المجموع
شرح المهذب ط عالم الكتب ج / 8 ص -196-
بَابُ الْهَدْيِ
قَالَ
الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: يُسْتَحَبُّ
لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ
مُعْتَمِرًا أَنْ يُهْدِيَ إلَيْهَا مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَيَنْحَرَهُ
وَيُفَرِّقَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَا يُهْدِيهِ سَمِينًا حَسَنًا لقوله
تعالى:
{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِهَا:
الِاسْتِسْمَانُ وَالِاسْتِحْسَانُ
وَالِاسْتِعْظَامُ، فَإِنْ نَذَرَ وَجَبَ
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَلَزِمَتْ
بِالنَّذْرِ.
الشرح: حَدِيثُ:
"أَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
مِائَةَ بَدَنَةٍ" صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتَّصْرِيحُ
بِالْمِائَةِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
{شَعَائِرَ اللَّهِ} مَعَالِمُ دِينِهِ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ، وَأَصْلُ الشَّعَائِرِ
وَالْأَشْعَارِ، وَالشِّعَارِ الْأَعْلَامُ.
وَقَوْلُهُ: "قُرْبَةٌ" بِإِسْكَانِ الرَّاءِ
وَضَمِّهَا - لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ،
قُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ، الْأَكْثَرُونَ
بِالْإِسْكَانِ وَوَرْشٌ بِالضَّمِّ.
وَالْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ مَعَ
تَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَبِكَسْرِ الدَّالِ مَعَ
تَشْدِيدِ الْيَاءِ - لُغَتَانِ
مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْأَزْهَرِيُّ
وَغَيْرُهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْأَصْلُ
التَّشْدِيدُ وَالْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ
وَهَدِيَّةٌ، وَيُقَالُ فِيهِ أَهْدَيْت
الْهَدْيَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْهَدْيُ مَا يُهْدَى
إلَى الْحَرَمِ مِنْ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ،
وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُجْزِئُ فِي
الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ خَاصَّةً، لِهَذَا قَيَّدَهُ
الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ أَنْ يُهْدِيَ
إلَيْهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَخَصَّهُ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
لِكَوْنِهِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُهْدَى
وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ
وَالْغَنَمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَاتَّفَقُوا
عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ
مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ
هَدْيًا مِنْ الْأَنْعَامِ وَيَنْحَرَهُ
هُنَاكَ، وَيُفَرِّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ
الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ. وَيُسْتَحَبُّ
أَنْ يَكُونَ مَا يُهْدِيهِ سَمِينًا حَسَنًا
كَامِلًا نَفِيسًا، لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَلَا يَجِبُ الْهَدْيُ إلَّا
بِالنَّذْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ
يَكُونَ الْهَدْيُ مَعَهُ مِنْ بَلَدِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَشِرَاؤُهُ مِنْ
الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنْ شِرَائِهِ مِنْ
مَكَّةَ، ثُمَّ مِنْ مَكَّةَ، ثُمَّ
عَرَفَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ أَصْلًا بَلْ
اشْتَرَاهُ مِنْ مِنًى جَازَ وَحَصَلَ أَصْلُ
الْهَدْيِ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو
ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا هَدْيَ إلَّا
مَا أُحْضِرَ عَرَفَاتٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ
كَانَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْعِرَهَا فِي
صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ
وَيُقَلِّدَهَا نَعْلَيْنِ، لِمَا رَوَى ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم:
"صَلَّى الظُّهْرَ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَتَى بِبَدَنَةٍ
فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا
الْأَيْمَنِ، ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا
ثُمَّ قَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ" وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا أَشْعَرَ
وَقَلَّدَ تَمَيَّزَ، وَرُبَّمَا نَدَّ
فَيُعْرَفُ بِالْإِشْعَارِ وَالتَّقَلُّدِ
فَيُرَدُّ. وَإِنْ كَانَ غَنَمًا قَلَّدَهُ،
لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"أَهْدَى مَرَّةً غَنَمًا مُقَلَّدَةً، وَتُقَلَّدُ الْغَنَمُ خُرَبَ
الْقِرَبِ"
لِأَنَّ الْغَنَمَ يَثْقُلُ عَلَيْهَا حَمْلُ النِّعَالِ، وَلَا
يُشْعِرُهَا لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَا
يَظْهَرُ فِي الْغَنَمِ لِكَثْرَةِ شَعْرِهَا
وَصُوفِهَا.
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَوَاهُ مُسْلِمٌ
بِلَفْظِهِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ
مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ وَالْبُخَارِيُّ
بِمَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: "يُشْعِرُهَا"
بِضَمِّ الْيَاءِ، وَأَصْلُ الْإِشْعَارِ
الْإِعْلَامُ. وَقَوْلُهُ: "صَفْحَةُ
سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ" كَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَقُولَ الْيُمْنَى، لِأَنَّ الصَّفْحَةَ
مُؤَنَّثَةٌ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهَا، وَلَكِنْ
قَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ"
ج / 8 ص -197-
فِي
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ "هَذَا صَفْحَةُ
سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ" فَيَتَعَيَّنُ
تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِالصَّفْحَةِ الْجَانِبُ. وَخُرَبُ الْقِرَبِ
- بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ
الرَّاءِ، وَهِيَ عُرَاهَا وَاحِدَتُهَا
خُرْبَةٌ كَرُكْبَةٍ وَرُكَبٍ. وَقَوْلُهُ:
"نَدَّ" هُوَ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ
الدَّالِ - أَيْ هَرَبَ.
أما الأحكام: فَاتَّفَقَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ
يُسَنُّ لِمَنْ أَهْدَى شَيْئًا مِنْ
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَنْ يُشْعِرَهُ
وَيُقَلِّدَهُ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ
الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَنَّهُ إذَا
أَهْدَى غَنَمًا قَلَّدَهَا وَلَا
يُشْعِرُهَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ
الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ فِي الْجَمِيعِ
وَالْهَدْيُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ،
وَصَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله
عنهما، وَهَذَا كُلُّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي
التَّنْبِيهِ: وَيُقَلِّدُ الْبَقَرَ
وَالْغَنَمَ وَلَا يُشْعِرُهَا، فَجَعَلَ
الْبَقَرَ كَالْغَنَمِ فَغَلَطٌ لِلذُّهُولِ
لَا أَنَّهُ تَعَمَّدَهُ، وَأَنَّهُ وَجْهٌ
فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ نَبَّهْت عَلَيْهِ فِي
التَّحْرِيرِ فِي "صَحِيحِ التَّنْبِيهِ"
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ
هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَالْمَنْذُورِ قَالَ
الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: الْمُرَادُ
بِالْإِشْعَارِ هُنَا أَنْ يَضْرِبَ صَفْحَةَ
سَنَامِهَا الْيُمْنَى بِحَدِيدَةٍ، وَهِيَ
بَارِدَةٌ مُسْتَقْبِلَةُ الْقِبْلَةِ
فَيُدْمِيهَا ثُمَّ يُلَطِّخُهَا بِالدَّمِ،
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالُوا
وَتَقْلِيدُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ يَكُونُ
بِنَعْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ النِّعَالِ الَّتِي
تُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ،
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ
وَيَتَصَدَّقُ بِهَا بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ،
وَتَقْلِيدُ الْغَنَمِ بِخُرَبِ الْقِرَبِ،
وَهِيَ عُرَاهَا وَآذَانُهَا، وَالْخُيُوطُ
الْمَفْتُولَةُ وَنَحْوُهَا، قَالُوا: وَلَا
يُقَلِّدُهَا النَّعْلَ وَلَا يُشْعِرُهَا
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ تَرَكَ
التَّقْلِيدَ وَالْإِشْعَارَ فَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ لَكِنْ فَاتَهُ الْفَضِيلَةُ.
وَيَجُوزُ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
تَقْدِيمُ الْإِشْعَارِ عَلَى التَّقْلِيدِ
وَعَكْسُهُ. وَفِي الْأَفْضَلِ وَجْهَانِ
أحدهما: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ
التَّقْلِيدِ أَفْضَلُ والثاني: تَقْدِيمُ
الْإِشْعَارِ أَفْضَلُ. حَكَاهُ صَاحِبُ
"الْحَاوِي" عَنْ أَصْحَابِنَا كُلِّهِمْ
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا، وَصَحَّ
هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
وَصَحَّ الْأَوَّلُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ
فِعْلِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ"
وَالْبَيْهَقِيُّ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
يُسْتَحَبُّ كَوْنُ الشِّعَارِ فِي صَفْحَةِ
السَّنَامِ الْيُمْنَى. نَصَّ عَلَيْهِ
الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ
الْأَصْحَابُ. فَلَوْ أَهْدَى بَعِيرَيْنِ
مَقْرُونَيْنِ فِي حَبْلٍ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ
الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ
"الْجَامِعِ"، وَالرُّويَانِيُّ فِي
"الْبَحْرِ": يُشْعِرُ أَحَدَهُمَا فِي
الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى وَالْآخَرَ فِي
الْيُسْرَى لِيُشَاهَدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
لِلْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ سَنَامٌ أَشْعَرَ
مَوْضِعَ سَنَامِهَا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الْإِشْعَارِ
وَالتَّقْلِيدِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ،
وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَهُوَ مَذْهَبُ
مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَدَاوُد. قَالَ الْخَطَّابِيُّ:
قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ: الْإِشْعَارُ
سُنَّةٌ. وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ غَيْرُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
الْإِشْعَارُ بِدْعَةٌ، وَنَقَلَ
الْعَبْدَرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ
حَرَامٌ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ
وَمُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ
عَنْهُمَا.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ
رضي الله عنها قَالَتْ: "فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِيَدَيَّ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا،
ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
كَانَ لَهُ حَلَالًا" رَوَاهُ
ج / 8 ص -198-
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ الْمِسْوَرِ
بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
قَالَا:
"خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ
الْمَدِينَةِ مَعَ بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً
مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ
بِعُمْرَةٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ
فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا
الْأَيْمَنِ، وَسَلَتَ الدَّمَ وَقَلَّدَهَا
نَعْلَيْنِ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ
أَهَلَّ بِالْحَجِّ"
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَقَالَ: "ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِيَدَيْهِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "بِأُصْبُعَيْهِ". وَعَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ إذَا أَهْدَى هَدْيًا مِنْ
الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ، يُقَلِّدهُ قَبْلَ أَنْ
يُشْعِرَهُ، وَذَلِكَ فِي مَكَان وَاحِدٍ
وَهُوَ مُوَجَّهٌ لِلْقِبْلَةِ يُقَلِّدُهُ
نَعْلَيْنِ وَيُشْعِرُهُ مِنْ الشِّقِّ
الْأَيْسَرِ ثُمَّ يُسَاقُ مَعَهُ حَتَّى
يُوقَفَ بِهِ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ
يَدْفَعُ بِهِ مَعَهُمْ إذَا دَفَعُوا فَإِذَا
قَدِمَ فِي غَدَاةٍ نَحَرَهُ" رَوَاهُ مَالِكٌ
فِي "الْمُوَطَّأِ" عَنْ نَافِعٍ فَهُوَ
صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَعَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ "كَانَ يُشْعِرُ بَدَنَةً مِنْ
الشِّقِّ الْأَيْسَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
صِعَابًا مُقْرِنَةً، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ
أَنْ يَدْخُلَ مِنْهَا أَشْعَرَ مِنْ الشِّقِّ
الْأَيْمَنِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يُشْعِرَهَا وَجَّهَهَا إلَى الْقِبْلَةِ،
وَإِذَا أَشْعَرَهَا قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ
وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَأَنَّهُ كَانَ
يُشْعِرُهَا بِيَدِهِ وَيَنْحَرُهَا بِيَدِهِ
قِيَامًا" وَرَوَى مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُمَا بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ "الْهَدْيُ مَا
قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ"
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ
الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ "لَا هَدْيَ إلَّا
مَا قُلِّدَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ"
وَبِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْهَا قَالَتْ
"إنَّمَا تُشْعَرُ الْبَدَنَةُ لِيُعْلَمَ
أَنَّهَا بَدَنَةٌ" وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى
احْتِجَاجِهِمْ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ
وَعَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ فَهُوَ أَنَّ
ذَلِكَ عَامٌّ" وَأَحَادِيثُ الْإِشْعَارِ
خَاصَّةٌ فَقُدِّمَتْ. وَأَجَابَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ
النَّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ عَامَ
غَزْوَةِ أُحُدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ وَالْإِشْعَارُ كَانَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَعَامَ
حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ فَكَانَ
نَاسِخًا، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْجَوَابُ
الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ
إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ
وَالتَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ
الْمُثْلَةِ بَاقٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الْإِشْعَارِ فِي
صَفْحَةِ السَّنَامِ الْيُمْنَى، وَبِهِ قَالَ
أَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ
وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يُشْعِرُهَا فِي
الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى دَلِيلُنَا حَدِيثُ
ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ فِي الْفَرْعِ
قَبْلَهُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا إشْعَارُ الْبَقَرِ مُطْلَقًا،
فَإِنْ كَانَ لَهَا سَنَامٌ أُشْعِرَتْ فِيهِ
وَإِلَّا فَفِي مَوْضِعِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ:
إنْ كَانَ لَهَا سَنَامٌ أُشْعِرْت فِيهِ،
وَإِلَّا فَلَا إشْعَارَ.
فرع: مَذْهَبُنَا تَقْلِيدُ
الْغَنَمِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا
يُسْتَحَبُّ.
فرع: يُسْتَحَبُّ فَتْلُ
قَلَائِدِ الْهَدْيِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ
قَالَتْ:
"فَتَلْتُ قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِيَدَيَّ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا
ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ فَمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
كَانَ لَهُ حَلَالًا" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ:
"كُنْت أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ،
وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا"
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
ج / 8 ص -199-
فرع: إذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ لَمْ يَصِرْ هَدْيًا وَاجِبًا
عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ
الْجَدِيدِ بَلْ يَبْقَى سُنَّةً، كَمَا
قَبْلَ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ، وَفِيهِ
قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَصِيرُ وَاجِبًا كَمَا
لَوْ نَذَرَهُ بِاللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي
إيضَاحُ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ ذَكَرهَا
الْمُصَنِّفُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النَّذْرِ.
فرع: إذَا قَلَّدَ هَدْيَهُ
وَأَشْعَرَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِذَلِكَ،
وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنِيَّةِ
الْإِحْرَامِ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ
الْعُلَمَاءِ كَافَّةً. وَنَقَلَ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُمَا قَالَا:
يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ
الْهَدْيِ. وَهَذَا النَّقْلُ الَّذِي
ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ
الْأَصْحَابُ فِيهِ تَسَاهُلٌ، وَإِنَّمَا
مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إذَا قَلَّدَ
هَدْيَهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى
الْمُحْرِمِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ،
وَكَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ إنْ صَحَّ
عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْءٌ،
وَدَلِيلُ مَا ذَكَرْتُهُ حَدِيثُ عَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أَنَّ زِيَادَ
بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إلَى عَائِشَةَ
أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:
مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا
يُحَرَّمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يَنْحَرَ
هَدْيَهُ، قَالَتْ عَمْرَةُ: قَالَتْ
عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدَيَّ
ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ
أَبِي فَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ
لَهُ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ" رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ "أَنَّ ابْنَ
زِيَادٍ كَتَبَ إلَى عَائِشَةَ" وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:
"أَنَا فَتَلْت تِلْكَ الْقَلَائِدَ مِنْ
عِهْنٍ كَانَ عِنْدَنَا فَأَصْبَحَ فِينَا
رَسُولُ اللَّهِ حَلَالًا يَأْتِي مَا يَأْتِي
الْحَلَالُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ يَأْتِي مَا
يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَمْرَةَ أَنَّ
عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهْدِي
مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَفْتِلُ قَلَائِدَ
هَدْيِهِ ثُمَّ لَا شَيْءَ مِمَّا يَتَجَنَّبُ
الْمُحْرِمُ". وَعَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: السُّنَّةُ أَنْ
يُقَلِّدَ هَدْيَهُ وَيُشْعِرَهُ عِنْدَ
إحْرَامِهِ، سَوَاءً أَحْرَمَ مِنْ
الْمِيقَاتِ أَوْ قَبْلَهُ لِلْأَحَادِيثِ
السَّابِقَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَمْ
يُرِدْ الذَّهَابَ إلَى الْحَجِّ أَنْ
يَبْعَثَ هَدْيًا لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
السَّابِقَةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَلِّدَهُ
وَيُشْعِرَهُ مِنْ بَلَدِهِ بِخِلَافِ مَنْ
يَخْرُجُ بِهَدْيِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا
يُشْعِرُهُ وَيُقَلِّدُهُ حِينَ يُحْرِمُ مِنْ
الْمِيقَاتِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا
فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَدَلِيلُ الْجَمِيعِ
الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي
الله عنه: وَيُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ الذَّكَرُ
وَالْأُنْثَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
اللَّحْمُ، وَالذَّكَرُ أَجْوَدُ لَحْمًا
وَأَكْثَرُ، وَيُخَالِفُ الزَّكَاةَ حَيْثُ
لَا يُجْزِئُ الذَّكَرُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
تَسْلِيمُ الْحَيَوَانِ فِي الزَّكَاةِ حَيًّا
لِيَنْتَفِعَ الْمَسَاكِينُ بِدَرِّهِ
وَنَسْلِهِ وَصُوفِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ "قَالَ
الشَّافِعِيُّ: وَالْأُنْثَى أَحَبُّ إلَيَّ
مِنْ الذَّكَرِ لِأَنَّهَا أَزْكَى لَحْمًا
وَالضَّأْنُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَعْزِ،
وَالْفَحْلُ أَفْضَلُ مِنْ الْخَصِيِّ. قَالَ
أَصْحَابُنَا لَمْ يُرِدْ الْفَحْلَ الَّذِي
يَضْرِبُ لِأَنَّ الضِّرَابَ يُهْزِلُهُ
وَيُضْعِفُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْفَحْلَ
الَّذِي لَا يَضْرِبُ.
فرع: ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ رضي
الله عنه قَالَ:
"أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى
بَدَنَةٍ أَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا
وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتهَا. وَأَنْ لَا
أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا وَقَالَ: نَحْنُ
نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ: "أَهْدَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي
بِلُحُومِهَا فَقَسَّمْتهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي
بِجَلَالِهَا فَقَسَّمْتهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي
بِجُلُودِهَا فَقَسَّمْتهَا،
وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى
ج / 8 ص -200-
اسْتِحْبَابِ تَجْلِيلِ الْهَدْيِ
وَالصَّدَقَةِ بِذَلِكَ الْجِلِّ، وَنَقَلَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
التَّجْلِيلَ يَكُونُ بَعْدَ الْإِشْعَارِ،
لِئَلَّا يَتَلَطَّخَ بِالدَّمِ، وَتَكُونُ
نَفَاسَةُ الْجِلَالِ بِحَسَبِ حَالِ
الْمُهْدَى، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ
يُجَلِّلُ بِالْوَشْيِ. وَبَعْضُهُمْ
بِالْحَبَرَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِاللَّادِنِ
وَالْأَرْزِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُجَلِّلُ
بِالْأَنْمَاطِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشُقَّ
عَلَى الْأَسْنِمَةِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا
قَلِيلَةً لِئَلَّا يَسْقُطَ، وَلِيَظْهَرَ
الْإِشْعَارُ وَإِنْ كَانَتْ نَفِيسَةً لَمْ
يَشُقَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ
الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِنْ كَانَ
تَطَوُّعًا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ
وَتَصَرُّفِهِ إلَى أَنْ يَنْحَرَ، وَإِنْ
كَانَ نَذْرًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَصَارَ
لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ
وَلَا إبْدَالُهُ بِغَيْرِهِ، لِمَا رَوَى
ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ رضي
الله عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ:
"يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيتُ نَجِيبَةً وَأُعْطِيت بِهَا
ثَلَاثُمِائَةِ دِينَارٍ أَفَأَبِيعُهَا
وَأَبْتَاعُ بِثَمَنِهَا بُدْنًا
وَأَنْحَرُهَا: قَالَ: لَا، وَلَكِنْ
انْحَرْهَا إيَّاهَا"فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُرْكَبُ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ
بِالْمَعْرُوفِ إذَا احْتَاجَ، لقوله تعالى:
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الحج: 33] وَسُئِلَ جَابِرٌ رضي الله عنه عَنْ رُكُوبِ الْهَدْيِ
فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ:
"ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت إلَيْهَا"، فَإِنْ نَقَصَتْ بِالرُّكُوبِ ضُمِنَ النُّقْصَانُ، وَإِنْ نَتَجَتْ
تَبِعَهَا الْوَلَدُ وَيَنْحَرُهُ مَعَهَا
سَوَاءً حَدَثَ بَعْدَ النَّذْرِ أَوْ
قَبْلَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي
الله عنه:
"رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً وَمَعَهَا وَلَدُهَا فَقَالَ: لَا
تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهَا إلَّا مَا فَضَلَ
عَنْ وَلَدِهَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
النَّحْرِ فَاذْبَحْهَا وَوَلَدَهَا" وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ الْمِلْكَ فَاسْتَتْبَعَ الْوَلَدَ
كَالْبَيْعِ أَوْ الْعِتْقِ، فَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْشِيَ حَمَلَهُ عَلَى
ظَهْرِ الْأُمِّ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ
كَانَ يَحْمِلُ وَلَدَ الْبَدَنَةِ إلَى أَنْ
يُضَحِّيَ عَلَيْهَا وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا
إلَّا مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوَلَدُ،
وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ.
وَلِأَنَّ اللَّبَنَ غِذَاءُ الْوَلَدِ،
وَالْوَلَدُ كَالْأُمِّ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَمْنَعَ الْأُمَّ عَلَفَهَا لَمْ يَجُزْ
أَنْ يَمْنَعَ الْوَلَدَ غِذَاءَهُ، وَإِنْ
فَضَلَ عَنْ الْوَلَدِ شَيْءٌ فَلَهُ أَنْ
يَشْرَبَهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً} [الحج: 33] وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وَالْأَوْلَى أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِهِ.
وَإِنْ كَانَ لَهَا صُوفٌ - نَظَرْت فَإِنْ
كَانَ فِي تَرْكِهِ صَلَاحٌ بِأَنْ يَكُونَ
فِي الشِّتَاءِ، وَتَحْتَاجَ إلَيْهِ
لِلدِّفْءِ - لَمْ يَجُزَّهُ؛ لِأَنَّهُ
يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيَوَانُ فِي دَفْعِ
الْبَرْدِ عَنْهُ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ
الْمَسَاكِينُ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ
الصَّلَاحُ فِي جَزِّهِ أَنْ يَكُونَ فِي
وَقْتِ الصَّيْفِ وَقَدْ بَقِيَ إلَى وَقْتِ
النَّحْرِ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ جَزَّهُ
لِأَنَّهُ يَتَرَفَّهُ بِهِ الْهَدْيُ
وَيَسْتَمِرُّ فَتَنْتَفِعُ بِهِ
الْمَسَاكِينُ فَإِنْ أُحْصِرَ نَحْرُهُ
حَيْثُ أَحُصِرَ كَمَا قُلْنَا فِي هَدْيِ
الْمُحْصَرِ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ
تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ
أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ
غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ تُضْمَنْ
كَالْوَدِيعَةِ. وَإِنْ أَصَابَهُ عَيْبٌ
ذَبَحَهُ وَأَجْزَأَهُ، لِأَنَّ ابْنَ
الزُّبَيْرِ أَتَى فِي هَدَايَاهُ بِنَاقَةٍ
عَوْرَاءَ فَقَالَ "إنْ كَانَ أَصَابَهَا
بَعْدَ مَا اشْتَرَيْتُمُوهَا فَأَمْضُوهَا:
وَإِنْ كَانَ أَصَابَهَا قَبْلَ أَنْ
تَشْتَرُوهَا فَأَبْدِلُوهَا" وَلِأَنَّهُ
لَوْ هَلَكَ جَمِيعُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ،
فَإِذَا نَقَصَ بَعْضُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ
كَالْوَدِيعَةِ.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي قِصَّةِ نَجِيبَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ،
إلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَهْمِ بْنِ
الْجَارُودِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا
يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مُرْسَلٌ. وَوَقَعَ فِي
"الْمُهَذَّبِ" نَجِيبَةُ وَاَلَّذِي قَالَهُ
الْمُحَدِّثُونَ وَوَقَعَ فِي رِوَايَاتِهِمْ
نَجِيبًا بِغَيْرِ هَاءٍ.
