْجَدِيدُ) : تَجِبُ الْإِعَادَةُ والثاني:
قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ لَا إعَادَةَ
(وَالْقَدِيمُ) : إنْ كَانَ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ
كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا؛ لِأَنَّ
الْخَوْفَ غَالِبٌ فِيهَا، وَإِذَا ضُمَّ
إلَيْهَا الطَّرِيقُ السَّابِقُ صَارَتْ
أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: أحدها: يُعِيدُونَ
والثاني: لَا والثالث: يُعِيدُونَ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ والرابع: يُعِيدُونَ إنْ لَمْ
يُخْبِرْهُمْ ثِقَةٌ وَهُوَ نَصُّهُ فِي
الْإِمْلَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَصَحِّ
مِنْ الْخِلَافِ فَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ هُنَا
وَفِي التَّنْبِيهِ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي
الْمَجْمُوعِ وَالْمُقْنِعِ وَالشَّيْخُ
نَصْرٌ فِي تَهْذِيبِهِ وَصَاحَبَا الْعُدَّةِ
وَالْبَيَانِ عَدَمَ الْإِعَادَةِ، وَصَحَّحَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَالْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ
وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ
وُجُوبَ الْإِعَادَةِ.
وقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَعَلَّهُ
الْأَصَحُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدَ وَدَاوُد؛ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِنَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ
الْمُزَنِيِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ: لَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ الْمُزَنِيِّ
بَلْ هُوَ إلْزَامٌ لَهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ؛
لِأَنَّ مَذْهَبَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ كُلَّ
مَنْ صَلَّى بِحَسَبِ طَاقَتِهِ لَا إعَادَةَ
عَلَيْهِ، قُلْتُ: الصَّحِيحُ وُجُوبُ
الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُمْ
تَيَقَّنُوا الْغَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي
احْتِجَاجِهِ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ: (لَا
إعَادَةَ كَمَا لَوْ رَأَوْا عَدُوًّا
فَصَلَّوْهَا ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْعَدُوَّ
لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهُمْ) فَالْجَوَابُ
عَنْهُ: أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَا
يُنْسَبُونَ فِيهَا إلَى تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّ
الْقَصْدَ لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ
الْغَلَطِ فِي سَوَادٍ فَإِنَّهُمْ
مُفَرِّطُونَ فِي تَامَّةٍ1، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا بَانَ لَهُمْ أَنَّ
السَّوَادَ لَيْسَ عَدُوًّا وَكَذَا لَوْ
شَكُّوا فِيهِ فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ
تَيَقَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَدُوًّا. نَصَّ
عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ
أَمَّا إذَا تَحَقَّقُوا الْعَدُوَّ
فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ
بَانَ أَنَّهُ كَانَ دُونَهُمْ حَائِلٌ
كَخَنْدَقٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَارٍ وَمَا
أَشْبَهَهُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ،
ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي
التَّنْبِيهِ وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ
أحدهما: الْقَطْعُ بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ
لِتَقْصِيرِهِمْ فِي تَأَمُّلِ الْحَائِلِ،
وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ
فِي مَسْأَلَةِ السَّوَادِ السَّابِقَةِ،
وَبِهَذَا قَطَعَ جُمْهُورُ
الْخُرَاسَانِيِّينَ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبُ
الْحَاوِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الصَّحِيحَ هُنَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ قَالَ
الْخُرَاسَانِيُّونَ: وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ
فِي كُلِّ سَبَبٍ جَهِلُوهُ بِحَيْثُ لَوْ
عَلِمُوهُ امْتَنَعَتْ صَلَاةُ شِدَّةِ
الْخَوْفِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ،
وَكَمَا لَوْ كَانَ بِقُرْبِهِمْ حِصْنٌ
يُمْكِنُ التَّحْصِينُ فِيهِ، أَوْ كَانَ
الْعَدُوُّ قَلِيلًا وَظَنُّوهُ كَثِيرًا،
أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَدَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: لَوْ صَلَّوْا
فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ صَلَاةَ عُسْفَانَ
جَرَى الْقَوْلَانِ وَلَوْ صَلَّوْا صَلَاةَ
ذَاتِ الرِّقَاعِ - فَإِنْ جَوَّزْنَاهَا فِي
الْأَمْنِ - فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا جَرَى
الْقَوْلَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد صلاة تامة فحذف الموصوف اكتفاء بالصفة
(ط)
ج / 4 ص -223-
قَالَ
أَصْحَابُنَا: الْقَوْلَانِ هُنَا يُشْبِهَانِ
الْقَوْلَيْنِ فِي نِسْيَانِ تَرْتِيبِ
الْوُضُوءِ وَنِسْيَانِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ
وَنِسْيَانِ الْفَاتِحَةِ، وَمَنْ صَلَّى
بِالِاجْتِهَادِ أَوْ صَامَ فَصَادَفَ مَا
قَبْلَ الْوَقْتِ، وَمَنْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ
فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ
جَهِلَهَا، وَكَذَا لَوْ نَسِيَهَا عَلَى
طَرِيقَةٍ لِبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ،
وَكَذَا لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ
ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا، أَوْ
اسْتَنَابَ الْمَعْضُوبَ فِي الْحَجِّ
فَبَرِئَ وَنَظَائِرُهَا؛ وَقَدْ سَبَقَتْ فِي
أَبْوَابِهَا
فرع: فِي
مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي صَلَاةِ شِدَّةِ
الْخَوْفِ.
هِيَ جَائِزَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ إلَّا مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهَا
لَا تَجُوزُ بَلْ يَجِبُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ
حَتَّى يَزُولَ الْخَوْفُ كَمَا فَعَلَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
الْخَنْدَقِ، وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ قَدْ
يَمُوتُ وَتَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ، مَعَ أَنَّ
هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ
وَالْأَحَادِيثِ لِلْقِيَاسِ عَلَى إيمَاءِ
الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا قِصَّةُ
الْخَنْدَقِ فَمَنْسُوخَةٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ
قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا
سَبَقَ وَيَجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ
شِدَّةِ الْخَوْفِ سَوَاءٌ الْتَحَمَ
الْقِتَالُ أَمْ لَا، وَلَا يَجُوزُ
تَأْخِيرُهَا عَنْ الْوَقْتِ هَذَا
مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ اشْتَدَّ وَلَمْ
يَلْتَحِمْ الْقِتَالُ، فَإِنْ الْتَحَمَ
قَالَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ. دَلِيلُنَا
عُمُومُ قوله تعالى:
"فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا" وَيَجُوزُ عِنْدَنَا صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ رِجَالًا
وَرُكْبَانًا جَمَاعَةً كَمَا يَجُوزُ
فُرَادَى. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد،
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا
تَجُوزُ.
فرع: لَوْ صَلَّى صَلَاةَ
الْخَوْفِ فِي الْأَمْنِ قَالَ أَصْحَابُنَا:
إنْ صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ لَمْ
تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ لِكَثْرَةِ
الْمُنَافِيَاتِ فِيهَا، وَإِنْ صَلَّوْا
صَلَاةَ بَطْنِ نَخْلٍ صَحَّتْ بِلَا خِلَافٍ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا صَلَاةُ
مُفْتَرِضٍ خَلْفَ مُتَنَفِّلٍ، وَهُوَ
جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَإِنْ صَلَّوْا صَلَاةَ
عُسْفَانَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ، وَمَنْ
سَجَدَ مَعَهُ صَحِيحَةٌ وَفِي صَلَاةِ
الْحَارِسِينَ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي
بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِيمَا إذَا
تَخَلَّفَ الْمَأْمُومُ فِي الِاعْتِدَالِ
حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ السَّجْدَتَيْنِ
أصحهما: تَصِحُّ، وَإِنْ صَلَّوْا صَلَاةَ
ذَاتِ الرِّقَاعِ فَفِي صَلَاةِ الْإِمَامِ
طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: الْقَطْعُ
بِصِحَّتِهَا، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ، وَادَّعَى
صَاحِبُ الْبَيَانِ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ
أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا
تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ
وَالتَّشَهُّدِ وأصحهما: وَبِهِ قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ
الْحَاوِي وَآخَرُونَ. وَنَقَلَهُ
الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ فِي
صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ
فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ؛ لِأَنَّهُ
يَنْتَظِرُهُمْ بِلَا عُذْرٍ. وَأَمَّا
صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ فَصَلَاةُ
الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِيهَا الْقَوْلَانِ
فِيمَنْ فَارَقَ الْإِمَامَ بِغَيْرِ عُذْرٍ
أصحهما: صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ
الثَّانِيَةِ فَإِنْ أَبْطَلْنَا صَلَاةَ
الْإِمَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ إنْ
عَلِمُوا؛ وَهَلْ الْمُعْتَبَرُ عِلْمُهُمْ
بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَمْ صُورَةُ حَالِهِ؟
فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي مَوْضِعِهِ،
وَإِنْ صَحَّحْنَا صَلَاةَ الْإِمَامِ أَوْ
أَبْطَلْنَاهَا، وَلَمْ يَعْلَمُوا
فَإِحْرَامُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ
صَحِيحٌ، وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ
بِمُفَارَقَتِهِمْ لَهُ لِإِتْمَامِ
صَلَاتِهِمْ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
الْوَجْهِ السَّابِقَيْنِ فِي أَنَّهُمْ
يُفَارِقُونَ الْإِمَامَ حُكْمًا أَمْ لَا؟
إنْ قُلْنَا: يُفَارِقُونَهُ حُكْمًا فَفِي
بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ فِيمَنْ
فَارَقَ الْإِمَامَ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنْ
قلنا: يَبْطُلُ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَيَبْنِي
عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَوَى
الِاقْتِدَاءَ بَعْدَ الِانْفِرَادِ، وَإِنْ
قلنا: بِالْمَذْهَبِ إنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ
فِعْلًا وَلَا يُفَارِقُونَهُ حُكْمًا
بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا؛
لِأَنَّهُمْ انْفَرَدُوا بِرَكْعَةٍ عَمْدًا
وَهُمْ فِي حُكْمِ الْقُدْوَةِ، وَإِنَّمَا
كَانَ يُحْتَمَلُ هَذَا فِي الْخَوْفِ
لِلْحَاجَةِ.
ج / 4 ص -224-
وَفِي
الْمَسْأَلَةِ طَرِيقٌ آخَرُ قَالَهُ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا. وَفِي ظَاهِرِ
نَصِّ الشَّافِعِيِّ إشَارَةٌ إلَيْهِ؛
لِأَنَّهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ لَهُمْ أَنْ
يُعِيدُوا الصَّلَاةَ. وَهَذَا الطَّرِيقُ
حَكَاهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ
ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَلَوْ صَلَّوْا فِي الْأَمْنِ عَلَى
رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقَةِ بَطَلَتْ
صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ كُلِّهِمْ بِلَا
خِلَافٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَوْ صَلَّوْا
صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي قِتَالٍ حَرَامٍ
أَعَادُوا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْأَصْحَابُ: مُرَادُهُ إذَا صَلَّوْا
صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَإِنْ صَلَّوْا
إحْدَى صَلَوَاتِ الْخَوْفِ الثَّلَاثِ
الْبَاقِيَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ صَلَاتِهِمْ
فِي الْأَمْنِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |