|
المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب ج / 7 ص -237-
بَابُ مَا يَجِبُ فِي مَحْظُورَاتِ
الْإِحْرَامِ مِنْ كَفَّارَةٍ وَغَيْرِهَا
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ
فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً أَوْ
يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ،
لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ أَوْ يَصُومَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ لقوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ
فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ} [البقرة: 197] وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَإِنْ حَلَقَ
ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ مَا
ذَكَرْنَاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ
يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ،
فَصَارَ كَمَنْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ،
وَإِنْ حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَشَعْرَ
بَدَنهِ لَزِمَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ: يَلْزَمُهُ
فِدْيَتَانِ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ
مُخَالِفٌ لِشَعْرِ الْبَدَنِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ النُّسُكُ بِحَلْقِ
الرَّأْسِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ
الْبَدَنِ؟ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ،
لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي النُّسُكِ
إلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ جِنْسٌ وَاحِدٌ
فَأَجْزَأَهُ لَهُمَا فِدْيَةً وَاحِدَةً،
كَمَا لَوْ غَطَّى رَأْسَهُ وَلَبِسَ
الْقَمِيصَ وَالسَّرَاوِيلَ، وَإِنْ حَلَقَ
شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ: أحدها: يَجِبُ لِكُلِّ شَعْرَةٍ
ثُلُثُ دَمٍ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ فِي
ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ دَمٌ وَجَبَ فِي كُلِّ
شَعْرَةٍ ثُلُثُهُ، والثاني يَجِبُ لِكُلِّ
شَعْرَةٍ دِرْهَمٌ، لِأَنَّ إخْرَاجَ ثُلُثِ
دَمٍ يَشُقُّ، فَعُدِلَ إلَى قِيمَتِهِ،
وَكَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ ثَلَاثَةَ
دَرَاهِمَ فَوَجَبَ ثُلُثُهُ، والثالث: مُدٌّ
لِأَنَّ اللَّهَ تعالى عَدَلَ فِي جَزَاءِ
الصَّيْدِ مِنْ الْحَيَوَانِ إلَى الطَّعَامِ
فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مِثْلُهُ،
وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنْ الطَّعَامِ مُدٌّ
فَوَجَبَ ذَلِكَ. وَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ
أَوْ ثَلَاثَةَ أَظَافِرَ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا
يَجِبُ فِي الْحَلْقِ، وَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرًا
أَوْ ظُفْرَيْنِ وَجَبَ فِيهِمَا مَا يَجِبُ
فِي الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ لِأَنَّهُ
فِي مَعْنَاهُمَا".
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا:
دَمُ الْحَلْقِ وَالْقَلْمِ دَمُ تَخْيِيرٍ
وَتَقْدِيرٍ وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ أَنَّهُ
يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ
أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْبَدَلَ
الْمَعْدُولَ إلَيْهِ مُقَدَّرًا بِقَدْرٍ لَا
يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ،
فَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ قَلَّمَ
أَظْفَارَهُ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، وَهِيَ
ذَبْحُ شَاةٍ أَوْ إطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ
لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ، أَوْ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ لِلْآيَةِ
وَحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَإِذَا
تَصَدَّقَ بِالْآصُعِ وَجَبَ أَنْ يُعْطِيَ
كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ. هَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ: وَحَكَى الرَّافِعِيُّ
وَجْهًا عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ "الْعُدَّةِ"
أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ نُصِيبُ كُلِّ
مِسْكِينٍ، بَلْ تَجُوزُ الْمُفَاضَلَةُ
وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَالْمَذْهَبُ مَا
سَبَقَ. وَلَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ
فَهُوَ كَحَلْقِ كُلِّ رَأْسِهِ.
فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْأُمُورِ
الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ
عِنْدَنَا، وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَلَّمَ
ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ
أَظْفَارِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ أَوْ
مِنْهُمَا. هَذَا إذَا أَزَالَهَا دُفْعَةً
وَاحِدَةً فِي مَكَان، فَإِنْ فَرَّقَ
زَمَانًا أَوْ مَكَانًا فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ
قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا
إذَا حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ أَوْ تَطَيَّبَ
مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
أما: إذَا حَلَقَ شَعْرَةً وَاحِدَةً أَوْ
شَعْرَتَيْنِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ
ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ
مِنْهَا بِدَلَائِلِهَا: أصحها: وَهُوَ
نَصُّهُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ. يَجِبُ فِي
شَعْرَةٍ مُدٌّ وَفِي شَعْرَتَيْنِ مُدَّانِ،
والثاني يَجِبُ فِي شَعْرَةٍ
ج / 7 ص -238-
دِرْهَمٌ، وَفِي شَعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ،
والثالث: فِي شَعْرَةٍ ثُلُثُ دَمٍ. وَفِي
شَعْرَتَيْنِ ثُلُثَاهُ، والرابع: فِي
الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ دَمٌ كَامِلٌ،
حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ حِكَايَةِ
صاحب "التقريب". قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا
الْقَوْلُ، وَإِنْ كَانَ يَنْقَدِحُ
تَوْجِيهُهُ فَلَسْتُ أَعُدُّهُ مِنْ
الْمَذْهَبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ
أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ فِي شَعْرَةٍ مُدًّا،
وَفِي شَعْرَتَيْنِ مُدَّيْنِ هُوَ الصَّحِيحُ
عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِمَّنْ صَرَّحَ
بِتَصْحِيحِهِ صاحب "الحاوي"، وَالْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه"، وَالْقَاضِي
حُسَيْنٌ فِي "تعليقه" وَالْعَبْدَرِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ "الِانْتِصَارِ"
وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَهُوَ نَصُّ
الشَّافِعِيِّ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ"
وَفِي "الْأُمِّ" و "الْإِمْلَاءِ".
قَالَ صاحب "الحاوي": هَذَا الْقَوْلُ هُوَ
الصَّحِيحُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي
"المختصر" وَفِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ، قَالَ:
وَعَلَيْهِ يُعَوِّلُ أَصْحَابُنَا،
وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ: يَجِبُ فِي
الشَّعْرَةِ ثُلُثُ دَمٍ، وَفِي
الشَّعْرَتَيْنِ ثُلُثَانِ هُوَ رِوَايَةُ
أَبِي بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ شَيْخِ
الْبُخَارِيِّ، وَصَاحِبِ الشَّافِعِيِّ عَنْ
الشَّافِعِيِّ، شَذَّ الْجُرْجَانِيُّ فِي
"التحرير" فَصَحَّحَهُ وَالْمَشْهُورُ
تَصْحِيحُ الْمُدِّ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ
أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الظُّفْرَ
كَالشَّعْرَةِ، وَالظُّفْرَيْنِ
كَالشَّعْرَتَيْنِ، فَفِيهِ الْأَقْوَالُ
الْأَرْبَعَةُ "الأصح" فِي الظُّفْرِ مُدٌّ،
وَفِي الظُّفْرَيْنِ مُدَّانِ أما: إذَا
حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ
فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا: الصحيح: وَبِهِ
قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا
الْمُتَقَدِّمِينَ: تَجِبُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ، والثاني وَهُوَ قَوْلُ
الْأَنْمَاطِيِّ فِدْيَتَانِ، قَالَ
أَصْحَابُنَا وَهُوَ غَلَطٌ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِإِزَالَةِ ثَلَاثِ
شَعَرَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، سَوَاءٌ شَعْرُ
الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ، وَسَوَاءٌ النَّتْفُ
وَالْإِحْرَاقُ وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ
وَالْإِزَالَةُ بِالنُّورَةِ وَغَيْرُهَا،
فَتَقْصِيرُ الشَّعْرِ فِي وُجُوبِ
الْفِدْيَةِ كَحَلْقِهِ مِنْ أَصْلِهِ هَذَا
هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ
فِي الطَّرِيقَيْنِ إلَّا الْمَاوَرْدِيُّ
فَقَالَ: لَوْ قَطَعَ نِصْفَ الشَّعْرَةِ مِنْ
رَأْسِهِ أَوْ جَسَدِهِ فَوَجْهَانِ: أحدهما:
يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُ فِي الشَّعْرَةِ
الْوَاحِدَةِ إذَا قَلَعَهَا مِنْ أَصْلِهَا،
وَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ: الأصح:
مُدٌّ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ كَالْحَلْقِ مِنْ
أَصْلِهِ فِي حُصُولِ التَّحَلُّلِ، فَكَذَا
فِي الْفِدْيَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
قَالَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ يَجِبُ بِقِسْطِ مَا
أَخَذَ مِنْ الشَّعْرَةِ، فَيَكُونُ نِصْفَ
مُدٍّ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ
الْأَرْبَعَةِ، وَحَاصِلُهُ نِصْفُ مَا فِي
الشَّعْرَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ
عَنْ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَلَّمَ مِنْ ظُفْرِهِ دُونَ
الْمُعْتَادِ وَلَكِنْ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ
أَعْلَاهُ فَهُوَ كَقَطْعِ بَعْضِ شَعْرَةٍ،
فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ
بِكَمَالِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ
وَجَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ وَلَوْ أَخَذَ مِنْ
بَعْضِ جَوَانِبِ الظُّفْرِ وَلَمْ
يَسْتَوْعِبْ جَوَانِبَهُ، فإن قلنا: فِي
الظُّفْرِ الْوَاحِدِ دَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ
وَجَبَ هُنَا بِقِسْطِهِ. وَإِنْ قُلْنَا:
مُدٌّ وَجَبَ هُنَا أَيْضًا مُدٌّ، وَلَمْ
يُبَعِّضْ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي
وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الْمُتَوَلِّي عَنْ
الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا قَالَ: قَالُوا:
وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الْمُدَّ فِي بَعْضِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ، وَالْفِدْيَةُ فِي
الْحَجِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّغْلِيبِ.
فرع: هَذِهِ الْأَقْوَالُ
الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ
فِي الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ
وَالظُّفْرِ وَالظُّفْرَيْنِ تَجْرِي أَيْضًا
فِي تَرْكِ حَصَاةٍ مِنْ الْجَمَرَاتِ، وَفِي
تَرْكِ مَبِيتِ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي مِنًى،
وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي
مَوَاضِعِهَا، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
الْقَوْلُ بِدِرْهَمٍ فِي الشَّعْرَةِ لَا
أَرَى لَهُ وَجْهًا إلَّا تَحْسِينَ
الِاعْتِقَادِ فِي عَطَاءٍ فَإِنَّهُ قَالَهُ،
وَلَا يَقُولُهُ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. هَذَا
كَلَامُ الْإِمَامِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ:
إنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ مَذْهَبًا
لِلشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ
عَطَاءٍ قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَصَحُّ
أَنَّهُ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ
ج / 7 ص -239-
وأما:
احْتِجَاجُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ لِهَذَا
الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّاةَ كَانَتْ تُسَاوِي
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّمَا هُوَ
مُجَرَّدُ دَعْوَى لَا أَصْلَ لَهَا، فَإِنْ
أَرَادُوا أَنَّهَا كَانَتْ فِي زَمَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُسَاوِي
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَلَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ فِي
الزَّكَاةِ، فَجَعَلَ الْجُبْرَانَ شَاتَيْنِ
أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ أَرَادَ
أَنَّهَا كَانَتْ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ
دَرَاهِمَ فِي زَمَنٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
حُجَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ اعْتِمَادُ هَذَا فِي
جَمِيعِ الْأَزْمَانِ وَأَنْكَرَ صَاحِبُ
"التتمة" عَلَى الْأَصْحَابِ قَوْلَهُمْ: إنَّ
الشَّاةَ كَانَتْ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ
دَرَاهِمَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَقَالَ: هَذَا بَاطِلٌ
لِأَوْجُهٍ:
أحدها: أَنَّ الْمَوْضِعَ
الَّذِي يُصَارُ فِيهِ إلَى التَّقْوِيمِ فِي
فِدْيَةِ الْحَجِّ لَا تُخْرِجُ الدَّرَاهِمَ،
بَلْ يُصْرَفُ الطَّعَامُ، وَهُوَ جَزَاءُ
الصَّيْدِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُصْرَفَ
فِي الطَّعَامِ.
والثاني أَنَّ الِاعْتِبَارَ
فِي الْقِيمَةِ بِالْوَقْتِ لَا بِمَا كَانَ
فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، فَإِنَّهُ
يُقَوِّمُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ
بِقِيمَةِ الْوَقْتِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَجِبَ ثُلُثُ قِيمَةِ شَاةٍ.
الثالث: أَنَّ الشَّرْعَ
خَيَّرَ بَيْنَ الشَّاةِ وَالطَّعَامِ،
وَالطَّعَامُ يَحْتَمِلُ التَّبْعِيضَ كَمَا
ذَكَرْنَا. قَالَ صَاحِبُ "التتمة": وَأَمَّا
تَوْجِيهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ فِي الشَّعْرَةِ
مُدًّا بِأَنَّ الشَّرْعَ عَدَلَ الْحَيَوَانَ
بِالطَّعَامِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ
وَغَيْرِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ فِي
الشَّرْعِ لِلْفَقِيرِ فِي الْكَفَّارَاتِ
مُدٌّ، وَالشَّعْرَةُ الْوَاحِدَةُ هِيَ
النِّهَايَةُ فِي الْقِلَّةِ، فَأَوْجَبْنَا
فِي مُقَابَلَتِهَا أَقَلَّ مَا يُوَجِّبُ
فِدْيَةً فِي الشَّرْعِ، فَهَذَا التَّوْجِيهُ
فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ
بُدٌّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّعَامِ فَقَدْ
قَابَلَ الشَّرْعُ الشَّاةَ فِي فِدْيَةِ
الْحَلْقِ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ، وَالْآصُعُ
مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّقْسِيطَ، فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِي مُقَابِلَةِ
الشَّعْرَةِ صَاعٌ، قَالَ: وَمَنْ قَالَ
يَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ ثُلُثُ دِرْهَمٍ
فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ. قَالَ:
وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ
يَتَخَيَّرَ بَيْنَ ثُلُثِ شَاةٍ وَبَيْنَ
أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ وَبَيْنَ أَنْ
يَصُومَ يَوْمًا، كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي
ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ بَيْنَ شَاةٍ وَصَوْمِ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَإِطْعَامِ ثَلَاثَةٍ
آصُعٍ، قَالَ: وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ
فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ الْمَذْهَبِ،
لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ فِيمَا لَوْ جَرَحَ
ظَبْيَةً فَنَقَصَ عُشْرُ قِيمَتِهَا أَنَّ
عَلَيْهِ عُشْرَ ثَمَنِ شَاةٍ وَمَا
أَوْجَبَهُ عُشْرَ شَاةٍ، قَالَ: فَالْقِيَاسُ
يَلْزَمُهُ صَاعٌ أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ. هَذَا
كَلَامُ صَاحِبِ "التتمة"، وَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ فِي تَوْجِيهِ إيجَابِ مُدٍّ
فِي الشَّعْرَةِ: هَذَا الْقَوْلُ مَشْهُورٌ
مُعْتَضِدٌ بِآثَارِ السَّلَفِ، وَهُوَ
مَرْجُوعٌ إلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ
الشَّرِيعَةِ فَإِنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ
مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ يُقَابَلُ بِمُدٍّ
كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ
شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ
بِكَمَالِهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ
حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ لَزِمَهُ الدَّمُ،
وَإِنْ حَلَقَ دُونَهُ فَلَا شَيْءَ، وَفِي
رِوَايَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ
عِنْدَهُ صَاعٌ مِنْ أَيِّ طَعَامٍ شَاءَ
إلَّا الْبُرَّ، فَيَكْفِيهِ مِنْهُ نِصْفُ
صَاعٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنْ حَلَقَ
النِّصْفَ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَقَالَ
مَالِكٌ: إنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا
أَمَاطَ بِهِ عَنْهُ الْأَذَى وَجَبَ الدَّمُ
مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحداهما:
كَقَوْلِنَا وَالثَّانِيَةُ: يَجِبُ
بِأَرْبَعِ شَعَرَاتٍ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ
بِأَنَّ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ لَا يَحْصُلُ بِهَا
إمَاطَةُ الْأَذَى. وَاحْتَجَّ أَبُو
حَنِيفَةَ بِأَنَّ الرُّبْعَ يَقُومُ مَقَامَ
الْجَمِيعِ كَمَا يَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا
وَإِنَّمَا رَأَى بَعْضَهُ. وَاحْتَجَّ
أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] أَيْ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ، وَالشَّعْرُ اسْمُ جِنْسٍ،
أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثٍ.
ج / 7 ص -240-
والجواب: عَنْ دَلِيلِ مَالِكٍ أَنَّ إمَاطَةَ
الْأَذَى لَيْسَتْ شَرْطًا لِوُجُوبِ
الْفِدْيَةِ، والجواب: عَنْ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ أَنَّهَا دَعْوَى لَيْسَتْ
مَقْبُولَةً أما: إذَا حَلَقَ شَعْرَةً أَوْ
شَعْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ، هَذَا
مَذْهَبُنَا، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهِ
قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: لَا شَيْءَ فِي شَعْرَةٍ
وَشَعْرَتَيْنِ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَهُوَ
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ،
وَقَالَ أَحْمَدُ: فِي الشَّعْرَةِ
وَالشَّعْرَتَيْنِ يَجِبُ قَبْضَةٌ مِنْ
طَعَامٍ، وَذَكَرْنَا قَوْلَهُ فِي ثَلَاثِ
شَعَرَاتٍ، وَقَالَ دَاوُد: لِلْمُحْرِمِ أَنْ
يَأْتِيَ فِي إحْرَامِهِ كُلَّ مَا يَجُوزُ
لِلْحَلَالِ فِعْلُهُ، إلَّا مَا نَصَّ عَلَى
تَحْرِيمِهِ، فَلَهُ الِاغْتِسَالُ وَدَهْنُ
لِحْيَتِهِ وَجَسَدِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ
الدُّهْنُ مُطَيِّبًا، وَلَهُ قَلْمُ
أَظْفَارِهِ، وَحَلْقُ عَانَتِهِ وَنَتْفُ
إبْطِهِ إلَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى
الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْ
أَظْفَارِهِ، وَلَا مِنْ شَعْرِهِ فِي
الْعَشْرِ حَتَّى يُضَحِّيَ قَالَ:
وَلِلْمَرْأَةِ الِاخْتِضَابُ وَلِلرَّجُلِ
الْمُحْرِمِ شَمُّ الرِّيحَانِ وَأَكْلُ مَا
فِيهِ زَعْفَرَانٌ، فَإِنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ
عَنْهُ مِنْ لِبَاسٍ وَطِيبٍ لَمْ تَجِبْ
الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ فِعْلِهِ،
لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى إيجَابِ ذَلِكَ،
هَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الْعَبْدَرِيُّ.
أما: إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ شَعْرَ بَدَنِهِ
فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا وُجُوبُ
الْفِدْيَةِ كَحَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ،
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: إحداهما:
عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَالثَّانِيَةُ: لَا
فِدْيَةَ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَلَا تَجِبُ
الْفِدْيَةُ إلَّا بِشَعْرِ رَأْسِهِ،
دَلِيلُنَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ تَرَفَّهَ
بِأَخْذِهِ شَعْرَةً مِنْ غَيْرِ إلْجَاءٍ،
فَلَزِمَهُ الْفِدَاءُ كَشَعْرِ رَأْسِهِ،
وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنْ شَعْرٍ نَبَتَ فِي
الْعَيْنِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّ فِدْيَةَ الْحَلْقِ عَلَى
التَّخْيِيرِ بَيْنَ شَاةٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ وَإِطْعَامِ ثَلَاثَةِ آصُعٍ
لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ
صَاعٍ. وَسَوَاءٌ حَلَقَهُ لِأَذًى أَوْ
غَيْرِهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ
حَلَقَهُ لِعُذْرٍ فَهُوَ مُخَيَّرٌ كَمَا
قُلْنَا وَإِنْ حَلَقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ
تَعَيَّنَتْ الْفِدْيَةُ بِالدَّمِ،
دَلِيلُنَا أَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ لَا
يَثْبُتُ فِيهَا التَّخْيِيرُ إذَا كَانَ
سَبَبُهَا مُبَاحًا ثَبَتَ، وَإِنْ كَانَ
حَرَامًا كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالْقَتْلِ
وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:
{أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
[البقرة: 196] فَأَثْبَتَ التَّخْيِيرَ عِنْدَ
الْعُذْرِ مِنْ الْأَذَى، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ لَا تَخْيِيرَ مَعَ عَدَمِهِ
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا: بِأَنَّ هَذَا
تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُمْ لَا
يَقُولُونَ بِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ،
إلَّا أَنَّ السَّبَبِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ
عَلَيْهِ أما: الْأَظْفَارُ فَلَهَا حُكْمُ
الشَّعْرِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَيَحْرُمُ
عَلَى الْمُحْرِمِ إزَالَتُهَا وَتَجِبُ
الْفِدْيَةُ بِهَا وَثَلَاثَةُ أَظْفَارٍ
كَثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَظُفْرٌ كَشَعْرَةٍ
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَلَّمَ
أَظْفَارَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِكَمَالِهَا
لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ
قَلَّمَ مِنْ كُلِّ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ
أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ فَمَا دُونَهَا
لَزِمَتْهُ صَدَقَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ: إنْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ
لَزِمَهُ الدَّمُ، سَوَاءٌ مِنْ يَدٍ أَوْ
يَدَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: حُكْمُ
الْأَظْفَارِ حُكْمُ الشَّعْرِ، يَتَعَلَّقُ
الدَّمُ بِمَا يُمِيطُ الْأَذَى وَقَالَ
دَاوُد: يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إزَالَةُ
الْأَظْفَارِ كُلُّهَا وَلَا فِدْيَةَ
عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِهِ
قَرِيبًا، دَلِيلُنَا أَنَّهُ كَالشَّعْرِ فِي
التَّرَفُّهِ، فَكَانَ لَهُ حُكْمُهُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ الْمَخِيطَ فِي
شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ
أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ دَهَنَ رَأْسَهُ
أَوْ لِحْيَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ
فِي حَلْقِ الشَّعْرِ لِأَنَّهُ تَرَفُّهٌ
وَزِينَةٌ فَهُوَ
ج / 7 ص -241-
كَالْحَلْقِ وَإِنْ تَطَيَّبَ وَلَبِسَ
وَجَبَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
كَفَّارَةٌ. لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ
مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ لَبِسَ1 وَمَسَّ طِيبًا
وَجَبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ
الطِّيبَ تَابِعٌ لِلثَّوْبِ فَدَخَلَ فِي
ضَمَانِهِ، وَإِنْ لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ أَوْ
تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ، فِي أَوْقَاتٍ
مُتَفَرِّقَةٍ، فَفِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما:
تَتَدَاخَلُ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ،
فَأَشْبَهَ إذَا كَانَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ،
والثاني لَا تَتَدَاخَلُ لِأَنَّهَا فِي
أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَكَانَ لِكُلِّ
وَقْتٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ نَفْسِهِ وَإِنْ
حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ
أَوْقَاتٍ فَهِيَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، إنْ
قُلْنَا: تَتَدَاخَلُ لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ
قُلْنَا: لَا تَتَدَاخَلُ وَجَبَ لِكُلِّ
شَعْرَةٍ مُدٌّ وَإِنْ حَلَقَ تِسْعَ
شَعَرَاتِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ فَعَلَى
الْقَوْلَيْنِ إنْ قُلْنَا: لَا تَتَدَاخَلُ
لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ، وَإِنْ قُلْنَا:
تَتَدَاخَلُ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ".
الشرح:
فِيهِ مَسَائِلُ: إحداها:
إذَا تَطَيَّبَ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ
أَوْ لَبِسَ الْمَخِيطَ فِي بَدَنِهِ، أَوْ
غَطَّى رَأْسَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ
دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ، أَوْ
بَاشَرَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ،
لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ بِلَا خِلَافٍ
عِنْدَنَا، سَوَاءٌ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا
أَوْ بَعْضَهُ، وَسَوَاءٌ اسْتَدَامَ
اللُّبْسَ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً أَوْ
لَحْظَةً، وَسَوَاءٌ سَتَرَ الرَّأْسَ سَاعَةً
أَوْ لَحْظَةً، فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ فِي
كُلِّ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَفِي
هَذِهِ الْفِدْيَةِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: أصحها:
وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ
أَنَّهَا كَفِدْيَةِ الْحَلْقِ فَيَتَخَيَّرُ
بَيْنَ شَاةٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَإِطْعَامِ ثَلَاثَةٍ آصُعٍ كَمَا سَبَقَ،
والثاني ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
فِي الْإِيضَاحِ وَآخَرُونَ مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ، فِيهِ قَوْلَانِ: أحدهما:
أَنَّهُ كَالْمُتَمَتِّعِ فَيَلْزَمُهُ
الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ لَزِمَهُ
صَوْمُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ كَمَا سَبَقَ،
والثاني يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْهُ قَوَّمَهُ دَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ
طَعَامًا ثُمَّ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ
يَوْمًا، وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: فِيهِ
أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: أَنَّهُ
كَالْحَلْقِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي
التَّرَفُّهِ، والثاني أَنَّهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ شَاةٍ وَبَيْنَ تَقْوِيمِهَا،
وَيُخْرِجُ قِيمَتَهَا طَعَامًا أَوْ يَصُومُ
عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، والثالث: تَجِبُ
شَاةٌ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا لَزِمَهُ
الطَّعَامُ بِقِيمَتِهَا، والرابع:
كَالْمُتَمَتِّعِ كَمَا سَبَقَ.
المسألة الثانية: إذَا
تَطَيَّبَ وَلَبِسَ فِي مَجْلِسٍ قَبْلَ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا أَوْ
فَعَلَهُمَا مَعًا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ مَشْهُورَةٍ فِي كُتُبِ
الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: أصحها:
بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ تَجِبُ فَدِيَتَانِ
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ،
والثاني تَجِبُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
لِأَنَّهُمَا اسْتِمْتَاعٌ فَتَدَاخَلَا كَمَا
لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا وَعِمَامَةً، والثالث:
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِي
إنْ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا بِأَنْ أَصَابَتْهُ
شَجَّةٌ وَاحْتَاجَ فِي مُدَاوَاتِهَا إلَى
طِيبٍ وَسَتَرَهَا لَزِمَهُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَّحِدْ السَّبَبُ
فَفِدْيَتَانِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَمَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ
وَأَبُو سَعِيدٍ غَلَطٌ، وَمُنْتَقَضٌ
بِالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا لَبِسَ
ثَوْبًا مُطَيَّبًا أَوْ طَلَى رَأْسَهُ
بِطِيبٍ ثَخِينٍ بِحَيْثُ يُغَطِّي بَعْضُهُ
بَعْضًا فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وُجُوبُ
فِدْيَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَنَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ، والثاني نَقَلَهُ صاحب"البيان"
إنْ قُلْنَا: بِقَوْلِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
السَّابِقِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ
أَنَّ الطِّيبَ وَاللِّبَاسَ جِنْسٌ لَزِمَهُ
فِدْيَةٌ، وإن قلنا: بِالْمَذْهَبِ إنَّهُمَا
جِنْسَانِ فَوَجْهَانِ: أصحهما: فِدْيَةٌ
لِأَنَّهُ تَابِعٌ، والثاني: فِدْيَتَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض نسخ "المهذب" (وأن لبس ثوبا مطيبا
وجبت كفارة واحدة) (ط).
ج / 7 ص -242-
الرابعة: إذَا لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ، أَوْ
قَبَّلَ امْرَأَةً ثُمَّ قَبَّلَهَا فَإِنْ
كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُكَفِّرْ
عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَبِسَ قَمِيصًا ثُمَّ
سَرَاوِيلَ ثُمَّ عِمَامَةً أَوْ كَرَّرَ
وَاحِدًا مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ مَرَّاتٍ
أَوْ تَطَيَّبَ بِمِسْكٍ ثُمَّ زَعْفَرَانٍ
ثُمَّ كَافُورٍ أَوْ كَرَّرَ إحْدَاهَا فِي
الْمَجْلِسِ مَرَّاتٍ، أَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً
ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ أُخْرَى، أَوْ كَرَّرَ
قُبْلَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَعَلَ هَذَا
كُلَّهُ فِي مَجْلِسٍ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ،
لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، سَوَاءٌ طَالَ
زَمَنُهُ فِي مُعَالَجَةِ لُبْسِ الْقَمِيصِ
وَالسَّرَاوِيلِ، وَلَفِّ الْعِمَامَةِ
وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ. وَمُحَاوَلَةِ
الْمَرْأَةِ فِي الْقُبْلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ
أَوْ قَصَّرَ فَيُكَفِّرُ كَفَّارَةً
وَاحِدَةً مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ
الْفِعْلُ مُتَوَالِيًا لِأَنَّهُ كَالْفِعْلِ
الْوَاحِدِ، أما: إذَا كَفَّرَ عَنْ
الْأَوَّلِ قَبْلَ الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ
لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِلَا خِلَافٍ،
لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ
بِالتَّكْفِيرِ، كَمَا لَوْ زَنَى فَحُدَّ
ثُمَّ زَنَى فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا،
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَجَالِسَ أَوْ فِي
مَجْلِسَيْنِ وَتَخَلَّلَ زَمَانٌ طَوِيلٌ
مِنْ غَيْرِ تُوَالِي الْأَفْعَالِ نَظَرْتَ -
فَإِنْ فَعَلَ الثَّانِي بَعْدَ التَّكْفِيرِ
عَنْ الْأَوَّلِ - لَزِمَهُ الثَّانِي
كَفَّارَةٌ أُخْرَى بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ
الْأَوَّلَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ
بِالتَّكْفِيرِ، وَإِنْ فَعَلَ الثَّانِي
قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنْ
كَانَ السَّبَبُ وَاحِدًا بِأَنْ لَبِسَ فِي
الْمَرَّتَيْنِ أَوْ الْمَرَّاتِ لِلْبَرْدِ
أَوْ لِلْحَرِّ أَوْ تَطَيَّبَ لِمَرَضٍ
وَاحِدٍ مَرَّاتٍ، فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ
ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا
الأصح: "الْجَدِيدُ": لَا تَتَدَاخَلُ
فَيَجِبُ لِكُلِّ مَرَّةٍ فِدْيَةٌ، والقديم
تَتَدَاخَلُ وَيَكْفِي فِدْيَةٌ عَنْ
الْجَمِيعِ، وَلَوْ كَانَ مِائَةَ مَرَّةٍ.
وَإِنْ تَكَرَّرَ الْفِعْلُ بِسَبَبَيْنِ أَوْ
أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، بِأَنْ لَبِسَ
بُكْرَةً لِلْبَرْدِ، وَعَشِيَّةً لِلْحَرِّ،
وَنَحْوَ ذَلِكَ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ فِدْيَتَانِ قَطْعًا،
وَيُجْعَلُ اخْتِلَافُ السَّبَبِ كَاخْتِلَافِ
الْجِنْسِ، والثاني وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ
قَطَعَ كَثِيرُونَ، فِيهِ قَوْلَانِ، كَمَا
لَوْ اتَّحَدَ السَّبَبُ، لِأَنَّ
الشَّافِعِيَّ رحمه الله: لَمْ يَعْتَبِرْ
اخْتِلَافَ السَّبَبِ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ،
اخْتِلَافَ الْجِنْسِ. قَالَ أَصْحَابُنَا
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ:
حَيْثُ قُلْنَا: يَكْفِيهِ لِلْجَمِيعِ
فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَارْتَكَبَ مَحْظُورًا
أَوْ أَخْرَجَ الْفِدْيَةَ وَنَوَى
بِإِخْرَاجِهَا التَّكْفِيرَ عَمَّا فَعَلَهُ
وَمَا سَيَفْعَلُهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَفِيهِ
خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ
التَّكْفِيرِ عَلَى الْحِنْثِ الْمَحْظُورِ،
إنْ مَتَّعْنَاهُ فَلَا أَثَرَ لِهَذِهِ
أَلْبَتَّةَ، فَيَقَعُ التَّكْفِيرُ عَنْ
الْأَوَّلِ فَقَطْ وَيَجِبُ التَّكْفِيرُ
ثَانِيًا عَنْ الثَّانِي وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ
فَوَجْهَانِ: أحدهما: أَنَّ الْفِدْيَةَ
كَالْكَفَّارَةِ فِي جَوَازِ التَّقْدِيمِ
فَلَا يَلْزَمُهُ لِلثَّانِيَّ شَيْءٌ،
والثاني لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الثَّانِي
مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ سَبَبُ
الثَّانِي وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِخِلَافِ
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهِيَ أَحَدُ
السَّبَبَيْنِ.
الْخَامِسَةُ: إذَا حَلَقَ
شَعْرَ رَأْسِهِ كُلَّهُ - فَإِنْ كَانَ فِي
وَقْتٍ وَاحِدٍ - لَزِمَهُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ فِي
فِعْلِهِ كَمَا قُلْنَا فِي اللُّبْسِ،
وَكَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فِي
الْيَوْمِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَوَضَعَ
الطَّعَامَ وَجَعَلَ يَأْكُلُ لُقْمَةً
لُقْمَةً مِنْ بُكْرَةٍ إلَى الْعَصْرِ،
فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَمْكِنَةٍ أَوْ فِي
مَكَان وَاحِدٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ
فَطَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَآخَرُونَ:
تَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ، فَيُفْرِدُ كُلَّ
مَرَّةٍ بِحُكْمٍ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّ
مَرَّةٍ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا وَجَبَ
لِكُلِّ مَرَّةٍ فِدْيَةٌ، وَهِيَ شَاةٌ، أَوْ
صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إطْعَامُ
ثَلَاثَةِ آصُعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، وَإِنْ
كَانَتْ شَعْرَةً أَوْ شَعْرَتَيْنِ فَفِيهَا
الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ: الأصح: فِي كُلِّ
شَعْرَةٍ مُدٌّ، والثاني دِرْهَمٌ، والثالث:
ثُلُثُ دَمٍ، والرابع: دَمٌ كَامِلٌ، والطريق
الثاني: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَشَيْخُهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَمَنْ
وَافَقَهُمَا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ
ج / 7 ص -243-
السَّابِقَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الرَّابِعَةِ، فِيمَنْ كَرَّرَ لُبْسًا أَوْ
تَطَيُّبًا إنْ قُلْنَا: بِالْقَوْلِ
"الْقَدِيمِ" وَهُوَ التَّدَاخُلُ لَزِمَهُ
دَمٌ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ الْجَمِيعَ
فِي مَجْلِسٍ مُتَوَالِيًا، وإن قلنا: لَا
تَدَاخُلَ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ.
أما: إذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي
ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ، أَوْ ثَلَاثِ
أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَفِيهِ
الطَّرِيقَانِ أصحهما: طَرِيقُ أَبِي حَامِدٍ
وَمُوَافِقِيهِ أَنَّهُ يُفْرِدُ كُلَّ
شَعْرَةٍ بِحُكْمِهَا، وَفِيهَا الْأَقْوَالُ
السَّابِقَةُ أصحها: فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مُدٌّ
فَيَجِبُ ثَلَاثَةُ أَمْدَادٍ، والثاني
دِرْهَمٌ، فَيَجِبُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ،
والثالث: ثُلُثُ دَمٍ، فَيَجِبُ دَمٌ كَامِلٌ،
وَعَلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ الَّذِي حَكَاهُ
صاحب "التقريب" أَنَّهُ يَجِبُ فِي
الشَّعْرَةِ دَمٌ كَامِلٌ: يَجِبُ هُنَا
ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ، والطريق الثاني: طَرِيقُ
الْمُصَنِّفِ وَشَيْخِهِ إن قلنا:
بِالتَّدَاخُلِ وَجَبَ دَمٌ، وَإِلَّا فَفِيهِ
الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ، وَاقْتَصَرَ
الْمُصَنِّفُ مِنْهَا عَلَى الْأَصَحِّ،
وَهُوَ وُجُوبُ ثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ، وَلَا
بُدَّ مِنْ جَرَيَانِ بَاقِي الْأَحْوَالِ،
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
أما: إذَا أَخَذَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي
وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ
بَدَنِهِ فَطَرِيقَانِ الصحيح الَّذِي قَطَعَ
بِهِ الْأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ
أَنَّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهَا مِنْ مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ شَاةٍ وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
وَثَلَاثَةٍ آصُعٍ، والطريق الثاني: فِيهِ
وَجْهَانِ أحدهما: هَذَا، والثاني أَنَّهُ
كَمَا لَوْ أَزَالَهَا فِي ثَلَاثَةِ
أَوْقَاتٍ، فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ
السَّابِقِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ حَكَاهُ
النُّورَانِيُّ في "الإبانة"، وَنَقَلَهُ
عَنْهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ
"الْعُمْدَةِ" وَصاحب "البيان"، وَاتَّفَقُوا
عَلَى تَضْعِيفِ الْوَجْهِ الثَّانِي،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَأَخْذُ الْأَظْفَارِ فِي مَجَالِسَ كَأَخْذِ
الشَّعَرَاتِ فِي مَجْلِسٍ، فَيَجِيءُ فِيهِ
مَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِيمَا إذَا فَعَلَ
الْمُحْرِمُ مَحْظُورَيْنِ فَأَكْثَرَ، هَلْ
تَتَدَاخَلُ الْفِدْيَةُ؟ وَقَدْ ذَكَرْنَا
الْآنَ مُعْظَمَهُ فَنُعِيدُهُ مَعَ مَا
بَقِيَ مُخْتَصَرًا، فَيَنْضَبِطُ إنْ شَاءَ
الله تعالى. قَالَ أَصْحَابُنَا:
الْمَحْظُورَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى اسْتِهْلَاكٍ
كَالْحَلْقِ وَالْقَلْمِ وَالصَّيْدِ، وَإِلَى
اسْتِمْتَاعٍ وَتَرَفُّهٍ، كَالطِّيبِ
وَاللِّبَاسِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ،
فَإِذَا فَعَلَ مَحْظُورَيْنِ فَلَهُ
ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمَا اسْتِهْلَاكًا، وَالْآخَرُ
اسْتِمْتَاعًا، فَيُنْظَرُ إنْ لَمْ
يَسْتَنِدْ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ كَالْحَلْقِ
وَلُبْسِ الْقَمِيصِ تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ،
كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَإِنْ
اسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ كَمَنْ أَصَابَ
رَأْسَهُ شَجَّةٌ وَاحْتَاجَ إلَى حَلْقِ
جَوَانِبِهَا وَسَتْرَهَا بِضِمَادٍ، وَفِيهِ
طِيبٌ فَفِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ
سَبَقَا: الصحيح: التَّعَدُّدُ.
الحال الثاني: أَنْ يَكُونَ اسْتِهْلَاكًا،
وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أحدها: أَنْ
يَكُونَ مِمَّا يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ
الصُّيُودُ، فَتُعَدَّدُ الْفِدْيَةُ بِلَا
خِلَافٍ عِنْدَنَا، سَوَاءٌ فَدَى عَنْ
الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ
الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ أَمْ اخْتَلَفَ،
كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، الضَّرْبُ
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا
يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ دُونَ الْآخَرَ،
كَالصَّيْدِ وَالْحَلْقِ، فَتَتَعَدَّدُ بِلَا
خِلَافٍ، الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا
يُقَابَلُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَيُنْظَرُ إنْ
اخْتَلَفَ نَوْعُهُمَا كَحَلْقٍ وَقَلْمٍ،
أَوْ طِيبٍ وَلِبَاسٍ أَوْ حَلْقٍ،
تَعَدَّدَتْ الْفِدْيَةُ، سَوَاءٌ فَرَّقَ
أَوْ وَالَى، فِي مَكَان أَوْ مَكَانَيْنِ،
بِفِعْلَيْنِ أَوْ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، إلَّا
إذَا لَبِسَ ثَوْبًا مُطَيَّبًا، فَقَدْ
سَبَقَ فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح: الْمَنْصُوصُ
فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، والثاني فِدْيَتَانِ
وَإِنْ اتَّحَدَ النَّوْعُ بِأَنْ حَلَقَ
فَقَطْ، فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا.