وأما: حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَلَفْظُهُ: "سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ رُكُوبِ
الْهَدْيِ فَقَالَ
ج / 8 ص -201-
سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت
إلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا"
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:
"مَرَّ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ يَسُوقُ
بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا فَقَالَ:
إنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم مِثْلُهُ وأما: حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله
عنه فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وأما: الْأَثَرُ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ فِي حَمْلِ وَلَدِ الْبَدَنَةِ
فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي
"الْمُوَطَّأِ" بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ،
وَهُوَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: "إذَا أَنْتَجَتْ
الْبَدَنَةُ فَلْيُحْمَلْ وَلَدُهَا حَتَّى
يُنْحَرَ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ
مَحَلًّا فَلْيُحْمَلْ عَلَى أُمِّهِ حَتَّى
يُنْحَرَ مَعَهَا". وأما: الْأَثَرُ عَنْ
ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ:
فَقَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ
الْمِلْكَ فَاسْتَتْبَعَ الْوَلَدَ"
احْتِرَازٌ مِنْ التَّدْبِيرِ، فَإِنَّ وَلَدَ
الْمُدَبَّرَةِ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ زِنًا لَا
يَتْبَعُهَا فِي التَّدْبِيرِ عَلَى أَصَحِّ
الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: "يَحْتَاجُ
لِلدَّفَأِ" هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ
الْمُهَذَّبِ لِلدَّفَأِ وَهُوَ - بِفَتْحِ
الدَّالِ وَالْفَاءِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ -
عَلَى وَزْنِ الظَّمَأِ، قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: الدَّفَأُ السُّخُونَةُ
يَقُولُ فِيهِ: دَفِيءَ دَفَأً مِثْلَ ظَمِئَ
ظَمَأً. وَالِاسْمُ الدِّفْءُ بِالْكَسْرِ
وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يُدْفِئُك.
وَالْجَمْعُ الدَّفَاءُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا
مَسَائِلُ إحداها: إذَا كَانَ الْهَدْيُ
تَطَوُّعًا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ
وَتَصَرُّفِهِ فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ
وَبَيْعُهُ وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّ
مِلْكَهُ ثَابِتٌ وَلَمْ يُنْذِرْهُ
وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ مُجَرَّدُ نِيَّةِ
ذَبْحِهِ. وَهَذَا لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ
كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ
أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ يُطَلِّقَ
امْرَأَتَهُ أَوْ يَقِفَ دَارِهِ، وَقَدْ
سَبَقَ قَرِيبًا حِكَايَةُ قَوْلٍ شَاذٍّ
أَنَّهُ إذَا قَلَّدَ الْهَدْيَ صَارَ
كَالْمَنْذُورِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
أَمَّا: إذَا نَذَرَ هَدْيَ هَذَا
الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَزُولُ مِلْكُهُ
بِنَفْسِ النَّذْرِ، وَصَارَ الْحَيَوَانُ
لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَجُوزُ لِلنَّاذِرِ
التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ
وَلَا وَصِيَّةٍ وَلَا رَهْنٍ وَلَا غَيْرِهَا
مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُزِيلُ
الْمِلْكَ أَوْ تَئُولُ إلَى زَوَالِهِ
كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَلَا
يَجُوزُ أَيْضًا إبْدَالُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا
بِخَيْرٍ مِنْهُ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ
الشَّافِعِيِّ، وَقَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ
فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا
يَزُولُ مِلْكُهُ حَتَّى يَذْبَحَهُ
وَيَتَصَدَّقَ بِاللَّحْمِ، كَمَا لَوْ قَالَ:
لِلَّهِ عَلَيَّ إعْتَاقُ هَذَا الْعَبْدِ،
فَإِنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَّا
بِإِعْتَاقِهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ
وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ. وَفَرَّقَ
الْأَصْحَابُ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِعْتَاقِ
بِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ فِي الْهَدْيِ
إلَى الْمَسَاكِينِ، فَانْتَقَلَ بِنَفْسِ
النَّذْرِ كَالْوَقْفِ. وَأَمَّا الْمِلْكُ
فِي الْعَبْدِ فَلَا يَنْتَقِلُ إلَى
الْعَبْدِ وَلَا إلَى غَيْرِهِ، بَلْ
يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ. قَالَ أَصْحَابُنَا
وَلَوْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً
فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْهَدْيِ فِيمَا
ذَكَرْنَاهُ، وَفِيهَا الْوَجْهُ الَّذِي
حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ نَذَرَ إعْتَاقَ
عَبْدٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ
وَإِبْدَالُهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ
الْمِلْكُ فِيهِ بِنَفْسِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ
ثَبَتَ بِالنَّذْرِ لِهَذَا الْعَبْدِ حَقٌّ
فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ قَالَ
أَصْحَابُنَا: فَإِنْ خَالَفَ فَبَاعَ
الْهَدْيَ أَوْ الْأُضْحِيَّةَ
الْمُعَيَّنَيْنِ لَزِمَهُ اسْتِرْدَادُهُ إنْ
كَانَتْ عَيْنُهُ بَاقِيَةً وَيَلْزَمُهُ
رَدُّ الثَّمَنِ، فَإِنْ تَلِفَ الْهَدْيُ
عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَوْ أَتْلَفَهُ لَزِمَهُ
قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ
الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ، وَيَشْتَرِي
النَّاذِرُ بِتِلْكَ
ج / 8 ص -202-
الْقِيمَةِ مِثْلَ التَّالِفِ جِنْسًا
وَنَوْعًا وَسِنًّا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
بِالْقِيمَةِ الْمِثْلَ لِغَلَاءٍ حَدَثَ
لَزِمَهُ أَنْ يَضُمَّ مِنْ مَالِهِ إلَيْهَا
تَمَامَ الثَّمَنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ
الْأَصْحَابِ: يَضْمَنُ مَا بَاعَهُ
بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ
وَمِثْلِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ
ثَمَنِ الْمِثْلِ لِرُخْصٍ حَدَثَ لَزِمَهُ
أَنْ يَشْتَرِيَ، وَفِيمَا يَفْعَلُ
بِالزِّيَادَةِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ مَعَ
تَمَامِ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ
الْأُضْحِيَّةِ، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إنْ
اشْتَرَى الْمِثْلَ بِعَيْنِ الْقِيمَةِ صَارَ
الْمُشْتَرَى ضَحِيَّةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ،
وَإِنْ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ وَنَوَى
عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهَا ضَحِيَّةٌ
فَكَذَلِكَ وَإِلَّا فَلْيَجْعَلْهُ بَعْدَ
الشِّرَاءِ ضَحِيَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَا يَجُوزُ إجَارَةُ
الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَيْنِ
لِأَنَّهَا بَيْعٌ لِلْمَنَافِعِ، وَقَدْ
نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعَ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا. وَيَجُوزُ
إعَارَتُهَا لِأَنَّهَا إرْفَاقٌ كَمَا
يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِهَا، فَلْو خَالَفَ
وَأَجَّرَهَا فَرَكِبَهَا الْمُسْتَأْجِرُ
فَتَلِفَتْ ضَمِنَ الْمُؤَجِّرُ قِيمَتَهَا
وَالْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ، وَفِي
قَدْرِهَا وَجْهَانِ
أصحهما: أُجْرَةُ الْمِثْلِ
والثاني: الْأَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ
وَالْمُسَمَّى. ثُمَّ فِي مَصْرِفِهَا
وَجْهَانِ
أحدهما: الْفُقَرَاءُ فَقَطْ
وَأَصَحُّهُمَا: مَصْرِفِ الضَّحَايَا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
يَجُوزُ رُكُوبُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ
الْمَنْذُورَيْنِ وَيَجُوزُ إرْكَابُهَا
بِالْعَارِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَيَجُوزُ
الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَجُوزُ
إجَارَتُهَا لِذَلِكَ، وَيُشْتَرَطُ فِي
الرُّكُوبِ وَالْإِرْكَابِ وَالْحَمْلِ أَنْ
يَكُونَ مُطِيقًا لِذَلِكَ لَا يَتَضَرَّرُ
بِهِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّكُوبُ وَالْحَمْلُ
عَلَيْهِ إلَّا لِحَاجَةٍ لِلْحَدِيثِ
السَّابِقِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ
وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ"
وَآخَرُونَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَرْكَبُ
الْهَدْيَ إذَا اضْطَرَّ إلَيْهِ. قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ وَيَجُوزُ بِلَا ضَرُورَةٍ
مَا لَمْ يُهْزِلْهَا. وَأَمَّا الشَّيْخُ
أَبُو حَامِدٍ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ
يُرْكَبَ الْهَدْيُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ:
فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى رُكُوبِهِ رَكِبَهُ
رُكُوبًا غَيْرَ فَادِحٍ. وَقَالَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ: لَا يَجُوزُ رُكُوبُهُ
إلَّا لِضَرُورَةٍ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَوْسَطُ لَيْسَ لَهُ
رُكُوبُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ، وَلَهُ
حَمْلُ الْمُضْطَرِّ وَالْمَعْيِيِّ1 قَالَ:
وَقَالَ الْقَفَّالُ: هَلْ يَجُوزُ
الرُّكُوبُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: لَهُ
الرُّكُوبُ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ الْهَدْيَ،
سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورَةً أَمْ لَا، قَالَ
الرُّويَانِيُّ: هَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا
مَعَ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ
إذَا رَكِبَهَا حَيْثُ أَذِنَّا لَهُ
فَنَقَصَتْ بِرُكُوبِهِ ضَمِنَ النُّقْصَانَ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا وَلَدَ
الْهَدْيُ أَوْ الْأُضْحِيَّةُ
الْمُتَطَوَّعَةُ بِهِمَا فَالْوَلَدُ مِلْكٌ
لَهُ كَالْأُمِّ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا
شَاءَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ كَالْأُمِّ.
وَلَوْ وَلَدَتْ الَّتِي عَيَّنَهَا
ابْتِدَاءً بِالنَّذْرِ هَدْيًا أَوْ
أُضْحِيَّةً تَبِعَهَا وَلَدُهَا بِلَا
خِلَافٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ
النَّذْرِ أَوْ حَدَثَ الْحَمْلُ بَعْدَهُ
لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنْ مَاتَتْ
الْأُمُّ بَقِيَ حُكْمُ الْوَلَدِ كَمَا
كَانَ، وَيَجِبُ ذَبْحُهُ فِي وَقْتِ ذَبْحِ
الْأُمِّ، وَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْهَدْيِ
فِيهِ بِمَوْتِ أُمِّهِ، كَمَا لَا يُرْفَعُ
حُكْمُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَوْتِهَا.
وَلَوْ عَيَّنَهَا بِالنَّذْرِ عَمَّا كَانَ
الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ فَثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ: أَنَّ حُكْمَ وَلَدِهَا
حُكْمُهَا كَوَلَدِ الْمُعَيَّنَةِ
بِالنَّذْرِ ابْتِدَاءً والثاني: لَا
يَتْبَعُهَا، بَلْ هُوَ مِلْكُ الْمُضَحِّي
وَالْمُهْدِي، لِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اسم فاعل من أعيا الماشي أي كل وهو هنا فعل
لازم، ويأتي متعدياً في نحو أعياه السير.
(المطيعي).
ج / 8 ص -203-
مِلْكَ
الْفُقَرَاءِ لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ فِي
هَذِهِ، فَإِنَّهَا لَوْ غَابَتْ عَادَتْ إلَى
مِلْكِهِ
وَالثَّالِثُ: يَتْبَعُهَا
مَا دَامَتْ حَيَّةً، فَإِنْ مَاتَتْ لَمْ
يَبْقَ حُكْمُ الْهَدْيِ وَلَا الْأُضْحِيَّةِ
فِيهِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالُوا:
وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي وَلَدِ
الْأَمَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا مَاتَتْ فِي يَدِ
الْبَائِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَإِذَا
لَمْ يُطِقْ وَلَدُ الْهَدْيِ الْمَشْيَ
حُمِلَ عَلَى أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا حَتَّى
يَبْلُغَ الْحَرَمَ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا
ذَبَحَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ فِي أُضْحِيَّةِ
التَّطَوُّعِ فَفِي تَفْرِقَةِ لَحْمِهِمَا
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها: لِكُلِّ وَاحِدٍ
أُضْحِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَيَتَصَدَّقُ
مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمَا
ضَحِيَّتَانِ والثاني: يَكْفِي التَّصَدُّقُ
مِنْ إحْدَاهُمَا لِأَنَّهُ بَعْضُهَا
وَالثَّالِثُ: لَا بُدَّ مِنْ التَّصَدُّقِ
مِنْ الْأُمِّ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ. وَهَذَا
هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ،
وَصَحَّحَ الرُّويَانِيُّ الْأَوَّلَ وَهُوَ
الْمُخْتَارُ. وَيَشْتَرِكُ الْوَجْهَانِ
الْأَخِيرَانِ فِي جَوَازِ أَكْلِ جَمِيعِ
الْوَلَدِ أَمَّا إذَا ذَبَحَهَا فَوَجَدَ فِي
بَطْنِهَا جَنِينًا فَقَالَ الرَّافِعِيُّ:
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ
وَيَحْتَمِلُ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ بَعْضُهَا،
هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ
أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْقَوْلَيْنِ
الْمَعْرُوفَيْنِ أَنَّ الْحَمْلَ لَهُ حُكْمٌ
وَقِسْطٌ مِنْ الثَّمَنِ أَمْ لَا؟ إنْ
قُلْنَا: لَا، فَهُوَ بَعْضُ كَبِدِهَا
وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ طَرْدُ الْخِلَافِ،
وَيُحْتَمَلُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ بَعْضٌ
مِنْهَا وَالْأَصَحُّ: عَلَى الْجُمْلَةِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْلُ جَمِيعِهِ هُنَا،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: إذَا كَانَ
لَبَنُ الْهَدْيِ أَوْ الْأُضْحِيَّةِ
الْمَنْذُورَيْنِ قَدْرَ كِفَايَةِ الْوَلَدِ
لَا يَجُوزُ حَلْبُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنْ
حَلَبَ فَنَقَصَ الْوَلَدُ بِسَبَبِهِ
لَزِمَهُ 1 وَإِنْ فَضَلَ عَنْ رَيِّ
الْوَلَدِ حَلَبَ الْفَاضِلَ. ثُمَّ قَالَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ: لَهُ شُرْبُهُ،
لِأَنَّهُ يَشُقُّ نَقْلُهُ وَلِأَنَّهُ
يَسْتَخْلِفُهُ بِخِلَافِ الْوَلَدِ، وَفِيهِ
وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شُرْبُهُ،
بَلْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ. وَمِمَّنْ
حَكَى هَذَا الْوَجْهَ الْقَفَّالُ
وَصَاحِبُهُ الْفُورَانِيُّ وَالرُّويَانِيُّ
وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ
الْمُتَوَلِّي: إنْ لَمْ نُجَوِّزْ أَكْلَ
لَحْمِ الْهَدْيِ لَمْ يَجُزْ شُرْبُ
لَبَنِهِ، بَلْ يَجِبُ نَقْلُهُ إلَى مَكَّةَ
إنْ أَمْكَنَ، أَوْ تَجْفِيفُهُ وَنَقْلُهُ
جَافًّا، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ
عَلَى الْفُقَرَاءِ فِي مَوْضِعِ الْحَلْبِ،
وَإِنْ جَوَّزْنَا أَكْلَ لَحْمِهِ جَازَ
شُرْبُهُ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ
الْمَذْهَبُ: مِنْهَا الْقَطْعُ بِجَوَازِ
شُرْبِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَةِ الْوَلَدِ،
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ
"الْأَوْسَطِ" وَفِي غَيْرِهِ، قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ
تَصَدَّقَ لَكَانَ أَفْضَلَ. قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَحَيْثُ جَازَ
شُرْبُهُ جَازَ أَنْ يَسْقِيَهُ لِغَيْرِهِ
بِلَا عِوَضٍ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا
خِلَافٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ:
وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ كَانَ حُكْمُ لَبَنِهِ
حُكْمَ الزَّائِدِ عَلَى حَاجَةِ الْوَلَدِ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ فِي بَقَاءِ صُوفِ
الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ مَصْلَحَةٌ لِدَفْعِ
ضَرَرِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ نَحْوِهِمَا،
أَوْ كَانَ وَقْتُ ذَبْحِهِ قَرِيبًا وَلَمْ
يَضُرَّهُ بَقَاؤُهُ لَمْ يُجْزِهِ جَزُّهُ
وَإِنْ كَانَ فِي جَزِّهِ مَصْلَحَةٌ بِأَنْ
يَكُونَ فِي وَقْتِ2 الذَّبْحِ بَعْدَ جَزِّهِ
وَلَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ
أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، هَكَذَا قَالَهُ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَقَالَ
الْمُتَوَلِّي: يَسْتَصْحِبُ الصُّوفَ إلَى
الْحَرَمِ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ هُنَاكَ عَلَى
الْمَسَاكِينِ كَالْوَلَدِ، وَقَطَعَ
الدَّارِمِيُّ بِأَنْ لَا يَجُزَّ الصُّوفَ
مُطْلَقًا وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعل العبارة "لزمه ضمان
النقصان".
2 لعله يريد (في وقت يسهل الذبح بعد جزه) (ط).
ج / 8 ص -204-
السَّادِسَةُ: إذَا أُحْصِرَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ الْمَنْذُورُ أَوْ
الْمُتَطَوَّعُ بِهِ فَيَحِلُّ نَحْرُ
الْهَدْيِ هُنَاكَ، كَمَا يُنْحَرُ هَدْيُ
الْإِحْصَارِ هُنَاكَ.
السَّابِعَةُ: إنْ تَلِفَ
الْهَدْيُ الْمَنْذُورُ أَوْ الْأُضْحِيَّةُ
الْمَنْذُورَةُ قَبْلَ الْمَحِلِّ بِتَفْرِيطٍ
لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَإِنْ تَلِفَ بِلَا
تَفْرِيطٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، وَإِنْ
تَعِبَ ذَبَحَهُ وَأَجْزَأَهُ، وَدَلِيلُ
الْجَمِيعِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا خِلَافَ فِي
شَيْءٍ مِنْ هَذَا إلَّا وَجْهًا شَاذًّا
حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ
"الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
الاستراباذي مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجِبُ
إبْدَالُ الْمَعِيبِ، وَهَذَا فَاسِدٌ
لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ فِي ذِمَّتِهِ
شَيْئًا وَإِنَّمَا الْتَزَمَ هَذَا، فَإِذَا
تَعَيَّبَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ تَلِفَ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ
مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ هَدْيًا
مُعَيَّنًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَلَمْ
يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ، بَلْ
يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ
وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ إذَا
بَاعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ
مِثْلَهُ هَدْيًا. دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ
الْعُلَمَاءِ فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ
الْمَنْذُورِ.
ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُهُ
لِلْمُحْتَاجِ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى ظَاهِرِ
النَّصِّ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمَالِكٌ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَهُ رُكُوبُهُ مِنْ
غَيْرِ حَاجَةٍ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُ،
وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَرْكَبُهُ إلَّا إنْ
لَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا وَحَكَى الْقَاضِي
عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَوْجَبَ
رُكُوبَهَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ
وَلِمُخَالِفَةِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ
عَلَيْهِ مِنْ إهْمَالِ السَّائِبَةِ
وَالْبَحِيرَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ.
دَلِيلُنَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ
الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ وَعَلَى
الْمُوجِبِينَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم: "أَهْدَى الْهَدَايَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا".
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إذَا (نَذَرَ) هَدْيًا
مُعَيَّنًا سَلِيمًا ثُمَّ تَعَيَّبَ لَا
يَلْزَمُهُ إبْدَالُهُ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٌ
وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ
وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ إبْدَالُهُ،
وَبِهِ قَالَ الاستراباذي مِنْ أَصْحَابِنَا
كَمَا سَبَقَ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ
الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا جَوَازُ شُرْبِ
مَا فَضَلَ مِنْ لَبَنِ الْهَدْيِ عَنْ
الْوَلَدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا
يَجُوزُ بَلْ يَنْضَحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ
لِيَخِفَّ اللَّبَنُ. دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
عَطِبَ وَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ نَحَرَهُ
وَغَمَسَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ
صَفْحَتَهُ لِمَا رَوَى أَبُو قَبِيصَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ ثُمَّ يَقُولُ: إنْ عَطِبَ مِنْهَا
شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا
فَانْحَرْهَا اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا
ثُمَّ اضْرِبْ صَفْحَتَهَا وَلَا تُطْعِمْهَا
أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رُفْقَتِك"
وَلِأَنَّهُ هَدْيٌ مَعْكُوفٌ عَنْ الْحَرَمِ
فَوَجَبَ نَحْرُهُ مَكَانَهُ كَهَدْيِ
الْمُحْصَرِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهُ
عَلَى فُقَرَاءِ الرُّفْقَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ
أحدهما: لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ أَبِي
قَبِيصَةَ، وَلِأَنَّ فُقَرَاءَ الرُّفْقَةِ
يُتَّهَمُونَ فِي سَبَبِ عَطَبِهَا فَلَمْ
يُطْعَمُوا مِنْهَا والثاني: يَجُوزُ
لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، فَجَازَ
أَنْ يُطْعَمُوا كَسَائِرِ الْفُقَرَاءِ،
فَإِنْ أَخَّرَ ذَبْحَهُ حَتَّى مَاتَ
ضَمِنَهُ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي تَرْكِهِ
فَضَمِنَهُ كَالْمُودِعِ إذَا رَأَى مَنْ
يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ فَسَكَتَ عَنْهُ حَتَّى
سَرَقَهَا.
ج / 8 ص -205-
وَإِنْ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ
لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ الْمَسَاكِينِ
فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ، وَيَضْمَنُهُ
بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ
هَدْيِ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ لَزِمَهُ
الْإِرَاقَةُ وَالتَّفْرِقَةُ وَقَدْ فَوَّتَ
الْجَمِيعَ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ
أَتْلَفَ شَيْئَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ
الْقِيمَةُ مِثْلَ ثَمَنِ مِثْلِهِ اشْتَرَى
مِثْلَهُ وَأَهْدَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ
لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِثْلَهُ
وَيُهْدِيَهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ نَظَرْت فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيَيْنِ - اشْتَرَاهُمَا،
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اشْتَرَى هَدْيًا،
وَفِيمَا يَفْضُلُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها:
يَشْتَرِي بِهِ جُزْءًا مِنْ حَيَوَانٍ،
وَيَذْبَحُ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ
مُسْتَحَقَّةٌ، فَإِذَا أَمْكَنَ لَمْ
يُتْرَكْ والثاني: أَنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ
اللَّحْمَ لِأَنَّ اللَّحْمَ وَالْإِرَاقَةَ
مَقْصُودَانِ وَالْإِرَاقَةُ تَشُقُّ
فَسَقَطَتْ، وَالتَّفْرِقَةُ لَا تَشُقُّ
فَلَمْ تَسْقُطْ وَالثَّالِثُ: أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِالْفَاضِلِ، لِأَنَّهُ إذَا
سَقَطَتْ الْإِرَاقَةُ كَانَ اللَّحْمُ
وَالْقِيمَةُ وَاحِدًا.
وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَجَبَتْ
عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، فَإِنْ كَانَتْ
الْقِيمَةُ مِثْلَ ثَمَنِ مِثْلِهَا اشْتَرَى
بِهَا مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ
وَلَمْ تَبْلُغْ ثَمَنَ مِثْلَيْنِ اشْتَرَى
الْمِثْلَ، وَفِي الْفَاضِلِ الْأَوْجُهُ
الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ
ثَمَنِ الْمِثْلِ فَفِيهِ الْأَوْجُهُ
الثَّلَاثَةُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْهَدْيِ
الَّذِي نَذَرَهُ اشْتَرَاهُ وَوَجَدَ بِهِ
عَيْبًا بَعْدَ النَّذْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ
الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ
مِنْ الرَّدِّ لِحَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَيَرْجِعُ بِالْأَرْشِ وَيَكُونُ الْأَرْشُ
لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ
الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي الْتَزَمَهُ
بِالنَّذْرِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَفِيهِ الْأَوْجُهُ
الثَّلَاثَةُ.
الشرح: حَدِيثُ أَبِي قَبِيصَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"،
وَاسْمُ أَبِي قَبِيصَةَ ذُؤَيْبُ بْنُ
حَلْحَلَةَ الْخُزَاعِيُّ وَالِدُ قَبِيصَةَ
بْنِ ذُؤَيْبٍ الْفَقِيهِ الْمَشْهُورِ
التَّابِعِيِّ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي
"صَحِيحِ مُسْلِمٍ" "عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذُؤَيْبًا أَبَا قَبِيصَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ
يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ:
إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيت عَلَيْهِ
مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا
فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا
وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ رُفْقَتِك" وَعَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ
فَقَالَ: إنْ عَطِبَ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ
اُصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ"
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ. قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ
فَقَوْلُهُ: خَافَ أَنْ يَهْلِكَ - هُوَ
بِكَسْرِ اللَّامِ – وَقَوْلُهُ: "غَمَسَ
نَعْلَهُ" يَعْنِي النَّعْلَ الْمُعَلَّقَةَ
فِي عُنُقِهِ، كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ يُسَنُّ
أَنْ يُقَلِّدَهَا نَعْلَيْنِ. قَوْلُهُ صلى
الله عليه وسلم
"وَلَا تَطْعَمْهَا" هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ، أَيْ لَا تَأْكُلْهَا،
وَالرُّفْقَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا
قَوْلُهُ: "هَدْيٌ مَعْكُوفٌ عَنْ الْحَرَمِ"
أَيْ مَحْبُوسٌ. وَقَوْلُهُ: "بِأَكْثَرِ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ وَهَدْيٍ"
هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ هُنَا،
وَهَدْيٌ بِالْوَاوِ، وَوَقَعَ بَعْضُهَا
أَوْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْكَرُ فِي
كُتُبِ الْفِقْهِ مِثْلُهُ، وَلَكِنَّ
الصَّوَابَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا
مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا عَطِبَ
الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ وَخَافَ هَلَاكَهُ،
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ تَطَوُّعًا
فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ
بَيْعٍ وَذَبْحٍ وَأَكْلٍ وَإِطْعَامٍ
وَتَرْكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ
مِلْكُهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ
ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا لَزِمَهُ
ذَبْحُهُ، فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى هَلَكَ
لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي
حِفْظِ الْوَدِيعَةِ حَتَّى تَلِفَتْ. وَإِذَا
ذَبَحَهُ غَمَسَ النَّعْلَ الَّتِي قَلَّدَهُ
إيَّاهَا فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهَا صَفْحَةَ
سَنَامِهِ وَتَرَكَهُ مَوْضِعَهُ لِيَعْلَمَ
مَنْ مَرَّ بِهِ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلَهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَجُوزُ
لِلْمُهْدِي وَلَا لِسَائِقِ هَذَا الْهَدْيِ
وَقَائِدِهِ الْأَكْلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ
ج / 8 ص -206-
لِلْحَدِيثِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَغْنِيَاءِ
الْأَكْلُ مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ
الْهَدْيَ مُسْتَحَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ فَلَا
حَقَّ لِلْأَغْنِيَاءِ فِيهِ، وَيَجُوزُ
لِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ رُفْقَةِ صَاحِبِ
الْهَدْيِ الْأَكْلُ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ
لِحَدِيثِ نَاجِيَةَ السَّابِقِ.
وَهَلْ يَجُوزُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ رُفْقَةِ
صَاحِبِ الْهَدْيِ الْأَكْلُ مِنْهُ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: لَا
يَجُوزُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ
وَصَحَّحَهُ الْأَصْحَابُ لِلْحَدِيثِ. وَمَنْ
جَوَّزَهُ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ
رُفْقَةَ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ لَا فَقِيرَ
فِيهِمْ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ. وَفِي
الْمُرَادِ بِالرُّفْقَةِ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ"
أحدهما: وَهُوَ الَّذِي اسْتَحْسَنَهُ
الرُّويَانِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ الرُّفْقَةُ
الَّذِينَ يُخَالِطُونَهُ فِي الْأَكْلِ
وَغَيْرِهِ دُونَ الْقَافِلَةِ
وَأَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَظَاهِرُ نَصِّ
الشَّافِعِيِّ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّ
الْمُرَادَ جَمِيعُ الْقَافِلَةِ، لِأَنَّ
السَّبَبَ الَّذِي مُنِعَتْ بِهِ الرُّفْقَةُ
هُوَ خَوْفُ تَعْطِيلِهِمْ إيَّاهُ. وَهَذَا
مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْقَافِلَةِ فَإِنْ
قِيلَ: إذَا لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ
الْقَافِلَةِ أَكْلُهَا وَتُرِكَ فِي
الْبَرِّيَّةِ كَانَ طُعْمَةً لِلسِّبَاعِ
وَهَذَا إضَاعَةُ مَالٍ قُلْنَا لَيْسَ فِيهِ
إضَاعَةٌ، بَلْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّ
سُكَّانَ الْبَوَادِي يَتْبَعُونَ مَنَازِلَ
الْحَجِيجِ لِالْتِقَاطِ سَاقِطَةٍ
وَنَحْوِهِ، وَقَدْ تَأْتِي قَافِلَةٌ فِي
إثْرِ قَافِلَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ وَغَمَسَ
نَعْلَهُ فِي دَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ
وَتَرَكَهُ فَهَلْ يَتَوَقَّفُ إبَاحَةُ
أَكْلِهِ عَلَى قَوْلِهِ: أَبَحْتُهُ لِمَنْ
يَأْكُلُهُ مِنْهُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما:
لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَكْفِي ذَبْحُهُ
وَتَخْلِيَتُهُ، لِأَنَّهُ بِالنَّذْرِ زَالَ
مِلْكُهُ وَصَارَ لِلْفُقَرَاءِ. أَمَّا إذَا
عَطِبَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ فَذَبَحَهُ
فَقَالَ صَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَالْأَصْحَابُ:
لَا يَصِيرُ مُبَاحًا لِلْفُقَرَاءِ
بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَا يَصِيرُ مُبَاحًا
لَهُمْ إلَّا بِلَفْظٍ بِأَنْ يَقُولَ
أَبَحْتُهُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ
أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُمْ أَوْ سَبَّلْته لَهُمْ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: وَلَا خِلَافَ فِي
هَذَا، قَالُوا: فَإِذَا قَالَ هَذَا
اللَّفْظَ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ الْأَكْلُ
مِنْهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يَجُوزُ
لِغَيْرِهِ؟ قَوْلَانِ، قَالَ فِي
"الْإِمْلَاءِ": حَتَّى يَعْلَمَ الْإِذْنَ،
وَقَالَ فِي "الْأُمِّ" و"الْقَدِيمِ":
يَحِلُّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ أَبَاحَهُ، وَقِيَاسًا
عَلَى مَا إذَا رَأَى مَاءً فِي الطَّرِيقِ
مَوْضُوعًا وَعَلَيْهِ أَمَارَةُ
الْإِبَاحَةِ، فَإِنَّ لَهُ شُرْبَهُ
بِاتِّفَاقِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ
إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ الْمَنْذُورُ فَلَمْ
يَذْبَحْهُ حَتَّى هَلَكَ ضَمِنَهُ، وَإِنْ
أَكَلَهُ ضَمِنَهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ:
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي
"الْإِفْصَاحِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوصَلُ
بَدَلُهُ إلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، قَالَ
أَبُو عَلِيٍّ: وَعِنْدِي الْقِيَاسُ أَنَّهُ
يَجْعَلُهُ لِمَسَاكِينِ مَوْضِعِهِ، قَالَ
الرُّويَانِيُّ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ إيصَالُ ثَمَنِهِ إلَى مَسَاكِينِ
الْحَرَمِ بِخِلَافِ الذَّبِيحَةِ، وَكَمَا
يَجِبُ إيصَالُ الْوَلَدِ إلَيْهِمْ دُونَ
اللَّبَنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
إذَا أَتْلَفَ الْمُهْدِي الْهَدْيَ لَزِمَهُ
ضَمَانُهُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ
قِيمَتِهِ وَمِثْلِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ
الْأُضْحِيَّةَ الْمُعَيَّنَةَ وَتَلِفَتْ
عِنْدَ الْمُشْتَرِي. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَفِيهِ وَجْهٌ
ضَعِيفٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
قِيمَتُهُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فِيمَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ،
وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُ الْمَذْهَبِ مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ
إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِثْلَ ثَمَنِ
مِثْلِهِ، بِأَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ السِّعْرُ
لَزِمَهُ شِرَاءُ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ
الْقِيمَةُ أَقَلَّ لَزِمَهُ شِرَاءُ
مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ بِأَنْ
رَخُصَ السِّعْرُ فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ
أَوْ هَدْيًا وَاحِدًا نَفِيسًا، فَإِنْ لَمْ
يُمْكِنْهُ فَاشْتَرَى وَاحِدًا وَفَضَلَتْ
فَضْلَةٌ - نَظَرَ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِهَذِهِ الْفَضْلَةِ شِقْصًا مِنْ
هَدْيٍ مِثْلِهَا فَفِيهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ
أَصَحُّهَا: يَلْزَمُهُ
شِرَاؤُهُ وَذَبْحُهُ مَعَ الشَّرِيكِ وَلَا
يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ
يَتَصَدَّقُ بِهَا، هَكَذَا قَالَهُ
ج / 8 ص -207-
الْجُمْهُورُ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصْرِفُهَا مَصْرِفَ
الضَّحَايَا حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْهَا خَاتَمًا يَقْتَنِيهِ وَلَا
يَبِيعُهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ
قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ: وَيُشْبِهُ
أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ،
بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شِقْصٌ
وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ، وَقَدْ
يَتَسَاهَلُ فِي ذِكْرِ الْمَصْرِفِ فِي
مِثْلِ هَذَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الْإِمَامُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ
مِنْ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ 1.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا لَحْمًا
وَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ لَهُ
صَرْفَهَا فِي جُزْءٍ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِ،
لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِثْلِ
كَابْتِدَاءِ هَدْيٍ وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ
يُهْلِكُ هَذِهِ الْفَضْلَةَ، حَكَاهُ
الرَّافِعِيُّ. هَذَا كُلُّهُ إذَا أَمْكَنَ
شِرَاءُ شِقْصٍ بِهَذِهِ الْفَضْلَةِ، فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْ فَفِيهِ الْأَرْبَعَةُ
وَيَسْقُطُ الْأَوَّلُ أَصَحُّهَا: الثَّانِي،
وَهُوَ جَوَازُ إخْرَاجِ الْقِيمَةِ دَرَاهِمَ
وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، وَيَحْكِي كَلَامَ
إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَلَا
يَلْزَمُهُ إلَّا الْقِيمَةُ بِلَا خِلَافٍ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُهْدِي
حَيْثُ قُلْنَا: إنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ
يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ
الْمُهْدِيَ الْتَزَمَ الْإِرَاقَةَ، قَالَ
أَصْحَابُنَا: فَيَأْخُذُ الْمُهْدِي
الْقِيمَةَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ فَيَشْتَرِي
بِهَا مِثْلَ الْهَدْيِ الْمُتْلَفِ، فَإِنْ
حَصَّلَ مِثْلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا
نَقْصٍ ذَبَحَهُ، وَإِنْ زَادَتْ الْقِيمَةُ
فَإِنْ بَلَغَتْ الزِّيَادَةُ مِثْلَيْنِ
لَزِمَهُ شِرَاؤُهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ
مِثْلَيْنِ اشْتَرَى مِثْلًا. وَفِي
الزِّيَادَةِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ فِيمَا
إذَا أَتْلَفَهَا الْمُهْدِي. أَمَّا إذَا
لَمْ تَفِ الْقِيمَةُ بِمِثْلِهِ لِغَلَاءٍ
حَدَثَ، فَيَشْتَرِي دُونَهُ. قَالَ
أَصْحَابُنَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ مَا إذَا نَذَرَ إعْتَاقَ عَبْدٍ
بِعَيْنِهِ فَقُتِلَ ذَلِكَ الْعَبْدُ،
فَإِنَّ الْقِيمَةَ تَكُونُ مِلْكًا
لِلنَّادِرِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ،
وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا
عَبْدًا يَعْتِقُهُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ
يَزُلْ عَنْ الْعَبْدِ، وَاَلَّذِي
يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ هُوَ الْعَبْدُ وَقَدْ
مَاتَ. وَمُسْتَحِقُّو الْهَدْيِ بَاقُونَ.
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْقِيمَةِ مَا يَصْلُحْ
هَدْيًا فَوَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ الَّذِي
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يَلْزَمُ
الْمُهْدِيَ أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقِيمَةِ
مِنْ مَالِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ هَدْيٌ
لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ:
وَمَنْ قَالَ بِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ
يَطْرُدَهُ فِي التَّلَفِ وَالْوَجْهُ
الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ
الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ضَمُّ
شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ،
فَعَلَى هَذَا إنْ أَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ
شِقْصَ هَدْيٍ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ
أَصَحُّهَا: يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ وَذَبْحُهُ
مَعَ شَرِيكِهِ وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ
الْقِيمَةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي
وَالثَّالِثُ: كَمَا سَبَقَ فِي إتْلَافِ
الْمُهْدِي. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ
يَشْتَرِيَ بِهِ شِقْصَ هَدْيٍ فَفِيهِ
الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ. وَقَدْ
رَتَّبَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذِهِ الصُّوَرَ
تَرْتِيبًا حَسَنًا فَقَالَ: إنْ كَانَ
الْمُتْلَفُ ثَنِيَّةَ ضَأْنٍ مَثَلًا وَلَمْ
يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِالْقِيمَةِ
مِثْلَهَا وَأَمْكَنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا
جَذَعَةَ ضَأْنٍ وَثَنِيَّةَ مَعْزٍ،
تَعَيَّنَ الضَّأْنُ رِعَايَةً لِلنَّوْعِ،
وَإِنْ أَمْكَنَ ثَنِيَّةُ مَعْزٍ دُونَ
جَذَعَةِ ضَأْنٍ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ،
لِأَنَّ الثَّانِي لَا يَصْلُحُ هَدْيًا،
وَإِنْ أَمْكَنَ دُونَ جَذَعَةِ ضَأْنٍ
وَدُونَ ثَنِيَّةِ مَعْزٍ وَأَمْكَنَ شِرَاءُ
سَهْمٍ فِي شَاةٍ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ،
لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ
لِلْهَدْيِ فَتَرَجَّحَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ
فِيهِ إرَاقَةَ دَمٍ كَامِلٍ، وَإِنْ أَمْكَنَ
شِرَاءُ سَهْمٍ وَشِرَاءُ لَحْمٍ تَعَيَّنَ
الْأَوَّلُ لِأَنَّ فِيهِ شَرِكَةً فِي
إرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا
شِرَاءُ اللَّحْمِ وَتَفْرِقَةُ الدَّرَاهِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل وانظر أين الوجه الثاني؟ ولعل
الوجه الثاني جواز إخراج القيمة ويتصدق بها.
(المطيعي)
ج / 8 ص -208-
تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُ
الْهَدْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إذَا اشْتَرَى
هَدْيًا ثُمَّ نَذَرَ إهْدَاءَهُ ثُمَّ وَجَدَ
بِهِ عَيْبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ رَدُّهُ
بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ
لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ،
كَمَا لَوْ عَتَقَ الْمَبِيعَ أَوْ وَقَفَهُ
ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنَّهُ لَا
يَجُوزُ رَدُّهُ وَيَجِبُ الْأَرْشُ هُنَا
كَمَا يَجِبُ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ أَوْ
وَقَفَ، وَفِي هَذَا الْأَرْشِ وَجْهَانِ
أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ يَجِبُ
صَرْفُهُ إلَى الْمَسَاكِينِ لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، فَعَلَى هَذَا إنْ أَمْكَنَهُ
شِرَاءُ هَدْيٍ لَزِمَهُ وَإِلَّا فَفِيمَا
يَفْعَلُ بِهِ الْأَوْجُهُ السَّابِقَةُ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا فِيمَا إذَا
أَتْلَفَهُ وَفَضَلَ عَنْ مِثْلِهِ شَيْءٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي:
يَكُونُ الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي النَّادِرِ
لِأَنَّ الْأَرْشَ إنَّمَا وَجَبَ لَهُ،
لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ اقْتَضَى
سَلَامَتَهُ وَذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي،
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ
وَهُوَ نَاقِصٌ، وَلِأَنَّ الْعَيْبَ قَدْ
يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي اللَّحْمِ الَّذِي
هُوَ الْمَقْصُودُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ:
وَبِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَالَ
الْأَكْثَرُونَ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى،
قَالَ وَنَسَبَهُ إلَى الْمَرَاوِزَةِ وَلَا
يَصِحُّ غَيْرُهُ. قَالَ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيُّ
وَالرُّويَانِيُّ، هَذَا كَلَامُ
الرَّافِعِيِّ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ
الصَّبَّاغِ هَذَا الثَّانِيَ عَنْ
أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ
خِلَافًا فَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
فرع: إذَا قَالَ: جَعَلْتُ
هَذِهِ الشَّاةَ أَوْ الْبَدَنَةَ ضَحِيَّةً
أَوْ نَذَرَ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ أَوْ
بَدَنَةٍ عَيَّنَهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ أَوْ سُرِقَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ
مِنْ ذَبْحِهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ
عَلَيْهِ، وَكَذَا الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ
إذَا تَلِفَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ أَوْ
بَعْدَهُ، وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ
ذَبْحِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ
أَمَانَةٌ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
ذَبَحَهُ أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ إذْنِهِ
أَجْزَأَهُ عَنْ النَّذْرِ، لِأَنَّ ذَبْحَهُ
لَا يَحْتَاجُ إلَى قَصْدِهِ، فَإِذَا
فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَقَعَ
الْمَوْقِعَ، كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ
وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَيَجِبُ عَلَى
الذَّابِحِ ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ
حَيًّا وَمَذْبُوحًا لِأَنَّهُ لَوْ
أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ فَإِذَا ذَبَحَهُ ضَمِنَ
نُقْصَانَهُ كَشَاةِ اللَّحْمِ، وَفِيمَا
يُؤْخَذُ مِنْهُ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ.
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا نَذَرَ هَدْيًا مُعَيَّنًا
فَذَبَحَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ وَقَعَ
مَوْقِعَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الذَّابِحِ،
وَإِنْ ذَبَحَهُ إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَقَعَ الْمَوْقِعَ أَيْضًا وَأَجْزَأَ
النَّاذِرُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ،
وَيَلْزَمُ الذَّابِحَ أَرْشُ نَقْصِهِ،
وَهُوَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ حَيًّا
وَمَذْبُوحًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ،
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ
الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ.
وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ قَوْلًا أَنَّهُ
لَا يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ أَرْشٌ،
لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ مَقْصُودًا بَلْ
خَفَّفَ مُؤْنَةَ الذَّبْحِ. وَحَكَوْا
قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّ لِصَاحِبِ الْهَدْيِ
أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ الذَّابِحِ وَيُفَرِّقَ
الْقِيمَةَ بِكَمَالِهَا بِنَاءً عَلَى وَقْفِ
الْعُقُودِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ
ضَعِيفَانِ، فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا
يَتَعَلَّقُ بِشَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
وَقَدْ فَرَّعَ أَصْحَابُنَا فِي
الْمَسْأَلَةِ تَفْرِيعًا كَثِيرًا، وَقَدْ
لَخَّصَهُ الرَّافِعِيُّ وَأَنَا أَخْتَصِرُ
مَقْصُودَهُ هُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى. قَالَ: إذَا ذَبَحَ أَجْنَبِيٌّ
أُضْحِيَّةً مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً فِي
وَقْتِ التَّضْحِيَةِ أَوْ هَدْيًا مُعَيَّنًا
بَعْدَ بُلُوغِ النُّسُكِ فَقَوْلَانِ
الصَّحِيحُ: الْمَشْهُور أَنَّهُ يَقَعُ
الْمَوْقِعَ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ
الْأُضْحِيَّةِ لَحْمَهَا فَيُفَرِّقُهُ،
لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الصَّرْفِ إلَى هَذِهِ
الْجِهَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِعْلُ صَاحِبِهِ
كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ والثاني: وَهُوَ قَوْلٌ
قَدِيمٌ أَنَّ لِصَاحِبِ الْهَدْيِ
وَالْأُضْحِيَّةِ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ
الذَّابِحِ وَيُغَرِّمُهُ الْقِيمَةَ
بِكَمَالِهَا، بِنَاءً عَلَى وَقْفِ
الْعُقُودِ، وَهَذَا الْقَوْلُ
ج / 8 ص -209-
ضَعِيفٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
فَعَلَى الْمَذْهَبِ هَلْ يَلْزَمُ الذَّابِحَ
أَرْشُ مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ، فِيهِ
طَرِيقَانِ أحدهما: فِيهِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ:
وَجْهَانِ أحدهما: لَا. لِأَنَّهُ لَمْ
يُفَوِّتْ مَقْصُودًا، بَلْ خَفَّفَ مُؤْنَةَ
الذَّبْحِ وَأَصَحُّهُمَا: وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي،
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ نَعَمْ، لِأَنَّ
إرَاقَةَ الدَّمِ مَقْصُودَةٌ، وَقَدْ
فَوَّتَهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ شَدَّ
قَوَائِمَ شَاةٍ لِيَذْبَحَهَا، فَجَاءَ آخَرُ
فَذَبَحَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَإِنَّهُ
يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ. وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدِي أَنَّهُ إنْ
ذَبَحَهُ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَزِمَهُ
الْأَرْشُ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا مَا يَسَعُ ذَبْحَهَا
فَذَبَحَهَا فَلَا أَرْشَ لِتَعَيُّنِ
الْوَقْتِ.
وَإِذَا أَوْجَبْنَا الْأَرْشَ فَفِيهِ
ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ
أحدها: أَنَّهُ لِلْمُهْدِي
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْهَدْيِ وَلَا
حَقَّ لِلْمَسَاكِينِ فِي غَيْرِهِ والثاني:
أَنَّهُ لِلْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ بَدَلُ
نَقْصِهِ، لَيْسَ لِلْمُهْدِي إلَّا الْأَكْلُ
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ
قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ
مَسْلَكَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ، فَعَلَى
هَذَا يَشْتَرِي بِهِ شَاةً، فَإِنْ
تَعَذَّرَتْ عَادَ الْخِلَافُ السَّابِقُ
قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ فِي أَنَّهُ يَشْتَرِي
بِهِ جُزْءًا مِنْ هَدْيٍ وَأُضْحِيَّةٍ أَوْ
لَحْمٍ، أَوْ يُفَرِّقُ بِنَفْسِهِ دَرَاهِمَ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا ذَبَحَ الْأَجْنَبِيُّ
وَاللَّحْمُ بَاقٍ، فَإِنْ أَكَلَهُ أَوْ
فَرَّقَهُ فِي مَصَارِفِ الْهَدْيِ
وَتَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُهُ فَهُوَ
كَالْإِتْلَافِ بِغَيْرِ ذَبْحٍ وَقَدْ سَبَقَ
بَيَانُهُ قَرِيبًا لِأَنَّ تَعْيِينَ
الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ إلَى الْمُهْدِي
وَالْمُضَحِّي، فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُ
الذَّابِحَ الضَّمَانُ وَيَأْخُذُ الْمُهْدِي
مِنْهُ الْقِيمَةَ وَيَشْتَرِي بِهَا هَدْيًا
وَيَذْبَحُهُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِي
وَجْهٍ ضَعِيفٍ تَقَعُ التَّفْرِقَةُ عَنْ
الْمُهْدِي كَالذَّبْحِ. وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ.
وَفِي قَدْرِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ قَوْلَانِ
الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ: وَاخْتِيَارُ
الْجُمْهُورِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ عِنْدَ
الذَّبْحِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِلَا
ذَبْحٍ
والثاني: يَضْمَنُ أَكْثَرَ
الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ
اللَّحْمِ لِأَنَّهُ فَرَّقَ اللَّحْمَ
مُتَعَدِّيًا، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ جِدًّا
أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الذَّبْحِ
وَقِيمَةُ اللَّحْمِ وَقَدْ يَزِيدُ الْأَرْشُ
مَعَ قِيمَةِ اللَّحْمِ عَلَى قِيمَةِ
الشَّاةِ وَقَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ
يَتَسَاوَيَانِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا
اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْخِلَافِ بِصُورَةِ
الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ، بَلْ يَطَّرِدُ
فِي كُلِّ مَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ ثُمَّ
أَتْلَفَ لَحْمَهَا. هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ
عَلَى أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي ذَبَحَهَا
الْأَجْنَبِيُّ تَقَعُ هَدْيًا وَأُضْحِيَّةً،
فَإِنْ قُلْنَا لَا تَقَعُ فَلَيْسَ عَلَى
الذَّابِحِ إلَّا أَرْشُ النَّقْصِ، وَفِي
حُكْمِ اللَّحْمِ وَجْهَانِ.
أحدهما: أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ
لِجِهَةِ الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ
والثاني: يَكُونُ مِلْكًا
لَهُ، وَلَوْ الْتَزَمَ هَدْيًا أَوْ
أُضْحِيَّةً بِالنَّذْرِ، ثُمَّ عَيَّنَ شَاةً
عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ فَذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ
يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ فِي الْحَرَمِ،
فَالْقَوْلُ فِي وُقُوعِهَا عَنْ النَّاذِرِ،
وَفِي أَخْذِهِ اللَّحْمَ وَتَصَدُّقِهِ بِهِ
وَفِي غَرَامَةِ الذَّابِحِ أَرْشُ مَا نَقَصَ
بِالذَّبْحِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إذَا
كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي الِابْتِدَاءِ،
فَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ تَالِفًا، قَالَ
الْبَغَوِيّ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ
وَيَمْلِكُهَا وَيَبْقَى الْأَصْلُ فِي
ذِمَّتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَفِي هَذَا
اللَّفْظِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَنَا فِي
صُورَةِ الْإِتْلَافِ بِأَخْذِ الْقِيمَةِ
وَيَشْتَرِي بِهَا مِثْلَ الْأَوَّلِ نُرِيد
بِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقَدْرِهَا، وَأَنَّ
نَفْسَ الْمَأْخُوذِ مِلْكُهُ فَلَهُ
إمْسَاكُهُ.
فرع: إذَا جَعَلَ شَاتَهُ
أُضْحِيَّةً أَوْ نَذَرَ الضَّحِيَّةَ بِشَاةٍ
مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ ذَبَحَهَا قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهَا،
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ،
وَيَلْزَمُهُ ذَبْحُ مِثْلِهَا يَوْمَ
النَّحْرِ بَدَلًا عَنْهَا، وَكَذَا لَوْ
ذَبَحَ الْهَدْيَ
ج / 8 ص -210-
الْمُعَيَّنَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ
لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ وَلَزِمَهُ
الْبَدَلُ فِي وَقْتِهِ، وَلَوْ بَاعَ
الْهَدْيَ أَوْ الْأُضْحِيَّةَ
الْمُعَيَّنَيْنِ فَذَبَحَهُ الْمُشْتَرِي
وَاللَّحْمُ بَاقٍ أَخَذَهُ لِلْبَائِعِ
وَتَصَدَّقَ بِهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَرْشُ
مَا نَقَصَ بِالذَّبْحِ، وَيَضُمُّ الْبَائِعُ
إلَيْهِ مَا يَشْتَرِي بِهِ الْبَدَلَ، وَفِي
وَجْهٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ
الْمُشْتَرِي شَيْئًا لِأَنَّ الْبَائِعَ
سَلَّطَهُ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَلَوْ ذَبَحَ أَجْنَبِيٌّ الْأُضْحِيَّةَ
الْمُعَيَّنَةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ
لَزِمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ
الذَّبْحِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ
أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ
اللَّحْمَ يُصْرَفُ إلَى مَصَارِفِ
الضَّحَايَا؟ أَمْ يَنْفَكُّ عَنْ حُكْمِ
الْأُضْحِيَّةِ وَيَعُودُ مِلْكًا كَمَا
سَبَقَ فِيمَا إذَا ذَبَحَ الْأَجْنَبِيُّ
يَوْمَ النَّحْرِ؟ وَقُلْنَا: لَا يَقَعُ
أُضْحِيَّةً ثُمَّ مَا حَصَلَ مِنْ الْأَرْشِ
وَمِنْ اللَّحْمِ إنْ عَادَ مِلْكًا لَهُ
فَيَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَّةً يَذْبَحُهَا
يَوْمَ النَّحْرِ، وَلَوْ نَذَرَ أُضْحِيَّةً
ثُمَّ عَيَّنَّ شَاةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ
فَذَبَحَهَا أَجْنَبِيٌّ قَبْلَ يَوْمِ
النَّحْرِ أَخَذَ اللَّحْمَ وَنُقْصَانَ
اللَّحْمِ بِالذَّبْحِ وَمَلَكَ الْجَمِيعَ،
وَبَقِيَ الْأَصْلُ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرَةِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ
كَانَ فِي ذِمَّتِهِ هَدْيٌ فَعَيَّنَهُ
بِالنَّذْرِ فِي هَدْيٍ تَعَيَّنَ، لِأَنَّ
مَا وَجَبَ بِهِ مُعَيَّنًا جَازَ أَنْ
يَتَعَيَّنَ بِهِ مَا فِي الذِّمَّةِ
كَالْبَيْعِ، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَا
يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَلَا إبْدَالَهُ كَمَا
قُلْنَا فِيمَا أَوْجَبَهُ بِالنَّذْرِ،
فَإِنْ هَلَكَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ
تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْوَاجِبُ إلَى مَا فِي
الذِّمَّةِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ
فَبَاعَ بِهِ عَيْنًا ثُمَّ هَلَكَتْ
الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ
الدِّينَ يَرْجِعُ إلَى الذِّمَّةِ، وَإِنْ
حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ
لَمْ يَجْزِهِ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ. لِأَنَّ
الَّذِي فِي الذِّمَّةِ سَلِيمٌ فَلَمْ
يَجْزِهِ عَنْهُ مَعِيبٌ، وَإِنْ عَطِبَ
فَنَحَرَهُ عَادَ الْوَاجِبُ إلَى مَا فِي
الذِّمَّةِ، وَهَلْ يَعُودُ مَا نَحَرَهُ إلَى
مِلْكِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: يَعُودُ
إلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَحَرَهُ
لِيَكُونَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، فَإِذَا لَمْ
يَقَعُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَادَ إلَى
مِلْكِهِ والثاني: أَنَّهُ لَا يَعُودُ.
لِأَنَّهُ صَارَ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَعُودُ
إلَيْهِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَعُودُ إلَى
مِلْكِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ
وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ،
فَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ مِثْلَ
الَّذِي عَادَ إلَى مِلْكِهِ نَحَرَ مِثْلَهُ
فِي الْحَرَمِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى مِمَّا
فِي ذِمَّتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما:
يَهْدِي مِثْلَ مَا نَحَرَ، لِأَنَّهُ قَدْ
تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَصَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ
زَائِدًا فَلَزِمَهُ نَحْرُ مِثْلِهِ والثاني:
أَنَّهُ يُهْدِي مِثْلَ الَّذِي كَانَ فِي
ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا
عَيَّنَهُ وَقَدْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ
تَفْرِيطٍ فَسَقَطَ، وَإِنْ نَتَجَتْ فَهَلْ
يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا أَمْ لَا؟ فِيهِ
وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ يَتْبَعُهَا وَهُوَ
الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِالنَّذْرِ
فَصَارَ كَمَا لَوْ وَجَبَ فِي النَّذْرِ
والثاني: لَا يَتْبَعُهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ
إلَى مِلْكِهِ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ بِهِ،
بِخِلَافِ مَا وَجَبَ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ
ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إلَى
مِلْكِهِ بِنَذْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
الشرح: قَالَ
أَصْحَابُنَا: إذَا لَزِمَ ذِمَّتَهُ
أُضْحِيَّةٌ بِالنَّذْرِ أَوْ هَدْيٌ
بِالنَّذْرِ أَوْ دَمُ تَمَتُّعٍ أَوْ
قِرَانٍ، أَوْ لِبْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا يُوجِبُ شَاةً فِي ذِمَّتِهِ. فَقَالَ:
لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ هَذِهِ
الشَّاةَ عَمَّا فِي ذِمَّتِي لَزِمَهُ
ذَبْحُهَا بِعَيْنِهَا لِمَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا
فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا
إبْدَالُهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ
قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَحَكَى
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا أَنَّهَا لَا
تَتَعَيَّنُ، وَوَجْهًا أَنَّهُ لَا يَزُولُ
مِلْكُهُ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ
الْأَوَّلُ. فَعَلَى هَذَا إنْ هَلَكَتْ
قَبْلَ وُصُولِهَا الْحَرَمَ بِتَفْرِيطٍ أَوْ
غَيْرِ تَفْرِيطٍ أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ
يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ رَجَعَ الْوَاجِبُ إلَى
ذِمَّتِهِ، وَلَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ
صَحِيحَةٍ.
ج / 8 ص -211-
هَذَا
هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ
وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ
إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا
إذَا تَلِفَتْ لَا يَلْزَمُهُ إبْدَالُهَا
لِأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ فَهِيَ كَمَا لَوْ
قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ أُضْحِيَّةً، وَحَكَى
الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهَا
إذَا عَابَتْ يُجْزِئُهُ ذَبْحُهَا، كَمَا
لَوْ نَذَرَ ابْتِدَاءً شَاةً فَحَدَثَ بِهَا
عَيْبٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
فَعَلَى هَذَا هَلْ تَنْفَكُّ تِلْكَ
الْمَعِيبَةُ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ
أحدهما: لَا بَلْ يَلْزَمُهُ
ذَبْحُهَا وَالتَّصَدُّقُ بِهَا وَذَبْحُ
صَحِيحَةٍ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا
بِالتَّعْيِينِ
وَأَصَحُّهُمَا: وَهُوَ
الْمَنْصُوصُ تَنْفَكُّ، فَيَجُوزُ لَهُ
تَمَلُّكُهَا وَبَيْعُهَا وَسَائِرُ
التَّصَرُّفِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ
التَّصَدُّقَ بِهَا ابْتِدَاءً، بَلْ
عَيَّنَهَا عَمَّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
يَتَأَدَّى عَنْهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ،
وَلَوْ عَيَّنَ عَنْ نَذْرِهِ شَاةً
فَهَلَكَتْ بَعْدَ وُصُولِهَا الْحَرَمَ، أَوْ
تَعَيَّبَتْ فَفِي إجْزَائِهَا وَجْهَانِ:
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
الْحَدَّادِ تُجْزِئُهُ فَيَذْبَحُهَا
وَيُفَرِّقُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إبْدَالُهَا
لِأَنَّهَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا
وَأَصَحُّهُمَا: لَا تُجْزِئُهُ هَذِهِ،
وَيَلْزَمُهُ صَحِيحَةٌ وَاخْتَارَهُ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ
الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا، لِأَنَّهَا
تَلِفَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا
إلَى الْمَسَاكِينِ، فَأَشْبَهَ مَا قَبْلَ
وُصُولِهَا الْحَرَمَ فَإِنْ قُلْنَا: لَا
تُجْزِئُهُ الْمَعِيبَةُ لَزِمَهُ سَلِيمَةٌ،
وَهَلْ تَعُودُ الْمَعِيبَةُ إلَى مِلْكِهِ،
فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ الْأَصَحُّ:
تَعُودُ فَيَمْلِكُهَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا
بِالْبَيْعِ وَالْأَكْلِ وَغَيْرِهِمَا.
وَلَوْ عَطِبَ هَذَا الْهَدْيُ الْمُتَعَيَّنُ
قَبْلَ وُصُولِهِ الْحَرَمَ فَنَحَرَهُ رَجَعَ
الْوَاجِبُ إلَى ذِمَّتِهِ، وَهَلْ يَمْلِكُ
الْمَنْحُورَ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْأَصَحُّ:
يَمْلِكُهُ والثاني: لَا. فَعَلَى هَذَا
يَتَصَدَّقُ بِهِ مَعَ ذَبْحٍ صَحِيحٍ عَمَّا
فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ ضَلَّ هَذَا الْهَدْيُ
الْمُعَيَّنُ لَزِمَهُ إخْرَاج مَا كَانَ فِي
ذِمَّتِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ الْمَسَاكِينَ، هَذَا
هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ
"الشَّامِلِ" وَغَيْرُهُمَا فِي وُجُوبِ
إخْرَاجِ بَدَلِهِ وَجْهَيْنِ أصحهما: هَذَا
والثاني: لَا يَلْزَمُهُ لِعَدَمِ
تَقْصِيرِهِ، فَإِنْ ذَبَحَ وَاحِدَةً عَمَّا
عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ الضَّالَّةَ فَهَلْ
يَلْزَمُهُ ذَبْحُهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ،
وَقِيلَ قَوْلَانِ أصحهما: عِنْدَ
الْبَغَوِيِّ لَا يَلْزَمُهُ، بَلْ
يَتَمَلَّكُهَا كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَوْ
تَعَيَّبَتْ والثاني: يَلْزَمُهُ، وَبِهِ
قَطَعَ صَاحِبُ الشَّامِلِ لِإِزَالَةِ
مِلْكِهِ بِالتَّعْيِينِ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ
صِفَةِ الْإِجْزَاءِ بِخِلَافِ التَّعَيُّبِ،
فَلَوْ عَيَّنَ عَنْ الضَّالِّ وَاحِدَةً
ثُمَّ وَجَدَ الضَّالُّ هَلْ يَذْبَحُ
الْبَدَلَ؟ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أحدها:
يَلْزَمُهُ ذَبْحُهُمَا مَعًا والثاني:
يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الْبَدَلِ فَقَطْ
وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الْأَوَّلِ
فَقَطْ وَالرَّابِعُ: يَتَخَيَّرُ فِيهِمَا،
وَالْأَصَحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ
الثَّالِثُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الَّذِي عَيَّنَهُ
مِثْلَ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ
الَّذِي عَيَّنَهُ دُونَ الَّذِي فِي
ذِمَّتِهِ بِأَنْ عَيَّنَ شَاةً مَعِيبَةً،
قَالَ ابْنُ الْحَدَّادِ وَالْأَصْحَابُ:
يَلْزَمُهُ ذَبْحُ مَا عَيَّنَهُ وَلَا
يُجْزِئُهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا إذَا
كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَأَعْتَقَ عَنْهَا
عَبْدًا مَعِيبًا، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَلَا
يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ
عَيَّنَ أَعْلَى مِمَّا فِي ذِمَّتِهِ بِأَنْ
كَانَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَعَيَّنَ عَنْهَا
بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً، لَزِمَهُ نَحْوَهَا
فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ وُصُولِهَا
فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا
الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أحدهما:
يَلْزَمُهُ مِثْلُ الَّتِي كَانَ عَيَّنَهَا
وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِثْلُ
الَّتِي كَانَتْ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَا لَوْ
نَذَرَ مَعِيبَةً ابْتِدَاءً فَهَلَكَتْ
بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ. هَذِهِ طَرِيقَةُ
الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ فِي "التَّعْلِيقِ"
وَالْبَنْدَنِيجِيّ إنْ فَرَّطَ لَزِمَهُ
مِثْلُ الَّذِي عَيَّنَ. وَإِلَّا فَفِيهِ
الْوَجْهَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إذَا وَلَدَتْ الَّتِي عَيَّنَهَا عَنْ
نَذْرِهِ فَهَلْ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا؟ فِيهِ
وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا
الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الصَّحِيحُ:
أَنَّهُ يَتْبَعُهَا والثاني: لَا
يَتْبَعُهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوَلَدُ
مِلْكًا لِلْمُهْدِي. وَإِذَا قُلْنَا
ج / 8 ص -212-
بِالْأَوَّلِ فَهَلَكَتْ الْأُمُّ أَوْ
أَصَابَهَا عَيْبٌ، وَقُلْنَا: تَعُودُ هِيَ
إلَى مِلْكِ الْمُهْدِي فَفِي الْوَلَدِ
وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الشَّامِلِ"
وَآخَرُونَ
أصحهما: أَنَّهُ يَكُونُ
مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْ
الْأَمَةُ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ الْبَائِعِ
ثُمَّ هَلَكَتْ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ
لِلْمُشْتَرِي والثاني: إلَى مِلْكِ
الْمُهْدِي تَبَعًا لِأُمِّهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي ضَلَالِ الْهَدْيِ
وَالْأُضْحِيَّةِ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ
إحداها: إذَا ضَلَّ هَدْيُهُ
أَوْ أُضْحِيَّتُهُ الْمُتَطَوَّعُ بِهِمَا
لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ
ذَبْحُهُ إذَا وَجَدَهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ،
فَإِنْ ذَبَحَهَا بَعْدَ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ كَانَتْ شَاةَ لَحْمٍ
يُتَصَدَّقُ بِهَا الثَّانِيَةُ: الْهَدْيُ
الْمُعَيَّنُ بِالنَّذْرِ أَوَّلًا إذَا ضَلَّ
بِغَيْرِ تَقْصِيرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
ضَمَانُهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَزِمَهُ
ذَبْحُهُ، وَالْأُضْحِيَّةُ إنْ وَجَدَهَا فِي
وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ لَزِمَهُ ذَبْحُهَا،
وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَهُ
ذَبْحُهَا فِي الْحَالِ قَضَاءً وَلَا
يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ إلَى قَابِلٍ، وَإِذَا
ذَبَحَهَا صَرَفَ لَحْمَهَا مَصَارِفَ
الضَّحَايَا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ
وَجْهٌ لِأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُ يَصْرِفُهَا إلَى الْمَسَاكِينِ
فَقَطْ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَدَّخِرُ
وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
الثَّالِثَةُ: مَتَى كَانَ
الضَّلَالُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ
يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ إنْ كَانَ فِيهِ
مُؤْنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَهُ،
وَإِنْ كَانَ بِتَقْصِيرِهِ لَزِمَهُ
الطَّلَبُ، فَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَزِمَهُ
الضَّمَانُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا
يَجِدُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ
ذَبْحُ بَدَلِهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَتَأْخِيرُ الذَّبْحِ
إلَى مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِلَا
عُذْرٍ تَقْصِيرٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ
مَضَى بَعْضُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثُمَّ
ضَلَّتْ فَهَلْ هُوَ تَقْصِيرٌ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ أصحهما: لَيْسَ بِتَقْصِيرٍ، كَمَنْ
مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
الْمُوَسَّعِ لَا يَأْثَمُ عَلَى الْأَصَحِّ
الرَّابِعَةُ: إذَا عَيَّنَ هَدْيًا أَوْ
أُضْحِيَّةً عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ فَضَلَّتْ
الْمُعَيَّنَةُ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْرِيعٌ
سَبَقَ قَرِيبًا قَبْلَ هَذَا الْفَرْعِ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ عَيَّنَ شَاةً عَنْ
هَدْيٍ أَوْ أُضْحِيَّةً فِي ذِمَّتِهِ
وَقُلْنَا: يَتَعَيَّنُ فَضَحَّى بِأُخْرَى
عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ. قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ: يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي
الْمُعَيَّنَةِ لَوْ تَلِفَ هَلْ تَبْرَأُ
ذِمَّتُهُ؟ إنْ قُلْنَا: نَعَمْ لَمْ تَقَعْ
الثَّانِيَةُ عَمَّا عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ
قَالَ: جَعَلْت هَذِهِ أُضْحِيَّةً ثُمَّ
ذَبَحَ بَدَلَهَا وإن قلنا: لَا، وَهُوَ
الْأَصَحُّ فَفِي وُقُوعِ الثَّانِيَةِ عَمَّا
عَلَيْهِ تَرَدُّدٌ فَإِنْ قُلْنَا: تَقَعُ
عَنْهُ فَهَلْ تَسْقُطُ الْأُولَى عَنْ
الِاسْتِحْقَاقِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ
السَّابِقُ.
فرع: لَوْ عَيَّنَ مَنْ
عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عَبْدًا عَنْهَا فَفِي
تَعَيُّنِهِ وَجْهَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ،
فَعَلَى هَذَا لَوْ عَابَ هَذَا الْمُعَيَّنَ
لَزِمَهُ إعْتَاقُ سَلِيمٍ، لَوْ مَاتَ
بَقِيَتْ ذِمَّتُهُ مَشْغُولَةً
بِالْكَفَّارَةِ، وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا
آخَرَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ
مِنْ إعْتَاقِ الْمُعَيَّنِ فَوَجْهَانِ
الصَّحِيحُ: إجْزَاؤُهُ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ
بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي وَقْتِ ذَبْحِ
الْهَدْيِ طَرِيقَانِ
أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ
الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ
يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ
التَّشْرِيقِ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ
أصحهما: هَذَا
والثاني: لَا يَخْتَصُّ
بِزَمَانٍ كَدِمَاءِ الْجُبْرَانِ، فَعَلَى
الصَّحِيحِ لَوْ أَخَّرَ الذَّبْحَ حَتَّى
مَضَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ، فَإِنْ كَانَ
الْهَدْيُ وَاجِبًا لَزِمَهُ ذَبْحُهُ
وَيَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا
فَقَدْ فَاتَ الْهَدْيُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ ذَبَحَهُ كَانَ شَاةَ
لَحْمٍ لَا نُسُكًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّافِعِيَّ ذَكَرَ
مَسْأَلَةَ وَقْتِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي
مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ، فَذَكَرَهَا فِي
بَابِ الْهَدْيِ عَلَى الصَّوَابِ، فَقَالَ:
الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ
الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ اخْتِصَاصُهُ
بِيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ،
وَفِيهِ
ج / 8 ص -213-
وَجْهُ
أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ، وَذَكَرَهَا فِي بَابِ
صِفَةِ الْحَجِّ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ لَا
يَخْتَصُّ
وَالصَّوَابُ: مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ، وَإِنَّمَا
نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلَّا يُغْتَرَّ
بِكَلَامِهِ، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَيْهِ فِي
الرَّوْضَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا:
إذَا كَانَ مَعَ الْمُعْتَمِرِ هَدْيٌ، فَإِنْ
كَانَ تَطَوُّعًا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ
مُتَمَتِّعًا، أَوْ مُتَمَتِّعًا لَا دَمَ
عَلَيْهِ لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ
وُجُوبِ الدَّمِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ
يَذْبَحَ هَدْيَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ. وَحَيْثُ
ذَبَحَهُ مِنْ مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ
جَازَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْمُسْتَحَبُّ
أَنْ يَذْبَحَهُ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ
الْحَلْقِ، كَمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي
الْحَجِّ أَنْ يَذْبَحَ قَبْلَ الْحَلْقِ.
وَسَوَاءٌ قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ أَمْ
لَا.
أَمَّا: إذَا كَانَ الْهَدْيُ
لِلتَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ فَوَقْتُ
اسْتِحْبَابِ ذَبْحِهِ يَوْمُ النَّحْرِ،
وَوَقْتُ جَوَازِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ
الْعُمْرَةِ، وَبَعْدَ الْإِحْرَامِ
بِالْحَجِّ، وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ فَرَاغِ
الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ
بِالْحَجِّ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ بَيَانُهُ
وَاضِحًا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ
كِتَابِ الْحَجِّ.
فرع: قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ
وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَعَهُ
هَدْيَانِ أَوْ أُضْحِيَّتَانِ وَاجِبٌ
وَتَطَوُّعٌ أَنْ يَبْدَأَ بِنَحْرِ
الْوَاجِبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ
وَالْأُضْحِيَّةَ فَلَمْ يُفَرِّقْ لَحْمَهُ
حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، قَالَ
الْبَنْدَنِيجِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي
"مُخْتَصَرِ الْحَجِّ": أَعَادَ، وَقَالَ فِي
"الْقَدِيمِ": عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، قَالَ:
وَهَذَا مُرَادُهُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ إتْلَافُ لَحْمٍ.
فرع: فِي بَيَانِ الْأَيَّامِ
الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ ذَكَرَهَا
الشَّافِعِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ فِي
"الْمُخْتَصَرِ" وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهُوَ آخِرُ كِتَابِ
الْحَجِّ، قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ":
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ
الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ بَعْدَ يَوْمِ
النَّحْرِ وأما: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ
فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا الْعَشْرُ
الْأَوَائِلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إلَى آخِرِ
يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ، فَالْحَادِيَ عَشَرَ
وَالثَّانِيَ عَشَرَ عِنْدَهُ مِنْ
الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ. وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةُ
أَيَّامٍ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ
وَالْحَادِيَ عَشَرَ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: الْمَعْلُومَاتُ
الْأَرْبَعَةُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ
وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ.
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ عِنْدَنَا
يَجُوزُ ذَبْحُ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا فِي
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا، وَعِنْدَ
مَالِكٍ لَا يَجُوزُ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ، هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ
"الْبَيَانِ"، وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ:
فَائِدَةُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَعْلُومٌ
جَوَازُ النَّحْرِ فِيهِ، وَفَائِدَةُ
وَصْفِهِ بِأَنَّهُ مَعْدُودٌ انْقِطَاعُ
الرَّمْيِ فِيهِ، قَالَ: وَبِمَذْهَبِنَا
قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَالَ الْإِمَامُ
أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ فِي
"تَفْسِيرِهِ": قَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ
هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، قَالَ:
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا مَعْلُومَاتٌ
لِلْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ
وَقْتَ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا، قَالَ: وَقَالَ
مُقَاتِلٌ: الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ وَاحِدٌ.
قلت: وَكَذَا نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو
الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ وَخَلَائِقُ
إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ
الْمَعْدُودَاتِ هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وأما: مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ
"الْبَيَانِ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخِلَافُ
الْمَشْهُورِ عَنْهُ، فَالصَّحِيحُ
الْمَعْرُوفُ
ج / 8 ص -214-
عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ
أَيَّامُ الْعَشْرِ كَمَذْهَبِنَا، وَهُوَ
مِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا كَمَا
سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَاحْتَجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ
بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. وَأَرَادَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ فِي الْأَيَّامِ
الْمَعْلُومَاتِ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى
عَلَى الذَّبْحِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ
الْمَعْلُومَاتِ. وَعَلَى قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ يَوْمُ
النَّحْرِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: "الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ
الْعَشْرِ، وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ
التَّشْرِيقِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا
بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيّ فِي
"مُخْتَصَرِهِ"، وَهُوَ أَنَّ اخْتِلَافَ
الْأَسْمَاءِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ
الْمُسَمَّيَاتِ، فَلَمَّا خُولِفَ بَيْنَ
الْمَعْلُومَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فِي
الِاسْمِ دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا،
وَعَلَى مَا يَقُولُ الْمُخَالِفُونَ
يَتَدَاخَلَانِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ.
وَالْجَوَابُ: عَنْ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ
أحدهما: جَوَابُ الْمُزَنِيِّ
أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ
وُجُودُ الذَّبْحِ فِي الْأَيَّامِ
الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهَا فِي
آخِرِهَا وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، قَالَ
الْمُزَنِيّ وَالْأَصْحَابُ: وَنَظِيرُهُ قوله
تعالى: {وَجَعَلَ
الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:
16] وَلَيْسَ هُوَ نُورًا فِي جَمِيعِهَا،
بَلْ هُوَ فِي بَعْضِهَا "الثَّانِي" أَنَّ
الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ فِي الْآيَةِ
الذِّكْرُ عَلَى الْهَدَايَا، وَنَحْنُ
نَسْتَحِبُّ لِمَنْ رَأَى هَدْيًا أَوْ
شَيْئًا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي
الْعَشْرِ. أَنْ يُكَبِّرَ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. |