المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الغصب

الغصب محرم لما روى أبو بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
وروى أبو حميد الساعدي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير طيب نفس منه "
(فصل)
ومن غصب مال غيره، وهو من أهل الضمان في حقه ضمنه، لما روى سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى ترده "
(فصل)
فان كان له منفعة تستباح بالاجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة ضمن الاجرة، لانه يطلب بدلها بعقد المغابنة.
فضمن بالغصب كالاعيان.

(فصل)
فإن كان المغصوب باقيا لزمه رده، لما روى عبد الله بن السائب ابن يزيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا أو جادا، فإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها " فان اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين الرد لم يلزمه ضمان ما نقص من قيمته وقال أبو ثور من أصحابنا: يضمن كما يضمن زيادة العين، وهذا خطأ، لان الغاصب يضمن ما غصب.
والقيمة لا تدخل في الغصب، لانه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين، وإنما حقه في العين، والعين باقية كما كانت فلم يلزمه شئ
(فصل)
وإن تلف فئ يد الغاصب أو أتلفه لم يخل إما أن يكون له مثل أو لا مثل له، فان لم يكن له مثل نظرت، فان كان من غير جنس الاثمان كالثياب والحيوان ضمنه بالقيمة.
لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من أعتق شركا له في عبد فان كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه.
وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق
فأوجب القيمة في العبد بالاتلاف بالعتق، ولان إيجاب مثله من جهة الخلقة

(14/227)


لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه وان اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ضمنها بأكثر ما كانت لانه غاصب في الحال التى زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها، كالحالة التى غصبه فيها، وتجب القيمة من نقد البلد الذى تلفت العين فيه، لانه موضع الضمان فوجبت القيمة من نقده، وان كان من جنس الاثمان نظرت، فان لم يكن فيه صنعة كالسبيكة والنقرة، فان كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولكن لا تزيد قيمته على وزنه ضمن بالقيمة، لان تضمينه بالقيمة لا يؤدى إلى الربا.
فضمن بالقيمة كما قلنا في غير الاثمان، وان كان نقد البلد من جنسه وإذا قوم به زادت قيمته على وزنه قوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا، وان كانت فيه صنعة نظرت، فان كانت صنعة محرمة ضمن كما تضمن السبيكة والنقرة، لان الصنعة لا قيمة لها فكان وجودها كعدمها، وان كانت صنعة مباحة فان كان النقد من غير جنسه أو من جنسه، ولكنه لا تزيد قيمته على وزنه ضمنه بقيمته، لانه لا يؤدى إلى الربا.
وان كان النقد من جنسه ونوعه وتزيد قيمته على وزنه ففيه وجهان
(أحدهما)
يقوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا
(والثانى)
أنه يضمنه بقيمته من جنسه بالغة ما بلغت، وهو الصحيح، لان الزيادة على الوزن في مقابلة الصنعه فلا تؤدى إلى الربا، وان كان مخلوطا من الذهب والفضة قومه بما شاء منهما
(فصل)
وان كان مما له مثل كالحبوب والادهان ضمن بالمثل، لان ايجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع، وايجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن
فإذا أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد، كما لا يجوز الرجوع إلى القياس مع النص.
وان غصب ماله مثل واتخذ منه ما لا مثل له، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء أو الحنطة إذا جعلها دقيقا.
وقلنا انه لا مثل له ثم تلف لزمه مثل الاصل.
لان المثل أقرب إلى المغصوب من القيمه.
وان غصب ما لا مثل له واتخذ منه ماله مثل كالرطب إذا جعله تمرا ثم تلف لزمه مثل التمر، لان المثل أقرب إليه من قيمة

(14/228)


الاصل، وإن غصب ماله مثل واتخذ منه ماله مثل كالسمسم إذا عصر منه الشيرج ثم تلف فالمغصوب منه بالخيار إن شاء رجع عليه بمثل السمسم، وإن شاء رجع عليه بمثل الدهن، لانه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما.
وإن وجب المثل فأعوز فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تجب قيمته وقت المحاكمة، لان الواجب هو المثل، وإنما القيمة تجب بالحكم فاعتبرت وقت الحكم.
ومنهم من قال تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين تعذر المثل، كما تعتبر قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.
ومنهم من قال تضمن قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى وقت الحكم.
لان الواجب في الذمة هو المثل إلى وقت الحكم، كما أن الواجب في المغصوب رد العين إلى وقت التلف، ثم يغرم قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، فيجب أن يعتبر في المثل أكثر ما كانت قيمته إلى وقت الحكم.
ومنهم من قال: إن كان ذلك مما يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير وجبت قيمته وقت الانقطاع، لانه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة.
وان كان مما لا ينقطع عن أيدى الناس وانما يتعذر في موضع وجبت قيمته وقت الحكم
لانه لا ينتقل إلى القيمة الا بالحكم.
وان وجد المثل بأكثر من ثمن المثل احتمل وجهين
(أحدهما)
لا يلزمه المثل لان وجود الشئ بأكثر من ثمن المثل كعدمه، كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة
(والثانى)
يلزمه، لان المثل كالعين، ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف ثمنه لزمه فكذلك المثل.
(الشرح) الغصب ومادته من غصبه غصبا من باب ضرب، واغتصبه أخذه قهرا وظلما فهو غاصب، والجمع غصاب ككافر وكفار، ويتعدى إلى مفعولين.
فيقال: غصبته ماله، وقد تزاد من في المفعول الاول فيقال.
غصبت منه ماله، فزيد مغصوب ماله، ومغصوب منه ماله، ويبنى للمفعول فيقال: اغتصبت

(14/229)


لما لم يسم فاعله - المرأة نفسها - بالنصب على المفعولية، وربما قيل: على نفسها يضمن الفعل معنى غلبت، والشئ مغصوب وغصب تسمية بالمصدر وعند الفقهاء الاستيلاء على مال غيره بغير حق، وحكمه أنه محرم بالكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون) وأما السنة: فقد أخرج أحمد والبخاري عن أبى بكرة ولفظه " خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النحر فقال: أتدرون أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليس يوم النحر؟
قلنا بلى.
قال أي شهر هذا.
قلنا الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال أليس ذا الحجة.
قلنا بلى.
قال أي بلد هذا.
قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليست البلدة الحرام.
قلنا بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت.
قالوا نعم.
قال اللهم اشهد فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ورواه البخاري من حديث ابن عباس وفيه " قالوا يوم حرام " وقالوا " شهر حرام " و " بلد حرام " وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبى بكرة الا أنه ليس فيه قوله " فسكت " في المواضع الثلاثة وقد جمع بعضهم بين الاحاديث بتعدد الواقعة، ورد ذلك الحافظ بن حجر في الفتح فقال وليس بشئ لان الخطبة يوم النحر انما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منها ان ذلك كان يوم النحر

(14/230)


وأشار الكرماني إلى فخامة حديث أبى بكرة مما ليس في الروايات الاخرى، وقد رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهى رواية مشهورة مرت في كتاب الحج، وقد رأيت الحديث في كتاب دعائم الاسلام للقاضى أبى حنيفة النعمان بن محمد بن حيون التميمي من قضاة المعز لدين الله الفاطمي قال: روينا عن جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن آبائه عن على عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب يوم النحر بمنى في حجة الوداع وهو على ناقته القصواء فقال " أيها الناس، إنى خشيت ألا
ألقاكم بعد موقفي هذا بعد عامى هذا، فاسمعوا ما أقول لكم وانتفعوا به، ثم قال أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم يا رسول الله.
قال: فأى الشهور أعظم عند الله حرمة، قالوا: هذا الشهر يا رسول الله.
قال: فأى بلد أعظم حرمة.
قالوا: هذا البلد يا رسول الله، قال: فإن حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى أن تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد " اه من كتاب الغصب والتعدى ج 2 ص 484.
ومن السنة أيضا حديث أبى حميد الساعدي الذى ساقه المصنف مر بك تخريجه في كتاب الصلح وغيره من أسفار المجموع، وقد أخرجه الدارقطني وغيره.
ومن السنة أيضا ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث سعيد بن زيد قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول " من أخذ شبرا من الارض ظلما طوقه من سبع أرضين " ورواه الشيخان أيضا من حديث عائشة، ورواه أحمد عن أبى هريرة، ورواه أحمد والبخاري عن ابن عمر، ورواه ابن حبان وابن أبى شيبة وأبو يعلى عن يعلى بن مرة.
وأبو بكرة - هو نفيع بن الحارث - أو ابن مسروح الثقفى، وأم أبى بكرة سمية جارية الحارث بن كلدة وهى أم زياد بن أبيه، وكان أبو بكرة يقول: أنا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأبى أن ينتسب إلى أحد، وكان قد نزل يوم الطائف إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حصن الطائف، فأسلم في غلمان من غلمان أهل الطائف فأعتقهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(14/231)


فكان يقول: أنا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عد في مواليه، قال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: أملى على هوذة بن خليفة البكراوى نسبة إلى أبى بكرة، فلما بلغ إلى أبى بكرة، قلت: ابن من، قال.
دع لا تزده،
وكان أبو بكرة يقول: أنا من إخوانكم في الدين.
وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع منه، فإذا ثبت هذا فإن من غصب شيئا لزمه رده لحديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى ترده " رواه الحسن البصري عن سمرة، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور، وقد أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ في المستدرك.
وحديث السائب بن يزيد عند أحمد وأبى داود والترمذي وقال: حسن غريب وقال: لا نعرفه إلا من حديث ابن أبى ذئب.
وقال الشافعي: إذا شق رجل لرجل ثوبا شقا صغيرا أو كبيرا فأخذ ما بين طرفيه طولا وعرضا أو كسر له شيئا صغيرا أو كبيرا أو رضخه أو جنى له على مملوك فأعماه فذلك كله سواء، ويقوم المتاع والحيوان غير الرقيق صحيحا ومكسورا أو صحيحا ومجروحا قد برئ من جرحه ثم يعطى مالكه ما بين القيمتين ويكون ما بقى بعد الجناية لصاحبه نفعه أو لم ينفعه.
وقد عرف الماوردى الغصب بأدق ما رأيت تعريفا قال " الغصب هو منع الانسان من ملكه والتصرف فيه بغير استحقاق " ومن ثم يكمل الغصب بالمنع والتصرف، فان منع ولم يتصرف كان تعديا وتعلق به ضمان لانه تعد على المالك دون الملك، وإن تصرف ولم يمنع كان تعديا وتعلق به ضمان لانه تعد على الملك دون المالك، فإذا جمع بين المنع والتصرف تم الغصب ولزم الضمان سواء نقل المغصوب عن محله أم لا.
وقال أبو حنيفة: لا يتم الغصب إلا بالنقل والتحويل، فان كان مما لا ينقل كالدور والعقار لم يصح غصبه ولم يضمن استدلالا بأن غير المنقول مختص بالمنع دون التصرف، فصار كحبس الانسان عن ملكه لا يكون موجبا لغصب ماله،

(14/232)


ولان المسروق لا يكون مسروقا إلا بالنقل عن الحرز فكذا المغصوب لا يصير مغصوبا إلا بالنقل.
وتحريره قياسا أن كل ما لم يصر به المال مسروقا لم يصر به مغصوبا كالمنع والاحالة، دليله ما روى عطاء بن يسار عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إن أعظم الغلول عند الله أن يأخذ الرجل من أرض غيره إلى أرض نفسه " فأطلق على الارض حكم الغلول والغصب، وروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله " لعن الله سارق المنار، قيل: وما سارق المنار، قال: أن يأخذ الرجل العلامة من أرضه إلى أرض غيره " فجعل ذلك سرقة، وقوله صلى الله عليه وسلم " ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير نجوم الارض " وفى نجوم الارض تأويلان.
أحدهما: علماؤها، والثانى: حدودها وأعلامها وما ضمن بالقبض في العقود ضمن بالتصرف في العقود كالمحول والمنقول، ولان ما ضمن به المنقول ضمن به غير المنقول كالعقود، ولانه عدوان فجاز أن يضمن به غير المنقول كالجناية.
فأما الجواب بأن ما لم ينقل مختص بالمنع كالحبس فهو أن المحبوس عن ماله حصل التعدي عليه دون ماله فلم يصر المال مغصوبا، وخالف ما لو تصرف فيه، مع اشتهار القول عرفا أن فلانا غصب دارا أو أرضا.
وأما الجواب عن المسروق فهو أن القطع فيها يعتبر بهتك الحرز وإخراج المال عنه حتى لو نقل غير محرز لم يكن سارقا يقطع ويخالف الغصب المعتبر بالتصرف في المال، ألا ترى أنه لا يقال: سرق دارا، ويقال: غصب دارا، فإذا تقرر ما بينا فالمغصوب على ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون باقيا
(والثانى)
أن يكون تالفا (والثالث) أن يكون ناقصا، وفى هذه الفصول التى سقناها للمصنف حالان منها.
فإن كان باقيا بحاله ارتجعه المالك منه، فإن ضعف عن ارتجاعه فعلى والى الامر استرجاعه وتأديب الغاصب وإن كان مما لا أجرة لمثله كالطعام والدراهم والدنانير فقد برئ بعد رده من حكم الغصب، وسواء كانت قيمته قد نقصت في الاسواق

(14/233)


أو أرخصت الاسعار أم لا، لان بقاء العين لا يعتبر فيه نقص السوق، وإن كان مما لمثله أجرة كالدواب والآلات وسيارات الركوب (التاكسى) وأقمشة الصواوين والسرادقات وأخشاب المقاولين وآلات المعمار والدراجات والالات الكاتبة والالات الحاسبة والمكرفون وما إلى ذلك فعليه رد العين مع أجره المثل ان كان لمثل زمان الغصب أجرة عرفا، وعليه مؤونة الرد إن كان له مؤونة.
وأما الحال الثانية: وهو أن يكون المغصوب تالفا فهو مضمون عليه، سواء تلف بفعله أو بغير فعله لقوله صلى الله عليه وسلم: على اليد ما أخذت حتى ترده ثم هو على ضربين.

(أحدهما)
أن يكون له مثل كالذى تتساوى أجزاؤه من الحبوب والادهان والدراهم والدنانير فعليه رد مثله جنسا ونوعا وصفة وقدرا، لان مثل الشئ أحصر به بدلا من القيمة، لانه مثل في الشرع واللغة، والقيمة مثل في الشرع دون اللغة، فإن طلب أحدهما القيمة لم يجب إليها سواء كان طالبها الغاصب أو المغصوب منه، لانها غير المستحق، فأما إن تراضيا بالقيمة مع القدرة على المثل ففى جوازه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع القدرة على رد المعيب
(والثانى)
أن لا يكون له مثل كالذى تختلف أجزاؤه من الثياب والجوهر فعليه ثمنه في أكثر أحواله، فثمنه من وقت الغصب إلى وقت التلف، وبه قال جمهور الفقهاء.
وقال عبيد اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عليه مثله من جنسه
وعلى صفته استدلالا برواية العامري عن أنس في رواية الترمذي، وعند الجماعة بمعناه إلا مسلما، وعن عائشة في رواية أحمد وأبى داود والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إناء فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال: إناء مثل إناء وطعام كطعام، وما روى أن عثمان رضى الله عنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن بنى عمك سعوا على إبلى فاحتلبوا ألبانها وأكلوا فصلانها، فقال عثمان: نعطيك إبلا مثل ابلك،

(14/234)


وفصلانا مثل فصلانك، فقال عبد الله بن مسعود: وقد رأيت يا أمير المؤمنين أن يكون ذلك من الوادي الذى جنى فيه بنو عمك، فقال عثمان.
نعم.
ودليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال.
من أعتق شركا له في عبد قوم عليه ان كان موسرا فأوجب قيمة الحصة، ولم يوجب مثل تلك الحصة ولانه لما كانت أجزاؤه مضمونة القيمة دون المثل، حتى من قطع يد دابة لم تقطع يد دابته، ومن حرق ثوبا لم يحرق ثوبه، وجب أن يكون في استهلاك العين بمثابته، ولان ما تختلف أجزاؤه يتعذر فيه المماثله، ولا يخلو من أن يكون زائدا يظلم به الغاصب، أو ناقصا يظلم به المغصوب، والقيمة عدل يؤمن فيها ظلم الفريقين، فأما الجواب عن قوله اناء مثل الاناء وطعام مثل طعام فهو أن القيمة مثل في الشرع، قال تَعَالَى " فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين " فجعل قيمة الجزاء من الطعام مثلا وأما خبر عثمان فمحمول على التفضل منه لتطوعه بذلك عن غيره من بنى عمه.
(فرع)
إذا تقرر أنه مضمون بالقيمة دون المثل فلا يخلو أن يكون من جنس الاثمان كالثياب والحيوان فقيمته من غالب نقد البلد فيه أكثر ما كان قيمة
من حين الغصب إلى حين التلف في سوقه وبلده، فإن قيل لم لم يضمن نقص السوق مع بقاء العين وضمن نقص السوق مع تلف العين، قيل لانه قد فوت عليه زيادة السوق مع تلف العين ولم يفوتها عليه مع بقاء العين.
وان كان من جنس الاثمان فعلى ضربين.

(أحدهما)
أن يكون مباح الاستعمال كالحلي ففى كيفية ضمانه وجهان.

(أحدهما)
يضمن قيمته مصوغا من غير جنسه، ان كان من الذهب ضمن قيمته فضه، وان كان من الفضه ضمن قيمته ذهبا.
(والوجه الثاني) أنه يضمن بمثل وزنه من جنسه وبأجرة صياغته، مثل أن يكون وزن مائة جرام من ذهب وهو مصوغ فيضمن بمائة جرام ذهبا وبأجرة صياغته، وهل تجوز أن تكون الاجرة ذهبا، أم لا، على وجهين
(أحدهما)
لا يجوز حتى تكون ورقا لئلا تفضى إلى الربا، والتفاضل في الذهب بالذهب.

(14/235)


والوجه الثاني وهو الاصح، لانه بدل من الصياغة والعمل الذى لا يدخله الربا، ولو دخله الربا إذا كان ذهبا لدخله الربا وإن كان ورقا، لانه لا يجوز أن تباع مائة دينار بمائة دينار ودرهم، كما لا يجوز أن تباع بمائة دينار ودينار.
والضرب الثاني: أن يكون محظور الاستعمال كالأواني، ففى ضمان صياغته وجهان بناء على اختلاف الوجهين في إباحة ادخارهما
(أحدهما)
ان ادخارها محظور وصياغتها غير مضمونة لانها معصية لا تقر فلم تضمن، كصنعة الطنبور والمزمار والعود والبيانة لا تضمن صنعتها إذا نقضت أوتارها أو تلفت أزرارها لانه لا يضمن النقص في الايقاع.
والوجه الثاني: أن ادخارها مباح وصياغتها مضمونة، فعلى هذا في كيفية ضمانها وجهان على ما مضى.
(فرع)
إذا غصب منه تمرا فجعله دبسا (عجوة) أو سمسما فعصره شيرجا، أو زيتونا فاعتصره زيتا فللمغصوب أن يأخذ ذلك كله ويرجع بالنقص إن حدث فيه، فإن ترك ذلك على الغاصب وطالبه بالبدل عن أصل ما غصبه فلا يخلو حال الشئ المغصوب من أحد أمرين، إما أن يكون له مثل أو مما لا مثل له، فان كان مما لا مثل له كالعجوة (التمر اللصيق) وكان يكنز بالبصرة قديما وحديثا، وعندنا في ديارنا يصنع مثله في واحة سيوه، رجع على الغاصب بما استخرجه من دبسه لانه غير ماله، ولم يكن له المطالبة بقيمة تمره، لان أجزاء المغصوب أخص به من قيمته، وإن كان مما له مثل كالسمسم فعلى وجهين
(أحدهما)
أنه بمثابة مالا مثل له في استرجاع ما استخرج منه.
والثانى أن المغصوب منه يستحق المطالبة بمثل الاصل لانه أشبه بالمغصوب من أجزائه الامر الثاني: وهو على أربعة أضرب (الاول) أن يكون له مثل والمستخرج منه مما ليس له مثل، كالحنطة إذا طحنها فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل الاصل من الحنطة ولا يرجع بقيمة الدقيق، لان مثل ذى المثل أولى من قيمته.
فإن كانت الحنطة بعد الطحن قد زادت قيمتها دقيقا على قيمتها حبا استحق المغصوب منه أن يرجع على الغاصب بعد أخذ المثل بقدر الزيادة في الدقيق كما لو غصب دابة فسمنت ثم ردها بعد ذهاب السمن ضمن نقص السمن الحادث في يده

(14/236)


مع بقاء العين، فلان يضمن نقص الزيادة مع استرجاع المثل أولى.
والضرب الثاني: أن يكون الاصل مما ليس له مثل.
والمستخرج منه مما له مثل.
كالزيتون إذا اعتصره زيتا، لان للزيت مثلا وليس للزيتون مثل فيكون للمغصوب منه بمثل الزيت المستخرج وبنقص ان حدث في الزيتون، لانه لما صار المغصوب ذا مثل كان المثل أولى من قيمة الاصل لتقديم المثل على القيمه
والضرب الثالث: أن يكون الاصل مما له مثل والمستخرج منه مما له مثل، كالسمسم إذا اعتصره شيرجا، لان لكل واحد من السمسم والشيرج مثلا فيكون للمغصوب منه الخيار في الرجوع بمثل أيها شاء من السمسم أو الشيرج لثبوت ملكه على كل واحد منها، فإن رجع بالسمسم وكان أنقص ثمنا من الشيرج فأراد نقصه لم يجز.
وقيل له ان رضيت به وإلا فاعدل عنه إلى الشيرج ولا أرش لك لان عين مالك مستهلك ولكل حقك مثل، فلا معنى لاخذ الاصل مع الارش مع استحقاقك لمثل لا يدخله الارش والضرب الرابع أن يكون مما لا مثل له والمستخرج منه لا مثل له كالدبس (العجوة) إذا استخرج دبسه بالماء، فكل واحد من التمر والدبس غير ذى مثل فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل الاصل من الحنطه والدقيق، ولا يرجع بقيمة الدقيق بأكثر من قيمته تمرا أو دبسا.
والله أعلم قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان ذهب المغصوب من اليد وتعذر رده بأن كان عبدا فأبق، أو بهيمه فضلت، كان للمغصوب منه المطالبة بالقيمه لانه حيل بينه وبين ماله، فوجب له البدل كما لو تلف، وإذا قبض البدل ملكه، لانه بدل ماله فملكه كبدل التالف، ولا يملك الغاصب المغصوب، لانه لا يصح تملكه بالبيع، فلا يملك بالتضمين كالتالف، فإن رجع المغصوب وجب رده على المالك.
وهل يلزم الغاصب الاجرة من حين دفع القيمه إلى أن رده، فيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه لان المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرته
(والثانى)
تلزمه لانه تلفت عليه منافع ماله بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها، كما لو لم يدفع

(14/237)


القيمة.
وإذا رد المغصوب وجب على المغصوب منه رد البدل، لانه ملكه
بالحيلولة وقد زالت الحيلولة فوجب الرد، وإن زاد البدل في يده نظرت، فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن وجب الرد مع الزيادة لان الزيادة المتصلة تتبع الاصل في الفسخ بالعيب.
وهذا فسخ، وإن كانت زيادة منفصله كالولد واللبن لم ترد الزيادة كما لا ترد في الفسخ بالعيب.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رضى الله عنه: ولو غصب دابة فضاعت فادعى قيمتها ثم ظهرت ردت عليه ورد ما قبض من قيمتها لانه أخذ قيمتها على أنها فائتة فكأن الفوت قد بطل لما وجدت، ولو كان هذا بينا ما جاز أن تباع دابته عليه، كعين جنى عليها فابيضت، أو على سن صبى فانقلعت، فأخذ أرشها بعد أن يئس منها ثم ذهب البياض ونبتت السن، فلما عاد أرجع حقها وبطل الارش بذلك فيهما.
وهذا كما قال: إذا غصب عبدا فأبق أو بعيرا فشرد أو فرسا فعاد فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك ممكنا ومكانه معروفا، فالواجب أن يؤخذ الغاصب بطلبه والتزام المؤونة في رده، ولو كانت أضعاف قيمته، كما يؤخذ بهدم بنائه، وان كان أكثر من قيمة الارض المغصوبة أضعافا، فلو أمر الغاصب مالكها أن يستأجر رجلا لطلبها فأستأجر رجلا، وجبت أجرته على الغاصب، ولو طلب المالك بنفسه لم يستحق على الغاصب أجرة لطلبها، لانه أمره باستئجار غيره فصار متطوعا بطلبه.
فإن استأجر الغاصب مالكها لطلبها بأجرة مسماة ففيه وجهان.
أحدهما أن الاجارة غير جائزة وله الاجرة المسماة، لانه مالك لمنافع نفسه فملك المعاوضة عليها، والوجه الثاني أن الاجارة باطلة ولا أجرة له لانه لا يصح أن يعمل في ماله بعوض على غيره.
فإذا حصل منهما عدول عن طلب المغصوب إلى أخذ قيمته فهذا على ثلاثة أقسام
(أحدها) أن يبذلها الغاصب ويمتنع المغصوب منه.
والقسم الثاني: أن يطلبها المغصوب منه ويمتنع الغاصب.
والقسم الثالث أن يتفق عليها المغصوب منه والغاصب

(14/238)


فأما القسم الاول وهو أن يبذل الغاصب قيمة المغصوب ويطالب المغصوب منه بغصبه ويمتنع من أخذ قيمته فالقول قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على طلبه والتزام مئونته، لان المالك لا يجبر على إزالة ملكه وأما القسم الثاني وهو أن يطلب المغصوب منه قيمة غصبه ويمتنع الغاصب من بذلها ليرد الغصب بعينه فينظر: فإن كانت الغصب على مسافة قريبة يقدر على رده بعد زمان يسير فالقول قول الغاصب ولا يجبر على بذل القيمة، لان الشئ المغصوب مقدور عليه.
وإن كان على مسافة بعيدة لا يقدر على رده إلا بعد زمان طويل فالقول قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على بذل القيمة له ليتعجل ما استحقه عاجلا، فإذا أخذ القيمة وملكها ملكا مستقرا وملك الغاصب الغصب ملكا صريحا فليس للمغصوب منه أن يسترده، لانه وإن ملكه بالخيار ابتداء فلم يملكه انتهاء، والغاصب وإن لم يملكه بالخيار ابتداء فقد ملكه انتهاء، وقد استقر ملكه عليه.
الضرب الثاني: وهو أن يكون رده ممتنعا للجهل بمكانه فيؤخذ الغاصب جبرا بقيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى فوات الرد فإذا أخذها المغصوب منه ففى استقرار ملكه عليها وجهان لاصحابنا
(أحدهما)
أن ملكه عليها مستقر لفوات الرد والوجه الثاني: لا، لجواز القدرة على الرد، فإن وجد الشئ المغصوب بعد أخذ قيمته فقد اختلفوا في حكمه، فذهب الشافعي ومالك إلى أنه باق على ملك المغصوب منه يأخذه ويرد ما أخذ من قيمته.
وقال أبو حنيفة: يكون المغصوب ملكا للغاصب بما دفعه من قيمته ما لم يكونا
قد تكاذبا في قيمته، فإن كانا قد تكاذبا وأقر الغاصب بأقل منها وحلف عليها كان المغصوب منه أحق بالغصب حينئذ استدلالا بأن البدل إذا كان في مقابلة المبدل كان استحقاق البدل موجبا لتملك المبدل، كالبيع والنكاح لما استحق على المشترى الثمن تملك المثمن، ولما استحق على الزوج المهر ملك البضع.
كذلك الغاصب لما ملك المغصوب منه القيمة ملك الغاصب المغصوب، ولان الجمع بين البدل والمبدل مرتفع في الاصول وفى بقاء ملك المغصوب منه على الغصب بعد أخذ القيمة جمع بينه وبين بدله وذلك باطل، البائع لا يجوز له أن يجتمع له ملك

(14/239)


الثمن والمثمن، والزوج لا يجوز أن يجتمع له ملك المهر والبضع، ولان ما أخذت قيمته للمغصوب امتنع بقاؤه على ملك المغصوب قياسا على ما أمكن رده ودليلنا قوله تَعَالَى (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) فما خرج عن التراضي خرج عن الاباحة في التمليك، ولحديث سمرة مرفوعا " على اليد ما أخذت حتى ترده " فجعل الرد غاية الاخذ، فاقتضى عموم الظاهر استحقاقه في الاحوال كلها، ولان قدرة المعاوض على ما عاوض عليه أولى بصحة تملكه من العجز عنه (فرع)
إذا نما البدل في يد المغصوب منه فلا يخلو حال البدل من أن تكون الزيادة منفصلة أو غير منفصلة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والبيض واللبن فلا ترد الزيادة.
أما إذا كانت متصلة كالسمن ونحوه فإن البدل يرد مع الزيادة وهذا الحكم يختلف عنه في حالة زيادة المغصوب كما سيأتي.

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فإن نقص المغصوب نقصانا تنقص به القيمة نظرت، فان كان في غير الرقيق لم يخل إما أن يكون نقصانا مستقرا أو غير مستقر، فان كان مستقرا
بأن كان ثوبا فتخرق، أو إناء فانكسر أو شاة فذبحت أو طعاما فطحن ونقصت قيمته رده ورد معه أرش ما نقص، لانه نقصان عين في يد الغاصب نقصت به القيمه فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب، فان ترك المغصوب منه المغصوب على الغاصب وطالبه ببدله لم يكن له ذلك ومن أصحابنا من قال في الطعام إذا طحنه: أن له أن يتركه ويطالبه بمثل طعامه لان مثله أقرب إلى حقه من الدقيق، والمذهب الاول، لان عين ماله باقيه فلا يملك المطالبة ببدله كالثوب إذا تخرق والشاة إذا ذبحت وإن كان نقصانا غير مستقر، كطعام ابتل وخيف عليه الفساد، فقد قال في الام " للمغصوب منه مثل مكيلته " وقال الربيع فيه قول آخر أنه يأخذه وأرش النقص، فمن أصحابنا من قال هو على قولين
(أحدهما)
يأخذه وأرش النقص كالثوب إذا تخرق
(والثانى)
أنه يأخذ مثل مكيلته لانه يتزايد فساده إلى أن يتلف

(14/240)


فصار كالمستهلك.
ومنهم من قال يأخذ مثل مكيلته قولا واحد ولا يثبت ما قاله الربيع، وإن كان في الرقيق نظرت، فإن لم يكن له أرش مقدر كإذهاب البكارة والجنايات التى ليس لها أرش مقدر رده وأرش ما نقص، لانه نقصان ليس فيه أرش مقدر فضمن بما نقص كالثوب إذا تخرق، وإن كان له أرش مقدر كذهاب اليد نظرت، فان كان ذهب من غير جناية رده وما نقص من قيمته.
ومن أصحابنا من قال يرده وما يجب بالجناية، والمذهب الاول، لان ضمان اليد ضمان المال.
ولهذا لا يجب فيه القصاص ولا تتعلق به الكفارة في النفس، فلم يجب فيه أرش مقدر.
وإن ذهب بجناية بأن غصبه ثم قطع يده، فان قلنا إن ضمانه باليد كضمانه بالجناية وجب عليه نصف القيمة وقت الجناية، لان اليد في الجناية تضمن بنصف بدل النفس.
وإن قلنا إن ضمانه ضمان المال وجب عليه أكثر الامرين من نصف
القيمة أو ما نقص من قيمته، لانه وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضمانا.
وإن غصب عبدا يساوى مائة ثم زادت قيمته فصار يساوى ألفا ثم قطع يده لزمه خمسمائة، لان زيادة السوق مع تلف العين مضمونة، ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع اليد فوت عليه نصفه فضمنه بزيادة السوق.

(فصل)
وإن نقصت العين ولم تنقص القيمة نظرت، فان كان ما نقص من العين له بدل مقدر فنقص ولم تنقص القيمة، مثل أن غصب عبدا فقطع أنثييه ولم تنقص قيمته، أو غصب صاعا من زيت فأغلاه فنقص نصفه ولم تنقص قيمته، لزمه في الانثيين قيمة العبد وفى الزيت نصف صاع، لان الواجب في الانثيين مقدر بالقيمة.
والواجب في الزيت مقدر بما نقص من الكيل فلزمه ما يقدر به.
وان كان ما نقص لا يضمن إلا بما نقص من القيمة فنقص ولم تنقص القيمه كالسمن المفرط إذا نقص ولم تنقص القيمه لم يلزمه شئ، لان السمن يضمن بما نقص من القيمة ولم ينقص من القيمه شئ فلم يلزمه شئ.
واختلف أصحابنا فيمن غصب صاعا من عصير فأغلاه ونقص نصفه ولم تنقص قيمته، فقال أبو على الطبري: يلزمه نصف صاع كما قلنا في الزيت وقال أبو العباس: لا يلزمه شئ لان نقص العصير باستهلاك مائية ورطوبه

(14/241)


لا قيمة لها، وأما حلاوته فهى باقيه لم تنقص، ونقصان الزيت باستهلاك أجزائه ولاجزائه قيمة فضمنها بمثلها.

(فصل)
وإن تلف بعض العين ونقصت قيمة الباقي بأن غصب ثوبا تنقص قيمته بالقطع فشقه بنصفين ثم تلف أحد النصفين لزمه قيمة التالف، وهو قيمة نصف الثوب، أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ورد الباقي وأرش ما نقص، لانه نقص حدث بسبب تعدى به فضمنه، فان كان لرجل خفان
قيمتهما عشرة فأتلف رجل أحدهما فصار قيمة الباقي درهمين ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه درهمان، لان الذى أتلفه قيمته درهمان
(والثانى)
تلزمه ثمانيه، وهو المذهب، لانه ضمن أحدهما بالاتلاف ونقص قيمة الآخر بسبب تعدى به، فلزمه ضمانه
(فصل)
فان غصب ثوبا فلبسه وأبلاه، ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه أكثر الامرين من الاجرة أو أرش ما نقص، لان ما نقص من الاجزاء في مقابلة الاجرة، ولهذا لا يضمن المستأجر أرش الاجزاء
(والثانى)
تلزمه الاجرة وأرش ما نقص، لان الاجرة بدل للمنافع، والارش بدل الاجزاء، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كالاجرة وأرش ما نقص من السمن
(فصل)
وان نقصت العين ثم زال النقص بأن كانت جاريه سمينه فهزلت ونقصت قيمتها، ثم سمنت وعادت قيمتها ففيه وجهان
(أحدهما)
يسقط عنه الضمان، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لانه زال ما أوجب الضمان فسقط الضمان، كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض
(والثانى)
أنه لا يسقط، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لان السمن الثاني غير الاول فلا يسقط به ما وجب بالاول وإن سمنت ثم هزلت ثم سمنت ثم هزلت ضمن أكثر السمنين قيمه، في قول أبى على بن أبى هريرة، لان بعود السمن يسقط ما في مقابلته من الارش، ويضمن السمنين في قول أبى سعيد - لان السمن الثاني غير الاول - فلزمه ضمانهما.

(14/242)


(فصل)
وإن غصب عبدا فجنى على إنسان في يد الغاصب لزم الغاصب ما يستوفى في جنايته، فان كانت الجناية على النفس فأقيد به ضمن الغاصب قيمته
لانه تلف بسبب كان في يده فان كان في الطرف فأقيد منه ضمن وفى الذى يضمن وجهان
(أحدهما)
أرش العضو في الجناية
(والثانى)
ما نقص من قيمته لانه ضمان وجب باليد لا بالجناية لان القطع في القصاص ليس بجناية وقد بينا الوجهين فيما تقدم فان عفى عن القصاص على مال لزم الغاصب أن يفديه لانه حق تعلق برقبته في يده فلزمه تخليصه منه.
(الشرح) الاحكام: يشتمل هذا الفصل على الحال الثالثة من حالات المغصوب وهو أن يكون المغصوب ناقصا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون حيوانا.
والثانى: أن يكون غير حيوان، فإن كان غير حيوان فالنقص على ضربين
(أحدهما)
أن يكون متميزا كالحنطة يتلف بعضها أو كالثياب يتلف ثوب منها أو ذراع من جملتها، فيكون ضامنا للنقص بالمثل إن كان ذا مثل، وبالقيمة إن لم يكن ذا مثل، ويرد الباقي بعينه، سواء كان التالف أكثر المغصوب أو أقله، وهذا متفق عليه.
(والضرب الثاني) أن يكون النقص غير متميز كثوب شقه أو إناء كسره أو رضضه، فإن كان الناقص من أقل منافعه أخذه وما نقص من قيمته إجماعا فيقوم صحيحا، فإن قيل: مائة درهم قوم ممزقا أو مكسورا، فإن قيل: ستون درهما فنقصه أربعون فيأخذه ممزقا أو مكسورا ويأخذ منه أربعين درهما، وإن كان الناقص أكثر منافعه فقد اختلف الفقهاء فيه فذهب الشافعي إلى أنه يأخذه وما نقص من قيمته حتى لو كان يساوى مائة درهم فصار بعد النقص يساوى درهما أخذه وتسعة وتسعين درهما، وهكذا لو تمزق الثوب وترضض الاناء حتى لم يبق لهما قيمة أخذ قيمتها كاملة وأخذ المرضوض والممزق ولم يملكه الغاصب مع أداء القيمة.
وقال مالك: يكون المالك مخيرا بين تسليمه إلى الغاصب ويأخذ منه جميع القيمة وبين أن يمسك به ناقصا ولا أرش له.
وقال أبو حنيفة.
يكون المالك مخيرا بين أن يتمسك به ويرجع بأرش نقصه

(14/243)


وبين أن يسلمه إلى الغاصب ويرجع بجميع قيمته، وإذا تمزق الثوب وترضض الاناء حتى بلغ النقص جميع القيمة غرم القيمة وملك المرضوض والممزق استدلالا بأن لا يصير جامعا بين البدل والمبدل، قالوا ولان العين إذا ذهب أكثر منافعها صار الباقي منها ذاهب المنفعة فجاز له أن يرجع بجميع القيمة، ولان الاقل تبع للاكثر فلما كان غارما لاكثر المنافع وجب أن يكون غارما لاقلها.
دليلنا.
قوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " فإذا اعتدى باستهلاك بعضه لم يجز أن يقوى عليه باستهلاك كله، ولان ما لم يلزم غرم جميعه باستهلاك أكثره قياسا على النقص المتميز، ولان ما لم يكن تمييز بعضه موجبا لغرم جميعه لم يكن عدم تمييزه موجبا لغرم جميعه قياسا على النقص الاقل ولا يدخل على هاتين العلتين أطراف العبد كما نص عليه الماوردى في الحاوى.
فأما الجواب عن قولهم.
انه جمع بين البدل والمبدل فهو غير صحيح، لان المأخوذ بدل من المستهلك دون الباقي، فلم يكن جمعا بين البدل والمبدل، وأما الجواب عن قولهم.
ان الاقل تبع للاكثر، فهو أنه لو جاز أن يكون هذا دليلا على وجوب الاقل تبعا لسقوط الضمان في الاكثر، حتى لو أنه أتلف أقل المنافع لم يضمنها، لانه لم يضمن الاكثر فيها، وهذا قول مردود عندنا، فإذا ثبت وجوب أخذه وقدر نقصه قليلا كان النقص أو كثيرا، نفع الباقي منه أو لم ينفع نظر، فإن كان من غير جنس الاثمان ضمن نقص قدر قيمته، وان كان من جنس الاثمان فقد قال أبو حنيفة ليس له الرجوع بنقصه، وهو بالخيار بين تسليمه إلى الغاصب وأخذ قيمته كلها وبين امساكه ولا أرش، لان الاثمان مستحقة في الارش، فلم يجز أن يدخلها أرش، وهذا خطأ لان كل نقص دخل عوض
أو معوض استحق أرشه - ولم يجز مع امكان الارش أن يكون جزءا، وإذا كان هذا ضامنا ففى كيفية ضمانه وجهان على ما مضى.

(أحدهما)
يضمن اجزاء صنفه لا غير.

(والثانى)
يضمن قدر النقص من قيمته ذهبا ان كان من ورق وورقا ان كان من ذهب.

(14/244)


وان كان حيوانا فعلى ضربين
(أحدهما)
أن يكون بهيمة
(والثانى)
أن يكون آدميا، فإن كان بهيمة - وهو محل اهتمامنا بالبحث دون الآخر - فإنه يردها ويرد معها نقص ما بين قيمتها سليمة وناقصة، وسواء كان النقص بجناية أو حادثة، وسواء كانت البهيمة ذات ظهر أو در.
وقال أبو حنيفة.
ان كان حيوانا ينتفع به من جهة واحدة كذات ظهر لا در لها كالبغال والحمير أو ذات در لا ظهر لها كالغنم ضمنها بما نقص من قيمتها كقولنا وان كان ينتفع بها من جهتين كظهر ودر كالابل، وكذلك البقر والجاموس فانهما يعملان في المحراث والساقية وجر العربات والعجلات والزحافات والنوارج كان في احدى عينيه ربع قيمته، وفى سائر أعضائه ما نقص استدلالا بما رواه عن عمر رضى الله عنه أنه حكم في احدى عينى بقرة بربع قيمتها، وقد رد الماوردى وغيره هذا الوجه، لان ما لم يضمن أعضاؤه بمقدر لم تضمن عينه قياسا على ذات الظهر، ولان كل ما لم يضمن بمقدر في غير ذات الظهر لم يضمن بمقدر من ذات الظهر والدر، قياسا على سائر الاعضاء، وما روى عن عمر (رض) لا دليل فيه لانها قصه وافقت الحكومة فيها ربع القيمة.
وقال مالك إذا قطع ذنب حمار القاضى كان عليه جميع قيمته، ولو كان لغير القاضى لزمه ما نقص من قيمته استدلالا بأن في قطع ذنب حماره غضاضة على
المسلمين ووهن في الدين، وحسبك بقبح هذا القول دليلا على فساده، ولو جاز أنه يجب في ذنب حماره جميع القيمه لوجب ذلك في تحريق ثيابه والتعدى في قماشه ولتضاعف الجناية عليه على الجنايه على غيره، ولكان كل ما اختص به زائدا في الحكم على من سواه، وفى اتفاق الجميع على أن القاضى وغيره سواء في ضمان ما استهلك له أو جنى عليه وجب أن يكون وغيره على سواء في الجنايه على حماره (فرع)
صورة من نقصت العين في يده ثم زال النقص فهى كما قال الشافعي في الام هكذا.
ولو غصب جارية تساوى مائة فزادت في يده بتعليم وتهذيب وأنفق عليها من ماله حتى صارت تساوى ألفا ثم نقصت حتى صارت تساوى مائه فإنه يأخذها وتسعمائة معها.
قال الماوردى: وهذه المسألة مشتلة على فصلين:

(14/245)


(أحدهما)
يغصبها ناقصة فتزيد ثم تنقص
(والثانى)
أن يغصبها زائدة فتنقص ثم تزيد، وتكلم عن الفصل الاول فصور المسألة في أمة زادت ببرء أو سمن أو تعليم قرآن فصارت تساوى ألفا ثم نقصت بنسيان أو هزال أو مرض حتى عادت لحالها لا تساوى إلا المائة، فإنه يردها ومعها تسعمائة لنقص الزيادة الحادثه في يده وقال أبو حنيفة: يردها ولا غرم عليه لنقص ما زاد في يده استدلالا بأنه رد المغصوب كما أخذه.
ولان الزيادة في يد الغاصب قد تكون زيادة في السوق أو زيادة في العين، فلما كانت زيادة الرق غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت، كانت زيادة العين غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت، وتحريره قياسا أنها زيادة حدثت في يد الغاصب فوجب أن يضمنها مع بقاء المغصوب قياسا على زيادة السوق طردا وعلى تلف العين عكسا، وكان ضمان الغصب إنما يستحق فيما غصب باليد دون ما لم يغصب.
وإن صار تحت يده، ألا ترى لو أن شاة دخلت دارا لرجل لم يضمنها.
وان صارت تحت يده.
وهكذا لو أطارت الريح ثوبا إلى
داره لحدوث ذلك بغير فعله، وكذا الزيادة الحادثة في يده دليلنا: أنه نقص عين حدث في يد الغاصب فوجب أن يكون مضمونا عليه قياسا على نقصها عن حال غصبها، بأن يغصبها صحيحة فتمرض أو سمينة فتهزل، ولانه لو باعها بعد حدوث الزيادة بها ضمن نقصها فكذلك ان لم يبعها وفى ضمان النقص وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه غير مضمون على الغاصب استشهادا بقول الشافعي فيمن جنى على عين رجل فابيضت فأخذ ديتها، ثم زال البياض أنه يرد ما أخذ من الدية لارتفاع النقص بحدوث الصحه، فكذا الغاصب والوجه الثاني: وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، والاشبه بأصول الشافعي أنه مضمون على الغاصب فيردها وتسعمائة معها كما نقلنا ذلك عن الشافعي فيما سبق، ووجهه أن حدوث النقص قد أوجب ثبوت الضمان في ذمته فما طرأ بعده من زيادة فحادث على ملك المغصوب منه، فلم يجز أن يسقط به ما قد ملكه من الغرم وليس كبياض العين بالجناية لانها مضمونة بالفعل، والغصب مضمون باليد.

(14/246)


فعلى هذا يتفرع على هذين الوجهين إذا ماتت ضمن على قول أبى سعيد الاصطخرى قيمتها ونقصها مهما تكرر، ويتفرع على ذلك إذا غصبها وهى تساوى ألفا فمرضت حتى صارت تساوى مائة ثم برأت حتى صارت قيمتها ألفا ثم مرضت حتى صارت قيمتها مائه فعلى قول أبى على بن أبى هريرة ردها وتسعمائه نقص مرة واحدة، وعلى قول أبى سعيد رد معها ألفا وثمانمائه نقصها مرتين.
وهكذا لو عاد نقصها مائة مرة ضمن مائة نقص، فلو عادت بعد النقص الثاني إلى البدء ثم ردها لم يلزمه عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ شئ ولزمه على قول أبى سعيد نقصان.
والله أعلم بالصواب (فرع)
قال الشافعي إن كان ثوبا فأبلاه المشترى أخذه من المشترى وما
بين قيمته صحيحا يوم غصبه وبين قيمته وقد أبلاه، ويرجع المشترى على الغاصب بالثمن الذى دفع.
اه وهذه المسألة تشتمل على: إما إبلاء الغاصب له وإما إبلاء المشترى، فالغاصب لا يخلو حاله في الثوب الذى غصبه من أربعة أقسام (أحدها) أن لا يبلى في يده ولا تمضى عليه مدة يكون لها أجرة، فهذا يرد الثوب ولا شئ عليه سواه
(والثانى)
أن يكون قد بلى ولم تمض عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده ويرد معه أرش البلى لا غير.
(والثالث) أن لا يبلى، لكن قد مضت عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده ويرد معه أجرة مثله لا غير (والرابع) أن يبلى وتمضى عليه مدة يكون لها أجرة، فهل يجمع عليه بين الارش والاجرة أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يجمع بينهما وتجبان عليه لاختلاف موجبها، لان الارش يجب باستهلاك الاجزاء والاجرة تجب باستهلاك المنفعة والوجه الثاني: أنهما يجتمعان عليه، ويجب عليه أكثر الامرين من الارش والاجرة، لان استهلاك الاجزاء في مقابلة الاجرة، ألا ترى أن المستأجر لا يضمن أرش البلى، لانه في مقابلة ما قد ضمنه من الاجرة.
ولكن لو كان المغصوب حيوانا فمضت عليه في يد الغاصب مدة فهزل فيها بدنه وذهب فيها سمنه لزمته الاجرة مع أرش الهزال وجها واحدا.
والفرق بينها وبين الثوب أن استعمال الثوب موجب لبلاه، وليس استخدام الحيوان موجبا لهزاله.
والله أعلم

(14/247)


قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب بأن كانت شجرة فأثمرت، أو جارية فسمنت أو ولدت ولدا مملوكا، ثم تلف، ضمن ذلك كله، لانه مال
للمغصوب منه حصل في يده بالغصب، فضمنه بالتلف، كالعين المغصوبة، وان ألقت الجارية الولد ميتا ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حيا، وهو ظاهر النص لانه غصبه بغصب الام فضمنه بالتلف كالام.

(والثانى)
أنه لا يضمنه، وهو قول أبى اسحاق، لانه انما يقوم حال الحيلولة بينه وبين المالك، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال فلم يضمن، وحمل النص عليه إذا ألقته حيا ثم مات.

(فصل)
وان غصب دراهم فاشترى سلعه في الذمه، ونقد الدراهم في ثمنها وربح، ففى الربح قولان، قال في القديم: هو للمغصوب منه، لانه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد، وقال في الجديد: هو للغاصب لانه بدل ماله فكان له.

(فصل)
وان غصب عبدا فاصطاد صيدا فالصيد لمولاه، لان يد العبد كيد المولى فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التى اصطاد فيها فيه وجهان.

(أحدهما)
تلزمه لانه أتلف عليه منافعه
(والثانى)
لا تلزمه لان منافعه صارت إلى المولى، وان غصب جارحه كالفهد والبازى فاصطاد بها صيدا ففى صيده وجهان
(أحدهما)
أنه للغاصب، لانه هو المرسل والجارحه آله، فكان الصيد له، كما لو غصب قوسا فاصطاد بها، وعليه أجرة الجارحة لانه أتلف على صاحبها منافعها
(والثانى)
أن الصيد للمغصوب منه، لانه كسب ماله فكان له كصيد العبد فعلى هذا في أجرته وجهان على ما ذكرناه في العبد.

(فصل)
وان غصب عينا فاستحالت عنده بأن كان بيضا فصار فرخا أو كان حبا فصار زرعا أو كان زرعا فصار حبا فللمغصوب منه أن يرجع به لانه عين ماله

(14/248)


فان نقصت قيمته بالاستحالة رجع بأرش النقص لانه حدث في يده، وان غصب عصيرا فصار خمرا ضمن العصير بمثله لانه بانقلابه خمرا سقطت قيمته فصار كما لو غصب حيوانا فمات فان صار الخمر خلا رده، وهل يلزمه ضمان العصير مع رد الخل؟ فيه وجهان.

(أحدهما)
يلزمه لان الخل غير العصير فلا يسقط برد الخل ضمان ما وجب بهلاك العصير.

(والثانى)
لا يلزمه لان الخل عين العصير فلا يلزمه مع ردها ضمان العصير، فعلى هذا إن كانت قيمة الخل دون قيمة العصير رد مع الخل أرش النقص.

(فصل)
وإن غصب شيئا فعمل فيه عملا زادت به قيمته بأن كان ثوبا ففصره أو قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ذهبا فصاغه حليا أو خشبا فعمل منه بابا رده على المالك لانه عين ماله ولا يشارك الغاصب فيه ببدل عمله لانه عمل تبرع به في ملك غيره فلم يشاركه ببدله.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: وفى ولد المغصوبة الذى ولد في الغصب مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا عند الغصب أو حادثا بعده وقال أبو حنيفة: ولد المغصوب غير مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا عند الغصب أو حادثا بعده، إلا أن يمنع من بعد الطلب فيضمن بالمنع استدلالا بما ذكره في زيادة البدن من أن حدوث الشئ في يده من غير فعل لا يوجب الضمان عليه كالريح إذا أطارت ثوبا إليه أو الشاة إذا دخلت دارا.
ودليلنا: هو أن ولد المغصوبة في يد الغاصب كالام بدليل أنه لو ادعاه لقبل قوله لمكان يده فوجب أن يكون ما مثاله باليد كأمه، ولان ضمان الغصب أقوى من ضمان العبد، ثم ثبت أن ولد الصيد مضمون على المحرم فولد الغصب أولى
أن يكون مضمونا على الغاصب، لانه نماء عن أصل مضمون بالتعدي فصح أن يكون مضمونا ومغصوبا كالصوف واللبن، ولانه متصل بالمغصوب فصح أن يكون مضمونا كالسمن وثمر الغرس، ولان ما ضمن بالجناية ضمن بالغصب كالمنفصل، ولان ما صح أن يضمن بالغصب خارج وعائه كالدراهم في كيس والحلى في حق.

(14/249)


وأما الجواب عن استدلالهم بدخول الشاة إلى داره والثوب إذا أطارته الريح إليها فهو أن لا يكون بذلك متعديا فلم يكن ضامنا ويكون بإمساك الولد متعديا فكان ضامنا.
ألا ترى أن دخول الصيد إلى داره لا يوجب عليه الضمان لعدم تعديه، وولادة الصيد في يده توجب عليه الضمان لتعديه.
فإذا ثبت أن ولد المغصوبة مضمون على الغاصب فسواء تلف بعد إمكان رده أو قبل إمكانه في ضمان قيمته في أكثر أحواله فيه من حين الولادة إلى وقت التلف، فإن نقصت قيمة أمه بعد الولادة - فان كان نقصها لغير الحمل - ضمنه مع قيمة الولد، وان كان نقصها لاجل لم يضمنهما معا لان ضمان ولدها هو ضمان لحملها، فكان ضامنا لاكثر الامرين من نقص الحمل وقيمة الولد.
فإذا تقرر ما وصفنا فللولد ثلاثة أحوال يضمن فيها، وحال لا يضمن، وحال مختلف فيها.
فأما أحوال الضمان ففى الغصب والجناية والاحرام، فإن ضمان الولد فيها واجب كالام، وأما حال سقوط الضمان ففى الاجارة والرهن والوديعة، فإن ولد المستأجرة والمرهونة والمودعة غير مضمون كالام، فأما الحال المختلف فيها ففى العارية والبيع الفاسد ففى ضمان الولد فيهما وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في ضمان الام في العارية والبيع الفاسد، هل هو ضمان غصب أم لا؟ على وجهين.

(أحدهما)
أنه ضمان غصب، فعلى هذا يكون الولد مضمونا بأكثر الامرين من قيمته أو نقص الحمل كالغصب.
(والوجه الثاني) أنه يكون مضمونا ضمان عقد، فعلى هذا يكون الولد غير مضمون لانه لم يدخل في العقد.
فأما إذا غصب مالا فاتجر به وربح فيه ففى ربحه قولان: أحدهما وهو قوله في القديم: أنه لرب المال، وهو مذهب مالك.
والقول الثاني: أنه للغاصب وهو مذهب أبى حنيفة، وسنذكر توجيه القولين في القراض، فأما إذا غصب شيئا فصاد به، فعلى ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يكون آلة كالشبكة والقوس فالصيد للغاصب وعليه أجرة الآلة، والضرب الثاني: أن يكون عبدا فالصيد للمغصوب منه لان يده يد لصاحبه وهل على الغاصب أجرته مدة صيده أم لا؟ على وجهين

(14/250)


أحدهما: عليه الاجرة، لانه غاصب.
والثانى: لا أجرة عليه لان السيد قد صار إلى منافعه في ذلك الزمان.
والضرب الثالث: أن يكون جارحا كالكلب والفهد والنمر ففى الصيد وجهان.
أحدهما: للغاصب لانه المرسل فعلى هذا عليه أجرة الفهد والنمر، فهل عليه أجرة الكلب أم لا؟ على وجهين.
قال الشافعي: ولو باعها الغاصب فأولدها المشترى ثم استحقها المغصوب منه أخذ من المشترى مهرها وقيمتها إن كانت ميتة، وأخذها إن كانت حية، وأخذ قيمة أولادها يوم سقطوا أحياء، ولا يرجع بقيمة من سقط ميتا، ويرجع المشترى على الغاصب بجميع ما ضمنه من قيمة الولد لانه غره، إلى أن قال: وعليه الحد إن لم يأت بشبهة.
(فرع)
إذا كان قد غصب بيضا فصار فراخا أو فروجا كان ملكا للمغصوب منه لتولده في ملكه، ولو غصب منه شاة فانزى عليها فحله فوضعت سخلا كان
للغاصب، لان مالك الام ولا شئ للمغصوب منه في نزو فحله لانه عسب فحل محرم الثمن إلا أن يكون النزو قد نقص من بدنها وقيمتها فيرجع على الغاصب بقدر النقص.
فلو غصبه شاة فذبحها وطبخها لم يملكها ويرجع بها للمغصوب منه مطبوخة وبنقص ما حدث فيها.
وقال أبو حنيفة: قد صارت للغاصب بالطبخ، ويغرم قيمتها استدلالا برواية عاصم بن كليب عن أبى بردة بن أبى موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوما من الانصار فقدموا إليه شاة فصيلة فأكل منها لقمة فلم يبلعها فقال مالى لا أسيغها، ان لها لشأنا أو قال خبرا، قالوا يا رسول الله إنا أخذناها من بنى فلان وأنهم إذا وافوا راضيناهم فقال أطعموها الاسارى.
فجعل لهم تملكها بالعمل لانه أمرهم باطعامها للاسارى ولو لم يملكوها لمنعهم.
ودليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال.
لا يحل لاحد منكم من مال أخيه شئ إلا بطيب نفس منه فقال له عمرو بن حزم.
يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمى اخترت منها شاة؟ قال.
إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وزنادا بخبت الجميش - بفتح فسكون، والجميش وزان الخميس - وهو صحراء بين مكة والمدينة - فلا تأخذها.
قال الماوردى.

(14/251)


وأما الخبر الذى استدل به فيحمل على أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن إذنهم من غير ثمن مقدر، ويحتمل أن يكون لتعذر مستحقه عن استبقاء الطعام لهم فأمرهم بذلك حفظا لقيمته على أربابه اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن غصب شيئا فخلطه بمالا يتميز منه من جنسه، بأن غصب صاعا من زيت فخلطه بصاع من زيته، أو صاعا من الطعام فخلطه بصاع من طعامه، نظرت، فإن خلطه بمثله في القيمة فله أن يدفع إليه صاعا منه لانه
تعذر بالاختلاط عين ماله، فجاز أن يدفع إليه البعض من ماله والبعض من مثله وإن أراد أن يدفع إليه مثله من غيره وطلب المغصوب منه مثله منه، ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أن الخيار إلى الغاصب، لانه لا يقدر على رد عين ماله، فجاز أن يدفع إليه مثله كما لو هلك، والثانى وهو قول أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يلزمه أن يدفع إليه صاعا منه لانه يقدر أن يدفع إليه بعض ماله فلا ينتقل إلى البدل في الجميع كما لو غصب صاعا فتلف بعضه، وإن خلطه بأجود منه فإن بذل الغاصب صاعا منه لزم المغصوب منه قبوله، لانه دفع إليه بعض ماله وبعض مثله خيرا منه، وإن بذل مثله من غيره وطلب المغصوب منه صاعا منه ففيه وجهان.
أحدهما وهو المنصوص في الغصب.
أن الخيار إلى الغاصب لانه تعذر رد المغصوب بالاختلاط فقبل منه المثل.
والثانى.
أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما وهو المنصوص في التفليس، لانا إذا فعلنا ذلك أوصلنا كل واحد منهما إلى عين ماله، وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى البدل، فإن كان ما يخص المغصوب منه من الثمن أقل من قيمة ماله استوفى قيمة صاعه ودخل النقص على الغاصب، لانه نقص بفعله فلزمه ضمانه وعلى هذا الوجه ان طلب المغصوب منه أن يدفع إليه من الزيت المختلط بقدر قيمة ماله ففيه وجهان، أحدهما، لا يجوز، وهو قول أبى اسحق لانه يأخذ بعض صاع عن صاع وذلك ربا والثانى انه يجوز لان الربا انما يكون في البيع

(14/252)


وليس ههنا بيع، وانما يأخذ هو بعض حقه ويترك بعضه كرجل له على رجل درهم فأخذ بعضه وترك البعض.

(فصل)
وإن خلطه بما دونه فإن طلب المغصوب منه صاعا منه وامتنع الغاصب أجبر على الدفع، لانه رضى بأخذ حقه ناقصا، وإن طلب مثله من غيره
وامتنع الغاصب أجبر على دفع مثله، لان المخلوط دون حقه فلا يلزمه أخذه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله، وإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته ضمن الغاصب تمام القيمة، لانه نقص بفعله
(فصل)
وان غصب شيئا فخلطه بغير جنسه أو نوعه، فإن أمكن تمييزه كالحنطة إذا اختلطت بالشعير أو الحنطة البيضاء إذا اختلطت بالحنطة السمراء، لزمه تمييزه ورده، لانه يمكن رد العين فلزمه، وإن لم يمكن تمييزه كالزيت إذا خلطه بالشيرج لزمه صاع من مثله، لانه تعذر رد العين بالاختلاط فعدل إلى مثله.
ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله كما قلنا في القسم قبله
(فصل)
وإن غصب دقيقا فخلطه بدقيق له ففيه وجهان: أحدهما: أن الدقيق له مثل.
وهو قول أبى العباس وظاهر النص، لان تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب وكبره.
فعلى هذا يكون حكمه حكم الحنطة إذا خلطها بالحنطة.
وقد بيناه والثانى: أنه لا مثل له.
وهو قول أبى إسحاق، لانه يتفاوت في الخشونة والنعومة، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض، فعلى هذا اختلف أصحابنا فيما يلزمه فمنهم من قال يلزمه قيمته لانه تعذر رده بالاختلاط ولا مثل له فوجبت القيمة ومنهم من قال يصيران شريكين فيه، فيباع ويقسم الثمن بينهما على ما ذكرناه في الزيت إذا خلطه بالشيرج

(14/253)


(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: " وما كان له كيل أو وزن فعليه مثل
كيله ووزنه " وقد ذكرنا أن ماله مثل فهو مضمون في الغصب بالمثل، ومالا مثل له فهو مضمون بالقيمة فأما حد ماله مثل فقد قال الشافعي ما سقنا، وليس ذلك منه حدا لماله مثل، لان كل ذى مثل مكيل أو موزون، وليس كل مكيل أو موزون له مثل، وإنما ذكر الشافعي ذلك شرطا في المماثلة عند الغرم، ولم يجعله حدا لماله مثل.
وحد ماله مثل.
أن يجتمع فيه شرطان، تماثل الاجزاء وأمن التفاضل، فكل ما تماثلت أجزاؤه وأمن تفاضله فله مثل، كالحبوب والادهان، فإن كان مكيلا كان الكيل شرطا في مماثلته دون الوزن، وإن كان موزونا كان الوزن شرطا في مماثلته دون الكيل، فأما ما اختلفت أجزاؤه كالحيوان والثياب أو خيف تفاضله كالثمار الرطبة فلا مثل له وتجب قيمته.
أما خلط الشئ بمثله كالزيت بالزيت، أو الحنطة بالحنطة فقد قال الشافعي: " ومن الشئ الذى يخلطه الغاصب بما اغتصب فلا يتميز منه، أو يغصبه مكيال زيت فيصبه في زيت مثله، أو خير منه، فيقال للغاصب: إن شئت أعطيته مكيال زيت مثل زيته، وإن شئت أخذ من هذا الزيت مكيالا ثم كان غير مزداد إذا كان زيتك مثل زيته، وكنت تاركا للفضل، إذا كان زيتك أكثر من زيته ولا خيار للمغصوب لانه غير منتقص، فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته ضمن الغاصب له مثل زيته، لانه قد انتقص زيته بتصييره فيما هو شر معه، وإن كان صب زيته في شيرج أو دهن طيب أو سمن أو عسل ضمن في هذا كله، لانه لا يتخلص منه الزيت، ولا يكون له أن يدفع إليه مكيالا مثله، وإن كان المكيال منه خيرا من الزيت من قبل أنه غير الزيت ولو كان صبه في ماء إن خلصه منه حتى يكون زيتا لا ماء فيه، وتكون مخالطة الماء غير ناقصة له كان لازما للمغصوب أن يقبله، وإن كانت مخالطة الماء ناقصة له في العاجل والمتعقب كان عليه أن يعطيه مكيالا مثله مكانه "
قال الربيع، ويعطيه هذا الزيت بعينه وان نقصه الماء، ويرجع عليه بنقصه

(14/254)


وهو معنى قول الشافعي قلت: فهذا هو المنصوص الذى أشار إليه المصنف وقول الشافعي أعدل حكومه وأبعد عن الغرر.
(فرع)
قال الشافعي ولو اغتصبه زيتا فأغلاه على النار فنقص كان عليه أن يسلمه إليه، وما نقص مكيلته ثم ان كانت النار تنقصه شيئا في القيمة كان عليه أن يغرم له نقصانه وان لم تنقصه شيئا في القيمة فلا شئ عليه، ولو اغتصبه حنطة جيدة خلطها برديئة كان خلطها بمثلها أو أجود منها كما وصفت في الزيت يغرم له مثلها بمثل كيلها، الا أن يكون يقدر على أن يميزها حتى تكون معروفة، وان خلطها بمثلها أو أجود كان كما وصفت في الزيت.
قال: ولو خلطها بشعير أو ذرة أو حب غير الحنطة كان عليه أن يؤخذ بتمييزها حتى يسلمها إليه بعينها بمثل كيلها، وان نقص كيلها شيئا ضمنه، قال: ولو اغتصبه حنطة جيدة فأصابها عنده ماء أو عفن أو أكلة أو دخلها نقص في عينها كان عليه أن يدفعها إليه وقيمة ما نقصها تقوم بالحال التى غصبها والحال التى دفعها بها ثم يغرم فضل ما بين القيمتين.
قال: ولو غصبه دقيقا فخلطه بدقيق اجود منه أو مثله أو أردأ كان كما وصفنا في الزيت.
هذا نصه فلو أن المغصوب منه أراد أن يأخذ من المختلط بقدر مكيلته أو بقدر قيمة ماله وفرق بين المكيلة وقدر القيمة لان الاول التساوى في الكيل والآخر التساوى في القيمة فعلى وجهين أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يجوز، والثانى: يجوز لانه ليس بيعا ويكون متبرعا بفرق القيمة أو المكيلة أو الجودة ولا يكون ذلك من الربا لانه ليس بيعا وهو كما قال الشافعي في الام: ان غصبه سمنا وعسلا ودقيقا فعصده كان للمغصوب الخيار في أن يأخذه
معصودا ولا شئ للغاصب في الحطب والقدر والعمل من قبل أن ماله فيه أثر لا عين، أو يقوم له العسل منفردا والسمن والدقيق منفردين.
فإن كان قيمته عشرة وهو معصود قيمته سبعة غرم له ثلاثة من قبل أنه أدخله النقص، ولو غصبه دابة وشعيرا فعلف الدابة الشعير رد الدابة والشعير من قبل أنه هو المستهلك له وليس في الدابة عين من الشعير يأخذه انما فيها منه أثر، قال: ولو

(14/255)


غصبه طعاما فأطعمه إياه والمغصوب لا يعلم كان متطوعا بالاطعام، وكان عليه ضمان الطعام.
وإن كان المغصوب يعلم أنه طعامه فأكله فلا شئ له عليه من قبل أن سلطانه إنما كان على أخذ طعامه فقد أخذه وقال الربيع: وفيه قول آخر أنه إذا أكله عالما أو غير عالم فقد وصل إليه شيئه ولا شئ على الغاصب، إلا أن يكون نقص عمله فيه شيئا فيرجع بما نقصه العمل.
قلت وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه (فرع)
إذا نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده، فعليه ضمان نقصه، فللشافعي قولان
(أحدهما)
يضمن
(والثانى)
لا يضمن.
وهو قول أحد الاقوال الثلاثة عند الحنابلة (أحدها) وهو قول القاضى لا يضمن
(والثانى)
يضمن، وهو قول ابن قدامة (والثالث) المغصوب منه مخير بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه.
وقال أبو حنيفة: يتخير بين إمساكه ولا شئ له، أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ قيمته.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء، فدعا صاحب الارض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك.
لما روى سعيد بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ليس لعرق ظالم حق " فإن قلعه فقد قال في
الغصب يلزمه أرش ما نقص من الارض.
وقال في البيع: إذا قلع الاحجار المستودعة، عليه تسوية الارض فمن أصحابنا من جعلهما على قولين
(أحدهما)
يلزمه أرش النقص لانه نقص بفعل مضمون، فلزمه أرشه.

(والثانى)
يلزمه تسوية الارض لان جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.
ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقص.
وفى البيع يلزمه تسوية الارض، لان الغاصب متعد فغلظ عليه بالارش لانه أوفى، والبائع غير متعد فلم يلزمه أكثر من التسوية، وان كان الغراس لصاحب الارض فطالبه بالقلع، فإن كان له غرض في قلعه أخذ يقلعه، لانه قد فوت عليه بالغراس غرضا مقصودا في الارض، فأخذ بإعادتها إلى ما كانت، وان لم يكن له غرض

(14/256)


ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يؤخذ بقلعه، لان قلعه من غير غرس سفه وعبث
(والثانى)
يؤخذ به، لان المالك محكم في ملكه، والغاصب غير محكم، فوجب أن يؤخذ به.

(فصل)
وان غصب أرضا وحفر فيها بئرا فطالبه صاحب الارض بطمها لزمه طمها لان التراب ملكه، وقد نقله من موضعه فلزمه رده إلى موضعه، فإن أراد الغاصب طمها فامتنع صاحب الارض أجبر.
وقال المزني: لا يجبر كما لو غصب غزلا ونسجه لم يجبر المالك على نقضه، وهذا غير صحيح، لان له غرضا في طمها.
وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع فيها، بخلاف نقض الغزل المنسوج فإن أبرأه صاحب الارض من ضمان من يقع فيها ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح الابراء لانه لما سقط الضمان عنه إذا أذن في حفرها سقط عنه إذا أبرأه منها.

(والثانى)
أنه لا يصح، لان الابراء انما يكون من واجب، ولم يجب بعد شئ فلم يصح الابراء.
(الشرح) حديث سعيد بن زيد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وأعله بالارسال والنسائي، ورجح الدارقطني الارسال أيضا، وقد اختلف مع ترجيح الارسال على الصحابي الذى رواه فقيل جابر، وقيل عائشة، وقيل ابن عمر، ورجح ابن حجر الاول، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا كثيرا، ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة، وفى اسناده زمعة، وهو ضعيف.
ورواه البخاري تعليقا أما الاحكام فقد قال الشافعي: ولو اغتصبه أرضا فغرسها نخلا أو اصولا أو بنى فيها بناء أو شق فيها أنهارا كان عليه كراء مثل الارض بالحال الذى اغتصبه اياها، وكان على البانى والغارس أن يقلع بناءه وغرسه، فإذا قلعه ضمن ما نقص القلع الارض حتى يرد إليه الارض بحالها حين أخذها ويضمن القيمة بما نقصها.
قال وكذلك ذلك في النهر وفى كل شئ أحدثه فيها لا يكون له أن يثبت فيها عرقا ظالما.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ لعرق ظالم حق " ولا يكون لرب الارض أن يملك مال الغاصب، ولم يملكه اياه كان ما يقلع الغاصب منه ينفعه

(14/257)


أو لا ينفعه، لان له منع قليل مائه كما منع كثيره.
وقال الماوردى قد ذكرنا أن الارض والعقار يجرى عليها حكم الغصب إبراءا وضمانا، وبه قال فقهاء الحرمين والبصرة، وخالف أهل الكوفة فقال أبو حنيفة لا يجرى على الارض حكم الغصب ولا حكم الضمان باليد.
وهو قول أبى يوسف، وقال محمد بن الحسن يجرى عليها حكم الضمان باليد، ولا يجرى عليها حكم الغصب.
اه.
وكلام محمد يرد عليه أنه كل ما ضمن باليد ضمن بالغصب كالمنقول، على أنه ليس للتفرقة بين ضمان اليد وضمان الغصب تأثير.
فإذا صح غصب الارض فلا يخلو حال غاصبها من أن يكون قد شعلها بغرس
أو بناء أو لم يشغلها، فان لم يكن قد شغلها بغرس ولا بناء درها وأجرة مثلها مدة غصبه، وان شغلها باحداث غرس أو بناء أخذ بقلع بناءه وغرسه ولا يجبر على أخذ قيمتها، سواء أضر قلعها بالارض أم لا.
وقال أبو حنيفة " إن لم يضر القلع بالارض اضرارا بينا فله القلع، ولا يجبر على أخذ القيمة، وان كان في قلعه اضرار بالارض فرب الارض بالخيار بين أن يبذل له قيمة الغرس والبناء مقلوعا فيجبر على أخذها، وبين أن يأخذه بقلع الغرس والبناء فيجبر على قلعها استدلالا بما جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار.
وبما روى مجاهد أن رجلا غصب قوما أرضا براحا فغرس فيها نخلا فرفع ذلك إلى عمر رضى الله عنه فقال لهم " ان شئتم فادفعوا إليه قيمة النخل " وروى رَافِعٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من زرع أرض قوم بلا اذن منهم فليس له في الزرع شئ وله نفقته " قال ولان من دخل تملك على ملك استحق المالك ازالة ملك الداخل كالشفيع ودليلنا ما روى أنس مرفوعا " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسه " أخرجه الدارقطني وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان.
وما رواه هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا غصب أرضا من رجلين من بنى بياضه من الانصار فغرسها نخلا جما فرفع ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بقلعه ولم يجعل لرب الارض خيارا ولو استحق خيارا لاعلمه وحكم به.
ولان يسير الغرس والبناء أشبه بأن يكون تبعا للارض من كثيره، فلما لم يكن لرب الارض أن يتملك يسيره فأولى أن

(14/258)


لا يتملك كثيره ويتحرر من اعتلاله قياسان
(أحدهما)
أنه ما لم يملك بالغصب يسيره لم يملك به كثيره لمتاع
(والثانى)
أنه عدوان لا تملك به الاعيان المنفصلة فوجب أن لا تملك به الاعيان المتصلة.
وأما حديث لا ضرر ولا ضرار فهو أن
رفع الضرر مستحق ولكن ليس بتملك العين.
وأما قضية عمر فمرسلة لان مجاهدا لم يلق عمر، ثم لا دليل فيها من وجهين
(أحدهما)
أنها قضيه في عين إن لم تنقل شرعا لم تلزمه حكما
(والثانى)
قوله إن شئم فادفعوا قيمة النخل بعد أن طلب صاحبها ذلك.
وهذا عندنا جائز.
وأما قوله من زرع أرضا بغير إذنهم فليس له في الزرع شئ ففيه جوابان
(أحدهما)
أنه يستعمل على أنه زرع أرضهم ببذرهم
(والثانى)
ليس له في الزرع حق الترك والاستبقاء، بما بينه بقوله " ليس لعرق ظالم حق " فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال الغرس والبناء من ثلاثة أقسام (أحدها) أن تكون ملكا للغاصب
(والثانى)
أن يكون مغصوبا من رب الارض (والثالث) أن يكون مغصوبا من غيره فأما الاول فلرب الارض والغاصب أربعة أحوال، أن يتفقا على ترك الغرس والبناء بأجر وبغير أجر فيجوز ما أقاما على اتفاقهما، لان الحق فيه مختص بهما، ثم ننظر فان كان بعقد صح استحقاق المسمى فيه.
ولم يكن له الرجوع في المطالبة بالقلع قبل انقضاء المدة سواء علما قدر أجرة المثل أو لم يعلما، وإن كان بغير عقد فله اجرة المثل ما لم يصرح بالعفو عنها وأن يأخذه بالقطع متى شاء.
والحال الثانية أن يتفقا على أخذ قيمة الغرس والبناء قائما أو مقلوعا فيجوز ويكون ذلك بيعا يراعى فيه شروط البيع، لانه عن مراضاة فان كان على الشجر ثمر ملكه إن كان مؤبرا، ولا يلزم الغاصب أرش ما كان ينقص من الارض لو قلع لانه لم يقلع، فلو باع الغاصب الغرس على غير مالك الارض فان اشتراها بشرط التبقيه فالبيع باطل، وان اشتراها بشرط القلع فالبيع جائز، فإذا قلعه المشترى فأحدث به نقصا فأرشه على الغاصب وحده لترتبه على تعديه أو يشتريه مطلقا ففيه وجهان
(أحدهما)
باطل لاحتمال التبقية
(والثانى)
يجوز ويؤخذ
المشترى بالقلع.

(14/259)


والحال الثالثة: أن يتفقا على أخذ ثمن الارض من الغاصب وتسقط المطالبة عن الغاصب الا بثمن الارض، وليس له أن يطالب بعد الثمن بأرش النقص لو قلع لانه لم يقلع، ولو كان صاحب الارض باعها على أحد غير الغاصب كان للاجنبي الذى ابتاعها أن يأخذ الغاصب بقلع بنائه وغرسه، فإذا قلع لم يكن للاول أن يطالبه به لانه عيب قد دخل أرضه، ويكون البيع سببا لسقوط الارش عن الغاصب والحال الرابعة ألا يتفقا على أحد الاحوال الثلاثة فيؤخذ الغاصب بالقلع، لحديث سعيد بن زيد، فإذا قلع برئ من أجرة الارض بعد قلعه، فان نقصت الارض شيئا لم يبرأ حتى يرد ما نقصت الارض كما قال في الغصب وأما القسم الثاني وهو أن يكون الغرس والبناء ملكا لرب الارض فان رضى رب الارض ان يأخذ الارض بغرسها وبنائها فأيما أخذه فلا شئ عليه من مئونة البناء وليس للغاصب أن ينقص الغرس والبناء لانه لا يستفيد بقلعها شيئا فصار منه ذلك سفها، وان طالب رب الارض الغاصب بقلع الغرس والبناء لينفصلا عن الارض فقال الماوردى: فان كان له في ذلك غرض صحيح أجبر الغاصب على القلع ولزمه غرم نقص الغرس والبناء عما كان قبل أن غرس وبنى ونقص الارض وإن لم يكن في قلعه غرض يصح لقاصد فهل يجبر الغاصب على قلعه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا يجبر عليه لانه عبث وسفه
(والثانى)
يجبر عليه لان المالك متحكم على الغاصب لتعديه، فان قيل بالاول لم يكن له الارش، وان قيل بالوجه الثاني استحق الارش وأما القسم الثالث وهو أن يكون الغرس والبناء مغصوبا من غير مالك الارض فلكل واحد من رب الارض ومالك الغرس أن يأخذ الغاصب بالقلع
ثم يرجع كل واحد منهما عليه بأرش ما نقص من ملكه، فيرجع رب الارض بما نقص من أرضه ويرجع رب الغرس بما نقص من غرسه، فلو أن رب الارض اشترى الغرس من ربه قبل القلع صار مالكا لهما وله أن يأخذ الغاصب بالقلع إن كان في قلعه غرض صحيح ثم يأخذ منه نقص الارض دون الشجر (فرع)
قال الشافعي ولو حفر فيها بئرا وأراد الغاصب دفنها فذلك له وان لم ينفعه وهذا كما قال " إذا غصب أرضا وحفر فيها بئرا كان متعديا بحفرها وعليه شدها

(14/260)


وضمان ما تلف فيها ثم لا يخلو حال رب الارض والغاصب من أربعة أحوال.
(أحدها) أن يتفقا على شدها ليبرأ الغاصب من ضمان ما يسقط فيها، فإن لم يكن للارض بعد سدها أرش فلا شئ عليه سوى أجرة المثل في مدة الغصب، وان كان لها أرش كان عليه غرمه مع الاجرة.
(والثانية) أن يتفقا على تركها فذاك لهما وعلى الغاصب ضمان ما سقط فيها لتعديه بحفرها وليس لرب الارض من أن يطالبه بمؤونة السد وإنما له أن يأخذه متى شاء بالسد.
(والثالثة) أن يدعو رب الارض إلى سدها ويأبى الغاصب، فإن الغاصب يجبر على سدها إن كان فيه غرض صحيح لحديث سعيد بن زيد " ليس لعرق ظالم حق " قال الشافعي: والعروق أربعة عرقان ظاهران الغرس والبناء، وعرقان باطنان البئر والنهر، وان لم يكن فيه غرض صحيح، فعلى وجهين كما قلنا في قلع الغرس والبناء.
(والرابعة) أن يدعو الغاصب إلى سدها، ويأبى ربها، فإن لم يرؤه ربها من ضمان ما تلف فيها فله سدها ليستفيد به سقوط الضمان عنه، وإن أبرأه بها من الضمان ففيه وجهان.

(أحدهما)
أن للغاصب أن يسدها لان الضمان قد يجب لغيره فلم يسقط بإبرائه (والوجه الثاني) أن الغاصب يمنع من سدها لانه بالابراء يصير كالاذن له في الابتداء فيرتفع التعدي، ولا يلزمه ضمان، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ (فرع)
إذا دفن في الارض المغصوبة ميتا أخذ الغاصب بنبشه منها، وان كان فيه انتهاك حرمة الميت، لان دفنه فيها عدوان يأثم به الدافن، ثم إذا نبش ضمن أرش نقصها إن نقصت، فلو قال مالك الارض: أنا أقر الميت مدفونا في الارض إن ضمن لى نقص الارض ففى اجبار الغاصب على بذله وجهان، أحدهما يجبر على بذله حفظا لحرمة الميت المتعدى هو بدفنه فيها، والثانى: لا يلزمه ذلك لانه مدفون بغير حق.
(فرع)
قال الشافعي: وكذلك لو نقل عنها ترابا كان له أن يرد ما نقل عنها حتى يوفيه اياها بالحال التى أخذها قال المزني: غير هذا أشبه بقوله، لانه بقوله

(14/261)


لو غصب غزلا فنسجه ثوبا أو نقرة فطبعها دنانير أو طينا فضربه لبنا فهذا أثر لا عين، ومنفعة المغصوب له ولا حق في ذلك للغاصب كذلك نقل التراب عن الارض والنهر إذا لم يبن بها أثر لا عين الفعل، وصورتها في رجل غصب أرضا فنقل منها ترابا فلا يخلو حال التراب من أن يكون باقيا أو مستهلكا فإن استهلك فعليه رد مثله فإن للتراب مثلا، فإن لم يقدر على مثله لانه من تربة ليس في الناحية مثلا ضمن القيمة، وفيها وجهان.

(أحدهما)
وقد نقله المزني عن الشافعي في جامعه الكبير أن تقوم الارض وعليها التراب ثم تقوم الارض بعد أخذه منها ويضمن الغاصب ما بين القيمتين (والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر الامرين من هذا ومن قيمة التراب بعد نقله عن الارض، وان كان التراب باقيا فللغاصب ورب الارض أربعة أحوال
أحدها أن يتفقا على رده إلى الارض فيبرأ الغاصب منه ولا يغرم الا النقص ان وجد في الارض وأجرة مثلها في أكثر الحالين أجرة.
الثانية: أن يتفقا على ترك التراب خارجا عنها فذلك لهما ما لم يطرح في أرض مغصوبة، الثالثة: أن يطلب رب الارض رد التراب إليها ويمتنع الغاصب فيؤخذ جبرا برده إليها مهما كانت مؤونته.
والرابعة: أن يدعو الغاصب إلى رد التراب ويمتنع منه المالك فهو اما أن يبرئه من ضمان التراب أو لا يبرئه فإن لم يبرئه كان للغاصب أن يرد التراب وحده بغير اذنه ولا اعتبار بمنعه ليسقط عنه ضمان رده
قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
إذا غصب ثوبا فصبغه بصبغ من عنده نظرت، فان لم تزد قيمة الثوب والصبغ، ولم تنقص بأن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة فصارت قيمة الثوب مصبوغا عشرين، صار شريكا لصاحب الثوب بالصبغ لان الصبغ عين مال له قيمة، فان بيع الثوب كان الثمن بينهما نصفين، فان زادت قيمتهما بأن صارت قيمة الثوب ثلاثين حدثت الزيادة في ملكهما، لانه بفعله زاد ماله ومال غيره، وما زاد في ماله يملكه لانه حصل بعمل عمله بنفسه في ماله

(14/262)


فإن بيع الثوب قسم الثمن بينهما نصفين، وإن نقص قيمتهما بأن صار الثوب يساوى خمسة عشر حسب النقصان على الغاصب في صبغه، لانه بفعله حصل النقص، فان بيع الثوب بخمسة عشر دفع إلى صاحب الثوب عشرة، وإلى الغاصب خمسة فان صارت قيمة الثوب عشرة حسب النقص على الغاصب، فان بيع الثوب بعشرة دفع العشرة كلها إلى صاحب الثوب، لانه إما أن يكون سقط بدل الصبغ بالاستهلاك، أو نقص به قيمة الثوب فلزمه أن يجبر ما نقص من قيمة الثوب، فان صارت قيمة الثوب ثمانية لم يستحق بصبغه شيئا لانه استهلكه في الثوب،
ويلزمه درهمان لانه نقص بصبغه من قيمة الثوب درهمان.

(فصل)
إذا استهلك ثمن الصبغ لم يبق للغاصب في الثوب حق، لان ماله هو الصبغ وقد استهلكه، وان بقى للصبغ ثمن فطلب الغاصب استخراجه أجيب إلى ذلك لانه عين ماله فكان له أخذه كما لو غرس في أرض مغصوبة غراسا ثم أراد قلعه، فان نقص قيمة الثوب باستخراج الصبغ ضمن ما نقص لانه حصل بسبب من جهته، وان طلب صاحب الثوب استخراج الصبغ وامتنع الغاصب، ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يجبر، وهو قول أبى العباس، لان الصبغ يهلك بالاستخراج ولا حاجة به إلى ذلك، لانه يمكنه أن يستوفى حقه بالبيع، ولا يجوز أن يتلف مال الغير.

(والثانى)
يجبر، وهو قول أبى اسحاق وأبى على بن خيران، لانه عرق ظالم لا حق له فيه فأجبر على قلعه كالغراس في الارض المغصوبة وان بذل المغصوب منه قيمة الصبغ ليتملكه وامتنع الغاصب لم يجبر على القبول، لانه اجبار على بيع ماله، وان أراد صاحب الثوب البيع وامتنع الغاصب بيع، لانه ملك له فلا يملك الغاصب أن يمنعه من بيعه بتعديه، وان أراد الغاصب البيع وامتنع صاحب الثوب ففيه وجهان.
أحدهما يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغة، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والثانى: لا يجبر لانه متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك

(14/263)


رب الثوب عن ثوبه، وإن وهب الغاصب الصبغ من صاحب الثوب ففيه وجهان أحدهما: يجبر على قبوله، لانه لا يتميز من العين فلزمه قبوله كقصارة الثوب، والثانى: لا يجبر لانه هبة عين فلا يجبر على قبولها.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: ولو كان ثوبا فصبغه فزاد في قيمته خمسه فقال للغاصب: إن شئت أن تستخرج الزعفران على أنك ضامن لما نقص من الثوب وإن شئت فأنت شريك في الثوب لك ثلثه ولصاحب الثوب ثلثاه، ولا يكون له غير ذلك، وهكذا كل صبغ كان قائما فزاد فيه، وإن صبغه بصبغ يزيد ثم استحق الصبغ فإنما يقوم الثوب، فإن كان الصبغ زائدا في قيمته شيئا قل أو كثر فهكذا وإن كان غير زائد في قيمته قيل له: ليس لك ههنا مال زاد في مال الرجل فتكون شريكا به، فإن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص الثوب، وإن شئت فدعه.
وصورتها في رجل غصب ثوبا فصبغه فلا يخلو حال الصبغ من ثلاثه أقسام أحدها.
أن يكون للغاصب، والثانى.
أن يكون لرب الثوب، والثالث.
أن يكون لاجنبي، فإن كان الصبغ للغاصب فهو على ثلاثة أقسام أحدها.
أنه يمكن استخراجه.
والثانى.
لا يمكن.
والثالث.
أن يمكن استخراج بعضه ولا يمكن استخراج جميعه، فإن لم يمكن استخراجه لم يخل ثمنه بعد الصبغ من ثلاثة أقسام إما أن يكون بقدر قيمته قبل الصبغ أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فإن كان بقدر ثمنه قبل الصبغ مثل أن يكون قيمة الثوب عشرة دراهم وقيمة الصبغ عشرة دراهم فيباع الثوب بعد صبغه بعشرة دراهم فهى بأسرها لرب الثوب لاستهلاك الصبغ إما بذهاب قيمته، وإما بجبره نقص الثوب.
وان كان ثمنه بعد البيع أقل مثل أن يساوى بعد الصبغ ثمانية دراهم فيأخذها رب الثوب ويرجع على الغاصب بنقصه وهو درهمان ليستكمل بهما جميع الثمن، ويصير صبغ الغاصب ونقص أجزاء الثوب مستهلكين، وان كان ثمنه بعد الصبغ أكثر فلا يخلو حال الزيادة على ثمنه من ثلاثة أقسام، إما أن يكون بقدر ثمن الصبغ، أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فان كانت بقدر ثمن

(14/264)


الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ عشرين درهما فيأخذ رب الثوب منها عشرة التى هي ثمن ثوبه ويأخذ الغاصب عشرة هي ثمن صبغه، ولم يحصل فيها نقص لا في الثوب ولا في الصبغ، وان كانت الزيادة أقل من ثمن الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ خمسة عشر درهما فيأخذ رب الثوب عشرة ثمن ثوبه كاملا ويأخذ الغاصب الخمسة الباقية ويصير النقص مختصا بصبغه لضمانه نقص الثوب.
وان كانت الزيادة أكثر من ثمن الصبغ فتكون الزيادة بينهما بقدر ماليهما بحسب قانون النسبة المعروف في الرياضيات، وإذا كانت الزيادة بينهما على قدر المالين لم يختص الغاصب بها، وان كانت حادثة بعمله، لانه عمل في ماله ومال غيره فلم يحصل له عوض عن عمله في مال غيره وحصل له عوض عمله في مال نفسه، فان دعا أحدهما إلى بيعه وابى الآخر نظر في الداعي إلى البيع، فان كان رب الثوب فله ذاك، وليس للغاصب لتعديه بالصبغ أن يمنعه من البيع فيستديم حكم الغصب، وان دعا الغاصب إلى بيعه ليتوصل إلى ثمن صبغه وأبى رب الثوب، فان بذل له مع إبائه ثمن الصبغ الذى يستحقه لو بيع الثوب فله ذاك ولا يجبر على البيع.
وان لم يبذل له الصبغ ففيه وجهان ذكرهما أبو على الطبري في افصاحه، أحدهما.
أنه يجبر رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والوجه الثاني أنه لا يجبر رب الثوب على بيعه لان الغاصب متعد بصبغه فلم يستحق بتعديه ازالة ملك رب الثوب عن ثوبه فهذا الكلام في الصبغ إذا لم يمكن استخراجه، ولا فرق بين أن يكون سوادا وبين أن يكون غيره من الالوان.
وقال أبو حنيفة.
ان كان الصبغ سوادا فلا شئ للغاصب فيه وكان رب الثوب مخيرا بين أن يأخذه ولا شئ عليه للصبغ وبين أن يعطيه للغاصب
ويأخذ منه قيمته، وان كان الصبغ حمرة أو صفرة فهو مخير بين أن يأخذه وعليه قيمة الصبغ وبين أن يعطيه الغاصب ويأخذ منه قيمه الثوب فجعل له في الاصباغ كلها أن يأخذ من الغاصب قيمته ان شاء فله أن يأخذه مصبوغا لكن ان كان

(14/265)


الصبغ سوادا فلا قيمة عليه له، وإن كان لونا غيره فعليه قيمته.
واختلف أصحابه لم خص السواد بإسقاط القيمه، فقال بعضهم لما فيه من إتلاف أجزاء الثوب.
وقال آخرون: بل قاله في آخر الدولة الاموية حين كان السواد شعارا للعباسية في نمو دعوتها وكثرة أتباعها، فقام أبو حنيفة واعتبر السواد نقصا وشيئا مذموما، فأما بعد أن صار شعار الدولة العباسية فقد زاد على غيره من الالوان.
ولنا أن تمليك الغاصب الثوب بأخذ قيمته منه فخطأ، لان بقاء العين المغصوبة يمنع من أخذ قيمتها من الغاصب قياسا عليه لو كان غير مصبوغ، ولان من لم تجب عليه قيمة الثوب قبل صبغه لم يجب عليه قيمته بعد صبغه كالاجير، ولان الصبغ لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون نقصا أو غير نقص، فإن كان نقصا ضمنه لا غير، وإن لم يكن نقصا فأولى أن لا يضمن وأما القسم الثاني وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراجه فللغاصب ورب الثوب أربعة أحوال (أحدها) ان يتفقا على تركه في الثوب وبيعه مصبوغا فيجوز ويكون القول فيه بعد بيعه كالقول فيما لا يمكن استخراج صبغه.
والحال الثانية: ان يتفقا على استخراجه منه فذلك جائز ليصل الغاصب إلى صبغه ورب الثوب إلى ثوبه، فإن استخرجه وأبى في الثوب نقصا ضمنه به.
والحال الثالثة: أن يدعو الغاصب إلى استخراجه ويدعو رب الثوب إلى تركه فللغاصب أن يستخرجه سواء نفعه أو لم ينفعه، لانها عين مملوكة فعلى هذا يكون
ضامنا لنقص الثوب ونقص الزيادة الحادثة فيه بدخول الصبغ لان رب الثوب قد ملكها ففوتها الغاصب عليه باستخراج صبغه مثاله: أن تكون قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة فيساوى الثوب مصبوغا ثلاثين وبعد استخراج الصبغ منه بخمسة فيضمن الغاصب عشرة خمسة منها هي نقص الثوب قبل صبغه، وخمسة أخرى هي نقص قسطه من الزيادة الحادثة بعد صبغه والحال الرابعة: أن يدعو رب الثوب إلى استخراجه ويدعو الغاصب إلى تركه، فهذا على وجهين
(أحدهما)
أن يترك استبقاء لملك الصبغ فيه فينظر،

(14/266)


فإن لم يكن الصبغ قد أحدث زيادة تفوت باستخراج الصبغ منه ففيه وجهان حكاهما ابن أبى هريرة
(أحدهما)
وهو اختيار أبى حامد أنه لا يجبر على استخراجه إذا امتنع لما فيه من استهلاك ماله مع قدرة رب الثوب على الوصول إلى استيفاء حقه بالبيع.
قال وهو كلام الشافعي حيث قال: إن قيل للغاصب إن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص، وإن شئت فأنت شريك بما زاد الصبغ فحصل الخيار إليه.
والوجه الثاني وهو الاصح: أنه يجبر على أخذه لانه عرق ظالم لا حرمة له في الاستبقاء فصار كالغرس والبناء: ويكون تخيير الشافعي له في الترك والاستخراج عند رضا رب الثوب بالترك، فعلى هذا إذا استخرجه ضمن نقص الثوب قبل الصبغ.
وأما القسم الثالث وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراج بعضه، ولا يمكن استخراج بعضه فالقول فيما لا يمكن استخراجه كالقول في القسم الاول، والقول في تمكين استخراجه كالقول في القسم الثاني، فيجتمع في هذا القسم حكم
القسمين الماضيين على ما بيناه تقسيما وشرحا، فهذا حكم الصبغ إذا كان للغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فان غصب ساجا فأدخله في البناء أو خيطا فخاط به شيئا نظرت فإن عفن الساج وبلى الخيط لم يؤخذ برده لانه صار مستهلكا فسقط رده ووجبت قيمته، وإن كان باقيا على جهته نظرت فان كان الساج في البناء والخيط في الثوب وجب نزعه ورده، لانه مغصوب يمكن رده فوجب رده، كما لو لم يبن عليه ولم يخط به، وإن غصب خيطا فخاط به جرح حيوان، فان كان مباح الدم كالمرتد والخنزير والكلب العقور وجب نزعه ورده، لانه لا حرمة له فكان كالثوب وان كان محرم الدم، فإن كان مما لا يؤكل كالآدمي والبغل والحمار وخيف من نزعه الهلاك لم ينزع، لان حرمة الحيوان آكد من حرمة المال، ولهذا يجوز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان ولا يجوز أخذه لحفظ المال، فلا يجوز هتك حرمة الحيوان لحفظ المال.

(14/267)


وإن كان مما يؤكل ففيه قولان
(أحدهما)
يجب رده، لانه يمكن نزعه بسبب مباح فوجب رده كالساج
(والثانى)
لا يجب، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذبح الحيوان لغير مأكلة
(فصل)
وان غصب لوحا وأدخله في سفينة وخاف من نزعه الغرق، فإن كان فيها حيوان - لم ينزع لما ذكرناه في الخيط، وإن كان فيها مال غير ماله، - فإن كان لغير الغاصب - لم ينزع، لانه إتلاف مال من له حرمة بجناية غيره فلم يجز.
وان كان المال للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
ينزع كما تنقض الدار لرد الساج
(والثانى)
لا ينزع لانه يمكن رده من غير إتلاف المال، بأن تجر إلى
الشط بخلاف الساج في البناء.
وعلى هذا إذا أراد المالك أن يطالب بالقيمة كان له ذلك، لانه حيل بينه وبين ماله فجاز له المطالبة بالبدل، كما لو غصب منه عبدا فأبق، وإن اختلطت السفينة التى فيها اللوح بسفن للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
ينقض الجميع كما ينقض جميع السفينة
(والثانى)
لا ينقض ما لم تتعين، لانه إتلاف مال لم يتعين فيه التعدي
(فصل)
وإن غصب جوهرة فبلعتها بهيمة له، فان كانت البهيمة مما لا تؤكل ضمن قيمة الجوهرة، لانه تعذر ردها فضمن البدل، وإن كانت مما تؤكل ففيه وجهان بناء على القولين في الخيط الذى خيط به جرح ما يؤكل
(فصل)
وإن غصب فصيلا فأدخله إلى داره فكبر ولم يخرج من الباب نقض الباب لرد الفصيل كما ينقض البناء لرد الساج، وإن دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه نقض الباب وعلى صاحب الفصيل ضمان ما يصلح به الباب، لانه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب
(فصل)
وان غصب دينارا وطرحه في محبرة كسرت المحبرة ورد الدينار، كما ينقض البناء لرد الساج، وإن وقع في المحبرة من غير تفريط من صاحبها

(14/268)


كسرت وعلى صاحب الدينار قيمة المحبرة، لانها كسرت لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب المحبرة.

(فصل)
وان غصب عينا وباعها وقبضها المشترى وتصرف فيها وتلفت عنده، فللمالك أن يضمن الغاصب، لانه غصبها.
وله أن يضمن المشترى لانه قبض ما لم يكن له قبضه فصار كالغاصب
فإن ضمن الغاصب العين ضمنه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى أن تلف في يد المشترى، لانه من حين الغصب إلى حين التلف في ضمانه.
وإن ضمن المشترى ضمنه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تلف لانه لم يدخل في ضمانه قبل القبض، فلا يضمن ما قبله.
فإن بدأ فضمن المشترى نظرت، فان كان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمنه على الغاصب، لانه غاصب تلف المغصوب عنده فاستقر الضمان عليه كالغاصب من المالك إذا تلف عنده فان لم يعلم نظرت فيما ضمن، فان التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب، لان الغاصب لم يغره، بل دخل معه على أن يضمنه، وان لم يلتزم ضمانه بالعقد نظرت، فان لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع على الغاصب، لانه غره ودخل معه على أن لا يضمنه.
وان حصلت له في مقابلته منفعة - كالاجرة والمهر وأرش البكارة - ففيه قولان:
(أحدهما)
يرجع به لانه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه
(والثانى)
لا يرجع، لانه حصل له في مقابلته منفعة وان بدأ فضمن الغاصب فما لا يرجع به المشترى على الغاصب إذا غرم رجع به الغاصب على المشترى، وما يرجع به المشترى على الغاصب لا يرجع به، لانه لا فائدة في أن يرجع عليه ثم يرجع المشترى به عليه

(14/269)


(فصل)
وإن غصب من رجل طعاما فأطعمه رجلا فللمالك أن يضمن الغاصب لانه غصبه، وله أن يضمن الآكل لانه أكل ما لم يكن له أكله فإن ضمن
الآكل نظرت فان علم أنه مغصوب فأكله لم يرجع على الغاصب بما ضمن لانه غاصب استهلك المغصوب فلم يرجع بما ضمنه فان أكل ولم يعلم أنه مغصوب ففيه قولان.

(أحدهما)
يرجع لانه غره وأطعمه على أن لا يضمنه.

(والثانى)
لا يرجع لانه حصل له منفعة، فان أطعمه المالك فان علم أنه له برئ الغاصب من الضمان، لانه استهلك ماله برضاه مع العلم به، وإن لم يعلم ففيه قولان
(أحدهما)
يبرأ الغاصب لانه عاد إلى يده فبرئ الغاصب من الضمان، كما لو رده عليه
(والثانى)
لا يبرأ لانه إنما ضمن، لانه أزال يده وسلطانه عن المال وبالقديم إليه ليأكله لم تعد يده وسلطانه، لانه لو أراد أن يأخذه لم يمكنه فلم يزل الضمان.
(الشرح) قال الشافعي: ولو كان لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا أخذ بقلعه، وهذا كما قال: إذا غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه سفينة أو دارا أخذ بهدم بنائه اللوح بعينه إلى صاحبه، وبه قال مالك وأهل الحرمين، وقال أبو حنيفة وأهل العراق يدفع القيمة ولا يجبر على هدم البناء لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، فمن ضار أضر الله به، ومن شاق شق الله عليه وفى أخذه بهدم بنائه أعظم إضرار به.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا إنى بعثت بالحنيفية السمحة.
وفى أخذ القيمة منه تيسير، وفى هدم بنائه تعسير منهى عنه، ولانه مغصوب يستضر برده فلم يجبر عليه كالخيط إذا خاط به جرح حيوان، ولانه مغصوب لا يملك رده إلا باستهلاك مال فلم يجب رده كما لو كان في السفينة مال لغير الغاصب ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " فلزمه رد اللوح، وروى عبد الله بن مسعود مرفوعا: لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه، وذلك لشدة ما حرم الله مال المسلم على المسلم، وهذا خبر
ظاهره كالنص، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إن لصاحب الحق يدا ومقالا،

(14/270)


ولان كل مغصوب كان له رده وجب عليه رده كالذى لم يبن عليه طردا، والخيط في جرح الحيوان عكسا، ولانه شغل المغصوب بما لا خير فيه له فوجب أن يلزمه رده، كما لو كانت أرضا فزرعها أو غرسها، ولانه كل ما لو احتاج ابتداء إليه لم يجبر مالك عليه، ووجب إذا غصب أن يجبر على رده إليه كالارض طردا والخيط للجرح عكسا ولان دخول الضرر على الغاصب لا يمنع من رد المغصوب كما لو حلف بعتق عبده ألا يرد ما غصبه فإن عليه رد الغصب وعتق العبد.
والجواب عن حديث: لا ضرر ولا ضرار فهو أنه مشترك الدليل، لان في منع المالك منه إضرارا به فكان دخول الضرر على الغاصب ورفعه عن المغصوب أولى من دخوله على المغصوب منه في تيسير أمر الغاصب ورفعه عنه والاستهانة بحق المغصوب وحماية متعلقات الغاصب.
والجواب عن حديث: يسروا ولا تعسروا، فمن وجهين.

(أحدهما)
استعماله في المغصوب منه وتيسير أمره برد ماله أولى من استعماله في الغاصب في تمليكه غير ماله.

(والثانى)
أن التيسير معصية، والغاصب عاص لا يجوز التيسير عليه لما فيه من الذريعة إلى استدامة المعصية.
والجواب عن قياسهم على الخيط في جرح الحيوان فمن وجهين.
أحدهما: أنه معارضة الاصل لان المعنى في الخيط أنه ليس له رده، فلم يجب عليه رده، وفى اللوح له رده.
والثانى: أنه إذا احتاج ابتداء إليه أجبر المالك عليه لحرمة الحيوان وتقديمها على حرمة الملك.
فإذا تقرر أن نقض البناء لرد المغصوب واجب فسواء كان البناء قليلا أو كثيرا أو سواء كانت قيمة اللوح قليلة أو كثيرة حتى لو كانت قيمة اللوح درهما
وقيمة البناء ألف درهم أخذ بقلعه حتى يخلص اللوح لربه، إلا أن يراضيه على أخذ ثمنه، ثم إذا استرجع اللوح لزمه أجرة مثله ان كانت له أجرة وأرش نقصه ان حدث به نقص فإن كان المغصوب حجرا فبنى عليه منارة مسجد أخذ بنقض المنارة لرد الحجر عليه ثم غرم نقض المنارة للمسجد، وان كان هو المتطوع ببنائها لخروج ذلك عن ملكه، وان كانت السفينة سائرة في البحر، فان كان اللوح

(14/271)


على سطحها أو على مكان مرتفع منها وأمكن أخذه أخذ منها، وإن كان في أسفلها بحيث لو أخذ منها هلكت وما فيها نظر، فإن كان فيها حيوان لم يجز أن يقلع صيانة للنفوس سواء كانت آدمية أو عجماء، وسواء كانت العجماوات للغاصب أو لغيره، لان للحيوان حرمتين، حرمة نفسه وحرمة صاحبه، وإن لم يكن فيها حيوان وكان فيها مال نظر، فإن كان لغير الغاصب لم يجز أخذ اللوح منها لما في أخذه من إتلاف مال له حرمة في الحفظ والحراسة وان كان للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
يؤخذ اللوح منها، وإن تلف مال الغاصب فيها لذهاب حرمته بتعديه كما يذهب ماله في هدم بنائه.
(والوجه الثاني) أنه لا يجوز أن يؤخذ منها لانه قد يمكن أخذه بعد الدخول إلى الشط من غير استهلاك ما فيها من مال، وليس كالبناء الذى لا يقدر على اللوح إلا بعد استهلاكه، فعلى هذا يقال لرب اللوح: أنت بالخيار بين أن تصبر باللوح حتى تصل السفينة إلى الشط فتأخذ لوحك وبين أن تأخذ في الموضع قيمة لوحك، فلو اختلطت السفينة التى فيها اللوح بعشر سفن للغاصب ولم يوصل إليه إلا بهدم جميعها ففيه وجهان.
أحدهما: تهدم جميعها حتى يوصل إليه.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز هدم شئ منها إلا أن يتعين اللوح المغصوب فيه
لانه لا يجوز أن يستهلك عليه مال إلا بتعيين المتعدى فيه.
فإذا عمل اللوح المغصوب بابا، أو حديدا فعمله درعا لم يملكه في هذه الاحوال وجعله أبو حنيفة مالكا لذلك بعمله وذلك من أقوى الذرائع والمغريات للاقدام على المغصوب، وإذا لم يملك الارض المغصوبة ببنائه وبغرسه فيها والارض عندهم غير مغصوبة فلان لا يملك غيرها من المغصوب عندنا وعندهم أولى، وإذا كان كذلك فللمغصوب منه استرجاعه منه معمولا، ولا شئ للغاصب إلا أن يكون قطع ركبها أو مسامير أو آلات بأعيانها ركبها فيها، فيسترجعها ويضمن نقص المغصوب.
(فرع)
قال الشافعي: ولو كان خيطا فخاط به ثوبا، وكذلك فان خاط به

(14/272)


جرح إنسان أو حيوان ضمن الخيط ولم ينزعه، قال الماوردى: وصورتها فيمن غصب خيطا فخاط به شيئا فهذا على ضربين.

(أحدهما)
أن يكون قد خاط به غير حيوان كالثياب فيؤخذ الغاصب بنزعه ورده على مالكه وأرش نقصه إن نقص.
(والضرب الثاني) أن يكون قد خاط به حيوانا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون الحيوان ميتا عند المطالبة بالخيط فينظر، فان كان الحيوان مما له حرمة كالآدمي نظر، فان لم يفحش حاله بعد نزع الخيط منه نزع، وإن فحش لم ينزع لقوله صلى الله عليه وسلم حرمة ابن آدم حيا كحرمته ميتا.
والضرب الثاني: أن يكون حيا فعلى ضربين.

(أحدهما)
أن يكون مباح النفس من آدمى أو بهيمة كالمرتد والخنزير والكلب العقور فيؤخذ بنزعه لانه مما لا حرمة لحفاظ نفسه ثم يغرم بعد نزعه أرش نقصه (والضرب الثاني) أن يكون محظور النفس فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون
آدميا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يخاف من نزعه التلف فيقر الخيط ولا ينزع سواء كان الغاصب أو غيره لما يلزم من حراسة نفسه بعد غصبه، فأولى أن يجبر على تركه فعلى هذا يغرم قيمته.
والضرب الثاني: أن يأمن التلف، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يأمن الضرر وشدة الالم فهذا ينزع منه ويرد على مالكه مع أرش نقصه.
(والضرب الثاني) أن يخاف ضررا أو شدة ألم وتطاول مرض إلخ اه.
قلت: ومثل الخيط شاش الجبائر والجص وجميع ما يستعمل في الجراح والكسور والرضوض لدى الاطباء والصيدلانية، وكذلك جسور الاسنان والاضراس الصناعيه وأسلاكها وأقماعها وبدائلها فانها جميعا عليها ما مضى من حكم الخيط نزعا وضررا وحرمه للمستفيد منها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن غصب من رجل شيئا ثم رهنه عنده أو أودعه أو آجره منه وتلف عنده فان علم أنه له برئ الغاصب من ضمانه لانه أعاده إلى يده وسلطانه،

(14/273)


وان لم يعلم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يبرأ الغاصب من الضمان لانه عاد إلى يده
(والثانى)
لا يبرأ لانه لم يعد إلى سلطانه، وانما عاد إليه على أنه أمانة عنده، وان باعه منه برئ من الضمان علم أو لم يعلم، لان قبضه بابتياع يوجب الضمان فبرئ به الغاصب من الضمان.

(فصل)
وان غصب شيئا فرهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ الغاصب، وقال المزني: يبرأ لانه أذن له في امساكه فبرئ من الضمان كما لو أودعه، والمذهب الاول، لان الرهن يجتمع مع الضمان وهو إذا رهنه شيئا فتعدى فيه فلا ينافى الضمان.

(فصل)
وان غصب حرا وحبسه ومات عنده لم يضمنه لانه ليس بمال فلم يضمنه باليد وان حبسه مدة لمثلها أجرة فان استوفى فيها منفعته لزمته الاجرة لانه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه الضمان كما لو أتلف عليه ماله أو قطع أطرافه، وان لم يستوف منفعته ففيه وجهان.

(أحدهما)
تلزمه الاجرة لان منفعته تضمن بالاجارة فضمنت بالغصب كمنفعة المال
(والثانى)
لا تلزمه لانها تلفت تحت يده فلا يضمنه الغاصب بالغصب كأطرافه وثياب بدنه.

(فصل)
وان غصب كلبا فيه منفعة لزمه رده على صاحبه لانه يجوز اقتناؤه للانتفاع به فلزمه رده فان حبسه مدة لمثلها أجرة، فهل تلزمه الاجرة فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ اجارته.

(فصل)
وان غصب خمرا نظرت، فان غصبها من ذمى لزمه ردها عليه لانه يقر على شربها فلزمه ردها عليه وان غصبها من مسلم ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه ردها عليه لانه يجوز أن يطفئ بها نارا أو يبل بها طينا فوجب ردها عليه.
والثانى: لا يلزمه وهو الصحيح، لما روى أن أبا طلحه رضى الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أيتام ورثوا خمرا فأمره صلى الله عليه وسلم أن يهرقها فان أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه،

(14/274)


ولان ما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل كالميتة والدم فإن صار خلا لزمه رده على صاحبه لانه صار خلا على حكم ملكه فلزمه رده إليه فإن تلف ضمنه لانه مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب فضمنه.

(فصل)
وان غصب جلد ميتة لزمه رده لان له أن يتوصل إلى تطهيره بالدباغ فوجب رده عليه فإن دبغه الغاصب ففيه وجهان أحدهما يلزمه رده كالخمر إذا صار خلا والثانى لا يلزمه لانه بفعله صار مالا فلم يلزمه رده
(فصل)
وان فصل صليبا أو مزمارا لم يلزمه شئ لان ما أزاله لا قيمة له والدليل عليه ما روى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم بيع الخمر وبيع الخنازير وبيع الاصنام وبيع الميتة فدل على أنه لا قيمة له وما لا قيمة له لا يضمن فان كسره نظرت فاكان إذا فصله يصلح لمنفعه مباحة وإذا كسره لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لانه أتلف بالكسر ماله قيمة فلزمه ضمانه فان كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه شئ لانه لم يتلف ماله قيمة.
(الشرح) الاحكام: إذا غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا حكمها حكم الخيط الذى خاط به جرحها، ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من قيمة الحيوان ذبح الحيوان وردت إلى مالكها، وضمان الحيوان على الغاصب وفارق الخيط لانه أقل قيمة من الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففى ذبح الحيوان رعاية حق المالك برد عين ماله ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه.
وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يمكن إخراجها إلا ذبحها ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل، وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لانه لتخليص ماله، إلا أن يكون التفريط من صاحب الشاة يكون يده عليها فلا شئ على صاحب الجوهرة لان التفريط من صاحب الشاة.
فإذا مرت بهيمة رجل في سوق فأتلفت جوهرة رجل قال الماوردى في الحاوى والعمراني في البيان والرويانى في البحر ما حاصله: لم يخل حال البهيمة من أن يكون معها مالكها أو لا، فإن لم يكن معها فلا ضمان عليه في الجوهرة،

(14/275)


لانه غير ضامن لما جنته، فلو سأله صاحب الجوهرة بيع البهيمة ليتوصل منها إلى جوهرته، أو صيرورتهما معا في ملكه لم يجبر المالك على البيع.
وقال أبو حنيفة: إن كانت قيمة الجوهرة أكثر من قيمة البهيمة أجبر صاحبها على أخذ قيمتها وإن كانت قيمة الجوهرة أقل لم يجبر.
وهذا فاسد، استدلالا بقياسين أحدهما: أن ما لا يستحق تملكه باستهلاك الاقل لم يستحق تملكه باستهلاك الاكثر قياسا على كسرها إناء أو أكلها طعاما - والثانى - أنه لا يستحق تملكه مع تلف شئ لم يستحق تملكه مع بقائه، قياسا على ما قيمته أقل.
وان كان صاحبها معها كان ضامنا لها عندنا سواء كانت البهيمة شاة أو بعيرا وقال أبو على بن أبى هريرة: ان كانت البهيمة بعيرا ضمن، وإن كان شاة لم يضمن، وفرق بينهما بأن المألوف في البعير النفور فلزم منعه ومراعاته، والمألوف في الشاة السكون فلم يلزم منعها ومراعاتها.
وهذا خطأ عند الاصحاب لان سقوط مراعاة الشاة إنما كان لان المعهود منها السلامة، فإذا أفضت إلى غير السلامة لزم الضمان كما أبيح للرجل ضرب زوجته وللمعلم ضرب الصبى لان عاقبته السلامة، فإذا أفضى إلى التلف ضمنا، فإذا ثبت أن ذلك مضمون عليه نظر في البهيمة فان كانت غير مأكولة اللحم غرم القيمه لتحريم ذبحها وتعذر الوصول إليها، وان كانت مأكولة اللحم فعلى قولين.
أحدهما: تذبح عليه وتؤخذ الجوهرة من جوفها، والثانى: لا يجوز ذبحها وتؤخذ منه قيمة الجوهرة.
فعلى هذا لو ماتت البهيمة أو ذبحها لمأكله فوصل إلى الجوهرة رجع بها المالك ورد ما أخذه من القيمة: ولنا بناء على ما تقدم، وعلى ما وصل إليه الطب من عمل البنج للحيوان
واجراء جراحة بيطرية لاستخراج الجوهرة أنه يجوز ذلك ويبذل صاحب الجوهرة مؤونة الجراحة والنقاهة حتى تبرأ، فإذا كان صاحبها مفرطا كان عليه ذلك.
فإذا كان صاحب البهيمة مغتصبا للجوهرة على ما بنى المصنف فصله فالضمان عليه.

(14/276)


(فرع)
إذا تبايعا بهيمة وابتلعت ثمنها فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك بعد قبض الثمن فالبيع صحيح، سواء كان الثمن معينا أو في الذمة أجراه المشترى منه بالدفع، ثم ينظر في البهيمة فإن كانت في يد البائع فالثمن غير مضمون لان ما جنته في يده مضمون عليه والثمن ملك له.
وعليه تسليم البهيمة، فان قدر على الثمن بموت أو ذبح اختاره المشترى لمأكلة رد على البائع وإن كانت البهيمة في يد المشترى فالثمن مضمون عليه للبائع، فان كانت غير مأكولة غرم مثله، وإن كانت مأكولة اللحم فهل تذبح لاخذ الثمن منها أم لا؟ على ما مضى من القولين.
والضرب الثاني: أن تبتلع الثمن قبل قبضه فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون في الذمة لم يتعين بالعقد فالبيع لا يبطل، وهو باق في ذمة المشترى.
ثم ينظر، فان كانت البهيمة عند ذلك في يد المشترى فما ابتلعته غير مضمون على واحد منهما.
أما البائع فلزوال يده بالتسليم.
وأما المشترى فلانه ماله، وجناية البهيمة من ضمانه، وإن كانت في يد البائع فهو مضمون عليه، فان كانت البهيمة مما لا تؤكل لزمه غرم مثله.
فعلى هذا يكون له الثمن وعليه مثله.
وإن كانت البهيمة مأكولة فهل تذبح أم لا.
على القولين، فان قيل لا تذبح لزمه غرم مثل الثمن وتقاضاه، ولا خيار للمشترى في فسخ البيع لان ذبح البهيمة قد استحق في يد البائع، وذلك عيب حادث وهو مضمون عليه فلاجله ما استحق
المشترى خيارا به.
وإن كان هو المستحق لما أوجب العيب والضرب الثاني: أن يكون الثمن معيبا فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن تكون البهيمة غير مأكولة فالبيع باطل، لان تلف الثمن المعين قبل قبضه فبطل البيع وهو متعذر القدرة عليه كالتالف.
ثم ينظر فان كانت البهيمة في يد المشترى فهو تالف من ماله والبائع غير ضامن له وعلى المشترى رد البهيمة على البائع، فان قدر على الثمن بموتها رد على المشترى، وان كانت في يد البائع فالثمن مضمون عليه ويغرم مثله (فرع)
إن غصب فصيلا - وهو ولد الناقة سمى بذلك لفصله عن أمه - فأدخله

(14/277)


حظيرته فكبر حتى استحال خروجه من باب الحظيرة، أجبر على نقض الباب أو البناء لرد الفصيل على ما مضى من نقض السفينة لرد اللوح ونقض المنارة لرد الحجر.
أما إذا دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه بأن دخل الحظيرة فاختلط بفصلانها وكبر وتعذر إخراجه من الحظيرة، نقض الباب أو البناء وعلى صاحب الفصيل إعادة الباب أو الحائط كما كان فإذا مرت بهيمة بقدر فول فأدخلت رأسها فيه فلم يخرج الا بكسر القدر أو ذبح البهيمة فلا يخلو حالهما من أربعة أقسام (أحدها) أن يكون صاحب القدر متعديا في وضعها في غير حق - بأن أشغل بها الطريق وعرضها لطريق المارة مكشوفة بغير غطاء ولا حراسة - وكان صاحب البهيمه غير متعد فالواجب كسر القدر لتخليص البهيمه.
والقسم الثاني: أن يكون صاحب البهيمة متعديا لادخالها في غير حق وصاحب القدر غير متعد فيكون تخليص البهيمه مضمونا على صاحبها لتعديه بها، فإن كانت مما لا يؤكل كسرت القدر لان لنفس البهيمه حرمة في حراستها، ثم كسر
القدر مضمونا على صاحبها، وإن كانت مما تؤكل فعلى قولين بناء على جواز ذبحها في تخليص ما جنته.

(أحدهما)
تذبح ويخرج رأسها من القدر ولا يجوز كسرها.
والقول الثاني: لا يجوز ذبحها وتكسر القدر لتخليص رأسها ثم يضمن أرش كسرها.
والقسم الثالث: أن يكون كل واحد منهما غير متعد فالتخليص مضمون على صاحب البهيمه لا بالتعدي ولكن لاستصلاح ملكه وعليه ضمان مؤونة ذلك فان لم تكن البهيمه مأكولة كسرت القدر وضمن كسرها، فان كانت مأكولة فعلى قولين، في ذبحها أو كسر القدر وضمانه على صاحبها والقسم الرابع: أن يكون كل واحد منهما متعديا فالتخليص مضمون عليهما لاشتراكهما في التعدي كالمتصادمين، فان كانت البهيمة غير مأكولة كسرت القدر وضمن صاحب البهيمه نصف الكسر وأهدر النصف الباقي، وان كانت مأكولة فان قيل لا يجوز ذبحها كسرت القدر وضمن صاحب البهيمه أرش القدر كله لا نصفه.
فان قال صاحب القدر: بل تذبح البهيمه لاضمن نصف النقص

(14/278)


في ذبحها نظر البادئ منهما بطلب التخليص، فجعل ذلك في جنبته.
(فرع)
وإن غصب دينارا أو جوهرة فوقع أو ألقاها في محبرته أو أخذ دينارا لغيره فسها فوقع في محبرة كسرت ورد الدينار أو الجوهرة كما ينقض البناء أو تهدم السفينة لرد اللوح على ما مضى.
وكذلك إن كان درهما أو أقل منه.
وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان عليه لانه لتخليص ماله.
وإن غصب دينارا فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو غير فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لانه السبب في كسرها، وإن كان كسرها أكثر
ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر.
وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدوانا فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لان صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لازالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها وما ترتب على قذف الدينار من رشاش الحبر على الاوراق أو الكتب أو الثياب فعليه ضمان قيمته تالفا أو أرشه معيبا، وأجاز أصحاب أحمد إجبار مالك المحبرة على كسرها لرد دينار الغاصب وتضمين الغاصب قيمة المحبرة.
(فرع)
قال الشافعي ولو باعه عبدا وقبض المشترى ثم أقر البائع أنه غصبه من رجل، فإن أقر المشترى نقضنا البيع ورددناه إلى ربه، وقال في موضع آخر وإن باعه وقبضه المشترى ثم أعتقه فقامت بينة بغصبه وكان المغصوب أو ورثته قياما رد العتق لان البيع كان فاسدا ويرد إلى المغصوب.
وإن لم تكن بينة وصدق الغاصب والمشترى المدعى أنه غصبه لم يقبل قول واحد منهما في العتق ومضى العتق ورددنا المغصوب على الغاصب بقيمة العبد في أكثر ما كان قيمة.
وقال: ولو كان المشترى أعتقه ثم أقر هو والبائع أنه للمغصوب منه لم يقبل قول واحد منهما في رد العتق وللمغصوب القيمة إن شاء أخذناها له من المشترى المعتق، ويرجع المشترى المعتق على الغاصب بما أخذ منه لانه أقر أنه باعه مالا يملك، وهذا كما قال: إذا كان مشترى العبد قد أعتقه ثم أحضر من ادعاه ملكا وأن البائع أخذه غصبا كلف البينة قيل سؤالهما.
اه

(14/279)


والعبد المغصوب بعد عتقه من مبتاعه له حق الله تعالى في الحرية، فلا يعاد إلى مالكه وانما تعاد قيمته كأى شئ اغتصبه ثم باعه وتلف في يد المشترى، فان المالك يرجع على الغاصب أو المشترى.
وللمشترى أن يرجع على البائع لانه غره
فان كان عالما بالغصب لم يرجع على الغاصب.
(فرع)
ينبنى على ما تقدم أنه إذا غصب طعاما فأطعمه غيره فللمالك تضمين أيهما شاء، لان الغاصب حال بينه وبين ماله، والآكل أتلف مال غيره بغير اذنه وقبضه عن يد ضامنة بغير اذن مالكه، فان كان الآكل عالما بالغصب استقر الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير اذن عالما من غير تغرير، فإذا ضمن الغاصب رجع عليه.
قال الشافعي: ولو غصب طعاما فأطعمه من أكله ثم استحق كان المستحق أخذ الغاصب به، فان غرمه فلا شئ للواهب على الموهوب له، وان شاء أخذ الموهوب له، فان غرمه فقد قيل يرجع على الواهب وقيل لا يرجع به.
قال المزني أشبه بقوله: ان هبة الغاصب لا معنى لها وقد أتلف الموهوب له ما ليس له ولا للواهب فعليه غرمه ولا يرجع به، فان غرمه الغاصب رجع به عليه.
وهذا عندي أشبه بأصله.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين يتضمن كل قسم منها ثلاثة أنواع: فأما القسم الاول فأول أنواعه أن يهبه فيأكله الموهوب له، فرب الطعام بالخيار بالرجوع على أيهما شاء (ثانيها) وهو أن يأذن له في أكله من غير هبة ولا اقباض، فان علم الآكل أنه مغصوب كان مضمونا عليه وربه أيضا بالخيار لتغريم أيهما شاء، فان أغرم الآكل فقد اختلف أصحابنا، فذهب البغداديون إلى أن في رجوعه على الغاصب قولين.
وذهب البصريون إلى الرجوع به قولا واحدا.
والفرق بين الآكل والموهوب له أن استهلاك الاكل بإذن الغاصب فرجع عليه، وأن استهلاك الموهوب له بغير اذنه فلم يرجع عليه، فان رجع المالك على الغاصب يكون رجوعه فعلى مذهب البغداديين يكون رجوعه بالغرم على الآكل على قولين وعلى مذهب
البصريين لا يرجع به قولا واحدا

(14/280)


وثالثها: أن يطعمه بهيمة رجل فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك بغير أمر مالك البهيمة فهو مضمون على الغاصب وحده، ويرجع به المالك على الغاصب ولا يرجع على مالك البهيمة، فإن أعسر به الغاصب فلا شئ له في رقبة البهيمة أو مالكها لان المتلف هو الغاصب، وإن كان إطعامها بأمر مالكها نظر، فإن علم بأنه مغصوب عند أمره ضمن ومالك الطعام بالخيار أن يرجع على أيهما شاء وليس للغاصب إذا غرم أن يرجع على الآمر إذا لم يعلم ويرجع إذا علم ويجرى عليه حكم الآكل والموهوب له من الاذن وعدمه.
وأما القسم الثاني فمصور في الانواع الثلاثة الآتية: إذا وهب الغاصب الطعام لمالكه فأكله فإن علم حين الاكل أنه طعامه لم يرجع بغرمه على الغاصب وان لم يعلم فعلى قولين.
والنوع الثاني: أن يأذن الغاصب لرب الطعام في أكله فإن علم حين الاكل أنه طعامه لم يرجع بغرمه، وان لم يعلم فعلى قول البغداديين يكون رجوعه على قولين وعلى قول البصريين يرجع به قوله واحدا.
والنوع الثالث: أن يطعمه بهيمة رب الطعام فان كان بغير أمره رجع عليه بغرمه، وإن كان بأمره فان علم لم يرجع، وان لم يعلم فان دفعه إليه كان رجوعه على قولين، كما لو وهبه له، وإن لم يدفعه إليه كان على اختلاف المذهبين كما لو أطعمه إياه، فلو باع الغاصب الطعام على مالكه وهو يعلم أو لا يعلم فتلف في يده بعد قبضه أو لم بتلف كان المالك بريئا من الثمن والغاصب بريئا من الضمان، وذهب المصنف إلى أنه إذا علم فيه قولان على ما أوضح والله أعلم.
(فرع)
إذا أودع العبد عند مالكه أو رهنه إياه أو كان مما يستأجر فأجره وقبضه منه بالوديعة أو بالرهن أو بالاجرة ثم تلف عنده نظر، فان علم بعد قبضه أنه ماله برئ العبد من ضمانه، وان لم يعلم نظر، فان كان تلفه على وجه يوجب الضمان على المودع والمرتهن المستأجر برئ الغاصب من ضمانه لكونه مضمونا

(14/281)


عليه، وان كان تلفه على وجه لا يوجب الضمان في هذه الاحوال، ففى براءة الغاصب منه وجهان.
أحدهما: يبرأ منه لعودته إلى يد مالكه.
والوجه الثاني: لا يبرأ منه لان خروجه من يده اما نيابة عنه أو أمانة منه، فلم تزل يده فكان على ضمانه.
فلو أن الغاصب خلطه بمال المالك فتلف والمالك لا يعلم به، فان لم يكن المال في يد المالك فالضمان باق على الغاصب، وان كان في يده فان تلف باستهلاك المالك برئ منه الغاصب، وان تلف بعد استهلاكه كان في براءته منه وجهان.
وأما حبس الحر سواء عاش أو مات فسوف يأتي حكمه ان شاء الله تعالى في الجنايات والحدود.
وأما كلب المنفعة ككلب الصيد أو الحراسة، فانه يجرى فيه ما يجرى في البهائم المستأجرة لظهرها أو لعملها في الحقول والفارق أنها غير مأكولة كبعض الدواب التى لا تؤكل.
(فرع)
قال الشافعي: فان أراق له - أي للذمي - خمرا أو قتل له خنزيرا فلا شئ عليه ولا قيمة لمحرم لانه لا يجرى على ملك.
أما التملك بالخمر والخنزير فمعصية، والقول فيها كالقول في الصليب ولا شئ على متلفها مسلما كان أو ذميا على مسلم أتلفه أو على ذمى، ويعذران باتلافه على منازلهم أو بيعهم.
وقال أبو حنيفة: ان أتلفها على مسلم لم يضمن المتلف مسلما كان أو ذميا،
وان أتلفها على ذمى ضمنها المتلف مسلما كان أو ذميا، فان كان مسلما ضمن قيمة الخمر والخنزير، وان كان ذميا ضمن مثل الخمر وقيمة الخنزير استدلالا من وجوب ضمانها للذمي بما روى أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الاشعري والى سمرة بن جندب في خمور أهل الذمة أن لهم بيعها، وخذ العشر من أثمانها.
فكان الدليل من وجهين.
أحدهما: أن جعل لها أثمانا والعقد عليها صحيحا، والثانى: أخذ العشر منها، ولو حرمت أثمانها لحرم عشرها، قال: ولانه معمول في عرفهم فوجب أن يكون مضمونا باتلافه عليهم قياسا على غيره من أموالهم،

(14/282)


قالوا: ولانه من أشربتهم المباحة فوجب أن يكون مضمونا بإتلافه عليهم كسائر الاشربه، قالوا: ولان ما كان متمولا عند مالكه ضمن بالاتلاف وإن لم يتمول عند متلفه قياسا على المصحف إذا أتلفه ذمى على مسلم.
ودليلنا ما رواه ابن أبى حبيب عن عطاء عن جابر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: ان الله حرم عليكم ورسوله بيع الخمر وبيع الخنزير وبيع الاصنام وبيع الميتة، فقال رجل يا رسول الله ما ترى في شحومها فإنها يدهن بها السفن ويستصبح بها فقال: قاتل الله اليهود حرم عليهم شحومها فجملوها فباعوها فدل تحريمه لبيعه على تحريم ثمنه وقيمته، ولان المرجوع في كون الشئ مالا إلى صفته لا إلى صفة مالكه، لان صفات الشئ قد تختلف فيختلف حكمه في كونه مالا ويختلف مالكوه.
فلا يختلف حكمه في كونه مالا كالحيوان هو مال لمسلم وكافر ثم لو مات خرج من أن يكون مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلده صار مالا لمسلم وكافر، فلما لم يكن الخمر والخنزير مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلد الميتة صار مالا لمسلم وكافر.
ويتحرر من هذا قياسان: أحدهما.
أن كل ما ليس مالا مضمونا في حق المسلم لم يكن مالا مضمونا في
حق الكافر كالميته والدم، وإن شئت قلت.
كل عين لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم بثمنها لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم بقيمتها أصله ما ذكرنا.
والثانى.
أن ما لم يستحقه المسلم من عوض الحكم لم يستحقه الكافر كالثمن، ولانه شراب مسكر فوجب أن لا يستحق على متلفه قيمته، ولان ما استبيح الانتفاع به من الاعيان النجسة إذا لم يملك الاعتياض عليه كالميته: فما حرم الانتفاع به من الخمر والخنزير أولى أن لا يملك الاعتياض عليه، وتحريره قياسا أن ما حرم نفعا فأحرى أن يحرم عوضا من كافر على مسلم.
وأما الجواب عن حديث عمر وقوله.
ولهم بيعها وخذ العشر من أثمانها فمن وجهين.
أحدهما.
أن معناه أن ولهم ما تولوه من بيعها، ولا يعترض عليهم فيما

(14/283)


استباحوه منها، وخذ العشر من أثمانها أي من أموالهم وان خالطت أثمانها بدليل ما أجمعنا عليه من بطلان ثمنها.
والثانى.
أنه محمول على العصير الذى يصير خمرا من باب اطلاق اسم ما سيؤول إليه عليه قال تعالى.
" وقال انى أرى في المنام أنى أرانى أعصر خمرا " وتحريم بيعها خمرا متفق عليه بيننا وبينهم كاتفاقنا على اباحته عصيرا.
وأما كونه م؟ ؟ ولا في عرفهم فمنتقض بموقوذة المجوس والعبد المرتد.
ولنا أدلة من السنة تفحم كل ذى مراء فحديث أنس عن أبى طلحة الذى ساقه المصنف هنا ورجال اسناده وأصله في صحيح مسلم ورواه الترمذي والدارقطني بلفظ.
يارسول الله انى اشتريت خمرا لايتام في حجري فقال: أهرق الخمر واكسر الدنان.
وأخرجه أحمد وأبو داود وحديث ابن عمر.
أمرنى النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمديه وهى الشفرة فأتيته بها
فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال أغد على بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جليت من الشام، فأخذ المدية منى فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معى ويعاونونى وأمرني أن آتى الاسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر الا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا الا شققته " رواه أحمد وأشار إليه الترمذي وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح معزوا إلى أحمد وقال الهيثمى في مجمع الزوائد.
انه رواه باسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبى مريم وقد اختلط وفى الاخر أبو طعمة وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وبقية رجاله ثقات.
وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال: باب هل تكسر الدنان التى فيها خمر وتخرق الزقاق.
ويعلق ابن حجر على هذا فينفي أن المراد بهذا اتلاف الاواني وانما المقصود اراقة الخمر واهدار جرمها، واتلاف الآنية جاء تبعا لذلك عقوبة لاصحابها.

(14/284)


(فرع)
قال الشافعي: ولو كسر لنصراني صليبا، فإن كان لشئ من المنافع مفصلا فعليه ما بين قيمته مفصلا أو مكسورا وإلا فلا شئ عليه.
أما الصليب فموضوع على معصية لزعمهم أن عيسى صلى الله عليه وسلم قتل وصلب على مثله فاعتقدوا إعظامه طاعة والتمسك به قربة، وقد أخبر الله تعالى بتكذيبهم فيه ومعصيتهم به، ولا يجوز أن يقتحم أحد بيعهم وكنائسهم ولا أن يعطل لهم طقوسهم ما داموا لا يظهرون بها تحديا ولا يجاهرون بها إغاظة ولا يعد هذا إقرارا منا على ما يعتقدونه فان جاهرونا بصليبهم نظر، فان كان الامام قد شرط عليهم في عقد جزيتهم ترك المجاهرة به جاز في الانكار عليهم تفصيل الصليب وكسره رفعا لما أظهروه من مخالفة عقد الذمة، وإن لم يشترط ذلك عليهم وجب
الاقتصار على الانكار في حال المجاهرة ولا يتجاوز الانكار إلى كسره، وقد حمى الاسلام الحنيف أهل الذمة وعاشت في ظله ديانات اليهود والنصارى بعد أن كان يضطهد بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا فأقر بينهم السكينة والوئام والسلام وترك لهم حرية الاعتقاد عملا بقوله تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ".
وباغ من تسامح المسلمين وحسن معاملتهم أن الكنائس التى فر أهلها إلى الصحارى القصية وشعف الجبال ومغاراتها أخذوا يبنونها في المدن والقرى، بل إن المجاهدين من السلف كانوا يتخيرون أحيانا المواقع التى بها كنيسة مثلا فيتخذون من جوارها مدينة يتخذونها حاضرة أو عاصمة لحكمهم كمدينة تونس بكسر النون قولا واحدا سميت كذلك لان عقبة بن نافع الفهرى فاتح المغرب كان يسمع قرب معسكر أنعام القسس وهم يترنمون في الليل بترانيمهم فقال هذه البقعة تونس بحذف الهمزة فسميت بذلك.

قال المصنف رحمه الله تعالى
.

(فصل)
وان فتح قفصا عن طائر نظرت، فان نفره حتى طار ضمنه لان تنفير الطائر بسبب ملجئ إلى ذهابه فصار كما لو باشر اتلافه وان لم ينفره نظرت فان وقف ثم طار لم يضمنه لانه وجد منه سبب غير ملجئ ووجد من الطائر

(14/285)


مباشرة والسبب إذا لم يكن ملجئا واجتمع مع المباشرة سقط حكمه، كما لو حفر بئرا فوقع فيها إنسان باختياره، فإن طار عقيب الفتح ففيه قولان
(أحدهما)
لا يضمن لانه طار باختياره فأشبه إذا وقف بعد الفتح ثم طار.

(والثانى)
يضمن لان من طبع الطائر النفور ممن قرب منه، فإذا طار عقيب الفتح كان طيرانه بنفوره منه فصار كما لو نفره

(فصل)
وإن وقع طائر لغيره على جدار فرماه بحجر فطار لم يضمنه، لان رميه لم يكن سببا لفواته، لانه قد كان ممتنعا وفائتا من قبل أن يرميه، فإن طار في هواء داره فرماه فأتلفه ضمنه، لانه لا يملك منع الطائر من هواء داره فصار كما لو رماه في غير داره
(فصل)
وإن فتح زقا فيه مائع فخرج ما فيه نظرت، فإن خرج في الحال ضمنه، لانه كان محفوظا بالوكاء فتلف بحله فضمنه.
وإن خرج منه شئ فابتل أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه ضمنه، لانه ذهب بعضه بفعله وبعضه بسبب فعله فضمنه، كما لو قطع يد رجل فمات منه، وإن فتحه ولم يخرج منه شئ ثم هبت ريح فسقط وذهب ما فيه لم يضمن، لان ذهابه لم يكن بفعله فلم يضمنه، كما لو فتح قفصا عن طائر فوقف ثم طار، أو نقب حرزا فسرق منه غيره، وان قتح زقا فيه جامد فذاب وخرج ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يضمنه، لانه لم يخرج عقيب الحل، فصار كما لو كان مائعا فهبت عليه الريح فسقط.

(والثانى)
أنه يضمن وهو الصحيح، لان الشمس لا توجب الخروج، وانما تذيبه والخروج بسبب فعله فضمنه كالمائع إذا خرج عقيب الفتح وإن حل زقا فيه جامد وقرب إليه آخر نارا فذاب وخرج، فقد قال بعض أصحابنا: لا ضمان على واحد منهما، لان الذى حل الوكاء لم توجد منه عند فعله جناية يضمن بها وصاحب النار لم يباشر ما يضمن فصارا كسارقين نقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال، فإنه لا قطع على واحد منهما، وعندي أنه يجب الضمان على صاحب النار، لانه باشر الاتلاف بإدناء النار فصار كما لو حفر رجل بئرا

(14/286)


ودفع فيها آخر إنسانا، وأما السارق فهو حجة عليه، لانا أوجبنا الضمان على من
أخرج المال فيجب أن يجب الضمان ههنا على صاحب النار.
وأما القطع فلا يجب عليهما، لانه لا يجب القطع إلا بهتك الحرز، والذى أخذ المال لم يهتك الحرز والضمان يجب بمجرد الاتلاف وصاحب النار قد أتلف فلزمه الضمان
(فصل)
وإذن فتح زقا مستعلى الرأس فاندفع ما فيه فخرج فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه، ففيه وجهان.

(أحدهما)
يشتركان في ضمان ما خرج بعد التنكيس كالجارحين
(والثانى)
أن ما خرج بعد التنكيس يجب على الثاني كالجارح والذابح
(فصل)
وإن حل رباط سفينة فغرقت نظرت، فإن غرقت في الحال ضمن لانها تلفت بفعله، وإن وقفت ثم غرقت، فإن كان بسبب حادث كريح هبت لم يضمن، لانها غرقت بغير فعله.
وان غرقت من غير سبب حادث ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد فتحه ثم سقط
(والثانى)
أنه يضمن، لان الماء أحد المتلفات.

(فصل)
إذا أجج على سطحه نارا فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها، أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها، فإن كان الذى فعله ما جرت به العادة لم يضمن لانه غير متعد، وان فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن لانه متعد
(فصل)
إذا ألقت الريح ثوبا لانسان في داره لزمه حفظه.
لانه أمانة حصلت تحت يده، فلزمه حفظها كاللقطة، فان عرف صاحبه لزمه إعلامه، فان لم يفعل ضمنه، لانه أمسك مال غيره بغير رضاه من غير تعريف فصار كالغاصب.
وان وقع في داره طائر لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه، لانه محفوظ بنفسه، فان دخل إلى برج في داره طائر فأغلق عليه الباب نظرت، فان نوى إمساكه على نفسه
ضمنه لانه أمسك مال غيره فضمنه كالغاصب، وان لم ينو إمساكه على نفسه لم يضمنه لانه يملك التصرف في برجه فلا يضمن ما فيه.

(14/287)


(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: ولو حل دابة أو فتح قفصا عن طائر فوقف ثم ذهب لم يضمن لانهما أحدثا الذهاب وصورة ذلك أن رجلا حل دابة مربوطة أو فتح قفصا عن طائر محبوس فشردت الدابة وطار الطائر، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون شرود الدابة وطيران الطائر بتهييجه وتنفيره، فعليه الضمان إجماعا، وإنما لزمه الضمان وإن كان الحل سببا والطيران مباشرة لانه قد ألجأه بالتنفير والتهييج إلى الطيران، وإذا انضم إلى السبب إلجاء تعلق الحكم بالمسبب الملجئ سقط حكم الفاعل كالشاهدين على رجل بالقتل إذا اقتص منه الحاكم بشهادتهما ثم رجعا تعلق الضمان عليهما دون الحاكم، لانهما الجاه بالشهادة فسقط حكم المباشرة
(والثانى)
أن لا يكون منه تهييج ولا تنفير فللدابة والطائر حالتان: (إحداهما) إن مكثا بعد حل الرباط وفتح القفص زمانا فلا ضمان عليه لانفصال السبب عن المباشرة.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: عليه الضمان.
وكذلك قال أحمد.
والحال الثانية: أن تشرد الدابة ويطير الطائر في الحال من غير لبث، ففى الضمان لاصحابنا وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: عليه الضمان لاتصاله بالسبب.
وهو قول أبى حنيفة
(والثانى)
وهو ظاهر نص الشافعي في كتاب اللقطة: لا ضمان عليه لعدم الالجاء.
واستدل مالك ومن تابعه على وجوب الضمان بالسبب متصلا ومنفصلا بأن أسباب التلف المضمونة كحفر البئر وفتح القفص سبب للتلف فوجب أن يتعلق به الضمان، ولان كل ما تعلق به الضمان مع اتصاله بسببه جاز أن يتعلق به الضمان مع انفصاله عن سببه كالجارح يضمن إن تعجل التلف أو تأجل ودليلنا هو أن للحيوان اختيارا يتصرف به لما شاهد عيانا من قصده لمنافعه واجتنابه لمضاره، ثم لما قد استقر حكما من تحريم ما قد صاده باسترساله وتحليل ما صاده باسترسال مرسله، فإذا اجتمع السبب والاختيار تعلق الحكم على

(14/288)


الاختيار دون السبب كملقى نفسه مختارا من شاهق يسقط الضمان عن بانى الشاهق أو في بئر يسقط عن حافرها.
وطيران الطائر باختياره لانه غير ملجأ، وقد كان يجوز بعد فتح القفص أن لا يطير، فوجب إذا طار بعد الفتح أن لا يتعلق بالفتح ضمان، ولان طيران الطائر بفتح القفص كهرب العبد المحبوس إذا فتح حبسه فكما أن فاتح الحبس لا يضمنه إن هرب كذلك فاتح القفص لا يضمن الطائر إذا طار، ولان مثابته من فتح القفص عن طائر حتى طار بمثابة من هتك حرمة مال حتى سرق، ثم كان كما لو فتح باب دار فيها مال فسرق لم يضمنه.
وكذلك القفص إذا فتح بابه حتى طار طائر لم يضمن، ولان فتح القفص يكون تعديا على القفص دون الطائر، بدليل أنه لو مات الطائر في القفص بعد فتحه لم يضمنه، وما انتفى عنه التعدي لم يضمن به.*
*
* فأما الجواب عن استدلالهم بأن أسباب التلف مضمونة لحافر البئر يضمن ما سقط فيها، فهو أنهما سواء، وذاك أن من طبع الحيوان توقى المتالف.
فإذا سقط في البئر دل على أن سقوطه بغير اختياره فضمن الحافر، ولو علمنا أنه
سقط باختياره بإلقاء نفسه عمدا سقط الضمان عن الحافر، والطير مطبوع على الطيران عند القدرة: إلا في أوقات الاستراحة، فإذا طار دل على أن طيرانه باختياره فسقط الضمان عن فاتح القفص ولو علمنا أنه طار بغير اختياره بالالجاء والتنفير وجب الضمان على فاتح القفص فكانا سواء.
فأما استدلالهم باستواء الاسباب فيما تعجل بها التلف أو تأجل فلاصحابنا في ضمانه إذا طار عقيب الفتح وجهان
(أحدهما)
لا يضمنه، فعلى هذا سقط السؤال فيه (الثاني) يضمنه.
فعلى هذا يكون الفرق بين أن يطير في الحال فيضمن، وبين أن يطير بعد زمان فلا يضمن هو أن الطير مطبوع على النفور من الانسان

(14/289)


قال الماوردى: فإذا طار في الحال علم أنه طار لنفوره منه فصار كتنفيره إياه وإذا لبث زمانا لم يوجد منه النفور فصار طائرا باختياره، فأما إذا أمر طفلا أو مجنونا بإرسال طائر في يده فأرسله فطار فهو كفتحه القفص في أنه إذا نفره أو أمر الطفل بتنفيره ضمن وان لم ينفره ولبث زمانا لم يضمنه، وان طار في الحال فعلى وجهين، ولو كان ساقطا على برج أو جدار فرماه بحجر فنفره فطار من تنفيره لم يضمنه لانه قبل التنفير لم يكن مقدورا عليه.
(فرع)
إذا رمى رجل حجرا في هواء داره فأصاب طائرا فقتله ضمنه سواء تعمد قتله أو لم يتعمده، لانه وان لم يتعد بالرمي في هواء داره فليس له منع الطائر من الطيران في هوائه، فصار كما لو رماه من غير هوائه وخالف دخول البهيمة إذا منعها بضرب لا تخرج الا به أنه لا يضمنها.
(فرع)
إذا فتح رجل مراح غنم فرعت زرعا فان كان الفاتح مالكها ضمن
الزرع، وان كان غيره لم يضمن، لانه لا يلزمه حفظها، وكذلك لو حل دابة مربوطة فأكلت شعيرا أو فولا لم يضمن لان الدابة هي المتلفة دونه وكذا لو كسرت اناء لم يضمنه لما عللناه.
(فرع)
قال الشافعي: ولو حل زقا (1) أو راوية فاندفقا ضمن الا أن يكون الزق يثبت مستندا وكان الحل لا يدفع ما فيه ثم سقط بتحريك أو غيره فلا يضمن لان الحل كان ولا جناية فيه.
وصورتها في زق أوكى على ما فيه فحل الوكاء حتى ذهب ما في الزق، فلا يخلو حال ما فيه من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون من أرق المائعات قواما وأسرعها ذهابا كالخل والزيت واللبن فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون فم الزق منكسا فعليه ضمان ما فيه، لان الذائب مع التنكيس لا يبقى، فكان هو المتلف له.
__________
(1) الزق قارورة من الجلد يسميها عامة الحجاج زمزمية، والوكاء الرباط، ومنه حديث " هاتوا سبع قرب لم تحلل أوكيتهن " وحديث " العين وكاء السه " والسه الاست أو المقعدة من الانسان.

(14/290)


والضرب الثاني: أن يكون فم الزق مستعليا فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يميل في الحال فيذهب ما فيه فعليه ضمانه لانه متماسك بوكائه، فإذا حله كان بالحل تالفا، وليس كالدابة إذا حلها لان للدابة اختيارا
(والثانى)
أن يلبث بعد الحل متماسكا زمانا ثم يميل فيسقط فلا ضمان عليه وسواء كان الزق مستندا أو غير مستند لانه قد كان باقيا بعد الحل فعلم أن تلفه بغير الحل من هبوب ريح أو تحريك انسان.
والقسم الثاني: أن يكون ما في الزق ثخين القوام بطئ الذهاب كالدبس
(العجوة بالعسل أو مريب التمر) والعسل القوى فإذا حل وكاؤه فاندفع يسيرا بعد يسير حتى ذهب ما فيه، فان كان مستعلى الرأس فلبث زمانا لا يتدفق شئ منه ثم اندفع فلا ضمان، وان اندفع في الحال أو كان منكسا نظر، فان لم يقدر مالكه على استدراك سده حتى ذهب ما فيه فعليه الضمان وان قدر على الاستدراك لسده ففى الضمان وجهان.

(أحدهما)
عليه الضمان كما لو خرق ثوبه وهو قادر على منعه، لزمه الضمان ولا يكون قدرته على الدفع اختيارا وابراء، كذلك ها هنا.
والوجه الثاني: لا ضمان عليه، والفرق بينهما أنه في القتل والتحريق، وفى حل الوكاء غيره متسبب والسبب يسقط حكمه مع القدرة على الامتناع منه كمن حفر بئرا فمر بها انسان وهو يراها ويقدر على اجتنابها فلم يفعل حتى سقط فيها لم يضمنه الحافر.
ولو كان الزق مستعلى الرأس وهو يندفع بعد الحل يسيرا يسيرا فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه فذهب فعلى الاول ضمان ما خرج قبل التنكيس وفيما خرج بعده وجهان
(أحدهما)
أن ضمانه عليهما لاشتراكهما في سبب ضمانه كالجارحين (والوجه الثاني) أن ضمانه على الثاني وحده لسقوط السبب مع المباشرة فصار كالذابح بعد الجارح يسقط ببراءة الجارح ويتوجه للذابح.
والقسم الثالث: أن يكون ما في الزق جامدا كالسمن والدبس إذا جمدا ومريب الجزر والفواكه إذا جف ماؤهما وتبخر فيكشف بحل الوكاء أو بكشف الغطاء عن الاناء حتى تسطع عليه الشمس فيذوب ويذهب فان كان الزق أو الاناء

(14/291)


على حال لو كان ما فيها عند الحل أو الكشف ذائبا يعبأ في زقه وإنائه فلا ضمان عليه، وإن كان لا يعبأ لو كان ذائبا ففى ضمانه وجهان.
أحدهما: لا ضمان عليه
لان ذوبانه من تأثير الشمس لا من تأثير حله (والوجه الثاني) عليه الضمان لان بحله إياه وكشفه أثرت فيه الشمس فكان الحل أقوى سببا فتعلق به الضمان.
(فرع)
إذا أدنى من الجامد نارا بعد كشف إنائه وحل وكائه فحمى فذاب وذهب فلا ضمان على واحد منهما.
أما صاحب النار فلم يباشر بها ما يضمن به، وأما كاشف الاناء وحال الوكاء فلم يكن فعله جناية يضمن بها.
وصارا كسارقين ثقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال لم يقطع واحد منهما، لان الاول هتك الحرز وبهتك الحرز لا يجب القطع.
والثانى: أخذ مالا غير محرز وأخذ المال من غير حرز لا يوجب القطع، فإن قيل: لم يضمن إذا ذاب بالشمس في أحد الوجهين ولم يضمن بالنار، قيل: لان طلوع الشمس معلوم، فصار كالقاصد له ودنو النار غير معلوم، فلم يصر قاصدا له ولكن لو كان كاشف الاناء وحال الوكاء هو الذى أدنى النار منه فذاب ضمن وجها واحدا بخلاف الشمس في أحد الوجهين، ولان إدناء النار من فعله وليس طلوع الشمس من فعله، وخالف حدوث ذلك من شخصين وصار كتفرده بهتك الحرز وأخذ ما فيه في وجوب القطع عليه ولا يجب الضمان لو كان من شخصين، بيد أن المصنف يقضى بأن عنده وجوب الضمان على صاحب النار قياسا على من حفر بئرأ وجاء آخر فدفع إليها آخر ضمن صاحب البئر، وفيما ذهب إليه المصنف نظر عندي والله أعلم بالصواب.* (فرع)

* وينبنى على ما تقدم أنه إذا حل رباط سفينة وترنحت في أحضان الموج فغرقت فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون غرقها في الحال من غير لبث فعليه الضمان لحدوث التلف بفعله (والضرب الثاني) أن يتطاول بها اللبث بعد الحل ثم تغرق بعد فهو على ضربين، أحدهما: أن يظهر سبب غرقها بحادث من ريح - أو موج
فلا ضمان عليه لتلفها بما هو غير منسوب إليه.
والضرب الثاني: أن لا يظهر

(14/292)


حدوث سبب لتلفها ففى ضمانها وجهان (احدهما) أنه لا يضمنها كما لا يضمن الزق إذا لبث بعد حله تم مال (والوجه الثاني) عليه الضمان بخلاف الزق لان الماء أحد المتلفات.
(فرع)
إذا نصب رصيصا من اللبن لحرقه (قمينة) حتى يجعر آجرا في غير المكان المخصص والوقت المناسب اللذين جرت عادة الناس بنصب الرصائص أو القمائن فيها كأن جاء في أوقات امتلاء الاجران بحصاد الحقول فأوقد في تنور اللبن بين الاجران أو وقت تعبئة القطن في الاكياس فطارت شرارة من النور إلى الاجران أو الاقطان فأحرقتها ضمن ما أتلف، أما إذا أعد الرصيص في أوانه ولم يكن وقت حصاد ولا جنى قطن، وكان لآخر صومعة فيها تبن أو طعام فطارت شرارة أصابت ما فيها فاحترق فلا ضمان عليه لانه غير متعد، وكذلك لو أروى أرضه في دوره فتسربت المياه إلى حقل جاره لم يضمن لانه غير متعد، فإذا أرواها في غير دوره - وهو الوقت المخصص له بترتيب أصحاب الحق في المياه - ثم تسربت إلى حقل جاره فأتلفته كان عليه ضمان المتلف، أما الثوب الذى حمله الريح من منشر الجار فألقاه في بيته فقد أسلفنا القول في الوديعة أنه وديعة يجب المبادرة إلى اعلام صاحبه به فإذا أخفاه أو تباطأ في اعلام صاحبه أو تلكأ كان عليه ضمانه وارتفعت يده من الامان إلى الضمان وإذا طار فلم يعلم به صاحب الدار حتى احترق بنار في داره أو بهيمة أكلته لم يضمنه، ولو علم به فإن لم يقدر على منعها لم يضمن، وان قدر على منعها فعليه الضمان، ولكن لو زاره عند حصول الثوب في داره فتركه، فإن كان مالكه غير عالم به فعليه اعلامه فإن لم يعلمه فهو ضامن، وان كان مالكه عالما به فهو غير ضامن، فإذا هبت ريح فاجتاحته فألقته
بعيدا فإن لم يستطع منعه فلا ضمان، وان قدر على منعه من الريح قتركه ففى ضمانه وجهان.
أحدهما: لا ضمان عليه لانه لم يكن منه ما يضمن به.
والثانى: عليه الضمان كما لو أكلته بهيمة يقدر على منعها، فلو أن الثوب حين أطارته الريح وقع في صبغ لصاحب الدار فانصبغ به فلا ضمان على واحد

(14/293)


منهما لا على صاحب الثوب ولا على صاحب الصبغ لعدم التعدي منهما، وفى حالة إمكان استخراج الصبغ من الثوب فاستخراجه ونقص الصبغ ونقص الثوب إن حدث نقص كل ذلك مهدر لا قيمة له في ذمة واحد منهما وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب، فقال المغصوب منه هو باق.
وقال الغاصب تلف فالقول قول الغاصب مع يمينه لانه يتعذر إقامة البينة على التلف وهل يلزمه البدل فيه وجهان.
أحدهما: لا يلزمه لان المغصوب منه لا يدعيه.
والثانى: يلزمه لانه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين فاستحق البدل كما لو غصب عبدا فأبق.

(فصل)
وإن تلف المغصوب واختلفا في قيمته، فقال الغاصب قيمته عشرة، وقال المغصوب منه قيمته عشرون فالقول قول الغاصب، لان الاصل براءة ذمته فلا يلزمه إلا ما أقر به كما لو ادعى عليه دينا من غير غصب فأقر ببعضه
(فصل)
وإن اختلفا في صفته فقال الغاصب كان سارقا فقيمته مائة.
وقال المغصوب منه لم يكن سارقا فقيمته ألف فالقول قول المغصوب منه لان الاصل عدم السرقة.
ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لانه غارم، والاصل براءة ذمته مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه: كان كاتبا فقيمته ألف،
وقال الغاصب: لم يكن كاتبا فقيمته مائة، فالقول قول الغاصب، لان الاصل عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه غصبتني طعاما حديثا، وقال الغاصب بل غصبتك طعاما عتيقا فالقول قول الغاصب، لان الاصل أنه لا يلزمه الحديث فإذا حلف كان للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لانه أنقص من حقه.

(فصل)
وان غصبه خمرا وتلف عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه صار خلا ثم تلف فعليك الضمان وقال الغاصب بل تلف وهو خمر فلا ضمان على فالقول قول الغاصب، لان الاصل براءة ذمته، ولان الاصل أنه باق على كونه خمرا.

(14/294)


(فصل)
وإن اختلفا في الثياب التى على العبد المغصوب، فادعى المغصوب منه أنها له، وادعى الغاصب أنها له، فالقول قول الغاصب لان العبد وما عليه في يد الغاصب فكان القول قوله والله أعلم (الشرح) الاحكام.
قال الشافعي: ولو غصبه جارية فهلكت فقال: ثمنها عشرة فالقول قوله مع يمينه.
قلت: قد ذكرنا أن المغصوب مضمون بأكثر قيمته في السوق والبدن ووقت الغصب إلى وقت التلف.
وقال أبو حنيفة: هو مضمون بقيمته وقت الغصب اعتبارا بحال التعدي، وهذا خطأ من وجهين
(أحدهما)
أن استدامة الفعل كابتدائه شرعا.
أما الشرع فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " أي استداموا الايمان، وقال تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " أي ثبتنا على الهداية إليه، فاستوى حكم الابتداء والاستدامة في الاخبار والطلب وأما اللسان فهو أن مستديم الغصب بيمين في كل حال غاصبا.
ويقال قد غصب، وإن كان قد تقدم من الغصب

(والثانى)
أن الغصب عدوان يوجب الضمان كالجناية، فلما كانت براءة الجراح في الجناية إلى تلف النفس توجب ضمان ما حدث بعد الجرح، وجب أن يكون الحادث بعد الغصب في حكم الموجود في حال الغصب، ثم هو في الغصب أولى منه في الجناية لبقاء يده في الغصب وارتفاعها في الجناية، وفيما ذكرناه من المعاني الماضية في نمو البدن وزيادته دليل كاف فإذا ثبت هذا واختلفا في المغصوب فهو على ثلاثة أضرب: (أحدها) أن يختلفا في قيمته
(والثانى)
أن يختلفا في تلفه (والثالث) أن يختلفا في مثله.
فأما الضرب الاول وهو اختلافهما في قيمته فعلى ضربين:
(أحدهما)
أن يكون اختلافهما في القيمة مع اتفاقهما على الصفة، فيقول المغصوب منه قيمة مالى ألف.
ويقول الغاصب: قيمة مالك مائة فالقول قول الغاصب مع يمينه في قدر قيمته لامرين: أحدهما إنكاره الزيادة، والشرع في الانكار يجعل القول قول المنكر دون المدعى.
والثانى: أنه غارم والقول في الاصول قول الغارم

(14/295)


فإن قيل: فكلا المعنيين يفسد بالشفيع والشفيع منكر وغارم، فالجواب عنه من وجهين.
أحدهما: أن المشترى مالك فلم يكن للشفيع انتزاع ملكه إلا بقوله كما أن الغارم مالك، ولا يغرم إلا بقوله.
والثانى: أن المشترى فاعل الشراء فكان القول فيه قوله لانه من صنعه، وكذلك الغاصب فاعل الغصب وهو من صنعه فكان القول فيه قوله، فحل المشترى بهذين محل الغارم وسلم المعنيان.
فإن كان للمغصوب منه بنية على ما ادعاه من القيمة سمعت وهى شاهدان أو امرأتان وشاهد أو شاهد ويمين، فإن شهدت بينه بأن قيمة المغصوب وقت الغصب أو وقت التلف أو فيما بين الغصب والتلف كذا حكم بها لان الغاصب
ضامن لقيمته في هذه الاحوال كلها، وإن شهدت بينة بأن قيمته كانت ألفا قيل الغصب لم يحكم بها لان ما قبل الغصب غير مضمون على الغاصب لكن كان بعض أصحابنا يقول: إنه يصير لاجل هذه البينة القول قول المغصوب منه مع يمينه، لان الاصل بقاء هذه القيمة ما لم يعلم نقصها وهذا غير صحيح، لان ما قبل الغصب غير معتبر، والبينة فيه غير مسموعة ولو جاز أن يصير القول بها قول المشهود له لجاز الاقتصار عليها من غير يمين، فإن شهدت البينة بصفات المغصوب دون قيمته ليستدل بها على قدر القيمة لم يجز أن يحكم بها لامرين.
أحدهما: أن تقويم ما لا مثل له بالصفة باطل.
والثانى: أن اختلافهما في القيمة دون الصفة فلم تسمع البينة في غير ما تداعياه واختلفا فيه.
والضرب الثاني: أن يكون اختلافهما في الصفه فهو على نوعين أحدهما: أن تكون صفة زائدة.
والثانى: أن تكون صفة نقص.
فأما صفة الزيادة فترد دعوى المغصوب منه وصورتها.
أن يقول المغصوب منه قيمة سيارتي ثلاثة آلاف لانها مرسيدس أو كاديلاك 7 راكب موديل 68 ويقول الغاصب قيمتها ألف لانها مرسيدس أو كاديلاك سعة 5 راكب موديل 69 فالقول قول الغاصب مع يمينه لا يختلف لوجود المعنيين فيه وهما الغرم والانكار.
وأما صفه النقص فهو دعوى الغاصب وصورتها أن يقول الغاصب قيمة السيارة التى غصتها منك

(14/296)


مائة لانها مستهلكه ومحركها ضعيف وفراملها ناعمه وهى ماركة فيات أو فكسهول موديل.
فيقول المغصوب منه قيمتها ألف لانها ليست مستهلكه ومحركها سليم وفراملها قويه ففيه وجهان لاختلاف المعنيين أحدهما أن القول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بغرمه والثانى.
القول قول المغصوب منه
مع يمينه تعليلا بانكاره.
وأما الضرب الثاني وهو اختلافهما في تلفه فصورته أن يقول المغصوب منه سيارتي باقيه في يدك ويقول الغاصب، قد تلفت وذهبت أجزاؤها في (وكالة البلح (1)) فالقول قول الغاصب مع يمينه ثم فيه وجهان أحدهما، أنه لا شئ عليه للمغصوب منه ما لم يصدقه على تلفها، لانه لا يدعى القيمه وإنما يدعى عينها وقد حلف الغاصب على تلفها، والوجه الثاني، أن عليه القيمه للمغصوب منه لانه وإن كان منكرا للتلف فيمين الغاصب ما تلفت ولا قدرة له عليها فصارت كالتالفه يلزم الغاصب قيمتها مع بقاء عينها إذا كانت باقيه.
وأما الضرب الثالث وهو اختلافهما في مثله فعلى ثلاثة أضرب أحدها.
أن يختلفا في صفات المثل كقول المغصوب منه غصبتني طعاما حديثا فيقول الغاصب بل طعاما عتيقا أو قديما فالقول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بالمعنيين من الانكار والغرم، ثم للمغصوب منه أن يتملك ذلك لانه أنقص من حقه الذى يدعيه.
والضرب الثاني.
أن يختلفا في أصل المثل كقول المغصوب منه، لما غصبته مثل، وقول الغاصب، ليس له مثل فلا اعتبار باختلافهما ويرجع فيه إلى اجتهاد الحكام، فان حكموا له بمثل طولب به، وإن حكموا فيه بالقيمة أخذت منه، والضرب الثالث أن يختلفا في وجود المثل كقول المغصوب منه، المثل موجود وقول الغاصب بل المثل معدوم، فيكشف الحاكم عن وجوده، ويقطع تنازعهما
__________
(1) سوق على شاطئ النيل في الشمال الغربي من مدينة القاهرة كانت تنزل من مرساه التمور الواردة من الصعيد الاعلى على عهد المماليك وهو اليوم سوق تباع فيه أجزاء السيارات القديمة وغيرها من الالات.

(14/297)


فيه، فإن وجده ألزم الغاصب دفع المثل رخيصا كان أو غالبا، وإن عدمه خير المغصوب منه بين أن يصبر إلى وجود المثل فإن تعجل أخذ القيمه ثم وجد المثل بعد ذلك فلا حق له فيه وقد استقر ملكه على ما أخذ من قيمته بخلاف الرقيق إذا أخذت قيمته ثم وجد، والفرق بينهما أن قيمة الآبق أخذت عند الاياس منه فلزم ردها بعد القدرة عليه، وقيمة المثل أخذ مع العلم بالقدرة عليه من بعد فلم يلزم ردها بعد القدرة عليه، وإن جهد إلى وجود المثل ثم رجع مطالبا بالقسمة قبل الوجود فذلك له لتعجل حقه بخلاف السلم في الشئ إلى مدة تنقطع فيها فرضى المسلم بالصبر إلى وجوده فلا يكون له الرجوع قبله.
والفرق بينهما أن تقدير وجود السلم عيب فإذا رضى به لزمه ذلك بالعقد.
وصبر المغصوب منه إلى وجود المثل إنظار وتأجيل تطوع به فلم يلزم.
(فرع)
ولو غصب رجل عصيرا فصار في يده خلا رجع به المغصوب منه وينقص إن حدث في قيمته، ولو صار العصير خمرا رجع على الغاصب بقيمته عصيرا لان الخمر لا قيمة له، وهل له أخذ الخمر أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الاسفرايينى - إنه ليس له أخذه لوجوب إراقته وإتلافه.
والوجه الثاني: له أخذه لانه قد شفع بإراقته في بئر أو مسقى حيوان، فلو صار الخمر في يد الغاصب خلا رجع به المغصوب منه، وفى رجوعه عليه بالقيمه وجهان كنقص المرض إذا زال أحدهما: يرجع بالقيمة لوجوبها.
والثانى - لا يرجع عليه لعدم استقرارها.
وإذا غصبه خمرا فصار في يده خلا صار حينئذ مضمونا عليه لكونه خلا ذا قيمه، فلو اختلط بعد تلفه فقال المالك: صار خلا فعليك ضمانه، وقال الغاصب: بل تلف في يدى خمرا على حاله فالقول قول الغاصب مع يمينه اعتبارا ببراءة ذمته، فلو صار الخمر بعد غصبه خلا ثم عاد الخل فصار خمرا ضمنه مع بقاء
عينه لانه بمصيره خمرا قد صار تلفا، فلو عاد ثانية فصار خلا رد على المغصوب منه، وهل يضمن قيمته مع رده على وجهين أحدهما: لا ضمان عليه لعوده إلى ما كان عليه، والوجه الثاني: عليه الضمان لاستقراره عليه فلم يسقط عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(14/298)