الحال الثالث: أَنْ يَكُونَ اسْتِمْتَاعًا،
فَإِنْ اتَّحَدَ النَّوْعُ بِأَنْ تَطَيَّبَ
بِأَنْوَاعٍ مِنْ الطِّيبِ، أَوْ لَبِسَ
أَنْوَاعًا مِنْ الثِّيَابِ، كَعِمَامَةٍ
وَقَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَخُفٍّ، أَوْ نَوْعًا
وَاحِدًا مَرَّاتٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ
مُتَوَالِيًا مِنْ غَيْرِ
ج / 7 ص -244-
تَخَلُّلِ تَكْفِيرٍ كَفَاهُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ، وَإِنْ تَخَلَّلَهُ تَكْفِيرٌ
وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ لِلثَّانِي أَيْضًا،
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَكَانَيْنِ أَوْ
فِي مَكَان وَتَخَلَّلَ زَمَانٌ، فَإِنْ
تَخَلَّلَ التَّكْفِيرُ وَجَبَ لِلثَّانِي
فِدْيَةٌ، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ الأصح:
الْجَدِيدُ تَتَعَدَّدُ الْفِدْيَةُ، والقديم
تَتَدَاخَلُ، وَإِنْ اخْتَلَفَ النَّوْعُ
بِأَنْ لَبِسَ وَتَطَيَّبَ فَثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ سَبَقَ بَيَانُهَا قَرِيبًا الأصح:
التَّعَدُّدُ، والثاني لَا، والثالث: إنْ
اخْتَلَفَ السَّبَبُ تُعَدَّدُ، وَإِنْ
اتَّحَدَ فَلَا. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ
الْجِمَاعِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ
فَفِيهِ خِلَافٌ سَنُوضِحُهُ قَرِيبًا إنْ
شَاءَ الله تعالى.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ
الْكَفَّارَةَ لِتَعَدُّدِ جِهَةِ
التَّحْرِيمِ إذَا اتَّحَدَ الْفِعْلُ كَمَا
سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْدًا
حَرَمِيًّا وَأَكَلَهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ
أَسْبَابٍ لِلتَّحْرِيمِ، وَهِيَ الْحُرُمُ
وَالْإِحْرَامُ وَالْأَكْلُ، وَإِنَّمَا
يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ بَاشَرَ
امْرَأَتَهُ مُبَاشَرَةً تُحْسَبُ شَاةٌ لَوْ
انْفَرَدَتْ ثُمَّ جَامَعَهَا، فَثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ أصحها: تَكْفِيهِ الْبَدَنَةُ
عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً
فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ الْحَدُّ، وَلَا يُحْسَبُ
لِلْمُبَاشَرَةِ، والثاني تَجِبُ بَدَنَةٌ
وَشَاةٌ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي
الْآخِرِ لِاخْتِلَافِهِمَا وَاخْتِلَافِ
وَاجِبِهِمَا، والثالث: إنْ قَصَدَ
بِالْمُبَاشَرَةِ الشُّرُوعَ فِي الْجِمَاعِ
فَبَدَنَةٌ وَإِلَّا فَشَاةٌ وَبَدَنَةٌ،
والرابع: إنْ طَالَ الْفَصْلُ فَشَاةٌ
وَبَدَنَةٌ وَإِلَّا فَبَدَنَةٌ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَبِسَ
مِخْيَطًا أَوْ تَطَيَّبَ لَزِمَتْهُ
الْفِدْيَةُ. سَوَاءٌ لَبِسَ يَوْمًا أَوْ
لَحْظَةً، وَسَوَاءٌ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا
أَوْ بَعْضَهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَوَافَقَنَا أَيْضًا مَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ
يَشْتَرِطُ الِانْتِفَاعَ بِاللُّبْسِ، قَالَ
حَتَّى لَوْ خَلَعَهُ فِي الْحَالِ وَلَمْ
يَنْتَفِعْ بِلُبْسِهِ فَلَا فِدْيَةَ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَبِسَ يَوْمًا كَامِلًا
أَوْ لَيْلَةً كَامِلَةً لَزِمَهُ فِدْيَةٌ
كَامِلَةٌ، وَإِنْ لَبِسَ دُونَ ذَلِكَ
لَزِمَهُ صَدَقَةٌ، قَالَ: وَإِنْ غَطَّى
رُبْعَ رَأْسِهِ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ،
وَإِنْ لَبِسَ دُونَ ذَلِكَ لَزِمَهُ
صَدَقَةٌ، قَالَ: وَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا
كَامِلًا لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ
طَيَّبَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ صَدَقَةٌ،
وَالصَّدَقَةُ عِنْدَهُ إطْعَامُ مِسْكِينٍ
صَاعًا مِنْ أَيِّ طَعَامٍ إلَّا الْبُرَّ،
فَيَكْفِيهِ مِنْهُ نِصْفُ صَاعٍ، وَإِنْ
كَانَ زَبِيبًا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ:
أحدهما: صَاعٌ، وَالثَّانِيَةُ: نِصْفُ صَاعٍ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: إحداهما:
كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ:
أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِلُبْسِ أَكْثَرِ
الْيَوْمِ وَأَكْثَرِ اللَّيْلَةِ، وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ نَحْوُهُ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو يُوسُفَ: وَلَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ فِي
مَجْلِسٍ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ، وَإِنْ حَلَقَهُ
فِي مَجَالِسَ لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ
فِدْيَةٌ سَوَاءٌ فَدَى عَنْ الْأَوَّلِ أَمْ
لَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ وَطِئَ فِي الْعُمْرَةِ أَوْ فِي
الْحَجِّ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ
فَقَدْ فَسَدَ نُسُكُهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يَمْضِيَ فِي فَاسِدِهِ ثُمَّ يَقْضِي
لِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم "أَنَّهُمْ
أَوْجَبُوا ذَلِكَ" وَهَلْ يَجِبُ الْقَضَاءُ
عَلَى الْفَوْرِ؟ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ
ظَاهِرُ النَّصِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ
وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا:
"يَقْضِي مِنْ قَابِلٍ"، والثاني أَنَّهُ
عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ الْأَدَاءَ عَلَى
التَّرَاخِي فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ وَهَذَا
لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ
عَمَّا أَفْسَدَهُ [مِنْ الْأَدَاءِ]
وَالْأَدَاءُ وَجَبَ عَلَى الْفَوْرِ فَوَجَبَ
أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ مِثْلَهُ وَيَجِبُ
الْإِحْرَامُ فِي الْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ
أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ قَدْ
تَعَيَّنَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ فِيهِ، فَإِذَا
أَفْسَدَهُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ كَحَجِّ
التَّطَوُّعِ، فَإِنْ سَلَكَ طَرِيقًا آخَرَ
لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مِقْدَارِ
مَسَافَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْأَدَاءِ،
وَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَقَضَاهُ
بِالْإِفْرَادِ جَازَ، لِأَنَّ الْإِفْرَادَ
أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ وَلَا يَسْقُطُ
عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَمٌ
وَجَبَ عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ
بِالْإِفْسَادِ كَدَمِ الطِّيبِ.
ج / 7 ص -245-
وَفِي
نَفَقَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضَاءِ
وَجْهَانِ: أحدهما: فِي مَالِهَا كَنَفَقَةِ
الْأَدَاءِ، والثاني تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ،
لِأَنَّهَا غَرَامَةٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْوَطْءِ، فَكَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ
كَالْكَفَّارَةِ، وَفِي ثَمَنِ الْمَاءِ
الَّذِي تَغْتَسِلُ بِهِ وَجْهَانِ: أحدهما:
يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ،
والثاني يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغُسْلَ
يَجِبُ لِلصَّلَاةِ، فَكَانَ ثَمَنُ الْمَاءِ
عَلَيْهَا، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَفْتَرِقَا فِي مَوْضِعِ الْوَطْءِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ: أحدهما: يَجِبُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله
عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا: "يَفْتَرِقَانِ"
وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي ذَلِكَ
الْمَكَانِ يَدْعُو إلَى الْوَطْءِ فَمُنِعَ
مِنْهُ، والثاني لَا يَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرُ
النَّصِّ كَمَا لَا يَجِبُ فِي سَائِرِ
الطُّرُقِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، لِمَا
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ
قَالَ: "عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بَدَنَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ
بَقَرَةٌ، لِأَنَّ الْبَقَرَةَ كَالْبَدَنَةِ
لِأَنَّهَا تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَنْ
سَبْعَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَزِمَهُ سَبْعٌ
مِنْ الْغَنَمِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَوَّمَ
الْبَدَنَةَ دَرَاهِمَ وَالدَّرَاهِمَ
طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
الطَّعَامَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا"
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ
أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ قِيَاسًا عَلَى
فِدْيَةِ الْأَذَى".
الشرح: الْوَجْهُ أَنَّ
أَقْدَمَ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي
الْفَصْلِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ
الْأَسْلَمِيِّ التَّابِعِيِّ أَنَّ رَجُلًا
مِنْ جُذَامٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا
مُحْرِمَانِ فَسَأَلَ الرَّجُلُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمَا:
"اقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا هَدْيًا
ثُمَّ ارْجِعَا حَتَّى إذَا جِئْتُمَا
الْمَكَانَ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا
أَصَبْتُمَا فَتَفَرَّقَا وَلَا يَرَى وَاحِدٌ
مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَعَلَيْكُمَا حَجَّةٌ
أُخْرَى، فَتُقْبِلَانِ حَتَّى إذَا كُنْتُمَا
بِالْمَكَانِ الَّذِي أَصَبْتُمَا فِيهِ مَا
أَصَبْتُمَا فَأَحْرِمَا وَأَتِمَّا
نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: هَذَا مُنْقَطِعٌ وَفِي "الموطأ"
قَالَ مَالِكٌ: "إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم
سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ وَهُوَ
مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَقَالُوا يَنْفُذَانِ
لِوَجْهِهَا حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا
ثُمَّ عَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
وَالْهَدْيُ وَقَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا
أَهَلَّا بِالْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ تَفَرَّقَا
حَتَّى يَقْضِيَا حَجَّهُمَا" وَهَذَا أَيْضًا
مُنْقَطِعٌ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ
امْرَأَتَهُ يَعْنِي وَهِيَ مُحْرِمَةٌ
فَقَالَ: "يَقْضِيَانِ حَجَّهُمَا
وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ" رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ أَيْضًا مُنْقَطِعٌ،
فَإِنَّ عَطَاءً لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ
وَإِنَّمَا وُلِدَ عَطَاءٌ فِي آخِرِ
خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ
رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ وَهِيَ بِمِنًى
قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يَنْحَرَ بَدَنَةً" رَوَاهُ مَالِكٌ فِي
"الموطأ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى
امْرَأَتِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَالَ اقْضِيَا
نُسُكَكُمَا وَارْجِعَا إلَى بَلَدِكُمَا،
فَإِذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَاخْرُجَا
حَاجَّيْنِ، فَإِذَا أَحْرَمْتُمَا
فَتَفَرَّقَا وَلَا تَلْتَقِيَا حَتَّى
تَقْضِيَا نُسُكَكُمَا وَاهْدِيَا هَدْيًا"
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
وَفِي رِوَايَةٍ. "ثُمَّ أَهِّلَا مِنْ حَيْثُ
أَهْلَلْتُمَا أَوَّلَ مَرَّةٍ" وَعَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
وَأَنَا مَعَهُ يَسْأَلُهُ عَنْ مُحْرِمٍ
وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فَأَشَارَ إلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى
ذَلِكَ فَسَلْهُ، قَالَ شُعَيْبٌ: فَلَمْ
يَعْزِمْ الرَّجُلُ فَذَهَبْت مَعَهُ فَسَأَلَ
ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَطَلَ حَجُّكَ،
فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا أَصْنَعُ؟ قَالَ:
اُخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، وَاصْنَعْ مَا
يَصْنَعُونَ فَإِذَا أَدْرَكْتَ قَابِلَ
فَحُجَّ وَاهْدِ، فَرَجَعَ إلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَا مَعَهُ
فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى ابْنِ
عَبَّاسٍ فَسَلْهُ قَالَ شُعَيْبٌ: فَذَهَبْتُ
مَعَهُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ
فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ،
فَرَجَعَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
وَأَنَا مَعَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ
أَنْتَ؟ فَقَالَ: قَوْلِي مِثْلُ مَا قَالَا"
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا إسْنَادٌ
صَحِيحٌ، قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ
ج / 7 ص -246-
عَلَى
صِحَّةِ سَمَاعِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ
لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَصَبْتُ أَهْلِي، فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا حَجُّكُمَا هَذَا
فَقَدْ بَطَلَ فَحُجَّا عَامًا قَابِلًا،
ثُمَّ أَهِلَّا مِنْ حَيْثُ أَهْلَلْتُمَا،
وَحَيْثُ وَقَعْتَ عَلَيْهَا فَفَارِقْهَا
فَلَا تَرَاكَ وَلَا تَرَاهَا حَتَّى
تَرْمِيَا الْجَمْرَةَ وَاهْدِ نَاقَةً
وَلِتُهْدِ نَاقَةً" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إذَا جَامَعَ فَعَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ" رَوَاهُ
ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَعَنْهُ: "يُجْزِئُ
عَنْهُمَا جَزُورٌ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
وَعَنْهُ قَالَ: "إنْ كَانَتْ أَعَانَتْك
فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا بَدَنَةٌ
حَسْنَاءُ جَمْلَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ
تُعِنْكَ فَعَلَيْكَ نَاقَةٌ حَسْنَاءُ
جَمْلَاءُ" رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وأما: أَلْفَاظُ الْفَصْلِ فَقَوْلُهُ:
غَرَامَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ،
احْتِرَازٌ مِنْ نَفَقَتِهَا فِي حَجَّةِ
الْأَدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: "إنَّ
نَفَقَةَ الْأَدَاءِ فِي مَالِ الْمَرْأَةِ
الزَّائِدِ عَلَى نَفَقَةِ الْحَضَرِ" هَذَا
إذَا سَافَرَتْ مَعَهُ كَمَا سَنُوضِحُهُ
قَرِيبًا إنْ شَاءَ الله تعالى.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله:
إذَا وَطِئَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي
الْفَرْجِ عَامِدًا عَالَمًا بِتَحْرِيمِهِ،
وَبِالْإِحْرَامِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ
الْأَوَّلِ فَسَدَ حَجُّهُ، سَوَاءٌ كَانَ
قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ أَوْ بَعْدَهُ
وَتَفْسُدُ الْعُمْرَةُ أَيْضًا بِالْجِمَاعِ
قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهَا
إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْحَجِّ
فَإِنْ لَهُ تَحَلُّلَيْنِ كَمَا هُوَ
مُقَرَّرٌ فِي بَابِ صِفَةِ الْحَجِّ فإن
قلنا: الْحَلْقُ نُسُكٌ فَهُوَ مِمَّا يَقِفُ
التَّحَلُّلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَلْزَمُ
مَنْ أَفْسَدَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً أَنْ
يَمْضِيَ فِي فَاسِدِهِمَا وَهُوَ أَنْ
يُتِمَّ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ لَوْلَا
الْإِفْسَادُ. وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا
اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا،
وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا دَاوُد
الظَّاهِرِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَخْرُجُ
مِنْهُ بِالْإِفْسَادِ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ،
وَبِالْآثَارِ السَّابِقَةِ قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ
مِنْ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي فَاسِدِ الْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ
مِنْهُمَا بِالْإِفْسَادِ مُخْتَصٌّ بِهِمَا
دُونَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وأما: بَاقِي
الْعِبَادَاتِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا
بِالْإِفْسَادِ وَلَا يَبْقَى لَهَا حُرْمَةٌ
بَعْدَهُ إلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ
مِنْهُ بِالْفَسَادِ لَكِنَّهُ يَبْقَى لَهُ
حُرْمَةٌ فَيَجِبُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ
النَّهَارِ لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي
أَوَائِلِ كِتَابِ الصَّوْمِ فِي مَسْأَلَةِ
صَوْمِ الشَّكِّ إذَا ثَبَتَ فِي أَثْنَاءِ
النَّهَارِ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ.
فرع: يَجِبُ عَلَى مُفْسِدِ
الْحَجِّ بَدَنَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَفِي
مُفْسِدِ الْعُمْرَةِ طَرِيقَانِ أصحهما:
وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ
يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ كَمُفْسِدِ
الْحَجِّ، والثاني فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما:
بَدَنَةٌ، والثاني شَاةٌ مِمَّنْ حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ.
فرع: يَجِبُ عَلَى مُفْسِدِ
الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ بِلَا
خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَجُّ أَوْ
الْعُمْرَةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ
النَّفَلَ مِنْهُمَا يَصِيرُ فَرْضًا
بِالشُّرُوعِ فِيهِ، بِخِلَافِ بَاقِي
الْعِبَادَاتِ، وَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَنْ
الْمُفْسِدِ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَقَعَ
عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا فَعَنْهُ،
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ فَأَفْسَدَهُ
بِالْجِمَاعِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ،
وَلَزِمَهُ قَضَاءٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ
أَحْرَمَ بِالْقَضَاءِ مِائَةَ مَرَّةٍ
فَفَسَدَ كُلَّ مَرَّةٍ مِنْهُنَّ، يَلْزَمُهُ
قَضَاءٌ وَاحِدٌ وَيَقَعُ عَنْ الْأَوَّلِ
ج / 7 ص -247-
قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَيُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي
عَامِ الْإِفْسَادِ، بِأَنْ يُحْصَرَ بَعْدَ
الْإِفْسَادِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ
الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ فَيَتَحَلَّلُ
ثُمَّ يَزُولُ الْحَصْرُ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ
فَيَحْرُمُ بِالْقَضَاءِ وَيَفْعَلُهُ
وَيُجْزِئُهُ فِي سَنَتِهِ، قَالُوا: وَلَا
يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي سَنَةِ
الْإِفْسَادِ إلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِأما:
وَقْتُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ
مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ
بِدَلِيلِهِمَا: أصحهما: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ
وَالْأَصْحَابِ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ
وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، والثاني عَلَى
التَّرَاخِي فإن قلنا: عَلَى الْفَوْرِ،
وَجَبَ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ،
وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهَا، فَإِنْ
أَخَّرَهُ عَنْهَا بِلَا عُذْرٍ أَثِمَ وَلَمْ
يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَضَاءُ بَلْ تَجِبُ
الْمُبَادَرَةُ فِي السَّنَةِ الَّتِي
تَلِيهَا، وَهَكَذَا أَبَدًا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ أُحْصِرَ بَعْدَ
الْإِفْسَادِ وَتَحَلَّلَ قَبْلَ فَوَاتِ
الْوُقُوفِ وَأَمْكَنَهُ الْإِحْرَامُ
بِالْقَضَاءِ، وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ فِي
سَنَتِهِ، لَزِمَهُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: إنَّ
الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهُ
أَقْرَبُ مِنْ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: يَجِبُ عَلَيْهِ فِي
الْقَضَاءِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَبْعَدِ
الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُمَا الْمِيقَاتُ
الشَّرْعِيُّ. وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَحْرَمَ
مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ هَذِهِ عِبَارَةُ
الْأَصْحَابِ وَشَرَحُوهَا فَقَالُوا: إنْ
كَانَ أَحْرَمَ فِي الْأَدَاءِ مِنْ
الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ أَحْرَمَ مِنْهُ فِي
الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ قَبْلَ
الْمِيقَاتِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَوْ
غَيْرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُحْرِمَ فِي هَذَا
الْقَضَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ
جَاوَزَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ لَزِمَهُ الدَّمُ
كَمَا يَلْزَمُهُ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ
الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ فِي
الْأَدَاءِ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ
الشَّرْعِيِّ نُظِرَ - إنْ جَاوَزَهُ مُسِيئًا
- لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْ
الْمِيقَاتِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يُسِيءَ ثَانِيًا، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ
فِي قَوْلِ الْأَصْحَابِ: يُحْرِمُ فِي
الْقَضَاءِ مِنْ أَبْعَدِ الْمَوْضِعَيْنِ،
وَإِنْ جَاوَزَهُ غَيْرَ مُسِيءٍ بِأَنْ لَمْ
يُرِدْ النُّسُكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ
مُجَاوَزَتِهِ فَأَحْرَمَ ثُمَّ أَفْسَدَهُ،
فَوَجْهَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ: يَلْزَمُهُ أَنْ
يُحْرِمَ فِي الْقَضَاءِ مِنْ الْمِيقَاتِ
الشَّرْعِيِّ، والثاني لَهُ أَنْ يُحْرِمَ
مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، لِيَسْلُكَ
بِالْقَضَاءِ مَسْلَكَ الْأَدَاءِ وَلِهَذَا
لَوْ اعْتَمَرَ مِنْ الْمِيقَاتِ ثُمَّ
أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ
وَأَفْسَدَهُ كَفَاهُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ
يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ
بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لَوْ أَفْرَدَ
الْحَجَّ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ
أَدْنَى الْحِلِّ، ثُمَّ أَفْسَدَهَا، كَفَاهُ
أَنْ يُحْرِمَ فِي قَضَائِهَا مِنْ أَدْنَى
الْحِلِّ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ
وَالْوَجْهَانِ فِيمَنْ لَمْ يَرْجِعْ فِي
الْأَدَاءِ إلَى الْمِيقَاتِ، أَمَّا مَنْ
كَانَ رَجَعَ ثُمَّ عَادَ فَيَلْزَمُهُ فِي
الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ،
وَجْهًا وَاحِدًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُ فِي الْقَضَاءِ الطَّرِيقُ الَّذِي
سَلَكَهُ فِي الْأَدَاءِ، بَلْ سُلُوكُ
طَرِيقٍ آخَرِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ
يُحْرِمَ مِنْ قَدْرِ مَسَافَةِ الْإِحْرَامِ
فِي الْأَدَاءِ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُحْرِمَ فِي
الْقَضَاءِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أَحْرَمَ
مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ، بَلْ لَهُ
التَّأْخِيرُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْمَكَانِ
الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ فِي الْأَدَاءِ،
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ،
وَفَرَّقُوا بِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ
بِالْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ أَكْمَلُ،
وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْإِحْرَامِ
بِالنَّذْرِ وَلَا يَتَعَيَّنُ زَمَانُهُ
بِالنَّذْرِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْإِحْرَامَ
فِي شَوَّالٍ لَهُ تَأْخِيرُهُ، هَكَذَا
ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِشْهَادُ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا،
قَالَ الْقَاضِي: هُوَ اسْتِشْهَادٌ مُشْكِلٌ،
لِأَنَّ طُولَ الْإِحْرَامِ عِبَادَةٌ، وَمَا
كَانَ عِبَادَةٌ لَزِمَهُ بِالنَّذْرِ، قَالَ:
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَوْ
نَذَرَ الصَّوْمَ فِي أَيَّامٍ طِوَالٍ، لَهُ
أَنْ يَصُومَ فِي قِصَارٍ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ
يَصُومَ أَطْوَلَ أَيَّامِ السَّنَةِ
لَزِمَهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ. وَكَذَا
قَالَ الرَّافِعِيُّ، وَأَظُنُّ هَذَا
الِاسْتِشْهَادَ لَا يَخْلُو مِنْ نِزَاعٍ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ج / 7 ص -248-
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ
عَلَى الْفَوْرِ، هَلْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا
أَمْ لَا؟ إنْ قُلْنَا: الْقَضَاءُ عَلَى
التَّرَاخِي فَلَهُ مَنْعُهَا، وَإِلَّا
فَلَا، وَقَالَ الْبَغَوِيّ: هَلْ يَلْزَمُهُ
أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْقَضَاءِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَلْزَمُهُ كَمَا لَا
يَلْزَمُهُ فِي الِابْتِدَاءِ والثاني
يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي
أَلْزَمَهَا الْقَضَاءَ.
فرع: ذَكَرَ الْقَفَّالُ
وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ هُنَا
أَنَّ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ
ذَكَرْنَاهُمَا فِي كَوْنِ الْقَضَاءِ يَجِبُ
عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي
جَارِيَانِ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ
بِعِدْوَانٍ، وأما الْكَفَّارَةُ بِلَا
عُدْوَانٍ فَعَلَى التَّرَاخِي وَذَكَرُوا
قَضَاءَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُ هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ
هَذَا الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ مَوَاقِيتِ
الصَّلَاةِ وَفِي آخِرِ كِتَابِ الصَّوْمِ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ حَجًّا مُفْرَدًا
أَوْ عُمْرَةً مُفْرَدَةً فَلَهُ أَنْ
يَقْضِيَهُ مَعَ النُّسُكِ الْآخَرِ قَارِنًا،
وَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَمَتِّعًا،
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَارِنِ
وَالْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَقْضِيَا عَلَى
سَبِيلِ الْإِفْرَادِ، وَلَا يَسْقُطُ دَمُ
الْقِرَانِ بِالْقَضَاءِ عَلَى سَبِيلِ
الْإِفْرَادِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: إذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ
لَزِمَهُ الْبَدَنَةُ لِلْإِفْسَادِ،
وَيَلْزَمُهُ شَاةٌ لِلْقِرَانِ، وَإِذَا
قَضَاهُ قَارِنًا لَزِمَهُ شَاةٌ أُخْرَى
لِلْقِرَانِ الثَّانِي، وَإِنْ قَضَاهُ
مُفْرِدًا لَزِمَهُ أَيْضًا شَاةٌ أُخْرَى،
لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ
يَقْضِيَ قَارِنًا، فَلَمَّا أَفْرَدَ كَانَ
مُتَبَرِّعًا بِالْإِفْرَادِ فَلَا يَسْقُطُ
عَنْهُ الدَّمُ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ
الشَّافِعِيِّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ إذَا
أَفْسَدَهُ وَقَضَاهُ مُفْرِدًا يَلْزَمُهُ
مَعَ الْبَدَنَةِ شَاتَانِ، شَاةٌ فِي
السَّنَةِ الْأُولَى لِلْقِرَانِ الْفَاسِدِ،
وَشَاةٌ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ
وَاجِبَهُ الْقِرَانُ وَفِيهِ شَاةٌ، فَإِذَا
عَدَلَ إلَى الْإِفْرَادِ لَمْ تَسْقُطْ
عَنْهُ الشَّاةُ، وَكُلُّ الْأَصْحَابِ
مُصَرِّحُونَ بِهَذَا، مِنْهُمْ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"، وَالْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ
"التَّعْلِيقُ" و"المجرد"، وَالْمَحَامِلِيُّ
فِي كِتَابَيْهِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي
"الْحَاوِي"، وَابْنُ الصَّبَّاغِ
وَالْمُتَوَلِّي، وَصاحب "البيان"، وَآخَرُونَ
وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد":
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا قَضَى
الْقَارِنُ نُسُكَيْهِ مُفْرِدًا لَمْ يَكُنْ
لَهُ ذَلِكَ قَالُوا: وَمُرَادُهُ لَمْ يَكُنْ
لَهُ إسْقَاطُ الدَّمِ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ،
بَلْ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِلْقَضَاءِ،
وَإِنْ قَضَاهُ مُفْرَدًا لَمْ يُرِدْ أَنَّ
فَرْضَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْوَاجِبِينَ
بِالْقِرَانِ الْفَاسِدِ لَا يَسْقُطَانِ
عَنْهُ إفْرَادُهُمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَنَّ الدَّمَ لَا يَسْقُطُ، هَكَذَا ذَكَرَ
التَّأْوِيلَ هَؤُلَاءِ وَنَقَلَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي "المجرد" عَنْ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ،
وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُ
هَذَا الْكَلَامَ بَعْضَ الْبَسْطِ لِأَنَّ
عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ غَيْرُ مُوَضِّحَةٍ
لِمَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ، بَلْ مُوهِمَةٌ
خِلَافَ الصَّوَابِ، وَالْوَهْمُ حَاصِلٌ مِنْ
تَعْلِيلِهِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَسْقُطُ دَمُ
الْقِرَانِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَلَا
يَسْقُطُ بِالْإِفْسَادِ، كَدَمِ الطِّيبِ،
وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوهِمُ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ دَمٌ بِسَبَبٍ إفْسَادِ الْقِرَانِ
وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ
مُفْرِدًا دَمٌ آخَرُ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ
كَذَلِكَ، بَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ
مُفْرِدًا دَمٌ آخَرُ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا
حَكَيْنَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَدَلِيلُهُ
مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَيُجَابُ عَنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ
ذَكَرَ أَنَّ الدَّمَ الْوَاجِبَ بِالْقِرَانِ
فِي سَنَةِ الْإِفْسَادِ لَا يَسْقُطُ، وَلَمْ
يَقُلْ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْقَضَاءِ
مُفْرِدًا دَمٌ آخَرُ، بَلْ سَكَتَ عَنْ
إثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ، فَيَكُونُ سَاكِتًا
عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ غَلَطًا
إنَّمَا هُوَ فَوَاتُ فَضِيلَةٍ وَفَائِدَةٍ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ صَاحِبَ "الْإِبَانَةِ"
حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ
الْقَارِنَ شَاةٌ فِي سَنَةِ الْإِفْسَادِ،
لِأَنَّ نُسُكَهُ لَمْ يَصِحَّ قِرَانًا،
فَلَمْ يَلْزَمْ الدَّمُ، وَتَابَعَهُ عَلَى
حِكَايَتِهِ عَنْهُ
ج / 7 ص -249-
صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ، وَهَذَا
الْوَجْهُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا أَذْكُرهُ
لِلتَّنْبِيهِ عَلَى بُطْلَانِهِ لِئَلَّا
يُغْتَرَّ بِهِ، فَإِنَّهُ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ
الْمَذْهَبِ، وَمِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ، أما:
الْمَذْهَبُ، فَالْأَصْحَابُ مُطْبِقُونَ
عَلَى خِلَافِهِ، وأما: الدَّلِيلُ
فَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي
فَاسِدِهِ وَيَبْقَى لَهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ،
وَمِنْ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ وُجُوبُ الدَّمِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا جَامَعَ
الْقَارِنُ - فَإِنْ كَانَ قَبْلَ
التَّحْلِيلِ الْأَوَّلِ - فَسَدَ حَجُّهُ
وَعُمْرَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَزِمَتْهُ
بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ بِسَبَبِ الْإِفْسَادِ
لِاتِّحَادِ الْإِحْرَامِ، وَيَلْزَمُهُ مَعَ
ذَلِكَ شَاةٌ لِلْقِرَانِ وَفِيهِ الْوَجْهُ
الضَّعِيفُ الْمَحْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ
"الْإِنَابَةِ". وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ
التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي
لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا
تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ أَيْضًا عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،
وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ
وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَوْدَنِيِّ
مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّهُ
تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ
بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، قَالَ
الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَكَى هَذَا
الْوَجْهَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ
فِي الْقِرَانِ تَتْبَعُ الْحَجَّ، فَإِذَا
لَمْ يَفْسُدْ الْحَجُّ لَمْ تَفْسُدْ
الْعُمْرَةُ، وَلِهَذَا يَحِلُّ لِلْقَارِنِ
مُعْظَمُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ
التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ
بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ لَوْ
فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ فَاتَهُ
الْحَجُّ، وَكَذَا الْعُمْرَةُ عَلَى
الصَّحِيحِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ
شَاءَ الله تعالى فَإِنْ كَانَ وَقْتُ
الْعُمْرَةِ مُوسَعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ
قَدِمَ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى
ثُمَّ جَامَعَ، بَطَلَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ
وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ
الْعُمْرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا فَاتَ الْقَارِنَ الْحَجُّ لِفَوَاتِ
الْوُقُوفِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِفَوَاتِ
عُمْرَتِهِ فِيهِ قَوْلَانِ: أصحهما: نَعَمْ،
تَبَعًا لِلْحَجِّ، كَمَا تَفْسُدُ
بِفَسَادِهِ، والثاني لَا، لِأَنَّهَا لَا
تَفُوتُ، وَأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِهَا،
فَإِنْ قُلْنَا بِفَوْتِهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ
وَاحِدٌ لِلْفَوَاتِ، وَلَا يَسْقُطُ دَمُ
الْقِرَانِ، فَإِذَا قَضَاهُمَا فَالْحُكْمُ
كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَضَائِهِمَا عِنْدَ
الْإِفْسَادِ، فَإِنْ قَرَنَ فِي الْقَضَاءِ
أَوْ تَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ثَالِثٌ،
وَإِنْ أَفْرَدَ فَكَذَلِكَ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ
عَنْ "الْإِبَانَةِ" وَمُتَابِعِيهِ.
فرع: إذَا كَانَتْ
الْمَرْأَةُ الْمَوْطُوءَةُ مُحْرِمَةً
أَيْضًا نُظِرَ - إنْ جَامَعَهَا نَائِمَةً
أَوْ مُكْرَهَةً - فَهَلْ يَفْسُدُ حَجُّهَا
وَعُمْرَتُهَا؟ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أصحهما:
عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي وَطْءِ النَّاسِي
هَلْ يَفْسُدُ الْحَجُّ؟: أصحهما: لَا
يَفْسُدُ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ ابْنُ
الْمَرْزُبَانِيِّ، وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "المجرد"، والثاني
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ وَجْهًا
وَاحِدًا، وَعَلَى هَذَا فَالْفَرْقُ أَنَّ
الْمُكْرَهَةَ لَا فِعْلَ لَهَا بِخِلَافِ
النَّاسِي، وَمِمَّنْ حَكَى الطَّرِيقَيْنِ
الدَّارِمِيُّ، وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً
عَالِمَةً فَسَدَ نُسُكُهَا كَالرَّجُلِ
وَلَزِمَهَا الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ
وَالْقَضَاءُ، وأما: الْبَدَنَةُ فَهَلْ
تَجِبُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ فِيهِ طَرِيقَانِ
مَشْهُورَانِ: أحدهما: حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ يَجِبُ عَلَيْهَا بَدَنَةٌ
فِي مَالِهَا قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا يَجِبُ
عَلَى الرَّجُلِ بَدَنَةٌ، والطريق الثاني:
أَنَّ فِيهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ
السَّابِقَةَ فِي جِمَاعِ الصَّائِمِ
الصَّائِمَةَ أحدها: تَجِبُ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ، والثاني تَجِبُ
عَلَيْهِ بَدَنَةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا، والثالث:
تَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ عَنْ نَفْسِهِ
فَقَطْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَهَذَا
الطَّرِيقُ أَشْهَرُ، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ
الْعِرَاقِيِّينَ.
وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ فَرَّقَ بِأَنَّ
الصَّائِمَةَ تُفْطِرُ بِكُلِّ وَاصِلٍ إلَى
بَاطِنِهَا، وَلَا يُفْطِرُ الرَّجُلُ إلَّا
بِالْجِمَاعِ، وَلَوْ أَدْخَلَ الرَّجُلُ
أُصْبُعَهُ فِي فَرْجِهَا لَمْ يَبْطُلْ
صَوْمُهُ وَبَطَل صَوْمُهَا، وَأَمَّا
الْحَجُّ فَلَا يَبْطُلُ حَجُّهَا إلَّا
بِالْجِمَاعِ، فَلَوْ أَدْخَلَتْ أُصْبُعَهَا
أَوْ نَحْوَهَا لَمْ يَبْطُلْ حَجُّهَا فَهِيَ
فِي الْحَجِّ كَالرَّجُلِ لَا فَرْقَ
بَيْنَهُمَا فِي
ج / 7 ص -250-
الْجِمَاعِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ
بُطْلَانَ صَوْمِهَا لَا يَتَعَيَّنُ
لِكَوْنِهِ جِمَاعًا، بَلْ لِدُخُولِ
الدَّاخِلِ، فَلَا تَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ
وَانْفَرَدَ الدَّارِمِيُّ بِطَرِيقَةٍ
أُخْرَى سَبَقَ لَهُ مِثْلُهَا فِي الْوَطْءِ
فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَالَ: فِي
الْكَفَّارَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ
كَكَفَّارَةِ الصِّيَامِ أحدها: يَلْزَمُهُ
بَدَنَةٌ عَنْهُ فَقَطْ، والثاني بَدَنَةٌ
عَنْهُ وَعَنْهَا، والثالث: يَلْزَمُهُ
بَدَنَتَانِ بَدَنَةٌ عَنْهُ وَبَدَنَةُ
عَنْهَا، والرابع: يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ،
وَيَلْزَمُهَا فِي مَالِهَا بَدَنَةٌ أُخْرَى.
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الحاوي"
الْأَقْوَالَ الْأَرْبَعَةَ.
فرع: أَمَّا نَفَقَةُ
الزَّوْجَةِ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ، فَإِنْ
كَانَتْ مَعَهُ فِي الْقَضَاءِ لَزِمَتْهُ
قَدْرُ نَفَقَةِ الْحَضَرِ بِلَا خِلَافٍ
وَفِي الزَّائِدِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ
ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا
أصحهما: يَلْزَمُ الزَّوْجَ، والثاني يَجِبُ
فِي مَالِهَا وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ
الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ: يَحُجُّ
بِامْرَأَتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي مُرَادِهِ
فَقِيلَ: أَرَادَ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ وَهُوَ
الْأَصَحُّ عِنْدَ الْأَصْحَابِ وَقِيلَ:
إنَّهُ يَأْذَنُ لَهَا فِي الْحَجِّ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ: وَالزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مِنْ
النَّفَقَةِ الزَّائِدَةِ فَفِيهَا
الْوَجْهَانِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
وَالْبَغَوِيُّ: وَلَوْ زَمِنَتْ الزَّوْجَةُ
وَصَارَتْ مَعْضُوبَةً هَلْ يَلْزَمُ
الزَّوْجَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ مَالِهِ
مَنْ يَحُجُّ عَنْهَا قَضَاءً؟ فِيهِ
الْوَجْهَانِ فِي النَّفَقَةِ الزَّائِدَةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي
مَالِهَا كَنَفَقَةِ الْأَدَاءِ، فَمُرَادُهُ
إذَا سَافَرَتْ وَحْدَهَا لِلْحَجِّ بِغَيْرِ
إذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهَا
إذَا سَافَرَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا
نَفَقَةَ لَهَا بِلَا خِلَافٍ وَإِذَا
سَافَرَتْ بِإِذْنِهِ فَفِي وُجُوبِ
نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ
ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي
كِتَابِ النَّفَقَاتِ: الأصح: لَا تَجِبُ
عَلَيْهِ، فَقَاسَ الْمُصَنِّفُ عَلَى
الْأَصَحِّ، وأما: إذَا سَافَرَتْ فِي
الْأَدَاءِ مَعَهُ فَيَجِبُ نَفَقَتُهَا
عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ وَلِأَنَّهَا فِي
قَبْضَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ،
وَلَمْ يُوَضِّحْ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ
هُنَا وَحُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِي ثَمَنِ
الْمَاءِ الَّذِي تَغْتَسِلُ بِهِ وَجْهَانِ
هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ
سَبَقَ بَيَانُهُمَا فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ
الْغُسْلِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ حُكْمَ مَاءِ
غُسْلِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَالنِّفَاسِ
وَالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَمَاءِ
وُضُوئِهَا مِنْ لَمْسَةٍ أَوْ غَيْرِهِ،
وَمَاءِ طَهَارَةِ الْمَمْلُوكِ
وَأَوْضَحْنَاهُ كُلَّهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ كَانَتْ
الْمَوْطُوءَةُ أَجْنَبِيَّةً وَطِئَهَا
بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنًا فَمُؤْنَتُهَا فِي
مَالِهَا بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَتْ
أَمَةً لِلْوَاطِئِ فَعَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا
فِي الْقَضَاءِ بِلَا خِلَافٍ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ
وَزَوْجَتُهُ الْمُفْسِدَيْنِ لِيَقْضِيَا
الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَاصْطَحَبَا فِي
طَرِيقِهِمَا اُسْتُحِبَّ لَهُمَا أَنْ
يَفْتَرِقَا مِنْ حِينِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا
وَصَلَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا
فِيهِ فَهَلْ يَجِبُ الْمُفَارَقَةُ؟ فِيهِ
خِلَافٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ
وَجْهَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ
الْأَصَحَّ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ
بِوَاجِبٍ، والثاني أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي "جَامِعِهِ"
وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِيَانِ أَبُو
الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٌ فِي"تعليقه"مَا،
وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ:
هَذَا الْخِلَافُ قَوْلَانِ: "الجديد" أَنَّهُ
مُسْتَحَبٌّ، و"القديم" وَاجِبٌ فإن قلنا:
يَجِبُ فَتَرَكَاهُ أَثِمَا وَصَحَّ
حَجُّهُمَا، وَلَا دَمَ عَلَيْهِمَا، وَإِذَا
تَفَرَّقَا لَمْ يَجْتَمِعَا إلَّا بَعْدَ
التَّحَلُّلِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: التَّفَرُّقُ
وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ صَرَّحَ بِهِ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه"
وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُعْتَزُّ لَهَا فِي
السَّيْرِ وَالْمَنْزِلِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
الْمُفْسِدُ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ إذَا
مَضَى فِي فَسَادِهِ، وَارْتَكَبَ مَحْظُورًا
بَعْدَ الْإِفْسَادِ
ج / 7 ص -251-
أَتَمَّ وَلَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِذَا
تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ قَتَلَ صَيْدًا
أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
الْمَحْظُورَاتِ، لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَلَا
يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا إلَّا الْجِمَاعَ
مَرَّةً ثَانِيَةً، فَفِيهِ الْخِلَافُ
الَّذِي سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَلَا خِلَافَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ
إلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْمُتَوَلِّي،
فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلًا شَاذًّا ضَعِيفًا
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِارْتِكَابِ
الْمَحْظُورَاتِ كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي
نَهَارِ رَمَضَانَ ثُمَّ وَطِئَ ثَانِيًا، لَا
شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ،
وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: هَذَا الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ فِي جِمَاعِ الْعَامِدِ
الْعَالَمِ بِتَحْرِيمِهِ الْمُخْتَارِ لَهُ
الْعَاقِلِ، أما: النَّاسِي وَالْجَاهِلُ
وَالْمُكْرَهُ وَالْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى
عَلَيْهِ، فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حُكْمِهِمْ
فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا أَحْرَمَ
مُجَامِعًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ،
حَكَاهَا الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي
وَغَيْرُهُمَا أصحهما: لَا يَنْعَقِدُ
إحْرَامُهُ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ
مَعَ الْحَدَثِ، والثاني يَنْعَقِدُ صَحِيحًا
فَإِنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ فَذَاكَ وَإِلَّا
فَسَدَ نُسُكُهُ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي
فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ وَالْبَدَنَةُ،
وَاحْتَجُّوا لَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى
الصَّوْمِ فِيمَا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ
وَهُوَ مَجَامِعٌ، إنْ نَزَعَ فِي الْحَالِ،
صَحَّ صَوْمُهُ وَإِلَّا فَسَدَ، والثالث:
يَنْعَقِدُ فَاسِدًا وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ، سَوَاءٌ نَزَعَ
أَوْ مَكَثَ، وأما: الْكَفَّارَةُ فَإِنْ
نَزَعَ فِي الْحَالِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ
وَإِنْ مَكَثَ وَجَبَتْ وَفِي الْوَاجِبِ
الْقَوْلَانِ فِي نَظَائِرِهِ أحدهما:
بَدَنَةٌ، والثاني شَاةٌ وَاسْتَدَلَّ
الْبَغَوِيّ لِهَذَا الْوَجْهِ الثَّالِثِ
بِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَخْرُجُ
مِنْهُ بِمُنَافِيهِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَلَا
يَمْتَنِعُ انْعِقَادُهُ مَعَهُ بِخِلَافِ
الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا ارْتَدَّ فِي
أَثْنَاءِ حَجَّتِهِ أَوْ عُمْرَتِهِ
فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ الْفَوَاتِ
وَالْإِحْصَارِ أصحهما: يَفْسُدُ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ صَحَّحَهُ الْأَصْحَابُ
وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ
الْأَكْثَرِينَ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ
عِنْدَ الشَّيْخِ أَبُو حَامِدٍ، والثاني لَا
يَفْسُدُ كَمَا لَا يَفْسُدُ بِالْجُنُونِ،
فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَدُّ بِالْمَفْعُولِ
فِي حَالِ الرِّدَّةِ، لَكِنْ إذَا أَسْلَمَ
بَنَى عَلَى مَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ
إنْ كَانَ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ إنْ كَانَ
وَقْتُ الْوُقُوفِ بَاقِيًا فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ وَقَفَ وَأَسْلَمَ بَعْدَ فَوَاتِ
وَقْتِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ
عُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَسَائِرِ
أَنْوَاعِ الْفَوَاتِ وَسَوَاءٌ طَالَ زَمَنُ
الرِّدَّةِ أَمْ قَصُرَ فَالْوَجْهَانِ
جَارِيَانِ، إنْ قُلْنَا: بِالْفَسَادِ
فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَغَيْرُهُ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ يَبْطُلُ
النُّسُكُ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا يَمْضِي فِيهِ
لَا فِي الرِّدَّةِ وَلَا بَعْدَ
الْإِسْلَامِ، والثاني أَنَّهُ كَالْإِفْسَادِ
بِالْجِمَاعِ فَيَمْضِي فِي فَاسِدِهِ إنْ
أَسْلَمَ، لَكِنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ،
وَحَكَى الدَّارِمِيُّ فِي آخِرِ بَابِ
الْإِحْصَارِ وَجْهًا عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ
الْقَطَّانِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حَجُّهُ
وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ
عُمْرَتَهُ بِالْجِمَاعِ دَمٌ وَاخْتَلَفَ
الْأَصْحَابُ فِيهِ هَلْ هُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ
أَمْ لَا؟
فَفِيهِ طُرُقٌ: أصحها:
عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَسَائِرِ الْأَصْحَابِ،
وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "المختصر"
وَغَيْرِهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي "تعليقه": هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي
عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهُ دَمُ تَرْتِيبٍ
وَتَعْدِيلٍ، فَيَجِبُ بَدَنَةٌ فَإِنْ عَجَزَ
عَنْهَا فَبَقَرَةٌ، وَإِنْ عَجَزَ فَسَبْعُ
شِيَاهٍ، فَإِنْ عَجَزَ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ
دَرَاهِمَ بِسِعْرِ مَكَّةَ حَالَ الْوُجُوبِ،
ثُمَّ الدَّرَاهِمَ بِطَعَامٍ وَتَصَدَّقَ
بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَامَ عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا.
والطريق الثاني: طَرِيقُ
أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ، حَكَاهُ عَنْهُ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: أصحهما:
كَالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ، والثاني أَنَّهُ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
الْخَمْسَةِ، وَهِيَ الْبَدَنَةُ
وَالْبَقَرَةُ
ج / 7 ص -252-
وَالشَّاةُ وَالْإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ،
فَأَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ وَأَجْزَأَهُ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى الثَّانِي.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ:
حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ أصحهما: الطَّرِيقُ
الْأَوَّلُ، والثاني أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ الْأُولَى وَهِيَ الْبَدَنَةُ
وَالْبَقَرَةُ وَالشَّاةُ فَلَا يُجْزِئُ
الْإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ
عَجَزَ عَنْ الثَّلَاثَةِ قَوَّمَ أَيَّهَا
شَاءَ وَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ
يَوْمًا.
وَالطَّرِيقُ الرَّابِعُ:
أَنَّهُ يَجِبُ بَدَنَةٌ فَإِنْ عَجَزَ
فَبَقَرَةٌ فَإِنْ عَجَزَ فَسَبْعُ شِيَاهٍ
فَإِنْ عَجَزَ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ وَصَامَ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الصِّيَامِ أَطْعَمَ
فَيُقَدِّمُ الصِّيَامَ عَلَى الْإِطْعَامِ
كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا.
وَقِيلَ: لَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ
وَالصِّيَامِ هُنَا بَلْ إذَا عَجَزَ عَنْ
الْغَنَمِ ثَبَتَ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ
إلَى أَنْ يَجِدَ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فِي دَمِ الْإِحْصَارِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَيْثُ قُلْنَا: بِالصِّيَامِ فَإِنْ كُسِرَ
مُدٌّ صَامَ عَنْ بَعْضِ الْمُدِّ يَوْمًا
كَامِلًا بِلَا خِلَافٍ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ
مِنْ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا. وَمِمَّنْ
صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَحَيْثُ
قُلْنَا بِالْإِطْعَامِ قَالَ صَاحِبُ
"البحر": أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَ
الْوَاجِبَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ إنْ أَمْكَنَهُ ثَلَاثَةً فَإِنْ
دَفَعَ إلَى اثْنَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
ثَالِثٍ ضَمِنَ، وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الثُّلُثُ وأصحهما: مَا
يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُمَا
كَالْخِلَافِ فِيمَنْ دَفَعَ نَصِيبَ صِنْفٍ
مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ إلَى اثْنَيْنِ،
فَإِنْ فَرَّقَ عَلَى مَسَاكِينَ فَهَلْ
يَتَعَيَّنُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ أَمْ
لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا
الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ
وَغَيْرُهُمَا أصحهما: لَا يَتَعَيَّنُ، بَلْ
يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمِسْكِينَ أَقَلَّ
مِنْ مُدٍّ وَأَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ، كَمَا لَوْ
ذَبَحَ الدَّمَ وَفَرَّقَ اللَّحْمَ،
فَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ،
وَيُجْزِئُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْمِسْكِينِ
الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ الثاني: يَتَقَدَّرُ
بِمُدٍّ كَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ
أَكْثَرَ لَمْ تُحْسَبْ الزِّيَادَةُ، وَإِنْ
أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ لَمْ يُحْسَبْ
شَيْءٌ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ
الْمُدِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَيْثُ
قُلْنَا بِالْبَدَنَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ
الشَّاةِ، فَالْمُرَادُ مَا يُجْزِئُ فِي
الْأُضْحِيَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَسَيَأْتِي
إيضَاحُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ
الله تعالى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ وَطِئَ الْمُحْرِمُ
زَوْجَاتٍ لَهُ فَهُوَ كَوَطْءِ الْوَاحِدَةِ
فَيَفْسُدُ حَجُّهُ وَحَجُّهُنَّ، وَعَلَيْهِ
وَعَلَيْهِنَّ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ
وَالْقَضَاءُ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَحُكْمُ
نَفَقَتِهِنَّ وَغَيْرُهَا كَمَا مَضَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ كَانَ الْمُحْرِمُ صَبِيًّا فَوَطِئَ
عَامِدًا بُنِيَتْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ فَهُوَ
كَالنَّاسِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِنْ
قُلْنَا: عَمْدُهُ عَمْدٌ فَسَدَ نُسُكُهُ،
وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ، وَعَلَى مَنْ
تَجِبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: فِي مَالِهِ
والثاني عَلَى الْوَلِيِّ، وَقَدْ بَيِّنَاهُ
فِي أَوَّلِ الْحَجِّ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْقَضَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: لَا
يَجِبُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْبَدَنِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ
كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ والثاني يَجِبُ
لِأَنَّ مَنْ فَسَدَ الْحَجُّ بِوَطْئِهِ
وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْبَالِغِ،
فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ
فِي حَالِ الصِّغَرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما:
لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ حَجٌّ وَاجِبٌ، فَلَا
يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ كَحَجَّةِ
الْإِسْلَامِ والثاني يَصِحُّ لِأَنَّهُ
يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاؤُهُ فَصَحَّ مِنْهُ
قَضَاؤُهُ كَالْبَالِغِ؟ وَإِنْ وَطِئَ
الْعَبْدُ فِي إحْرَامِهِ عَامِدًا فَسَدَ
حَجُّهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
ج / 7 ص -253-
وَمَنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ
الْحَجِّ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ
يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِالنَّذْرِ فَلَزِمَهُ
الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ كَالْحُرِّ، وَهَلْ
يَصِحُّ مِنْهُ الْقَضَاءُ فِي حَالِ
الرِّقِّ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّبِيِّ. فَإِنْ قُلْنَا:
إنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَضَاءُ، فَهَلْ
لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْهُ؟ يُبْنَى عَلَى
وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى
الْفَوْرِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ
الْقَضَاءَ عَلَى التَّرَاخِي فَلَهُ مَنْعُهُ
لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ عَلَى الْفَوْرِ،
فَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ، وَإِنْ قُلْنَا:
إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ
أحدهما: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْعُهُ،
لِأَنَّهُ مُوجِبُ مَا أُذِنَ فِيهِ، وَهُوَ
الْحَجُّ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أُذِنَ فِيهِ
والثاني أَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْعَهُ لِأَنَّ
الْمَأْذُونَ فِيهِ حَجَّةٌ صَحِيحَةٌ، فَإِنْ
أُعْتِقَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْفَاسِدِ
وَقَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ
يَقْضِيَ حَتَّى يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
ثُمَّ يَقْضِي، وَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ
التَّحَلُّلِ مِنْ الْفَاسِدِ نُظِرَتْ -
فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُقُوفِ - مَضَى فِي
فَاسِدِهِ ثُمَّ يَحُجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ
فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ يَحُجُّ
عَنْ الْقَضَاءِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ،
وَإِنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْوُقُوفِ مَضَى فِي
فَاسِدِهِ ثُمَّ يَقْضِي، وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ
عَنْ الْقَضَاءِ وَعَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ،
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْسِدْ لَكَانَ
أَدَاؤُهُ يُجْزِئْهُ عَنْ حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ فَإِذَا فَسَدَ وَجَبَ أَنْ
يُجْزِئَهُ قَضَاؤُهُ عَنْ حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ".
الشرح: هَذَا الْفَصْلُ
تَقَدَّمَ بَيَانُ جَمِيعِهِ مَعَ فُرُوعٍ
كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِهِ فِي أَوَائِلِ
الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ
وَأَوْضَحْنَاهُ هُنَاكَ وَقَوْلُ
الْمُصَنِّفِ: بُنِيَتْ - يَعْنِي
الْمَسْأَلَةَ - وَقَوْلُهُ: فِي الصَّبِيِّ
إذَا أُفْسِدَ حَجُّهُ بِالْجِمَاعِ هَلْ
يَجِبُ الْقَضَاءُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما:
لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْبَدَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ
كَالصَّوْمِ اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الزَّكَاةِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ وَطِئَ وَهُوَ قَارِنٌ وَجَبَ مَعَ
الْبَدَنَةِ دَمُ الْقِرَانِ، لِأَنَّهُ دَمٌ
وَجَبَ بِغَيْرِ الْوَطْءِ فَلَا يَسْقُطُ
بِالْوَطْءِ، كَدَمِ الطِّيبِ، وَإِنْ وَطِئَ
ثُمَّ وَطِئَ وَلَمْ يُكَفِّرْ عَنْ
الْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي
الْقَدِيمِ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ
وَاحِدَةٌ كَمَا لَوْ زَنَى ثُمَّ زَنَى
كَفَاهُ لَهُمَا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَقَالَ في
"الجديد": يَجِبُ عَلَيْهِ لِلثَّانِي
كَفَّارَةٌ أُخْرَى، وَفِي الْكَفَّارَةِ
الثَّانِيَةِ قَوْلَانِ أحدهما: شَاةٌ
لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُوجِبُ
الْفَسَادَ، فَوَجَبَتْ فِيهِ شَاةٌ
كَالْقُبْلَةِ بِشَهْوَةِ والثاني يَلْزَمُهُ
بَدَنَةٌ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي إحْرَامٍ
مُنْعَقِدٍ فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ فِي إحْرَامٍ
صَحِيحٍ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ
الْأَوَّلِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ لِأَنَّهُ
قَدْ زَالَ الْإِحْرَامُ فَلَا يَلْحَقُهُ
فَسَادٌ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَفِي
كَفَّارَتِهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهُ
بَدَنَةٌ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي حَالٍ يَحْرُمُ
فِيهِ الْوَطْءُ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ
التَّحَلُّلِ والثاني أَنَّهَا شَاةٌ
لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ لَا تُوجِبُ
الْفَسَادُ، فَكَانَتْ كَفَّارَتُهَا شَاةً،
كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ،
وَإِنْ جَامَعَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ
لَزِمَتْهُ بَدَنَةٌ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا
قَضَاءَ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ
الْمَقْضِيَّ وَاحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ
أَكْثَرُ مِنْهُ".
الشرح: فِيهِ ثَلَاثُ
مَسَائِلَ إحداها: إذَا فَسَدَ حَجُّهُ
بِالْجِمَاعِ ثُمَّ جَامَعَ ثَانِيًا فَفِيهِ
خِلَافٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهُ،
وَبَاقِيهِ مَشْهُورٌ، وَحَاصِلُهُ خَمْسَةُ
أَقْوَالٍ أصحها: تَجِبُ بِالْأَوَّلِ
بَدَنَةٌ وَبِالثَّانِي شَاةٌ والثاني يَجِبُ
لِكُلِّ وَاحِدٍ بَدَنَةٌ والثالث: يَكْفِي
بَدَنَةٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا والرابع: إنْ
كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ جِمَاعِ
الثَّانِي وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ لِلثَّانِي،
وَهِيَ شَاةٌ فِي الْأَصَحِّ وَبَدَنَةٌ فِي
الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ
الْأَوَّلِ كَفَتْهُ بَدَنَةٌ عَنْهُمَا
والخامس: إنْ طَالَ الزَّمَانُ بَيْنَ
الْجِمَاعِينَ أَوْ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ
وَجَبَتْ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِلثَّانِي،
وَفِيهَا الْقَوْلَانِ، وَإِلَّا فَكَفَّارَةً
وَاحِدَةً. وَلَوْ وَطِئَ مَرَّةً ثَالِثَةً
وَرَابِعَةً وَأَكْثَرَ فَفِيهِ هَذِهِ
الْأَقْوَالُ الْأَظْهَرُ: يَجِبُ لِلْأَوَّلِ
بَدَنَةٌ، وَلِكُلِّ مَرَّةٍ بَعْدَهُ شَاةٌ
والثاني يَجِبُ لِكُلِّ مَرَّةٍ بَدَنَةٌ
وَبَاقِي الْأَقْوَالِ ظَاهِرَةٌ، وَدَلِيلُ
الْجَمِيعِ
ج / 7 ص -254-
يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْخِلَافُ إذَا
كَانَ قَدْ قَضَى فِي كُلِّ جِمَاعٍ وَطَرَهُ،
قَالَ: فَأَمَّا لَوْ كَانَ يَنْزِعُ
وَيَعُودُ، وَالْأَفْعَالُ مُتَوَاصِلَةٌ،
وَحَصَلَ قَضَاءُ الْوَطَرِ آخِرًا
فَالْجَمِيعُ جِمَاعٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ.
المسألة الثانية: إذَا وَطِئَ
بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ
التَّحَلُّلِ الثَّانِي فَهَذَا الْوَطْءُ
حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي صِفَةِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ الله
تعالى، وَهَلْ يَفْسُدُ حَجُّهُ؟ فِيهِ
ثَلَاثُ طُرُقٍ أصحها: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ مِنْ
الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ لَا يَفْسُدُ،
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني فِي
فَسَادِهِ وَجْهَانِ أصحهما: يَفْسُدُ والثاني
لَا يَفْسُدُ حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَآخَرُونَ والثالث: حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ
وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِيهِ
قَوْلَانِ "الجديد" لَا يَفْسُدُ و"القديم"
أَنَّهُ مَا بَقِيَ مِنْ حَجِّهِ دُونَ مَا
مَضَى فَلَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهِ، بَلْ
يَخْرُجُ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ وَيُجَدِّدُ
مِنْهُ إحْرَامًا، وَيَأْتِي بِعَمَلِ
عُمْرَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، لِأَنَّ
الْبَاقِيَ مِنْ حَجِّهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ
وَحَلْقٌ، وَذَلِكَ هُوَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ،
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ
الْوَاحِدَةَ الْمُرْتَبِطَةَ لَا يُوصَفُ
بَعْضُهَا بِالْبُطْلَانِ دُونَ بَعْضٍ.
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّهُ لَا
يَفْسُدُ فَقَوْلَانِ أصحهما: عِنْدَ
الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُ شَاةٌ، وَبِهِ قَطَعَ
الْمَحَامِلِيُّ فِي "المقنع" والثاني
يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ، وَصَحَّحَهُ الْبَغَوِيّ
وَأَشَارَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" و
"التجريد" إلَى تَرْجِيحِهِ، وَحَكَى
الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا شَيْءَ
عَلَيْهِ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ. وَاعْلَمْ
أَنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ أَطْلَقُوا
الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَحَكَاهُمَا
الْجُرْجَانِيُّ فِي "التحرير" وَجْهَيْنِ،
وَقَالَ الْمَحَامِلِيُّ في "المجموع" و
"التجريد": الْمَنْصُوصُ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ
وَفِيهِ قَوْلٌ مُخَرَّجٌ أَنَّهُ شَاةٌ
وَالْمَشْهُورُ قَوْلَانِ مُطْلَقًا كَمَا
سَبَقَ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي:
إذَا وَقَفَ الْحَاجُّ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ
يَرْمِ وَلَا طَافَ وَلَا حَلَقَ، وَفَاتَ
وَقْتُ الرَّمْيِ ثُمَّ جَامَعَ فَإِنْ
قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ فَسَدَ حَجُّهُ،
لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ
الْأَوَّلُ فَعَلَيْهِ الْبَدَنَةُ
وَالْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ،
وَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ لَيْسَ نُسُكًا
فَوَجْهَانِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَفْسُدُ
حَجُّهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَفْسُدُ
وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ رَمْي جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ إذَا فَاتَ وَجَبَ فِيهِ الدَّمُ،
وَهَلْ يَتَوَقَّفُ التَّحَلُّلُ عَلَى ذَبْحِ
الدَّمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يَتَوَقَّفُ
فَإِنْ قُلْنَا يَتَوَقَّفُ فَسَدَ حَجُّهُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ
الْأَوَّلُ وَإِلَّا فَلَا. هَذَا كَلَامُ
الْمُتَوَلِّي، وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ
نَحْوَهُ.
المسألة الثالثة: إذَا
جَامَعَ فِي قَضَاءِ الْحَجِّ قَبْلَ
التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَسَدَ الْقَضَاءُ،
وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ
وَالْبَدَنَةُ بِلَا خِلَافٍ وَيَلْزَمُهُ
قَضَاءٌ وَاحِدٌ عَنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ
وَلَوْ تَكَرَّرَ الْقَضَاءُ وَالْإِفْسَادُ
مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَجِبْ إلَّا قَضَاءُ
وَاحِدٌ وَتَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي كُلِّ
مَرَّةٍ أَفْسَدَهَا.
فرع: لَوْ رَمَى جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ فِي اللَّيْلِ مُعْتَقِدًا
أَنَّهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَحَلَقَ
ثُمَّ جَامَعَ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ رَمَى
قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَطَرِيقَانِ
حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وأصحهما: كَمَا لَوْ
وَطِئَ نَاسِيًا فَيَكُونُ فِيهِ الْقَوْلَانِ
والثاني يَفْسُدُ قَطْعًا لِتَقْصِيرِهِ،
وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْبَابِ
الْمَاضِي.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ وَاللِّوَاطُ
وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ كَالْوَطْءِ فِي
الْقُبُلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ
لِأَنَّ الْجَمِيعَ وَطْءٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ".
الشرح: هَذَا الَّذِي قَالَهُ
هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ
مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ الْخُرَاسَانِيِّينَ،
وَقِيلَ: لَا
ج / 7 ص -255-
يَفْسُدُ الْحَجُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
كِتَابِهِ "المجرد" وَغَيْرُهُ مِنْ
أَصْحَابِنَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي
جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا شَاةٌ، وَظَاهِرُ
عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ بِهِ
الْحَجُّ وَلَا الْعُمْرَةُ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي "تعليقه" وَآخَرُونَ: يَفْسُدُ الْحَجُّ
وَالْعُمْرَةُ بِالْوَطْءِ فِي دُبْرِ
الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ، وَتَجِبُ
الْبَدَنَةُ وَهُوَ كَالْوَطْءِ فِي قُبُلِهَا
قَالُوا: وأما الْبَهِيمَةُ فَإِنْ قُلْنَا:
وَطْؤُهَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَكَذَلِكَ وَإِنْ
قُلْنَا: يُوجِبُ التَّعْزِيرَ فَوَجْهَانِ
وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَا عَنْ
الْجُمْهُورِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ لَفَّ عَلَى
ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ فِي امْرَأَةٍ
فَهَلْ يَفْسُدُ حَجُّهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ حَكَاهَا الصَّيْمَرِيُّ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَصاحب
البيان وَغَيْرُهُمْ أصحها: يَفْسُدُ كَمَا
لَوْ لَمْ يَلُفَّ خِرْقَةً، لِأَنَّهُ
يُسَمَّى جِمَاعًا الثاني: لَا، لِأَنَّهُ
إنَّمَا أَوْلَجَ فِي خِرْقَةٍ والثالث:
اخْتَارَهُ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ
وَالصَّيْمَرِيُّ إنْ كَانَتْ الْخِرْقَةُ
رَقِيقَةً لَا تَمْنَعُ الْحَرَارَةَ
وَاللَّذَّةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَإِلَّا فَلَا،
وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْأَوْجُهُ فِي بَابِ
مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَسَبَقَ أَنَّهَا
جَارِيَةٌ فِي كُلِّ الْأَحْكَامِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جِمَاعٌ فِي كُلِّ
الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ
مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، أَنَّ أَحْكَامَ
الْوَطْءِ تَتَعَلَّقُ بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ
الْحَشَفَةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ
أَحْكَامِ الْوَطْءِ بِبَعْضِ الْحَشَفَةِ
وَأَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْطُوعَهَا فَإِنْ
بَقِيَ مِنْ الذَّكَرِ دُونَ قَدْرِ
الْحَشَفَةِ فَلَا حُكْمَ لِإِيلَاجِهِ وَإِنْ
كَانَ قَدْرَهَا تَعَلَّقَتْ الْأَحْكَامُ
بِتَغْيِيبِهِ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ
فَوَجْهَانِ الأصح: يَتَعَلَّقُ بِقَدْرِهَا
والثاني لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِكُلِّ
الْبَاقِي وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ
اسْتِدْخَالَ الْمَرْأَةِ ذَكَرَ بَهِيمَةِ
لَهُ حُكْمُ وَطْءِ الرَّجُلِ لَهَا، وَفِي
اسْتِدْخَالِ الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ
وَجْهَانِ الأصح: أَنَّهُ كَالْوَطْءِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ
بَاشَرَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ
لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ لِأَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ
لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِجِنْسِهَا، فَلَمْ
تُفْسِدْ الْحَجَّ كَالْمُبَاشَرَةِ بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ فِدْيَةُ
الْأَذَى لِأَنَّهُ اسْتِمْتَاعٌ لَا يُفْسِدُ
الْحَجَّ فَكَانَتْ كَفَّارَتُهُ
[كَكَفَّارَةِ] فِدْيَةِ الْأَذَى وَالطِّيبِ
وَالِاسْتِمْنَاءُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا
دُونَ الْفَرْجِ فِي الْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَتِهَا فِي التَّحْرِيمِ
وَالتَّعْزِيرِ، فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي
الْكَفَّارَةِ".
الشرح: قَدْ سَبَقَ فِي
الْإِحْرَامِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ
كَالْقُبْلَةِ وَالْمُفَاخَذَةِ وَاللَّمْسِ
بِشَهْوَةٍ وَنَحْو ذَلِكَ، هَذَا إذَا كَانَ
قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ فَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا فَفِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ
فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ خِلَافٌ
مَشْهُورٌ فِي بَابِ صِفَةِ الْحَجِّ وَمَتَى
ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فَبَاشَرَ عَمْدًا
عَالَمًا بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارًا لَمْ
يَفْسُدْ حَجُّهُ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا،
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَلَا
تَلْزَمُهُ الْبَدَنَةُ بِلَا خِلَافٍ،
وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ الصُّغْرَى وَهِيَ
فِدْيَةُ الْحَلْقِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا
فِي أَوَّلِ الْبَابِ وأما: اللَّمْسُ
وَالْقُبْلَةُ وَنَحْوُهُمَا بِغَيْرِ
شَهْوَةٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا فِدْيَةَ
فِيهِ بِلَا خِلَافٍ وأما: قَوْلُ إمَامِ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ: كُلُّ
مُبَاشَرَةٍ نَقَضَتْ الْوُضُوءَ فَهِيَ
حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَغَلَطٌ وَسَبَقَ
فَلَمْ يَتَأَوَّلْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ
كُلُّ مُلَامَسَةٍ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَهِيَ
مُحْرِمَةٌ، بِشَرْطِ كَوْنِهَا بِشَهْوَةٍ،
وَمُرَادُهُمَا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ
اسْتِيعَابُ صُوَرِ اللَّمْسِ اتِّفَاقًا
وَاخْتِلَافًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَصاحب "البيان": لَوْ قَدِمَ الْمُحْرِمُ
مِنْ سَفَرٍ، أَوْ قَدِمَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ
سَفَرٍ فَقَبَّلَهَا أَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا
سَفَرًا فَوَدَّعَهَا وَقَبَّلَهَا، فَإِنْ
قَصَدَ تَحِيَّةَ الْقَادِمِ وَالْمُسَافِرِ
وَإِكْرَامِهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ شَهْوَةً
فَلَا فِدْيَةَ، وَإِنْ قَصَدَ الشَّهْوَةَ
عَصَى وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ
يَقْصِدْ شَيْئًا فَوَجْهَانِ أحدهما: لَا
فِدْيَةَ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَالِ يَقْتَضِي
التَّحِيَّةَ الثاني: تَجِبُ لِأَنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ لِلشَّهْوَةِ، فَلَا تَنْصَرِفُ
عَنْهَا إلَّا بِنِيَّةٍ، هَكَذَا
ج / 7 ص -256-
قَالُوهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ،
وَالصَّوَابُ أَنْ لَا فِدْيَةَ، لِأَنَّهَا
لَا تَجِبُ إلَّا بِالشَّهْوَةِ، وَلَمْ
يَقْصِدْ هُنَا شَهْوَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ
قَصْدُ غَيْرِ الشَّهْوَةِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: إذَا قَبَّلَ
الْمُحْرِمُ امْرَأَتَهُ بِشَهْوَةٍ
وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ثُمَّ جَامَعَهَا،
فَلَزِمَتْهُ الْبَدَنَةُ، فَهَلْ تَسْقُطُ
عَنْهُ الشَّاةُ وَتَنْدَرِجُ فِي
الْبَدَنَةِ؟ أَمْ تَجِبَانِ مَعًا فِيهِ
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ
وَآخَرُونَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُمَا
مَبْنِيَّانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي
الْمُحْدِثِ إذَا أَجْنَبَ هَلْ يَنْدَرِجُ
الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ وَيَكْفِيه
الْغُسْلُ أَمْ لَا؟ إنْ أَدْرَجْنَاهُ
هُنَاكَ أَدْرَجْنَاهُ هُنَا وَإِلَّا فَلَا،
وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ
قَرِيبًا فِي فَصْلِ مَنْ لَبِسَ ثُمَّ
لَبِسَ، أَوْ تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ
وَذَكَرْنَا فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ أصحها:
تَكْفِيهِ بَدَنَةٌ والثاني تَجِبُ بَدَنَةٌ
وَشَاةٌ والثالث: إنْ قَصَدَ بِالْمُبَاشَرَةِ
الشُّرُوعَ فِي الْجِمَاعِ فَبَدَنَةٌ
وَإِلَّا فَبَدَنَةٌ وَشَاةٌ والرابع: إنْ
قَصُرَ الزَّمَانُ بَيْنَهُمَا فَبَدَنَةٌ،
وَإِلَّا فَبَدَنَةٌ وَشَاةٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. وَلَوْ وَطِئَ وَطْئًا يُوجِبُ
الْبَدَنَةَ ثُمَّ بَاشَرَ دُونَ الْفَرْجِ
بِشَهْوَةٍ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ كَانَ
كَفَّرَ عَنْ الْجِمَاعِ قَبْلَ
الْمُبَاشَرَةِ لَزِمَهُ لِلْمُبَاشَرَةِ
شَاةٌ، وَإِلَّا فَفِي انْدِرَاجِهَا فِي
الْبَدَنَةِ وَجْهَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا اسْتَمْنَى
بِيَدِهِ وَنَحْوُهَا فَأَنْزَلَ، عَصَى بِلَا
خِلَافٍ، وَفِي لُزُومِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ
وَالْفُورَانِيّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصاحب
"البيان" وَآخَرُونَ أصحهما: عِنْدَهُمْ
وُجُوبُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنَّفُ هُنَا
وَفِي "التنبيه" وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَغَيْرُهُمَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَالثَّانِي: لَا فِدْيَةَ لِأَنَّهُ إنْزَالٌ
مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ، فَأَشْبَهَ
مَنْ نَظَرَ فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ لَا
فِدْيَةَ فإن قلنا: بِالْفِدْيَةِ فَهِيَ
فِدْيَةُ الْحَلْقِ كَمَا قُلْنَا فِي
مُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ
وَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ بِالِاسْتِمْنَاءِ
بِلَا خِلَافٍ وأما: إذَا نَظَرَ إلَى
امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ وَكَرَّرَ النَّظَرَ
حَتَّى أَنْزَلَ فَلَا يَفْسُدُ حَجُّهُ،
وَلَا فِدْيَةَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَمَالِكٌ: يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ
الْقَضَاءُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الْفِدْيَةِ رِوَايَتَانِ إحداهما: تَجِبُ
بَدَنَةٌ وَالثَّانِيَةُ: شَاةٌ وَبِهِ قَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ إنْزَالٌ
مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَأَشْبَهَ إذَا
فَكَّرَ فَأَنْزَلَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ.
فرع: لَوْ بَاشَرَ غُلَامًا
حَسَنًا بِغَيْرِ الْوَطْءِ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ
كَمُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا
مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فَأَشْبَهَتْهَا
فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ وَفِيهِ وَجْهٌ
ضَعِيفٌ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ لَا
فِدْيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ
الْإِحْرَامِ وَأَوْضَحْنَا هُنَاكَ ضَعْفَ
هَذَا الْوَجْهِ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
لَوْ أَوْلَجَ الْمُحْرِمُ ذَكَرَهُ فِي
قُبُلِ خُنْثَى مُشْكِلٍ لَمْ يَفْسُدْ
حَجُّهُ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ رَجُلٌ، فَيَكُونُ قَدْ
أَوْلَجَ فِي عُضْوٍ زَائِدٍ مِنْ رَجُلٍ،
فَلَا يَفْسُدُ بِالشَّكِّ لَكِنْ إنْ
أَنْزَلَ لَزِمَهُ الْغُسْلُ وَشَاةٌ،
كَمُبَاشَرَةِ الْمَرْأَةِ بِدُونِ
الْجِمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَلَا
غَسْلَ وَلَا شَاةَ، وَلَا شَيْءَ سِوَى
التَّعْزِيرِ وَالْإِثْمِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ مِنْ مُبَاشَرَةِ
الْمُحْرِمِ الْمَرْأَةَ وَنَحْوِهَا:
إحداها: إذَا وَطِئَهَا فِي
الْقُبُلِ عَامِدًا عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ
قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، فَسَدَ
حَجُّهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيمَا
يَجِبُ عَلَيْهِ خِلَافٌ لَهُمْ،
فَمَذْهَبُنَا أَنَّ وَاجِبَهُ بَدَنَةٌ كَمَا
سَبَقَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ
جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
ذَكَرْنَا بَعْضَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذَا
الْفَصْلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ
شَاةٌ لَا بَدَنَةٌ وَقَالَ دَاوُد: هُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ بَدَنَةٍ وَبَقَرَةٍ
وَشَاةٍ.
ج / 7 ص -257-
الثَّانِيَةُ: إذَا وَطِئَهَا بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ
التَّحَلُّلَيْنِ فَسَدَ حَجُّهُ. وَعَلَيْهِ
الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَبَدَنَةٌ
وَالْقَضَاءُ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يَفْسُدُ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ
بَدَنَةٌ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ
لَا يَفْسُدُ دَلِيلُنَا أَنَّهُ وَطِئَ فِي
إحْرَامٍ كَامِلٍ فَأَشْبَهَ الْوَطْءَ قَبْلَ
الْوُقُوفِ. احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ:
"الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ
فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" قَالَ أَصْحَابُنَا:
هَذَا مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ
فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
أَنَّ مَعْنَاهُ فَقْدُ أَمْنِ الْفَوَاتِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا وَطِئَ
بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ
الثَّانِي لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ عِنْدَنَا
وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَوَافَقْنَا
أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ،
وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا وَطِئَ بَعْدَ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ لَزِمَهُ
أَعْمَالُ عُمْرَةٍ وَلَا يُجْزِئْهُ حَجُّهُ
لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَيْهِ أَعْمَالُ
عُمْرَةٍ وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ
وَالْحَلْقُ، وَقَالَا: فَيَلْزَمُهُ
الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ وَيُحْرِمُ
بِعُمْرَةٍ، وَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي الْفِدْيَةِ هَلْ
هِيَ شَاةٌ أَمْ بَدَنَةٌ؟
الرابعة: إذَا وَطِئَ فِي
الْحَجِّ وَطْئًا مُفْسِدًا لَمْ يَزُلْ
بِذَلِكَ عَقْدَ الْإِحْرَامِ، بَلْ عَلَيْهِ
الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْقَضَاءُ،
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَالْعَبْدَرِيُّ هُوَ قَوْلُ
عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُد:
يَزُولُ الْإِحْرَامُ بِالْإِفْسَادِ
وَيَخْرُجُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْسَادِ،
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ
أَيْضًا قَالَ وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ،
قَالَ: وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ
رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ قَالُوا: وَالْفَاسِدُ لَيْسَ مِمَّا
عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى
الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَاسْتَدَلَّ
أَصْحَابُنَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،
وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنْهُمْ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ،
وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ يَجِبُ بِهِ قَضَاءُ
الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ بِهِ
مِنْ الْحَجِّ كَالْفَوَاتِ. وَالْجَوَابُ
عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الَّذِي لَيْسَ
عَلَيْهِ أَمْرُ صَاحِبِ الشَّرْعِ إنَّمَا
هُوَ الْوَطْءُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، وَأَمَّا
الْحَجُّ فَعَلَيْهِ أَمْرُ صَاحِبِ الشَّرْعِ
وأما: قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ
مِنْهُمَا بِالْقَوْلِ، فَكَذَا
بِالْإِفْسَادِ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَلِأَنَّ
مَحْظُورَاتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
تُنَافِيهِمَا بِخِلَافِ الْحَجِّ.
الرابعة:1 إذَا وَطِئَ
امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ فَسَدَ
حَجُّهُمَا وَقَضَيَا وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا
فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ
فَلَا يَجْتَمِعَانِ إلَّا بَعْدَ
التَّحَلُّلِ، وَهَلْ التَّفْرِيقُ وَاجِبٌ؟
أَمْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَوْ
وَجْهَانِ عِنْدَنَا: أصحهما: مُسْتَحَبٌّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: وَاجِبٌ، وَزَادَ
مَالِكٌ فَقَالَ: يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ
يُحْرِمَانِ، وَلَا يُنْتَظَرُ مَوْضِعُ
الْجِمَاعِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا
يَفْتَرِقَانِ، وَمِمَّنْ قَالَ
بِالتَّفْرِيقِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَعُثْمَانُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَاحْتَجَّ أَبُو
حَنِيفَةَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَطْءِ فِي
نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُمَا إذَا قَضَيَا
لَا يَفْتَرِقَانِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا
بِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ
وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إذَا اجْتَمَعَا
أَنْ يَتَذَكَّرَا مَا جَرَى فَيَتُوقَا
إلَيْهِ فَيَفْعَلَاهُ، وَالْجَوَابُ عَنْ
قِيَاسِهِ عَلَى الصَّوْمِ أَنَّ زَمَنَهُ
قَصِيرٌ، فَإِذَا تَاقَ أَمْكَنَهُ الْجِمَاعَ
بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الْحَجِّ.
الْخَامِسَةُ: إذَا أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مِنْ مَوْضِعٍ
قَبْلَ الْمِيقَاتِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ،
لَزِمَهُ فِي الْقَضَاءِ الْإِحْرَامُ مِنْ
ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَحَكَى ابْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرابعة هنا مكررة ولعلها الرابعة عشرة
ويكون موضعها عقب الثالثة عشرة فتأمل.
ج / 7 ص -258-
الْمُنْذِرِ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ
يَحْرُمُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي جَامَعَ
فِيهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ:
إنْ كَانَ حَاجًّا كَفَاهُ الْإِحْرَامُ مِنْ
الْمِيقَاتِ. وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَمِنْ
أَدْنَى الْحِلِّ، وَاحْتَجَّا بِأَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ
لِعَائِشَةَ: "اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ مِنْ
التَّنْعِيمِ بِالْعُمْرَةِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاحْتَجَّ
أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا مَسَافَةٌ وَجَبَ
قَطْعُهَا فِي أَدَاءِ الْحَجِّ فَوَجَبَ فِي
الْقَضَاءِ كَالْمِيقَاتِ وَأَمَّا حَدِيثُ
عَائِشَةَ فَإِنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً
فَأَدْخَلَتْ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ،
وَمَعْنَى اُرْفُضِي عُمْرَتَكِ أَيْ دَعِي
إتْمَامَ الْعَمَلِ فِيهَا وَاقْتَصِرِي عَلَى
أَعْمَالِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا تَكْفِيَكِ
عَنْ حَجِّكِ وَعَنْ عُمْرَتِكِ، وَلِهَذَا
قَالَ صلى الله عليه وسلم لَهَا فِي "صَحِيحِ
مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ:
"طَوَافُكِ وَسَعْيُكِ يُجْزِئُكِ لِحَجِّكِ
وَعُمْرَتِكِ" فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا لَمْ تُبْطِلْهَا مِنْ أَصْلِهَا،
بَلْ أَعْرَضَتْ عَنْ أَعْمَالِهَا
مُنْفَرِدَةً لِدُخُولِهَا فِي أَعْمَالِ
الْحَجِّ، وَقَدْ بَسَّطْتُ هَذَا
التَّأْوِيلَ بِأَدِلَّتِهِ الصَّحِيحَةِ
الصَّرِيحَةِ فِي "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
رحمه الله وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ
أَفْسَدَ حَجَّهُ بَدَنَةٌ، وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ
وَمُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ، إلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ
وَإِسْحَاقَ قَالَا: إنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً
كَفَاهُ شَاةٌ. وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ آخَرِينَ
إنْ لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ
فَقَدَهَا فَسَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ، فَإِنْ
فَقَدَهَا أَخْرَجَ بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ
طَعَامًا، فَإِنْ فَقَدَ صَامَ عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ
أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ،
وَسَبَقَ بَيَانُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ
فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ.
دَلِيلُنَا آثَارُ الصَّحَابَةِ.
السَّابِعَةُ: إذَا وَطِئَ
الْقَارِنُ فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ،
وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِمَا
وَتَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ لِلْوَطْءِ، وَشَاةٌ
بِسَبَبِ الْقِرَانِ، فَإِذَا قَضَى لَزِمَهُ
أَيْضًا شَاةٌ أُخْرَى، سَوَاءٌ قَضَى
قَارِنًا أَمْ مُفْرَدًا لِأَنَّهُ تَوَجَّهَ
عَلَيْهِ الْقَضَاءُ قَارِنًا، فَإِذَا قَضَى
مُفْرِدًا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ
الْقِرَانِ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَبِهَذَا
كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ إنْ وَطِئَ قَبْلَ طَوَافِ
الْعُمْرَةِ فَسَدَ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ،
وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِمَا،
وَالْقَضَاءُ وَعَلَيْهِ شَاتَانِ شَاةٌ
لِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَشَاةٌ لِإِفْسَادِ
الْعُمْرَةِ. وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ
الْقِرَانِ، فَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ طَوَافِ
الْعُمْرَةِ فَسَدَ حَجُّهُ، وَعَلَيْهِ
قَضَاؤُهُ وَذَبْحُ شَاةٍ وَلَا تَفْسُدُ
عُمْرَتُهُ فَيَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ بِسَبَبِهَا
وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ، قَالَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ قَالَ:
يَلْزَمُهُ هَدْيٌ وَاحِدٌ عَطَاءُ وَابْنُ
جُرَيْجٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ
الْحَكَمُ: يَلْزَمُهُ هَدَيَانِ.
الثَّامِنَةُ: إذَا أَفْسَدَ
الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ حَجَّهُمَا
بِالْوَطْءِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي
مَذْهَبِنَا أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُهُمَا
بَدَنَةٌ؟ أَمْ بَدَنَتَانِ؟ قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَأَوْجَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالضَّحَّاكُ
وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
هَدْيًا، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ:
عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَنَةٌ،
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: إنْ كَانَ
قَبْلَ عَرَفَةَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا شَاةٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ
رِوَايَتَانِ: إحداهما: يُجْزِئُهُمَا هَدْيٌ،
وَالثَّانِيَةُ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا هَدْيٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ
وَإِسْحَاقُ لَزِمَهُمَا هَدْيٌ وَاحِدٌ.
التَّاسِعَةُ: إذَا جَامَعَ
مِرَارًا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ
عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمَرَّةِ
الْأُولَى بَدَنَةٌ وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ
بَعْدَهَا شَاةٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ:
عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ أَبُو
ثَوْرٍ: لِكُلِّ وَطْءٍ بَدَنَةٌ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ فَدَمٌ، وَإِلَّا فَدَمَانِ وَقَالَ
مُحَمَّدٌ: إنْ لَمْ يَكُنْ كَفَّرَ عَنْ
الْأَوَّلِ كَفَاهُ لَهُمَا كَفَّارَةٌ
وَإِلَّا فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ
أُخْرَى. دَلِيلُنَا أَنَّ الثَّانِيَ
مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ
ج / 7 ص -259-
لَمْ
تُفْسِدْ نُسُكًا فَوَجَبَتْ فِيهَا شَاةٌ
كَالْمُبَاشَرَةِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ.
الْعَاشِرَةُ: لَوْ وَطِئَ
امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ لَاطَ بِرَجُلٍ
أَوْ أَتَى بَهِيمَةً فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَفْسُدُ
حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
هَذَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَهِيمَةُ
لَا تُفْسِدُ وَلَا فِدْيَةَ، وَفِي الدُّبْرِ
رِوَايَتَانِ، وَقَالَ دَاوُد: لَا تُفْسِدُ
الْبَهِيمَةُ وَاللِّوَاطُ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ
وَطِئَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ
يَفْسُدْ حَجُّهُ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ شَاةٌ
فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَبَدَنَةٌ فِي
الْآخَرِ، سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا وَكَذَا
قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لَا يَفْسُدُ
مِمَّنْ قَالَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: دَمٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
عِنْدِي عَلَيْهِ شَاةٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ
وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ: إنْ أَنْزَلَ فَسَدَ
حَجُّهُ وَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ وَعَنْ أَحْمَدَ
فِي فَسَادِهِ رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا إذَا
قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ عِنْدَنَا
كَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَلَا
يَفْسُدُ الْحَجُّ، وَتَجِبُ شَاةٌ فِي
الْأَصَحِّ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ
وَعَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ
وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ:
رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَرَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُ،
وَعَنْ عَطَاءٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ: إحداها: كَقَوْلِ ابْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَالثَّانِيَةُ: عَلَيْهِ
بَقَرَةٌ، وَالثَّالِثَةُ: يَفْسُدُ حَجُّهُ،
وَالرَّابِعَةُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَلْ
يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تعالى.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ
رَدَّدَ النَّظَرَ إلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى
أَمْنَى لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ، وَلَا
فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ: يَفْسُدُ حَجُّهُ
وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ، وَقَالَ عَطَاءٌ:
عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلَ وَعَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ، إحداهما: عَلَيْهِ
بَدَنَةٌ، وَالثَّانِيَةُ: دَمٌ وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ: عَلَيْهِ دَمٌ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذَا
وَطِئَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَ الطَّوَافِ
وَقَبْلَ السَّعْيِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ
وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا،
وَالْقَضَاءُ وَالْبَدَنَةُ، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ لَكِنَّهُمَا قَالَا:
عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْهَدْيُ، وَقَالَ
عَطَاءٌ: عَلَيْهِ شَاةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ
الْقَضَاءَ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ
وَإِسْحَاقُ: يُرِيقُ دَمًا وَقَدْ تَمَّتْ
عُمْرَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْعُمْرَةُ وَالطَّوَافُ، وَاحْتَجَّ
إِسْحَاقُ بِهَذَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
إنْ جَامَعَ بَعْدَ أَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ
أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسُدْ
عُمْرَتُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ: وَإِنْ كَانَ
طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ
وَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا وَالْقَضَاءُ وَدَمٌ،
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى
أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ قَبْلَ الطَّوَافِ
فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، أَمَّا إذَا جَامَعَ
بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَقَبْلَ
الْحَلْقِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا
فَسَادُ الْعُمْرَةِ إنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ
نُسُكٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ، قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَلَا أَحْفَظُ هَذَا عَنْ
غَيْرِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ
دَمٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْهَدْيُ،
وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَعْلَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا نُظِرَتْ إنْ كَانَ
لَهُ مِثْلٌ مِنْ النَّعَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ
مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ وَالنَّعَمِ هِيَ
الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ،
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ:
{وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] فَيَجِبُ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ
الْوَحْشِ وَبَقَرَةِ
ج / 7 ص -260-
الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الضَّبُعِ كَبْشٌ،
وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ وَفِي الْأَرْنَبِ
عَنَاقٌ1 وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، لِمَا
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ
الزُّبَيْرِ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم
"أَنَّهُمْ قَضَوْا فِي النَّعَامَةِ
بِبَدَنَةٍ" وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه
أَنَّهُ "جَعَلَ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ
بَقَرَةً" وَحَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ
وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي
الْيَرْبُوعِ بِجَفَرَةٍ" وَعَنْ عُثْمَانَ
رضي الله عنه أَنَّهُ حَكَمَ فِي أُمِّ
حُبَيْنٍ بِحُلَّانِ وَهُوَ الْحَمَلُ، فَمَا
حَكَمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ لَا يَحْتَاجُ
فِيهِ إلَى اجْتِهَادٍ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ يَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ
الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّعَمِ
إلَى عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ،
لقوله تعالى:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً} [المائدة: 95] وَرَوَى قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ الْأَسْدِي قَالَ:
"أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ
فَأَتَيْتُ عُمَرَ رضي الله عنه وَمَعِي
صَاحِبٌ لِي، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،
فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ إلَى جَانِبِهِ
فَشَاوَرَهُ، فَقَالَ لِي: اذْبَحْ شَاةً،
فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قُلْتُ لِصَاحِبِي:
إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَدْرِ مَا
يَقُولُ، فَسَمِعَنِي عُمَرُ فَأَقْبَلَ
عَلَيَّ ضَرْبًا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ
أَتَقْتُلُ صَيْدًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ
وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا - أَيْ تَحْتَقِرُهَا -
وَتَطْعَنُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً} هَا آنَذَا عُمَرُ وَهَذَا ابْنُ عَوْفٍ".
فَصْلٌ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ
يَكُونَا فَقِيهَيْنِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَهُمَا فِيهِ
وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ لِلْمَالِ
أَحَدَ الْمُقَوِّمِينَ، والثاني أَنَّهُ
يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ
عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى فَجَازَ أَنْ
يَجْعَلَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَمِينًا فِيهِ
كَرَبِّ الْمَالِ فِي الزَّكَاةِ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَفْدِيَ الصَّغِيرَ بِالصَّغِيرِ،
وَالْكَبِيرَ بِالْكَبِيرِ، فَإِنْ فَدَى
الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى جَازَ لِأَنَّهَا
أَفْضَلُ، وَإِنْ فَدَى الْأَعْوَرَ مِنْ
الْيَمِينِ بِالْأَعْوَرِ مِنْ الْيَسَارِ
جَازَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِمَا وَاحِدٌ
وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمِثْلُ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ الْمِثْلَ
وَيُفَرِّقَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُقَوِّمَهُ
بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ
عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا لقوله تعالى:
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}
[المائدة: 95]2.
وَإِنْ جَرَحَ صَيْدًا لَهُ مِثْلٌ فَنَقَصَ
عُشْرَ قِيمَتِهِ فَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ عُشْرُ ثَمَنِ الْمِثْلِ،
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجِبُ عَلَيْهِ
عُشْرُ الْمِثْلِ، وَتَأَوَّلَ النَّصُّ
عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَجِدْ عُشْرَ الْمِثْلِ،
لِأَنَّ مَا ضُمِنَ كُلُّهُ بِالْمِثْلِ
ضُمِنَ بَعْضُهُ بِالْمِثْلِ كَالطَّعَامِ،
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمَنْصُوصِ أَنَّ
إيجَابَ بَعْضِ الْمِثْلِ يَشُقُّ فَوَجَبَ
الْعُدُولُ إلَى الْقِيمَةِ كَمَا عَدَلَ فِي
خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ إلَى الشَّاةِ حِينَ
شَقَّ إيجَابُ جُزْءٍ مِنْ الْبَعِيرِ، وَإِنْ
ضَرَبَ صَيْدًا حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ وَلَدًا
حَيًّا ثُمَّ مَاتَا ضَمِنَ الْأُمَّ
بِمِثْلِهَا، وَضَمِنَ الْوَلَدَ بِمِثْلِهِ،
وَإِنْ ضَرَبَهَا فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا
مَيِّتًا وَالْأُمُّ حَيَّةٌ ضَمِنَ مَا
بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَحَائِلًا، وَلَا
يَضْمَنُ الْجَنِينَ.
فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ
الصَّيْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ
وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فِي الْمَوْضِعِ
الَّذِي أَتْلَفَهُ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ
مَرْوَانَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه
عَنْ الصَّيْدِ بِصَيْدِهِ الْمُحَرَّمَ وَلَا
مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: ثَمَنُهُ يُهْدَى إلَى مَكَّةَ،
وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ
فِيهِ فَضُمِنَ بِالْقِيمَةِ كَمَالِ
الْآدَمِيِّ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَ
فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ
بِثَمَنِهِ طَعَامًا وَيُفَرِّقُهُ، وَبَيْنَ
أَنْ يُقَوِّمَ ثَمَنَهُ طَعَامًا، وَيَصُومُ
عَنْ كُلِّ مُدٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العناق كسحاب من أولاد المعز (ط).
2 ما بين المعقوفين ساقط ش و ق (ط).
ج / 7 ص -261-
يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ طَائِرًا
نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ حَمَامًا وَهُوَ
الَّذِي يَعُبُّ وَيَهْدِرُ كَاَلَّذِي
يَقْتَنِيهِ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ،
كَالدُّبْسِيِّ وَالْقُمْرِيِّ وَالْفَاخِتَةِ
فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ شَاةٌ، لِأَنَّهُ
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ وَابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ الْحَمَامَ
يُشْبِهُ الْغَنَمَ، لِأَنَّهُ يَعُبُّ
وَيَهْدِرُ كَالْغَنَمِ فَضُمِنَ بِهِ، وَإِنْ
كَانَ أَصْغَرَ مِنْ الْحَمَامِ
كَالْعُصْفُورِ وَالْبُلْبُلِ وَالْجَرَادِ
ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ
لَهُ فَضُمِنَ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ
أَكْبَرَ مِنْ الْحَمَامِ كَالْقَطَا
وَالْيَعْقُوبِ وَالْبَطِّ وَالْإِوَزِّ
فَفِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَجِبُ فِيهِ
شَاةٌ، لِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي
الْحَمَامِ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي هَذَا وَهُوَ
أَكْبَرُ أَوْلَى، الثاني: أَنَّهُ يَجِبُ
فِيهَا قِيمَتُهَا لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا
مِنْ النَّعَمِ، فَضُمِنَ بِالْقِيمَةِ،
وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ ضَمِنَهُ
بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ
ثُمَّ نَبَتَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:أحدهما: لَا
يَضْمَنُ، والثاني يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ قَلَعَ شَيْئًا ثُمَّ
نَبَتَ.
فَصْلٌ: وَإِنْ قَتَلَ
صَيْدًا بَعْدَ صَيْدٍ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا جَزَاءٌ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ
مُتْلَفٍ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ
الْإِتْلَافِ، وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ
مِنْ الْمُحْرِمِينَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَجَبَ
عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ بَدَلُ
مُتْلَفٍ يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا اشْتَرَكَ
الْجَمَاعَةُ فِي إتْلَافِهِ قُسِمَ الْبَدَلُ
بَيْنَهُمْ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِذَا
اشْتَرَكَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ فِي قَتْلِ
صَيْدٍ وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ نِصْفُ
الْجَزَاءِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْحَلَالِ
شَيْءٌ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ رَجُلٌ وَسَبُعٌ
فِي قَتْلِ آدَمِيِّ. وَإِنْ أَمْسَكَ
مُحْرِمٌ صَيْدًا فَقَتَلَهُ حَلَالٌ ضَمِنَهُ
الْمُحْرِمُ بِالْجَزَاءِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ
عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ
أَدْخَلَهُ فِي الضَّمَانِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ،
كَمَا لَمْ غَصَبَ مَالًا مِنْ رَجُلٍ
فَأَتْلَفَهُ آخَرُ فِي يَدِهِ.
فَصْلٌ: وَإِنْ جَنَى عَلَى
صَيْدٍ فَأَزَالَ امْتِنَاعَهُ نُظِرَتْ -
فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ - فَفِيهِ
طَرِيقَانِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ:
عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ، وَعَلَى
الْقَاتِلِ جَزَاؤُهُ مَجْرُوحًا إنْ كَانَ
مُحْرِمًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ
حَلَالًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِيهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ
لِأَنَّهُ جَرَحَ وَلَمْ يَقْتُلْ، فَلَا
يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، كَمَا لَوْ
بَقِيَ مُمْتَنِعًا، وَلِأَنَّا لَوْ
أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ جَزَاءً كَامِلًا
وَعَلَى الْقَاتِلِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا -
جَزَاءً كَامِلًا، سَوَّيْنَا بَيْنَ
الْقَاتِلِ وَالْجَارِحِ وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إلَى أَنْ نُوجِبَ عَلَى الْجَارِحِ أَكْثَرَ
مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ، لِأَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ جَزَاؤُهُ صَحِيحًا،
وَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاؤُهُ مَجْرُوحًا
وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالْقَوْلُ
الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ
كَامِلًا لِأَنَّهُ جَعَلَهُ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ فَأَشْبَهَ الْهَالِكَ، فَأَمَّا
إذَا كَسَرَهُ ثُمَّ أَخَذَهُ وَأَطْعَمَهُ
وَسَقَاهُ حَتَّى بَرِئَ نُظِرَتْ - فَإِنْ
عَادَ مُمْتَنِعًا - فَفِيهِ وَجْهَانِ، كَمَا
قُلْنَا فِيمَنْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ فَعَادَ
وَنَبَتَ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ مُمْتَنِعًا
فَهُوَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ: أحدهما:
يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا نَقَصَ، والثاني
يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ.
فَصْلٌ: وَالْمُفْرِدُ
وَالْقَارِنُ فِي كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ
وَاحِدٌ لِأَنَّ الْقَارِنَ كَالْمُفْرِدِ فِي
الْأَفْعَالِ، فَكَانَ كَالْمُفْرِدِ فِي
الْكَفَّارَاتِ.
الشرح: هَذِهِ الْآثَارُ
مَشْهُورَةٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ أَذْكُرَ
الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ
منها: الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ قَبِيصَةَ
بْنِ جَابِرٍ الْأَسْدِي رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَعَنْ
أَبِي حَرِيزٍ بِالْحَاءِ وَآخِرُهُ زَايٌ –
قَالَ: "أَصَبْتُ ظَبْيًا وَأَنَا مُحْرِمٌ
فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ ائْتِ
رَجُلَيْنِ مِنْ إخْوَانِكَ فَلِيَحْكُمَا
عَلَيْكَ، فَأَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
عَوْفٍ وَسَعِيدًا فَحَكَمَا تَيْسًا
أَعَفْرَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ
طَارِقٍ قَالَ: "خَرَجْنَا حُجَّاجًا
فَأَوْطَأَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ
ضَبًّا فَفَزَرَ ظَهْرَهُ، فَقَدِمْنَا عَلَى
عُمَرَ فَسَأَلَهُ أَرْبَدُ فَقَالَ عُمَرُ:
اُحْكُمْ يَا أَرْبَدُ فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ
مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَأَعْلَمُ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّمَا
أَمَرْتُكَ أَنْ تَحْكُمَ فِيهِ وَلَمْ
آمُرْكَ أَنْ تُزَكِّيَنِي، فَقَالَ: أَرْبَدُ
أَرَى فِيهِ جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ
وَالشَّجَرَ، فَقَالَ عُمَرُ بِذَلِكَ فِيهِ"
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
ج / 7 ص -262-
وَعَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: إنْ قَتَلَ نَعَامَةً
فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يُدْرِكْ
ابْنَ عَبَّاسٍ، سَقَطَ بَيْنَهُمَا مُجَاهِدٌ
أَوْ غَيْرُهُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَفِي بَقَرَةِ
الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْإِبِلِ
بَقَرَةٌ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: أَنَّ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ
وَابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ رضي الله عنهم
قَالُوا: فِي النَّعَامَةِ يَقْتُلُهَا
الْمُحْرِمُ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ" رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ
الشَّافِعِيُّ: هَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ عِنْدَ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ
الْأَكْثَرِينَ مِمَّنْ لَقِيتُ،
فَبِقَوْلِهِمْ: فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ،
وَبِالْقِيَاسِ قُلْنَا: بِالنَّعَامَةِ لَا
بِهَذَا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَجْهٌ
ضَعَّفَهُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ فَإِنَّ عَطَاءَ
الْخُرَاسَانِيَّ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَلَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، وَلَا عُثْمَانَ،
وَلَا عَلِيًّا، وَلَا زَيْدًا، وَكَانَ فِي
زَمَنِ مُعَاوِيَةَ صَبِيًّا وَلَمْ يَثْبُتْ
لَهُ سَمَاعٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ
كَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ،
فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تُوُفِّيَ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ إنَّ عَطَاءً
الْخُرَاسَانِيَّ مَعَ انْقِطَاعِ حَدِيثِهِ
مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ
بِالْحَدِيثِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ جَابِرٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ فَقَالَ: "هِيَ صَيْدٌ، وَجَعَلَ فِيهَا كَبْشًا، إذَا صَادَهَا الْمُحْرِمُ"
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ
جَيِّدٌ يَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ ثُمَّ قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ هُوَ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ:
"أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الضَّبُعَ صَيْدًا وَقَضَى فِيهَا كَبْشًا"
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ
الشَّافِعِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ
مِثْلُهُ، لَوْ انْفَرَدَ، قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ
لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ قَالَ وَرُوِيَ
مَوْصُولًا، ثُمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ اخْتِلَافِ
الْمُحَدِّثِينَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِعَمْرٍو
بْنِ أَبِي عَمْرٍو هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَضَى فِي
الضَّبُعِ بِكَبْشٍ وَفِي الْغَزَالِ
بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ، وَفِي
الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ، هَذَا إسْنَادٌ
مُبْلِجٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ مَرْفُوعًا
عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَا: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى عُمَرَ "وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَوْ
حَسَنٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ رضي الله عنهم أجمعين، وَعَنْ عُمَرَ
أَنَّهُ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي
الظَّبْيِ بِشَاةٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ
بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ شُرَيْحٍ،
قَالَ: لَوْ كَانَ مَعِي حُكْمٌ حَكَمْتُ فِي
الثَّعْلَبِ بِجَدْيٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ فِي الثَّعْلَبِ
شَاةٌ وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ
قَضَى فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِحُلَّانٍ مِنْ
الْغَنَمِ، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ فِيهِ
مُطْرَفٌ بْنُ مَازِنٍ قَالَ يَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ. هُوَ كَذَّابٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا: أَلْفَاظُ الْفَصْلِ فَالْعَنَاقُ -
بِفَتْحِ الْعَيْنِ - وَهِيَ مِنْ أَوْلَادِ
الْمَعْزِ خَاصَّةً وَهِيَ الَّتِي1 وأما
الْجَفْرَةُ فَهِيَ الَّتِي بَلَغَتْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَفُصِلَتْ عَنْ
أُمِّهَا وأما أُمُّ حُبَيْنٍ2 فَمَعْرُوفَةٌ
وَهِيَ - بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل وتحريره هكذا: وهي التي من حين
تولد إلى أن ترعى.
2 أم حبين هي على خلقة الحرباء عريضة الصدر
عظيمة البطن على قدر الضفدع غرباء لها أربع
قوائم.
ج / 7 ص -263-
وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ
الْمُخَفَّفَةِ - وأما الْحُلَّانُ1 -
فَبِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ
اللَّامِ - وأما: الْحَمَلُ - فَبِفَتْحِ
الْحَاءِ وَالْمِيمِ - وَهُوَ الْخَرُوفُ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ الْجَدْيُ:
وَيُقَالُ لَهُ: حُلَّامٌ - بِالْمِيمِ -
أَيْضًا، قوله: تَغْمِصُ الْفُتْيَا هُوَ -
بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ
وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ - أَيْ
تَحْتَقِرُهَا وَتَسْتَصْغِرُهَا، وَيُقَالُ:
فُتْيَا وَفَتْوَى الْأُولَى: - بِضَمِّ
الْفَاءِ – وَالثَّانِيَةُ: - بِفَتْحِهَا -
قوله: يَجِبُ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ تعالى
احْتِرَازٌ مِنْ التَّقْوِيمِ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: الصَّيْدُ ضَرْبَانِ:
مِثْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ
النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ
وَالْغَنَمُ، وَغَيْرُ مِثْلِيٍّ وَهُوَ مَا
لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ النَّعَمِ،
فَالْمِثْلِيُّ جُزْءَانِ عَلَى التَّخْيِيرِ
وَالتَّعْدِيلِ، فَيُخَيِّرُ الْقَاتِلُ
بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ مِثْلَهُ فِي الْحَرَمِ
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ، إمَّا بِأَنْ يُفَرِّقَ لَحْمَهُ
عَلَيْهِمْ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ
جُمْلَتَهُ إلَيْهِمْ مَذْبُوحًا
وَيُمَلِّكَهُمْ إيَّاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَدْفَعَهُ إلَيْهِمْ حَيًّا، وَبَيْنَ أَنْ
يُقَوِّمَ الْمِثْلَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ لَا
يَجُوزُ تَفْرِقَةُ الدَّرَاهِمِ، بَلْ إنْ
شَاءَ اشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ
بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَإِنْ
شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا،
وَيَجُوزُ الصِّيَامُ فِي الْحَرَمِ وَفِي
جَمِيعِ الْبِلَادِ وَإِنْ انْكَسَرَ مُدٌّ
وَجَبَ صِيَامُ يَوْمٍ، وَأَمَّا غَيْرُ
الْمِثْلِيِّ فَيَجِبُ فِيهِ قِيمَتُهُ. وَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا دَرَاهِمَ،
بَلْ يُقَوِّمُ بِهَا طَعَامًا ثُمَّ
يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الطَّعَامَ،
وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا،
فَإِنْ انْكَسَرَ مُدٌّ صَامَ يَوْمًا،
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فِي الْمِثْلِيِّ
مُخَيَّرٌ بَيْنً ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
الْحَيَوَانُ وَالطَّعَامُ وَالصِّيَامُ،
وَفِي غَيْرِهِ بَيْنَ الطَّعَامِ
وَالصِّيَامِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَهُوَ
الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيِّ
وَالْأَصْحَابِ.
وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ
قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا عَلَى
التَّرْتِيبِ، هَكَذَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ
الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ، وَمَنْ
بَعْدَهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ، قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَصْحَابُنَا
كُلُّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذَا عَنْ
الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ
الشَّافِعِيِّ شَاذَّةٌ، وَكَذَا نَقَلَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ إنْكَارَ
هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ نَصَّ فِي
"الْقَدِيمِ" عَلَى التَّخْيِيرِ لَا غَيْرُ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
مِثْلِيًّا فَالْمُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي
مَحَلِّ الْإِتْلَافِ وَوَقْتِهِ، وَإِنْ
كَانَ مِثْلِيًّا فَقِيمَتُهُ فِي مَكَانِ
يَوْمِ الِانْتِقَالِ إلَى الطَّعَامِ،
لِأَنَّ مَحَلَّ ذَبْحِهِ مَكَّةُ فَإِذَا
عَدَلَ عَنْ ذَبْحِهِ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ
بِمَحَلِّ الذَّبْحِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ
فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيلَ: فِيهِمَا
قَوْلَانِ أحدهما: الِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ
يَوْمِ الْإِتْلَافِ، والثاني بِقِيمَةِ
يَوْمِ الْعُدُولِ إلَى الْإِطْعَامِ وَقِيلَ:
الْقَوْلَانِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ،
وَأَمَّا مَالَهُ مِثْلٌ فَالْمُعْتَبَرُ
قِيمَةُ الْمِثْلِ حَالَ الْعُدُولِ إلَى
الْإِطْعَامِ قَوْلًا وَاحِدًا، فَهَذِهِ
ثَلَاثَةُ طُرُقٍ الْمَذْهَبُ: مِنْهَا
الْأَوَّلُ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْأَصْحَابُ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ
نَصَّ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَقُومُ
يَوْمَ إخْرَاجِ الطَّعَامِ، وَقَالَ فِي
مَوْضِعٍ: يَجِبُ تَقْوِيمُهُ يَوْمَ قَتْلِ
الصَّيْدِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَيْسَتْ
عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ عَلَى حَالَيْنِ،
فَقَوْلُهُ: يُعْتَبَرُ يَوْمُ الِانْتِقَالِ
إلَى الْإِطْعَامِ أَرَادَ إذَا كَانَ
الصَّيْدُ مِثْلِيًّا، وَقَوْلُهُ: يُعْتَبَرُ
حِينَ الْقَتْلِ أَرَادَ إذَا كَانَ غَيْرَ
مِثْلِيٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُمَا
قَوْلَانِ فِيهِمَا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ
بِالطَّرِيقِ الثَّالِثِ، قَالَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْأَصْحَابُ: الطَّرِيقُ
الْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَاهُ
بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ فَلِإِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ احْتِمَالَانِ فِي أَنَّهُ
يُعْتَبَرُ فِي الْعُدُولِ إلَى الطَّعَامِ
سِعْرُ الطَّعَامِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَمْ
سِعْرُهُ بِمَكَّةَ والثاني مِنْهُمَا
أَصَحُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وأما الحلان فهو الجدي يوجد في بطن أمه.
(المطيعي).
ج / 7 ص -264-
فرع: فِي بَيَانِ الْمِثْلِيِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ
الْمِثْلِيُّ مُعْتَبَرًا عَلَى التَّحْقِيقِ
وَالتَّحْدِيدِ، بَلْ الْمُعْتَبَرُ
التَّقْرِيبُ، وَلَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي
الْقِيمَةِ، بَلْ فِي الصُّورَةِ
وَالْخِلْقَةِ، وَالْكَلَامِ فِي الدَّوَابِّ
ثُمَّ الطُّيُورِ أما: الدَّوَابُّ فَمَا
وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ، أَوْ حَكَمَ فِيهِ
صَحَابِيَّانِ أَوْ عَدْلَانِ مِنْ
التَّابِعِينَ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ مِنْ
النَّعَمِ أَنَّهُ مِثْلُ الصَّيْدِ
الْمَقْتُولِ اُتُّبِعَ ذَلِكَ وَلَا حَاجَةَ
إلَى تَحْكِيمٍ جَدِيدٍ، وَقَدْ حَكَمَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الضَّبُعِ
بِكَبْشٍ، وَحَكَمَتْ الصَّحَابَةُ رضي الله
عنهم فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةٍ، وَفِي
حِمَارِ الْوَحْشِ وَبَقَرَتِهِ بِبَقَرَةٍ،
وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ
بِعَنَاقٍ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ،
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ حَكَمَ
فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِحُلَّانٍ، وَعَنْ
عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي
الْوَبَرِ بِشَاةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنْ كَانَتْ
الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ فَفِيهِ جَفْرَةٌ،
لِأَنَّهُ لَيْسَ أَكْبَرَ بَدَنًا مِنْهَا،
وَعَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي الضَّبِّ
جَدْيٌ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْإِبِلِ
بَقَرَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَنْهُ سَبَقَ
بَيَانُهُ قَرِيبًا وَعَنْ عَطَاءٍ فِي
الثَّعْلَبِ شَاةٌ وَكَذَا قَالَ
الشَّافِعِيُّ فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ وَأَمَّا
الْوَعْلُ فَقَالَ صاحب "البيان": حَكَى ابْنُ
الصَّبَّاغِ أَنَّ فِيهِ بَقَرَةٌ وَبِهَذَا
جَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ
الصَّيْمَرِيُّ: فِيهِ تَيْسٌ قَالَ
الشَّافِعِيُّ في "الأم": فِي الْأَرْوَى
عَضَبٌ وَالْعَضَبُ دُونَ الْجَذَعِ مِنْ
الْبَقَرِ. أَمَّا الْعَنَاقُ فَهِيَ
الْأُنْثَى مِنْ الْمَعْزِ مِنْ حِينِ تُولَدُ
إلَى حِينِ تَرْعَى مَا لَمْ تَسْتَكْمِلْ
سَنَةً وَجَمْعُهَا أَعْنُقٌ وَعُنُوقٌ
وَأَمَّا الْجَفْرَةُ فَقَالَ أَهْلُ
اللُّغَةِ: هِيَ مَا بَلَغَتْ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ، مِنْ
حِينِ تُولَدُ وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا،
وَالذَّكَرُ جَفْرٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ جَفَرَ جَنْبَاهُ أَيْ عَظُمَا،
هَذَا مَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ: قَالَ
الرَّافِعِيُّ: لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ هُنَا بِالْجَفْرَةِ مَا دُونَ
الْعَنَاقِ، لِأَنَّ الْأَرْنَبَ خَيْرٌ مِنْ
الْيَرْبُوعِ.
وأما أُمُّ حُبَيْنٍ فَدَابَّةٌ عَلَى صُورَةِ
الْحِرْبَاءِ عَظِيمَةُ النَّظَرِ، وَفِي
حِلِّ أَكْلِهَا خِلَافٌ سَنُوَضِّحُهُ فِي
كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ إنْ شَاءَ الله تعالى
الأصح: أَنَّهَا حَلَالٌ، وَفِيهَا
الْجَزَاءُ، والثاني حَرَامٌ فَلَا جَزَاءَ،
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيَقَعُ فِي بَعْضِ
كُتُبِ الْأَصْحَابِ فِي الظَّبْيِ كَبْشٌ،
وَفِي الْغَزَالِ عَنْزٌ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ
بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ، وَكَذَا قَالَهُ
أَبُو الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، وَزَعَمَ
أَنَّ الظَّبْيَ ذَكَرُ الْغِزْلَانِ،
وَالْأُنْثَى غَزَالٌ، قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: هَذَا وَهْمٌ بَلْ الصَّحِيحُ
أَنَّ فِي الظَّبْيِ عَنْزًا وَهُوَ شَدِيدُ
الشَّبَهِ بِهَا. فَإِنَّهُ أَجْرَدُ
الشَّعْرِ مُتَقَلِّصُ الذَّنَبِ، وَأَمَّا
الْغَزَالُ فَوَلَدُ الظَّبْيِ فَيَجِبُ فِيهِ
مَا يَجِبُ فِي الصِّغَارِ، قلت: هَذَا
الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ هُوَ الصَّوَابُ،
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْغَزَالُ وَلَدُ
الظَّبْيَةِ إلَى حِينِ يَقْوَى وَيَطْلُعُ
قَرْنَاهُ، ثُمَّ هِيَ ظَبْيَةٌ، وَالذَّكَرُ
ظَبْيٌ.
هَذَا بَيَانُ مَا فِيهِ حُكْمٌ أما مَا
لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ عَنْ السَّلَفِ
فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ
فَطِنَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُمَا
فَقِيهَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَعْرِفُ
بِالشَّبَهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا، وَهَلْ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ
أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ؟ أَوْ يَكُونُ
قَاتِلَاهُ هُمَا الْحُكْمَيْنِ؟ قَالَ
أَصْحَابُنَا: يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْقَتْلُ
عُدْوَانًا فَلَا، لِأَنَّهُ يَفْسُقُ وَإِنْ
كَانَ خَطَأً أَوْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ جَازَ
عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ وَفِيهِ وَجْهٌ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا وَلَوْ حَكَمَ
عَدْلَانِ أَنَّ لَهُ مِثْلًا، وَعَدْلَانِ
أَنْ لَا مِثْلَ فَهُوَ مِثْلِيٌّ لِأَنَّ
مَعَهُمَا زِيَادَةَ عِلْمٍ بِمَعْرِفَةِ
دَقِيقِ الشَّبَهِ، وَلَوْ حَكَمَ عَدْلَانِ
بِمِثْلٍ وَعَدْلَانِ بِمِثْلٍ آخَرَ،
فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ
وَالرُّويَانِيُّ أحدهما: يَتَخَيَّرُ فِي
الْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، والثاني
يَأْخُذُ بِأَغْلَظِهِمَا بِنَاءً عَلَى
الْخِلَافِ فِي اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ،
وَالْأَصَحُّ التَّخْيِيرُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ج / 7 ص -265-
وأما:
الطُّيُورُ فَحَمَامٌ وَغَيْرُهُ،
فَالْحَمَامَةُ فِيهَا شَاةٌ وَغَيْرُهَا، إنْ
كَانَ أَصْغَرَ مِنْهَا جُثَّةً،
كَالزُّرْزُورِ وَالصَّعْوَةِ وَالْبُلْبُلِ
وَالْقُبَّرَةِ وَالْوَطْوَاطِ، فَفِيهِ
الْقِيمَةُ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ
الْحَمَامِ أَوْ مِثْلِهِ فَقَوْلَانِ أصحهما:
وَهُوَ "الْجَدِيدُ" وَأَحَدُ قَوْلَيْ
"الْقَدِيمِ": الْوَاجِبُ الْقِيمَةُ إذْ لَا
مِثْلَ لَهُ والثاني شَاةٌ لِأَنَّهَا إذَا
وَجَبَتْ فِي الْحَمَامَةِ فَاَلَّذِي
أَكْبَرُ مِنْهَا أَوْلَى، وَمِنْ هَذَا
النَّوْعِ الْكُرْكِيُّ وَالْبَطَّةُ
وَالْإِوَزَّة وَالْحُبَارَى وَنَحْوُهَا،
وَالْمُرَادُ بِالْحَمَامِ كُلُّ مَا عَبَّ
فِي الْمَاءِ وَهُوَ أَنْ يَشْرَبَهُ جَرْعًا،
وَغَيْرُ الْحَمَامِ يَشْرَبُ قَطْرَةً
قَطْرَةً، كَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ
فِي "عُيُونِ الْمَسَائِلِ"، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَلَا حَاجَةَ فِي وَصْفِ
الْحَمَامِ إلَى ذِكْرِ الْهَدِيرِ مَعَ
الْعَبُّ فَإِنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ
وَلِهَذَا اقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى
الْعَبِّ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَدْخُلُ فِي
اسْمِ الْحَمَامِ الْيَمَامُ اللَّوَاتِي
يَأْلَفْنَ الْبُيُوتَ، وَالْقَمَرِيُّ
وَالْفَاخِتَةُ وَالْدُسِي وَالُقَطَاءُ،
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُطَوَّقٍ
حَمَامًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
"التَّعْلِيقِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّمَا
أَوْجَبْنَا فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ
اتِّبَاعًا. يَعْنِي إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ
عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ إيجَابُ
الْقِيمَةِ فِيهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ
قَالَ: إنَّمَا أُوجِبَتْ الشَّاةُ فِيهَا
لِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا مِنْ وَجْهٍ،
فَإِنَّهَا تَعُبُّ كَالْغَنَمِ، قَالَ أَبُو
حَامِدٍ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. بَلْ
الْمَنْصُوصُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ شَاةٍ فِي
الْحَمَامَةِ لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا،
قَالَ أَصْحَابُنَا: سَوَاءٌ فِيهِ حَمَامُ
الْحِلِّ وَحَمَامُ الْحُرُمِ، وَقَالَ
مَالِكٌ: إنْ قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ وَهِيَ
فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ، وَإِنْ
أُصِيبَتْ فِي الْحَرَمِ فَفِيهَا شَاةٌ،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: فِيهَا شَاةٌ
مُطْلَقًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يُفْدَى
الْكَبِيرُ مِنْ الصَّيْدِ بِكَبِيرٍ مِثْلِهِ
مِنْ النَّعَمِ وَالصَّغِيرُ بِصَغِيرٍ،
وَالسَّمِينُ بِسَمِينٍ وَالْمَهْزُولُ
بِمَهْزُولٍ، وَالصَّحِيحُ بِصَحِيحٍ،
وَالْمَرِيضُ بِمَرِيضٍ، وَالْمَعِيبُ
بِمَعِيبٍ، إذَا اتَّحَدَ جِنْسُ الْعَيْبِ،
كَأَعْوَرَ بِأَعْوَرَ، فَإِنْ اخْتَلَفَ
كَالْعَوَرِ وَالْجَرَبِ فَلَا، وَإِنْ كَانَ
عَوَرُ أَحَدِهِمَا فِي الْيَمِينِ وَالْآخَرِ
فِي الْيَسَارِ فَفِي إجْزَائِهِ طَرِيقَانِ
أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ
الْعِرَاقِيِّينَ: يَجُوزُ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ والثاني حَكَاهُ
الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما:
هَذَا والثاني لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ
اخْتَلَفَ نَوْعُ الْعَيْبِ كَالْجَرَبِ
وَالْعَوَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَوَرُ
الْيُمْنَى فِي الصَّيْدِ أَوْ فِي الْمِثْلِ،
فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ،
وَرُبَّمَا أَوْهَمَ تَخْصِيصُ الْمُصَنِّفِ
خِلَافَ هَذَا، وَلَكِنْ لَا خِلَافَ فِيهِ،
وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ كَالْمِثَالِ، وَلَوْ
قَالَ فَدَى الْأَعْوَرَ مِنْ عَيْنٍ
بِالْأَعْوَرِ مِنْ أُخْرَى لَكَانَ أَحْسَنَ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَابَلَ
الْمَرِيضَ بِالصَّحِيحِ أَوْ الْمَعِيبَ
بِالسَّلِيمِ فَهُوَ أَفْضَلُ.
وَلَوْ فَدَى الذَّكَرَ بِالْأُنْثَى فَفِيهِ
طُرُقٌ أصحها: عَلَى قَوْلَيْنِ أصحهما:
الْإِجْزَاءُ والثاني الْمَنْعُ والطريق
الثاني: الْقَطْعُ بِالْإِجْزَاءِ، وَبِهِ
قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ والثالث: إنْ أَرَادَ الذَّبْحَ لَمْ
يَجُزْ وَإِنْ أَرَادَ التَّقْوِيمَ جَازَ
لِأَنَّ قِيمَةَ الْأُنْثَى أَكْثَرُ وَلَحْمَ
الذَّكَرِ أَطْيَبُ والرابع: إنْ لَمْ تَلِدْ
الْأُنْثَى جَازَ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهَا
تَضْعُفُ بِالْوِلَادَةِ والخامس: حَكَاهُ
صاحب "البيان" وَغَيْرُهُ إنْ قَتَلَ ذَكَرًا
صَغِيرًا أَجْزَأَهُ أُنْثَى صَغِيرَةً،
وَإِنْ قَتَلَ كَبِيرًا لَمْ تُجْزِئهُ
كَبِيرَةً، فَإِنْ جَوَّزْنَا الْأُنْثَى
فَهَلْ هِيَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
أصحهما: لَا لِلْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ
والثاني نَعَمْ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ
وَإِنْ فَدَى الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ
فَوَجْهَانِ وَقِيلَ قَوْلَانِ، قَالَ أَبُو
عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ: الْمَذْهَبُ:
أَنَّهُ يُجْزَى، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَإِذْ
تَأَمَّلْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ
الْأَصْحَابِ وَجَدْتهمْ طَارِدِينَ
الْخِلَافَ مَعَ نَقْصِ اللَّحْمِ، وَقَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
ج / 7 ص -266-
الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يَنْقُصْ
اللَّحْمُ فِي الْقِيمَةِ وَفِي الطَّيِّبِ،
فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ هَذَيْنِ
النَّقْصَيْنِ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ،
هَذَا كَلَامُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَتَلَ نَعَامَةً
فَأَرَادَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْبَدَنَةِ
إلَى بَقَرَةٍ أَوْ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ
لَمْ يَجُزْ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ
وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ تَصْرِيحًا
وَتَعْرِيضًا وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ
الرُّويَانِيُّ فِي "البحر" أَنَّهُ يَجُوزُ،
لِأَنَّهَا كَهِيَ فِي الْإِجْزَاءِ فِي
الْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
رحمه الله فِي "المختصر": وَإِنْ جَرَحَ
ظَبْيًا فَنَقَصَ عُشْرَ قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ
عُشْرُ قِيمَةِ شَاةٍ، قَالَ الْمُزَنِيّ
تَخْرِيجًا يَلْزَمُهُ عُشْرُ شَاةٍ، قَالَ
جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ الْحُكْمُ مَا قَالَهُ
الْمُزَنِيّ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ
الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ
شَرِيكًا فِي ذَبْحِ شَاةٍ فَأَرْشَدَهُ إلَى
مَا هُوَ أَسْهَلُ، لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ
عَلَى التَّخْيِيرِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ
مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ عُشْرَ
الْمِثْلِ، وَإِنْ شَاءَ صَرَفَ قِيمَتَهُ فِي
طَعَامٍ وَتَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ صَامَ
عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَمِنْ
الْأَصْحَابِ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ النَّصِّ
وَقَالَ: الْوَاجِبُ عُشْرُ الْقِيمَةِ،
وَجَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ
الْمَنْصُوصُ وَتَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ
فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا بِالْمَنْصُوصِ
فَفِيهِ أَوْجُهٌ أصحها: تَتَعَيَّنُ
الصَّدَقَةُ بِالدَّرَاهِمِ والثاني لَا
تُجْزِئهُ الدَّرَاهِمُ، بَلْ يَتَصَدَّقُ
بِالطَّعَامِ أَوْ يَصُومُ والثالث:
يَتَخَيَّرُ بَيْنَ عُشْرِ الْمِثْلِ وَبَيْنَ
إخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ والرابع: إنْ وَجَدَ
شَرِيكًا فِي الدَّمِ أَخْرَجَهُ وَلَمْ
تُجْزِئهُ الدَّرَاهِمُ وَإِلَّا أَجْزَأَهُ
والخامس: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعَةِ
أَشْيَاءَ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ
وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهِ جُزْءًا مِنْ
مِثْلِ ذَلِكَ الصَّيْدِ مِنْ النَّعَمِ
وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ بِهَا طَعَامًا وَإِنْ
شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، هَذَا
كُلُّهُ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ، فَأَمَّا
غَيْرُهُ فَالْوَاجِبُ مَا نَقَصَ مِنْ
قِيمَتِهِ قَطْعًا ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ
الصِّيَامِ وَالطَّعَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَتَلَ صَيْدًا
حَامِلًا قَابَلْنَاهُ بِمِثْلِهِ حَامِلًا،
وَلَا نَذْبَحُ الْحَامِلَ، بَلْ يُقَوَّمُ
الْمِثْلُ حَامِلًا وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ
طَعَامًا أَوْ يَصُومُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ
حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ
حَائِلٍ نَفِيسَةٍ بِقِيمَةِ حَامِلٍ وَسَطٍ،
وَيُجْعَلُ التَّفَاوُتُ كَالتَّفَاوُتِ
بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَوْ ضَرَبَ
بَطْنَ صَيْدٍ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا
مَيِّتًا نُظِرَ إنْ مَاتَتْ الْأُمُّ أَيْضًا
فَهُوَ كَقَتْلِ الْحَامِلِ، وَإِنْ عَاشَتْ
الْأُمُّ ضَمِنَ مَا نَقَصَتْ. وَلَا يَضْمَنُ
الْجَنِينَ. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ بِخِلَافِ جَنِينِ الْأَمَةِ
فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِعُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ
لِأَنَّ الْحَمْلَ يَزِيدُ فِي قِيمَةِ
الْبَهَائِمِ وَيَنْقُصُ الْآدَمِيَّاتُ فَلَا
يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فِي
الْآدَمِيَّاتِ. وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا
حَيًّا ثُمَّ مَاتَا ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، فَيَضْمَنُ كُلَّ
وَاحِدٍ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا.
وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ حَيًّا
مِنْ آثَارِ الْجِنَايَةِ، وَعَاشَتْ الْأُمُّ
ضَمِنَ الْوَلَدَ بِانْفِرَادِهِ بِكَمَالِ
أَجْزَائِهِ. وَضَمِنَ نَقْصَ الْأُمِّ وَهُوَ
مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا حَامِلًا وَحَائِلاً.
فرع: لَوْ جَرَحَ صَيْدًا
فَانْدَمَلَ جُرْحُهُ وَصَارَ الصَّيْدُ
زَمَنًا فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ
وَحَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ قَوْلَيْنِ،
وَكَذَا حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي "الْجَامِعِ" أصحهما:
يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ لَوْ أَزْمَنَ
عَبْدًا لَزِمَهُ كُلُّ قِيمَتِهِ والثاني
يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ وَبِهِ قَالَ
ابْنُ سُرَيْجٍ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى شَاةٍ
فَأَزْمَنَهَا، وَصَحَّحَ صاحب "البيان" هَذَا
الثَّانِي وَهُوَ تَصْحِيحٌ شَاذٌّ بَلْ
غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى
تَصْحِيحِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
فِي كِتَابِ "الْجَامِعِ"، وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْمُصَنِّفُ فِي "التنبيه"،
وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ،
وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ كِبَارِ
الْأَصْحَابِ مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فِي
ج / 7 ص -267-
"تعليقه" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي
"الْمَجْمُوعِ" وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي
"الحاوي" وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تعليقه"،
وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ
أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا. وَنَقَلَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَنْ مُعْظَمِ الْأَئِمَّةِ،
قَالَ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي الْقَائِلُ
بِأَرْشِ مَا نَقَصَ مُزَيَّفٌ مَتْرُوكٌ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ
فَهَلْ يَجِبُ قِسْطٌ مِنْ الْمِثْلِيِّ إنْ
كَانَ مِثْلِيًّا؟ أَوْ مِنْ قِيمَةِ
الْمِثْلِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ
قَرِيبًا فِيمَا إذَا جَرَحَهُ فَنَقَصَ
عُشْرُ قِيمَتِهِ، وَلَوْ أَزْمَنَهُ1 فَجَاءَ
مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ
أَوْ قَبْلَهُ، فَعَلَى الْقَاتِلِ جَزَاؤُهُ
زَمَنًا بِلَا خِلَافٍ، وَيَبْقَى عَلَى
الْأَوَّلِ الْجَزَاءُ الَّذِي كَانَ كَمَا
كَانَ وَهُوَ كَمَالُ الْجَزَاءِ أَوْ أَرْشُ
النَّقْصِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ
وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ إنْ أَوْجَبْنَا هُنَاكَ
جَزَاءً كَامِلًا عَادَ بِجِنَايَةِ الثَّانِي
إلَى أَرْشِ النَّقْصِ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ
إيجَابُ جَزَاءَيْنِ لِمُتْلِفٍ وَاحِدٍ،
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي "تعليقه".
أما: إذَا أَزْمَنَهُ مُحْرِمٌ ثُمَّ عَادَ
هُوَ فَقَتَلَهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ
الِانْدِمَالِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ،
كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْ رَجُلٍ ثُمَّ
قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فَقَطْ، وَلَنَا
هُنَاكَ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ
الطَّرَفِ مَعَ دِيَةِ النَّقْصِ. قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: فَيَجِيءُ
ذَلِكَ الْوَجْهُ هُنَا وَإِنْ قَتَلَهُ
بَعْدَ الِانْدِمَالِ أَفْرَدَتْ كُلَّ
جِنَايَةٍ بِحُكْمِهَا. فَفِي الْقَتْلِ
جَزَاؤُهُ زَمَنًا وَفِي الْإِزْمَانِ
الْوَجْهَانِ الأصح: جَزَاءٌ كَامِلٌ إذَا
أَوْجَبْنَا فِي الْإِزْمَانِ جَزَاءً
كَامِلًا، وَإِنْ كَانَ لِلصَّيْدِ
امْتِنَاعَانِ كَالنَّعَامَةِ تَمْتَنِعُ
بِالْعَدْوِ وَبِالْجَنَاحِ فَأَبْطَلَ أَحَدَ
امْتِنَاعَيْهِ فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ،
وَحَكَاهُمَا غَيْرُهُ أحدهما: يَتَعَدَّدُ
الْجَزَاءُ لِتَعَدُّدِ الِامْتِنَاعِ
وأصحهما: لَا، لِاتِّحَادِ الْمُمْتَنِعِ،
وَعَلَى هَذَا فَمَا الْوَاجِبُ؟ قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ
أَنَّهُ يَجِبُ مَا نَقَصَ لِأَنَّ امْتِنَاعَ
النَّعَامَةِ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ إلَّا
أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّجْلِ وَالْجَنَاحِ
فَالزَّائِلُ بَعْضُ الِامْتِنَاعِ.
فرع: لَوْ جَرَحَ صَيْدًا
فَغَابَ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا، فَإِنْ
عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِجِرَاحَتِهِ أَوْ
وَقَعَ بِسَبَبِهِ فِي مَاءٍ أَوْ مِنْ جَبَلٍ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَزِمَهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ،
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ آخَرَ
بِأَنْ قَتَلَهُ آخَرُ - نُظِرَ إنْ لَمْ
يَكُنْ الْأَوَّلُ صَيْدُهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ
- فَعَلَيْهِ أَرْشُ مَا نَقَصَ وَإِنْ كَانَ
الثَّانِي صَيْدُهُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ
فَفِيمَا عَلَى الْأَوَّلِ الْخِلَافُ
السَّابِقُ فِي أَوَاخِرِ الْفَرْعِ قَبْلَهُ.
وَإِنْ شَكَّ فَلَمْ يَعْلَمْ بِمَاذَا مَاتَ
فَقَوْلَانِ: حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ
وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ
أحدهما: يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، لِأَنَّ
الْغَالِبَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ جُرْحِهِ
وأصحهما: لَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانُ الْجُرْحِ،
وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ لِاحْتِمَالِ
مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَالْأَصْلُ
بَرَاءَتُهُ. قَالَ الْقَاضِي
وَالْمُتَوَلِّي: هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ
عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَلَالِ إذَا
جَرَحَ صَيْدًا وَغَابَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ
مَيْتًا، هَلْ يَحِلُّ أَكْلُهُ أَمْ لَا؟
الأصح: لَا يَحِلُّ فإن قلنا: يَحِلُّ
أَكْلُهُ فَقَدْ جَعَلْنَاهُ قَاتِلًا،
فَيَلْزَمُهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ، وَإِلَّا
فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجُرْحِ فَقَطْ.
أما: إذَا جَرَحَهُ وَغَابَ وَلَمْ
يَتَبَيَّنْ فَلَمْ يَعْلَمْ أَمَاتَ أَمْ
لَا؟ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَلْزَمُهُ
جَزَاءٌ كَامِلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ
بَرَاءَتُهُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ
الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ
الْجِرَاحَةِ، قَالُوا: وَالِاحْتِيَاطُ
إخْرَاجُ جَزَاءٌ كَامِلٌ لِاحْتِمَالِ
مَوْتِهِ بِسَبَبِهِ. هَكَذَا قَطَعَ
الْأَصْحَابُ بِالْمَسْأَلَةِ فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْتُهُ،
وَنَقَلَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أزمنة أي أحدث به عاهة دائمة فينقص ذلك من
جزائه إذا قتله آخر بعد اندماله أو قبله
(المطيعي).
ج / 7 ص -268-
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ
الْأَصْحَابِ. وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ فِي "تعليقه" عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَزَاءٌ
كَامِلٌ، إذَا كَانَ قَدْ صَيَّرَهُ غَيْرَ
مُمْتَنِعٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ
كَذَلِكَ حَتَّى يَعْلَمَ سَلَامَتَهُ. قَالَ
أَبُو حَامِدٍ: وَهَذِهِ مِنْ غَلَطَاتِ أَبِي
إِسْحَاقَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ،
لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ في "الإملاء"
عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا نَقَصَ. قَالَ
في "الإملاء": لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ سَبَبُ
الْهَلَاكِ وَلَا يَهْلِكُ، وَهَذَا صَحِيحٌ
لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحَيَاةُ مَا لَمْ
يَعْلَمْ التَّلَفَ.
فرع: إذَا جَرَحَهُ ثُمَّ
أَخَذَهُ فَدَاوَاهُ وَأَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ
حَتَّى بَرَأَ وَعَادَ مُمْتَنِعًا كَمَا
كَانَ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ
وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ الأصح: لَا يَسْقُطُ
الضَّمَانُ والثاني يَسْقُطُ بِنَاءً عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ قَلَعَ سِنَّ كَبِيرٍ
فَنَبَتَتْ هَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ دِيَتُهَا؟
فإن قلنا: لَا يَسْقُطُ فَعَلَيْهِ مَا كَانَ
وَاجِبًا وَهُوَ كَمَالُ الْجَزَاءِ فِي
الْأَصَحِّ، وَأَرْشُ مَا نَقَصَ فِي
الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ
جَزَمَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ
مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمُنْدَمِلًا،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا قُلْنَا:
أَرْشُ مَا نَقَصَ فَهَلْ يَجِبُ بِقِسْطِهِ
مِنْ الْمِثْلِ؟ أَوْ مِنْ الْقِيمَةِ؟ فِيهِ
الطُّرُقُ السَّابِقَةُ، فِيمَنْ جَرَحَ
ظَبْيًا فَنَقَصَ عُشْرَ قِيمَتِهِ. هَذَا
كُلُّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ بُرْئِهِ
فِيهِ نَقْصٌ، فَإِنْ صَارَ مُمْتَنِعًا
وَلَكِنْ بَقِيَ فِيهِ شَيْنٌ وَنَقْصٌ وَجَبَ
ضَمَانُهُ بِلَا خِلَافٍ وأما: إذَا دَاوَاهُ
حَتَّى بَرَأَ وَبَقِيَ زَمَنًا فَفِيهِ
الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِيمَنْ
أَزْمَنَهُ أصحهما: يَلْزَمُهُ كَمَالُ
الْجَزَاءِ والثاني أَرْشُ نَقْصِهِ.
وَلَوْ نَتَفَ رِيشَ طَيْرٍ فَهُوَ كَجُرْحِ
الصَّيْدِ فِي كُلِّ مَا سَبَقَ فَإِنْ نَبَتَ
وَبَقِيَ نَقْصٌ ضَمِنَهُ، وَإِلَّا
فَوَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ، فَإِنْ وَجَبَ
اُعْتُبِرَ نَقْصُهُ حَالَ الْجُرْحِ، كَذَا
ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مَعَ بَاقِي فُرُوعِ
جُرْحِ الصَّيْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يَجِبُ فِي بَيْضِ
الصَّيْدِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ:
لَا يَجِبُ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي
الْبَابِ الْمَاضِي، وَسَبَقَ هُنَاكَ
الْخِلَافُ فِي قِيمَةِ لَبَنِ الصَّيْدِ،
وَأَنَّ الْأَصَحَّ وُجُوبُهَا، وَسَبَقَ
أَنَّ الْجَرَادَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَسَبَقَ قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ
لَا يَحْرُمُ الْجَرَادُ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ:
وَيَجِبُ فِي الدَّبَا قِيمَتُهُ وَالدَّبَا
صِغَارُ الْجَرَادِ، وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ
قِيمَةِ الْجَرَادِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ
تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ فِي الْجَرَادِ فَهُوَ
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قِيمَتُهُ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
فَإِذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فِي الْبَيْضِ
وَالْجَرَادِ وَاللَّبَنِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ إخْرَاجِ الطَّعَامِ وَبَيْنَ أَنَّهُ
يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَإِنْ
انْكَسَرَ مُدٌّ وَجَبَ صِيَامُ يَوْمٍ كَمَا
سَبَقَ فِي الصَّيْدِ الَّذِي لَا مِثْلَ
لَهُ.
فرع: إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ
صَيْدًا بَعْدَ صَيْدٍ وَجَبَ لِكُلِّ صَيْدٍ
جَزَاءٌ، وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ صَيْدٍ
وَأَكْثَرَ، سَوَاءٌ أَخْرَجَ جَزَاءَ
الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَهَذَا لَا خِلَافَ
فِيهِ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُ وَدَلِيلُهُ فِي الْبَابِ
السَّابِقِ وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ
أَصْحَابُنَا أَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ
فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ الْإِتْلَافِ كَمَالِ
الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ
الْمُحْرِمُ لُبْسًا أَوْ طِيبًا لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِإِتْلَافٍ. وَإِنْ اشْتَرَكَ
جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحْرِمِينَ فِي قَتْلِ
صَيْدٍ لَزِمَهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ بَدَلُ
مُتْلَفٍ يَتَجَزَّأُ فَإِذَا اشْتَرَكَ
جَمَاعَةٌ فِي إتْلَافِهِ قُسِمَ الْبَدَلُ
بَيْنَهُمْ كَقَسْمِ الْمُتْلَفَاتِ
وَكَالدِّيَةِ وَفِي قَوْلِهِ: يَتَجَزَّأُ،
احْتِرَازٌ مِنْ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ
وَالطَّرَفِ.
وَلَوْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ فِي
قَتْلِ صَيْدٍ لَزِمَ الْمُحْرِمَ نِصْفُ
الْجَزَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ،
ج / 7 ص -269-
وَكَذَا لَوْ اشْتَرَكَ مُحْرِمٌ وَمُحِلُّونَ
أَوْ مَحِلٌّ وَمُحْرِمُونَ وَجَبَ عَلَى
الْمُحْرِمِ مِنْ الْجَزَاءِ بِقِسْطِهِ عَلَى
عَدَدِ الرُّءُوسِ كَبَدَلِ الْمُتْلَفَاتِ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
في "الأم"، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ
يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ كَامِلٌ
وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَلَوْ أَمْسَكَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَقَتَلَهُ
حَلَالٌ ضَمِنَهُ الْمُحْرِمُ بِالْجَزَاءِ
لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ، وَهَلْ
يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْحَلَالِ الْقَاتِلِ؟
فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَرْجِعُ، وَبِهِ
قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَغَوِيُّ. لِأَنَّ
الْقَاتِلَ أَدْخَلَ الْمُحْرِمَ فِي
الضَّمَانِ، فَرَجَعَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ
غَصَبَ مَالًا فَأَتْلَفَهُ إنْسَانٌ فِي
يَدِهِ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ عَلَى
الْمُتْلِفِ، وأصحهما: لَا يَرْجِعُ. وَبِهِ
قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"
وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي
كِتَابِهِ "الْجَامِعِ"، وَصَحَّحَهُ صاحب
"الشامل" وَغَيْرُهُ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
صَيْدًا يَجُوزُ لَهُ إتْلَافُهُ، فَإِنَّهُ
غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ لَا لِحَقِّ اللَّهِ
تَعَالَى وَلَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّ
الْمُمْسِكَ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِذَا جَازَ
لَهُ إتْلَافُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ
ضَمَانُهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْغَصْبِ،
فَإِنَّ الْمُتْلِفَ لِلْمَغْصُوبِ مُتَعَدٍّ
فَضَمِنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَمْسَكَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَقَتَلَهُ
مُحْرِمٌ آخَرُ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أصحها:
يَجِبُ الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْقَاتِلِ؛
لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْمُمْسِكِ سَبَبٌ،
وَمَنْ الْقَاتِلِ مُبَاشَرَةٌ، فَوَجَبَ
تَقْدِيمُ الْمُبَاشَرَةِ كَمَا فِي قَتْلِ
الْآدَمِيِّ وَغَيْرِهِ، والثاني يَجِبُ
الْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ ضَمَانِهِ، وَهَذَا
يُنْتَقَضُ بِضَمَانِ الْآدَمِيِّ، وَبِهَذَا
الْوَجْهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ فِي "التنبيه"،
والثالث: قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَصَحَّحَهُ أَبُو الْمَكَارِمِ، يَجِبُ
الضَّمَانُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا،
فَإِنْ أَخْرَجَهُ الْمُمْسِكُ رَجَعَ بِهِ
عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ
الْقَاتِلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى
الْمُمْسِكِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا
فَأَتْلَفَهُ آخَرُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ صاحب
"الشامل": هَذَا الْوَجْهُ أَقْيَسُ عِنْدِي؛
لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ يُنْتَقَضُ
بِمِنْ غَصَبَ شَيْئًا وَأَتْلَفَهُ غَيْرُهُ
فِي يَدِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الثَّانِي
فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَنْقَسِمُ
عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ الَّذِي لَا
يُلْجِئ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ
وَغَيْرُهُ لَوْ جَرَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا
فِي الْحِلِّ ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ
الْحَرَمَ فَجَرَحَهُ فِيهِ فَمَاتَ مِنْهُمَا
لَزِمَهُ نِصْفُ الْجَزَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ
مِنْ جُرْحَيْنِ وَجُرْحُ أَحَدِهِمَا
مَضْمُونٌ دُونَ الْآخَرِ.
فرع: الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ
وَالْمُتَمَتِّعُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ،
وَفِي جَمِيعِ كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ
سَوَاءٌ، فَإِذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا
لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ
ارْتَكَبَ مَحْظُورًا آخَرَ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ. بِلَا خِلَافَ عِنْدَنَا. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ،
وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِدَلَائِلِهَا
فِي الْبَابِ السَّابِقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الصَّوْمُ الْوَاجِبُ
هُنَا يَجُوزُ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا،
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ
ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ
خِلَافًا لقوله تعالى:
{أَوْ
عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}
[المائدة: 95].
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ مِنْ جَزَاءِ
الصَّيْدِ
إحداها: إذَا قَتَلَ
الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ قَتَلَهُ الْحَلَالُ
فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنْ
النَّعَمِ وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ
بِالْإِجْمَاعِ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذَبْحِ الْمِثْلِ،
وَالْإِطْعَامِ بِقِيمَتِهِ وَالصِّيَامِ عَنْ
كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْهُ وَدَاوُد، إلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ:
يُقَوَّمُ الصَّيْدُ وَلَا يُقَوَّمُ
الْمِثْلُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا
يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ مِنْ النَّعَمِ.
وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ قِيمَةُ الصَّيْدِ،
وَلَهُ صَرْفُ تِلْكَ الْقِيمَةِ فِي
الْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ. وَقَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ
وَجَدَ الْمِثْلَ ذَبَحَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ،
فَإِنْ فَقَدَهُ قَوَّمَهُ دَرَاهِمَ،
وَالدَّرَاهِمَ طَعَامًا، وَصَامَ وَلَا
يُطْعِمُ.
ج / 7 ص -270-
قَالَ:
وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصِّيَامُ
وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو عِيَاضٍ وَزَفَرُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ،
فَإِنْ فَقَدَهُ فَالْإِطْعَامُ، فَإِنْ
فَقَدَهُ صَامَ. دَلِيلُنَا قوله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ}
[المائدة: 95] إلَى آخَرِ الْآيَةِ.
وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَنَّ
الْمُتْلَفَ يَجِبُ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ
أَوْ قِيمَتِهِ، وَلَيْسَتْ النَّعَمُ
وَاحِدًا مِنْهَا فَلَمْ يَضْمَنْ بِهِ
كَالصَّيْدِ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ
النَّعَمِ، وَكَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْحَلَالُ
صَيْدًا مَمْلُوكًا وَكَضَمَانِ الْمُحْرِمِ
لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: هَذَا قِيَاسٌ مُنَابِذٌ
لِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ،
ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ لِلْآدَمِيِّ
الْحُرِّ، فَإِنَّهُ يُضْمَنُ بِالْإِبِلِ
وَيُضْمَنُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا
لَا يُضْمَنُ بِهِ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ،
فَإِنَّهُ يُضْمَنُ لِلْآدَمِيِّ بِقِصَاصٍ
أَوْ إبِلٍ، وَيُضْمَنُ لِلَّهِ تَعَالَى
بِالْكَفَّارَةِ، وَهِيَ عِتْقٌ، وَإِلَّا
فَصِيَامٌ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ
عَنْ قِيَاسِهِمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَيْدٍ لَا
مِثْلَ لَهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ
الْمِثْلُ فَتَعَذَّرَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْمِثْلِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا عَدَلَ
عَنْ مِثْلِ الصَّيْدِ إلَى الصِّيَامِ،
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ
وَمَالِكٌ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ يَصُومُ
عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا. قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ. قال: وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الصَّوْمُ فِي جَزَاءِ
الصَّيْدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ إلَى عَشْرَةِ،
وَعَنْ أَبِي عِيَاضٍ أَنَّ أَكْثَرَ
الصَّوْمِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، قَالَ:
وَمَالَ أَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الْجَزَاءَ
فِي هَذَا كَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ دَلِيلُنَا
أَنَّ اللَّهَ تعالى قَالَ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] وَقَدْ قَابَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صِيَامَ
كُلِّ يَوْمٍ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَقَدْ ثَبَتَ
بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ إطْعَامَ
كُلِّ مِسْكِينٍ هُنَاكَ مُدٌّ، فَكَذَا هُنَا
يَكُونُ كُلُّ يَوْمِ مُقَابِلُ مُدٍّ،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ كَعْبٍ بْنِ عُجْرَةَ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
جَعَلَهُ مُخَيَّرًا بَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ وَإِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ،
كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ الْيَوْمَ مُقَابِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ
مُدٍّ والجواب: أَنَّ حَدِيثَ كَعْبٍ إنَّمَا
وَرَدَ فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَلَا
يَلْزَمُ طَرْدُهُ فِي كُلِّ فِدْيَةٍ، وَلَوْ
طُرِدَ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ
كُلَّ صَاعٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَهَذَا لَا
يَقُولُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ، وَلَا نَحْنُ
وَلَا أَحَدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ
أَصْحَابُنَا: مَذْهَبُنَا أَنَّ مَا حَكَمَتْ
الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فِيهِ بِمِثْلٍ
فَهُوَ مِثْلُهُ، وَلَا يَدْخُلُهُ بَعْدَهُمْ
اجْتِهَادٌ وَلَا حُكْمٌ، وَبِهِ قَالَ
عَطَاءٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد
وأما: أَبُو حَنِيفَةَ فَجَرَى عَلَى أَصْلِهِ
السَّابِقِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ،
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ
صَيْدٍ، وَإِنْ حَكَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ.
دَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وَقَدْ حَكَمَا، فَلَا يَجِبُ تَكْرَارُ الْحُكْمِ.
الرابعة: الْوَاجِبُ فِي
الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ الْمِثْلِيِّ
صَغِيرٌ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ، وَبِهِ
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ
وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ:
يَجِبُ فِيهِ كَبِيرٌ لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَالصَّغِيرُ لَا يَكُونُ هَدْيًا وَإِنَّمَا
يُجْزِئُ مِنْ الْهَدْيِ مَا يُجْزِئُ فِي
الْأُضْحِيَّةِ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى قَتْلِ
الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُ الْكَبِيرَ
بِالصَّغِيرِ. دَلِيلُنَا قوله تعالى:
{فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}
[المائدة: 95]. مِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ،
وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ
حَكَمُوا فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقِ، وَفِي
الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ، وَفِي أُمِّ
حُبَيْنٍ بِحُلاَّنِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الصَّغِيرَ يُجْزِئُ. وَأَنَّ الْوَاجِبَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
ج / 7 ص -271-
الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَقِيَاسًا عَلَى
سَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ فَإِنَّهَا
تَخْتَلِفُ مَقَادِيرُ الْوَاجِبِ فِيهَا.
وَالْجواب: عَنْ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ
بِهَا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ وَهُنَا
مُقَيَّدَةٌ بِالْمِثْلِ، وَعَنْ قِيَاسِهِمْ
عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ أَنَّ تِلْكَ
الْكَفَّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
أَنْوَاعِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ
وَمُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ، لَمْ تَخْتَلِفْ فِي
قَدْرِهَا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وأما: الصَّيْدُ الْمَعِيبُ فَمَذْهَبُنَا
أَنَّهُ يَفْدِيهِ بِمَعِيبٍ، وَعَنْ مَالِكٍ
يَفْدِيهِ بِصَحِيحٍ، وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ
فِي الصَّغِيرِ.
الْخَامِسَةُ: إذَا اشْتَرَكَ
جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ وَهُمْ
مُحْرِمُونَ، لَزِمَهُمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ
عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ عُمَرَ
وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَدَاوُد، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ
وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ جَزَاءٌ كَامِلٌ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ
الْآدَمِيِّ، دَلِيلُنَا أَنَّ الْمَقْتُولَ
وَاحِدٌ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ مُوَزَّعًا،
كَقَتْلِ الْعَبْدِ وَإِتْلَافِ سَائِرِ
الْأَمْوَالِ.
السَّادِسَةُ: إذَا قَتَلَ
الْقَارِنُ صَيْدًا لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ،
وَإِذَا تَطَيَّبَ وَلَبِسَ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ
وَاحِدَةٌ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ وَكَفَّارَتَانِ،
وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَعَ دَلِيلِنَا
عَلَيْهِمْ.
السَّابِعَةُ: فِي
النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، مِنْهُمْ عُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةُ وَعَطَاءٌ
وَمُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ، وَآخَرُونَ إلَّا
النَّخَعِيّ، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ
عَنْهُ أَنَّ فِي النَّعَامَةِ وَشَبَهِهَا
ثَمَنُهَا، دَلِيلُنَا الْآيَةُ.
الثَّامِنَةُ: مَذْهَبُنَا
أَنَّ الثَّعْلَبَ صَيْدٌ يُؤْكَلُ وَيَحْرُمُ
عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ
لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ
وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ، وَهُوَ
إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَطَاءٍ،
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيُّ
وَابْنُ الْمُنْذِرِ. لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ
وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَلَا
فِدْيَةَ فِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ
السِّبَاعِ، وَقَالَ أَحْمَدُ أَمْرُهُ
مُشْتَبَهٌ.
التَّاسِعَةُ: مَذْهَبُنَا
أَنَّ فِي الضَّبِّ جَدْيًا نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَحَكَاهُ ابْنُ
الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي
الله عنه وَعَنْ جَابِرٍ وَعَطَاءٍ أَنَّ
فِيهِ شَاةً وَعَنْ مُجَاهِدٍ حَفْنَةٌ مِنْ
طَعَامٍ، وَعَنْ مَالِكٍ قَبْضَةٌ مِنْ
طَعَامٍ، فَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ وَإِنْ شَاءَ
صَامَ، وَعَنْ قَتَادَة صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَتُهُ.
الْعَاشِرَةُ: مَذْهَبُنَا
أَنَّ فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ، سَوَاءٌ
قَتَلَهَا مُحْرِمٌ أَوْ قَتَلَهَا حَلَالٌ
فِي الْحَرَمِ وَبِهِ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ
وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ وَعَطَاءُ
بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَعُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَقَتَادَةُ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ
فِي حَمَامَةِ الْحَرَمِ شَاةٌ، وَحَمَامِ
الْحِلِّ الْقِيمَةُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي حَمَامَةِ الْحِلِّ ثَمَنُهَا وَعَنْ
النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ ثَمَنُهَا، وَعَنْ قَتَادَةَ
دِرْهَمٌ. دَلِيلُنَا مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ
عَنْ عُثْمَانَ وَنَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ
وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي
الْحَمَامَةِ شَاةً.
ج / 7 ص -272-
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
الْعُصْفُورُ فِيهِ قِيمَتُهُ عِنْدَنَا،
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: مُدُّ طَعَامٍ وَعَنْ
عَطَاءٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ ثَمَنُهَا عَدْلَانِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: مَا
دُونَ الْحَمَامِ مِنْ الْعَصَافِيرِ
وَنَحْوِهَا مِنْ الطُّيُورِ تَجِبُ فِيهِ
قِيمَتُهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ دَاوُد،
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد: لَا شَيْءَ
فِيهِ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فَدَلَّ
عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيمَا لَا مِثْلَ
لَهُ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ عُمَرَ
وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا أَوْجَبُوا
الْجَزَاءَ فِي الْجَرَادَةِ، فَالْعُصْفُورُ
أَوْلَى. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِي
كُلِّ طَيْرٍ دُونَ الْحَمَامِ قِيمَتُهُ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: كُلُّ
صَيْدٍ يَحْرُمُ قَتْلُهُ تَجِبُ الْقِيمَةُ
فِي إتْلَافِ بَيْضِهِ، سَوَاءٌ بَيْضُ
الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ، ثُمَّ هُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ،
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ:
يَضْمَنُهُ بِعُشْرِ بَدَنَةٍ، وَقَالَ
الْمُزَنِيّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد: لَا
جَزَاءَ فِي الْبَيْضِ وَسَبَقَتْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ عَلَى وَجْهٍ لَا
يَفْسُقُ بِهِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ
الْحُكْمَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَمَا
سَبَقَ عَنْهُ فِي قِصَّةِ أَرْبَدَ، وَبِهِ
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ:
لَا يَجُوزُ، دَلِيلُنَا فِعْلُ عُمَرَ مَعَ
عُمُومِ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ
ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] وَلَمْ يُفَرَّقْ
بَيْنَ الْقَاتِلِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمِ عَلَى
الْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ، لِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"إنَّ اللَّهَ
تعالى حَرَّمَ مَكَّةَ، لَا يُخْتَلَى
خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا
يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
إلاَّ الإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا؟ فَقَالَ إلَّا
الْإِذْخِرَ"
وَحُكْمُهُ فِي الْجَزَاءِ حُكْمُ صَيْدِ
الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي
التَّحْرِيمِ فَكَانَ مِثْلَهُ فِي
الْجَزَاءِ، فَإِنْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا
فِي الْحَرَمِ لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؛
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ وَاحِدٌ، فَكَانَ
الْجَزَاءُ وَاحِدًا كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي
الْحِلِّ. وَإِنْ اصْطَادَ الْحَلَالُ صَيْدًا
مِنْ الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ إلَى الْحَرَمِ
جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ
وَالذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ
يَمْلِكُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَى
الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ،
فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَإِنْ ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدًا مِنْ
صُيُودِ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ
أَكْلُهُ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ؟
فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ
قَالَ: هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْمُحْرِمِ
إذَا ذَبَحَ صَيْدًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
يَحْرُمُ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ
الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ مُحَرَّمٌ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ الَّذِي
لَا يُؤْكَلُ.
وَإِنْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ إلَى صَيْدٍ فِي
الْحَرَمِ فَأَصَابَهُ لَزِمَهُ الضَّمَانُ؛
لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي مَوْضِعِ أَمْنِهِ،
وَإِنْ رَمَى مِنْ الْحَرَمِ إلَى صَيْدٍ فِي
الْحِلِّ فَأَصَابَهُ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ
كَوْنُهُ فِي الْحَرَمِ يُوجَبُ تَحْرِيمُ
الصَّيْدِ عَلَيْهِ. وَإِنْ رَمَى مِنْ
الْحِلِّ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَمَرَّ
السَّهْمُ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ
فَأَصَابَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما:
يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ مَرَّ مِنْ
الْحَرَمِ إلَى الصَّيْدِ والثاني لَا
يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ
وَالرَّامِيَ فِي الْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ فِي
الْحَرَمِ شَجَرَةٌ وَأَغْصَانُهَا فِي
الْحِلِّ فَوَقَعَتْ حَمَامَةٌ عَلَى غُصْنٍ
فِي الْحِلِّ فَرَمَاهُ مِنْ الْحِلِّ
فَأَصَابَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّ
الْحَمَامَ غَيْرُ تَابِعٍ لِلشَّجَرَةِ
فَهُوَ كَطَيْرٍ فِي هَوَاءِ الْحِلِّ، وَإِنْ
رَمَى إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَلَ
السَّهْمُ وَأَصَابَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ
فَقَتَلَهُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ
ج / 7 ص -273-
ِأَنَّ
الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ
سَوَاءٌ، وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي
الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَدَخَلَ
الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَتَبِعَهُ الْكَلْبُ
فَقَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْجَزَاءُ،
لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اخْتِيَارًا وَدَخَلَ
الْحَرَمَ بِاخْتِيَارِهِ، بِخِلَافِ
السَّهْمِ. قَالَ في "الإملاء": إذَا أَمْسَكَ
الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَلَهُ
فَرْخٌ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ الصَّيْدُ فِي
يَدِهِ وَمَاتَ الْفَرْخُ، ضَمِنَ الْفَرْخُ
لِأَنَّهُ مَاتَ فِي الْحَرَمِ بِسَبَبٍ مِنْ
جِهَتِهِ، وَلَا يَضْمَنُ الْأُمَّ لِأَنَّهُ
صَيْدٌ فِي الْحِلِّ مَاتَ فِي يَدِ
الْحَلَالِ.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
مِنْ طُرُقٍ، وَالْخَلَى بِفَتْحِ الْخَاءِ
الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ، هُوَ رَطْبُ
الْكَلَأِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْحَشِيشُ
هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الْكَلَأِ، وَالْخَلَى
هُوَ الرَّطْبُ مِنْهُ، وَمَعْنَى يُعْضَدُ
يَقْطَعُ، وَالْإِذْخِرُ - بِكَسْرِ
الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ -
نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ مَعْرُوفٌ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَصَيْدُ حَرَمِ مَكَّةَ
حَرَامٌ عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ
الْمَذْكُورُ وَنُبِّهَ صلى الله عليه وسلم
بِالتَّنْفِيرِ عَلَى الْإِتْلَافِ
وَغَيْرِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَحْرُمُ
فِي صَيْدِ الْحَرَمِ كُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي
صَيْدِ الْإِحْرَامِ مِنْ اصْطِيَادِهِ
وَتَمَلُّكِهِ وَإِتْلَافِهِ، وَإِتْلَافِ
أَجْزَائِهِ وَجُرْحِهِ وَتَنْفِيرِهِ
وَالتَّسَبُّبِ إلَى ذَلِكَ وَيَحْرُمُ
بَيْضُهُ، وَإِتْلَافُ رِيشِهِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ، وَلَا يَخْتَلِفَانِ
فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَحُكْمُ لَبَنِهِ
حُكْمُ لَبَنِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ كَمَا
سَبَقَ، فَإِنْ قَتَلَ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ
صَيْدًا فِي الْحَرَمِ أَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا
مِنْهُ أَوْ تَلِفَ بِسَبَبٍ مِنْهُ ضَمِنَهُ،
وَضَابِطُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَالْأَصْحَابُ أَنَّهُ كَصَيْدِ الْإِحْرَامِ
فِي التَّحْرِيمِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْرِ
الْجَزَاءِ وَصِفَتِهِ.
وَلَوْ قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ
لَزِمَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ
عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَلَوْ أَدْخَلَ حَلَالٌ إلَى الْحَرَمِ
صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ لَهُ
إمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ،
كَيْفَ شَاءَ كَالنَّعَمِ وَغَيْرِهَا لِمَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَإِنْ ذَبَحَ حَلَالٌ
صَيْدًا حَرَمِيًّا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ
بِلَا خِلَافٍ، وَفِي تَحْرِيمِهِ عَلَى
غَيْرِهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا، وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُمَا بِفُرُوعِهِمَا فِي الْبَابِ
السَّابِقِ وَالْمَذْهَبُ تَحْرِيمُهُ،
فَيَكُونُ مَيْتُهُ نَجِسًا كَذَبِيحَةِ
الْمَجُوسِيِّ، وَكَالْحَيَوَانِ الَّذِي لَا
يُؤْكَلُ. وَلَوْ رُمِيَ مِنْ الْحُرُمِ
صَيْدًا فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ
صَيْدًا فِي الْحِلِّ، وَأَرْسَلَ كَلْبًا فِي
الصُّورَتَيْنِ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ
لَزِمَهُ الْجَزَاءُ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ. وَلَوْ رَمَى حَلَالٌ فِي
الْحَرَمِ صَيْدًا فَأَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ
يُصِيبَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ، أَوْ رَمَى
مُحْرِمٌ إلَيْهِ فَتَحَلَّلَ قَبْلَ أَنْ
يُصِيبَهُ ثُمَّ أَصَابَهُ، لَزِمَهُ
الضَّمَانُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَسَبَقَ
مِثْلُهُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي الْبَابِ
السَّابِقِ.
وَلَوْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ إلَى صَيْدٍ،
بَعْضُهُ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي
الْحَرَمِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ
الثَّلَاثَةُ الْأُولَى مِنْهَا حَكَاهَا
صَاحِبُ "الحاوي" وَالْجُرْجَانِيُّ فِي
"الْمُعَايَاةِ" وَغَيْرُهُمَا أحدها: لَا
جَزَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ
حَرَمِيًّا والثاني إنْ كَانَ أَكْثَرَهُ فِي
الْحَرَمِ وَجَبَ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ
أَكْثَرَهُ فِي الْحِلِّ فَلَا، اعْتِبَارَ
بِالْغَالِبِ والثالث: إنْ كَانَ خَارِجًا
مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ ضَمِنَهُ،
وَإِنْ كَانَ عَكْسَهُ فَلَا، اعْتِبَارًا
بِمَا كَانَ عَلَيْهِ والرابع: وَبِهِ قَطَعَ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ
وَالرَّافِعِيُّ إنْ كَانَ رَأْسُهُ فِي
الْحَرَمِ وَقَوَائِمُهُ كُلُّهَا فِي
الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ
الْجَزَاءُ وَإِنْ كَانَتْ قَائِمَةً
وَاحِدَةً تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ والخامس:
يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ،
حَتَّى لَوْ كَانَ رَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ
وَقَوَائِمُهُ كُلُّهَا فِي الْحِلِّ،
ج / 7 ص -274-
وَهُوَ
نَائِمٌ أَوْ مُسْتَيْقِظٌ وَجَبَ الْجَزَاءُ،
وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصاحب "البيان" تَغْلِيبًا
لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما: إذَا رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي
الْحِلِّ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي ذَهَابِهِ فِي
طَرَفٍ مِنْ الْحَرَمِ، ثُمَّ أَصَابَ
الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ فَفِي وُجُوبِ
ضَمَانِهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أحدهما: لَا
يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فِي
الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ
فَتَخَيَّرَ فِي مُرُورِهِ فِي طَرَفِ
الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ عَلَى
الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ
وَفِيهِ وَجْهٌ أَوْ قَوْلٌ حَكَاهُ صَاحِبُ
"الحاوي" أَنَّهُ يَضْمَنُ وَهُوَ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ وأصحهما: يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ
بِفِعْلِ الْكَلْبِ، فَإِنَّ لِلْكَلْبِ
اخْتِيَارًا بِخِلَافِ السَّهْمِ، وَلِهَذَا
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ كُلُّهُمْ:
لَوْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَعَدَلَ
الصَّيْدُ فَدَخَلَ الْحَرَمَ فَأَصَابَهُ
السَّهْمُ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَبِمِثْلِهِ
لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا فَأَصَابَهُ لَمْ
يَجِبْ، ثُمَّ فِي مَسْأَلَةِ إرْسَالِ
الْكَلْبِ وَتَخَطِّيهِ طَرَفَ الْحَرَمِ
إنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ إذَا كَانَ
لِلصَّيْدِ مُقَرٌّ آخَرُ فَأَمَّا إذَا
تَعَيَّنَ دُخُولُهُ الْحَرَمَ عِنْدَ
الْهَرَبِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ قَطْعًا،
سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْسِلُ عَالِمًا
بِالْحَالِ أَوْ جَاهِلًا، وَلَكِنْ يَأْثَمُ
الْعَالِمُ دُونَ الْجَاهِلِ، قَالَ صاحب
"الحاوي" فِيمَا إذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ مِنْ
الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَعَدَلَ
الصَّيْدُ إلَى الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ
الْكَلْبُ فَقَتَلَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ:
لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ، قَالَ
صاحب "الحاوي": قَالَ أَصْحَابُنَا: أَرَادَ
الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ مُرْسِلُهُ قَدْ
زَجَرَهُ عَنْ اتِّبَاعِ الصَّيْدِ فِي
الْحَرَمِ، فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فَإِنْ لَمْ
يَنْزَجِرْ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ
الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ إذَا أُرْسِلَ إلَى
صَيْدٍ تَبِعَهُ أَيْنَ تَوَجَّهَ هَذَا
كَلَامُهُ، وَهَذَا الَّذِي شَرَطَهُ مِنْ
الزَّجْرِ غَرِيبٌ لَمْ يَذْكُرْهُ
الْأَصْحَابُ.
فرع: لَوْ كَانَتْ شَجَرَةٌ
ثَابِتَةٌ فِي الْحَرَمِ، وَأَغْصَانُهَا فِي
الْحِلِّ، فَوَقَعَ عَلَى الْغُصْنِ طَائِرٌ
فَقَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي الْحِلِّ، فَلَا
ضَمَانَ وَلَوْ قَطَعَ الْغُصْنَ ضَمِنَ
الْغُصْنَ لِأَنَّ الْغُصْنَ جُزْءٌ مِنْ
الشَّجَرَةِ تَابِعٌ لَهَا وَالشَّجَرَةُ
مَضْمُونَةٌ فَكَذَا غُصْنُهَا وَأَمَّا
الطَّائِرُ فَلَيْسَ جُزْءًا مِنْ الشَّجَرَةِ
وَلَا هُوَ فِي الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا هُوَ
فِي الْحِلِّ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ
وَعَكْسُهُ لَوْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ
نَابِتَةً فِي الْحِلِّ، وَغُصْنُهَا فِي
الْحَرَمِ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَائِرٌ
فَقَتَلَهُ، لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ فِي
هَوَاءِ الْحَرَمِ، وَلَوْ قَطَعَ الْغُصْنَ
لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِشَجَرَةٍ
فِي الْحِلِّ، وَهَذَا الْفَرْعُ لَا خِلَافَ
فِيهِ، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تُشِيرُ
إلَى"التنبيه" عَلَى الصُّورَتَيْنِ. قَالَ
الدَّارِمِيُّ: وَلَوْ وَقَفَ الْحَلَالُ
عَلَى الْغُصْنِ وَرَمَى إلَى صَيْدٍ فِي
الْحِلِّ فَقَتَلَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ
الصَّيْدَ الَّذِي عَلَى الْغُصْنِ، فَإِنْ
كَانَ الْغُصْنُ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ
ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ قَتَلَ إنْسَانٌ
صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ
كَانَ الْقَاتِلُ مُحْرِمًا فَقَدْ سَبَقَ فِي
الْبَابِ الْمَاضِي أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ
لِلْمَسَاكِينِ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ
لِمَالِكِهِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا
فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ لِمَالِكِهِ وَلَا
جَزَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
حُكْمُ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلِهَذَا لَوْ
قَتَلَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ
الْجَزَاءُ بِخِلَافِ صَيْدِ الْإِحْرَامِ
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ
الْمَاوَرْدِيُّ.
فرع: لَوْ أَخَذَ حَمَامَةً فِي الْحِلِّ أَوْ
أَتْلَفَهَا فَهَلَكَ فَرْخُهَا فِي الْحَرَمِ
ضَمِنَهُ، وَلَا يَضْمَنُهَا لِمَا ذَكَرَ
الْمُصَنِّفُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَلَوْ
أَخَذَ الْحَمَامَةَ مِنْ الْحَرَمِ
وَقَتَلَهَا فَهَلَكَ فَرْخُهَا فِي الْحِلِّ
ضَمِنَ الْحَمَامَةَ وَالْفَرْخَ جَمِيعًا.
لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِسَبَبٍ جَرَى مِنْهُ
فِي الْحَرَمِ كَمَا لَوْ رَمَى مِنْ
الْحَرَمِ إلَى
ج / 7 ص -275-
صَيْدٍ
فِي الْحِلِّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ
فَفَسَدَ بَيْضُهُ فِي الْحَرَمِ ضَمِنَهُ
كَمَا يَضْمَنُ الْفَرْخَ قَالَ أَصْحَابُنَا:
وَلَوْ نَفَّرَ صَيْدًا حَرَمِيًّا عَامِدًا
أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ تَعَرَّضَ لِضَمَانِهِ
فَإِنْ مَاتَ بِسَبَبِ التَّنْفِيرِ
بِصَدْمَةٍ أَوْ أَخْذِ سَبُعٍ وَنَحْوِهِ،
لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَكَذَا لَوْ دَخَلَ
الْحِلَّ فَقَتَلَهُ حَلَالٌ لَزِمَ
الْمُنَفِّرَ الْجَزَاءُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى
الْحَلَالِ الْقَاتِلِ، فَإِنْ أَخَذَ
مُحْرِمٌ فِي الْحِلِّ وَجَبَ الْجَزَاءُ
عَلَى الْآخِذِ تَقْدِيمًا لِلْمُبَاشَرَةِ
عَلَى السَّبَبِ هَكَذَا ذَكَرَهُ
الْأَصْحَابُ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا قَتَلَهُ
الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ
عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ: وَأَمَّا
الْمُنَفِّرُ لَهُ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ حِينَ نَفَّرَهُ
أَلْجَأَهُ إلَى الْحِلِّ وَمَنَعَهُ مِنْ
الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ
الصَّيْدَ مُلْجَأٌ وَالتَّنْفِيرَ سَبَبٌ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَلْجَأَهُ إلَى
الْخُرُوجِ إلَى الْحِلِّ، وَلَا مَنَعَهُ
الْعَوْدَ إلَى الْحَرَمِ، فَلَا جَزَاءَ
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجَأٍ.
وَالْمُبَاشَرَةُ أَقْوَى مِنْ السَّبَبِ،
هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالْمَذْهَبُ
مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ
عَلَى الْمُنَفِّرِ مِنْ الْحَرَمِ ضَمَانُهُ
إذَا قَتَلَهُ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ، مَا لَمْ
يَسْكُنُ نِفَارُهُ، وَلَا يُزَالُ فِي
ضَمَانِهِ حَتَّى يَسْكُنَ نِفَارُهُ،
وَيَسْكُنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْحِلِّ أَوْ
الْحَرَمِ، فَإِذَا سَكَنَ فِي مَكَان
مِنْهُمَا زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ، وَقَبْلَ
السُّكُونِ هُوَ فِي ضَمَانِهِ. هَكَذَا
صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي
وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَنَقَلَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ فَقَالَ:
لَوْ نَفَّرَ صَيْدًا حَرَمِيًّا فَقَدْ
تَعَرَّضَ لِلضَّمَانِ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ
النِّفَارُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ
فَسَكَنَ فِي الْحِلِّ، وَجَبَ الضَّمَانُ
بِلَا خِلَافٍ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ
الْأَئِمَّةُ: يَدُومُ التَّعَرُّضُ
لِلضَّمَانِ حَتَّى يَزُولَ نِفَارُهُ، قَالَ
الصَّيْدَلَانِيُّ: حَتَّى يَعُودَ إلَى
الْحَرَمِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا أَرَاهُ
ذِلَّةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي
رَدِّهِ إلَى الْحَرَمِ وَلَا يَتَعَرَّضُ
لِخُرُوجِهِ لِلضَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا خَرَجَ الصَّيْدُ الْحَرَمِيُّ إلَى
الْحِلِّ حَلَّ لِلْحَلَالِ اصْطِيَادُهُ فِي
الْحِلِّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي
إتْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ صَيْدَ الْحِلِّ
كَمَا أَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ إذَا دَخَلَ
الْحَرَمَ حَرُمَ اصْطِيَادُهُ لِأَنَّهُ
صَارَ صَيْدَ حَرَمٍ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ
صَيْدِ الْحَرَمِ فِي الْحِلِّ، كَمَا لَوْ
قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ حَرَمٍ وَغَرَسَهَا فِي
الْحِلِّ لَا يَحِلُّ قَطْعُهَا، قَالَ:
وَالْفَرْقُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ
الصَّيْدَ يَتَحَوَّلُ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ
لَهُ حُكْمُ الْمَكَانِ الْمُتَحَوَّلِ
إلَيْهِ بِخِلَافِ الشَّجَرَةِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْبَغَوِيّ: إذَا
دَخَلَ شَيْءٌ مِنْ الْجَوَارِحِ إلَى
الْحَرَمِ فَفَلَتَ فَأَتْلَفَ صَيْدًا فَلَا
ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ
لَهُ، وَقَدْ سَبَقَ نَظِيرُ هَذَا فِي
الْحَرَمِ.
فرع: إذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي
الْحَرَمِ فَهَلَكَ فِيهَا صَيْدٌ، فَقَدْ
سَبَقَ فِي الْبَابِ الْمَاضِي أَنَّهُ إنْ
حَفَرَهَا فِي مَحَلِّ عُدْوَانٍ لَزِمَهُ
ضَمَانُهُ وَإِنْ حَفَرَهَا فِي مِلْكِهِ أَوْ
مَوَاتٍ فَالْأَصَحُّ الضَّمَانُ أَيْضًا،
وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً
هُنَاكَ. وَلَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فِي
الْحَرَمِ فَهَلَكَ بِهَا صَيْدٌ ضَمِنَ،
قَالَ الْبَغَوِيّ: وَلَوْ أَخْرَجَ يَدَهُ
مِنْ الْحَرَمِ فَنَصَبَهَا فِي الْحِلِّ
فَتَلِفَ بِهَا صَيْدٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ
أَدْخَلَ يَدَهُ مِنْ الْحِلِّ فَنَصَبَهَا
فِي الْحَرَمِ ضَمِنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ كَانَ الْحَلَالُ
جَالِسًا فِي الْحَرَمِ فَرَأَى صَيْدًا فِي
الْحِلِّ فَعَدَا إلَيْهِ فَقَتَلَهُ فِي
الْحِلِّ فَلَا ضَمَانَ بِلَا خِلَافٍ، قَالَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ:
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ رَمَى
سَهْمًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى صَيْدٍ فِي
ج / 7 ص -276-
الْحِلِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إنْ ابْتَدَأَ
الِاصْطِيَادَ مِنْ حِينِ الرَّمْيِ لِأَنَّ
السَّهْمَ لَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ وَلَيْسَ
ابْتِدَاءُ الِاصْطِيَادِ مِنْ حِينِ
الْعَدْوِ بَلْ مِنْ حِينِ ضَرْبِهِ،
وَلِهَذَا شُرِعَ لَهُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ
ابْتِدَاءِ إرْسَالِ السَّهْمِ وَلَا يُشْرَعُ
عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَدْوِ إلَى ضَرْبِهِ
بَلْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ ضَرْبِهِ وَإِذَا
ثَبَتَ هَذَا عُلِمَ أَنَّ مُرْسِلَ السَّهْمِ
اصْطَادَ فِي الْحَرَمِ، بِخِلَافِ الْعَادِي،
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي
كِتَابِهِ "الْجَامِعِ": وَهَكَذَا لَوْ عَدَا
مِنْ الْحِلِّ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ
فَسَلَكَ الْحَرَمَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِ
فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِلَا
خِلَافِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَإِنْ دَخَلَ كَافِرٌ إلَى الْحَرَمِ
فَقَتَلَ فِيهِ صَيْدًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ؛
لِأَنَّهُ ضَمَانٌ يَتَعَلَّقُ
بِالْإِتْلَافِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ، كَضَمَانِ الْأَمْوَالِ،
وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ
بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ فَلَا يَضْمَنُ
صَيْدَهُ".
الشرح: الْمَشْهُورُ فِي
الْمَذْهَبِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ،
وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ:
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، فَأَوْهَمَ
انْفِرَادَ بَعْضِ الْأَصْحَابِ بِهِ، مَعَ
أَنَّهُ مَشْهُورٌ، قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ
فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ
الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ غَرِيبٌ
انْفَرَدَ بِهِ. وَجَعَلَهُ صاحب "البيان"
وَجْهًا، فَحَكَاهُ عَنْ الْمُصَنِّفِ،
وَرَجَّحَهُ الْفَارِقِيّ تِلْمِيذُ
الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ
الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الضَّمَانِ، وَبِهِ
قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ،
مِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
فِي "تعليقه"، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي كِتَابَيْهِ "التَّعْلِيقِ" و"المجرد"،
وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي
كِتَابِهِ "الْجَامِعِ"، وَالدَّارِمِيُّ
وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ، قَالَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ:
وَلَا يُفَارِقُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فِي
ضَمَانِ صَيْدِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ،
وَسَائِرِ نَبَاتِهِ إلَّا فِي شَيْءٍ
وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ
الْجَزَاءُ بِالصِّيَامِ، بَلْ يَتَخَيَّرُ
بَيْنَ الْمِثْلِ وَالطَّعَامِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَيَحْرُمُ قَلْعُ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَمِنْ
أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: مَا أَنْبَتَهُ
الْآدَمِيُّونَ يَجُوزُ قَلْعُهُ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِحَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّ مَا
حُرِمَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فِيهِ
الْمُبَاحُ وَالْمَمْلُوكُ كَالصَّيْدِ،
وَيَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، فَإِنْ كَانَتْ
شَجَرَةً كَبِيرَةً ضَمِنَهَا بِبَقَرَةٍ،
وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ضَمِنَهَا بِشَاةٍ،
لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
أَنَّهُ قَالَ: "فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ،
وَفِي الشَّجَرَةِ الْجَزْلَةِ شَاةٌ" فَإِنْ
قَطَعَ غُصْنًا مِنْهَا ضَمِنَ مَا نَقَصَ،
فَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهُ فَهَلْ يَسْقُطُ
عَنْهُ الضَّمَانُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ
بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي السِّنِّ
إذَا قُلِعَ ثُمَّ نَبَتَ. وَيَجُوزُ أَخْذُ
الْوَرِقِ وَلَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ لَا
يَضُرُّ بِهَا وَإِنْ قَلَعَ شَجَرَةً مِنْ
الْحَرَمِ لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى
مَوْضِعِهَا، كَمَا إذَا أَخَذَ صَيْدًا
مِنْهُ لَزِمَهُ تَخْلِيَتُهُ، فَإِنْ
أَعَادَهَا إلَى مَوْضِعِهَا فَنَبَتَتْ لَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ
وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا.
وَيَحْرُمُ قَطْعُ حَشِيشِ الْحَرَمِ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا" وَيَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ قَطْعِهِ لِحُرْمَةِ
الْحَرَمِ، فَضَمِنَهُ كَالشَّجَرِ، وَإِنْ
قَطَعَ الْحَشِيشَ فَنَبَتَ مَكَانَهُ لَمْ
يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ قَوْلًا وَاحِدًا؛
لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَخْلَفُ فِي الْعَادَةِ،
فَهُوَ كَسِنِّ الصَّبِيِّ إذَا قَلَعَهُ
فَنَبَتَ مَكَانَهُ مِثْلُهُ، بِخِلَافِ
الْأَغْصَانِ، وَيَجُوزُ قَطْعُ الْإِذْخِرِ
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما،
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ،
وَيَجُوزُ رَعْيُ الْحَشِيشِ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ فَجَازَ،
كَقَطْعِ الْإِذْخِرِ، وَيَجُوزُ قَطْعُ
الْعَوْسَجِ وَالشَّوْكِ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ
فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إتْلَافِهِ كَالسَّبُعِ
وَالذِّئْبِ".
ج / 7 ص -277-
الشرح: قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ احْتِرَازٌ
مِنْ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ فِي حَقِّ
الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوِي فِيهِ
الْمُبَاحُ وَالْمَمْلُوكُ، بَلْ يَحِلُّ لَهُ
اصْطِيَادُ الْمُبَاحِ دُونَ الْمَمْلُوكِ،
قَالَ الْقَلَعِيُّ: وَقِيَاسُهُ عَلَى
الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ غَيْرُ
مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ
يَجُوزُ ذَبْحُهُ وَتَنْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ
فِي الْحَرَمِ دُونَ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا
يَسْتَوِي الْمُبَاحُ وَالْمَمْلُوكُ فِي
التَّحْرِيمِ عَلَى الْمُحْرِمِ خَاصَّةً،
وَالدَّوْحَةُ - بِدَالٍ مَفْتُوحَةٍ وَحَاءٍ
مُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا وَاوٌ سَاكِنَةٌ -
وَهِيَ الْعَظِيمَةُ، وَقَوْلُهُ: مَمْنُوعٌ
مِنْ قَطْعِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ -
احْتِرَازٌ مِنْ قَطْعِ شَجَرٍ وَجٍّ
وَالْبَقِيعِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ
الْقَلَعِيُّ: احْتِرَازٌ مِنْ قَطْعِ يَدِ
نَفْسِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ
الْأَوَّلَ أَحْسَنُ، قوله: يَسْتَخْلِفُ،
لَوْ قَالَ: يَخْلُفُ كَانَ أَجْوَدَ.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَحْرُمُ
قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ، كَمَا يَحْرُمُ
اصْطِيَادُ صَيْدِهِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ
في "الصحيحين" كَمَا سَبَقَ، وَهَلْ
يَتَعَلَّقُ بِنَبَاتِهِ الضَّمَانُ؟ فِيهِ
طَرِيقَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَةٌ
غَيْرُهُمْ يَتَعَلَّقُ كَالصَّيْدِ، والثاني
حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ قَوْلَانِ
أصحهما: هَذَا، والثاني لَا ضَمَانَ فِيهِ
بِأَنَّ الصَّيْدَ نَصَّ فِيهِ عَلَى
الْجَزَاءِ بِخِلَافِ النَّبَاتِ وَهَذَا
الْقَوْلُ حَكَوْهُ عَنْ "الْقَدِيمِ"،
وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الضَّمَانِ.
ثُمَّ النَّبَاتُ ضَرْبَانِ: شَجَرٌ
وَغَيْرُهُ وأما: الشَّجَرُ فَيَحْرُمُ
التَّعَرُّضُ بِالْقَلْعِ وَالْقَطْعِ لِكُلِّ
شَجَرٍ رَطْبٍ حَرَمِيٍّ غَيْرِ مُؤْذٍ
فَاحْتَرَزْنَا بِالرَّطْبِ عَنْ الْيَابِسِ،
فَلَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ وَلَا ضَمَانَ فِيهِ
بِلَا خِلَافٍ، كَمَا لَوْ قَدَّ صَيْدًا
مَيِّتًا نِصْفَيْنِ. هَكَذَا قَاسَهُ
الْبَغَوِيّ وَالْأَصْحَابُ، وَاحْتَرَزْنَا
بِغَيْرِ مُؤْذٍ عَنْ الْعَوْسَجِ وَكُلِّ
شَجَرَةٍ ذَاتِ شَوْكٍ فَلَا يَحْرُمُ، وَلَا
يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِهِ ضَمَانٌ
كَالْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي. هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ وَفِي وَجْهٍ حَكَاهُ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي
وَاخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ مَضْمُونٌ
لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَيُخَالِفُ
الْحَيَوَانُ، فَإِنَّهُ يُقْصَدُ لِلْأَذَى
وَقَدْ ثَبَتَ في "الصحيحين" عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "وَلا يُعْضَدُ شَوْكُهَا" وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ، وَلِلْقَائِلَيْنِ
بِالْمَذْهَبِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْهُ
بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى
الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا مِنْ
الْمُؤْذِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاحْتَرَزْنَا بِالْحَرَمِيِّ عَنْ أَشْجَارِ
الْحِلِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْلَعَ
شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ وَيَنْقُلَهَا إلَى
الْحِلِّ مُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهَا
وَلَوْ نَقَلَ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا بِخِلَافِ
مَا لَوْ نَقَلَ مِنْ بُقْعَةٍ مِنْ الْحَرَمِ
إلَى بُقْعَةٍ أُخْرَى مِنْهُ لَا يُؤْمَرُ
بِالرَّدِّ، وَسَوَاءٌ نَقَلَ أَشْجَارَ
الْحَرَمِ أَوْ أَغْصَانَهَا إلَى الْحِلِّ
أَوْ الْحَرَمِ، يُنْظَرُ إنْ يَبِسَتْ
لَزِمَهُ الْجَزَاءُ، وَإِنْ نَبَتَتْ فِي
الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا
جَزَاءَ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَلَعَهَا قَالِعٌ
لَزِمَ الْقَالِعَ الْجَزَاءُ إبْقَاءً
لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَلَوْ قَلَعَ شَجَرَةً
أَوْ غُصْنًا مِنْ الْحِلِّ وَغَرَسَهَا فِي
الْحَرَمِ فَنَبَتَتْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا
حُكْمُ الْحَرَمِ، فَلَوْ قَلَعَهَا هُوَ أَوْ
غَيْرُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِلَا
خِلَافٍ. اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا
فِي الطَّرِيقِينَ، وَنَقَلَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ
نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ
الصَّيْدِ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ وَهُوَ عَلَى
الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ
لَهُ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ
لَيْسَ بِأَصْلٍ ثَابِتٍ فَاعْتُبِرَ
مَكَانُهُ وَالشَّجَرُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَلَهُ
حُكْمُ مَنْبَتِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَصْلُ
الشَّجَرَةِ فِي الْحَرَمِ وَأَغْصَانُهَا فِي
الْحِلِّ حَرُمَ قَطْعُ أَغْصَانِهَا وَوَجَبَ
فِيهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي
الْحِلِّ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ فَلَا
شَيْءَ فِي قَطْعِ أَغْصَانِهَا وَوَجَبَ
فِيهِ الضَّمَانُ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهَا فِي
الْحِلِّ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ فَلَا
شَيْءَ فِي قَطْعِ أَغْصَانِهَا، قَالَ أَبُو
عَلِيٍّ
ج / 7 ص -278-
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمُتَوَلِّي
وَالرُّويَانِيُّ: وَلَوْ كَانَ بَعْضُ أَصْلِ
الشَّجَرَةِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي
الْحَرَمِ فَلِجَمِيعِهَا حُكْمُ الْحَرَمِ.
فرع: إذَا أَخَذَ غُصْنًا
مِنْ شَجَرَةٍ حُرْمِيَّةٍ وَلَمْ يَخْلُفْ
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ وَسَبِيلُهُ
سَبِيلُ ضَمَانِ جُرْحِ الصَّيْدِ، وَإِنْ
أَخْلَفَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِكَوْنِ
الْغُصْنِ لَطِيفًا كَسِوَاكٍ وَغَيْرِهِ
فَلَا ضَمَانَ. وَإِذَا أَوْجَبْنَا
الضَّمَانَ لِعَدَمِ إخْلَافِهِ فَنَبَتَ
الْغُصْنُ - وَكَانَ الْمَقْطُوعُ مِثْلَ
الثَّابِتِ - فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ
الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ حَكَاهُمَا
الْمُصَنِّفُ: أصحهما: لَا يَسْقُطُ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
عَلَى جَوَازِ أَخْذِ أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ،
لَكِنْ يُؤْخَذُ بِسُهُولَةٍ، وَلَا يَجُوزُ
خَبْطُهَا بِحَيْثُ يُؤْذِي قُشُورَهَا. قَالَ
أَصْحَابُنَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"الْقَدِيمِ": يَجُوزُ أَخْذُ الْوَرِقِ مِنْ
شَجَرِ الْحَرَمِ وَقَطْعُ الْأَغْصَانِ
الصِّغَارِ لِلسِّوَاكِ وَقَالَ في "الإملاء":
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا:
لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلْ عَلَى
حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ:
يَجُوزُ أَرَادَ إذَا لَقَطَ الْوَرِقَ
بِيَدِهِ وَكَسَرَ الْأَغْصَانَ الصِّغَارَ
بِيَدِهِ بِحَيْثُ لَا تَتَأَذَّى نَفْسُ
الشَّجَرَةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ:
لَا يَجُوزُ أَرَادَ إذَا خَبَطَ الشَّجَرَةَ
حَتَّى تَسَاقَطَ الْوَرِقُ وَتَكَسَّرَتْ
الْأَغْصَانُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ
بِالشَّجَرَةِ هَكَذَا ذَكَرَ هَذَا
التَّأْوِيلَ لِلْحَصْرِ وَالْجَمْعِ
بَيْنَهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
"تعليقه" وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ
"الْمَجْمُوعِ" و"التجريد"، وَآخَرُونَ،
وَنَقَلَهُ صاحب "البيان" عَنْ الْأَصْحَابِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ أَخْذِ
ثِمَارِ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَتْ
أَشْجَارًا مُبَاحَةً كَالْأَرَاكِ، وَيُقَالُ
لِثَمَرَةِ الْأَرَاكِ الْكَبَاثُ - بِكَافٍ
مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ
مُخَفَّفَةٍ ثُمَّ أَلْفٍ ثُمَّ ثَاءٍ
مُثَلَّثَةٍ - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَخْذِ
عُودِ السِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَسَبَقَ فِي
الْبَابِ الْمَاضِي الْفَرْقُ بَيْنَ أَخْذِ
الْأَوْرَاقِ وَأَخْذِ شَعْرِ الصَّيْدِ،
فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ، لِأَنَّ أَخْذَهُ
يَضُرُّ الْحَيَوَانَ فِي الْحَرِّ
وَالْبَرْدِ.
فرع: هَلْ يَعُمُّ
التَّحْرِيمُ وَالضَّمَانُ مَا يَنْبُتُ مِنْ
الْأَشْجَارِ بِنَفْسِهِ؟ وَمَا يُسْتَنْبَتُ
أَمْ يَخْتَصُّ بِمَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِيهِ
طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَآخَرُونَ: أصحهما: وَأَشْهَرُهُمَا عَلَى
قَوْلَيْنِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ
عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَسَائِرِ
الْعِرَاقِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ
غَيْرِهِمْ التَّعْمِيمُ، والثاني
التَّخْصِيصُ، وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، والطريق
الثاني: الْقَطْعُ بِالتَّعْمِيمِ وَهُوَ
الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقهما"
وَآخَرُونَ، قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَشَجَرُ
الْحَرَمِ حَرَامٌ سَوَاءٌ نَبَتَ بِنَفْسِهِ
أَوْ أَنْبَتَهُ آدَمِيٌّ. قَالَ: وَحَكَمَ
بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: إنَّمَا يَحْرُمُ مَا نَبَتَ
بِنَفْسِهِ دُونَ مَا أَنْبَتَهُ آدَمِيٌّ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَإِنَّمَا أُخِذَ هَذَا
مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في "الإملاء":
وَلَوْ قَطَعَ شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ إذَا كَانَ لَا مَالِكَ
لَهُ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ
مَالِكٌ فَلَا جَزَاءَ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الشَّجَرَ الَّذِي
لَا مَالِكَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ
الْوَاجِبَ فِيهِ الْجَزَاءُ فَقَطْ، وَلَمْ
يَذْكُرْ مَالَهُ مَالِكٌ لِأَنَّ فِيهِ
الْجَزَاءَ أَوْ الْقِيمَةَ. هَذَا كَلَامُ
أَبِي حَامِدٍ، وَقَطَعَ الْمَاسَرْجِسِيُّ
وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّ
مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّ مِنْ التَّمْرِ
كَالْعِنَبِ وَالنَّخْلِ وَالتُّفَّاحِ
وَالتِّينِ وَنَحْوِهَا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ،
وَلَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ، وَأَنْكَرَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "المجرد"
هَذَا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذَا خِلَافُ
نَصِّ
ج / 7 ص -279-
الشَّافِعِيِّ، وَخِلَافُ قَوْلِ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ
وَالضَّمَانَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ،
وَهَكَذَا نَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ
فِي عَامَّةِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَجِبُ
الضَّمَانُ فِي شَجَرِ السَّفَرْجَلِ
وَالتُّفَّاحِ، وَسَائِرِ مَا أَنْبَتَهُ
الْأَرْضُ مِنْ الثِّمَارِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ
الْمَذْهَبَ التَّعْمِيمُ، فَإِذَا قُلْنَا -
بِالضَّعِيفِ - وَهُوَ التَّخْصِيصُ، زِيدَ
فِي الضَّابِطِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قَيْدٌ
آخَرُ، وَهُوَ كَوْنُ الشَّجَرِ مِمَّا
يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ
يَحْرُمُ الْأَرَاكُ وَالطَّرَفَا
وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَشْجَارِ الْبَوَادِي،
دُونَ التِّينِ وَالْعِنَبِ وَالتُّفَّاحِ
وَالصَّنَوْبَرِ وَسَائِرِ مَا يُنْبِتُهُ
الْآدَمِيُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُثْمِرًا كَمَا
ذَكَرْنَا أَوْ غَيْرُهُ، كَالْخِلَافِ.
وَأَدْرَجَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا
الْقَسَمِ الْعَوْسَجَ. وَأَنْكَرَ
الْأَصْحَابُ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ذُو
شَوْكٍ، وَقَدْ سَبَقَ اتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ
عَلَى أَنَّ مَا لَهُ شَوْكٌ لَا يَحْرُمُ
وَلَا ضَمَانَ فِيهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ
الضَّعِيفِ، وَهُوَ التَّخْصِيصُ، لَوْ نَبَتَ
مَا يُسْتَنْبَتُ أَوْ عَكْسُهُ فَوَجْهَانِ:
الصحيح: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ
أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْجِنْسِ، فَيَجِبُ
الضَّمَانُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ،
والثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
الْقَاصِّ فِي "التَّلْخِيصِ" أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِالْقَصْدِ، فَيَنْعَكِسُ
الْحُكْمُ وإن قلنا: بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ
التَّعْمِيمُ، فَجَمِيعُ الشَّجَرِ حَرَامٌ
سَوَاءٌ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ وَمَا
أَنْبَتَهُ آدَمِيٌّ، وَالْمُثْمِرُ
وَغَيْرُهُ، إلَّا الْعَوْسَجَ وَسَائِرَ
شَجَرِ الشَّوْكِ. وَكَذَا مَا قَطَعَ مِنْ
الْحِلِّ، وَغَرَسَ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّهُ
لَا يَحْرُمُ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ صاحب "البيان": صُورَةُ
مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ فِيمَا أَنْبَتَهُ
الْآدَمِيُّ أَنْ يَأْخُذَ غُصْنًا مِنْ
شَجَرَةٍ حُرْمِيَّةٍ فَيَغْرِسُهُ فِي
مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ أَمَّا إذَا أَخَذَ
شَجَرَةً أَوْ غُصْنًا مِنْ الْحِلِّ
فَغَرَسَهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ قَلَعَهَا
هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ.
فرع: لَوْ انْتَشَرَتْ
أَغْصَانُ شَجَرَةٍ حُرْمِيَّةٍ وَمَنَعَتْ
النَّاسَ الطَّرِيقَ، أَوْ آذَتْهُمْ، جَازَ
قَطْعُ الْمُؤْذِي مِنْهَا. هَذَا هُوَ
الْمَذْهَبُ وَلَهُ قَطَعَ الْجُمْهُورُ،
وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الْمَرْزُبَانِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي كِتَابِهِ "المجرد"، وَالرُّويَانِيُّ
وَآخَرُونَ، وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ عَنْ
ابْنِ الْمَرْزُبَانِ ثُمَّ قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي الضَّمَانُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ حَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ
الشَّجَرِ، فَإِنْ كَانَتْ شَجَرَةً كَبِيرَةً
ضَمِنَهَا بِبَقَرَةٍ، وَإِنْ شَاءَ
بِبَدَنَةٍ، وَمَا دُونَهَا بِشَاةٍ. قَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ:
وَالْمَضْمُونَةُ بِشَاةٍ مَا كَانَتْ
قَرِيبَةً مِنْ سُبْعِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنْ
صَغُرَتْ جِدًّا فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ الْبَقَرَةُ
وَالشَّاةُ وَالْقِيمَةُ عَلَى التَّعْدِيلِ
وَالتَّخْيِيرِ كَالصَّيْدِ، فَإِنْ شَاءَ
أَخْرَجَ الْبَقَرَةَ فَذَبَحَهَا وَفَرَّقَ
لَحْمَهَا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا دَرَاهِمَ
وَأَخْرَجَ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا، وَإِنْ
شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا إلَّا
أَنْ يَكُونَ الْمُتْلِفُ كَافِرًا فَإِنَّهُ
لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ صِيَامَهُ كَمَا سَبَقَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ: الدَّوْحَةُ هِيَ الشَّجَرَةُ
الْكَبِيرَةُ ذَاتُ الْأَغْصَانِ،
وَالْجَزْلَةُ الَّتِي لَا أَغْصَانَ لَهَا،
وَأَطْلَقَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ أَنَّ
الْجَزْلَةَ هِيَ الصَّغِيرَةُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ
غَيْرِ الشَّجَرِ، وَهُوَ نَوْعَانِ أحدهما:
مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّ كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ والقطفرة الْبُقُولِ
وَالْخَضْرَاوَاتِ فَيَجُوزُ لِمَالِكِهِ
قَطْعُهُ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ
قَطَعَهُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
لِمَالِكِهِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
لِلْمَسَاكِينِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ،
صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَصاحب "البيان" وَآخَرُونَ،
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا لَمْ يُنْبِتْهُ
الْآدَمِيُّ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ
الأول: الْإِذْخِرُ، وَهُوَ
ج / 7 ص -280-
مُبَاحٌ، فَيَجُوزُ قَلْعُهُ وَقَطْعُهُ بِلَا
خِلَافٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛
وَلِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، والثاني
الشَّوْكُ فَيَجُوزُ قَطْعُهُ وَقَلْعُهُ
كَمَا سَبَقَ فِي الْعَوْسَجِ وَشَجَرِ
الشَّوْكِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا
الْمَاوَرْدِيُّ، الثالث: مَا كَانَ دَوَاءً
كَالسَّنَا وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أحدهما: الْقَطْعُ
بِجَوَازِهِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ
إلَيْهِ، فَأُلْحِقَ بِالْإِذْخِرِ، وَقَدْ
أَبَاحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
الْإِذْخِرَ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا فِي
مَعْنَاهُ. وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهَذَا
الطَّرِيقِ الْمَاوَرْدِيُّ.
والطريق الثاني فِيهِ
وَجْهَانِ أصحهما: الْجَوَازُ، والثاني
الْمَنْعُ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في "شرح
التلخيص"، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ، لَكِنْ خَصَّ
هَؤُلَاءِ الْخِلَافَ بِمَا إذَا احْتَاجَ
إلَى ذَلِكَ لِلدَّوَاءِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ
الْمَاوَرْدِيُّ بَلْ عَمَّمَهُ وَجَعَلَهُ
مُبَاحًا مُطْلَقًا كَالْإِذْخِرِ الرَّابِعُ:
الْكَلَأُ، فَيَحْرُمُ قَطْعُهُ وَقَلْعُهُ
إنْ كَانَ رَطْبًا، فَإِنْ قَلَعَهُ
لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ وَهُوَ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ إخْرَاجِهَا طَعَامًا وَالصِّيَامِ
كَمَا سَبَقَ فِي الشَّجَرِ وَالصَّيْدِ.
هَذَا إذَا لَمْ يَخْلُفْ الْمَقْلُوعَ فَإِنْ
أَخْلَفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّحِيحِ،
وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ؛
لِأَنَّ الْغَالِبَ هُنَا الْإِخْلَافُ،
فَهُوَ كَسِنِّ الصَّبِيِّ، فَإِنَّهَا إذَا
قُلِعَتْ فَنَبَتَتْ فَلَا ضَمَانَ قَوْلًا
وَاحِدًا هَكَذَا ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ الْحُكْمَ وَالدَّلِيلَ.
وَشَذَّ عَنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فَقَالَ فِي "تعليقه": إذَا قَطَعَ الْحَشِيشَ
ثُمَّ نَبَتَ ضَمِنَهُ قَوْلًا وَاحِدًا،
وَلَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي
الْغُصْنِ إذَا عَادَ، قَالَ: وَالْفَرْقُ
أَنَّ الْحَشِيشَ يَخْلُفُ فِي الْعَادَةِ،
فَلَوْ أَسْقَطْنَا الضَّمَانَ عَنْ قَاطِعِهِ
بِعَوْدِهِ أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْإِغْرَاءِ
بِقَطْعِهِ بِخِلَافِ الْغُصْنِ، فَإِنَّهُ
قَدْ يَعُودُ وَقَدْ لَا يَعُودُ، هَذَا
كَلَامُ الْقَاضِي فِي "تعليقه"، وَجَزَمَ
هُوَ فِي كِتَابِهِ "المجرد" بِسُقُوطِ
الضَّمَانِ إذَا نَبَتَ الْحَشِيشُ كَمَا
قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
هَذَا إذَا عَادَ كَمَا كَانَ فَإِنْ عَادَ
نَاقِصًا ضَمِنَ مَا نَقَصَ بِلَا خِلَافٍ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْيَابِسِ أَمَّا
الْيَابِسُ فَقَالَ الْبَغَوِيّ: إنْ كَانَ
قَطَعَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ
فِي الشَّجَرِ الْيَابِسِ، وَإِنْ قَلَعَهُ
لَزِمَهُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
يَقْلَعْهُ لَنَبَتَ ثَانِيًا، هَذَا لَفْظُ
الْبَغَوِيِّ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ
الرَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا
جَفَّ الْحَشِيشُ وَمَاتَ جَازَ قَلْعُهُ
وَأَخْذُهُ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ قَوْلَ
الْبَغَوِيِّ، فَيَكُونُ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ:
إنَّ الْقَلْعَ يُوجِبُ الضَّمَانَ فِيمَا
إذَا كَانَ الْيَابِسُ لَمْ يَمُتْ، بَلْ هُوَ
مِمَّا يَنْبُتُ لَوْلَا الْقَلْعُ وَلَمْ
يَفْسُدْ أَصْلُهُ، وَيَقُولُ
الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّمَا هُوَ فِيمَا مَاتَ،
وَلَا يُرْجَى نَبَاتُهُ لَوْ بَقِيَ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
عَلَى جَوَازِ تَسْرِيحِ الْبَهَائِمِ فِي
كَلَأِ الْحَرَمِ لِتَرْعَى وَاسْتَدَلُّوا
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَقْبَلْتُ
رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ فَوَجَدْتُ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ
بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَدَخَلْتُ فِي
الصَّفِّ وَأَرْسَلْتَ الْأَتَانَ يَرْتَعُ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَمِنًى
مِنْ الْحَرَمِ.
لَوْ أَخَذَ الْكَلَأَ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ
فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ في "شرح
التلخيص". وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ
أحدهما: التَّحْرِيمُ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ،
لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا" والثاني
الْجَوَازُ وَلَا ضَمَانَ قَالَ
الرَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا لَوْ
أَرْسَلَ دَابَّتَهُ تَرْعَى؛ وَلِأَنَّ
تَحْرِيمَ الِاحْتِشَاشِ إنَّمَا كَانَ
لِتَوْفِيرِ الْكَلَأِ لِلْبَهَائِمِ
وَالصَّيُودِ وَقَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا
الْقَائِلُ يَقُولُ: إنَّمَا يَحْرُمُ
الِاخْتِلَاءُ وَالِاحْتِشَاشُ لِلْبَيْعِ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ، سِوَى
الْعَلَفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ج / 7 ص -281-
فرع: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْعُشْبُ وَالْخَلَا مَقْصُورًا اسْمٌ
لِلرَّطْبِ، وَالْحَشِيشُ اسْمٌ لِلْيَابِسِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَكِّيٍّ وَغَيْرُهُ فِي
لَحْنِ الْعَوَامّ إطْلَاقَهُمْ الْحَشِيشَ
عَلَى الرَّطْبِ، قَالُوا: وَالصَّوَابُ
اخْتِصَاصُ الْحَشِيشِ بِالْيَابِسِ، قَالُوا:
وَالْكَلَأُ مَهْمُوزٌ يَقَعُ عَلَى الرَّطْبِ
وَالْيَابِسِ وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى
الْمَجَازِ، فَسُمِّيَ الرَّطْبُ حَشِيشًا
بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ
أَقْرَبَ إلَى أَفْهَامِ أَهْلِ الْعُرْفِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ تُرَابِ الْحَرَمِ
وَأَحْجَارِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
أَنَّهُمَا كَانَا يَكْرَهَانِ أَنْ يُخْرَجَ
مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ، أَوْ
يُدْخَلَ مِنْ تُرَابِ الْحِلِّ إلَى
الْحَرَمِ. وَرَوَى عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "قَدِمْتُ
مَعَ أُمِّي أَوْ مَعَ جَدَّتِي مَكَّةَ
فَأَتَيْنَا صَفِيَّةَ بِنْتَ شَيْبَةَ،
فَأَرْسَلَتْ إلَى الصَّفَا فَقَطَعَتْ
حَجَرًا مِنْ جَنَابِهِ فَخَرَجْنَا بِهِ،
فَنَزَلْنَا أَوَّلَ مَنْزِلٍ، فَذَكَرَ مِنْ
عِلَّتِهِمْ جَمِيعًا، فَقَالَتْ أُمِّي أَوْ
جَدَّتِي: مَا أَرَانَا أُتِينَا إلَّا أَنَّا
أَخْرَجْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ مِنْ
الْحَرَمِ، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا
أُمَثِّلُهُمْ، فَقَالَتْ لِي: انْطَلِقْ
بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ إلَى صَفِيَّةَ
فَرُدَّهَا، وَقُلْ لَهَا: إنَّ اللَّهَ -
عَزَّ وَجَلَّ - وَضَعَ فِي حَرَمِهِ شَيْئًا
لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجَ مِنْهُ، قَالَ
عَبْدُ الْأَعْلَى: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ
نَحَّيْنَا ذَلِكَ فَكَأَنَّمَا أُنْشِطْنَا
مِنْ عِقَالٍ" وَيَجُوزُ إخْرَاجُ مَاءِ
زَمْزَمَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم "اسْتَهْدَى رَاوِيَةً
مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ
بِرَاوِيَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ
يُسْتَخْلَفُ بِخِلَافِ التُّرَابِ
وَالْأَحْجَارِ".
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ مَاءِ
زَمْزَمَ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله
عنه قَالَ: "اسْتَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ مَاءِ
زَمْزَمَ" وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي
الله عنه قَالَ: "أَرْسَلَنِي صلى الله عليه
وسلم وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ
يَفْتَحَ مَكَّةَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
أَنْ أَهْدِ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَلَا
تَتْرُكْ، فَبَعَثَ إلَيْهِ بِمَزَادَتَيْنِ"
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ
عَائِشَةَ رضي الله عنها "كَانَتْ تَحْمِلُ
مَاءَ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ"
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ
حَسَنُ الْإِسْنَادِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
هَكَذَا ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ:
"حَمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فِي الْأَدَاوَى وَالْقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّ
عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ".
وَأَمَّا: تُرَابُ الْحَرَمِ وَأَحْجَارُهُ
فَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا
كَرِهَا أَنْ يُخْرَجَ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ
وَحِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ شَيْءٌ. وأما
حديث عَبْدِ الْأَعْلَى الَّذِي ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظٍ يُخَالِفُ
رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ، فَلَفْظُهُمَا عَنْ
عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: "قَدِمْتُ مَعَ
أُمِّي، أَوْ قَالَ جَدَّتِي فَأَتَتْهَا
صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ فَأَكْرَمَتْهَا،
وَفَعَلَتْ بِهَا قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا
أَدْرِي مَا أُكَافِئُهَا بِهِ فَأَرْسَلَتْ
إلَيْهَا بِقِطْعَةٍ مِنْ الرُّكْنِ
فَخَرَجْنَا بِهَا، فَنَزَلْنَا أَوَّلَ
مَنْزِلٍ، فَذَكَرنَا مِنْ مَرَضِهِمْ
وَعِلَّتِهِمْ جَمِيعًا، قَالَ: فَقَالَتْ
أُمِّي أَوْ جَدَّتِي: مَا أَرَانَا أُتِينَا
إلَّا أَنَّا أَخْرَجْنَا هَذِهِ الْقِطْعَةَ
مِنْ الْحَرَمِ، فَقَالَتْ لِي وَكُنْتُ
أُمَثِّلُهُمْ انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْقِطْعَةِ
إلَى صَفِيَّةَ فَرُدَّهَا، وَقُلْ لَهَا:
إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ وَضَعَ فِي حَرَمِهِ
شَيْئًا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْرَجَ
مِنْهُ، قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: فَقَالُوا
لِي: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نُجِّينَا
بِدُخُولِك الْحَرَمَ، فَكَأَنَّمَا
أُنْشِطْنَا مِنْ عَقْلٍ" هَذَا لَفْظُ
رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ
وَغَيْرِهِمَا.
وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي
"كِتَابِ مَكَّةَ" فِي فَضْلِ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ أَنَّهَا أَعْطَتْهُمْ قِطْعَةً
مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، كَانَتْ
عِنْدَهَا أَصَابَتْهَا حِينَ اُقْتُلِعَ
الْحَجَرُ فِي زَمَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
حِينَ حَاصَرَهُ الْحَجَّاجُ، وَهَذَا مَعْنَى
رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ قِطْعَةٌ مِنْ
الرُّكْنِ أَيْ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ،
وَالْمُرَادُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَعَبْدُ
ج / 7 ص -282-
الْأَعْلَى هَذَا تَابِعِيٌّ قُرَيْشِيٌّ،
وأما: صَفِيَّةُ هَذِهِ فَهِيَ صَحَابِيَّةٌ
قُرَيْشِيَّةٌ عَبْدَرِيَّةٌ وَهِيَ صَفِيَّةُ
بِنْتُ شَيْبَةَ الصَّحَابِيِّ، حَاجِبِ
الْكَعْبَةِ، وَهُوَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. وَاسْمُ
طَلْحَةَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَتْ
صَفِيَّةُ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلَهَا في "الصحيحين"
خَمْسَةُ أَحَادِيثَ عَنْ عَائِشَةَ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهِ
مَسَائِلُ: إحداها: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ
الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى جَوَازِ
نَقْلِ مَاءِ زَمْزَمَ إلَى جَمِيعِ
الْبِلَادِ، وَاسْتِحْبَابِ أَخْذِهِ
لِلتَّبَرُّكِ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ مَعَ مَا ذَكَرْتُهُ الثانية:
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا
يُدْخَلَ تُرَابُ الْحِلِّ وَأَحْجَارُهُ
الْحَرَمَ؛ لِئَلَّا يَحْدُثَ لَهَا حُرْمَةٌ
لَمْ تَكُنْ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ
مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ
نَهْيٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، وَأَمَّا قَوْلُ صاحب
"البيان": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ:
لَا يَجُوزُ إدْخَالُ شَيْءٍ مِنْ تُرَابِ
الْحِلِّ وَأَحْجَارِهِ إلَى الْحَرَمِ
فَغَلَطٌ مِنْهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ
أَبُو إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ،
الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ لَا يَجُوزُ
إخْرَاجُ تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ
إلَى الْحِلِّ، هَذِهِ عِبَارَةُ
الْمُصَنِّفِ، وَكَذَا قَالَ الْمَحَامِلِيُّ
فِي كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ" و"التجريد":
لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُمَا، وَتَابَعَهُمَا
صاحب "البيان" فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ،
وَقَالَ صاحب "الحاوي": يُمْنَعُ مِنْ
إخْرَاجِهِمَا، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: لَا
يُخْرِجُهُمَا، وَقَالَ كَثِيرُونَ، أَوْ
الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُكْرَهُ
إخْرَاجُهُمَا، فَأَطْلَقُوا لَفْظَ
الْكَرَاهِيَةِ. مِمَّنْ قَالَ يُكْرَهُ:
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"،
وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ،
وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ
وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ"
وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي
كِتَابِهِ "المجرد": قَالَ الشَّافِعِيُّ في
"الجامع الكبير" وَلَا أُجِيزُ فِي أَنْ
يُخْرَجَ مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ
وَتُرَابِهِ شَيْئًا إلَى الْحِلِّ؛ لِأَنَّ
لَهُ حُرْمَةً قَالَ: وَقَالَ فِي
"الْقَدِيمِ": ثُمَّ أَكْرَهُ إخْرَاجَهُمَا،
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَخَّصَ بَعْضُ
النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِشِرَاءِ
الْبِرَامِ مِنْ مَكَّةَ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ: هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ
الْبِرَامَ لَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةِ
الْحَرَمِ، بَلْ تُحْمَلُ مِنْ مَسِيرَةِ
يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ الْحَرَمِ.
هَذَا نَقْلُ الْقَاضِي. وَهَكَذَا نَقَلَ
الْأَصْحَابُ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَحْوَ هَذَا
فَحَصَلَ خِلَافٌ لِلْأَصْحَابِ فِي أَنَّ
إخْرَاجَهُمَا مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ، قَالَ
الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ
أَخْرَجَهُ فَلَا ضَمَانَ، قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَإِذَا
أَخْرَجَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى
الْحَرَمِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ آخِرُ الْحَجِّ مِنْ
"تعليقه": ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ في "الأمالِيِّ الْقَدِيمَةِ"،
وَعَلَّلَهَا بِأَنَّ الْحَرَمَ بُقْعَةٌ
تُخَالِفُ سَائِرَ الْبِقَاعِ، وَلَهَا شَرَفٌ
عَلَى غَيْرِهَا بِدَلِيلِ اخْتِصَاصِ
النُّسُكَيْنِ بِهَا وَوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي
صَيْدِهَا فَلَا تَفُوتُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ
لِتُرَابِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي حُكْمِ سُتْرَةِ
الْكَعْبَةِ، قَالَ صَاحِبُ "التَّلْخِيصِ":
لا يَجُوزُ بَيْعُ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ،
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ
مِنْ أَصْحَابِنَا: لا يَجُوزُ قَطْعُ
أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَلَا قَطْعُ شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ، قَالَ وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ
وَلَا بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ، خِلَافُ مَا
يَفْعَلُهُ الْعَامَّةُ: يَشْتَرُونَهَا مِنْ
بَنِي شَيْبَةَ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهُ فِي
أَوْرَاقِ الْمَصَاحِفِ، قَالَ: وَمَنْ حَمَلَ
مِنْهُ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ. وَحَكَى
الرَّافِعِيُّ قَوْلَ ابْنِ عَبْدَانَ
وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ،
فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ،
وَكَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَلِيمِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا:
لَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا شَيْءٌ،
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ
الصَّلَاحِ قَوْلَ الْحَلِيمِيِّ وَابْنِ
عَبْدَانَ ثُمَّ قَالَ: الْأَمْرُ فِيهَا
ج / 7 ص -283-
إلَى
الْإِمَامِ يَصْرِفُهَا فِي بَعْضِ مَصَارِفِ
بَيْتِ الْمَالِ بَيْعًا وَعَطَاءً،
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيُّ
صَاحِبُ "كِتَابِ مَكَّةَ"، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يَنْزِعُ
كِسْوَةَ الْبَيْتِ كُلَّ سَنَةٍ،
فَيُقَسِّمُهَا عَلَى الْحَاجِّ، وَهَذَا
الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو
حَسَنٌ مُتَعَيَّنٌ؛ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى
تَلَفِهَا بِطُولِ الزَّمَانِ. وَقَدْ رَوَى
الْأَزْرَقِيُّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَا
سَبَقَ، وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ أَيْضًا عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما
أَنَّهُمَا قَالَا: تُبَاعُ كِسْوَتُهَا
وَيُجْعَلُ ثَمَنُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ:
لَا بَأْسَ أَنْ يَلْبَسَ كِسْوَتَهَا مَنْ
صَارَتْ إلَيْهِ مِنْ حَائِضٍ وَجُنُبٍ
وَغَيْرِهِمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَا يَجُوزُ أَخْذُ
شَيْءٍ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ لَا
لِلتَّبَرُّكِ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَمَنْ
أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ
إلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ التَّبَرُّكَ أَتَى
بِطِيبٍ مِنْ عِنْدِهِ فَمَسَحَهَا بِهِ ثُمَّ
أَخَذَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مُهِمٌّ فِي بَيَانِ
حُدُودِ حَرَمِ مَكَّةَ الَّذِي يَحْرُمُ
فِيهِ الصَّيْدُ وَالنَّبَاتُ، وَيُمْنَعُ
أَخْذُ تُرَابِهِ وَأَحْجَارِهِ، وَبَيَانُ
مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا
يُخَالِفُ فِيهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَرْضِ،
وَفِيهِ مَسَائِلُ: إحداها: فِي حُدُودِ
الْحَرَمِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي
أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ مُخْتَصَرَةً -
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْحَرَمَ هُوَ
مَكَّةُ، وَمَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ
جَوَانِبِهَا جَعَلَ الله تعالى لَهَا
حُكْمَهَا فِي الْحُرْمَةِ تَشْرِيفًا لَهَا،
وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ الْحَرَمِ مِنْ أَهَمِّ
مَا يُعْتَنَى بِهِ لِكَثْرَةِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَقَدْ
اجْتَهَدْتُ فِي إيضَاحِهِ وَتَتَبُّعِ
كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِي إتْقَانِهِ عَلَى
أَكْمَلِ وُجُوهِهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تعالى
فَحَدُّ الْحَرَمِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ
دُونَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ بُيُوتِ بَنِي
نِفَارٍ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الْيَمَنِ، طَرَفُ
أَضَاةِ لِبْنٍ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
مَكَّةَ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى
عَرَفَاتٍ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ عَلَى
سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ
الْعِرَاقِ عَلَى ثَنِيَّةِ جَبَلٍ
بِالْمَقْطَعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ
وَمِنْ طَرِيقِ الْجِعْرَانَةِ فِي شِعْبِ آلِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ عَلَى تِسْعَةِ
أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جَدَّةَ مُنْقَطِعُ
الْأَعْشَاشِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ
مَكَّةَ.
هَكَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْحُدُودَ أَبُو
الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي "كِتَابِ
مَكَّةَ" وَأَبُو الْوَلِيدِ هَذَا أَحَدُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْآخِذِينَ عَنْهُ،
الَّذِينَ رَوَوْا عَنْهُ الْحَدِيثَ
وَالْفِقْهَ. وَكَذَا ذَكَرَ هَذِهِ
الْحُدُودَ الْمَاوَرْدِيُّ صاحب "الحاوي" فِي
كِتَابِهِ "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ"
وَكَذَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ
وَأَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ، إلَّا
أَنَّ عِبَارَةَ بَعْضِهِمْ أَوْضَحُ مِنْ
بَعْضٍ، لَكِنَّ الْأَزْرَقِيَّ قَالَ فِي
حَدِّهِ مِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ أَحَدَ
عَشَرَةَ مِيلًا، وَاَلَّذِي قَالَهُ
الْجُمْهُورُ سَبْعَةٌ فَقَطْ، بِتَقْدِيمِ
السِّينِ عَلَى الْبَاءِ، وَفِي هَذِهِ
الْحُدُودِ أَلْفَاظٌ غَرِيبَةٌ يَنْبَغِي
ضَبْطُهَا فَقَوْلُهُمْ: بُيُوتُ نِفَارٍ هُوَ
- بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالْفَاءِ -
وَقَوْلُهُمْ أَضَاةُ لِبْنٍ - بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَبِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ -
عَلَى وَزْنِ الْقَنَاةِ، وَهِيَ مُسْتَنْقَعُ
الْمَاءِ، وأما: لِبْنٍ - فَبِلَامٍ
مَكْسُورَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ
سَاكِنَةٍ - كَذَا ضَبَطَهَا الْإِمَامُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ
الْمُتَأَخِّرُ فِي كِتَابِهِ "الْمُؤْتَلِفِ
وَالْمُخْتَلِفِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمَاكِنِ"
وَقَوْلُهُمْ: الْأَعْشَاشُ هُوَ - بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ وَبِشِينَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ -
جَمْعُ عُشٍّ وَقَوْلُهُمْ فِي جَدَّةَ مِنْ
جِهَةِ الْجِعْرَانَةِ تِسْعَةُ أَمْيَالٍ
هُوَ بِتَقْدِيمِ التَّاءِ عَلَى السِّينِ،
وأما: الْحُدُودُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ
فَإِنَّهَا بِتَقْدِيمِ السِّينِ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْحَرَمَ عَلَيْهِ
عَلَامَاتٌ مَنْصُوبَةٌ فِي جَمِيعِ
جَوَانِبِهِ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ.
وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدِهِمْ أَنَّ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام
عَلَّمَهَا، وَنَصَبَ الْعَلَامَاتِ فِيهَا
وَكَانَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُرِيهِ
مَوَاضِعَهَا، ثُمَّ أُمِرَ نَبِيُّنَا صلى
الله عليه وسلم بِتَحْدِيدِهَا ثُمَّ عُمَرُ
ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ مُعَاوِيَةُ رضي الله
عنهم. وَهِيَ إلَى الْآنَ بَيِّنَةٌ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ فِي آخِرِ
"كِتَابِ مَكَّةَ": أَنْصَابُ الْحَرَمِ
الَّتِي عَلَى رَأْسِ الثَّنِيَّةِ مَا كَانَ
مِنْ وُجُوهِهَا فِي هَذَا
ج / 7 ص -284-
الشِّقِّ فَهُوَ حَرَمٌ، وَمَا كَانَ فِي
ظَهْرِهَا فَهُوَ حِلٌّ قَالَ: وَبَعْضُ
الْأَعْشَاشِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهُ فِي
الْحَرَمِ.
المسألة الثانية: حَكَى
الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا لِلْعُلَمَاءِ فِي
أَنَّ مَكَّةَ مَعَ حُرْمَتِهَا، هَلْ صَارَتْ
حَرَمًا آمِنًا بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ عليه
السلام؟ أَمْ كَانَتْ قَبْلَهُ كَذَلِكَ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ تَزَلْ حَرَمًا،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَانَتْ مَكَّةُ
حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ عليه
السلام كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَإِنَّمَا
صَارَتْ حَرَمًا بِدَعْوَتِهِ، كَمَا صَارَتْ
الْمَدِينَةُ حَرَمًا بِتَحْرِيمِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ كَانَتْ
حَلَالًا، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ فِي جُمْلَةِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ:
"اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ
فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ
الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا
يُرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا
سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطُ فِيهَا
شَجَرَةٌ إلَّا لِعَلَفٍ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ
"صَحِيحِهِ"، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ
الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ
مَكَّةَ" وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ،
مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُعْضَدُ
عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ:
"اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ
الْمَدِينَةَ، وَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ،
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ
لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ:
"اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا، مِثْلَ مَا
حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ".
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا، يُرِيدُ الْمَدِينَةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا، وَإِنِّي
حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ
إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي
صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ
إبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ
تَحْرِيمَهَا لَمْ يَزَلْ مِنْ حِينِ خَلَقَ
اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِحَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ:
"هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ الله تعالى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ، وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ
اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ
الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَمَنْ قَالَ
بِهَذَا أَجَابَ عَنْ الْأَحَادِيثِ
السَّابِقَةِ بِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام
أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ
خَفِيًّا مَهْجُورًا لَا يُعْلَمُ، لَا
أَنَّهُ ابْتَدَأَهُ، وَمَنْ قَالَ
بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَجَابَ عَنْ
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ مَكَّةَ
سَيُحَرِّمُهَا إبْرَاهِيمُ، أَوْ أَظْهَرَ
ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ، والأصح: مِنْ
الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا مَا زَالَتْ
مُحَرَّمَةً مِنْ حِينِ خَلَقَ الله تعالى
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
المسألة الثالثة: مَذْهَبُنَا
أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ
وَإِجَارَاتِهَا وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ
عَلَيْهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْحَرَمِ كَمَا
يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَسَتَأْتِي
الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً بِدَلَائِلِهَا
وَفُرُوعِهَا، حَيْثُ ذَكَرَهَا الْأَصْحَابُ
فِي آخِرِ بَابِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إنْ
شَاءَ الله تعالى.
الرابعة: مَذْهَبُنَا أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مَكَّةَ
صُلْحًا لَا عَنْوَةً، لَكِنْ دَخَلَهَا صلى
الله عليه وسلم مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَالِ
خَوْفًا مِنْ
ج / 7 ص -285-
غَدْرِ
أَهْلِهَا وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ
بِدَلَائِلِهَا وَفُرُوعِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ السِّيَرِ
وَالْغَنَائِمِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
الْخَامِسَةُ: مَذْهَبُنَا
جَوَازُ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي
الْحَرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا أَوْ
قَطْعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي
الْحَرَمِ أَوْ خَارِجِهِ، ثُمَّ لَجَأَ
إلَيْهِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ
بِأَدِلَّتِهَا وَفُرُوعِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ اسْتِيفَاءِ
الْقِصَاصِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
السَّادِسَةُ: فِي
الْأَحْكَامِ الَّتِي يُخَالِفُ الْحَرَمُ
فِيهَا غَيْرَهُ مِنْ الْبِلَادِ، وَهِيَ
كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا أَطْرَافًا:
أحدها: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدْخُلَهُ
أَحَدٌ إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَهَلْ ذَلِكَ
وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ خِلَافٌ
سَبَقَ الأصح: مُسْتَحَبٌّ الثاني: يَحْرُمُ
صَيْدُهُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى
أَهْلِ الْحَرَمِ وَالْمُحِلِّينَ،
الثَّالِثُ: يَحْرُمُ شَجَرُهُ وَخَلَاهُ،
الرَّابِعُ: مَنْعُ إخْرَاجِ تُرَابِهِ
وَأَحْجَارِهِ، وَهَلْ هُوَ مَنْعُ كَرَاهَةٍ
أَوْ تَحْرِيمٍ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ،
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُمْنَعُ كُلُّ كَافِرٍ
مِنْ دُخُولِهِ مُقِيمًا كَانَ أَوْ مَارًّا
هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ،
وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَا لَمْ
يَسْتَوْطِنْهُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ
بِأَدِلَّتِهَا وَفُرُوعِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا
الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ إنْ
شَاءَ الله تعالى. السَّادِسُ: لَا تَحِلُّ
لُقَطَتُهُ لِمُتَمَلِّكٍ، وَلَا تَحِلُّ
إلَّا لِمُنْشِدٍ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، السَّابِعُ:
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ بِالْقَتْلِ فِيهِ،
الثَّامِنُ: تَحْرِيمُ دَفْنِ الْمُشْرِكِ
فِيهِ وَيَجِبُ نَبْشُهُ مِنْهُ، التَّاسِعُ:
تَخْصِيصُ ذَبْحِ دِمَاءِ الْجَزَاءَاتِ فِي
الْحَجِّ وَالْهَدَايَا، الْعَاشِرُ: لَا دَمَ
عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ إذَا كَانَ
مِنْ أَهْلِهِ. الْحَادِيَ عَشَرَ: لَا
يُكْرَهُ صَلَاةُ النَّفْلِ الَّتِي لَا
سَبَبَ لَهَا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ
فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ فِي مَكَّةَ وَسَائِرِ
الْحَرَمِ، وَفِيمَا عَدَا مَكَّةَ وَجْهٌ
شَاذٌّ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِهِ.
الثَّانِيَ عَشَر:
إذَا نَذَرَ قَصْدَهُ لَزِمَهُ الذَّهَابُ
إلَيْهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، بِخِلَافِ
غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ لَا
يَجِبُ الذَّهَابُ إلَيْهِ إذَا نَذَرَهُ،
إلَّا مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَى أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا.
الثَّالِثَ عَشَرَ: إذَا نَذَرَ النَّحْرَ
وَحْدَهُ بِمَكَّةَ لَزِمَهُ النَّحْرُ بِهَا،
وَتَفْرِقَةُ اللَّحْمِ عَلَى مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ، وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ
آخَرَ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ فِي أَصَحِّ
الْوَجْهَيْنِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: يَحْرُمُ
اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا
بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ فِي الصَّحْرَاءِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: تَضْعِيفُ الْأَجْرِ فِي
الصَّلَوَاتِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَكَذَا سَائِرُ الطَّاعَاتِ، السَّادِسَ
عَشَرَ: يُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ
يُصَلُّوا الْعِيدَ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، أما: غَيْرُهُمْ فَهَلْ
الْأَفْضَلُ صَلَاتُهُمْ فِي مَسْجِدِهِمْ؟
أَمْ فِي الصَّحْرَاءِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ
فِي بَابِ صَلَاةِ الْعِيدِ السَّابِعَ
عَشَرَ: لَا يَجُوزُ إحْرَامُ الْمُقِيمِ فِي
الْحَرَمِ بِالْحَجِّ خَارِجَهُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
مَكَّةُ عِنْدَنَا أَفْضَلُ الْأَرْضِ، وَبِهِ
قَالَ عُلَمَاءُ مَكَّةَ وَالْكُوفَةَ وَابْنُ
وَهْبٍ وَابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيَّانِ
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ
الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ
الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي
أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَالَ
مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ: الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةَ أَفْضَلُ الْأَرْضِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا
أَفْضَلُ، دَلِيلُنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ رضي الله عنه
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ
يَقُولُ لِمَكَّةَ:
"وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضٍ إلَى
اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ
مَا خَرَجْتُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا، ذَكَرَهُ
التِّرْمِذِيُّ فِي "جَامِعِهِ" فِي كِتَابِ
ج / 7 ص -286-
الْمَنَاقِبِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ وَسَنَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ بَسْطًا
وَإِيضَاحًا إنْ شَاءَ الله تعالى حَيْثُ
ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ
النَّذْرِ، فِيمَنْ نَذَرَ الْهَدْيَ إلَى
أَفْضَلِ الْبِلَادِ. وَعَنْ ابْنِ
الزُّبَيْرِ: قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم:
"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا
سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاةٍ فِي
مَسْجِدِي" حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ"،
وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي آخِرِ كِتَابِ
الْحَجِّ مِنْ "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ
قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَفْضَلُ الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ
فِيمَا سِوَاهُ.
الثَّامِنَةُ: يُكْرَهُ
حَمْلُ السِّلَاحِ بِمَكَّةَ لِغَيْرِ
حَاجَةٍ. لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ أَنْ
يُحْمَلَ السِّلَاحُ بِمَكَّةَ" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
التَّاسِعَةُ: قَالَ
أَصْحَابُنَا: مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَنْ
تُحَجَّ الْكَعْبَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَلا
تُعَطَّلُ وَلَيْسَ لِعَدَدِ الْمُحَصِّلِينَ
لِهَذَا الْغَرَضِ قَدْرٌ مُتَعَيَّنٌ، بَلْ
الْغَرَضُ وُجُودُ حَجِّهَا كُلَّ سَنَةٍ مِنْ
بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، وَسَتَأْتِي
الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ
كِتَابِ السِّيَرِ حَيْثُ ذَكَرَ
الشَّافِعِيَّ وَالْمُزَنِيُّ وَالْأَصْحَابُ
فُرُوضَ الْكِفَايَةِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
الْعَاشِرَةُ: عَنْ أَبِي
ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ
وُضِعَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: الْمَسْجِدُ
الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ
بَيْنَهُمَا؟ قَالَ أَرْبَعُونَ عَامًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَ: قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ" فِي خَصَائِصِ الْحَرَمِ:
لَا يُحَارَبُ أَهْلُهُ فَإِنْ بَغَوْا عَلَى
أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ: يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ بَلْ
يُضَيَّقُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ
الْبَغْيِ، وَيَدْخُلُوا فِي أَحْكَامِ أَهْلِ
الْعَدْلِ، قَالَ: وَقَالَ: جُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ: يُقَاتَلُونَ عَلَى بَغْيِهِمْ
إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنْ الْبَغْيِ
إلَّا بِالْقِتَالِ، لِأَنَّ قِتَالَ
الْبُغَاةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تعالى
الَّتِي لَا تَجُوزُ إضَاعَتُهَا، فَحِفْظُهَا
فِي الْحَرَمِ أَوْلَى مِنْ إضَاعَتِهَا.
هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهَذَا
الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ "اخْتِلَافِ
الْحَدِيثِ" مِنْ كُتُبِ "الْأُمِّ" وَنَصَّ
عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي آخِرِ كِتَابِهِ
الْمُسَمَّى "بِسِيَرِ الْوَاقِدِيِّ" مِنْ
كُتُبِ "الْأُمِّ". وَقَالَ الْقَفَّالُ
الْمَرْوَزِيُّ، فِي كِتَابِهِ "شَرْحِ
التَّلْخِيصِ" فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ
فِي ذِكْرِ"الخصائص" لَا يَجُوزُ الْقِتَالُ
بِمَكَّةَ، قَالَ: حَتَّى لَوْ تَحَصَّنَ
جَمَاعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ فِيهَا لَمْ
يَجُزْ لَنَا قِتَالُهُمْ فِيهَا، وَهَذَا
الَّذِي قَالَهُ الْقَفَّالُ غَلَطٌ نَبَّهْتُ
عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي
شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ
سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي
الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَ يَوْمِ فَتْحِ
مَكَّةَ يَقُولُ:
"إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَلَا يَحِلُّ
لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا
يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ
تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ
اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ
يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي
فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ،
وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفي
"الصحيحين" أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَعْنَاهُ
فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ،
وَأَنَّهَا لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ بِهَا
إلَّا سَاعَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فالجواب: أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ
ج / 7 ص -287-
نَصْبِ
الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ بِمَا
يَعُمُّ كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ، إذَا
أَمْكَنَ إصْلَاحُ الْحَالِ بِدُونِ ذَلِكَ،
بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَصَّنَّ كُفَّارٌ فِي
بَلَدٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ
عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ
نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلَى هَذَا
التَّأْوِيلِ فِي آخِرِ كِتَابِهِ
الْمَعْرُوفِ "بِسِيَرِ الْوَاقِدِيِّ" مِنْ
كُتُبِ "الْأُمِّ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةَ عَشَرَةَ:
سَدَانَةُ الْكَعْبَةِ وَحِجَابَتُهَا هِيَ
وِلَايَتُهَا وَخِدْمَتُهَا وَفَتْحُهَا
وَإِغْلَاقُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا
حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِبَنِي طَلْحَةَ
الْحَجَبِيِّينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ
بْنِ قُصَيٍّ، اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
هَذَا، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ
الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ
الْحَجِّ مِنْ "شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ"،
وَذَكَرْتُهُ أَنَا هُنَاكَ فِي "شَرْحِ
صَحِيحِ مُسْلِمٍ"، وَأَوْضَحْتُهُ
بِدَلِيلِهِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ فَهِيَ
وِلَايَةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَبْقَى
دَائِمَةً أَبَدًا وَلَهُمْ
وَلِذُرِّيَّاتِهِمْ، لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ
مُنَازَعَتُهُمْ فِيهَا مَا دَامُوا
مَوْجُودِينَ صَالِحِينَ لِذَلِكَ، وَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"كُلُّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ تَحْتَ قَدَمِي
إلَّا سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَسَدَانَةَ
الْبَيْتِ".
فرع: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ
أَنَّ الْكَعْبَةَ الْكَرِيمَةَ بُنِيَتْ
خَمْسَ مَرَّاتٍ: إحداها: بَنَتْهَا
الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ آدَمَ، وَحَجَّهَا آدَم
فَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ -
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ
الثانية: بَنَاهَا إبْرَاهِيمُ صلى الله عليه
وسلم قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]1 وَقَالَ تَعَالَى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال أهل التفيسر: اعلم أن هذا النوع الرابع
من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام وهو أنهما عند بناء
البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: وإذ يرفع حكاية حال
ماضيه، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل
لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابت أو
نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع
وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها
سافات البناء، لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى
عليه ويوضع فوقه، ومعنى رفع القواعد رفعها
بالبناء لأنه إذا وضع سافا فوق ساف فقد رفع
السافات.
المسألة الثانية: الأكثرون من أهل الأخبار على
أن هذا البيت كان موجودا قبل إبراهيم عليه
السلام على ما روينا من الأحاديث فيه، واحتجوا
بقوله وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت فإن
هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة مهدمة
إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنه هل كان شريكا
له في ذلك والتقدير:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ}
[البقرة: 127] الدليل عليه أنه تعالى عطف
إسماعيل، فلا بد وأن يكون ذلك العطف من فعل من
الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع
القواعد فوجب أن يكون إسماعيل معطوفا على
إبراهيم في ذلك، ثم أن إشراكهما في ذلك يحتمل
وجهين:
أحدهما: أن يشتركا في البناء ورفع الجدران
والثاني: أن يكون أحدهما بانيا للبيت والآخر
يرفع إليه الحجر والطين ويهيء له الآلات
والأدوات. وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع
إليهما، وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة.
ومن الناس من قال: إن إسماعيل في ذلك الوقت
كان طفلا صغيراً، وروى معناه عن علي رضي الله
عنه، وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل
هاجراً فقالا: إلى من تكلنا؟ فقال إبراهيم:
إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء
فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه
فنبعت زمزم، وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله من
البيت ثم ابتدأوا وإسماعيل ربنا تقبل منا
طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون
إسماعيل شريكا في الدعاء لا في البناء، وهذا
التأويل ضعيف لأن قوله: تقبل منا ليس فيه ما
يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى
المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك
من فعله كيف يدعو =
ج / 7 ص -288-
[البقرة: 127] الْآيَةَ، الثَّالِثَةُ:
بَنَتْهَا قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَحَضَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا
الْبِنَاءَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، ثَبَتَ
ذَلِكَ في "الصحيحين"، وَكَانَ لَهُ صلى الله
عليه وسلم حِينَئِذٍ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ،
الرابعة: بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ
ذَلِكَ في "الصحيحين"، الْخَامِسَةُ: بَنَاهَا
الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فِي خِلَافَةِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، ثَبَتَ
ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ، وَاسْتَقَرَّ
بِنَاؤُهَا الَّذِي بَنَاهُ الْحَجَّاجُ إلَى
الْآنَ، وَقِيلَ: إنَّهَا بُنِيَتْ
مَرَّتَيْنِ أُخْرَتَيْنِ قَبْلَ بِنَاءِ
قُرَيْشٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ فِي كِتَابِ
"الْمَنَاسِكِ الْكَبِيرِ"، قَالَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي"تعليقه" فِي بَابِ
دُخُولِ مَكَّةَ فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ
افْتِتَاحِ الطَّوَافِ بِالِاسْتِلَامِ: قَالَ
الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ أَنْ تُتْرَكَ
الْكَعْبَةُ عَلَى حَالِهَا فَلَا تُهْدَمُ؛
لِأَنَّ هَدْمَهَا يُذْهِبُ حُرْمَتَهَا،
وَيَصِيرُ كَالتَّلَاعُبِ بِهَا، فَلَا
يُرِيدُونَ بِتَغْيِيرِهَا إلَّا هَدْمَهَا
فَلِذَلِكَ اسْتَحْبَبْنَا تَرْكَهَا عَلَى
مَا هِيَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَقَطْعُ
شَجَرِهَا، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي
الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ،
وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا
حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، لَا يُنَفَّرُ
صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا
يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا
إلَّا لِمُنْشِدٍ" فَإِنْ قَتَلَ فِيهَا
صَيْدًا فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي
الْقَدِيمِ: يُسْلَبُ الْقَاتِلُ لِمَا رُوِيَ
"أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله
عنه أَخَذَ سَلَبَ رَجُلٍ قَتَلَ صَيْدًا فِي
الْمَدِينَةِ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَقْتُلُ صَيْدًا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ
فَاسْلُبُوهُ"
وَقَالَ في "الجديد": لَا يُسْلَبُ لِأَنَّهُ
مَوْضِعٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله بأن يقبله منه، فأذن هذا القول على
خلاف ظاهر القرآن فوجب رده.
المسألة الرابعة: إنما قال:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ
مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] ولم يقل يرفع الله تعالى حكى عنها بعد ذلك ثلاثة
أنواع من الدعاء.
النوع الأول: في قوله:
{تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] وفيه مسائل: المسألة الأولى: اختلفوا في قوله:
{تَقَبَّلْ مِنَّا} فقال المتكلمون: كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه
منه والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو
المردود فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم
الآخر، فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب
والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى
إليه، فشبه الفعل من العبد بالعطية والرضا من
الله تعالى بالقبول توسعاً، وقال العارفون:
فرق بين القبول والتقبل، فإن التقبل عبارة عن
أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث
يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، فهذا
اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف
بالعجز والانكسار، وأيضا فلم يكن المقصود
إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعا موقع
القبول من المخدم عند الخادم العاقل من إعطاء
الثواب عليه. المسألة الثانية: أنهم بعد أن
أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله
تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما
قاله المتكلمون، ولو كان ترتيب الثواب على
الفعل المقرن بالأخلاص واجبا على الله تعالى
لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة فإنه
يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول:
يا إلهي إجعل النار حارة والجمد باردا بل ذلك
الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند التكلم في
صيرورة الناس حال بقائها على صورتها في
الإشراق، والاشتعال باردة والجمد حال بقائه
على صورته في الانجماد والبياض حاراً، ويستحيل
عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا
الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم
يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله
أصلا. المسألة الثالثة: أنه إنما عقب هذا
الدعاء بقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] كأنه يقول: تسمع دعاءنا وتضرعنا وتعلم ما قلبنا من
الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك.
فإن قيل: قوله: إنك أنت السميع العليم يفيد
الحصر وليس الأمر كذلك فإن غيره قد يكون
سميعاً. قلنا: أنه سبحان لكماله في هذه الصفة
يكون كأنه المختص بها دون غيره والله تعالى
أعلم.
ج / 7 ص -289-
يَجُوزُ دُخُولُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا
يُضْمَنُ صَيْدُهُ كَوَجٍّ فَإِنْ قُلْنَا:
يُسْلَبُ دُفِعَ سَلَبُهُ إلَى مَسَاكِينِ
الْمَدِينَةِ كَمَا يُدْفَعُ جَزَاءُ صَيْدِ
مَكَّةَ إلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ، وَقَالَ
شَيْخُنَا أَبُو الطَّيِّبِ رحمه الله:
يَكُونُ سَلَبُهُ لِمَنْ أَخَذَهُ لِأَنَّ
سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ سَلَبَ
الْقَاتِلِ، وَقَالَ: طُعْمَةٌ أَطْعَمَنِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَصْلٌ: وَيَحْرُمُ صَيْدُ
وَجٍّ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ لِمَا رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى
عَنْ قَتْلِ صَيْدِ وجٍّ فَإِنْ قَتَلَ فِيهِ
صَيْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّ
الْجَزَاءَ وَجَبَ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْعُ
لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ
وَالْحَرَمِ، وَوَجٌّ لَا يَبْلُغُ الْحَرَمَ
مِنْ الْحُرْمَةِ فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ فِي
الْجَزَاءِ.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَةَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ
أَحَادِيثُ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَيَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ فِي
الدَّلَالَةِ هُنَا مِنْهَا: عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا وَإِنِّي
حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ
إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ" الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: "حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَا بَيْنَ لَابَتَيْ
الْمَدِينَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا،
وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا
بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا يُهْرَاقَ
فِيهَا دَمٌ وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ
لِقِتَالٍ، وَلَا تُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ
إلَّا لِعَلَفٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ تُقْطَعَ
عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي
حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا
يُصَادُ صَيْدُهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ
أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مِنْ كَذَا إلَى كَذَا، لَا يُقْطَعُ
شَجَرُهَا، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا، مَنْ
أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي
الْمَدِينَةِ: "لَا
يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ
صَيْدُهَا، وَلَا يُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا
إلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا، وَلَا يَصْلُحُ
لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ
لِقِتَالٍ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ
مِنْهَا شَجَرٌ إلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ
بَعِيرَهُ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ
بِمَعْنَى مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ في "صحيحه" عَنْ عَامِرِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ أَنَّ سَعْدًا وَجَدَ عَبْدًا
يَقْطَعُ شَجَرًا وَيَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ،
فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَ أَهْلُ
الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ
عَلَيْهِمْ غُلَامَهُمْ أَوْ مَا أَخَذَ مِنْ
غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ
أَرُدَّ شَيْئًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ
عَلَيْهِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ "وَعَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ
رَجُلاً يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ
الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ، فَجَاءَ
مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ فِيهِ فَقَالَ: "إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ
هَذَا الْحَرَمَ، وَقَالَ مَنْ وَجَدَ أَحَدًا
فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ فَلا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ
طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَلَكِنْ إنْ شِئْتُمْ
دَفَعْتُ إلَيْكُمْ ثَمَنَهُ" رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد بِإِسْنَادٍ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ
حُفَّاظٌ إلاَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ هَذَا، فَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ
هُوَ بِالْمَشْهُورِ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ
بِحَدِيثِهِ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو
دَاوُد، وَهَذَا الَّذِي رَوَاهُ بِمَعْنَى
مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَيَقْتَضِي مَجْمُوعُ
هَذَا أَنَّ هَذِهِ
ج / 7 ص -290-
الرِّوَايَةَ صَحِيحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ، وَفِي
رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ "أَنَّ سَعْدًا
كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ فَيَجِدُ
الْحَاطِبَ مَعَهُ شَجَرٌ رَطْبٌ قَدْ
عَضَدَهُ مِنْ بَعْضِ شَجَرِ الْمَدِينَةِ
فَيَأْخُذُ سَلَبَهُ، فَيُكَلَّمُ فِيهِ
فَيَقُولُ: لا أَدَعُ غَنِيمَةً غَنَّمَنِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي
لَمِنْ أَكْنَزِ النَّاسِ مَالاً" وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وأما حديث صَيْدِ وَجٍّ فَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَامّ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ:
"أَلا إنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ يَعْنِي شَجَرَهُ حَرَامٌ
مُحَرَّمٌ" وَذَلِكَ
قَبْلَ نُزُولِهِ الطَّائِفَ وَحِصَارِهِ
ثَقِيفًا، لَكِنَّ إسْنَادَهُ ضَعِيفٌ قَالَ
الْبُخَارِيُّ فِي "تَارِيخِهِ": لَا يَصِحُّ،
وَوَجٌّ - بِوَاوٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ جِيمٍ
مُشَدَّدَةٍ - وأما: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ:
إنَّهُ وَادٍ بِالطَّائِفِ فَكَذَا قَالَهُ
غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْفُقَهَاءِ.
وأما: أَهْلُ اللُّغَةِ فَيَقُولُونَ: هُوَ
بَلْدَةُ الطَّائِفِ، وَقَالَ الْحَازِمِيُّ
فِي كِتَابِهِ "الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ
في الأماكِنِ": وَجٌّ اسْمٌ لِحُصُونِ
الطَّائِفِ، وَقِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا،
وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ وَجٌّ هَذَا بِوَحٍّ -
بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، قَالَ
الْحَازِمِيُّ: هِيَ نَاحِيَةٌ بِنُعْمَانِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحداها: يَحْرُمُ
التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ
وَشَجَرِهِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ،
وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ، وَأَطْبَقَ
عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِنَا وَحَكَى
الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ قَوْلًا
شَاذًّا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ،
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَأُخِذَ هَذَا
الْقَوْلُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا
يَحْرُمُ قَتْلُ صَيْدٍ إلَّا صَيْدَ
الْحَرَمِ، وَأَكْرَهُ قَتْلَ صَيْدِ
الْمَدِينَةِ، وَهَذَا النَّقْلُ شَاذٌّ
ضَعِيفٌ، بَلْ بَاطِلٌ مُنَابِذٌ
لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ
وأما: نَصُّ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ: هَذِهِ الْكَرَاهَةُ
الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ كَرَاهَةُ
تَحْرِيمٍ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، ثُمَّ
اسْتَدَلَّ بِبَعْضِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ،
فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالتَّحْرِيمِ،
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا ارْتَكَبَ هَذَا
الْحَرَامَ هَلْ يَضْمَنُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ
مَشْهُورَانِ: "الجديد" لَا يَضْمَنُ،
و"القديم" يَضْمَنُ وَدَلِيلُهُمَا فِي
الْكِتَابِ، وَأَجَابُوا "لِلْجَدِيدِ" عَنْ
حَدِيثِ سَعْدٍ فِي سَلَبِ الصَّائِدِ
بِجَوَابَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: أحدهما: جَوَابُ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي تعليقه أَنَّهُ
مَحْمُولٌ عَلَى التَّغْلِيظِ، والثاني
جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي
"تعليقه" وَجَمَاعَةٍ بِأَنَّهُ يُحْمَلُ
عَلَى أَنَّهُ كَانَ هَذَا حِينَ كَانَتْ
الْعُقُوبَةُ بِالْأَمْوَالِ ثُمَّ نُسِخَ،
وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ بَلْ
بَاطِلَانِ. وَالْمُخْتَارُ تَرْجِيحُ
"الْقَدِيمِ"، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ فِيهِ،
وَهُوَ سَلَبُ الْقَاتِلِ لِأَنَّ
الْأَحَادِيثَ فِيهِ صَحِيحَةٌ بِلَا
مُعَارِضٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِذَا قُلْنَا:
يَضْمَنُ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا
الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصاحب
"البيان" وَالرَّافِعِيُّ: أحدهما: يَضْمَنُ
كَضَمَانِ حَرَمِ مَكَّةَ عَلَى مَا سَبَقَ،
والثاني وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ
سَلَبُ الصَّائِدِ وَقَاطِعُ الشَّجَرِ أَوْ
الْكَلَأِ، وَعَلَى هَذَا فِي الْمُرَادِ
بِالسَّلَبِ طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ
قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ كَسَلَبِ
الْقَتِيلِ مِنْ الْكُفَّارِ مِمَّنْ قَطَعَ
بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"
وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي
"جَامِعِهِ" وَالدَّارِمِيُّ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي
كِتَابَيْهِ "الْمَجْمُوعِ والتجريد"
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ
"التَّعْلِيقِ" و"المجرد" وَالْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَالْجُرْجَانِيُّ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَالْمُصَنَّفُ وَالشَّاشِيُّ
وَالْبَغَوِيُّ وَخَلَائِقُ لَا
يَنْحَصِرُونَ، وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ،
والطريق الثاني: حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِيهِ
وَجْهَانِ: أصحهما: هَذَا، والثاني إنْ
سَلَبَهُ ثِيَابَهُ فَقَطْ، وَبِهِ قَطَعَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَقَدْ
أَشَارَ الْمُتَوَلِّي إلَى هَذَا.
وَفِي مَصْرِفِ سَلَبِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أصحها: أَنَّهُ لِلسَّالِبِ كَالْقَتِيلِ،
وَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ، فَإِنَّ سَعْدًا
أَخَذَ
ج / 7 ص -291-
السَّلَبَ لِنَفْسِهِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَ
هَذَا الْوَجْهَ الدَّارِمِيُّ
وَالْمَحَامِلِيُّ في "المجموع"، وَالْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ،
والثاني أَنَّهُ لِفُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ
وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "المجرد"
وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ
فِي "التَّجْرِيدِ"، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي
أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تعليقه" عَنْ
الْأَصْحَابِ، وَأَشَارَ هُوَ وَالْمُصَنَّفُ
إلَى تَرْجِيحِهِ، وَلَمْ يُوَافِقَا عَلَى
هَذَا التَّرْجِيحِ وَلَيْسَ هُوَ تَرْجِيحًا
رَاجِحًا، والثالث: أَنَّهُ لِبَيْتِ
الْمَالِ، حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيُنْكَرُ
عَلَى الْمُصَنِّفِ عِبَارَتُهُ
الْمَذْكُورَةُ فَإِنَّهُ أَوْهَمَ أَنَّ
الْمَشْهُورَ فِي الْمَذْهَبِ تَفْرِيعًا
عَلَى "الْقَدِيمِ" أَنَّ السَّلَبَ
لِلْمَسَاكِينِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا
الطَّيِّبِ انْفَرَدَ بِاخْتِيَارِ كَوْنِهِ
لِلسَّالِبِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ،
بَلْ الْخِلَافُ مَشْهُورٌ جِدًّا
لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ،
فَمِمَّنْ حَكَى الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، وَمِمَّنْ
حَكَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا
كَوْنُهُ لِلسَّالِبِ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تعليقه"،
وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَالْمَحَامِلِيُّ في "المجموع"، وَالْقَاضِي
حُسَيْنٌ وَخَلَائِقُ نَحْوُهُمْ وَكُلُّ
هَؤُلَاءِ أَقْدَمُ مِنْ الْمُصَنِّفِ
وَحَكَاهُمَا مِنْ مُعَاصِرِي الْمُصَنِّفِ
وَنَحْوِهِمْ ابْنُ الصَّبَّاغِ
وَالْجُرْجَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي
وَالْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ لَكِنَّ
الْجُرْجَانِيَّ حَكَاهُمَا فِي كِتَابِهِ
"التحرير" قَوْلَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ: إنَّ
السَّلَبَ كَسَلَبِ الْقَتِيلِ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: فَهُوَ مِثْلُهُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
هُنَاكَ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ هُنَا، وَكُلُّ
شَيْءٍ قَالُوا هُنَاكَ: لَا يَدْخُلُ
كَالْمَتَاعِ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِ لَا
يَدْخُلُ هُنَا أَيْضًا، وَكُلُّ شَيْءٍ
اخْتَلَفُوا فِيهِ هُنَاكَ كَالطَّوْقِ
وَالْمِنْطَقَةِ فَفِيهِ هُنَا ذَاكَ
الْخِلَافُ. هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ
وَآخَرُونَ، فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ:
إنَّ السَّلَبَ كَسَلَبِ الْقَتِيلِ وَأَنَّهُ
لِلسَّالِبِ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ: يَأْخُذُ جَمِيعَ مَا مَعَهُ مِنْ
ثِيَابٍ وَفُرُشٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَيُعْطِيهِ إزَارًا يَسْتُرُ بِهِ
عَوْرَتَهُ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَا
يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ أَخَذَ مِنْهُ
الْإِزَارَ، وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ
كَانَ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ يَأْخُذُهُ
السَّالِبُ وَيَسْتُرُ الْمَسْلُوبُ نَفْسَهُ،
فَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ لَا يُخَلِّي لَهُ
سَاتِرًا، وَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ
يَتْرُكُ لَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ
وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِي
أَنَّهُ هَلْ يَتْرُكُ لَهُ سَاتِرَ
الْعَوْرَةِ؟ وَاخْتَارَ أَنَّهُ يَتْرُكُ،
قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ،
وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى الصَّائِدِ
وَالْمُحْتَطِبِ ثِيَابٌ مَغْصُوبَةٌ لَمْ
يُسْلَبْ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ
الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي "المجرد"، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا لَوْ
كَانَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمَقْتُولِ مَالٌ
أَخَذَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ لَا
يَسْتَحِقُّهُ السَّالِبُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ
أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَكَلَامِ
الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُسْلَبُ إذَا اصْطَادَ،
وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِتْلَافُ، وَقَالَ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لا أَدْرِي أَيُسْلَبُ
إذَا أَرْسَلَ الصَّيْدَ أَمْ لا يُسْلَبُ
حَتَّى يُتْلِفَهُ؟ قَالَ: وَكِلاهُمَا
مُحْتَمَلٌ، قَالَ: وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِيهِ
ثَبْتٌ مِنْ تَوْقِيفٍ وَلَا قِيَاسٍ قَالَهُ
الْإِمَامُ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا
الْمَذْكُورِ بَيْنَ صَيْدٍ وَصَيْدٍ، وَلَا
شَجَرَةٍ وَشَجَرَةٍ، وَكَانَ السَّلَبُ فِي
مَعْنَى الْمُعَاقَبَةِ لِلْمُتَعَاطِي،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثانية: قَالَ
الشَّافِعِيُّ في "الإملاء": أَكْرَهُ صَيْدَ
وَجٍّ وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ:
أصحهما: عِنْدَهُمْ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهِ،
وَبِهَذَا قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمُصَنِّفُ
وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي
وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ. قَالُوا: وَمُرَادُ
الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ
ج / 7 ص -292-
كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، الطَّرِيقُ الثَّانِي:
حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ
وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ
وَمَنْ تَابَعَهُمْ فِيهِ وَجْهَانِ: أصحهما:
يَحْرُمُ، والثاني يُكْرَهُ، وَيَجْرِي
الْخِلَافُ فِي شَجَرِهِ وَخَلَاهُ، صَرَّحَ
بِهِ الْأَصْحَابُ وَنَقَلَ أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ نَصِّهِ في "الإملاء"
أَنَّ الشَّجَرَ كَالصَّيْدِ، فإذا قلنا:
بِالْمَذْهَبِ وَهُوَ تَحْرِيمُهُ فَاصْطَادَ
فِيهِ أَوْ احْتَطَبَ أَوْ احْتَشَّ
فَطَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ
"التَّلْخِيصِ" وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي
الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ يَأْثَمُ وَلَا
ضَمَانَ، وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
فِي تعليقه اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى
هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا ضَمَانَ
إلَّا فِيمَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، وَلَمْ
يَرِدْ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَالطَّرِيقُ
الثَّانِي: حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِيهِ خِلَافٌ
الصحيح: لَا ضَمَانَ، والثاني أَنَّهُ
كَصَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا
وَخَلَاهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: النَّقِيعُ
بِالنُّونِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ
بِالْبَاءِ، وَهُوَ الْحِمَى الَّذِي حَمَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ
الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا لَيْسَ هُوَ
بِحَرَمٍ، وَلَا يَحْرُمُ صَيْدُهُ
بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وأما: خَلَاهُ
فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِهِمْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو
عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ
وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ، وأما: شَجَرُهُ
فَفِيهِ طَرِيقَانِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي
وَالْبَغَوِيُّ بِتَحْرِيمِهِ، وَقَالَ أَبُو
عَلِيٍّ وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: فِي
تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ لِتَرَدُّدِ الصَّيْدِ
وَالْخَلا، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ شَجَرًا أَوْ
كَلَأً فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ وَجْهَانِ،
حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيٍّ وَالْإِمَامُ
وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: أحدهما: لَا
كَصَيْدِهِ، وأصحهما: وُجُوبُ الضَّمَانِ
كَحَرَمِ مَكَّةَ. صَحَّحَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ فَعَلَى هَذَا
تَجِبُ الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ وَلَا
يُسْلَبُ الْقَاتِلُ. قَالَ الْبَغَوِيّ
وَالرَّافِعِيُّ: تُصْرَفُ الْقِيمَةُ فِي
مَصْرَفِ نَعَمِ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ،
هَذَا كَلَامُهُمَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
مَصْرِفُهُ بَيْتَ الْمَالِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه
قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم:
"لا يُخْبَطُ وَلَا يُعْضَدُ حِمَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَلَكِنْ يُهَشُّ هَشًّا رَفِيقًا" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ غَيْرِ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّهُ
لَمْ يُضَعِّفْهُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
قَالَ لِرَجُلٍ: "إنِّي أَسْتَعْمِلُك عَلَى
الْحِمَى فَمَنْ رَأَيْتَ يَعْضِدُ شَجَرًا
أَوْ يَخْبِطُ فَخُذْ فَأْسَهُ وَحَبْلَهُ،
قَالَ آخُذُ رِدَاءَهُ؟ قَالَ: لا" وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: فِي بَيَانِ
الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي بَيَانِ
حَرَمِ الْمَدِينَةِ منها: عَنْ عَلِيٍّ رضي
الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا
بَيْنَ عِيرٍ إلَى ثَوْرٍ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَكَذَا، وَفِي
رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مَا بَيْنَ عَائِرٍ
إلَى كَذَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ
مِنْ الْعُلَمَاءِ: عِيرٌ. وَيُقَالُ لَهُ:
عَائِرٌ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ،
قَالُوا: وَأَمَّا ثَوْرٌ فَلَا يَعْرِفُ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهَا جَبَلًا يُقَالُ
لَهُ: ثَوْرٌ وَإِنَّمَا ثَوْرٌ جَبَلٌ
بِمَكَّةَ قَالُوا: فَنَرَى أَنَّ أَصْلَ
الْحَدِيثِ مَا بَيْنَ عِيرٍ إلَى أُحُدٍ
وَلَكِنَّهُ غَيَّرَهُ غَلَطُ الرُّوَاةِ
فِيهِ وَاسْتَمَرَّتْ الرِّوَايَةُ. وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ فِي كِتَابِهِ
"الْمُؤْتَلِفِ في الأماكِنِ": الرِّوَايَةُ
الصَّحِيحَةُ مَا بَيْنُ عِيرٍ إلَى أُحُدٍ
قَالَ: وَقِيلَ: إلَى ثَوْرٍ قَالَ: وَلَيْسَ
لَهُ مَعْنَى هَذَا كَلَامُهُمْ فِي
الْحَدِيثِ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الْجَبَلَ
كَانَ يُسْمَى ثَوْرًا ثُمَّ هُجِرَ ذَلِكَ
الِاسْمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَامٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ
"حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ"
وَاللَّابَتَانِ الْحَرَّتَانِ تَثْنِيَةُ
لَابَةٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُلْبَسَةُ
حِجَارَةً سَوْدَاءَ وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ
لَابَتَيْنِ فِي شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا وَعَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ
ج / 7 ص -293-
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"إنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ
الْمَدِينَةِ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ
مَكَّةَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ أَبِي
سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ:
"اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَمًا،
وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا
بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا يُهْرَاقَ
فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ
لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرٌ
إلَّا لِعَلَفٍ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ:
"إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنَى حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ
مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا لَا يُقْطَعُ
عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا" رَوَاهُ
مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَشْرَفَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى
الْمَدِينَةِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي
أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا
حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ فِي
بَابِ التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَاتِ الرِّجَالِ
وَفِيهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ سَبَقَتْ وَعَنْ
عَدِّي بْنِ زَيْدٍ الْخُزَاعِيِّ
الصَّحَابِيِّ قَالَ: "حَمَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم كُلَّ نَاحِيَةٍ مِنْ
الْمَدِينَةِ بَرِيدًا بَرِيدًا لا تُخْبَطُ
شَجَرَةٌ وَلا تُعْضَدُ إلاَّ مَا يُسَاقُ
بِهِ الْجَمَلُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِإِسْنَادٍ غَيْرِ قَوِيٍّ فَالْحَاصِلُ
أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ
جَبَلَيْهَا طُولًا، وَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا
عَرْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ
بِصَيْدِ الْحَرَمِ وَنَبَاتِهِ:
إحداها: أَجْمَعَتْ
الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ الْحَرَمِ
عَلَى الْحَلَالِ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ
الْجَزَاءُ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ
الْعُلَمَاءُ كَافَّةً وَقَالَ دَاوُد: لَا
جَزَاءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] فَقَيَّدَهُ بِالْمُحْرِمِينَ. دَلِيلُنَا مَا
سَبَقَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله
عنه حِينَ تَلِفَ بِسَبَبِهِ الطَّائِرُ فِي
دَارِ النَّدْوَةِ، وَمَا سَبَقَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ فِي الْجَرَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْآثَارِ، وَقِيَاسًا عَلَى صَيْدِ
الْإِحْرَامِ وَدَاوُد - وَإِنْ لَمْ يَقُلْ
بِالْقِيَاسِ - فَيُسْتَدَلُّ عَلَى إثْبَاتِ
الْقِيَاسِ.
الثانية: حُكْمُ جَزَاءِ
الْحَرَمِ كَجَزَاءِ الْإِحْرَامِ،
فَيُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْمِثْلِ
وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، هَذَا
مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ
مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ لَا مَدْخَلَ لِلصِّيَامِ فِيهِ
قَالَ: لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ
الْأَمْوَالِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ
لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْحَرَمُ
فَأَشْبَهَ مَالَ الْآدَمِيِّ. دَلِيلُنَا
الْقِيَاسُ عَلَى صَيْدِ الْإِحْرَامِ وَلَوْ
سَلَكَ بِهِ مَسْلَكَ مَالِ الْآدَمِيِّ لَمْ
يَدْخُلْهُ الْمِثْلُ وَالْإِطْعَامُ
وَلْيَعْتَبِرْ نَقْدَ الْبَلَدِ؛ وَلِأَنَّ
هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي صَيْدِ
الْإِحْرَامِ وَيُنْتَقَضُ مَا قَالُوهُ
أَيْضًا بِكَفَّارَةِ الْقَتْلِ.
الثَّالِثَةُ: إذَا صَادَ
الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ
الْحَرَمَ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ
بِالْبَيْعِ وَالذَّبْحِ وَالْأَكْلِ
وَغَيْرِهَا، وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ، وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ،
بَلْ يَجِبُ إرْسَالُهُ. قَالَا: فَإِنْ
أَدْخَلَهُ مَذْبُوحًا جَازَ أَكْلُهُ
وَقَاسُوهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ. وَاسْتَدَلَّ
أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ
لَهُ أَخٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يُلَقَّبُ بِهِ
فَمَاتَ النُّغَرُ فَكَانَ النَّبِيُّ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا أَبَا
عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَمَوْضِعُ
الدَّلَالَةِ أَنَّ النُّغَرَ مِنْ جُمْلَةِ
الصَّيْدِ وَكَانَ مَعَ أَبِي عُمَيْرٍ فِي
حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَيْضًا
فَإِنَّ الَّذِي عَنَى الشَّرْعُ مِنْهُ
صَيْدَ الْحَرَمِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَيْدِ
حَرَمٍ وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ أَدْخَلَ
شَجَرَةً مِنْ الْحِلِّ أَوْ حَشِيشًا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرابعة: شَجَرُ الْحَرَمِ
عِنْدَنَا حَرَامٌ مَضْمُونٌ، سِوَى مَا
أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ، وَمَا نَبَتَ
بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لا
يَحْرُمُ مَا أَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّ كَمَا
سَبَقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
ج / 7 ص -294-
إنْ
أَنْبَتَهُ آدَمِيٌّ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ
مَا يُنْبِتُهُ لَمْ يَحْرُمْ، وَإِنْ كَانَ
مِمَّا لَا يُنْبِتُهُ آدَمِيٌّ وَنَبَتَ
بِنَفْسِهِ حَرُمَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَدَاوُد هُوَ حَرَامٌ، لَكِنْ لَا
ضَمَانَ فِيهِ. اُحْتُجَّ لَهُمْ بِالْقِيَاسِ
عَلَى الزَّرْعِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا
بِعُمُومِ النَّهْيِ، وَفَرَّقُوا بِأَنَّ
الزَّرْعَ تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ.
الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ رَعْيُ
حَشِيشِ الْحَرَمِ وَخَلَاهُ عِنْدَنَا،
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ: لَا
يَجُوزُ. وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْن عَبَّاسٍ
السَّابِقُ حَيْثُ أَرْسَلَ الْأَتَانَ
يَرْتَعُ فِي مِنًى، وَمِنًى مِنْ الْحَرَمِ.
السَّادِسَةُ: إذَا أَتْلَفَ
شَجَرَةً فِي الْحَرَمِ ضَمِنَ الْكَبِيرَةَ
بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ، وَبِهِ
قَالَ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
يَضْمَنُهَا بِالْقِيمَةِ. وَدَلِيلُنَا
أَثَرُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
السَّابِعَةُ: إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا مِنْ
الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ، أَوْ
مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ
لَزِمَهُ الْجَزَاءُ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ:
لَا يَلْزَمُهُ.
الثَّامِنَةُ: صَيْدُ حَرَمِ
الْمَدِينَةِ حَرَامٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ
مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْعُلَمَاءُ كَافَّةً
إلاَّ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ: لَيْسَ
بِحَرَامٍ دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ
السَّابِقَةُ. وَإِذَا أَتْلَفَ صَيْدَ
الْمَدِينَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَشْهَرِ
فِي مَذْهَبِنَا، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ:
يُسْلَبُ الْقَاتِلُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ
وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَمَا سَبَقَ، وَبِهِ
قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَمَاعَةٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ جُمْهُورُ
الْعُلَمَاءِ: لَا ضَمَانَ فِيهِ لَا سَلَبَ
وَلَا غَيْرَهُ.
التَّاسِعَةُ: صَيْدُ وَجٍّ
حَرَامٌ عِنْدَنَا. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ:
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً لَا يَحْرُمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:
"إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُحْرِمِ دَمٌ لِأَجَلِ
الْإِحْرَامِ كَدَمِ التَّمَتُّعِ
وَالْقِرَانِ، وَدَمِ الطِّيبِ، وَجَزَاءِ
الصَّيْدِ وَجَبَ عَلَيْهِ صَرْفُهُ
لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ لقوله تعالى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فَإِنْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ
الْحَرَمَ نَظَرْت فَإِنْ تَغَيَّرَ
وَأَنْتَنَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّ
الْمُسْتَحَقَّ لَحْمٌ كَامِلٌ غَيْرُ
مُتَغَيِّرٍ فَلا يُجْزِئُهُ الْمُنْتِنُ
الْمُتَغَيِّرُ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ
فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: لَا يُجْزِئُهُ
لِأَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيْ
الْهَدْيِ فَاخْتَصَّ بِالْحَرَمِ
كَالتَّفْرِقَةِ، والثاني يُجْزِئُهُ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ هُوَ اللَّحْمُ، وَقَدْ أَوْصَلَ
ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
طَعَامٌ لَزِمَهُ صَرْفُهُ إلَى مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ، قِيَاسًا عَلَى الْهَدْيِ، وَإِنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمٌ جَازَ أَنْ يَصُومَ
فِي كُلِّ مَكَان، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ
لِأَهْلِ الْحَرَمِ فِي الصِّيَامِ، وَإِنْ
وَجَبَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَأُحْصِرَ عَنْ
الْحَرَمِ جَازَ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ
وَيُفَرِّقَ حَيْثُ أُحْصِرَ لِمَا رَوَى
ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم "خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَحَالَتْ كُفَّارُ
قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ
فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ
بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَبَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَبَيْنَ الْحَرَمِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ"
وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَتَحَلَّلَ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِ التَّحَلُّلِ لَأَجْلِ
الْإِحْصَارِ جَازَ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ
فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّحْرِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ
أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ تُقَالُ -
بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ -
وَالتَّخْفِيفُ أَجْوَدُ، وَالْمُنْتِنُ -
بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا - وَالْهَدْيُ
بِإِسْكَانِ الدَّالِ مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ
وَبِكَسْرِهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْيَاءِ
لُغَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ.
أَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَالَ
الْأَصْحَابُ: الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي
الْحَجِّ لَهَا زَمَانٌ وَمَكَانٌ، أما:
الزَّمَانُ فَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي
الْإِحْرَامِ لِفِعْلٍ مَحْظُورٍ أَوْ تَرْكِ
مَأْمُورٍ، لَا تَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، بَلْ
تَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ،
ج / 7 ص -295-
وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ
وَالتَّشْرِيقِ وَالضَّحَايَا. ثُمَّ مَا
سِوَى دَمِ الْفَوَاتِ يُرَاقُ فِي النُّسُكِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ، وأما: دَمُ الْفَوَاتِ
فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى سَنَةِ
الْقَضَاءِ، وَهَلْ يَجُوزُ إرَاقَتُهُ فِي
سَنَةِ الْفَوَاتِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ:
قَوْلَانِ: أصحهما: لَا، بَلْ يَجِبُ
تَأْخِيرُهُ إلَى سَنَةِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ
ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا فِي
بَابِ الْفَوَاتِ، فإن قلنا: يَجُوزُ فَوَقْتُ
الْوُجُوبِ سَنَةُ الْفَوَاتِ، وإن قلنا:
بِالْأَصَحِّ فَفِي وَقْتِ الْوُجُوبِ
وَجْهَانِ: أصحهما: وَقْتُهُ إذَا أَحْرَمَ
بِالْقَضَاءِ، كَمَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ
بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَلِهَذَا لَوْ
ذَبَحَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ مِنْ الْفَائِتِ
لَمْ يَجُزْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ،
كَمَا لَوْ ذَبَحَ الْمُتَمَتِّعُ قَبْلَ
فَرَاغِ الْعُمْرَةِ.
هَذَا إذَا كَفَّرَ بِالذَّبْحِ فَإِذَا
كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فإن قلنا: وَقْتُ
الْوُجُوبِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْقَضَاءِ لَمْ
يُقَدِّمْ صَوْمَ الثَّلَاثَةِ عَلَى
الْقَضَاءِ وَيَصُومُ السَّبْعَةَ إذَا
رَجَعَ، وإن قلنا: يَجِبُ بِالْفَوَاتِ فَفِي
جَوَازِ صَوْمِ ثَلَاثَةٍ فِي حَجَّةِ
الْفَوَاتِ وَجْهَانِ: وَوَجْهُ الْمَنْعِ
أَنَّهُ إحْرَامٌ نَاقِصٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
وأما الْمَكَانُ فَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ
عَلَى الْمُحْرِمِ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ عَلَى
الْمُحْصَرِ بِالْإِحْصَارِ، أَوْ بِفِعْلِ
مَحْظُورٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا
فِي فَصْلِ الدِّمَاءِ إنْ شَاءَ الله تعالى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ
الْمُحْصَرِ، فَيَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ،
وَيَجِبُ تَفْرِيقُهُ عَلَى مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ، سَوَاءٌ الْغُرَبَاءُ
الطَّارِئُونَ وَالْمُسْتَوْطِنُونَ، لَكِنَّ
الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَوْطِنِينَ أَفْضَلُ،
وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ أَحَدَ
الصِّنْفَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ،
وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَفِي اخْتِصَاصِ
ذَبْحِهِ بِالْحَرَمِ خِلَافٌ حَكَاهُ
الْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ وَجْهَيْنِ وَحَكَاهُ
آخَرُونَ قَوْلَيْنِ: أصحهما: يَخْتَصُّ،
فَلَوْ ذَبَحَهُ فِي طَرَفِ الْحِلِّ
وَنَقَلَهُ فِي الْحَالِ طَرِيًّا إلَى
الْحَرَمِ لَمْ يُجْزِئْهُ، الثاني: لَا
يَخْتَصُّ، فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ خَارِجَ
الْحَرَمِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَهُ
وَيُفَرِّقَهُ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ تَغْيِيرِ
اللَّحْمِ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا كُلِّهِ دَمُ
التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَسَائِرِ مَا
يَجِبُ بِسَبَبٍ فِي الْحِلِّ أَوْ الْحَرَمِ،
أَوْ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَالْحَلْقِ لِلْأَذَى،
أَوْ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ.
وَفِي "الْقَدِيمِ" قَوْلٌ: إنَّ مَا أُنْشِئَ
سَبَبُهُ فِي الْحِلِّ يَجُوزُ ذَبْحُهُ
وَتَفْرِقَتُهُ فِي الْحِلِّ قِيَاسًا عَلَى
دَمِ الْإِحْصَارِ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا
الْقَوْلَ1 وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٌ أَنَّ مَا
وَجَبَ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لَا يَخْتَصُّ
ذَبْحُهُ وَتَفْرِقَتُهُ بِالْحَرَمِ، وَفِيهِ
وَجْهٌ أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ قَبْلَ وُصُولِهِ
الْحَرَمَ وَذَبَحَ وَفَرَّقَ حَيْثُ حَلَقَ
جَازَ، وَكُلُّ هَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ
وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَجُوزُ
الذَّبْحُ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ الْحَرَمِ
قَرِيبِهَا وَبِعِيدِهَا، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ
فِي حَقِّ الْحَاجِّ الذَّبْحُ بِمِنًى، وَفِي
حَقِّ الْمُعْتَمِرِ الْمَرْوَةُ؛
لِأَنَّهُمَا مَحِلُّ تَحَلُّلِهِمَا. وَكَذَا
حُكْمُ مَا يَسُوقَانِهِ مِنْ الْهَدْيِ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي
حُسَيْنٌ فِي "الْفَتَاوَى": لَوْ لَمْ يَجِدْ
فِي الْحَرَمِ مِسْكِينًا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ
الدَّمِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ سَوَاءٌ
جَوَّزْنَا نَقْلَ الزَّكَاةِ أَمْ لَا؛
لِأَنَّهُ وَجَبَ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ،
كَمَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ عَلَى مَسَاكِينِ
بَلَدٍ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ مَسَاكِينَ،
يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ
نَقْلُهُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ عَلَى أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ
صَرِيحٌ بِتَخْصِيصِ الْبَلَدِ بِهَا
بِخِلَافِ الْهَدْيِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر.
ج / 7 ص -296-
فرع: إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِطْعَامَ بَدَلًا عَنْ الذَّبْحِ،
وَجَبَ صَرْفُهُ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ،
سَوَاءٌ الْمُسْتَوْطِنُونَ وَالطَّارِئُونَ
كَمَا قُلْنَا فِي لَحْمِ الْمَذْبُوحِ، أما:
إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الصَّوْمَ فَيَجُوزُ
أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَقْطَارِ
الْأَرْضِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ
وَالرُّويَانِيُّ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ
يَدْفَعَ الْوَاجِبَ مِنْ اللَّحْمِ إلَى
ثَلَاثَةٍ مِنْ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ إنْ
قَدَرَ، فَإِنْ دَفَعَ إلَى اثْنَيْنِ مَعَ
قُدْرَتِهِ عَلَى ثَالِثٍ ضَمِنَ وَفِي قَدْرِ
الضَّمَانِ وَجْهَانِ أحدهما: الثُّلُثُ،
وأصحهما: أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ كَالْقَوْلَيْنِ فِي الزَّكَاةِ،
وأما: إذَا فَرَّقَ الطَّعَامَ فَوَجْهَانِ
أحدهما: يَتَقَدَّرُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ
كَالْكَفَّارَةِ فَلَا يُزَادُ وَلَا
يُنْقَصُ، فَإِنْ زَادَ لَمْ يُحْسَبْ، وَإِنْ
نَقَصَ لَمْ يُجْزِئْهُ حَتَّى يُتِمَّهُ
مُدًّا، وأصحهما: لَا يَتَقَدَّرُ، بَلْ
تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مُدٍّ وَالنَّقْصُ
عَنْهُ.
فرع: لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ
فِي الْحَرَمِ فَسُرِقَ مِنْهُ قَبْلَ
التَّفْرِقَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَمَّا فِي
ذِمَّتِهِ، وَيَلْزَمُهُ إعَادَةُ الذَّبْحِ،
وَلَهُ شِرَاءُ اللَّحْمِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ
بَدَلَ الذَّبْحِ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ
وُجِدَ، وَفِي وَجْهٍ ضَعِيفٍ يَكْفِيهِ
التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ.
فرع: قَالَ الرُّويَانِيُّ
وَغَيْرُهُ: تَلْزَمُهُ النِّيَّةُ عِنْدَ
التَّفْرِقَةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
الدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَنَاسِكِ
سَوَاءٌ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ
ارْتِكَابِ مَنْهِيٍّ حَيْثُ أَطْلَقْنَاهَا
أَرَدْنَا بِهَا شَاةً، فَإِنْ كَانَ
الْوَاجِبُ غَيْرَهَا كَالْبَدَنَةِ فِي
الْجِمَاعِ نَصَصْنَا عَلَيْهَا، وَلَا
يُجْزِئُ فِيهَا جَمِيعًا إلَّا مَا يُجْزِئُ
فِي الْأُضْحِيَّةِ إلَّا فِي جَزَاءِ
الصَّيْدِ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ فِي الصَّغِيرِ
صَغِيرٌ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرٌ، وَفِي
الْمَعِيبِ وَالْمَكْسُورِ مِثْلُهُ كَمَا
سَبَقَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكُلُّ مَنْ
لَزِمَهُ شَاةٌ جَازَ لَهُ ذَبْحُ بَقَرَةٍ
أَوْ بَدَنَةٍ مَكَانَهَا؛ لِأَنَّهَا
أَكْمَلُ، كَمَا يُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ
إلَّا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَلَا يُجْزِئُ
حَيَوَانٌ عَنْ الْمِثْلِ. قَالَ
أَصْحَابُنَا: وَإِذَا ذَبَحَ بَدَنَةً أَوْ
بَقَرَةً مَكَانَ الشَّاةِ فَهَلْ الْجَمِيعُ
فَرْضٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَكْلُ شَيْءٍ
مِنْهَا؟ أَمْ الْفَرْضُ سُبْعُهَا فَقَطْ
حَتَّى يَجُوزَ أَكْلُ الْبَاقِي؟ فِيهِ
وَجْهَانِ الأصح: سُبْعُهَا صَحَّحَهُ
الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَسَبَقَتْ
نَظَائِرُ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ صِفَةِ
الْوُضُوءِ وَمَوَاضِعَ أُخْرَى. وَلَوْ
ذَبَحَ بَدَنَةً وَنَوَى التَّصَدُّقَ
بِسُبْعِهَا عَنْ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ
عَلَيْهِ وَأَكَلَ الْبَاقِي جَازَ، وَلَهُ
نَحْرُ الْبَدَنَةِ عَنْ سَبْعِ شِيَاهٍ
لَزِمَتْهُ. وَلَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي
ذَبْحِ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَرَادَ
بَعْضُهُمْ الْهَدْيَ، وَبَعْضُهُمْ
الْأُضْحِيَّةَ، وَبَعْضُهُمْ اللَّحْمَ،
جَازَ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاكُ اثْنَيْنِ
فِي شَاتَيْنِ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ
مُمْكِنٌ.
فرع: فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ
الدِّمَاءِ وَإِبْدَالِهَا، وَقَدْ سَبَقَتْ
مَقَاصِدُهُ مُفَرَّقَةً فَأَحْبَبْتُ
جَمْعَهَا مُلَخَّصًا كَمَا فَعَلَهُ
الْأَصْحَابُ، وَقَدْ لَخَّصَهَا
الرَّافِعِيُّ مُتْقَنَةً فَأَقْتَصِرُ عَلَى
نَقْلِهِ، قَالَ فِي ذَلِكَ نَظَرَانِ:
أحدهما: النَّظَرُ فِي أَنَّ
أَيَّ دَمٍ يَجِبُ مُرَتَّبًا، وَأَيَّ دَمٍ
يَجِبُ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهَاتَانِ
الصِّفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ فَمَعْنَى
التَّرْتِيبِ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ، وَلَا
يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا إذَا
عَجَزَ عَنْهُ، وَمَعْنَى التَّخْيِيرِ
أَنَّهُ يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى غَيْرِهِ
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
النَّظَرُ الثَّانِي: فِي
أَنَّهُ أَيُّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى سَبِيلِ
التَّقْدِيرِ، وَأَيُّ دَمٍ يَجِبُ عَلَى
سَبِيلِ التَّعْدِيلِ وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ
مُتَقَابِلَتَانِ، فَمَعْنَى التَّقْدِيرِ
أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الْبَدَلَ
الْمَعْدُولَ إلَيْهِ تَرْتِيبًا أَوْ
تَخْيِيرًا، أَيْ مُقَدَّرًا لَا يَزِيدُ
وَلَا يَنْقُصُ، وَمَعْنَى التَّعْدِيلِ
أَنَّهُ أَمَرَ فِيهِ بِالتَّقْوِيمِ
وَالْعُدُولِ إلَى غَيْرِهِ بِحَسَبِ
الْقِيمَةِ، وَكُلُّ دَمٍ بِحَسَبِ
ج / 7 ص -297-
الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَخْلُو مِنْ
أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أحدها:
التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ، والثاني
التَّرْتِيبُ وَالتَّعْدِيلُ، والثالث:
التَّخْيِيرُ وَالتَّقْدِيرُ، والرابع:
التَّخْيِيرُ وَالتَّعْدِيلُ وَتَفْصِيلُهُمَا
بِثَمَانِيَةِ أَنْوَاعٍ
أحدها: دَمُ التَّمَتُّعِ،
وَهُوَ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ كَمَا
وَرَدَ بِهِ نَصُّ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ،
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَدَمُ الْقِرَانِ
فِي مَعْنَاهُ وَفِي دَمِ الْفَوَاتِ
طَرِيقَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ أَنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي
التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ وَسَائِرِ
الْأَحْكَامِ، وَالثَّانِي عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: هَذَا، والثاني أَنَّهُ كَدَمِ
الْجِمَاعِ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّ
هَذَا شَاةٌ وَالْجِمَاعَ بَدَنَةٌ
لِاشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي وُجُوبِ
الْقَضَاءِ.
والثاني جَزَاءُ الصَّيْدِ،
وَهُوَ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ،
وَيَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الصَّيْدِ مِثْلِيًّا
أَوْ غَيْرَهُ، وَسَبَقَ إيضَاحُهُ، وَجَزَاءُ
شَجَرِ الْحَرَمِ وَحَشِيشِهِ كَجَزَاءِ
الصَّيْدِ وَقَدْ سَبَقَ حِكَايَةُ قَوْلٍ
عَنْ رِوَايَةِ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ دَمَ
الصَّيْدِ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَهُوَ شَاذٌّ،
الثَّالِثُ: دَمُ الْحَلْقِ
وَالْقَلْمِ، وَهُوَ دَمُ تَخْيِيرٍ
وَتَقْدِيرٍ، فَإِذَا حَلَقَ جَمِيعَ شَعْرِهِ
أَوْ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ تَخَيَّرَ بَيْنَ دَمٍ
وَثَلَاثَةِ آصُعٍ لَسِتَّةِ مَسَاكِينَ،
وَصَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسَبَقَ
بَيَانُهُ.
الرَّابِعُ: الدَّمُ
الْوَاجِبُ فِي تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ
كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالرَّمْيِ
وَالْمَبِيتِ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ،
وَبِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ وَالدَّفْعِ
مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَطَوَافِ
الْوَدَاعِ، وَفِي هَذَا الدَّمِ أَرْبَعَةُ
أَوْجُهٍ أصحها: وَبِهِ قَطَعَ
الْعِرَاقِيُّونَ وَكَثِيرُونَ مِنْ
غَيْرِهِمْ أَنَّهُ كَدَمِ التَّمَتُّعِ فِي
التَّرْتِيبِ وَالتَّقْدِيرِ، فَإِنْ عَجَزَ
عَنْ الدَّمِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي
الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ، والثاني
أَنَّهُ دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ لِأَنَّ
التَّعْدِيلَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا
يُصَارُ إلَى التَّرْتِيبِ بِتَوْقِيفٍ.
فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ شَاةٌ، فَإِنْ
عَجَزَ قَوَّمَهَا دَرَاهِمَ، وَاشْتَرَى
بِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ
عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا،
وَإِذَا تَرَكَ حَصَاةً فَفِيهِ أَقْوَالٌ
مَشْهُورَةٌ أصحها: يَجِبُ مُدٌّ، والثاني
دِرْهَمٌ، والثالث: ثُلُثُ شَاةٍ، فَإِنْ
عَجَزَ فَالطَّعَامُ ثُمَّ الصَّوْمُ عَلَى
مَا يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ،
والرابع: أَنَّهُ دَمُ تَرْتِيبٍ، فَإِنْ
عَجَزَ لَزِمَهُ صَوْمُ الْحَلْقِ،
والخامس: أَنَّهُ دَمُ
تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ،
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ،
الْخَامِسُ: دَمُ الِاسْتِمْتَاعِ
كَالتَّطَيُّبِ وَالِادِّهَانِ وَاللُّبْسِ
وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ، وَفِيهِ
أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أصحها: أَنَّهُ دَمُ
تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ كَالْحَلْقِ،
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّرَفُّهِ، والثاني
دَمُ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ كَالصَّيْدِ،
والثالث: دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَعْدِيلٍ،
والرابع: دَمُ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ
كَالتَّمَتُّعِ.
السَّادِسُ: دَمُ الْجِمَاعِ،
وَفِيهِ طُرُقٌ لِلْأَصْحَابِ، وَاخْتِلَافٌ
مُنْتَشِرٌ الْمَذْهَبُ مِنْهُ أَنَّهُ
تَرْتِيبٌ وَتَعْدِيلٌ فَيَجِبُ بَدَنَةٌ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ
عَجَزَ فَسَبْعُ شِيَاهٍ فَإِنْ عَجَزَ
قَوَّمَ بَدَنَةً بِدَرَاهِمَ، وَالدَّرَاهِمَ
بِطَعَامٍ ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ
عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا
وَقِيلَ: إذَا عَجَزَ عَنْ الْغَنَمِ قَوَّمَ
الْبَدَنَةَ وَصَامَ فَإِنْ عَجَزَ أَطْعَمَ
فَيُقَدِّمُ الصِّيَامَ عَلَى الْإِطْعَامِ،
كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَنَحْوِهَا،
وَقِيلَ: لَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ
وَالصِّيَامِ هُنَا، بَلْ إذَا عَجَزَ عَنْ
الْغَنَمِ ثَبَتَ الْفِدَاءُ فِي ذِمَّتِهِ
إلَى أَنْ يَجِدَ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فِي دَمِ الْإِحْصَارِ، وَلَنَا
قَوْلٌ، وَقِيلَ: وَجْهٌ. أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ
بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ
وَالْغَنَمِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا
فَالْإِطْعَامُ، ثُمَّ الصَّوْمُ، وَقِيلَ:
يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْبَدَنَةِ وَالْبَقَرَةِ
وَالشِّيَاهِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ،
السَّابِعُ: دَمُ الْجِمَاعِ
الثَّانِي أَوْ الْجِمَاعِ بَيْنَ
التَّحَلُّلَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي
أَنَّ وَاجِبَهُمَا بَدَنَةٌ أَمْ شَاةٌ؟
فَإِنْ قُلْنَا: بَدَنَةٌ فَهِيَ فِي
الْكَيْفِيَّةِ كَالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ
قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وإن
قلنا: شَاةٌ فَكَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ.
الثَّامِنُ: دَمُ
الْإِحْصَارِ فَمَنْ تَحَلَّلَ بِالْإِحْصَارِ
فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَا عُدُولَ عَنْهَا إنْ
وَجَدَهَا، فَإِنْ عَدِمَهَا
ج / 7 ص -298-
فَهَلْ
لَهُ بَدَلٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
أحدهما: نَعَمْ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ، والثاني
لَا، إذْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ
بَدَلُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فإن قلنا:
بِالْبَدَلِ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ أحدها:
بَدَلُهُ الْإِطْعَامُ بِالتَّعْدِيلِ، فَإِنْ
عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وقيل:
يَتَخَيَّرُ عَلَى هَذَا بَيْنَ صَوْمِ
الْحَلْقِ وَإِطْعَامِهِ، وَالْقَوْلُ
الثَّانِي: بَدَلُهُ الْإِطْعَامُ فَقَطْ،
وَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: ثَلَاثَةُ آصُعٍ
كَالْحَلْقِ، والثاني يُطْعِمُ مَا
يَقْتَضِيهِ التَّعْدِيلُ. وَالْقَوْلُ
الثَّالِثُ: بَدَلُهُ الصَّوْمُ فَقَطْ،
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أحدها: عَشَرَةُ
أَيَّامٍ، الثاني: ثَلَاثَةٌ، والثالث:
بِالتَّعْدِيلِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا،
وَلَا مَدْخَلَ لِلطَّعَامِ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِهِ
قَدْرُ الصِّيَامِ، الْمَذْهَبُ عَلَى
الْجُمْلَةِ التَّرْتِيبُ وَالتَّعْدِيلُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
تم الجزء السابع
ويليه الجزء الثامن بإذن الله تعالى وأوله باب
صفة الحج
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |