المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب السبق والرمى

تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابق بين الخيل، المضمرة منها، من الحفيا إلى ثنية الوداع.
وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق وروى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له ناقه يقال لها العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القذرة شئ إلا وضعه.
وروى سلمة بن الاكوع قال: أتى عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ
نترامى فقال (حسن هذا لعبا، ارموا يا بنى اسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع ابن الادرع، فكف القوم أيديهم وقسيهم وقالوا غلب يا رسول الله من كنت معه، قال ارموا وأنا معكم جميعا) فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول على المنبر (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) إلا إن القوة هي الرمى.
قالها ثلاثا وروى عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (ارموا واركبوا، ولان ترموا أحب إلى من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة، ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه.
ومن علمه الله الرمى فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها، وان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي، ومنبله)
(فصل)
ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سئل عثمان رضى الله عنه أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نعم.
راهن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فرس له فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه، والرهن

(15/128)


لا يكون إلا على عوض، ولان في بذل العوض فيه تحريضا على التعلم والاستعداد للجهاد.

(فصل)
ويجوز أن يكون العوض منهما، ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لانه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معينا أو موصوفا في الذمة، لانه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع، ويجوز على عوض حال ومؤجل لانه
عوض يجوز أن يكون عينا ودينا فجاز أن يكون حالا ومؤجلا كالثمن في البيع،
(فصل)
فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة، وان كان منهما ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يلزم كالاجارة وهو الصحيح لانه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالاجارة
(والثانى)
أنه لا يلزم كالجعالة، لانه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة.
فان قلنا إنه كالاجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الاجارة وحكمهما في خيار المجلس، وخيار الشرط حكم الاجارة، ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه، ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه، كما لا يجوز ذلك في الاجارة.
وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه في الرهن والضمان حكم الجعالة، وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان، فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص، لانه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه.
وان كانا غير متكافئين نظرت، فإن كان الذى له الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة جاز، لانه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه، فملك الفسخ والزيادة فيه.
وان كان الذى عليه الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان

(15/129)


(أحدهما)
له ذلك، لانه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه
(والثانى)
ليس له لانا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحدا، لانه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ متفق عليه عند الشيخين، ورواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (سابق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الخيل فأرسلت التى ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتى لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق) وزاد البخاري قال، قال سفيان (من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة.
ومن ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق ميل.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه عَنْ ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) أما حديث أنس بن مالك فقد رواه أحمد والبخاري بلفظ (كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) أما حديث سلمة بن الاكوع فقد أخرجه أحمد والبخاري بلفظ (مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال: ارموا يا بنى اسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى فلان، قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لكم لا ترمون؟ قالوا كيف نرمى وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم) وفى رواية عند ابن حبان والبزار عن أبى هريرة في مثل هذه القصة (وأنا مع ابن الادرع وعند الطبراني من حديث حمزة بن عمرو الاسلمي (وأنا مع محجن بن الادرع) وفى رواية (وأنا مع جماعتكم) وفى رواية للطبراني: أنهم قالوا من كنت معه فقد غلب، وكذا في رواية ابن اسحاق) أما حديث عقبه بن عامر الجهنى فقد رواه أحمد ومسلم، ولفظه (سمعت

(15/130)


رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة.
ألا إن القوة الرمى، الا ان القوة الرمى، الا ان القوة الرمى.
وفيهما عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عيله وسلم (من علم الرمى ثم تركه فليس منا) وعنه ايضا عند احمد واصحاب السنن مرفوعا (ان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر نفر الجنة، صانعه الذى يحتسب في صنعه الخير، والذى يجهز به في سبيل الله.
والذى يرمى به في سبيل الله.
وقال ارموا واركبوا.
فان ترموا خير لكم من ان تركبوا.
وقال كل شئ يلهو به ابن آدم باطل الا ثلاثا: رميه عن قوسه وتاديبه فرسه، وملاعبته اهله، فانهن من الحق، وفى اسناده خالد بن زيد أو ابن يزيد فيه مقال.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: خالد ابن زيد أو بن يزيد الجهنى عن عقبة في الرمى، مقبول من الثالثة.
قلت: وبقية اسناده ثقات، وقد اخرجه الترمذي وابن ماجه من غير طريقة.
واخرجه ايضا ابن حبان، وفى رواية ابى داود زيادة (ومن ترك الرمى بعدما علمه فانها نعمة تركها) وفى هذا الاحاديث وغيرها مما سياتب في موضعه دليل على جواز المسابقة ومشروعيتها على جعل وعلى غير جعل، فان كان الجعل من غير المتسابقين كالامام يجعله للسابق جائزة جاز أو من احدهما جاز عند الجمهور.
وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط ان لا يخرج من عنده شيئا ليخرج العقد عن صورة القمار وعلى تفصيل سيأتي في موضعه.
وقد وقع الاتفاق على جواز المسابقة بغير عوض لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخبل.
واجازه
عطاء في كل شئ.
وقد حكى عن ابى حنيفة ان عقد المسابقة على مال باطل.
وحكى عن مالك ايضا انه لا يجوز ان يكون العوض من غير الامام، وحكى ايضا عن مالك وابن الصباغ وابن خيران انه لا يصح بذل المال من جهتهما وان دخل المحلل.
وروى عن احمد بن حنبل انه لا يجوز السبق على الفيلة، وروى عن اصحابنا انه يجوز

(15/131)


على الاقدام مع العوض.
وقوله (ضمرت)) لفظ البخاري التى اضمرت والتى لم تضمر بسكون الضاد المعجمة والمراد به ان تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى ثم يقلل علفها (بقدر القوت) وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتى يحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجرى) هكذا في الفتح والنهاية.
وزاد في الصحاح اربعين يوما.
وقوله (الحفياء) بفتح فسكون بعد ياء ممدودة وقد تقصر.
وحكى الحازمى تقديم الياء على الفاء، وحكى القاضى عياض ضم اوله وخطاه.
وقوله (ثنية الوداع (1)) من منعطفات الجبال قرب المدينة، وكانوا يودعون الحاج منها.
وقوله (قعود) بفتح القاف، وهو ما استحق الركوب من الابل وقال الجوهرى: هو البكر حتى يركب، واقل ذلك ان يكون ابن سنتين إلى ان يدخل في السادسة فيسمى جملا.
وقال الازهرى: لا يقال الا للذكر، ولايقال للانثى قعودة، وانما يقال لها قلوص.
قال وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الاكثر على غيره.
وقال الخليل بن احمد: القعود من الابل ما يقتعده الراعى لحمل متاعه.
قوله (تسمى العضاء) بفتح العين وسكون الضاد المعجمة ومد.
قوله (وكانت لا تسبق) زاد البخاري: قال حميد: أو لا تكاد تسبق.
شك منه وهو
موصول باسناده الحديث المذكور كما قاله ابن حجر.
وقوله ان لا يرفع شيئا الخ فر رواية موسى بن اسماعيل: ان لا يرتفع.
وكذلك في رواية للبخاري، وفى
__________
(1) يزعم بعض من لم يرزق نعمة التمحيص والتحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة منها في الهجرة إليها، وقابله أهلها بقولهم (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) وهذا غير صحيح لانه صلى الله عليه وسلم إنما دخلها من ثنية بنى النجار وهذه في الجنوب وتلك في شمال المدينة.
وإنما قيلت هذه الانشودة من جارية نذرت أن تضرب بين يديه فقال لها: إن كنت نذرت فافعلي، فأخذت تضرب بالدف بين يديه وهى تغنى بها.
هكذا رواها أبو داود وساقها النووي في كتاب النذور من المجموع، أنها قيلت وهو عائد من غزاة تبوك.
ولم يرد أنها قيلت في الهجرة من طريق معتبر.

(15/132)


رواية للنسائي (أن لا يرفع شئ نفسه في الدنيا) ولم اطلع على رواية في طرق الحديث فيه لفظ (القذر) والله اعلم فإذا عرف ان السبق والرمى قد ثبتا بالنسبة المستفيضة عرف ايضا انهما ثبتا بالاجماع، والسبق والرماية عنصران فارهان من عناصر مكونات المرء المسلم القوى.
وقد بلغ من حرص النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يهتم اصحابه رضوان الله عليهم بهما حرصا جعله يحضر مبارياتهم ويشترك فيها ويحث على حضورها ويقول صلى الله عليه وسلم (احضروا الهدف فان الملائكة تحضره، وان بين الهدفين لروضة من رياض الجنة) قال المارودى في الحاوى الكبير: فإذا ثبت جواز السبق والرمى فهو مندوب إليه ان قصده به أهبة الجهاد، ومباح ان قصد به غيره، لانه قد يكون عدة للجهاد ويجوز أخذ العوض في المسابقة والمناضلة منهم ومن السلطان على ما سنصفه.
وحكى عن ابى حنيفة انه منع من اخذ العوض عليه بكل حال، فمن متأخرى اصحابنه من انكره من مذهبه وجعله موافقا.
وقال مالك: ان اخرجه السلطان من بيت المال جاز، وان أخرجه المتسابقون المتناضلون لم يجز، استدلالا بأمرين
(أحدهما)
انه اخذ عوض على لعب فاشبه اخذه على اللهو والصراع
(والثانى)
انه أخذ مال على غير بدل فاشبه القمار.
وَدَلِيلُنَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل.
فلما استثناه في الاباحة دل على اختصاصه بالعوض، ولولا العوض لما احتاج إلى الاستثناء لجواز جميع الاستباق بغير عوض.
اه وقول المصنف: لما روى انه سئل عثمان رضى الله عنه الخ.
يؤخذ على المصنف فيه أمور: (أحدها) انه ساق الحديث بقوله روى بصيغة التمريض، والحديث رواه احمد في مسنده والدارمى في سننه والدارقطني والبيهقي، ولفظ احمد باسناده إلى انس وقيل له (أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ

(15/133)


صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم والله لقد راهن على فرس يقال له: سبحة فسبق الناس فبهش (1) لذلك واعجبه) ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي عن ابى لبيد قال: اتينا انس بن مالك واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد عن واصل مولى ابى عتبة قال حدثنى موسى بن عبيد قال كنا في الحجر بعدما صلينا الغداة فما اسفرنا إذا فينا عبد الله بن عمر فجعل يستقر بنا رجلا رجلا ويقول: صليت يا فلان حتى قال: أين صليت يا أبا عبيد؟ فقلت: ههنا، فقال: بخ لخ، ما يعلم صلاة افضل عند الله من صلاة الصبح جماعة
يوم الجمعة، فسألوه: أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة) ثانيها: انه قال سئل عثمان ورواية احمد السؤال كان موجها إلى أنس.
ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي من حديث ابى لبيد قال: اتينا أنس بن مالك، واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم التى اوردناها متصلة مسندة إلى ابن عمر وليس في شئ منها سئل عثمان رضى الله عنه.
ثالثها.
رواية بعض الفاظ الخبر بالمعنى كقوله.
فهش لذلك بحذف الباء، وقد تكون هذه الاخيرة من أخطاء النساخ أو الطباعين.
أما بعد فإذا صح جواز السبق بعوض وغير عوض فهو بغير عوض من العقود الجائزة دون اللازمة، وان كان معقودا على عوض ففى لزومه قولان.

(أحدهما)
انه من العقود اللازمة كالاجارة، ليس لواحد منهما فسخه بعد تمامه الا عن تراض منهما بقسمته، ولا يدخله خيار الثلاث، وفى دخول خيار المجلس فيه وجهان كالاجارة، فان شرعا في السبق والرمى سقط خيار المجلس فيه لان الشروع في العمل رضى بالامضاء.
(والقول الثاني) انه من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة، وبه قال أبو حنيفة، وبكون كل واحد من المتسابقين قبل الشروع في السبق وبعد الشروع فيه بالخيار ما لم يستقر السبق وينبرم، فان شرط فيه اللزوم بطل.
__________
(1) بهش بالباء الموحدة والشين المعجمة أي هش وفرح.

(15/134)


فإن قيل بلزومه على القول الاول فدليله شيئان.

(أحدهما)
أنه عقد ومن شرط صحته أن يكون معلوم العوض والمعوض، فوجب أن يكون لازما كالاجارة طردا والجعالة عكسا.

(والثانى)
أن ما أفضى إلى إبطال المقصود بالعقد كان ممنوعا منه في العقد، وبقاء خياره فيه مفض إلى إبطال المقصود به، لانه إذا توجه السبق على أحدهما وفسخ لم يتوصل إلى سبق ولم يستحق فيه عوض، والعقد موضوع لاستقراره واستحقاقه فنافاه الخيار وضاهأه اللزوم.
فإن قيل بجوازه على القول الثاني فدليله شيئان أحدهما أن ما صح من عقود المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه كان من المعقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة طردا، لانه لا يثق بالغلبة في السبق والرمى كما لا يثق بوجود الضالة في الجعاله، وعكسه الاجاره، متى لم يثق بصحة العمل منه لم يصح العقد، والثانى أن ماكان إطلاق العوض فيه موجبا لتعجيل استحقاقه كان جائزا ولا يكون لازما وحاصل ذلك أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو فريقين لم تخل إما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما نظرت، فان كان من الامام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال، لان في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين، وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك: لا يجوز بذل العوض من غير الامام، لان هذا مما يحتاج إليه للجهاد، فاختص به الامام كتولية الولايات وتأمير الامراء ولصحة العقد على السبق بالاعواض خمسة شروط.
(أحدها) التكافؤ فيما يسبقان عليه، وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه، أن التكافؤ بالتجانس فيسابق بين فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس

(15/135)


معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس على ما سيأتي قريبا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس.
(والشرط الثاني) الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها فان شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز وبط العقد عليها لانها تتنافر بالارسال ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية، وأنها لا تتنافر في طيرانها.
(والشرط الثالث) أن تكون الغاية معلومه لانها مستحقه في عقد معاوضه فان وقع العقد على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر لم يجز لامرين، أحدهما: جهالة الغاية.
والثانى: لانه يفضى ذلك لاجرائهما حتى يعطبا ويتلفا.
(والشرط الرابع) أن تكون الغاية التى يمتد إليها شوطهما يحتملها الفرسان ولا ينقطعان فيها، فان طالت عن انتهاء الفرسين إليها الا عن انقطاع وعطب بطل العقد لتحريم ما أفضى إلى ذلك.
(والشرط الخامس) أن يكون العوض فيه معلوما كالاجور والاثمان ن فان أخرجه غير المتسابقيه جاز أن يتساويا فيه ويتفاضلا، لان الباذل للسبق مخير بين القليل والكثير، فجاز أن يكون مخير بين التساوى في التفضيل، ويجوز أن يتماثل جنس العوضين وان لم يختلف.
قال الشافعي رضى الله عنه: والاسباق ثلاثه سبق يعطيه الوالى أو الرجل غير الوالى من ماله متطوعا به، وذلك مثل أن يسبق بين الخيل من غايه إلى غايه فيجعل للسابق شيئا معلوما وان شاء جعل للمصلى، والثالث والرابع والذى يليه بقدر ما رأى، فما جعل لهم كان على ما جعل لهم، وكان مأجورا عليه أن يؤدى فيه وحلالا لمن أخذه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز المسابقه على الخيل والابل بعوض، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر) ولان

(15/136)


الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والابل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار، فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبى هريرة، ولانه ذو حافر أهل فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل
(والثانى)
لا تجوز لانه لا يصلح للكر والفر، فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض، فمنهم من قال: لا تجوز، لانه لا يصلح للكر والفر.
ومنهم من قال: تجوز لحديث أبى هريرة، ولانه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الابل.
واختلفوا في المسابقة على الحمام، فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض، ومنهم من قال تجوز لانه يستعان به على الحرب في حمل الاخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل.
واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات، فمنهم من قال تجوز، وهو قول أبى العباس، لانها في قتال الماء كالخيل في قتال الارض، ومنهم من قال لا تجوز، لان سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الاقدام بعوض، فمنهم من قال تجوز لان الاقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان، ومنهم من قال لا تجوز، وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولان المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد، والمشى بالاقدام لا يحتاج إلى التعلم
واختلفوا في الصراع، فمنهم من قال يجوز بعوض، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارع يزيد بن ركانه على شاء فصرعه، ثم عاد فصرعه، ثم عاد فصرعه، فأسلم ورد عليه الغنم.
ومنهم من قال: لا يجوز.
وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات القتال.
وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم، ولانه لما أسلم رد عليه ما أخذ منه.

(15/137)


(الشرح) حديث ابى هريرة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولم يذكر فيه ابن ماجه: أو نصل، وأخرجه أيضا الشافعي والحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن حبان وابن دقيق العبد، وحسنه الترمذي وأعله يحيى بن سعيد القطان بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس.
وأما حديث يزيد بن ركانة فقد رواه أبو داود بلفظ (عن محمد بن على بن ركانة أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم) وفى إسناده أبو الحسن العسقلاني وهو مجهول.
وأخرجه أيضا الترمذي من حديث العسقلاني أيضا عن أبى جعفر محمد بن ركانة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم.
وروى أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ فقال ما تسبقني أي ما تجعله لى من السبق قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه فأخذ الشاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟ ففعل ذلك مرارا، فقال يا محمد ما وضع جنبى أحد إلى الارض، وما أنت بالذى تصرعنى فأسلم ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليه غنمه
قال الحافظ بن حجر: إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدا لم يدرك ركانة، قال البيهقى وروى موصولا وفى كتاب السبق لابي الشيخ من رواية عبيد الله بن يزيد المصرى عن حماد عن عمر بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مطولا.
ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث أبى أمامة مطولا، وإسنادهما ضعيف وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أبى زياد، وأحسبه عن عبد الله ابن الحارث قال (صارع النبي صلى الله عليه وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان شديدا ن فقال شاة بشاة، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاودني في اخرى، فصرعه النبي صلى الله علهى وسلم، فقال عاودني، فصرعه صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لاهلي؟ شاة أكلها ذئب! وشاة نشزت فما أقول في الثالثة؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك خذ غنمك) هكذا وقع فيه: أبو ركانة والصواب ركانه.

(15/138)


أما ألفاظ الفصل فقوله: لا سبق هو بفتح الباء.
المال الذى يسابق عليه، والنصل هو السهم، والخف للابل، والحافر للفرس والبغل والحمار، الظلف لسائر البهائم، والمخلب للطير، وقله كالزبازب جمع زبزب نوع من السفن منها الصغير والكبير والاول سريع خفيف، وكذك الشذوات وكلا اللفظين أعجمى أما الاحكام فقد فسر الشافعي رضى الله عنه حديث أبى هريرة بقوله: والخف الابل والحافر الخيل والنصل كل سهم أو ما يشابهه.
وقال في موضع ان الحافر الخيل والبغال والحمير لانها تركب للجهاد كالابل ويلقى عليها العدو كالخيل وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب هوازن على بغلته الشهباء فصار في الحافر قولان.
فأما النصل فالمراد به السهم المرمى به عن قوس، وان كان النصل اسما لحديدة السهم فالمراد جميع السهم، فهذه الثلاثة هي التى نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في جواز السبق بها، فاختلف قول الشافعي فيها فقال: يحتمل معنيين.
أحدهما أنها رخصة مستثناة من جمله محظورة لانه أخرج باستثنائه ما خالف حكم أصله، فعلى هذا لا يجوز أن يقاس على هذه الثلاثة غيرها، ويكون السبق مقصورا على التى تضمنها الخبر وهى الخف، والخف الابل وحدها والحافر وفيه قولان.

(أحدهما)
الخيل وحدها
(والثانى)
الخيل والبغال والحمير، والنصل وهو السهام ويكون السبق بما عداها محظورا.
والقول الثاني في المعنيين أن النص على الثلاثة أصل مبتدأ ورد الشرع ببيانه وليس بمستثنى، وان خرج مخرج الاستثناء لان المراد به التوكيد دون الاستثناء فعلى هذا يقاس على كل واحد من الثلاثة ما كان في معناها كما قيس على الستة في الربا ما وافق معناها، وعليه يكون التفريع، فيقاس على الخف السبق بالفيله لانها ذوات أخفاف كالابل، وهى في ملاقاة العدو أنكى من الابل.
وهل يقاس عليها السبق بالسفن والطيارات البحرية التى أطلقوا عليها الزبازب والشذوات أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

(15/139)


(أحدهما)
وهو قول ابن سريج يجوز السبق عليها لانها معدة لجهاد العدو في البحر وحمل ثقله كالابل في البر.
(والوجه الثاني) لا يجوز السبق عليها لان سبقها بقوة ملاحها دون المقاتل فيها، فأما بالزواريق الكبار والمراكب الثقال التى لم تجر العادة في لقاء العدو بمثلها فغير جائز على الوجهين معا هكذا أفاده الماوردى في الحاوى، فأما كون الحافر بالخيل والبغال والحمير نصا في أحد القولين لا نقلا من اسم الحافر
عليها وقياسا في القول الثاني لانها ذوات حوافر كالخيل وفى معناها، واختلف أصحابنا هل يقاس عليها السبق بالاقدام أم لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

(أَحَدِهِمَا)
وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة: تجوز المسابقة بالاقدام بعوض وبغير عوض لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استبق هو وعائشة على أقدامهما، ولان السعي من قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان.
والوجه الثاني وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المسابقة بالاقدام لا تجوز مطلقا عند الماوردى في الحاوى ويشمل ما كان بغير عوض أو بعوض لانه سبق على فعلها من غير آلة فاشبه الطفرة والوثبة، ولان السبق على ما يستفاد بالتعليم ليكون باعثا على معاطاته، والسعى لا يستفاد بالتعليم، وقيد المصنف عدم الجواز على المذهب والمنصوص أنه ما كان بعوض.
قال الماوردى: فعلى هذا ان قيل: ان المسابقة بالاقدام لا تجوز فالمسابقة بالسباحة أولى أن لا تجوز، وان قيل بجوازها على الاقدام ففى جوازها بالسباحة وجهان
(أحدهما)
تجوز كالاقدام لان أحدهما على الارض والآخر في الماء.
(والوجه الثاني) أنها لا تجوز بالسباحه وان جازت بالاقدام لان الماء مؤثر في السباحه والارض غير مؤثرة في السعي أه.
وهذا كلام من لا يعرف قواعد السباحه وكونها علما ومهارة ولها قواعد لا تتأتى الا بالتعلم والتمرس مع لياقة البدن وقوته حتى تكون المهارة والتفوق والسبق.
وقد تطورت أسباب الاعداد للجهاد فكان منها الضفادع البشريه الذين يغوصون في أعماق البحار ليدمروا السفن الحربيه وقلاع الثغور، وهى أنكى

(15/140)


على الاعداء من ركوب الخيل والحمير.
ولولا مهارة عساكر الاسلام وجند القرآن في علوم البحار وأولها إتقان السباحة ما تسنى للصحابة أن ينتصروا على
الروم في معركه ذات الصوارى في الاسكندرية ولا طرقوا بأيديهم القوية أبواب القسطنطينية على عهد معاوية وكانت قيادة الاسطول لولده يزيد.
وأما السبق بالصراع أو المصارعة فقد كانت تقوم عند السلف على قوة البدن وعلى إحسان القبض على الخصم وإلقائه أرضا وهى في زماننا هذا تقوم على أضرب منها الحرة والرومانية واليابانية، ولكل نوع منها أسلوبه في صرع الخصم، وهى تهدف جميعا إلى إحسان القبض على الخصم وإجباره على أن يتخذ وضعا ببدنه يعجز معه عن المقاومة.
وقد اختلف أصحابنا في السبق بالصراع على وجهين:
(أحدهما)
وهو مذهب أبى حنيفة أنه جائز لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج إلى الابطح في قصة يزيد بن ركانة، وقد مضى تخريج طرقها وبيان وجه الحق فيها وهى روايات بمجموعها وإن لم يصح منها واحدة إلا أنها تنهض للاحتجاج.
والوجه الثاني وهو ظاهر مذهب الشافعي، والمنصوص عنه أنه لا يجوز، فالسبق على المشابكه بالايدي لا تجوز.
وإن قيل بجوازه في الصراع ففى جوازه بالمشابكة وجهان كالسباحة.
ومنها اختلاف أصحابنا في السبق بالحمام وجهان، وهو نوع من الحمام الذكى الصبور الذى يعبر البحار ويقطع الفيافي والقفار حتى يصل إلى غايته بسرعة فائقة يحمل الاخبار والكتب، وكان لامراء الاسلام وقواد الجيوش أبراج لتلقى هذه الحمائم فيفضون كتبها بأنفسهم، فمن جيش يطلب النجدة إلى قائد يعلن هزيمة عدوه، فكان لهذا الحمام أثره وفعله، وهو سلاح من أسلحة الجيوش كالبرق وسلاح الاشارة، فالوجه الاول يجوز لانها تؤدى أخبار المجاهدين بسرعة.
والوجه الثاني: لا يجوز لانها لا تؤثر في جهاد العدو.
وأما السبق بنطاح الكباش ونقار الديكة، فهو أسفه أنواع السبق وهو باطل لا يختلف أحد من أهل العلم
في عدم جوازه.
والله أعلم بالصواب

(15/141)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز المسابقة بعوض على الرمى بالنشاب والنبل، وكل ماله نصل يرمى به كالحراب والرانات لحديث أبى هريرة، ولانه يحتاج إلى تعلمه في الحرب فجاز أخذ العوض عليه، ويجوز على رمى الاحجار عن المقلاع، لانه سلاح يرمى به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان، أحدهما تجوز المسابقه عليها بعوض لانه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب، والثانى لا تجوز لان القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب، والمسابقة بهذه الآلات محاربه لا مسابقه، فلم تجز لسبق على أن يرمى بعضهم بعضا بالسهم
(فصل)
وأما كرة الصولجان ومداحاة الاحجار ورفعها من الارض، والمشابكة والسباحه واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذى لا يستعان به على الحرب، فلا تجوز المسابقة عليها بعوض، لانه لا يعد للحرب، فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.

(فصل)
وإن كانت المسابقه على مركوبين فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا تجوز الا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين، فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لان تفاضل الجنسين معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شروط الفرس كما قال الشاعر: إن المذرع لا تغنى خؤولته كالبغل يعجز عن شوط المحاضير ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين، لان العتيق في أول شوطه أحد وفى آخره ألين، والهجين في أول شوطه ألين وفى آخره أحد.
فربما صارا عند الغاية متكافئين.
ومنهم من قال، وهو قول أبى إسحاق انه يعتبر التكافؤ بالتقارب في
السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز، لانه يجوز أن يكون كل واحد منهما سابقا والآخر مسبوقا، وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز، لانه يعلم أن أحدهما لا يجرى في شوط الآخر.
قال الشاعر: إن البراذين إذا أجريتها مع العتاق ساعة أعنيتها، فلا معنى للعقد عليه
(فصل)
ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لان القصد معرفة جوهرهما، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين.

(15/142)


(الشرح) السلاح نوعان نوع يفارق اليد ونوع لا يفارق اليد، فكل سلاح فارق يد صاحبه كالسهام والحراب ومقاليع الاحجار وقسى البندق ورصاصة فهو جائز بالاتفاق، أما ما لا يفارق يد صاحبه من السيوف والرماح والاعمدة فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين.
أحدهما: يجوز كالمفارق ليده، لان جهاد العدو بها.
والوجه الثاني: لا يجوز، لانه يكون بذلك محاربا لا مسابقا، فأما السبق بالمداحى وأكرة الصولجان وما ذكره المصنف من أنواع اللعب فعلى الوجه الذى ذكره المصنف لا وجه غيره، وفرق الماوردى بين السبق بالمداحى وهى إحداث حفرة يلقون بأحجار مستديرة فيها فمن وقع حجره فيها فقد قمر وبين الدحو بالحجر الثقيل أو رفعه من الارض لاختبار القوة والارتياض بها وهو في رياضة حمل الاثقال فيكون السبق عليه كالسبق على الصراع فيكون على وجهين.
(فرع)
عرفت فيما أسلفنا في الفصل قبلة أن لصحة السبق على الاعواض المبذولة خمسة شروط.
أحدها: التكافؤ فيما يسبقان عليه وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من المذهب وما عليه جمهور الاصحاب أن التكافؤ بالتجانس، فيسابق بين
فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق، ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر في البيت الذى ساقه المصنف والمذرع وهو الذى أمه أشرف من أبيه كما يقول الفرزدق: إذا باهلي عنده حنظليه
* له ولد منها فذاك المذرع وإنما سمى البغل مذرعا بالعلامتين المستديرتين السوداوين في ذراعيه الاماميتين ورثهما من الحمار، والمحاضير السريعة العدو واحدها محضار، والعتيق عربي الابوين، والهجين عربي الاب أعجمى الام، والبختي إبل بطيئة العدو، والنجيب الحسن الخلق السريع وانجبته استخلصته، ولكن يجوز السبق بين عتاق الخيل

(15/143)


وهجانها لان جميعها جنس، والعتيق في أول الشوط احد من الهجين، والهجين في أول الشوط ألين وفى آخره أحد فربما صار عند الغاية متكافئين، وهذا وجه
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق المروزى: أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس، وإنما هو معتبر بأن يكون كل واحد من المستبقين يجوز أن يكون سابقا ويجوز أن يكون مسبوقا، فإن جوز ذلك بين فرس وبغل أو بين بعير وحمار جاز السبق بينهما، وإن علم يقينا أن أحدهما يسبق الآخر عند الاختيار لم يجز السبق بينهما، ولو علم ذلك بين فرسين عتيق وهجين، أو بين بعيرين عربي وبختى لم يجز السبق بينهما، وكذلك لو اتفق الفرسان في الجنس، واختلفا في القوة والضعف فيمنع من الاستباق بينهما وهما من جنس واحد، وتجوز بينهما وهما من جنسين مختلفين اعتبارا بالجواهر دون التجانس.
والشرط الثاني من الشروط الخمسه: الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها، فإن شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز، وبطل العقد
عليها لانها تتنافر بالارسال، ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور - إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية وانها لا تتنافر في طيرانها، وبقية الشروط مضى ذكرها إجمالا، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الابتداء والانتهاء لحديث ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق، ولانهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن لا يسبق أحدهما الاخر إلى أن يعطبا، ولا يجوز أن يكون اجراؤه الا بتدبير الراكب لانهما إذا جريا لانفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية، وان تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له، فقد قال أبو على الطبري في الافصاح: يجوز ذلك عندي لانهما يتحاطان ما تساويا فيه، وينفرد

(15/144)


أحدهما بالقدر الذى شرطه، فجاز كما يجوز في الرمى أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه، ويفضل لاحدهما عدد.
قال أبو على الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجها.

(فصل)
وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إما أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم، فإن جعله للسابقه بأن قال: من سبق منكم فله عشرة جاز، لانه يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود، فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لانه سبق، وإن سبق إثنان أو ثلاثة وجاءوا مكانا واحدا اشتركوا في العشرة لانهم اشتركوا في
السبق، فإن جاءوا كلهم مكانا واحدا لم يستحق واحد منهم لانه لم يسبق منهم أحد، وإن جعله لبعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل للباقى جاز، لان كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلى ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت، فإن سوى بينهم بأن قال: من جاء منكم إلى العاية فله عشرة لم يصح، لان القصد من بذلك العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية، فإذا سوى بين الجميع عليم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الاول مائة، وللمصلى وهو الثاني خمسون، وللتالى وهو الثالث أربعون، وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون، وللحظى وهو السادس خمسة عشر، وللعاطف وهو السابع عشرة، وللرمل وهو الثامن ثمانية، وللطيم وهو التاسع خمسة.
وللسكيت وهو العاشر درهم، وللفسكل وهو الذى يجئ بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان (أحدهما يجوز لان كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الاكثر
(والثانى)
لا يجوز لان كل واحد منهم يعلم انه لا يخلوا من شئ تقدم أو تأخر، فلا يجتهد في المسابقة، وان جعل للاول عشرة وللثالث خمسه وللرابع اربعة ولم يجعل للثاني شيئا فييه وجهان (احدهما) يصح ويقوم الثالث مقام الثاني.
والرابع مقام الثالث، لان الثاني بخروجه من السبق يجعل كان لم يكن
(والثانى)
انه يبطل، لانه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.

(15/145)


(الشرح) حديث ابن عمر مضى تخريجه في اول هذه الفصول وشرحنا غريبه وطريقة.
اما الاحكام فانه يشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وان يكون لابتداء عدوهما واخره غاية لا يختلفان فيها، لان الغرض معرفة أسبقهما،
ولا يعلم ذلك الا بتساويهما في الغاية، ولان احدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه.
وقد يكون عكس ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه أو احواله.
ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره وقد روى أبو داود في سننه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم (سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ستة أميال أو سبعة، وبين التى لم تضمر من الثنية إلى مسجد بنى زريق، وذلك ميل أو نحوه.
فان استيفاء بغير غاية لينظرا أيهما يقف أولا لم يجز، لانه يؤدى إلى أن لا يقف احدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الاشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة، فان ارسل احدهما قبل الاخر أو لا لم يجز هذا في المسابقة بعوض لانه قد لا يدركه مع كونه اسرع منه لبعد ما بينهما، ويكون عند اول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك.
وقول الشافعي: الاسباق جمع سبق - بفتح الباء - وهو العوض المخرج في المسابقة - وهو باسكان الباء - مصدر سبق من المسابقة اما السبق الاول الذى يراه الشافعي، وهو الذى يخرجه غير المتسابقين فيجوز، سواء اخرجه الامام من بيت المال أو أخرجه غير الامام من ماله.
وكلام مالك من عدم جوازه لغير الامام فاسد من وجهين
(أحدهما)
ان ما فيه معونه على الجهاد جاز ان يفعله غير الائمه كارتباط الخيل واعداد السلاح.

(والثانى)
ان ما جاز أن يخرجه الامام من بيت مال المسلمين جاز ان يتطوع به كل واحد من المسلمين كبناء المساجد والقناطر
فإذا صح جوازه جاز أن يختص به السابق وحده دون غيره، كقول الباذل

(15/146)


إذا كان المتسابقون عشرة فقد جعلت للسباق منكم عشرة وهذا جائز، فايهم جاء سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ولا شئ لمن بعده، وان كانوا متفاضلين، في السبق، فلو سبق اثنان من الجماعة فجاءا معا وتأخر الباقون اشترك الاثنان في العشرة لتساويهما في السبق فاستويا في الاخذ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الاخذ كذلك.
ولو سبق تسعة وتاخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم، ولو جاءوا جميعا غرضا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم فلا شئ لهم لانه ليس فيهم سابق ولا مسبوق.
والقسم الثاني: ان يبذله لجماعة منهم ولا يبذله لجميعهم، كان بذل الاول عوضا والثانى عوضا ولكل واحد منهم في اللغة إذا تقدم على غيره خاص.
فيقال للسابق الاول المجلى والثانى المصلى والثالث التالى والرابع البارع والخامس المرتاح والسادس الحظى والسابع العاطف والثامن المؤمل والتاسع الطيم والعاشر السكيت، وليس لما بعد العاشر اسم، الا الذى يجئ آخر الخيل كلها، ويقال له الفسكل.
قال الجاحظ: كانت العرب تعد السوابق ثمانية ولا تجعل لما جاوزها حظا، فأولها السابق ثم المصلى ثم المقفى ثم التالى ثم العاطف ثم المذمر ثم البارع ثم اللطيم.
قال الثعالبي: وكانت العرب تلطم الاخر ان كان له حظ.
وقال أبو عكرمة: اخبرنا ابن قادم معن الفراء انه ذكر في السوابق عشرة اسماء لم يحكها احد غيره وهى: السابق ثم المصلى ثم المسلى ثم التالى ثم المرتاح ثم العاطف ثم الحظى ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت.
وقد جاء في الحاوى الكبير للماوردى هذه الاسماء التى ذكرها المصنف مع
جعل المؤمل بدل المرمل، وهو ما يوافق رواية الفراء هنا، فإذا بذل لبعض دون بعض فعلى ضربين: (احدهما) ان يفاضل بين السابق والمسبوق فيجعل للاول الذى هو المجلى - وقد اشنق اسمه من الجلاء - قال ابى بطال: قال المطرزى: يحتمل ان يكون من جلاء الهموم - عشرة، ويجعل للثاني الذى هو المصلى - لان جفلته على صلى السابق وهي منخره، والصلوان عظمان عن يمين الذنب وشماله - تسعة،

(15/147)


والثالث الذى هو التالى - أي التابع - خمسة والرابع الذى هو البارع - أي الفائق كما يقال لمن فاق اصحابه في العلم: بارع - اربعة، والخامس الذى هو المرتاح - من راح يراح راحة إذا فحلا أو إذا نشط وجف - ثلاثة، فان هذا جائز لانه قد منع المسبوقين وفاضل بين السابقين فحصل التحريض في طلب التفاضل وخشبة المنع ويتفرع على هذا ان يجعل للسابق عشرة، وللمصلى خمسة ولا يجعل لمن بعدهم شيئا فيكون السابق أو المجلى خمسة والمصلى واحدا الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان وينفرد المصلى بالخمسة وان صار بها افضل من السابقين لانه اخذ الزيادة لتفرده، بدرجته، ولم ياخذ لتفضيل اصل درجته، وقد كان يجوز ان يشاركه غيره في درجته فيقل سهمه عن سهم من بعده.
ثم على هذا القياس إذا جعل للثاني شيئا ثالثا فحصل في كل درجة انفراد أو اشتراك وجب ان يختص المنفرد بسبق درجته، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم.
والضرب الثاني: ان يستوى فيهم بين سابق ومسبوق، كانه يجعل للسابق عشرة وللمصلى عشرة وفاضل بين بقية الخمسة.
وهذا جائز لان مقتضى التحريض ان يفاضل بين السابق والمسبوق، فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز، وكان
السبق في حق المصى الذى سوى بينه وبين سابقه باطلا، ولم يبطل في حق الاول بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذى بطل السبق في حقه هل يستحق على الباذل اجرة مثله أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ ابى اسحاق المروزى انه لا اجرة له على الباذل، لان منعه عائد عليه لا على الباذل.
فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده باطلا لانه يجوز ان يفضلوا به على من سبقهم.
والوجه الثاني هو قول ابى على الطبري انه له على الباذل اجرة مثله لان من استحق المسمى في العقد الصحيح استحق اجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل واحد من عقدى الاجارة والجعالة.

(15/148)


فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا، ولكل واحد منهم ما سمى له، وان كان اكثر من اجرة من بطل السبق في حقه، لانه لا يجوز ان يفضلوا عليه إذا كان مستحقا بالعقد.
وهذا مستحق بغيره ويتفرع على هذا إذا جعل للاول عشرة ولم يجعل للثاني شيئا، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة ولم يجعل بعدهم شيئا، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل.
وفى قيام من بعده مقامه وجهان: (احدهما) يقوم الثالث مقام الثاني، ويقوم الرابع مقام الثالث لانه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه، فعلى هذا يصح السبق فيها بالمسمى لهما بعد الاول.
والوجه الثاني: انهم يترتبون على التسمية ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجا له من البدل.
فعلى هذا يكون السبق فيهما باطلا لتفضيلهما على السابق لهما، وهل يكون لهما اجرة مثلهما ام لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين:
والقسم الثالث: ان يبذل العوض لجماعتهم ولا يخلى اخرهم من عوض فينظر فان سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا.
وكان الحكم فيه على ما قدمنا وان لم يساو بين السابق والمسبوق، وفضل كل سابق على كل مسبوق حتى يجعل متاخرهم اقلهم سهما ففى السبق وجهان: (احدهما) انه جائز اعتبارا بالتفضيل في السبق، فعلى هذا ياخذ كل واحد منهم ما سمى له.
والوجه الثاني: ان السبق باطل لانهم قد تكافأوا في الاخذ وان تفاضلوا فيه، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الاخر وحده؟ فيه وجهان: (احدهما) انه باطل في حقه وحده لان بالتسمية له فسد السبق والوجه الثاني: ان يكون باطلا في حقوق جماعتهم، لان اول العقد مرتبط باخره، وهل يستحق كل واحد منهم اجرة مثله ام لا؟ على الوجهين المذكورين فهذا حكم السبق الاول.

(15/149)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فان كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت، فان كان معهما محلل وهو ثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد، وان لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من ادخل فرسا بين فرسين وهو لايامن ان يسبق فلا باس ومن ادخل فرسا بين فرسين وقد امن ان يسبق فهو قمار) ولان مع المحلل لا يكون قمارا، لان فيهم من ياخذ إذا سبق ولا يعطى إذا سبق وهو المحلل، ومع عدم المحلل ليس فيهم الا من ياخذ إذا سبق، ويعطى إذا سبق، وذلك قمار، وان كان المحلل اثنين أو اكثر جاز، لان ذلك ابعد من القمار، وان كانت المسابقة بين حزبين كان حكمهما في
المحلل حكم الرجلين، لان القصد من دخول المحلل الخروج من القمار، وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته.
واختلف اصحابنا في دخول المحلل فذهب اكثرهم إلى ان دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم، وذهب أبو على بن خيران إلى ان دخوله لتحليل السبق لنفسه وان ياخذ إذا سبق، ولا يأخذان إذا سبقا، لانا لو قلنا: انهما إذا سبقا أخذا حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطى مرة، وهذا قمار، والمذهب الاول لانا بينا ان بدخول المحلل خرجا من القمار، لان في القمار ليس فيهم الا من يعطى مرة وياخذ مرة، وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطى فلم يكن قمارا، فان تسابقوا نظرت فان انتهوا إلى الغاية معا احرز كل واحد منهما سبقه لانه لم يسبقه احد، ولم يكن للمحلل شئ لانه لم يسبق واحدا منهما، وان سبق المخرجان احرز كل واحد منها سبقه لانهما تساويا في السبق ولا شئ للمحلل لانه مسبوق، وان سبقهما المحلل اخذ سبقهما لانه سبقهما، وان سبق احد المخرجين وتاخر المحلل والمخرج الاخر احرز السابق سبق نفسه.
وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه للسابق المخرج لانه انفرد بالسبق، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لانه لا يستحقه السابق المخرج

(15/150)


على قوله ولا يستحقه المحلل لانه لم يسبق، وان سبق المحلل واحد المخرجين احرز السابق سبق نفسه، وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه بين المخرج السابق والمحلل، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الاخر ففيه وجهان المذهب ان سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمحلل دون السابق، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني، ثم جاء المحلل ففيه وجهان المذهب ان سبق
المسبوق للسابق، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لان المخرج السابق لا يستحقه والمحلل لم يسبق فبقى على ملك صاحبه.

(فصل)
وان كان المخرج للسبق احدهما جاز من غير محلل لان فيهم من ياخذ ولا يعطى وهو الذى لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما محلل، فان تسابقا فسبق المخرج احرز السبق، وان سبق الاخر اخذ سبقه وان جاءا معا احرز المخرج السبق لانه لم يسبقه الاخر.
(الشرح) حديث ابى هريرة رواه احمد وابو داود وابن ماجه، واخرجه ايضا الحاكم وصححه والبيهقي ورواه ابن حبان باسناده وصححه.
وقال الطبراني في الصغير: تفرد به سعيد بن بسير عن قتادة عن سعيد بن المسيب وتفرد به عنه الوليد وتفرد به عنه هشام بن خالد، ورواه ايضا أبو داود عن محمود بن خالد عن الوليد لكنه ابدل قتادة بالزهرى، ورواه أبو داود وغيره ممن تقدم من طريق سفيان بن حسينن عن الزهري وسفيان ضعيف في الزهري، وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من اهل العلم، كذا قال ابو داود وقال: هذا أصح عندنا.
وقال أبو حاتم: احسن احواله ان يكون موقوفا على سعيد بن المسيب، فقد رواه يحيى بن سعيد عنه وهو كذلك في الموطأ عن سعيد من قوله، وقال ابن ابى خيثمة: سالت ابن معين فقال: هذا باطل، وضرب على ابى هريرة.
وحكى أبو نعيم في الحيلة انه من حديث الوليد عن سعيد بن عبد العزيز.

(15/151)


قال الدارقطني: والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني والحاكم.
وحكى الدارقطني في العلل ان عبيد بن شربك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد عن الزهري.
قال الحافظ: وقد رواه عبدان عن هشام، اخرجه ابن عدى مثل ما قال عبيد وقال: انه غلط قال: فتبين بهذا ان الغلط فيه من هشام، وذلك انه تغير حفظه اما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه والسبق الثاني من الاساق ان يجمع شيئين وذلك مثل الرجلين يريدان ان يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل منهما ان يسبق صاحبه ويخرجان سبقين، ولا يجوز الا بمحلل، وهو ان يجعل بينهما فرس ولايجوز حتى يكون كفؤا لفرسيهما لا يا منان ان يسبقهما.
قلت: هذا هو السبق الثاني وهو ان يستبق الرجلان ويخرج كل واحد منهما سبقا من ماله ياخذه السابق منهما، وهذا لا يصح حتى يوكلا بينهما محللا لا يخرج شيئا، وياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق لنص ومعنى.
اما النص فهو حديث ابى هريرة الذى مضى تخريجه.
واما المعنى فهو ان اباحة السبق معتبرة بما خرج عن معنى القمار هو الذى لا يخلو الداخل فيه من ان يكون غانما ان اخذ أو غارما ان اعطى فإذا لم يدخل بينهما محلل كانت هذه بحالها فكان قمارا، وإذا دخل بينهما محلل غير مخرج ياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق خرج عن معنى القمار فحل، وهذا الداخل يسمى محللا، لان العقد صح به فصار حلالا ويسميه اهل السبق ميسرا، ويصح العقد به باربعة شروط.
احدها: ان يكون فرسه كفؤا لفريسهما أو اكفا منهما لايامنان ان يسبقهما فان كان فرسه ادون من فرسيهما وهما يا منان ان يسبقهما لنصر الحديث، ولان دخوله مع العلم بانه لا يسبق غير مؤثر من اخذ السبق.
والشرط الثاني: ان يكون المحلل غير مخرج لشئ وان قل، فان اخرج شيئا خرج من حكم المحلل وصار في حكم المستبق.
والشرط الثالث: ان ياخذ ان سبق، فان شرط ان لا يأخذ لم يصح.
والشرط الرابع: ان يكون فرسه معينا عند العقد لدخوله فيه كما يلزم تعيين

(15/152)


فرس المستبقين، وان كان غير معين بطل، فإذا صح العقد بالمحلل على استكمال شروطه فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن المحلل دخل ليحلل العقد، ويحلل العقد الاخر فيأخذ إن سبق ويؤخذ به إن سبق.
وقال أبو على بن خيران: إن المحلل دخل للتحلل للعقد ويأخذ ولا يؤخذ به وهذا خطأ لان التحريض المقصود باستفراه الخيل ومعاطاه الفروسية غير موجود إذا لم يوخذ بالسبق شئ فيصير مانعا من السبق، وإذا أخذ به صار باعثا عليه وحافزا له، وهذا يتضح في التفريعات الاتية، والله اعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على كرم الله وجهه فدعا بسراقة ابن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا اتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثا هل مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه) فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما، لانه أعدل وأقطع للتافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على الاخر ولا يجلب ورواءه لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا، قال مالك: الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشسن.
ليستحث به السبق.

(فصل)
وأما ما يسبق به فينظر فيه فان شرط في السبق أقداما معلومة لم يستحق السبق بما دونها لانه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت فان تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكند، فان سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق، وان اختلفا في العنق

(15/153)


اعتبر السبق بالكتد لانه لا يختلف، وإن سبق أطولهما عنقا بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لانه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجرى
(فصل)
وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الاخر لم يحكم للسابق بالسبق لانه لم يسبق بجودة الجرى ولا تأخر المسبوق لسوء جريه.

(فصل)
وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد، لان العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا قبل القبض.
وإن مات الراكب، فان قلنا: انه كالجعالة بطل العقد بموته، وان قلنا: إنه كالاجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه.

(فصل)
وإن كان العقد على الرمى لم يجز بأقل من نفسين، لان المقصود معرفة الحذق، ولا يبين ذلك بأقل من اثنين، فان قال رجل لاخر: ارم عشرا وناضل فيها خطأك بصوابك، فان كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز، لانه بذل العوض على أن يناضل نفسه.
وقد بينا أن ذلك لا يجوز، وإن قال ارم عشرة فإن كان صوابك أكثر فلك دينار، ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز
(والثانى)
لا يجوز لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب، والخطأ لا يستحق به بدل.
(الشرح) حديث على رواه الدارقطني واخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني وقال: هذا إسناد ضعيف ولفظه كاملا هكذا (يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية - فصف الخيل ثم ناد: هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه.

(15/154)


وكان على يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين ابهامى أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول إذا خرج احد الفرسين على صحابه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له، فإن شككنما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام) .
أما غريبة فقوله (هذه السبقة) فهى بضم السين وإسكان الباء هو الشئ الذى يجعله المتسابقان بينهما يأخذه من سبق منهما.
قال في القاموس: السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل السباق والجمع أسباق.
قوله (فإذا أتيت الميطان) بكسر الميم.
قال في القاموس: والميطان بالكسر الغاية.
قوله (فصف الخيل) هي خيل الحلبة.
قال في القاموس.
الحلبة بالفتح هي الدفعة من الخيل في الرهان، وخيل تجتمع للسباق من كل أوب.
قوله (ثم ناد الخ) فيه استحباب التأني قبل ارسال خيل الحلبة، وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه، وجعل علامه على الارسال من تكبير أو غيره، وتأمير أمير يفعل ذلك.
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح بلفظ (ليس منا
من أجلب على الخيل يوم الرهان، وأخرجه الطبراني بلفظ (لا جلب في الاسلام) وفى إسناده أبو شيبة ضعيف، والمراد بالجلب في الرهان أن يأتي برجل يجلب على فرسه أي يصيح عليه يستحثه بالازعاج حتى يسبق، والجنب أن يجنب فرسا إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب.
وقال ابن الاثير: له تفسيران ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في الزكاة، وقد مضى معناه في الزكاة من كتاب الزكاة أما الاحكام: فإن السبق يحصل في الخيل بالرأس إذا تماثلت الاعناق، فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الابل اعتبر السبق بالكتف لان الاعتبار بالرأس متعذر، فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه، وقد مضى لنا تفصيل ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وقال الثوري: إذا سبق أحدهما بالاذن كان سابقا ولا يصح لان أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الاخر عنقه فيكون سابقا بأذنه لذلك لا لسبقه، وان شرطا

(15/155)


السبق بأقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح على أحد القولين عند أصحابنا والثانى: يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمى.
قال الماوردى في الحاوى الكبير: وإذا استقرت بينهما مع المحلل في الجرى فيختار أن يكون في الموضع الذى ينتهى إليه السبق، وهو غاية المدى قصب قد غرزت في الارض يسميها العرب قصب السبق ليحرزها السابق منهم فيتلقفها حتى يعلم بسبقه الدانى والقاصى فيسقط الاختلاف، وربما كر بها راجعا يستقبل بها المسبوقين إذا كان مفضلا في السبق مباهيا في الفروسية.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والسبق أن يسبق أحدهما صاحبه وأقل السبق أن يسبق أحدهما صاحبه بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه اه.
فالسبق ضربان.
أحدهما: أن يكون معتبرا بأقدام مشروطة كاشتراطهما السبق بعشرة أقدام ولا يتم السبق الا بها ولو سبق أحدهما بتسعة أقدام لم يكن سابقا في استحقاق
البدل، وان كان سابقا في العمل.
والضرب الثاني: أن يكون مطلقا بغير شرط فيكون سابقا بكل قليل وكثير.
قال الشافعي رضى الله عنه: أقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه، فأما الهادى فهو العنق، وأما الكتد ويقال بفتح التاء وكسرها والفتح أشهر، وفيه تأويلان.
أحدهما: أنه الكتف.
والثانى: أنه ما بين أصل العنق والظهر، وهو مجتمع الكتفين في موضع السنام من الابل، فجعل الشافعي رضى الله عنه أقل السبق السبق بالهادي والكتد.
وقال الاوزاعي: أقل السبق بالرأس وقال المزني: أقل السبق بالاذن استدلالا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر باذنه: قال الماوردى ردا على المزني: المقصود بهذا الخبر ضرب المثل على وجه المبالغة وليس بحد لسبق الرهان كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من بنى لله بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) وان كان بيت لا يبنى كمفحص القطاة وانما لم يعتبر بالاذن كما قال المزني، ولا بالرأس كما قال الاوزاعي، لان من الخيل ما يزجى أذنه ورأسه فيطول، ما يرفعه فتقصر، فلم يدل واحد منهما على التقديم اه.

(15/156)


وإذا سقط اعتبارهما ثبت اعتبار الهادى والكتد، ولو اعتبر السبق بأيديهما فأيهما تقدمت يداه وهو السابق كان عندي أصح، لان السعي بهما والجرى عليهما لكن الشافعي اعتبر بالهادي والكتد.
فأما السبق بالكتد فمتحقق سواء اتفق الفرسان في الطول والقصر أو تفاضلا وأما السبق بالهادي وهو العنق فلا يخلو حال الفرسين أن يتساويا فيه أو يتفاضلا في طوله أو قصره، فإن سبق بالعنق أقصرهما عنقا، وإن سبق بالعنق
أطولهما عنقا لم يكن سابقا إلا أن يتصاف السابق بكتده، لان سبقه بعنقه إنما كان لطوله لا لزيادة جريه.
فإن قيل: فإن كان السبق بالكتد صحيحا مع اختلاف الخلقة فلم اعتبر بالعنق التى يختلف حكمها باختلاف الخلقة؟ قيل: لان السبق بالكتد يتحققه القريب دون البعيد، والسبق بالعنق يتحققه القريب والبعيد، وربما دعت الضرورة إليه ليشاهده شهود السبق فشهدوا به للسابق شهودا يستوقفون عند الغاية ليشهدوا للسابق على المسبوق، فلو سبق أحدهما عند الغاية بهاديه أو كتده ثم جريا بعد الغاية فتقدم المسبوق بعدها على السابق بهاديه أو كتده كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق بعدها، لان ما يجاوز الغاية غير داخل في العقد فلم يعتبر وهكذا لو سبق أحدهما قبل الغاية ثم سبقه الآخر عند الغاية كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق قبلها لاستقرار العقد على السبق إليها.
(فرع)
إذا عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض فسبق الاخر لم يحتسب له بالسبق، لان العثرة أخرته.
ولو كان العاثر هو السابق احتسب سبقه، لانه إذا سبق مع العثرة كان بعدها أسبق، ولو وقف أحد الفرسين بعد الجرى حتى وصل الاخر إلى غايته كان مسبوقا إن وقف لغير مرض، ولا يكون مسبوقا إن وقف لمرض.
فأما إن وقف قبل الجرى لم يكن مسبوقا، سواء وقف لمرض أو غير مرض لانه بعد الجرى مشارك.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والنضال فيما بين الاثنين يسبق أحدهما

(15/157)


الاخر.
والثالث بينهما المحلل كهو في الخيل لا يختلفان في الاصل فيجوز فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا جَازَ فِي الاخر، ويرد فيهما ما يرد في الاخر ثم يتفرعان، فإذا
أختلفت عللهما اختلفا.
اه أما السبق فاسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازا ولكل واحد منهما اسم خاص فتختص الخيل بالرهان ويختص الرمى بالنضال: فأما قولهم: سبق فلان بتشديد الباء فمن أسماء الاضداد يسمى به من أخرج مال السبق، ويسمى به من أحرز مال السبق.
وقد مضى حكم السباق بالخيل.
فأما السباق بالنضال فهما في الاباحة سواء، والخلاف فيهما واحد، وقد تقدم الدليل عليهما، وقد ذكر الشافعي ها هنا كلاما اشتمل على أربعة فصول: أحدها قوله: والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل، يريد بهذا أمرين
(أحدهما)
جواز النضال بالرمي كجواز السباق بالخيل
(والثانى)
اشتراكهما في التعليل لارهاب العدو بهما لقوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والفصل الثاني: قوله يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الاخر، يريد بهذا أن الاسباق في النضال ثلاثة كما كانت الاسباق في الخيل ثلاثة (أحدها) أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل
(والثانى)
أن الخيل ثلاثة: أحدهما أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل.
والثانى: أن يخرجه المتناضلان فلا يجوز حتى يدخل بينهما محلل يكون رميه كرميهما أو أرمى منهما، كما لا يجوز في الخيل إلا محلل يكون فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ، والثالث: أن يخرجه أحد المناضلين فيجوز كما يجوز في الخيل إذا أخرجه أحد المتسابقين والفصل الثالث: قوله ثم يتفرعان، يريد به أمرين
(أحدهما)
أن الاصل في سباق الخيل الفرس والراكب تبع.
والاصل في النضال الرامى والالة تبع.
لان المقصود في سباق الخيل فراهة الفرس، ولو أراد أن يبدله بغيره لم يجز،
ويجوز أن يبدل الراكب بغيره.
والمقصود في النضال حذق الرامى، ولو أراد أن يستبدل بغيره لم يجز،

(15/158)


ويجوز أن يبدل آلة بغيرها.
والثانى: أن في النضال من تفريع المرمى بالمبادرة والمحاطة ما لا يتفرع في سباق الخيل.
والفصل الرابع قوله: فإذا اختلفت عللهما اختلفا، يريد به أنه لما كان المقصود في سباق الخيل الفرس دون الراكب لزم تعيين الفرس ولم يلزم تعيين الراكب، ومتى مات الفرس بطل السبق، ولا يبطل بموت الراكب إن لم يكن هو العاقد.
وفى بطلانه بموت العاقد قولان:
(أحدهما)
لا يبطل بموته إذا قيل إنه كالاجارة
(والثانى)
يبطل بموته إذا قيل إنه كالجعالة.
ولما كان المقصود في النضال الرامى دون الالة لزم تعيين الرامى ولم يلزم تعيين الالة، وبطل النضال إذا مات الرامى، ولم يبطل إذا انكسر القوس، فقد اختلف حكمهما كما اختلفت عللهما.
والله أعلم بالصواب إذا ثبت هذا فإن الرمى لا يجوز إلا بين اثنين فأكثر، فإذا قال رجل لآخر ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم، قال أحمد وأصحابه: صح ذلك جعالة ولم يصح نضالا لانه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لان النضال يكون بين نفسين فأكثر على أن يرموا جميعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا.
وإن قال: إن أصبت فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لانه قمار.
وإن قال: ارم عشرة إسهم فان كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه بذل له العوض على عمل معلوم لم يناضل فيه نفسه فجاز
(والثانى)
أنه لا يجوز، لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب.
وقال الماوردى: إذا قال أحدهما لصاحبه أو لغيره: ارم بسهمك هذا فإن أصبت به فلك درهم جاز واستحق الدرهم إن أصاب.
ولجوازه علتان (إحداهما) أنه قد أجابه إلى ما سأل فالتزم له ما بذل، وهذا قول ابن أبى هريرة (والثانية) أنه تحريض في طاعة فلزم البذل عليها كالمناضلة وقال أبو إسحاق المروزى: وهذا بذل مال على عمل وليس بنضال، لان النضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر.

(15/159)


وقال الشافعي رضى الله عنه، ولو قال له: ارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه.
وقد اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة على وجهين.

(أحدهما)
أن المزني حذف منها ما قد ذكره الشافعي في كتاب الام فقال فيه، ولو قال له: ناضل نفسك وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه، فحذف المزني قوله: ناضل نفسك.
وأورد باقى كلامه وحكمه على هذه الصورة باطل باتفاق أصحابنا واختلفوا في تعليله فقال أبو إسحاق، وهو الظاهر من تعليل الشافعي: انه جعله مناضلا لنفسه، والنضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر فاستحال نضال نفسه فبطل.
وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه ناضل على خطئه لصوابه بقوله: ان كان صوابك أكثر من خطئك والخطأ لا يناضل عليه ولا به والوجه الثاني: ان المسألة مصورة على ما أورده المزني ههنا ولم يذكر فيه نضال نفسه وقال له: ارم عشرة أرشاق، فعلى هذا يكون في صحته وجهان من اختلاف العلتين:

(أحدهما)
انه صحيح ويستحق ما جعل له التعليل الاول، لانه بذل مال على عمل لم يناضل فيه نفسه.
والوجه الثاني: أنه باطل للتعليل الثاني أنه مناضل على خطئه وصوابه ويتفرع على هاتين المسألتين ثالثة، واختلف فيها أصحابنا بأيها تلحق؟ على وجهين، وهو أن يقول: ناضل وارم عشرة أرشاق، فان كان صوابك أكثر فلك كذا فيوافق المسألة الاولى في قوله ناضل، وتوافق المسألة الثانية في حذف قوله: ناضل نفسك، وأحد الوجهين وهو قول أبى اسحاق المروزى أنها في حكم المسألة الاولى في البطلان لاجل قوله: ناضل، والنضال لا يكون الا بين اثنين فصار كقوله: ناضل نفسك، والوجه الثاني أنها في حكم المسألة الثانية في حمل صحتها على وجهين من اختلاف العلتين إذا سقط قوله: نفسك، صار قوله ناضل، يعنى ارم على نضال، والنضال المال، فصار كالابتداء بقوله: ارم عشرة أرشاق.
والله أعلم

(15/160)


قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما، وفى دخول المحلل بينهما.

(فصل)
ولا يصح حتى يتعين المتراميان، لان المقصود معرفة حذقهما، ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين، فإن كان أحدهما كثير الاصابة والاخر كثير الخطأ، ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لان نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالأخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل
(والثانى)
لا يجوز لان أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمى والحذق فيه.

(فصل)
ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فان عقد على جنسين بأن يرمى أحدهما بالنشاب والاخر بالحراب لم يجز، لانه لا يعلم فضل أحدهما على
الاخر في واحد من الجنسين، وان عقد على نوعين من جنس بأن يرمى إحدهما بالنبل والاخر بالنشاب أو يرمى أحدهما على قوس عربي والاخر على قوس فارسي جاز، لان النوعين من جنس واحد يتقابان، فيعرف به حذقهما، فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه، وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين، لان الاغراض تختلف باختلاف النوعين، فوجب بيانه، وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الاجابة إليه، لان الاغراض تختلف باختلاف الانواع، فإن من الناس من يرمى بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الاخر، وان عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الاعيان، فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الاوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهرا ليركبه على أن لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الاجارة.

(فصل)
ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذى يرمى به لانه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبين الفضل.
ولم يظهر السبق.

(فصل)
ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم، لانه لا يبين الفضل

(15/161)


إلا بذلك فإن شرط اصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان.
أحدهما.
يصح لانه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شرط اصابة ثمانية من عشرة والثانى: لا يصح لان اصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.
(الشرح) ذكرنا فيما مضى من أحكام المسابقة أنه لا يجوز اخراج السبق الا على ما تراضيا عليه، وكما يقول الامام الشافعي رضى الله عنه: ويخرج كل واحد منهما ما تراضيا عليه ويتواضعانه على يدى رجل يثقان به أو يعينانه، ولصحة العقد بينهما مع دخول المحلل أربعة شروط.

(أحدهما)
ان يكون العوض معلوما اما معينا أو موصوفا، فإن كان مجهولا لم يصح، لان الاعواض في العقود لا تصح الا معلومة.
(والشرط الثاني) أن يتساويا في جنسه ونوعه وقدره فإن تفاضلا أو اختلفا لم يصح، لانهما لما تساويا في العقد وجب أن يتساويا في بذله.
(والشرط الثالث) تعيين الفرس في السباق.
والرابع أن يكون مدى سبقهما معلوما اما بالابتداء والانتهاء كالاجارة المعينه، واما مذروعا بذراع مشهور كالاجارة المضمونه.
فإذا صح العقد بينهما على الشروط المعتبرة وفى المحلل الداخل بينهما لم يخل حالهما في مال السبق من ثلاثة أحوال.
أحدهما: أن يتفقا على تركه في أيديهما ويثق كل واحد منهما بصاحبه فيحملان على ذلك ولا يلزم اخراج مال السبق من أحدهما الا بعد أن يصير مسبوقا فيؤخذ باستحقاقه، والحالة الثانية: أن يتفقا على أمين فيؤخذ مال السبق منهما ويوضع على يده ويعزل مال كل واحد منهما على حدته، فإن سبق أحدهما سلم إليه ماله ومال المسبوق، فان سبق المحلل سلم إليه مال السبقين ولم يكن للامين أجرة على السابق ولا على المسبوق الا عن شرط، فإن كانت له أجرة في عرف المتسابقين ففى حمله على عرفهم فيه مع عدم الشرط وجهان من اختلافهم فيمن استعمل خياطا فعمل بغير شرط هل يستحق أجرة مثله هل يستحق أجرة مثله أم لا؟ على وجهين.

(أحدهما)
أن الامين يستحق أجرة مثله إذا حكم للصانع بالاجرة، ويكون

(15/162)


على المستبقين لا يختص بها السابق منهما لانها أجرة على حفظ المالين، والثانى أنه لا أجرة له وإن جرى العرف إلا أن يحكم للصانع بالاجرة، والحال الثالثة أن يختلفا على الامين فيخرج الحاكم لهما أمينا يقطع تنازعهما.
إذا ثبت هذا فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ السبق إلا معلوما، كما يجوز في البيع.
قال الماوردى: وهذا صحيح، يريد بالسبق المال المخرج في العقد فلا يصح معه العقد حتى يكون معلوما من وجهين إما بالتعيين كاستباقهما على عين مشاهد، وإما بالصفة كاستباقهما على مال في الذمة، لانه من عقود المعاوضات كالبيع والاجارة، فإن تسابقا على ما يتفقان عليه أو على ما يحكم به زيد كان باطلا للجهالة به عند العقد.
ولو تسابقا وتناضلا على مثل ما يسابق أو يناضل به زيد وعمرو، فان كان ذلك بعد علمهما بقدره صح، وان كان قبل علمهما بقدره بطل، ولو كان لاحدهما في ذمة الاخر قفيز من حنطة فتناضلا عليه، فان كان القفيز مستحقا من سلم لم يصح، لان المعاوضة على السلم قبل قبضه لا تصح، وان كان عن غصبه صح، لان المعاوضة عليه قبل قبضه تصح.
وان كان من قرض فعلى وجهين من الوجهين في صحة المعاوضة عليه قبل قبضه ولو تناضلا على دينار الا دانقا صح، ولو تناضلا على دينار الا درهما لم يصح لانه يكون بالاستثناء من جنسه معلوما وبالاستثناء من غير جنسه مجهولا، ولو تناضلا على دينار معجل وقفيز حنطه مؤجل صح، لانه على عوضين: حال ومؤجل، ولو تناضلا على ان يأخذ الناضل دينارا ويعطى درهما لم يجز، لان الناضل من شرطه أن يأخذ ولا يعطى.
ولو تناضلا على دينار بذله أحدهما، فان نضل دفعه وان شرط لم يرم أبدا أو شهرا كان العقد فاسدا لانه قد شرط فيه الامتناع وهو مندوب إليه فبطل، وإذا تناضلا وقد فسد العقد بما ذكرنا فنضل احدهما، فان كان الناضل باذل المال فلا شئ على المنضول، وان كان الناضل غير الباذل ففى استحقاقه لاجرة مثله
على الباذل وجهان على ما مضى.

(15/163)


قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا سبق احد الرجلين الاخر على ان يجعلا بينهما قرعا معروفا خواسق أو حوابى فهو جائز.
اه قلت: نعلم من اقوال الامام الشافعي رضى الله عنه ان عقد الرمى معتبر بشروط.
احدهما ان يكون الراميان متعينين، لان العقد عليهما، والمقصود به حذقهما، فان لم يتعينا بطل العقد، سواء وصفا أو لم يوصفا، كما لو أطلق في السبق الفرسان، فان لم يتعينا كان باطلا، ولا يلزم تعيين الآلة، ولكل واحد منهما ان يرمى عن أي قوس شاء، وبأى سهم أحب، فان عينت الآلة لم يتعين وبطلت في التعين.
ولو قيل: ويرمى عن هذين القوسين لم يؤثر في العقد وجاز لهما الرمى عنها ولغيرهما، وان قيل: على ان لا يرمى الا عن هذين القوسين كان فاسدا لانه على الوجه الاول صفة وعلى الوجه الثاني شرط.
أما قوله (ولا يصح الا على آلتين متجانستين) فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يصلح ان يمنع الرجل أن يرمى بأى نبل أو قوس شاء إذا كانت من صنف القوس التى سابق عليها.
قلت: وأنواع القسى تختلف باختلاف أنواع الناس فللعرب قسى وسهام وللعجم قسى وسهام، وقيل إن أول من صنع القسى العربية ابراهيم الخليل عليه السلام، وأول من صنع الفارسية النمرود.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القوس العربية ويأمر بها ويكره الفارسية وينهى عنها، ورأى رجلا يحمل قوسا فارسية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسى العربية وسهامها، فانه سيفتح عليكم بها.
قال الماوردى: وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع، وفى تأويله.
ثلاثة
أوجه (أحدها) ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيرها، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا.
والوجه الثاني: انه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا باهل الحرب من المشركين فيقتلوا، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفاعا لانها قد فشت في عامة المسلمين.
(والثالث) ما قاله عطاء انه لعن من قاتل المسلمين بها.
فعلى هذا لا يكون

(15/164)


وذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها.
وخصها باللعن لانها كانت انكى في المسلمين من غيرها، وقد رمى عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين، وان كان الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوسه لمن قوى رميه عنها أحب الينا.
فان كان بالفارسية أرمى كانت به أولى، ويكون الندب منهما إلى ما هو به أرمى.
اه فإذا تقرر ذلك فلا يخلو حال المتناضلين في عقد نضالهما من خمسة أحوال: أحدها أن يشترطا فيه الرمى عن القوس العربية، فعليهما أن يتناضلا بالعربية، وليس لاحدهما العدول عنها لاجل الشرط، فان تراضيا معا بالعدول إلى الفارسية جاز (الثانية) أن يشترطا فيه الرمى عن القوس الفارسية فعليهما ان يتناضلا بها وليس لاحدهما العدول إلى العربية، فان تراضيا بالعدول جاز (الثالثة) أن يشترطا أن يرمى أحدهما عن القوس العربية ويرمى الاخر عن القوس الفارسية فهذا جائز.
وان اختلفت قوساهما، لان مقصود الرمى حذق الرامى والالة تبع.
(الرابعة) أن يشترطا ان يرمى كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية، فيجوز لكل واحد ان يرمى عن أي القوسين شاء قبل الشروع في
الرمى وبعده.
فان أراد أحدهما منع صاحبه من خياره لم يجز، سواء تماثلا فيها أو اختلفا (الخامسة) أن يطلقا العقد من غير شرط، فان كان للرماة عرف في احد القوسين حمل عليه، وجرى العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد.
وان لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين، لان مطلق العقد يوجب التكافؤ، وان اختلفا لم يقرع بينهما لانه أصل في العقد، وقيل لهما ان اتفقتما والا فسخ العقد بينكما.
والشرط الثالث: أن يكون عدد الاصابة من الرشق معلوما ليعرف به الفاضل عن المفضول، وأكثر ما يجوز ان تشترط فيه ما نقص من عدد الرشق المشروط بشئ وان قل ليكون متلافيا للخطأ الذى يتعذر ان يسلم منه المتناضلان، فقد كان معروفا عندهم ان أحذق الرماة من يصيب ثمانية من العشرة، فان شرط أصابة الجميع من الجميع بطل لتعذره غالبا، وان شرطا إصابة ثمانيه من العشرة جاز

(15/165)


فان شرطا إصابة تسعة من العشرة ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لبقاء سهم الخطأ والوجه الثاني: لا يجوز لان اصابتها نادرة.
فأما أقل ما يشترط في الاصابة فهو ما يحصل فيه القاصر.
وهو ما زاد على الواحد.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بطلان اشتراط إصابة تسعة من عشرة.
واختلف أصحابنا في تأويل هذا على وجهين
(أحدهما)
تأويلها أن يشترطا إصابة تسعة من عشرة فيبطل على ما ذكرناه من أحد الوجهين
(والثانى)
تأويلها أن يشترطا أن يكون الرشق عشرة والاصابة محتسبة من تسعة دون العاشر فيبطل وجها واحدا لاستحقاق الاصابة من جميع الرشق به، فان أغفلا عدد الاصابة وعقداه على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة ففيه وجهان
(أحدهما)
من التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إذا عقداه إلى غير غاية ليكون السابق
من تقدم في أي غاية كانت، وهو باطل في الخيل لعلتين (إحداهما) ان من الخيل من يقوى جريه في ابتدائه ويضعف في انتهائه، ومنها ما هو بضده، فعلى هذا يكون النضال على كثرة الاصابة باطلا، لان من الرماة من تكثر إصابته في الابتداء وتقل في الانتهاء ومنهم من هو بضده.
والتعليل الثاني: ان اجراء الخيل إلى غير غاية مفض إلى انقطاعها، فعلى هذا يجوز النضال على كثرة الاصابة لانه مفض إلى انقطاع الرماة.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز الا ان يكون مدى الغرض معلوما، لان الاصابة تختلف بالقرب والبعد، فوجب العلم به، فان كان في الموضع غرض معلوم المدى فاطلق العقد جاز وحمل عليه، كما يجوز ان يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وان لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين، فان أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه، ويجوز ان يكون مدى الغرض قدرا يصيب مثلهما في مثله في العادة، ولا يجوز ان يكون قدرا لا يصيب مثلهما في مثله، وفيما يصيب مثلهما في مثله نادرا وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه قد يصيب مثلهما في مثله، فإذا عقدا عليه بعثهما العقد

(15/166)


على الاجتهاد في الاصابة
(والثانى)
لا يجوز لان اصابتهما في مثله تندر فلا يحصل المقصود، وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعا، وما لا يصاب بما زاد على ثلثمائة وخمسين ذراعا، وفيما بينهما وجهان، فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لابعدهما رميا ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يمتحن به قوة الساعد، ويستعان به على قتال من بعد من العدو
(والثانى)
لا يجوز لان الذى يقصد بالرمي هو الاصابة، فأما الابعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ
العوض عليه.

(فصل)
ويجب أن يكون الغرض معلوما في نفسه فيعرف طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الارض، لان الاصابة تختلف باختلافه، فان كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد، وان لم يكن فيه غرض وجب بيانه، والمستحب أن يكون الرمى بين غرضين، لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنه.
وعن عقبه بن عامر أنه كان يرمى بين غرضين بينهما أربعمائة.
وعن ابن عمر أنه كان يختفى بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمى بين الهدفين، ولان ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب (الشرح) خبر: ما بين الهدفين الخ سبق أن سقناه في الحث على الرمى نقلا عن المصنف وغيره من الفقهاء، كابن قدامه في المغنى، وقد أعضله ولم يوضح، وأبناء دينار ثلاثة: عبد الله.
ومالك.
وعمرو، وليس فيهم من اسمه عبد الدائم، بل ليس في رواة السنة من اسمه عبد الدائم فضلا عن أن يكون ابن دينار وذكر الماوردى في الحاوى الخبر مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ابن دينار مبهما، والخبر ساقه صاحب الترغيب والترهيب في الترغيب في الرمى.
وقد أخرجه صاحب مسند الفردوس من طريق ابن أبى الدنيا باسناده عن مكحول عن أبى هريرة يرفعه (تعلموا الرمى فان ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة) وفى اسناده ضعف وانقطاع.

(15/167)


أما خبر عقبة بن عامر فهو ثابت من سيرته أنه لم يثبت عن أحد غيره الرمى إلى أربعمائة ذراع وهو أحد ولاة مصر بعد عمرو وتوفى في آخر خلافة معاوية روى عنه من الصحابة جابر وابن عباس وأبو أمامة ومسلمة بن مخلد ورواته من
التابعين لا يحصون، وقد غلط ابن الخياط عندما قال: إنه قتل شهيدا في معركة النهروان، ومعركة النهروان كانت سنة ثمان وثلاثين وقد كان بعد ذلك واليا على مصر بعد سنة خمسين: أما الاحكام: فإن الشرط الرابع من شروط الرمى أن تكون المسافة بين موقف الرامى والهدف معلومة، لان الاصابة تكثر مع قرب المسافة وتقل مع بعدها فلزم العلم بها وأبعد ما في العرف ثلاثمائة ذراع، وأقلها ما يحتمل أن يصاب وأن لا يصاب، فإن أغفلا مسافة الرمى فلها ثلاثة أحوال.
(إحداها) ان لا يكون للرماة هدف منصوب ولا لهم علف معهود فيكون العقد باطلا للجهاله.
(والثانية) أن يكون للرماة الحاضرين هدف منصوب وللرماة فيه موقف معروف فيصح العقد ويكون متوجها إلى الهدف الحاضر من الموقف المشاهد، والرماة يسمون موقف الوجه.
(والثالثة) أن لا يكون لهم هدف منصوب ولكن لهم عرف معهود، ففيه وجهان، أصحهما يصح العقد مع الاطلاق، ويحملان فيه على العرف المعهود كما يحمل إطلاق الاثمان على غالب النقد المعهود، والوجه الثاني: أن العقد باطل، لان حذق الرماة يختلف فاختلف لاجله حكم الهدف فلم يصح حتى يوصف.
(والشرط الخامس) الذى تضمنه هذان الفصلان من كلام المصنف أن يكون الغرض أو الهدف معلوما لانه المقصود بالاصابة، أما الهدف فهو تراب يجمعونه أو حائط بيت، وقد قيل من صنف فقد استهدف لانه يرمى بالاقايل من الحاسدين والناقضين وأما الغرض فهو جلد أو شن بال ينصب في الهدف ويختص بالاصابة وربما جعل في الغرض دارة كالهلال تختص بالاصابة ممن يحمله الغرض وهى الغاية في المقصود من حذق الرماة، وإذا كان كذلك فالعلم بالغرض يكون من
ثلاثة أوجه.

(15/168)


أحدها: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه لان الاصابة في المنخفض أكثر منها في المرتفع.
والثانى: قدر الغرض في ضيقه وسعته، لان الاصابة في الواسع أكثر منها في الضيق، وأوسع الاغراض في عرف الرماة ذراع وأقله أربع أصابع.
والثالث قدر الدارة من الغرض إن شرطت الاصابة فيها.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب أن يكون موضع الاصابة معلوما، وأن الرمى إلى الهدف وهو التراب الذى يجمع أو الحائط الذى يبنى أو إلى الغرض، وهو الذى ينصب في الهدف، أو الشن الذى في الغرض، أو الدارة التى في الشن أو الخاتم الذى في الدارة، لان الغرض يختلف باختلافها، فإن أطلق العقد حمل على الغرض، لان العرف في الرمى إصابه الغرض فحمل العقد عليه، ويجب أن تكون صفة الرمى معلومه من القرع وهو إصابه الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذى يثقبه، ويثبت فيه، أو المرق وهو الذى ينفذ منه، أو الخرم وهو أن يقطع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجا منه، لان الحذق لا يبين إلا بذلك، فإن أطلق العقد حمل على القرع، لانه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه، فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لانهما يتساويان فيه، وإن أصاب أحدهما تسعه قرعا وأصاب الاخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لانه استكمل العشرة بالخواسق.

(فصل)
واختلف أصحابنا في بيان حكم الاصابة أنه مبادرة أو محاطه أو حوابى، فمنهم من قال: يجب بيانه، فإن أطلق العقد لم يصح، لان حكمهما يختلف
وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه، ومنهم من قال: يصح ويحمل على المبادرة لان المتعارف في الرمى هو المبادرة، واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي، فمنهم من قال: يجب فإن أطلق العقد بطل، وهو المنصوص، لان ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس، ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الاخر

(15/169)


وساء رميه، فلا يحصل مقصود العقد، ومنهم من قال: يصح لان ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة، فإذا قلنا: إنه يصح ففى البادئ وجهان.

(أحدهما)
إن كان السبق من أحدهما قدم، لان له مزية بالسبق، وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.

(وَالثَّانِي)
لا يبدأ أحدهما إلا بالقرعة لان أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق، فإن كان الرمى بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الاخر من الغرض الاخر، لانه أعدل وأسهل فان كانت البداية لاحدهما فبدأ الاخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه ان أخطأ لانه رمى بغير عقد فلم يعتد به، وان اختلفا في موضع الوقوف كان الامر إلى من له البداية لانه لما ثبت له السبق ثبت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا، وان طلب أحدهما استقبال الشمس والاخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لانه أوفق للرمي.
(الشرح) لغات الفصل فيها قوله: الشن وهو جلد بال ينصب في الهدف.
أما الدارة فهى قطعة على شكل نصف دائرة، والقرع باسكان الراء من باب نفع يقال: قرع السهم القرطاس إذا أصابه، والقرع بفتحتين السبق والندب الذى يستبق عليه.
وأما الاحكام: فإن المصنف ذكر هنا الشرط وهو أن يكون محل الاصابة معلوما، هل هو في الهدف أو في الغرض أو في الدارة، لان الاصابة في الهدف أوسع، وفى الغرض أوسط وفى الدارة أضيق، وإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محلا للاصابة لان ما دونه تخصيص، وما زاد عليه فهو بالغرض مخصوص، فإن كانت الاصابة مشروطة في الهدف سقط اعتبار الغرض، ولزم وصف الهدف طوله وعرضه، وإن شرطت الاصابة في الغرض سقط اعتبار الهدف ولزم وصف الغرض، وإن شرطت الاصابة في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة.

(15/170)


(فرع)
والشرط السابع: أن تكون الاصابة موصوفه بقرع أو خرق أو خسق فالقارع ما أصاب الغرض ولم يؤثر فيه، والخارق ما ثقب الغرض ولم يثبت فيه، والخاسق ما ثبت في الغرض بعد أن ثقب، ولا يحتسب بالقارع في الخرق والخسق، وتحتسب بالخارق في القرع ولا يحتسب به في الخسق، ويحتسب بالخاسق في القرع والخرق وينطلق على جميع هذه الاصابات اسم الخواصل وهو جمع خصال فإن أغفل هذا الشرط كانت الاصابة محمولة على القرع لان ما عداه زيادة.
(فرع)
والشرط الثامن أن يكون حكم الاصابة معلوما، هل مبادرة أو محاطه لان حكم كل واحد منهما مخالف لحكم الاخر، والمبادرة أن يبادر أحدهما إلى استكمال إصابته من أقل العددين على ما سيأتي، والمحاطة أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما ويكون الباقي بعدها هو العدد المشروط على ما سنشرحه، فان أغفلا ذلك ولم يشترطاه فسد العقد إن لم يكن للرماة عرف معهود، وفى فساده إن كان لهم عرف معهود وجهان على ما تقدم.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وقد رأيت من الرماة من يقول: صاحب
السبق أولى أن يبدأ وللمسبق لهما أن يبدأ أيهما شاء، ولا يجوز في القياس عندي إلا أن يتشارطا.
أما اشتراط الابتداء فهو معتبر في الرمى دون السبق لانهما في السبق يتساويان في الجرى معا لا يتقدم أحدهما على الاخر، وأما الرمى فلا بد أن يبتدئ به أحدهما قبل الاخر ولا يرميان معا لاختلاط رميهما ولما يخاف من تنافرهما، فان شرطا في العقد البادى منهما بالرمي كان أحقهما بالابتداء سواء كان المبتدئ مخرج المال أو غير مخرجه، فإن أراد بعد استحقاقه التقدم أن يتأخر لم يمنع لان التقدم حق له وليس بحق عليه، وان أغفل في العقد اشتراط البادئ بالرمي ففى العقد قولان.

(أحدهما)
وهو اختبار الشافعي في هذا الموضع أن العقد باطل لان للبداية تأثيرا في قوة النفس وكثرة الاصابة فصارت مقصودة فبطل العقد باغفالها.
(والقول الثاني) أن العقد صحيح، وإن أغفلت فيه البداية، وقد حكا الشافعي عن بعض فقهاء الرماة لانه من توابع الرمى الذى يمكن تلافيه بما تزول التهمه

(15/171)


فيه من الرجوع إلى عرف أو قرعة، فعلى هذا إن كان مخرج المال أحدهما كان هو البادئ بالرمي اعتبارا بالعرف وفيه، وجه آخر أنه يقرع بينهما، فإن كانا مخرجين للمال أقرع بينهما لتكافئهما وهل يدخل المحلل في قرعتهما أو يتأخر عنهما على وجهين
(أحدهما)
يتأخر ولا يدخل في القرعة إذا قيل: إن مخرج المال يستحق التقدم (والوجه الثاني) يدخل في القرعة ولا يتأخر إذا قبل: إن مخرج المال لا يتقدم إلا بالقرعة.
قال الشافعي رضى الله عنه: وقد جرت الرماة أن يكون الرامى الثاني يتقدم على الاول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث وهذا معتبر بعرف الرماة وعادتهم فإن كانت مختلفة فيه، يفعلونه تارة ويسقطونه أخرى سقط اعتباره ووجب
التساوى فيه، وإن كانت عادتهم جارية لا يختلفون فيها ففى لزوم اعتباره بينهما وجهان.
أحدهما: لا يعتبر لوجوب تكافئهما في العقد فلم يجز أن يتقدم أحدهما على الاخر بشئ لانه يصير مصيبا بتقدمه لا لحذقه.
والوجه الثاني: يعتبر ذلك فيها، لان العرف في العقود كإطلاق الاعيان، فعلى هذا إن لم يختلف عرفهم في عدد الاقدام حملا على العرف في عددها ليكون القرب بالاقدام في مقابلة قوة النفس تقدم أحدهما على الاخر بما لا يستحق لم يحتسب له بصوابه واحتسب عليه بخطئه.
وقال الشافعي رضى الله عنه: وأيهما بدأ من وجه بدأ صاحبه من الاخر.
قال الماوردى: عادة الرماة في الهدف مختلفة على وجهين وكلاهما جائز، فمنهم من يرمى بين هدفين متقابلين فيقف أحد الحزبين في هدف يرمى منه إلى الهدف الاخر ويقف الحزب الاخر في الهدف المقابل فيرمى إلى الهدف الاخر اه.
(قلت) والحكمة في ان يتقدم أحدهما الاخر وان لا يرميا سويا هو أن التساوى في الرمى مفض إلى الاختلاف في الاصابة حيث لا يعرف من المصيب منهما ومن ثم توجه ما مضى من أقوال وبهذا كله أخذ أحمد وأصحابه.
فإذا تشاحا في موضع الوقوف، فان كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا تؤذيه باستقبالها ونحو ذلك، والاخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لانه العرف في الرمى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(15/172)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أن يرميا سهما سهما وخمسا خمسا، وان يرمى كل واحد منهما جميع الرشق، فان شرطا شيئا من ذلك حملا عليه، وإن أطلق العقد تراسلا سهما لان العرف فيه ما ذكرناه، وان رمى أحدهما أكثر مما له لم يحسب له
ان أصاب، ولا عليه ان أخطا لانه رمى من غير عقد فلم يعتد به.

(فصل)
ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الاصابة ولا في صفة الاصابة ولا في محل الاصابة، ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقا ولا أن يكون في يد أحدهما من السهام اكثر مما في يد الاخر في حال الرمى، ولا أن يرمى أحدهما والشمس في وجهه لان القصد أن يعرف حذقهما، وذلك لا يعرف مع الاختلاف، لانه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمى، فان شرط شيئا من ذلك بطل العقد، لانه في أحد القولين كالاجارة، وفى الثاني كالجعالة، والجميع يبطل بالشرط الفاسد.
وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان أحدهما لا تجب.
وهو قول ابى اسحاق لانه لا يحصل المسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته
(والثانى)
تجب، وهو الصحيح، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والاجارة
(فصل)
وان شرط على السابق ان يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لانه شرط ينافى مقتضى العقد فبطل، وهو يبطل العقد المنصوص انه يبطل لانه تمليك مال شرط فيه يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط بطل العقد، كما لو باعه سلعة بالف على ان يتصدق بها.
وقال أبو إسحاق: يحتمل قولا آخر لا يبطل، كما قال فيمن أصدق امرأته الفين على أن تعطى أباها ألفا أن الشرط باطل، ويصح الصداق، فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق، وهل يرجع الساق بأجرة المثل؟ على الوجهين.
(الشرح) إذا شرطا في العقد شرطا حملا فيه على موجب الشرط وان خالف العرف لان الشرط أحق من العرف، فان شرطا أن يرميا سهما وسهما أو شرطا

(15/173)


أن يرميا خمسا وخمسا، أو شرطا أن يواصل كل واحد منهما رمى جميع رشقه رمى كل واحد منهما عدد ما أوجب الشرط، فان زاد عليه لم يحسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن موجب العقد، وان اغفل ولم يشترط في العقد لم يبطل العقد باغفاله لامكان التكافؤ فيه واعتبر فيها عرف الرماة لانه يجرى بعد الشرط مجرى الشرط، فان كان عرف الرماة جاريا بأحد الثلاثة المجوزة من الشرط صار كالمستحق بالشرط، وان لم يكن للرماة عرف لاختلافه بينهم رميا سهما وسهما، ولم يزد كل واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفدا جميع الرشق.
لان قرب المعاودة إلى الرمى احفظ لحسن الصنيع، فان رمى أحدهما أكثر من سهم فان كان قبل استقرار هذا الترتيب كان محتسبا به مصيبا ومخطئا، وان كان بعد استقراره لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، لانه قبل الاستقرار يجوز وبعد الاستقرار ممنوع.
وهذا الذى ذكرناه هو الشرط التاسع من شروط الرمى.
قال في الحاوى الكبير: يذكر المبتدئ منهما بالرمي وكيفية الرمى هل يتراميان سهما وسهما أو خمسا وخمسا ليزول التنازع ويعمل كل واحد منهما على شرطه، فان اغفل ذكر المبتدئ منهما بالرمي ففى العقد قولان
(أحدهما)
انه باطل
(والثانى)
جائز وفى المبتدئ وجهان
(أحدهما)
مخرج المال
(والثانى)
من قرع، وان اغفل عددما يرميه كل واحد منهما في يديه فالعقد صحيح ويحملان على عرف الرماة ان لم يختلف، فان اختلف عرفهم رميا سهما وسهما.
قلت: وقد مضى ذكر الشرط العاشر، وهو المال المخرج في النضال ويسمى الحظر ويجب ذكره، فان كان مجهلا ففى استحقاقه لاجرة مثله إذا نضل وجهان (فرع)
ولا يجوز ان يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما قرعا وإصابة الاخر خسقا، لان المقصود بالعقد معرفة احذقهما بالرمي، كما لا يجوز أن
يتفاضلا على ان تكون اصابة أحدهما خمسة من عشرين واصابة الاخر عشرة من عشرين لما فيه من التفاضل الذى لا يعلم به الاحذق قال الشافعي رضى الله عنه: وهو متطوع باطعامه إياه، وما نضله فله أن يحرزه ويتموله ويمنعه منه ومن غيره، وهو عندي كرجل كان له على رجل دينار

(15/174)


فاسلفه الدينار ورده عليه أو أطعمه به فعليه دينار كما هو، وقال أيضا: ومستحق سبقه يكون ملكا له يكون لقضائه عليه كالدين يلزمه ان شاء أطعم أصحابه، وان شاء تموله.
قلت: وهذا صحيح إذا نضل الرامى ملك مال النضال وكذلك في السبق وصار كسائر أمواله، فان كان عينا استحق أخذها، وان كان دينا استوجب قبضه ولم يلزمه أن يطعم اصحابه، من أهل النضال والسباق.
وحكى الشافعي عن بعض فقهاء الرماة ان عليه أن يطعم أصحابه ولا يجوز ان يتملكه، وهذا فاسد، لانه لا يخلو اما ان يكون كمال الاجارة أو مال الجعالة لان عقده متردد بين هذين العقدين، والعوض في كل واحد منهما مستحق يتملكه مستحقه ولا يلزمه مشاركة غيره فبطل ما قاله المخالف فيه، فعلى هذا إن مطل به المنضول قضى به الحاكم عليه وحبسه فيه وباع عليه ملكه.
وان مات أو أفلس ضرب به مع غرمائه ويقدم به على ورثته.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو شرط أن يطعم السبق أصحابه كان فاسدا.
وقد ذكرنا ان مال السبق يملكه الناضل ولا يلزمه ان يطعم أصحابه، فان شرط عليه في العقد أن يطعم أصحابه ولا يملكه كان الشرط فاسدا، لانه ينافى موجب العقد، وفى فساد العقد وجهان
(أحدهما)
وهو الظاهر من المذهب ان العقد يفسد بفساد الشرط كالبيع.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وبه قال أبو حنيفة ان العقد صحيح لا يفسد بفساد هذا الشرط، لان نفعه لا يعود على مشترطه، وكان وجوده كعدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا تناضلا لم يخل أما أن يكون الرمى مبادرة أو محاطة أو حوابى فان كان مبادرة، وهو ان يعقد على اصابة عدد من الرشق وان من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمى كان ناضلا، فان كان العقد على اصابة عشرة من ثلاثين نظرت - فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين، وأصاب الاخر تسعة

(15/175)


من عشرين، فالاول ناضل لانه بادر إلى عدد الاصابة، وان أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمى الباقي، لان الزيادة على عدد الاصابة غير معتد بها، وان أصاب الاول تسعة من عشرين وأصاب الاخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله، لانه لم يستوف واحد منهما عدد الاصابة فيرميان، فان رمى الاول سهما وأصاب فقد فلج وسقط رمى الباقي، وان رمى الاول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فاصاب في جميعها، فان الناضل هو الثاني ويسقط رمى ما بقى من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين.
وأصاب الثاني عشرة من خسمة وعشرين.
وان أصاب الاول تسعة من تسعة عشر وأصاب الاخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهما فاصاب فقد نضل، ولا يرمى الثاني ما بقى من رشقه لانه لا يستفيد به نضلا ولا مساواة، لان الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين، فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمى، لانه ربما يصيب فيساويه.

(فصل)
وان كان الرمى محاطة وهو أن يعقدا على أصابة عدد من الرشق وان يتحاطا ما استويا فيه من عدد الاصابة ويفضل لاحدهما عدد الاصابة فيكون ناضلا نظرت، فان كان العقد على اصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الاخر، لانه لم يفضل هل عدد من الاصابة ويرميان ما تبقى من الرشق، لانه يرجو كل واحد منهما أن ينضل، فان فضل لاحدهما بعد تساويهما في الرمى واسقاط ما استويا فيه عدد الاصابة لم يخل - أما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده - فان كان بعد إكمال الرشق بان رمى أحدهما عشرين وأصابها، ورمى الاخر فأصاب خمسة عشر، فالاول هو الناضل، لانه يفضل هل بعد المحاطه فيما استويا فيه عدد الاصابة، وان كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الاقل صاحب الاكثر برمى باقى الرشق نظرت، فان لم يكن له فائدة مثل أن يرمى الاول خمسة عشر وأصابها، ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة، لم يكن له مطالبته لان أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقى له وهو خمسة، ويبقى للاول خمسه فينضله، بها، وان كان له فيه فائدة بأن يرجو

(15/176)


أن ينضل بأن يرمى أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمى الاخر عشرة.
فيصيب واحدا، ثم يرمى صاحب الستة فيخطئ فيما بقى له من الرشق.
ويرمى صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقى له فينضله بخمسه أو يساويه بأن يرمى أحدهما خمسة عشر.
فيصيب منها عشرة ويرمى الاخر خمسة عشر فيصيب منها خمسه.
ثم يرمى صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب الخمسه فيصيب فيساويه أو يقلل اصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الاخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمى صاحب الاحد ما بقى له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له
سبعة ويبقى لصاحبه أربعة.
فهل لاقلهما إصابة مطالبة الاخر بإكمال الرشق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
ليس له مطالبته لانه بدر إلى الاصابة مع تساويهما في الرمى بعد المحاطة فحكم له بالسبق
(والثانى)
له مطالبته لان مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق.
وقد بقى من الرشق بعضه
(فصل)
وإن كان العقد على حوابى وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق عليه أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الاخر: فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق.
فان رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعا بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له، فان رمى الآخر فأصاب موضعا بينه وبين الغرض قدر أصبع حسب له وأسقط ما رماه الاول فإن عاد الاول ورمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه.
وان أصاب أحدهما الشن وأصاب الاخر العظم الذى في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله: من الرماة من قال: انه تسقط الاصابة من العظم ما كان أبعد منه.
قال الشافعي رحمه الله: وعندي أنهما سواء.
لان الغرض كله موضع الاصابة فان استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذى اشترطاه فقد تكافأ وان فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ السبق.
وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا.
قال والقياس أن يتقايسا لان أحدهما أقرب إلى الغرض من الاخر فأسقط الاقرب الابعد.
كما لو أصابا أسفل الغرض أو جنبه.

(15/177)


(الشرح) أما غريب هذه الفصول فقد مضى شرح المبادرة والمحاطة والحوابى أما قوله: فلج من الفلوج وبابه خرج فيقال: فلج فلوجا أي ظفر بما يريد، وقوله: نضل أن فاز عليه بالمراماة
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان رميهما مبادرة فبلغ تسعة عشر من عشرين رمى صاحبه بالسهم الذى يراسله ثم رمى الثاني فإن أصاب بسهمه ذلك فلج عليه، وإن لم يرم الاخر بالسهم، لان المبادرة أن يفوت أحدهما الاخر وليس كالمماثلة.
قال المزني: وهذا عندي غلط لا ينضله حتى يرمى صاحبه بمثله، قد ذكرنا أن الرمى ضربان محاطة ومبادرة فالمبادرة صورتها أن أن يتناضلا على إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيكون الرشق ثلاثين سهما والاصابة المشروطة منها عشرة أسهم فأيهما بدر إلى إصابتها من أقل العددين فيه نضل وسقط رمى الرشق، وان تكافئا في الاصابة من عدد متساو سقط رمى الثاني وليس منهما فاضل.
وبيانه أن يصيب أحدهما عشرة من عشرين وقد رماها الثاني فنقص منها، ولا يرميان بقية الرشق لحصول النضل، فلو أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم يكن منهما ناضل ولا منضول وسقط رمى الباقي من الرشق، لان زيادة الاصابة فيه غير مفيدة لنضل.
ولو أصاب أحدهما خمسة من عشرين وأصاب الاخر تسعة من عشرين فالنضال بحاله، لان عدد الاصابة لم يستوف، فيرميان من بقية الرشق ما يكمل به اصابة أحدهما عشرة، فإن رمى الاول سهما فأصاب فقد فلج على الثاني ونضل وسقط رمى الثاني، ولو رمى الاول خمنسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني خمسة فأصاب في جميعها صار الثاني ناضلا وسقط رمى الثاني من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين ثم على هذا الاعتبار.
فأما مسألة الكتاب فصورتها أن يتناضلا على اصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيصيب البادئ منهما تسعة من تسعة عشر ويصيب الاخر ثمانية من تسعة عشر

(15/178)


ثم يرمى البادئ منهما سهما آخر يستكمل به العشرين فيصيب فيصير به ناضلا، ويمنع الاخر من رمى السهم الاخر الذى رماه الثاني لانه لا يستفيد به نضالا ولا مساواة، لان الثاني له من العشرين سهم واحد وعليه إصابتان.
ولو رمى فأصابه بقيت عليه إصابة يكون بها منضولا فلم يكن لرميه معنى يستحقه بالعقد.
فلذلك منع منه.
ولو كان كل واحد منهما قد أصاب تسعة من تسعة عشر ثم رمى المبادى وأصاب كان للمبدأ أن يرمى بجواز أن يصيب فيكافئ فأما المزني فظن أن الشافعي منع المبدأ أن يرمى بالسهم الباقي في هذه المسألة فتكلم عليه وليس كما ظن بل أراد منعه في المسألة المتقدمة للتعليل المذكور.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اشترطا محاطة فكل ما أصاب أحدهما واصاب الاخر مثله أسقطا العددين ولا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
وإن أصاب أقل من صاحبه حط مثله حتى يخلص له ذلك العدد الذى شرطه فينضله به.
قد ذكرنا أن النضال على ضربين محاطة ومبادرة.
فبدأ الشافعي رضى الله عنه بذكر المحاطة في الام وإن جعلها المصنف هنا بعد المبادرة، لان الغالب من النضال في زمانه كان محاطة والغالب في بلد الشيخ أبى إسحاق كان المبادرة، وقد قيل إن الشافعي كان راميا يصيب من العشرة ثمانية في الغالب، وهى عادة حذاق الرماة فإذا عقدا سبق النضال على اصابة خمسة من عشرين محاطة ورماية وجب أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما وينظر في الباقي بعد الحط، فإن كان خمسة فهو القدر المشروط فيصير صاحبه به ناضلا.
وان كان الباقي أقل من خمسة لم ينضل، وان كان أكثر اصابة لنقصانه من العدد المشروط، وإذا كان كذلك لم يخل حالهما بعد الرمى من أحد أمرين: اما أن يتساويا في الاصابة أو يتفاضلا،
فان تساويا في الاصابة فأصاب كل واحد منهما عشرا عشرا أو خمسا خمسا قال الشافعي فلا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
فاختلف أصحابنا في قوله: ويستأنفان على وجهين حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا يستأنفان الرمى بالعقد الاول، لان عقد المحاطة ما أوجب حط الاقل

(15/179)


من الاكثر وليس مع التساوى عقد حط.
فخرج من عقد المحاطة.
فلذلك استأنفا الرمى ليصير ما يستأنفانه من عقود المحاطة.
والوجه الثاني: أن أراد بها يستأنفان عقدا مستجدا ان أحبا، لان العقد الواحد لا يلزم فيه اعادة الرمى مع التكافؤ، كما لا يلزم في الخيل اعادة الجرى مع التكافؤ.
قال الماوردى: والذى أراه وهو عندي الاصح أن ينظر فان تساويا في الاصابة قبل الرشق استأنفا الرمى بالعقد الاول، وان تساويا فيه بعد استكمال الرشق استأنفا بعقد مستحدان أحبا لانها قبل استكمال الرشق في بقايا أحكام العقد، وبعد استكماله قد نقصت جميع أحكامه.
فان تفاضلا في الاصابة لم يخل تفاضلهما فيها من أقسام ثلاثة: 1 - أن يفضل ولا ينضل بما فضل.
وهو أن يشترطا إصابة خمسة من عشرين محاطه فيصيب أحدهما عشرة أسهم ويصيب الاخر ستة أسهم، فتحط الستة من العشرة يكون الباقي منها أربعه فلا ينضل، لان شرط الاصابة خمسة وهكذا لو أصاب أحدهما خمسة عشر واصاب الاخر أحد عشر لم ينضل الفاضل لان الباقي له بعد الحط أربعة، ثم على هذا الاعتبار ان كان الباقي أقل من خمسة.
2 - أن ينضل بما فضل بعد استيفاء الرشق.
وهو أن يصيب أحدهما
خمسة عشر من عشرين، ويصيب الاخر عشرة من عشرين فينضل الفاضل لانك إذا أسقطت من اصابته عشرة كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد النضل.
وهكذا لو أصاب أحدهما عشرة وأصاب الاخر خمسة كان الفاضل ناضلا، لانك إذا أسقطت الخمسة من اصابته كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد الاصابات.
وهكذا لو كان الباقي بعد الحط أكثر من خمسة، ثم على هذا الاعتبار.

(15/180)


3 أن ينضل بما فضل قبل استيفاء الرشق وهو أن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر ويكون الباقي من الاكثر خمسة، وهو عدد النضل، فهل يستقر النضال بهذا قبل استيفاء الرشق أم لا؟ على وجهين.
أحدهما: يستقر النضل ويسقط باقى الرشق، لان مقصوده معرفة الاحذق وقد عرف.
والوجه الثاني: وهو الاظهر، أنه لا يستقر النضل بهذه المبادرة إلى العدد حتى يرميا بقية الرشق، لان العقد قد تضمنها، وقد يجوز أن يصيب المفضول جميعها أو أكثرها ويخطئ الفاضل جميعها أو أكثرها.
وعلى هذا يكون التفريع فإذا رميا بقية الرشق وهو الخمسة الباقيه، فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها فقد استويا ولم ينضل واحد منهما، لان إصابة كل واحد منهما عشرة، وإن أصاب الفاضل وأخطأ المفضول جميعها استقر فضل الفاضل لانه أصاب خمسه وعشرين، وأصاب المفضول خمسه من عشرين فكان الباقي بعد الحط عشرة، هي أكثر من شرطه، فلو أصاب الفاضل من الخمسة الباقيه سهما وأصاب المفضول سهمين لم ينضل الفاضل لان عدد إصابته أحد عشر سهما وعدد
إصابة المفضول سبعه إذا حطت من تلك الاصابة كان الباقي أربعه والشرط أن تكون خمسه، فلذلك لم ينضل وإن فضل.
فلو أصاب الناضل سهمين والمنضول سهمين صار الفاضل ناضلا، لانه أصاب اثنى عشرة وأصاب المنضول سبعه يبقى للناضل بعد الحط خمسه، ولو أصاب أحدهما سبعه من عشرة وأصاب الاخر سهمين من عشرة فإذا رميا بقية السهام فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها صار الاول ناضلا والثانى منضولا، لان الاول له سبعه والثانى له اثنا عشر يبقى له بعد الحط خمسه، ولو أصاب الاول جميعها وأصاب الثاني جميعها كان الاول ناضلا لان إصابته سبعة عشر وإصابة الثاني اثنا عشر، فإن أخطأ الاول في سهم من بقية الرشق لم يفضل ولم ينضل، ولو أصاب اثنى عشر من خمسة عشر وأصاب الاخر سهمين من

(15/181)


خمسة عشر استقر النضل وسقط بقية الرشق وجها واحدا، لان المنضول لو أصاب جميع الخمسه الباقيه من الرشق حتى استكمل بما تقدم سبعه كان منضولا، لان الباقي للفاضل بعد حطها خمسه فلم يستفد ببقية الرمى أن يدفع عن نفسه النضل فسقط، ثم على هذا الاعتبار.
(فرع)
قول المصنف: وإن كان العقد على حوابى.
فإن الحوابى نوع من أنواع الرمى وهم فيه أبو حامد الاسفرايينى فجعله صفه من صفات السهم وسماه حوابى بإثبات الياء فيه وحذفها وأنه السهم الواقع دون الهدف ثم يحبو إليه حتى ينضل به مأخوذا من حبو الصبى.
وهذا نوع من الرمى المزدلف يفترقان في الاسم لان المزدلف أحد والحوابى أضعف ويستويان في الحكم على ما سيأتي، والذى قاله سائر أصحابنا أن الحوابى نوع من الرمى، وأن أنواع الرمى ثلاثه: المحاطه والمبادرة والحوابى وقد ذكرنا المحاطه والمبادرة.
فأما الحواب فهو أن يحتسب بالاصابة في الشن، وإن أصاب أحدهما الهدف على شبر من الشن فاحتسب به ثم أصاب الاخر الهدف فتر من الشن احتسب به وأسقط إصابة الشبر لانها أبعد، ولو أصاب أحدهما خارج الشن واحتسب به وأصاب الاخر في الشن احتسب به وأسقط إصابة خارج الشن، ولو أصاب أحدهما الشن فاحتسب به وأصاب الاخر الدارة التى في الشن فاحتسب به وأصاب الاخر العظم الذى في دارة الشن احتسب وأسقط إصابة الدارة فيكون كل قريب مسقطا لما هو أبعد منه، فهذا نوع من الرمى ذكره الشافعي في كتاب الام وذكر مذاهب الرماة فيه وفرع عليه، ولم يذكره المزني إما لاختصاره، وإما لانه غير موافق لرأيه لضيقه وكثره خطره، لانه يثبت الاصابة بعد إثباتها، والمذهب كما ذكر المصنف جوازه لامرين.

(أحدهما)
أنه نوع معهود في الرمى فأشبه المحاطه والمبادرة.

(والثانى)
أنه أبعث على التمرن على الحذق، والتمرس بمعاطاة الدقة في التصويب والتسديد فصح، فإذا كان كذلك في جواز النضال على إصابة الحواب وكان عقدهما على إصابة خمسه من عشرين فلها إذا تناضلا ثلاثة أحوال.

(15/182)


1 - أن يقصرا عن عدد الاصابة.
2 - أن يستوفيا عدد الاصابة.
3 - أن يستوفيها أحدهما ويقصر الاخر عنها.
فأما الاول كأن يصيب كل منهما أقل من خمسة فقد ارتفع حكم العقد بنقصان الاصابة من العد والمشروط من غير أن يكون فيها ناضل أو منضول ولا اعتبار بالقرب والبعد مع نقصان العدد.
وأما الثانية من استيفائهما معا عدد الاصابة فيصيب كل منهما خمسة فصاعدا، فيعتبر حينئذ حال القرب والبعد، فإنهما
لا يخلو أمرهما من: (أ) أن تكون الاصابات في الهدف، وقد تساوت في القرب من الشن، وليست بعضها بأقرب إليه من بعض فقد تكافئا ; وليس فيهما ناضل ولا منضول وهكذا لو تقدم لكل واحد منهما سهم كان أقرب إلى الشن من باقى سهامه وتساوى السهمان المتقدمان في القرب من الشن كانا سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، فإن تقدم لاحدهما سهم وللآخر سهمان وتساوت السهام الثلاثة في قربها من الشن ففيه وجهان.
أحدهما: أن المتقرب بسهمين ناضل للمتقرب بسهم لفضله في العدد.
والثانى أنهما سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، لان النضال الحواب موضوع على القرب دون زيادة العدد.
(ب) أن تكون سهام أحدهما أقرب إلى الشن من سهام الاخر، فأقربهما إلى الشن هو الناضل، وأبعدهما من الشن هو المنضول، وهكذا لو تقدم لاحدهما سهم واحد فكان أقرب إلى الشن من جميع سهام الاخر أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وكان هو الناضل بسهم الاقرب.
(ج) أن تكون سهام أحدهما في الهدف وسهام الاخر في الشن فيكون المصيب في الشن هو الناضل والمصيب في الهدف منضول.
وهكذا لو كان لاحدهما سهم واحد في الشن وجميع سهام الاخر خارج الشن كان المصيب في الشن هو الناضل بسهمه الواحد، وقد أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وإن كانت أبعد إلى الشن من سهام صاحبه

(15/183)


(د) أن تكون سهامهما جميعا صائبة في الشن، ولكن سهام أحدهما أو بعضهما في الدارة وسهام الآخر خارج الدارة وإن كان جميعا في الشن ففيه وجهان.

(أحدهما)
وقد حكاه الشافعي عن بعض الرماة أن المصيب في الدارة ناضل والمصيب خارج الدارة منضول قطب الاصابة.
(والوجه الثاني) وإليه أشار الشافعي في اختياره أنهما سواء وليس منهما ناضل ولا منضول، لان جميع الشن محل الاصابة.
وأما الحال الثالثة: وهو أن يستوفى أحدهما إصابة الخمس ويقصر الاخر عنها فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون مستوفى الاصابة أقرب سهاما إلى الشن أو مساويا صاحبه، فيكون ناضلا والمقصر منضولا.
والثانى: أن يكون المقصر في الاصابة أقرب سهاما من المستوفى لها، فليس فيهما ناضل ولا منضول، لان المستوفى قد سقطت سهامه ببعدها، والمقصر قد سقطت سهامه بنقصانها، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان النضال بين حزبين جاز.
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: لا يجوز لانه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره، والمذهب الاول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الاكوع، وينصب كل واحد من الحزبين زعيما يتوكل لهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز أن يكون وكيل المشترى والبائع واحد، ولا يجوز إلا على حزبين متساويى العدد لان القصد معرفة الحذق، فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الاخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمى، ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين، ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار، فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز، لانه ربما أخرجت القرعة الحذاق لاحد الحزبين والضعفاء للحزب الاخر، فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار، ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز،
لانه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع.

(15/184)


ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم، فأن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين، وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالاربعين والثمانين، لانه إذا لم يفعل ذلك بقى سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد، فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمى بطل العقد فيه، لانه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الاخر بإزائه واحد، كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة.
فإن قلنا: لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد، لان الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم، فان اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلته من الحزب الاخر فسخ العقد، لانه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ.
ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولا واحدا، لان من في مقابلته من الحزب الاخر لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة، فبطل في الجميع.
فإن نضل أحد الحزبين الاخر ففى قسمة المال بين الناضلين وجهان.
أحدهما: تقسم بينهم بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق.
والثانى: تقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم استحقوا بالاصابة فاختلف باختلاف الاصابة، ويخالف ما لزم المنضولين، فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي، فاعتبر بقدر الاصابة، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئا، وبالله التوفيق.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اقتسموا ثلاثة وثلاثة
فلا يجوز أن يقترعوا وليقسموا قسما معروفا.
قلت: إذا صح هذا فالنضال ضربان: أفراد وأحزاب، فأما نضال الافراد فقد مضى في فصول الكتاب.
وأما نضال الاحزاب فهو أن يناضل حزبان يدخل في كل واحد منهما جماعة يتقدم عليهم أحدهم فيعقد النضال على جميعهم فهذا يصح على شروطه، وهو منصوص الشافعي وعليه جماعة أصحابه وجمهورهم.

(15/185)


وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يصح لان كل واحد يأخذ بفعل غيره وهذا فاسد لانهم إذا اشتركوا صار فعل جميعهم واحدا فاشتركوا في موجبه لاشتراكهم في فعله مع ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يرمون فقال: ارموا وأنا مع بنى الاذرع، فأمسك القوم قسيهم وقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم فدل على أنهم كانوا حزبين مشتركين ولان مقصود النضال التحريض على الاستعداد للحرب والجهاد، وهو بالاحزاب والمجموعات أشد تحريضا وأكثر اجتهادا، وأدعى إلى التنسيق بين افراد الجماعة وربطهم بالنظام والقيادة، وتلك لعمر الله أعظم أسباب النصر في الجهاد.
فإذا ثبت جوازه في الحزبين بجوازه بين الاثنين فلصحته خمسه شروط: (أحدها) أن يتساوى عدد الحزبين، ولا يفضل أحدهما على الاخر فيكونوا ثلاثة وثلاثة، أو خمسة وخمسة أو أقل أو أكثر، فان فضل أحدهما على الآخر برجل بطل العقد لان مقصوده معرفة أحذق الحزبين، فإذا تفاضلوا تغالبوا بكثرة العدد لا بحذق الرمى.
(الثاني) أن يكون العقد عليهم باذنهم، فان لم يأذنوا فيه لم يصح، لانه عقد معاوضه متردد بين الاجارة والجعالة، وكل واحد منهما لا يصح إلا باذن واختيار
فان عقد عليهم من لم يستأذنهم بطل (والثالث) أن يعينوا على متولى العقد منهم فيكون فيه متقدما عليهم ونائبا عنهم، فان لم يعينوا واحدا منهم لم يصح العقد عليهم لانه توكيل فلم يصح إلا بالتعيين، ويختار أن يكون زعيم كل حزب أحذقهم وأطوعهم، لان صفة الزعيم في العرف أن يكون متقدما في الصناعة، مطاعا في الجماعة، فان تقدموه في الرمى وأطاعوه في الاتباع جاز، وان تقدمهم في الرمى ولم يطيعوا في الاتباع لم يجز، لان أهم خصائص الزعيم أن يكون مطاعا، فإذا أمر ولم يتبعه أحد فلا يجوز العقد عليه.
(والرابع) أن يكون زعيم كل واحد من الحزبين غير زعيم الحزب الاخر

(15/186)


لتصح نيابته عنهم في العقد عليهم مع الحزب الاخر، فان كان زعيم الحزبين واحدا لم يصح كما لا يصح أن يكون الوكيل في العقد بائعا ومشتريا.
والشرط الخامس وهو مسألة الكتاب أن يتعين رماة كل حزب منهما قبل العقد باتفاق ومراضاة، فان عقده الزعيمان عليهم ليقترعوا على من يكون في كل حزب لم يصح، مثال ذلك: أن يكون الحزبان ثلاثة وثلاثة، فيقول الزعيمان نقترع عليهم فمن حرجت قرعتي عليه كان معى، ومن خرجت قرعتك عليه كان معك، فهذا لا يصح لامرين.
أحدهما: أنهم أصل في عقد فلم يصح عقده على القرعة كابتياع أحد العينين بالقرعة والثانى: أنه ربما أخرجت القرعة حذاقهم لاحد الحزبين، وضعفاءهم للحزب الآخر، فخرج عن مقصود التحريض في التناضل، فان عدلوا بين الحزبين في الحذق والضعف قبل العقد على أن يقترع الزعيمان على كل واحد من الحزبين بعد العقد لم يصح التعليل الاول من كونهم في العقد أصلا دون التعليل الثاني من اجتماع الحذاق في أحد الحزبين، لانهم قد رفعوه بالتعديل، فإذا ثبت تعينهم قبل
العقد بغير قرعة تعينوا فيه بأحد أمرين، إما بالاشارة إليهم إذا حضروا، وإن لم يعرفوا، وإما باسمائهم إذا عرفوا، فان تنازعوا عند الاختيار قبل العقد فعدلوا إلى القرعة في التقدم بالاختيار جاز لانها قرعة في الاختيار وليست بقرعة في العقد، فإذا قرع أحد الزعيمين اختار من الستة واحدا ثم اختار الزعيم الثاني واحدا، ثم دعا الزعيم الاول فاختار ثانيا واختار الزعيم الثاني ثانيا، ثم عاد الاول فاختار ثالثا، وأخذ الاخر الثالث الباقي.
ولم يجز أن يختار الاول الثلاثة في حال واحدة لانه لا يختار إلا الاحذق، فيجتمع الحذاق في حزب والضعفاء في حزب فيعدم مقصود التناضل من التحريض.
(فرع)
فإذا تكاملت الشروط الخمسه في عقد النضال بين الحزبين لم يخل حالهم في مال السبق من ثلاثة أقسام.
أحدها: أن يخرجها أحد الحزبين دون الاخر، فهذا يصح سواء انفرد زعيم الحزب باخراجه أو اشتركوا فيه، ويكون الحزب المخرج للسبق معطيا إن كان

(15/187)


منضولا وغير آخذ إن كان ناضلا ن ويكون الحزب الآخر آخذا إن كان ناضلا وغير معط إن كان منضولا، وهذا يغنى عن المحلل لانه محلل.
والقسم الثاني: أن يكون الحزبان مخرجين، ويختص باخراج المال زعيم الحزبين فهذا يصح ويغنى عن محلل، لان مدخل المحلل ليأخذ ولا يعطى، ورجال كل حزب يأخذون ولا يعطون، فإذا نضل أحد الحزبين أخذ زعيمهم مال نفسه، وقسم مال الحزب المنضول بين أصحابه، فان كان الزعيم راميا معهم شاركهم في مال السبق، وإن لم يرم معهم فلا حق له فيه، لانه لا يجوز أن يتملك مال النضال من لم يناضل، وصار معهم كالامين والشاهد، فان رضخوا له بشئ منه عن طيب أنفسهم جاز وكان قطوعا، فان شرط عليهم أن يأخذ معهم بطل الشرط ولم
يبطل به العقد لانه ليس بينه وبين أصحابه عقد يبطل بفساد شرطه، وإنما العقد بين الحزبين وليس لهذا الشرط تأثير فيه.
والقسم الثالث: أن يخرجا المال ويشترك أهل كل حزب في إخراجه، فهذا لا يصح حتى يدخل بين الحزبين حزب ثالث يكون محللا يكافئ كل حزب في العدد والرمى يأخذ ولا يعطى كما يعتبر في إخراج المتناضلين المال أن يدخل بينهما محلل ثالث يأخذ ولا يعطى.
فإذا انعقد النضال بين الحزبين على ما وصفنا اشتمل الكلام بعد تمامه بالمال المسمى فيه على ثلاث مسائل.
(إحداها) في حكم المال المخرج في كل حزب، ولهم فيه حالتان.
احداهما: أن لا يسموا قسط كل واحد من جماعتهم فيشتركوا في التزامه بالسوية على أعدادهم من غير تفاضل فيه لاستوائهم في التزامه، فان كان زعيمهم راميا معهم دخل في التزامه كأحدهم كما يدخل في الاخذ معهم، فان لم يكن راميا لم يلزم معهم كما لا يأخذ معهم.
والثانية: أن يسموا قسط كل واحد منهم في التزام مال السبق فهو على ضربين أن يتساوى في التسمية فيصح، لانه موافق لحكم الاطلاق.
والضرب الثاني: أن يتفاضلوا فيه، ففى جوازه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لتساويهم في العقد فوجب أن يتساووا في الالتزام.

(15/188)


(والثانى)
يجوز لانه عن اتفاق لم يتضمنه فيما بينهم عقد فاعتبر فيه التراضي فان شرطوا أن يكون المال بينهم مقسطا على صواب كل واحد منهم وخطئه لم يجز لانه على شرط مستقبل مجهول غير معلوم فبطل ولا يؤثر بطلانه في العقد لانه ليس فيما بينهم عقد وكانوا متساوين فيه.
المسألة الثانية في حكم نضالهما وفيما يحتسب به من الصواب والخطأ، والمعتبر فيه أن يكون عدد الرشق ثلاثين أو ستين أو تسعين أو عددا يكون له ثلث صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق خمسين ولا سبعين ولا مائة، لانه ليس له ثلث صحيح.
وان كان عدد الحزب أربعة كان عدد الرشق أربعين أو ماله ربع صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق ما ليس له ربع صحيح، وهكذا ان كان عدد الحزب خمسة وجب أن يكون عدد الرشق ماله خمس صحيح لانه إذا لم ينقسم عدد الرشق على عدد الحزب الا بكسر يدخل عليهم لم يصح التزامهم له لان اشتراكهم في رمى السهم لا يصح، فأما عدد الاصابة المشروطة فيجوز أن لا ينقسم على عددهم لان الاعتبار فيها باصابتهم لا باشتراكهم، فإذا استقر هذا بينهم لزعيم كل حزب باصابات كل واحد من أصحابه واحتسب عليه خطأ كل واحد منهم سواء تساوى رجال الحزب في الاصابة وهو نادر أو تفاضلوا فيها وهو الغالب، فإذا جمعت الاصابتان والمشروط فيها اصابة خمسين من مائة لم يخل مجموع الاصابتين من ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون المجموع من اصابة كل حزب خمسين فصاعدا، فليس فيهما منضول، وان تفاضلا في النقصان من الخمسين.
والحال الثانية: أن مجموع اصابة كل منهما أقل من خمسين، فليس فيهما منضول لتساويهما في النقصان.
والحال الثالثة: أن يكون مجموع اصابة احداهما خمسين فصاعدا، ومجموع اصابة الاخر أقل من خمسين فمستكمل الخمسين هو الناضل، وان كان أحدهم في

(15/189)


الاصابة مقلا فالمقصور عن الخمسين هو المنضول، وإن كان أحدهم في الاصابة
مكثرا فيصير مقلل الاصابة آخذا ومكثرها معطيا، لان حزب المقلل ناضل وحزب المكثر منضول.
المسألة الثالثة في حكم المال إذا استحقه الحزب الناضل.
فيقسم بين جميعهم وفى قسمته بينهم وجهان:
(أحدهما)
أنه مقسوم بينهم بالسوية مع تفاضلهم في الاصابة لاشتراكهم في العقد الذى أوجب تساويهم فيه.
والوجه الثاني: أنه يقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم بالاصابة قد استحقوه فلا يكافئ مقل الاصابة مكثرها.
وخالف التزام المنضولين حيث تساووا فيه مع اختلافهم في الخطأ، لان الالتزام قبل الرمى فلم يعتبر بالخطأ والاستحقاق بعد الرمى، فصار معتبرا بالصواب.
فعلى هذا لو أخطأ واحد من أهل الحزب الناضل في جميع سهامه ففى خروجه من الاستحقاق وجهان:
(أحدهما)
يستحق معهم وإن لم يصب إذا قيل بالوجه الاول: انه مقسوم بينهم بالسوية لا على قدر الاصابة.
والوجه الثاني أنه يخرج بالخطأ من الاستحقاق ويقسم بين من عداه إذا قيل بالوجه الثاني إنه مقسوم بينهم على قدر الاصابة ويقابل هذا أن يكون في الحزب المنضول من أصاب بجميع سهامه.
ففى خروجه من التزام المال وجهان.

(أحدهما)
يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه والوجه الثاني: لا يخرج من الالتزام ويكون فيه أسوة من أخطا إذا قيل بدخول المخطئ في الاستحقاق، وأنه فيه أسوة من أصاب.
والله أعلم بالصواب

(15/190)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

(باب بيان الاصابة والخطأ في الرمى)
إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذى يشد فيه الشن أو العرى وهو السير الذى يشد به الشن على الجريد، حسب له.
لان ذلك كله من الغرض، وإن أصاب العلاقة ففيه قولان
(أحدهما)
يحسب له، لانه من جملة الغرض، ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العرى
(والثانى)
لا يحسب لان العلاقة ما يعلق به الغرض.
فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به، وإن شرط اصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له.
لانه لم يصب الخاصرة.
وان شرط إصابة الشن فأصاب العروة - وهو السير أو العلاقة - لم يحسب لان ذلك كله غير الشن، فإن أصاب سهما في الغرض - فان كان السهم متعلقا بنصله وباقيه خارج الغرض - لم يحسب له ولا عليه، لان بينه وبين الغرض طول السهم، ولا يدرى لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لا يصيب؟ وان كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له، لان العقد على اصابة الغرض، ومعلوم انه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض.
فان خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وان أصاب الغرض في الموضع الذى انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لانه أخطأ في الرمى، وانما أصاب بفعل الريح لا بفعله.
وان رمى وفى الجو ريح ضعيفة فارسل السهم مفارقا للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض، أو كانت الريح خلفه فنزع نزعا قريبا ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له، لانه أصاب بفراهته وحذقه، وان أخطأ حسب عليه، لانه أخطأ بسوء رميه، ولانه لو أصاب مع الريح لحسب له، فإذا أخطأ معها حسب عليه.
وان كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب، لانه لم يصب بحسن رميه، ولا يحسب عليه إذا أخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ

(15/191)


بالرمي في غير وقته، وان رمى من غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه، لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ بعارض الريح.
وان أصاب فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف، وعندي انه لا يحسب له قولا واحدا لان المزدلف انما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم انه أصاب برميه، وان رمى سهما فأصاب الغرض بغوقه لم يحسب له لان ذلك من أسوأ الرمى وأردئه
(فصل)
وان انكسر القوس أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له، لان اصابته مع اختلال الالة أدل على حذقه، فان أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه وانما أخطأ بعارض.
وان أغرق السهم فخرج من الجانب الاخر نظرت، فان أصاب حسب له لان اصابته مع الاغراق أدل على حذقه، وان أخطأ لم يحسب عليه.
ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لانه اخطا في مد القوس، والمنصوص هو الاول، لان الاغراق ليس من سوء الرمى، وانما هو لمعنى قبل الرمى فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس، وان انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لانه انما لم يصب لفساد الالة لسوء الرمى، وان أصاب بما فيه النصل حسب له لان اصابته مع فساد الالة ادل على حذقه، وان أصابه بالموضع الاخر لم يحسب له لانه لم يصب، ولم يحسب عليه لان خطأه لفساد الالة لا لسوء الرمى.

(فصل)
وان عرض دون الغرض عارض من انسان أو بهيمة نظرت
فان رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لانه لم يصل للعارض لا لسوء الرمى وان نفذ السهم وأصاب حسب له، لان إصابته مع العارض أدل على حذقه.
وحكى أن الكسعى كان راميا فخرج ذات ليلة فرأى ظبيا فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجرا وقدح فيه نارا فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه، فلما أصبح رأى الظبى صريعا قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلا وقال الشاعر: ندمت ندامة الكسعى لما
* رأت عيناه ما صنعت يداه

(15/192)


وان رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه يحسب عليه في الخطأ، لانه أخطأ بسوء الرمى لا للعارض، لانه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على انه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ.

(والثانى)
انه لا يحسب عليه لان العارض قد يشوش الرمى فيقصر عن الغرض وقد يجاوزه.
وان رمى السهم فأصاب الارض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان
(أحدهما)
يحسب لانه أصاب الغرض بالنزعة التى أرسلها وما عرض دونها من الارض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شئ فهتكه وأصاب الغرض
(والثانى)
لا يحسب له، لان السهم خرج عن الرمى إلى غير الغرض وانما اعانته الارض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له، وان ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان
(أحدهما)
يحسب عليه في الخطأ لانه انما ازدلف بسوء رميه لان الحاذق لا يزدلف سهمه
(والثانى)
لا يحسب عليه لان الارض تشوش السهم وتزيله عن سننه فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أغرق أحدهما السهم من
يده ولم يبلغ الغرض كان له أن يعود من قبل العارض فأما إغراق السهم فهو أن يزيد في مد القوس لفضل قوته حى يستغرق السهم فيخرج من جانب الوتر المعهود إلى جانب الاخر، فان من أجناس القسى والسهام ما يكون مخرج السهم منها عن يمين الرامى جاريا على ابهامه فيكون اغراقه أن يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، فيكون اغراقه ان يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، ومنها ما يكون مخرجه على يسار الرامى جاريا على سبابته فيكون اغراقه أن يخرج على يمينه جاريا على ابهامه، فإذا أغرق السهم قال الشافعي: لم يكن اغراقه من سوء الرمى وانما هو لعارض فلا يحتسب عليه ان أخطأ به، وفيه عندي نظر، لانه إذا لم يمد القوس بحسب الحاجة حتى زاد فيه فأغرق أو نقص فقصر كان بسوء الرمى أشبه، فإذا أخطأ بالسهم المغرق لم يحتسب عليه على مذهب الشافعي، وان أصاب به احتسب له لان الاصابة به مع المحلل أدل على حذق الرامى من الاصابة مع الاستقامة

(15/193)


وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أرسله مفارقا للشن فهبت ريح فصرفته إليه ن أو مقصر فأسرعت به فأصاب حسب مصيبا ولا حكم للريح اه.
إننا نعلم أن للريح تأثير في تغيير مجرى السهم عن جهته، وحذاق الرماة يعرفون مخرج السهم عن القوس هل هو مصيب أو مخطئ؟ فإذا خرج السهم فغيرته الريح فهو على ضربين.

(أحدهما)
أن يخرج مفارقا للشن فتعدل به الريح إلى الشن فيصيب أو يكون مقصرا عن الهدف فهبته الريح حتى أصاب فتعتبر حال الريح، فان كانت ضعيفة كان محسوبا في الاصابة لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح، وإن كانت الريح قوية نظر، فإن كانت موجودة عند الارسال كان محسوبا في
الاصابة لانه قد اجتهد في التحرز من تأثير الريح وحسب حسابها بتحريف سهمه فأصاب باجتهاده ورميه، وإن حدثت الريح بعد إرسال السهم ففى الاحتساب به وجهان تخريجا من اختلاف قوليه في الاحتساب بإصابة المزدلف.
أحدهما: يحتسب به مصيبا إذا احتسبت إصابة المزدلف.
والوجه الثاني: لا يحتسب مصيبا ولا مخطئا، إذا لم يحتسب باصابة المزدلف.
(والضرب الثاني) أن يخرج السهم موافقا للهدف فتعدل به الريح حتى يخرج عن الهدف فيعتبر حال الريح، فان كانت طارئة بعد خروج السهم عن القوس ألغى السهم ولم يحتسب به في الخطأ، لان التحرز من حدوث الريح غير ممكن، فلم يذهب إلى سوء الرمى، وإن كانت الريح موجودة عند خروج السهم نظر فيها فان كانت قوية لم يحتسب به في الخطأ لانه أخطا في اجتهاده الذى يتحرز به من الريح، ولم يخطئ في سوء الرمى.
وإن كانت الريح ضعيفة ففى الاحتساب به في الخطأ وجهان.
أحدهما: يكون خطأ لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح.
والثانى لا يكون محسوبا في الخط لان الريح تفسد صنيع المحسن، وإن قلت كما تفسده إذا كثرت فإذا أزالت الريح الشن عن موضعه إلى غيره لم يخل حال السهم بعد زوال الشن من ثلاثة أحوال.

(15/194)


1 - أن يقع في غير الشن وفى غير موضعه الذى كان فيه فيحتسب به مخطئا لانه وقع في غير محل الاصابة قبل الريح وبعدها.
2 - أن يقع في الموضع الذى كان فيه الشن في الهدف فيحتسب مصيبا لوقوعه في محل الاصابة.
3 - أن يقع في الشن بعد زواله عن موضعه، فهذا على ضربين.
أحدهما:
أن يزول الشن عن موضعه بعد خروج السهم فتحتسب به في الخطأ لوقوعه في غير محل الاصابة عند خروج السهم.
والضرب الثاني: أن يخرج السهم بعد زوال الشن عن موضعه وعلم الرامى بزواله فينظر في الموضع الذى صار فيه، فان كان خارجا من الهدف لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن محل الصواب والخطأ، وان كان مماثلا لموضعه من الهدف احتسب به مصيبا، لانه قد صار محلا للاصابة، والله تعالى أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وكذلك لو انقطع وتره أو انكسر قوسه فلم يبلغ الغرض، أو عرض دونه دابة أو إنسان فأصابه أو عرض له في يده ما لا يمر السهم معه كان له أن يعود به.
قلت: إذا انقطع وتره أو انكسر قوسه فقصر وقع السهم وأخطأ لم يحتسب عليه، لانه لم يخطئ لسوء رميه، ولكن لنقص آلته، ولو أصاب به كان محسوبا من اصابته لانه أدل على حذقة، وهكذا لو عرض دون الهدف عارض من بهيمة أو انسان وقع السهم فيه ومنع من وصوله إلى الهدف لم يحتسب عليه وأعيد السهم إليه، فان خرق السهم الحائل ونفذ فيه حتى وصل إلى الهدف فأصاب كان محسوبا من إصابته لانه بالاصابة مع هذا العارض أشد وأرمى، ويسمى هذا السهم مارقا.
وقد كان الكسعى في العرب راميا وقصته كما ساقها المصنف على وجهها، والكسعى هو محارب بن قيس من كسيعه، وقيل: هو من بنى محارب من قحطان واسمه عامر بن الحارث، وقد قال عن نفسه أو قيل بلسان حاله فيما جرت عليه عادة القصاص من تسجيل الاخبار بالشعر على لسان أصحابها:

(15/195)


ندمت ندامة لو أن نفسي
* تطاوعني إذن لقطعت خمسى
تبين لى سفاه الرأى منى
* لعمر أبيك حين كسرت قوسى وهكذا لو عرض للرامي علة في يده أو أخذته ريح في يديه ضعف بها عن مد قوسه لم يحتسب عليه إن قصر أو أخطا، لانه لعارض يمنع وليس من سوء رمى أو قلة حذق.
قال الشافعي رضى الله عنه: فأما إن جاز السهم وأجاز من وراء الناس فهذا سوء رمى وليس بعارض غلب عليه فلا يرد إليه.
يقال: جاز السهم إذا مر في أحد جانبى الهدف ويسمى خاصر وجمعه خواصر، لانه في أحد الجانبين مأخوذ من الخاصرة لانها في جانبى الانسان، ويقال: أجاز السهم إذا وقع وراء الهدف، فإذا جاز السهم وسقط في جانب الهدف أو أجاز فوقع وراء الهدف كان محسوبا من خطئة، لانه منسوب إلى سوء رميه، وليس بمنسوب إلى عارض في يديه أو إليه.
وقال أبو على بن أبى هريرة: الجائز أن يقع في الهدف عن أحد جانبى الشن فعلى هذا إن كانت الاصابة مشروطة في الشن كان الجائز مخطئا، وإن كانت مشروطة في الهدف كان الجائز مصيبا، ويجوز أن يشترطا أن تكون إصابة سهامها جائزة فيحتسب بالجائز ولا يحتسب بغير الجائز.
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو كان الشن منصوبا فمرق منه كان عندي خاسقا، ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه.
أما السهم المارق فهو أن ينفذ في الشن وهو منصوب فوق الهدف ويخرج منه فيقع وراء الهدف فيحتسب به في القارع، فأما الخاسق ففى الاحتساب به قولان أحدهما: وهو منصوص الشافعي أنه يحتسب به خاسقا اعتبارا بالمعنى وأنه زائد على الخسق فيؤخذ فيه معنى الخسق.
والقول الثاني حكاه الشافعي عن بعض الرماة أنه لا يحتسب به خاسقا اعتبارا بالاسم لانه يسمى مارقا ولا يسمى خاسقا، فمن
أصحابنا من أثبت هذا القول للشافعي، ومنهم من نفاه عنه، لانه أضافه إلى غيره ولا يكون مخطئا، وإن لم يحتسب خاسقا لا يختلف فيه أصحابنا.

(15/196)


وأما السهم المزدلف فهو أن يقع على الارض ثم يزدلف منها بحمولته وحدته فيصير في الهدف، ففى الاحتساب به مصيبا قولان.
أحدهما: يحتسب به مصيبا لانه بحدة الرمى أصاب، والقول الثاني: ليس بمصيب لخروجه من الرامى إلى غير الهدف، وإنما أعادته الارض حين ازدلف عنها في الهدف.
قال أبو إسحاق المروزى: ومن أصحابنا من لم يخرج المزدلف على قولين، وحمله على اختلاف حالين باعتبار حاله عند ملاقاة الارض، فإن ضعفت حموته بعد ازدلافه ولانت كان محسوبا في الاصابة، وإن قويت وصار بعد ازدلافه أحد لم يحتسب به مصيبا، ويجوز أن يتناضلا على مروق السهم ولا يجوز أن يتناضلا على ازدلافه، لان مروق السهم من فعل الرامى، وازدلافه من تأثير الارض.
فعلى هذا في الاحتساب به مخطئا إذا لم يحتسب به مصيبا وجهان.
أحدهما: يكون مخطئا لانه من سوء الرمى.
والثانى: لا يكون مخطئا ما أصاب ويسقط الاعتداد به مصيبا ومخطئا، والله تعالى أعلم بالصواب.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان العقد على اصابة موصوفة نظرت، فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لان الشرط هو الاصابة ; وقد حصل ذلك في هذه الانواع.

(فصل)
وان كان الشرط هو الخسق نظرت، فان أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له، لان الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه انسان، فان ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم
يثبت ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يحسب له، لان الخسق ان يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك، ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه.

(والثانى)
وهو الصيح: انه لا يحسب له لان الاصل عدم الخسق، وانه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له، وان كان الغرض ملصقا بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه، فقال الرامى: قد خسق الا أنه لم يثبت فيه لغلظ

(15/197)


لقيه من نواة أو حصاة.
وقال رسيله: لم يخسق نظرت، فإن لم يعلم موضع الاصابة من الغرض فالقول قول الرسيل، لان الاصل عدم الخسق، وهل يحلف؟ ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن شئ يمنع من ثبوته لم يحلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن.
وإن علم موضع الاصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان
(أحدهما)
أن القول قول الرامى، لان المانع شهد له
(والثانى)
أن القول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق، والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقا، ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك، وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت، فان كان الموضع الذى ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به، لانا نعلم أنه لو كان الشن صحيحا لثبت فيه، وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه، لانا لا نعلم أنه لو كان صحيحا هل كان يثبت فيه أم لا؟ فيرد إليه السهم حتى يرميه.
وإن خرمه وثبت ففيه قولان
(أحدهما)
يعتد به لان الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت
(والثانى)
لا يعتد به لان الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك، فان مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله: هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه، فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولا واحدا وما حكاه عن غيره ليس بقول له.
لان معنى الخسق قد وجد وزيادة، ولانه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يحسب له لما ذكرناه
(والثانى)
لا يحسب له لان الخسق أن يثبت، وما ثبت، ولان في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق، والتعليل الاول أصح، لان هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع، وإن أصاب السن ومرق وثبت في الهدف

(15/198)


ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامى هذا الجلد قطعة سهمي بقوته، وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.

(فصل)
إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد، لان المقصود معرفة حذقه، وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع، وان رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر، وان أراد أن يفسخ فان قلنا انه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر، وقد بيناه في أول الكتاب، وإن قلنا إنه كالاجارة جاز أن يفسخ، لانه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الاجارة، وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمى للدعة فان قلنا انه كالاجارة أجبر عليه كما أجبر في الاجارة، وان قلنا انه كالجعالة
لم يجبر كما لا يجبر في الجعالة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا المصيب، فمن أصاب الشن ولم يخرق حسب له لانه مصيب قلت: فإذا تشارطا الاصابة احتسب كل مصيب من قارع وخارق وخاسق، لان جميعها مصيب.
وهكذا لو تشارطا الاصابة قرعا احتسب بالقارع وبالمارق وبالخاسق لانه زيادة على القرع.
ولو تشارطا الخواصر احتسب بكل مصيب لان اصابة الخواصر مشتمل على كل مصيب من قارع وخارق وخاسق.
فأما الخواصر فهو ما أصاب جانب الشن، فان شرطا في الرمى لم يحتسب الا به، وان لم يشترطاه احتسب به مع كل مصيب في الشن إذا كانت الاصابة مشروطة في الشن.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا الخواسق والشن ملصق بالهدف فأصاب ثم رجع فزعم الرامى أنه خسق ثم رجع لغلظ لقيه من حصاة أو غيرها وزعم المصاب عليه أنه لم يخسق، وانما قرع ثم رجع فالقول قوله مع يمينه الا أن تقوم بينة فيؤخذ بها

(15/199)


واشتراط الخسق إنما يكون في إصابة الشن دون الهدف، وقد ذكرنا أن الشن وهو جلد ينصب في الهدف تمد أطرافه بأوتار أو خيوط تشد في أوتاد منصوبة في الهدف المبنى، وربما كان ملصقا بحائط الهدف، وربما كان بعيدا منه بنحو من شبر أو ذراع، وهو أبعد ما ينصب، وخسق الشن إذا كان بعيدا من الهدف أوضح منه إذا كان ملصقا به.
فإذا رمى والشن ملصق بالهدف فأصاب الشن ثم سقط بالاصابة خسق فزعم الرامى أنها خسق، ولقى غليظا في الهدف من حصاة أو نواة فرجع وهو خاسق،
وزعم المرمى عليه أنه قرع فسقط ولم يخسق فلهما ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يعلم صدق الرامى في قوله بغير يمين، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثانية: أن يعلم صدق المرمى عليه في إنكاره إما بأن لا يرى في الشن خسقا، وإما بأن لا يرى في الهدف غلظا، فالقول قوله ولا يمين عليه، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثالثة: أن يحتمل صدق المدعى وصدق المنكر لان هل في الشن خواسق أم لا، فإن كانت بينة حمل عليها، وإن عدمت البينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا يحتسب به مصيبا، وفى الاحتساب به مخطئا وجهان:
(أحدهما)
يحتسب به في الخطأ إذا لم يحتسب به في الاصابة لوقوف الرامى بين صواب وخطأ.
والوجه الثاني.
لا يحتسب به في الاصابة، لان الاصابة لا يحتسب بها إلا مع اليقين، وكذلك لا يحتسب بالخطأ إلا مع اليقين، فإن نكل المنكر عن اليمين أحلف الرامى.
فإذا حلف احتسب بإصابته قال الشافعي رحمه الله: وإن كان الشن باليا فأصاب موضع الخسق فصار في الهدف فهو مصيب.
وهذا معتبر بالشن والهدف ولهما ثلاثة أحوال
(أحدهما)
أن يكون الهدف أشد من الشن لانه مبنى قد قوى واشتد فإذا وصل السهم إليه من ثقب في الشن

(15/200)


ثبت في الهدف الذى هو أقوى من الشن كان ثبوته في الشن الاضعف أجدر.
وهو الذى أراده الشافعي فيحتسب به خاسقا والحال الثانية أن يكون الشن أقوى من الهدف وأشد لانه جلد متين والهدف تراب ثائر أو طين فلا يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، أما الاصابة فلجواز
أن لا يخسق الشن.
وأما الخطأ فلعدم ما خسقه مع بلى الشن والحال الثالثة: أن يتساوى الشن والهدف في القوة والضعف فلا يحتسب به مخطئا، وفى الاحتساب به مصيبا وجهان:
(أحدهما)
يحتسب من اصابة الخسق لان ثبوته في الهدف قائم مقام ثبوته في الشن عند تساويهما.
والوجه الثاني: لا يحتسب في اصابة الخسق ويحتسب في اصابة القرع على الاحوال كلها.
وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض، فقال الرامى: خسقت، وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر صاحبه وقال: بل هي كانت مقطوعة، فإن علم أن الغرض كان صحيحا حكم بقول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.
وقال أحمد وأصحابه القول قول الرامى إذا كان الغرض صحيحا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا أراد المستبق أن يجلس ولا يرمى وللمستبق فضل له، فسواء قد يكون له الفضل فينضل وعليه الفضل فينضل.
إلى آخر ما قال.
قلت: إذا جلس أحد المتناضلين عن الرمى فله حالتان: احدهما أن يريد به تأخير الرمى عن وقته فلا يخلو أن يكون فيه معذورا أو غير معذور، فإن كان له عذر وطلب التأخير أخر ولم يجبر على التعجيل، سواء قيل بلزومه كالاجارة أو بجوازه كالجعالة، لانه ليس بأوكد من فرض الجمعة التى يجوز التأخر عنها بالعذر وأعذاره في تأخير الرمى ما أثر في نفسه من مرض أو شدة حر أو برد أو أثر في رميه من شدة ريح أو مطر أو أثر في أهله من موت أو حادث نزل أو أثر في ماله من جائحة طرقت أو خوف طرأ.

(15/201)


وإن لم يكن له تأخير الرمى عذر: والثمن به الدعة إلى وقت آخر ففى إجباره على التعجيل قولان.

(أحدهما)
يجبر عليه إذا قيل بلزومه كالاجارة.

(والثانى)
لا يجبر على تعجيله إذا قيل بجوازه كالجعالة.
أما الحال الثانية: كأن يريد بالجلوس عن الرمى فسخ العقد فلا يخلو أن يكون معذورا في الفسخ أو غير معذور، فإن كان معذورا في الفسخ وأعذار الفسخ أضيق وأغلظ من أعذار التأخير وهى ما اختصت نفسه من العيوب المانعة من صحة رمية وهى ضربان.

(أحدهما)
مالا يرجى زواله كشلل يده أو ذهاب بصره فالفسخ واقع بحدوث هذا المانع وليس يحتاج إلى فسخه بالقول.
(والضرب الثاني) ما يرجى زواله كمرض يده أو رمد عينيه أو علة جسده فلا ينفسخ العقد بحدوث هذا المانع بخلاف الضرب الاول لامكان الرمى بعد زواله ويكون الفسخ بالقول، وذلك معتبر بحال صاحبه، فإن طلب تعجيل الرمى فله الفسخ لتعذر التعجيل عليه، ويكون استحقاق هذا الفسخ مشتركا بينه وبين صاحبه، ولكل واحد منهما فسخ العقد به.
وأن أجاب صاحبه إلى الانظار بالرمي إلى زوال المرض فهل يكون عذره في الفسخ باقيا؟ أم لا؟ على وجهين.
أحدهما: يكون باقيا في استحقاق الفسخ لئلا تكون ذمته مرتهنة بالعقد.
والوجه الثاني: أن عذر الفسخ قد زال بالانتظار، وليس للمنظر أن يرجع في هذا الانظار، وان جاز له أن يرجع في الانتظار بالديون لان ذلك عن عيب رضى به، وجرى مجرى الانظار بالاعسار، وان لم يكن لطالب الفسخ عذر في الفسخ، فإن قيل بلزوم العقد كالاجارة لم يكن له الفسخ وأخذ به جبرا، فإن امتنع منه حبس عليه كما يحبس بسائر الحقوق إذا امتنع منها فإن طال به الحبس وهو على امتناعه عزر حتى يجيب.
فان قيل بجواز العقد كالجعالة فله الفسخ قبل الرمى وبعد الشروع فيه وقبل ظهور الغلبة، فان ظهرت الغلبة لاحدهما، فان كانت لطالب الفسخ، فله الفسخ وان كانت لغيره ففى استحقاقه للفسخ قولان مضيا.

(15/202)


أحدهما: لا يستحقه بعد ظهورها لتفويت الاغراض بعد ظهورها والقول الثاني - وهو الذى نص عليه الشافعي هاهنا - له الفسخ لما علل به من أنه قد يكون له الفضل فينضل، ويكون عليه الفضل فينضل.
(مسألة) إذا عرفت أن الرمى مما يلزم المسلمين حذقه والتمرس عليه لقهر الاعداء وجهادهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وعرفت أن السهام والنبال من أسلحة النضال قد استحالت في أعصرنا إلى أسلحة نارية منها ما يصيب بالتوجيه كرشاش بور سعيد واللانكستر والبرتا، ومنها ما يصيب بالتسديد أو التصويب الدقيق كالبندقية حكيم واللى أنفيلد والتوميجن، ومنها ما يعطى مخروطا ناريا باللمس الهين ويسمى آليا، ومنها ما يعطى القذيفة بالضغط بالاصبع ويسمى منفردا، وقليل من حذاق الرماية الذين يستطيعون أن يجعلوا الآلي منفردا، وهو أمر يفتقر إلى قدرة على ضبط حركة الاصبع وسيطرة على لمس الزناد، والفرق بين هذه الآلات والآلات السابقة لا يختلف في حكمه إلا بمقدار ما يراعى من قوة الرمى وبعد ما ترميه الآلات الحديثة ومدى تأثيرها.
وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم الاخذ بآلات غير المسلمين حين حاصر الطائف بالمجانيق، ووجه الصحابة رضوان الله عليهم إلى صناعتها وصناعة الضبور وهى نوع من المدافع البدائية التى تطورت صناعتها حتى بلغت في عصرنا هذا الصاروخ عابر القارات، ويحتسب في الرماية بتلك القذائف دورة الارض حول نفسها ودورتها السنوية وقانون الجاذبية وهو تحتاج إلى معادلات رياضية وحساب دقيق
لنصل إلى أهدافها في قلاع الاعداء فتدمرها تدميرا.
وقد أخرج الشيخان والحاكم وصححه والشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عبد الله بن مغفل أن رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) .
فقد وجهنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ما فيه الاثر الاقوى والاغلاظ البالغ والسلاح الحاسم لارهاب العدو.
فإذا ثبت هذا فان الرماية بالبندقية وغيرها من المستحدثات من فروض الكفايات التى تتأصل بها عزة الامة وتحمى بها حوزتها

(15/203)


وتعلى بها رايتها وعلى ولى الامر أن يحرض من وهب من قوة البنية وخفة الحركة وحدة البصر ونور الايمان من ينهض به ويتوفر عليه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب احياء الموات يستحب احياء الموات لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي منها فهو له صدقه) وتملك به الارض لما روى سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له) ويجوز ذلك من غير اذن الامام للخبر، ولانه تملك مباح فلم يفتقر إلى اذن الامام كالاصطياد.

(فصل)
وأما الموات الذى جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يملك بالاحياء لما روى طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعد) ولانه ان كان في دار الاسلام
فهو كاللقطه التى لا يعرف مالكها، وان كان في دار الحرب فهو كالركاز.

(والثانى)
لا يملك لانه ان كان في دار الاسلام فهو لمسلم أو لذمى أو لبيت المال، فلا يجوز احياؤه وان كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة، فلا يحل ماله، ولا يجوز تملكه.
(والثالث) أنه ان كان في دار الاسلام لم يملك، وان كان في دار الحرب ملك، لان ما كان في دار الاسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة، وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له.
ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الاسلام يجب تعريفه، وان قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز أن تملك بالاحياء، بل هي

(15/204)


غنيمة بين الغانمين، لانهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين، فلم تملك بالاحياء
(والثانى)
أنه يجوز أن تملك بالاحياء لانهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالاحياء كسائر الموات.

(فصل)
وما يحتاج إليه المصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق ومسيل الماء لا يجوز احياؤه لانه تابع للعامر فلا يملك بالاحياء ولانا لو جوزنا احياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الاسواق لا يجوز تملكه بالاحياء لان الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر ولانا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطريقهم وهذا لا يجوز.

(فصل)
ويجوز احياء كل من يملك المال لانه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالاحياء في دار الاسلام ولا للامام أن يأذن له في ذَلِكَ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (موتان
الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) فجمع الموتان وجعلها للمسلمين، فانتفى أن يكون لغيرهم، ولان موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين، فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه، ولا يجوز للمسلم أن يحيى الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه، لان الموات تابع للبلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.
(الشرح) حديث جابر رواه أحمد والترمذي وصححه بلفظ (من أحيا أرضا فهى له) وفى لفظ عند احمد وابى داود (من أحاط حائطا على أرض فهى له) ولاحمد وابى داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من رواية سمرة بن جندب رواه عنه الحسن وفى سماع الحسن من سمرة خلاف معروف بين المحدثين تكلمنا عليه في غير ما موضع، وأخرجه النسائي وابن حبان بنحوه.
أما حديث سعيد بن زبد فقد رواه احمد وابو داود والترمذي بلفظ (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وأخرجه أيضا النسائي، وحسنه

(15/205)


الترمذي وأعله بالارسال ورجح الدارقطني إرساله وقد مضى الاختلاف في الصحابي الذى رواه غير سعيد بن زيد.
أما سعيد بن زيد فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كنيته أبو الأعور، وهو قرشي عدوى من السابقين الاولين البدريين، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، شهد المشاهد كلها، وشهد حصار دمشق وفتحها، وأول من ولى على دمشق في الاسلام: له حديثان في الصحيحين، وانفرد البخاري له بحديث، روى عنه ابن عمر وابو الطفيل وعمرو بن حريث وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ظالم وطائفة.
وأبوه زيد بن عمر بن نفيل، مات قبل الاسلام على النجاة، لانه خرج يطلب الدين القيم حتى مات.
واخبر النبي صلى الله عليه
وسلم انه يبعث امة وحده يوم القيامة.
وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مسنده صحيح متلقى بالقبول عند الفقهاء في المدينة وغيرها.
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: بلاد المسلمين شيئان: عامر وموات، فالعامر لاهله كل ما صلح به العامر ان كان مرفقا لاهله من طريق وفناء ومسيل ماء أو غيره فهو كالعامر في ان لا يملك على أهله الا بإذنهم.
اه والموات هو الارض الخراب الدارسة تسمى ميتة ومواتا وموتانا بفتح الواو والموتان بضم الميم وسكون الواو والموت الذريع، ورجل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو لا بصيرة له ولا فهم.
إذا عرف هذا فان الموات شيئان: موات قد كان عامرا لاهله معروفا في الاسلام ثم ذهبت عمارته فصار مواتا، فذلك كالعامر لاهله لا يملك عليهم الا بإذنهم
(والثانى)
ما لم يملكه احد من أهل الاسلام يعرف ولا عمارة في الجاهلية أو لم يملك، فذلك الموات الذى قال فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا مواتا فهو له) وروى وهب بن كيسان عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له وله فيه أجر وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة، والعوافي جمع عاف وهو طالب الفضل.

(15/206)


وقد روى أحمد والبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من عمر أرضا ليست لاحد فهو أحق بها) وعن اسمر بن مضرس قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له.
قال فخرج الناس يتعادون يتخاطئون) أي يتسابقون عدوا يخططون
في الارض تمهيدا لتعميرها.
وروى ابن ابى مليكة عن عروة قال: أشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الارض أرض الله والعباد عباد الله.
ومن أحيا مواتا فهو أحق به.
جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاؤوا بالصلوات عنه) والحديث بهذه المثابة لا يكون مرسلا على القول الصحيح بناء على الاصل في ان الصحابة كلهم عدول، فإذا قال التابعي الثقة أشهد انه جاءني عن النبي صلى الله عليه وسلم به الذين جاءوا بالصلوات عنه وهو يعنى الصحابة.
فقد ارتفع الارسال وبقيت الجهالة، والجهالة بالصحابى لا تقدح في الحديث، اللهم الا إذا ثبت ولو مرة واحدة ان عروة التبس عليه أمر تابعي معاصر بإسلامه للنبى صلى الله عليه وسلم فظنه صحابنا، ولكن إذا عرفنا ان عروة لا يشك في تثبته وعلمه باحوال الصحابة والذى تربى في بيت النبوة والخلافة.
فابوه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده لامه أبو بكر رضى الله عنه.
وخالته أم المؤمنين، وأخوه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.
وروى الشافعي عن سفيان عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عمارة الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) ولان ما لم يجر عليه ملك نوعان أرض وحيوان، فلما ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصياد ملك موات الارض إذا ظهر عليه بالاحياء وقوله في حديث الفصل عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض) نسبة إلى عاد رجل من العرب الاولى، وهم العرب البائدة، وبه سميت قبيلة قوم هود، ويقال للملك القديم عادى كأنه نسبة إليه لتقدمه، وبئر عادية كذلك، وعادى الارض ما تقادم ملكه.
وقد جاء حديث طاوس في الام وعندد المصنف هنا هكذا مرسلا.
وقد رواه هكذا سعيد بن منصور في سننه وابو عبيد في الاموال، فإذا تقرر جواز الاحياء قال الشافعي: بلاد المسلمين شيئان عامر وموات، وانما خص بلاد المسلمين بما

(15/207)


ذكره من قسمي العامر والموات، وان كانت بلاد الشرك أيضا عامرا ومواتا، لما ذكره من ان عامر بلاد المسلمين لاهله لا يملك عليه الا بإذنهم.
وعامر بلاد الشرك قد يملك عليهم قهرا وغلبة بغير إذنهم.
وإذا كان كذلك بدأنا بذكر العامر من بلاد المسلمين ثم بمواتهم.
أما العامر فلاهله الذى قد ملكوه بأحد أسباب التمليك وهى ثمانية: 1 - الميراث 2 - المعاوضات 3 - الهبات 4 - الوصايا 5 - الوقف 6 - الصدقات 7 - الغنيمة 8 - الاحياء.
فإذا ملك عامرا من بلاد المسلمين بأحد هذه الاسباب الثمانية صار مالكه له ولحريمه ومرافقيه من بناء وطريق ومسيل ماء وغير ذلك من مرفق العامر التى لا يستغنى العامر عنها فلا يجوز ان يملك ذلك على أهل العامر باحياء ولا غيره فمن أحياه لم يملكه.
وقال داود بن على: حريم العامر كسائر الموات من أحياه فقد ملكه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وهذا خطأ لان حريم العامر قد كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثم على عهد خلفائه مقرا على اهله لم يتعرض أحد لاحيائه عما انتهوا إليه، ولانه لو جاز احياء حريم العامر لبطل العامر على أهله وسقط الانتفاع به، لانه يفضى إلى ان يبنى الرجل دارا يسد بها باب جاره فلا يصل الجار إلى منزله.
وما ادى إلى هذا من الضرر وكان ممنوعا منه، وليس الحريم مواتا فيصح استدلال داود عليه.
واما الموات فضربان: أحدهما ما لم يزل على قديم الدهر مواتا لم يعمر قط.
فهذا هو الموات جاء في الحديث ان من أحياها فهى له، فان أحياه ذمى لم يملكه وقال أبو حنيفة: يملكه الذمي بالاحياء كالمسلم، استدلالا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا أرضا مواتا فهى له) ولانها أعيان مباحة فجاز أن يستوى في تملكها المسلم والذمى كالصيد والحطب، ولان من يملك بالاصطياد والاحتطاب
صح أن يملك بالاحياء كالمسلم، ولانه سبب من أسباب التمليك فوجب أن يستوى فيه المسلم والذمى كالبيع، ودليلنا حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ هي لكم منى) فوجه الخطاب للمسلمين وأضاف ملك الموات إليهم فدل على اختصاصهم بالحكم.

(15/208)


ولان النبي صلى الله عليه قال (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) اشارة إلى إجلائهم حتى أجلاهم عمر رضى الله عنه من الحجاز، فلما أمر بإزالة أملاكهم الثابتة فأولى أن يمنعوا من أن يستبيحوا أملاكا محدثة، لان استدامة الملك أقوى من الاستحداث، فإذا لم يكن لهم الاقوى فالاضعف أولى، ولان من لم يقر في دار الاسلام الا بجزية منع من الاحياء كالمعاهد، ولان كل ما لم يملكه الكافر قبل عقد الجزية لم يملكه بعد عقد الجزية وأصله نكاح المسلمة.
ولانه نوع تمليك ينافيه كفر الحربى فوجب أن ينافيه كفر الذمي كالارث من مسلم فأما الجواب عن حديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو أن هذا الخبر وارد في بيان ما يقع به الملك.
وقوله (ثم هي لكم) وارد في بيان من يقع له الملك فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضيا على صاحبه، فصار الخبران في التقدير كقوله (من أحيا أرضا مواتا من المسلمين فهى له) وأما الجواب عن قياسهم على الصيد والحطب فهو أنه منتقض بالغنيمة حيث لم يستو المسلم والذمى فيها مع كونها أعيانا مباحة، ثم لو سلم من النقض لكان المعنى في الصيد والحطب أن لا ضرر على المسلم فيه إذا أخذه الكافر، وليس كذلك الاحياء.
لذلك لم يمنع المعاهد من الاصطياد والاحتطاب وان منع من الاحياء، فكان المعنى الذى فرقوا به في المعاهد بين إحيائه واصطياده (وفرقنا في الذمي بين إحيائه واصطياده، وهو الجواب عن قياسهم الثاني ويكون المعنى
في المسلم فضيلته بدينه واستقراره في دار الاسلام بغير حرمة مباينة لصغار الذمة فاستعلى على من خالف الملة.
وأما الجواب عن قياسهم على البيع فهو إنه منتقض بالزكاة لانها سبب من أسباب التمليك الذى يختص بها المسلم دون الذمي.
ولما لم يجز في الاحياء أن يملك به المعاهد لم يملك به الذمي.
وقال أحمد بعدم الفرق بين المسلم والذمى وقد مضى الرد على ذلك.
والضرب الثاني من الموات ما كان عامرا ثم خرب فصار بالخراب مواتا فذلك ضربان، أحدهما ان كان جاهليا لم يعمر في الاسلام فهذا على ضربين أحدهما أن يكون قد خرب قبل الاسلام حتى صار مواتا مندرسا كأرض عاد وتبع ومدن طيبة ومنف وبابل وآشور وبعلبك فهذه إذا أعلن أيلولتها إلى بيت

(15/209)


مال المسلمين وملكت الدولة التى من حقها أن تكون لها الولاية عليها لعرضها للاعتبار عملا بقوله تعالى (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الارض، وعمروها أكثر مما عمروها) إلى آخر ما ورد في القرآن الكريم من آيات الحث على السياحة والسير إلى الآثار للاعتبار والاتعاظ، كان إحياؤها معلقا بإذن السلطان، بل إن السلطان إذا أحياها بصيانتها وإقامة الحراس عليها وتمهيد طرقها وتيسير سبل الوصول إليها بسبب ما تحويه من تواريخ من كانوا يعمرونها من الدارسين والبائدين كان هذا إحياء لها على هذا النحو، وصارت ملكا عاما لا يختص به أحد، وذلك أصله قوله صلى الله عليه وسلم (عادى الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) والضرب الثاني: ما كان باقى العمارة إلى وقت الاسلام ثم خرب وصار مواتا قبل أن يصير من بلاد الاسلام فهذا على ثلاثة أقسام
(أحدهما)
أن يرفع أربابه أيديهم عنه قبل القدرة عليه فهذا يملك بالاحياء كالذى لم يزل مواتا (والقسم الثاني) أن يتمسكوا به إلى حين القدرة
عليه فهذا يكون في حكم عامرهم لا يملك بالاحياء.
(والقسم الثالث) أن يجهل حاله فلا يعلم هل رفعوا أيديهم عنه قبل القدرة عليه أم لا، ففى جواز تملكه بالاحياء وجهان كالذى جهل حاله من الركاز.
والضرب الثاني: ما كان في الاصل عامرا من بلاد الاسلام ثم خرب حتى ذهبت عمارته، واندرست آثاره، فصار مواتا.
فقد اختلف الفقهاء في جواز تملكه بالاحياء على ثلاثة مذاهب، فمذهب الشافعي منها أنه لا يجوز أن يملك بالاحياء سواء عرف إربابه أو لم يعرفوا.
وقال أبو حنيفة: إن عرف أربابه فهو على ملكهم لا يملك بالاحياء وإن لم يعرفوا ملك بالاحياء استدلالا بعموم الحديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وحقيقة الموات ما صار بعد الاحياء مواتا من العامر فزال عن حكم العامر كالجاهلي.
ولانه موات فجاز احياؤه كسائر الموات.
وقال مالك: يصير كالموات الجاهلي يملكه من أحياه سواء عرف أربابه أم لم يعرفوا.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) وهذا مال مسلم.
وروى عروة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد فهو أحق بها)

(15/210)


فجعل زوال الملك عن الموات شرطا في جواز ملكه بالاحياء.
ودل على أن ما جرى عليه ملك لم يجز أن يملك بالاحياء.
وروى أسامة بن مضرس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له مال، فخرج الناس يتعادون يتخاطون) وهذا نص ولانها أرض استقر عليها ملك أحد المسلمين فلم يجز أن تملك بالاحياء كالتى بقيت آثارها عند مالك، وكالتى تعين أربابها عند إبى حنيفة، ولان ما صار مواتا من عامر المسلمين لم يجز إحياؤه بالتملك كالاوقاف والمساجد.
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو دليل عليهم، لان الاول قد إحياها، فوجب أن يكون أحق بها من الثاني لامرين أحدهما: أنه سبق.
والثانى: أن ملكه قد ثبت باتفاق.
وأما الجواب عن قياسهم على الجاهلي وعلى التى لم تزل خرابا فالمعنى فيها أنها لم يجر عليها ملك مسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والاحياء الذى يملك به أن يعمر الارض لما يريده، ويرجع في ذلك إلى العرف، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الاحياء ولم يبين فحمل على المتعارف، فان كان يريده للسكنى فأن يبنى سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك، أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك، ويسقف وينصب عليه الباب لانه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك، فإن أراد مراحا للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب، لانه لا يصير مراحا وحضيرة بما دون ذلك، وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر، فإن كانت الارض من البطائح فأن يحبس عنها الماء لان إحياء البطائح أن يحبس عنها الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه، وبحرثها، وهو إن يصلح ترابها، وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الام، وهو قول أبى إسحاق، لان الاحياء قد تم وما بقى إلا الزراعة، وذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار.

(15/211)


(والثانى)
وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا يملك إلا بالزراعة لانها من تمام العمارة، ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع، (والثالث) وهو قول أبى العباس: أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقى، لان
العمارة لا تكمل إلا بذلك، وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لانه لا يحصل البئر الا بذلك، فان كانت الارض صلبة تم الاحياء، وان كانت رخوة لم يتم الاحياء حتى تطوى البئر لانها لا تكمل الا به، (الشرح) يختلف الاحياء باختلاف المقصود منه، ولما كان الشارع قد أطلق الاحياء لم يحده، ولما كان ليس للاحياء في اللغة حد وجب الرجوع إلى العرف كالحرز والقبض وضابطه تهيئة الشئ لما يقصد منه غالبا، فإن أراد مسكنا نظرت إلى العرف الشائع في المكان الذى يجرى فيه الاحياء سكنا، كتحويطه بالآجر أو اللبن أو القصب على عادة المكان، وقد رأى بعض الاصحاب الاكتفاء بالتحويط من غير بناء لكنه نص في الام على اشتراط البناء.
قال الرملي: وهو المعتمد، والاوجه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، ومن هنا قال المتولي وأقره ابن الرفعة والاذرعى وغيرهما: لو اعتاد نازلو الصحراء تنظيف الموضع من نحو شوك وحج وتسويته لضرب خيمته وبناء معلفه ففعلوا ذلك بقصد التملك ملكوا البقعة، وان ارتحلوا عنها أو بقصد الارتفاق فهم أولى بها إلى الرحلة.
إذا ثبت هذا: فإن تحويط الارض احياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو للخشب أو لغير ذلك، هذا مذهبنا ونص عليه أحمد في رواية على بن سعيد فقال: الاحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر فيها بئرا أو نهرا ولا تعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من أحاط حائطا على أرض فهى له) رواه أبو داود واحمد، ويروى عن جابر مثله.
وقد نص الامام النووي على عدم اشتراط تعليق الباب لان الباب لا يشترط للسكنى وانما هو للحفظ والسكنى لا تتوقف عليه.
وقد اعتبر القصد في مذهب

(15/212)


الشافعي رضى الله عنه ولم يعتبر القصد في مذهب أحمد رضى الله عنه، فلو أحاط مواتا بقصد أن يكون حظيرة فاتخذه سكنا له ولم يتخذه لما قصد له ملكه عند أحمد لعدم اعتبار القصد وملكه عند الشافعي بالقصد الطارئ أما إذا حوطها لتكون حظيرة ولا تصلح للسكنى ثم سكنها فإنه لا يملك عند الشافعي ويملك عند أحمد، فلو خندق حول الارض خندقا لم يكن إحياء لانه ليس بحائط ولا عمارة، وإنما هو حفر وتخريب، وإن أحاطها بشوك وشبهه لم يكن ذلك إحياء ولو نزل منزلا فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن ذلك إحياء.
أما إذا فعل ذلك بحيث يريدها مزورعة فجمع التراب أو الشوك حولها وسوى الارض فطم المنخفض منها واكتسح العالي وحرثها إذا توقف زرعها على الحرث ورتب لها الماء بشق المسقاة أو حفر الساقية أو شق للماء طريقا ولم يبق الا اجراؤه كفى ذلك في تملكه، وان لم يجز الماء، فان هيأه ولم يحفر له طريقا كفى أيضا وهو المنصوص في الام، وبه قال أبو إسحاق المروزى ورجحه صاحب الشرح الصغير وتابعه الشمس الرملي.
فإذا كفاها المطر لم تحتج إلى ترتيب للماء وذلك خلاف لظاهر ما نقله المزني من أنه يشترط الزراعة لتمام الملك بذلك، ويخالف السكنى، وقد زاد أبو العباس بن سريج على ذلك اشتراط السقى أيضا، وأرض الجبال التى لا يمكن سوق الماء إليها ولا يكفيها المطر تكفى الحراثة وجمع التراب كما اقتضاه كلام النووي في الروضة تبعا للرافعي وجزم به غيرهما.
ولا يشترط أن تتم الزراعة على الاصح كما لا يشترط سكنى الدار لان استيفاء المنفعة خارج عن الاحياء.
والثانى: لا تصير محياة الا بالزراعة كما لا تصير الدار محياة الا إذا صار فيها مال المحيى، وإذا اعتادوا أن يجمعوا ترابا حول ما يزرعونه بستانا فجمع التراب
بدلا من التحويط كفى، والا اشترط التحويط حسب العادة وتهيئة ماء للبستان أن لم يكفه ماء المطر، ويشترط فيه اتخاذ الباب وغرس الاشجار ولو لبعضه بحيث يسمى بستانا كما أفاده الاذرعى، فلا يكفى غرس الشجرة والشجرتين في المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسم البستان بدون ذلك بخلاف المزرعة

(15/213)


بدون الزرع، ولا يشترط في البستان الاثمار، وما عمله مما يعود نفعه على غيره كطى بئر، فان ملكه له يتوقف على قصده من حفر البئر، وقال الشافعي رضى الله عنه: وانما يكون الاحياء ما عرفه الناس إحياء مثل المحيا ان كان مسكنا فأن يبنى بمثل ما يبنى به مثله من بنيان حجر أو لبن أو مدر يكون مثله بناء، وهكذا ما أحيا الادمى من منزل له أو لدواب من حظار أو غيره فاحياه ببناء، حجر أو مدر أو بماء لان هذه العمارة بمثل هذا، ولو جمع ترابا لحظار أو خندق لم يكن هذا إحياء.
وكذلك لو بنى خياما من شعر أو جريد أو خشب لم يكن هذا إحياء تملك له الارض بالاحياء، وما كان هذا قائما لم يكن لاحد أن يزيله، فإذا أزاله صاحبه لم يملكه، وكان لغيره ان ينزله ويعمره، اه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإذا أحيا الارض ملك الارض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لانها من اجزاء الارض فملك بملكها ويملك ما ينبع فيها من الماء والقار وغير ذلك.
وقال أبو اسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها، وقد بينا ذلك في البيوع، ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلا.
وقال ابو القاسم الصيمري: لا يملك الكلا لما روى ان ابيض بن حمال سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حمى الاراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسمل (لا حمى في الاراك) ولانه لو فرخ في الارض طائر لم يملك، فكذلك إذا نبت فيه
الكلا، وقال أكثر أصحابنا: يملك لانه من نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.

(فصل)
ويملك بالاحياء ما يحتاج إليه من المرافق، كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر، وهو بقدر ما يقف فيه المستقى إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي، وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن، ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من احتفر بئرا فله أربعون ذراعا حولها عطن لماشيته.
وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب

(15/214)


العادية خمسون ذراعا، وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعا، وحريم بئر الزرع ثلثمائة ذراع، فان أحيا أرضا إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للاخر منعه من ذلك، لانه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه.
وان الصق حائطه بحائطه منع من ذلك.
وان طرح في أصل حائطه سرجينا منع منه لانه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه، فان حفر حشا في أصل حائطه لم يمنع منه لانه تصرف في ملكه.
ومن أصحابنا من قال: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما في الارض.
وان ملك بئرا بالاحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئرا فنقص ماء الاول لم يمنع منه لانه تصرف في موات لاحق لغيره فيه.
(الشرح) حديث أبيض بن حمال رواه الترمذي وحسنه وابو داود بلفظ (أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له، فلما ان ولى قال رجل: أتدرى ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد.
فقال انتزعه منه، قال: وسألته عما يحمى من الاراك فقال: ما لم تنله خفاف الابل) وأخرجه أيضا
ابن ماجه والنسائي وصححه ابن حبان وضعفه ابن القطان ولم يذكر وجه تضعيفه ولعله بسبب السبئ المازنى الذى في الاسناد.
وقال فيه ابن عدى: أحاديثه مظلمة منكرة.
وفى رواية (ما لم تنله أخفاف الابل) قال محمد بن الحسن المخزومى: يعنى ان الابل تأكل منتهى رؤسها ويحمى ما فوق ذلك.
ورواه سعيد بن منصور قال: حدثنى اسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربى عن أبيه عن أبيض بن حمال المأربى قال (استقطعت رسول الله صلى عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه، فقيل يا رسول الله انه بمنزلة الماء العد، يعنى انه لا ينقطع، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا إذن) .
وأما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقد رواه ابن ماجه باسناد ضعيف لان فيه اسماعيل بن سلم، وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن، واخرج حرب وعبد الله عن أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (من سبق

(15/215)


إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) واختيار الخمسين هو مذهب أحمد وأصحابه، وأخرج ابن ماجه بلفظ (حريم البئر طول رشائها) أما اللغات في الفصل فالبلور كنتور وسنور وسبطر.
وهو جوهر.
وكذلك الفيروزج، والقار نوع من القطران، والعد بكسر العين، قال أبو عبيد: العد بلغة تميم الكثير، وبلغة بكر بن وائل هو القليل، والمراد هنا في الحديث الكثير الذى لا ينقطع.
وأما كلمة التقن التى جرت هنا في كلام المصنف فهى من الكلمات التى كانت شائعة عند أهل بغداد، ويريدون بها سيف النهر وما اجمتع فيه من الطين وغيره.
أما الاحكام فإن المعادن إما ظاهرة، وهى التى سنتكلم عليها في الفصل التالى أما المعادن الباطنة وهى التى لا يوصل إليها الا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج، فإذا كانت ظاهرة فلا تملك بالاحياء لما سيأتي، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان لم تملك بذلك في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وهو قول أبى اسحاق المروزى، ويحتمل أن يملكها بذاك، وهو قول للشافعي والمصنف والنووي في المنهاج.
ومنع أبو القاسم الصيمري أن يملك الكلا، ولانه لو فرخ طائر في الارض لم يملك.
وقول أكثر الاصحاب يملك لانه من نماء الارض كمن يملك غنما فانه يملك أصوافها وأشعارها لانه نماء في ملكه، ولانه إظهار تهيأ بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالارض، ولانه بإظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل، فاشبه إحاطة الارض أو إجراء الماء إليها.
ووجه الاول أن الاحياء الذى يملك به هو العمارة التى تهيأ بهال المحمى للانتفاع من غير تكرار عمل.
وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فإن قيل: فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها، قلنا: البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا عمارة، وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا.
أما إذا ملك الارض بالاحياء فظهر أن فيها معدنا من المعادن الجامدة ظاهرا

(15/216)


أو باطنا فقد ملكه لانه ملك الارض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فانه مودع فيها وليس من أجزائها، ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل إحيائها لانه قطع عن المسلمين نفعا كان واصلا إليهم، ومنعهم انتفاعا كان لهم.
وههنا لم يقطع عنهم شيئا لانه انما ظهر بإظهاره له، ولو تحجر الارض أو أقطعها فظهر
فيها المعدن قبل إحيائها لكان له احياؤها ويملكها بما فيها لانه صار أحق به بتحجره واقطاعه فلم يمنع من اتمام حقه.
(فرع)
يقال للبئر التى تحفر في الارض الموات: بئر عادية بتشديد الياء منسوبة إلى عاد، وليس المراد عادا بعينها، ولكن لما كانت عاد في الزمن الاول وكانت لها آثار في الارض نسب إليها كل قديم، فكل من حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها أربعون ذراعا حولها أو خمس وعشرون ذراعا من كل جانب أو خمسون ذراعا طول أبعد طرفي حريمها، ومن سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) وقد فرق سعيد بن المسيب بين العادى منها والبدئ، فجعل الاولى حريمها خمسون ذراعا وجعل البدئية حريمها خمسة وعشرون ذراعا.
وجعل حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع وقال: هذا من السنة.
وإذا قال تابعي كبير كابن المسيب (من السنة) وكذلك روى أبو عبيد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ (السنة في حريم القليب العادى خمسون ذراعا والبدئ خمس وعشرون ذراعا) فإنما يقول كل منهما - وهما تابعيان كبيران - ذلك لما صح عندهما من عمل الصحابة واتفاقهم عليه مما يجعل هذا القدر هو السنة لانه لا يخلو من هدى نبوى.
وقال أصحاب أحمد منهم أبو الخطاب والقاضى: ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها، فإن كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره، وان كان بساقية فبقدر طول البئر، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حريم البئر مد رشائها) رواه ابن ماجه.

(15/217)


وذهب النووي إلى تحديد حريم البئر المحفورة في الموات بمقدار موقف النازح منها، قال الرملي: وهل يعتبر قدر النازح من سائر الجوانب أو من أحدها فقط الاقرب اعتبار العادة في مثل ذلك المحل اه.
وعلى هذا يكون حريم البئر من جوانبه ما يحتاج إليه في مجال عمله، وينبغى أن يمتد حريمها إلى ما تقتضيه.
وقال أبو حنيفة: حريم البئر أربعون ذراعا، وحريم العين خمسمائة ذراع، لان أبا هريرة رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قال (حريم البئر أربعون ذراعا لاعطان الابل والغنم) .
(قلت) حديث أبى هريرة رواه احمد (حريم البئر العادى خمسون ذراعا، وحريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا) وعن الشعبى مثله.
وقد روى الدارقطني والخلال بإسنادهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: حريم البئر خمس وعشرون ذراعا، وحريم العادى خمسون ذراعا) وقد أعله الدارقطني بالارسال وقال: من أسنده فقد وهم، وفى سنده محمد بن يوسف المقرى شيخ شيخ الدارقطني وهو منهم بالوضع، ورواه البيهقى من طريق يونس عن الزهري عن المسيب مرسلا وزاد فيه (وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها) وأخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس وهو ضعيف: والاحاديث في مجموعها تثبت أن للبئر حريما، والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيى والمحتفر لاضراره.
وفى النهاية: سمى بالحريم لانه يحرم منع صاحبه منه، ولانه يحرم على غيره التصرف فيه.
وحديث عبد الله بن مغفل الذى ساقه المصنف يجعل العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقى إبله لاجتماعها على الماء.
وحديث أبى هريرة دال على أن العلة هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها باقتراب الاحياء منها، ولذا وقع الاختلاف بين حالى كل من البدئ
والعادي، والجمع بين الحديثين يمكن أن ينظر فيهما من وجه الحاجة فإن كانت لاجل سقى الماشية فحديث الاربعين أو الخمس والعشرين، وإن كانت لاجل البئر فخمسين وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر أربعون، وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون.

(15/218)


(فرع)
ومن كانت له بئر فيها ماء فجاء آخر فحفر قريبا منها بئرا فليس له منعه من ذلك، وإن نقص ماء البئر الاولى أو انسرب الماء إليها لانه تصرف مباح في ملكه، ويحتمل أن يمنع من ذلك من حفر بئرا في موات إلى جوار بئر مثلها وجعلها أعمق منها بحيث تجتذب ماء الاولى إليها، لانه ليس له أن يبتدئ ملكه على وجه يضر بالملك قبله، وهو مذهب أحمد وقول للشافعي رضى الله عنهما، والقول الاظهر وهو المذهب: له ذلك لانه تصرف مباح في ملكه فجاز له كتعلية داره.
وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره برائحته أو غيرها، أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحو ذلك مما يؤذى الجيران فمذهب أحمد: المنع من ذلك، ومذهب الشافعي: له ذلك كله، لانه تصرف مباح في ملكه أشبه ببناء ونقضه.
وأما إذا ألصق الحائط بالحائط بغير مسافة ولو يسيرة منع من ذلك.
أما إذا طرح في أصل حائطه فضلات عفنة تسرى في مسام الارض فتحدث في البناء العطب والتلف منع من ذلك قولا واحدا، لانه تصرف باشر ملك غيره بما يضره.
أما إذا حفر في أصل حائطه حشا فقولان.
أحدهما: لم يمنع من ذلك والثانى: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان تحجر رجل مواتا وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار
أحق به من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، وان نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لانه آثره صاحب الحق به، وان مات انتقل ذلك إلى وارثه، لانه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة، وان باعه فَفِيهِ وَجْهَانِ.

(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يصح لانه صار أحق به فملك بيعه.

(والثانى)
أنه لا يصح، وهو المذهب، لانه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الاخذ، وان بادر غيره إلى إحيائه نظرت، فان كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان.

(15/219)


أحدهما: لا يملك لان يد المتحجر أسبق.
والثانى: يملك لان الاحياء يملك به والتحجر لا يملك به، فقدم ما يملك به على ما لا يلملك به، وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره منها، وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة، فان انقضت المدة ولم يحيى فبادر غيره فأحيا ملك، لانه لا حق له بعد انقضاء المدة.

(فصل)
ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذى يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، فإن أطال المقام فيه ففيه وجهان.

(أحدهما)
لا يمنع لانه سبق إليه
(والثانى)
يمنع لانه يصير كالمتحجر، فان سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا، فان كانا يأخذان للتجارة، هايأ الامام بينهما
فان تشاحا في السبق أقرع بينهما، لانه لا مزية لاحدهما على الاخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه.
أحدهما: يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.
وَالثَّانِي: يقسم بينهما لانه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه.
والثالث: يقدم الامام أحدهما لان للامام نظرا في ذلك فقدم من رأى تقديمه، وان كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالاحياء لانه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالموات.
(الشرح) حديث (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به) هذا الحديث هو الذى سبق تخريجه فقد رواه أبى داود وصححه الضياء المقدسي عن أسمر بن مضرس.
وقال البغوي: لا أعلم بهذا الاسناد غير هذا الحديث، التحجر أحاطة الارض بالحجارة، أو بحائط صغير، وهو شروع في احياء الموات وليس احياء تاما، ولذلك فانه لا يملكها بذلك لان الملك لا يكون الا بالاحياء، وليس هذا

(15/220)


إحياء ولكن يصير أحق الناس بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لان صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَرَكَ حقا أو مالا فهو لورثته من بعده) وهذا هو المذهب ومذهب أحمد رضى الله عنه وقال أبو إسحاق المروزى: إن حق التملك قد ثبت له فيصح له بيعه وقبض ثمنه، والمذهب أنه لا يصح له بيعه كالشفيع لا يصح له أن يبيع قبل أن يأخذ.
وإن ثبت له الاختصاص وفرق بين الاختصاص والملك.
والاختصاص لا يستلزم صحة البيع أو الهبة.
فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يملكه لان الاحياء يملك به والحجر لا يملك به فثبت الملك بما لم يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه
(والثانى)
لا يملكه، لانه مفهوم قوله عليه السلام (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد) وقوله (في حق غير مسلم فهى له) أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فهو أحق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وروى سعيد بن منصور في سننه أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (مَنْ كانت له أرض يعنى من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها) .
هذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه، ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن المدة في التحجر إذا طالت عرفا بلا عذر، فإن السلطان يقول للمتحجر: إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينفع ولا يدع غيره ينتفع.
فإن سأل الامهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فان أحياه غيره في مدة المهلة ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وان انقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه، لان المدة قد ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له

(15/221)


السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له أما أن تعمر واما أن ترفع يدك، فان لم يعمرها كان لغيره عمارتها.
ومذهب أحمد في هذا كله نحو مذهبنا إلا في التوقيت بثلاث سنين لقول عمر رضى الله عنه لان عمر رضى الله عنه أخذ بالعرف في زمنه، وقد تكون السنين الثلاث معطلة لنفع يعود على المسلمين من إحياء الموات ونشر العمران مما يحقق
مقاصد الاسلام، ويدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الارض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها، وذلك صلاح للمسلمين وقوة لهم وعدة على أعدائهم ومصادر أعمال لعاطليهم وتوسيع لرقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الاحكام الشريفه، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء وهجرهم لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: رب لم حشرتني أعمى، وقد كنت بصيرا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) .
(فرع)
حكم المعادن الظاهرة، قال الشافعي رضى الله عنه: ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط أو كبريت أو موميا (1) أو حجارة ظاهرة كموميا في غير ملك لاحد، فليس لاحد أن يتحجرها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنعها لنفسه ولا لخاص من الناس، لان هذا كله ظاهر كالماء والكلا اه.
وهى التى يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والنفط وأحجار التلك الذى يتخذ مسحوقه لتبريد الجلد وإشباه ذاك لا تملك بالاحياء،
__________
(1) الموميا لفظة يونانية الاصل وأصلها مومياى فخذفت الياء اختصارا وبقيت الالف مقصورة، وهو معدن يؤخذ منه دواء للعلاج كالتوتيا وكالجنزار من سلفات النحاس.
وقال الرملي: الموميا شئ يلقيه البحر في بعض السواحل فيجمد ويصير كالقار وقيل حجارة سود في اليمن، والبرام حجر يعمل منه قدور الطبخ.

(15/222)


ولا يجوز إقطاعها لاحد من الناس، ولا احتجازها دون المسلمين لما في ذلك من
التضييق عليهم وحرمانهم خيرات ظاهرة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح في مأرب باليمن، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد.
أمر برده، فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الكثير منزلة مشارع الماء وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل من الحنابلة: هذا من مواد الله وفيض جوده الذى لا غناء عنه فلو ملكه أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس، فان أخذ عنه الثمن أغلاه فخرج عن الموضع الذى وضعه الله من تعميم ذوى الحوائج من غير كلفة.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ولا نعلم لهما مخالفا من الائمة.
قال الرملي: وللاجماع على منع إقطاع مشارع الماء وهذا مثلها بجامع الحاجة العامة وأخذها بغير عمل، ويمتنع أيضا إقطاع وتحجر أرض لاخذ نحو حطبها وصيدها وبركة لاخذ سمكها، وظاهر كلام الاصحاب المنع من التملك والارتفاق ولكن الزركشي قيد المنع بالتملك.
ويأتى بعد هذا إذا اطال من سبق إليه المقام فيه ففيه وجهان.
أحدهما: لا يمنع لانه سبق إليه فهو أحق به، بشرط أن لا يمنع غيره ويأخذ قدر حاجته والثانى: يمنع لانه أطال المقام والاخذ، واحتمل أن يمنع غيره لانه يصير كالمتملك له أو المتحجر.
وإن استبق إليه اثنان وضاق المكان عنهما أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على صاحبه وهذا إذا كانا يأخذانه للتجارة، فإن كانا يأخذانه للحاجة ففيه ثلاثة أوجه، اما أن يقرع بينهما كالمتجرين، واما أن يقسم بينهما لامكان هذه القسمة وقد تساويا فيه كما لو تداعيا في أيديهما ولا بينة لاحدهما بها، واما أن يقدم الامام من يرى منهما لان له نظرا في ذلك، وهذه الاوجه كلها عند أحمد وأصحابه وأضاف القاضى وجها رابعا وهو أن الامام ينصب من يأخذ لهما
ويقسم بينهما.

(15/223)


ولو كان في الموات موضع يمكن أن يحدث فيه معدن ظاهر كموضع على شاطئ البحر إذا صار فيه ماء البحر وتبخر صار ملحا ملك بالاحياء وجاز للامام اقطاعه لشركات أو أفراد، لانه لا يضيق على المسلمين باحداثه، بل يحدث نفعه بفعله، فلم يمنع منه كبقية الموات، واحياء هذا يتم بتهيئته لما يصلح من حفر ترابه وتمهيده وفتح القنوات إليه تصب الماء فيه، لانه يتهيأ بهذا الانتفاع به،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان سبق إلى معدن باطن وهو الذى لا يوصل إليه الا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) وهل يملك المعدن، فيه قولان
(أحدهما)
يملكه لانه موات لا يوصل إلى ما فيه الا بالعمل والانفاق، فملكه بالاحياء كموات الارض
(والثانى)
لا يملك وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموات على الاحياء وهو العمارة، والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به، ولانه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه الا ما أخذ، ويخالف موات الارض لانه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به، فان قلنا انه يملك بالاحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه، فان تباعد انسان عن حريمه وحفر معدنا فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه، لانه احياء في موات لا حق فيه لغيره، فان حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الارض.
فان قلنا: لا يملك كان كالمعدن الظاهر في ازالة يده إذا قال مقامه، وفى القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الامام تقديمه.

(فصل)
ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب والواسعة بالقعود للبيع والشراء، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه ارتفاق بمباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز، فان سبق إليه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب، لان الحاجة تدعو

(15/224)


إلى ذلك، وان أراد أن يبنى دكة منع، لانه يضيق به الطريق، ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز، وان قام وترك المناع لم يجز لغيره أن يقعد فيه، لان يد الاول لم تزل، وان نقل متاعه كان لغيره ان يقعد فيه لانه زالت يده، وان قعد وأطال ففيه وجهان:
(أحدهما)
يمنع لانه يصير كالمتملك، وتملكه لا يجوز
(والثانى)
يجوز لانه قد ثبت له اليد بالسبق إليه، وان سبق إليه اثنان ففيه وجهان
(أحدهما)
يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ
(وَالثَّانِي)
يقدم الامام أحدهما، لان للامام النظر والاجتهاد، ولا تجئ القسمة لانها لا تملك فلم تقسم.
(الشرح) حديث من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق، سبق لنا تخريجه أما الاحكام فقد مضى أكثر مسائل هذين الفصلين، أما ما كان من الشوارع والطرقات والرحاب (الميادين) بين العمران فليس لطحد احياؤه، سواء كان واسعا أو ضيقا، وسوء ضيق على الناس أو لم يضيق، لان ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فاشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه
ارتفاق مباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز والعبور.
وقال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية ومظلة وكساء ونحوه لان الحاجة تدعو إليه، فإذا جرى العرف بمنعه الا بإذن السلطان لتنظيم صفوفهم وحصرهم فيما لا يخل بحرمة الطريق ومخاطر الآلات المستحدثه للركوب كالمترو والتروللى والترام والباس، والسيارات العام منها والخاص، وللسلطان أن يقيد المطلق أحيانا إذا اقتضت ذلك مصلحة أرجح من الاطلاق وجميع المدن المتحضرة في العالم اليوم لا تسمح بإشغال الطريق الا في حدود المترو ونحوه، وبترخيص يصدر

(15/225)


من وزارة الاسكان والمرافق.
ولو تركت الطرقات هكذا لكل من يريد أن ينصب فيها تابوتا لبضاعته في عرض الطريق لضاقت الطرقات والشوارع على المارة والمجتازين، وربما ادعى أحدهم ملكية المكان الذى يشغله على أن الفقهاء لم يرتبوا حقا للتملك لمن يجلس في الطرقات للبيع والشراء فقالوا: والسابق أحق به ما دام فيه، فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره إزالته لان يد الاول عليه، وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه، لان يده قد زالت وإن قعد وأطال منع من ذلك لانه يصير كالمتملك، ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه، ويحتمل أن لا يزال.
وهذا وجه آخر لانه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.
وان استبق إثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يقدم الامام من يرى منهما.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كان ينبغى لنا أن نشترى من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق.
قلت: إن الامام أحمد رضى الله عنه يرى في وقوف مثله على قارعة الطريق للشراء ضربا من التبذل المخل بأهل الوقار والنصون: لان هؤلاء قلما يراعون حقوق الطريق، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله عليه وسلم: إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: إذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقها.
قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الاذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

(15/226)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب الإقطاع والحمى

يجوز للامام أن يقطع موات الارض لمن يملكه بالاحياء لما روى علقمة بن وائل عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطعه أرضا فارسل معه معاوية أن أعطه إياها، أو قال أعطاها إياه.
وروى ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه، فقال أعطوه من حيث وقع السوط.
وروى أن أبا بكر أقطع الزبير وأقطع عمر عليا وأقطع عثمان رضى الله عنهم خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الزبير وسعدا وابن مسعود وخبابا وأسامة بن زيد رضى الله عنهم.
ومن أقطعه الامام شيئا من ذلك صار أحق به.
ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه، لان بإقطاع الامام صار أحق به كالمتحجر، فكان حكمه حكم المتحجر، ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لانه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.

(فصل)
وأما المعادن فانها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز اقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم ان الاقرع بن حابس قال: يا رسول الله انى قد وردت الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ملح، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله منى صدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو منك صدقة وهو مثل الماء العدو من ورده أخذه.
وان كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا انها تملك بالاحياء جاز إقطاعه لانه موات يجوز أن يملك بالاحياء فجاز اقطاعه كموات الارض، وان قلنا لا تملك بالاحياء فهل يجوز اقطاعه، فيه قولان.

(أحدهما)
يجوز إقطاعه لانه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز اقطاعه

(15/227)


كموت الارض.
والثانى لا يجوز لانه معدن لا يملك بالاحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرناه في إقطاع الموات.

(فصل)
ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الاسواق للارتفاق، فمن أقطع شيئا من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أو لم ينقل، لان للامام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالاقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وفيه ضعف لان في إسناده عبد الله ابن عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب الملقب بالعمرى المكبر.
قال ابن حجر في التقريب: ضعيف عابد.
وقال الصنعانى: فيه مقال.
وقال الذهبي:
صدوق في حفظه شئ.
وروى عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال الدارمي قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة.
وقال الفلاس: كان يحيى القطان لا يحدث عنه.
وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به، وقال النسائي وغيره ليس بالقوى، وقال ابن عدى هو في نفسه صدوق.
وقال أحمد: كان عبد الله رجلا صالحا، كان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول: أما وأبو عثمان حى فلا.
وقال ابن المدينى: عبد الله ضعيف.
وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الاخبار وجودة الحفظ للآثار، فلما فحش خطؤه استحق الترك وقد أخرج الشيخان عن أسماء بنت أبى بكر في حديث ذكرته قالت (كنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رأسي وهو منى على ثلثى فرسخ) وقوله: حضر فرسه، أي قدر ارتفاع الفرس في عدوه، وفى قولها (من أرض الزبير) يحتمل أن تكون هذه الارض هي التى وردت في حديث ابن عمر وفى البخاري في آخر كتاب الخمس من حديث أسماء أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(15/228)


أقطع الزبير أرضا من أموال بنى النضير.
وفى سنن أبى داود عن أسماء (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع الزبير نخلا) والاحاديث تدل على أنه يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الائمة إقطاع الاراضي وتخصيص بعض دون بعض لمن يأنس فيهم القدرة على القيام عليها وإحيائها واستنباط منافعها.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع صخر بن أبى العيلة البجلى الاحمسي ماء لبنى سليم لما هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك، ثم رده إليهم في قصة طويلة مذكورة في
سنن أبى داود.
ومنها ما أخرجه أبو داود عن سبرة بن معبد الجهنى (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ في موضع المسجد تحت دومة فأقام ثلاثا ثم خرج إلى تبوك وإن جهينة لحقوه بالرحبة فقال لهم: من أهل ذى المروة؟ فقالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال قد أقطعتها لبنى رفاعة فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل ومنها عند أبى داود عن قيلة بنت مخرمة قالت: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقدم صاحبي يعنى حريت بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الاسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله: اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدهناء أن لا يجاوزها الينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال اكتب له يا غلام بالدهناء فلما رأيته قد أمر له بها شخص بى وهى وطنى ودارى، فقلت: يا رسول الله إنه لم يسألك السوية من الارض إذ سألك، انما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الابل، ونساء بنى تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال أمسك يا غلام صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان) يعنى الشيطان، وأخرجه أيضا الترمذي مختصرا وقال الشافعي رضى الله عنه: والموات الذى للسلطان أن يقطعه من يعمره خاصة وأن يحمى منه ما رأى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين، والذى عرفنا نصا ودلالة فيما حمى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حمى البقيع، وهو بلد ليس بالواسع الرى إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشى وأضربهم

(15/229)


ويشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام تختص بالموات وهى الاحياء والاقطاع والحمى.
فأما الاحياء فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له.
وأما الاقطاع وهو موضوع الفصل، فإنه لا يصح الا في موات لم يستقر عليه ملك وعلى هذا كان
قطائع النبي صلى الله عليه وسلم حين أقطع الزبير ركض فرسه من موات البقيع فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال: اعطوه منتهى سوطه، وأما ورود بعض الاخبار فيما أعطاه للزبير من أرض بنى النضير أو من نخل المدينة فقد أوردها البخاري في آخر كتاب الخمس ومعى هذا أنها عنائم زالت عنها يد الكفار وهذه قضية أخرى غير ما أقطعه من أرض البقيع مواتا لاحيائه، وهكذا كانت قطائع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا ما كان من شأن تميم الدارى وأبى ثعلبة الخشنى، فإن تميما سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه عبون البلد الذى كان منه بالشام قبل فتحه، وأبو ثعلبة سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه الذى قال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال والذى بعثك بالحق لتفتحن عليك، فكتب له كتابا.
فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك اقطاع تقليد لا اقطاع تمليك، أو يجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق أخبار وتحقيق احجاز، وأما الائمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فان أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لم يقطعا الا مواتا لم يجر عليه ملك، واصطفى عمر رضى الله عنه من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان يبلغ تسعة آلاف ألف فكان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئا، ثم ان عثمان رضى الله عنه أقطعها لانه رأى اقطاعها أوفى لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه الغنى، فكان ذلك منه اقطاع اجازة لا اقطاع تمليلك، وقد توفرت عليه حتى بلغت خمسين ألف ألف، ثم تناقلها الخلفاء بعده فلما كان عام الجماجم سنة اثنين وثمانين وفتنة ابن الاشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم.
فإذا كان اقطاع الامام إبما يختص بالموات دون العامر فالذي يؤثره اقطاع

(15/230)


الاما إنما يختص بالموات دون العامر، فالذي يؤثره إقطاع الامام أن يكون المقطع أولى الناس بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه لمكان اذنه وفصل اجتهاده، فلو بادر فأحياها غير المقطع فهى ملك للمحيى دون المقطع.
وقال أبو حنيفة: ان أحياها قبل مضى ثلاث سنوات من وقت الاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها بعد ثلاث سنين فهى للمحيى.
وقال مالك بن أنس: ان أحياها عالما بالاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها غير عالم بالاقطاع خير المقطع بين أن يعطى المحيى نفقة عمارته وتكون الارض له، وبين أن يترك عليه الارض ويأخذ قيمتها قبل العمارة استدلالا برواية معمر عن أبى نجيح عن عمرو بن سعيب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقطع أقواما فجاء آخرون في عهد عمر فأحيوها فقال لهم عمر رضى الله عنه حين فزعوا إليه: تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، ثم قومها عامرة وقومها غير عامرة، ثم قال لاهل الاصل: ان شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك وخذوا أرضكم، وان شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم.
ودليلنا على أنها ملك المحيى بكل حال دون المقطع، قوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) ولان الاقطاع لا يوجب التمليك، والاحياء يوجب التمليك، فإذا اجتمعا كان ما أو وجب التمليك أقوى حكما مما لم يوجبه.
فأما حديث عمر رضى الله عنه فقد قال في قضيته: لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، فدل على أن من رأيه أنها للمحيى، وانما عدل عن هذا الرأى لما توجه إليها من اقطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يبطله، فاستنزل الخصمين إلى ما قضى به مراضاة لا جبرا.
فان كان المقطع قد حجرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء غيره
فعمرها وحرثها نظر، فان كان المقطع مقيما على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني فعمرها فهى للاول ويكون الثاني متطوعا بعمارته، وان كان المقطع قد ترك عمارتها فعمرها الثاني فهى للثاني دون الاول، وهكذا لو كان الاول قد بدأ بالعمل من غير اقطاع فهذا حكم الاقطاع.

(15/231)


(فرع)
مضى ما سقناه من حديث أبيض بن حمال الذى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح ثم انتزعه منه لما علم أنه كالماء العد، وفى إقطاع المعادن روى أحمد وأبو داود عن أبن عباس قال (أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحرث المزني معادن القبيلة جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم) وفى إسناده أبى أويس عبد الله بن عبد الله أخرج له مسلم في الشواهد وضعفه غير واحد.
قال أبو عمر بن عبد البر: هو غريب من حديث ابن عباس ليس يرويه عن أبى أويس غير ثور.
وحديث عمرو بن عوف رواه أحمد وأبو داود أيضا بمعنى حديث ابن عباس، وفى إسناده ابن ابنه كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده.
والاحاديث واردة في جواز أن يقطع الامام من يأنس منه صلاحا مكانا فيه معادن غير ظاهرة حتى يعالج أمرها بالعمل والتنقيب والبحث.
ومن ثم فقد انتزع ما أقطعه من أرض مأرب للابيض بن حمال عندما علم أن الملح فيها كالماء الجارى ويشترط في إقطاع المعادن أن يكون في موات لا يختص به أحد.
وهذا أمر متفق عليه.
وقال في فتح الباري: حكى عياض أن الاقطاع تسويع الامام من مال الله شيئا لمن أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الارض وهو أن يخرج منها
لمن يراه يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة.
قال السبكى: والثانى هو الذى يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره.
وتخريجه على طريق فقهى مشكل.
قال والذى يظهر أنه يحصل للمقطع اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة، وبهذا جزم الطبري، وادعى الاذرعى نفى الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند بغلة أرضه إذا كان مستحقا لذلك.
هكذا في الفتح وحكى صاحب الفتح أيضا عن ابن التين أنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وانما يقطع من الفئ ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد،

(15/232)


قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه صلى الله عليه وسلم.
وذكر الخطابى وجها آخر فقال: إنما يحمى من الاراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الابل الرائحة إذا أرسلت في الرعى اه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للامام أن يقطع ما لا يجوز إحياؤه من المعادن الظاهرة لان النبي صلى الله عليه وسلم استعاد من أبيض بن حمال ما أقطعه، لانه وإن كان فيه توسعة على المقطع له إلا أن فيه تضييقا على المسلمين فإذا رأى الامام أن مكانا نائيا عن العمران فيه من المعادن والمواد الاولية ما يدخل في منافع الناس، وهو من المعادن الظاهرة، إلا أن بعد مكانها عن العمران يجعلها في حكم المعادن الباطنة، لان حملها إلى حيث المنتفعون بها عمل يفوق أحيانا مؤنة التنقيب والحفر.
وقد تكون المعادن الظاهرة هي في حقيقتها مركبة من مواد مختلفة يحتاج فصلها بعضها عن بعض إلى مصانع ومعامل كالفوسفات والمنجنيز، وثاني أكسيد الكالسيوم الذى يستخرج من الجير وهو يمثل نسبة عالية في الجير تبلغ النصف
منه قدرا ووزنا، ومع ذلك فإن الجير مع احتوائه على ثانى أكسيد الكالسيوم يباع الطن منه بقروش معدودة في حين ان ثانى أكسيد الكالسيوم يباع بالجرام والسببت في ذلك هو نفقات استخلاصه ومؤنة تميزه ومن ثم يجوز للامام أن يقطع المناجم والمحاجر المحتوية على الخامات الظاهرة إذا قصد تصنيعها واستخلاص المواد النافعة الثمينة منها، وذلك يساوى التنقيب عن المعادن الباطنة.
(فرع)
مضى كلامنا في أمر كان يده الفقهاء من الاقطاع ويعده المختصون في زاماننا هذا باسم الترخيص، وهو إذن السلطان، فإذا إراد أحد التجار أن يشغل الطريق أمامه استأذن الحاكم فمنحه رخصة يتحدد فيها المساحة المأذون في شغلها نظير مكوس يؤديها توقف على تعبيد الطريق وتنظيفها وإنارة الشوارع وصيانتها من الروائح الكريهة والمزابل المؤذية وهى من الامور التى تناط باجتهاد السلطان وبصره بالامور ونظره في صلاح رعيته، والله اعلم بالصواب

(15/233)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز لاحد أن يحمى مواتا ليمنع الاحياء ورعى ما فيه من الكلا.
لما روى الصعب بن جثامة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (لا حمى إلا لله ولرسوله) فأما الرسول عليه السلام فإنه كان يجوز له أن يحمى لنفسه وللمسلمين، فأما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى للمسلمين.
والدليل عليه ما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين) وأما غيره من الائمة فلا يجوز أن يحمى لنفسه للخبر.
وهل يجوز أن حمى لخيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الابعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان:
أحدهما لا يجوز للخبر.
والثانى يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضى الله عنه وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كره أمرا فتل شاربه ونفخ فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك: فقال عمر: المال مال الله.
والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الارض شبرا في شبر) قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام أربعين ألفا من الظهر، وقال مرة من الخيل.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه (أن عمر رضى الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى وقال له، ياهنى اضمم جناحل عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فان دعوة المظلوم مجابة.
وأدخل رب الصريمة والغنيمة.
واياك ونعم ابن عوف.
وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما ان تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وان رب الصريمة ورب الغنيمة ان تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، ان الماء والكلا أيسر عندي من الذهب والورق، والذى نفسي بيده لولا المال الذى أحمل عليه في سبيل الله

(15/234)


ما حميت عليهم من بلادهم شبرا، فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها.
وإن زالت الحاجة ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه زال السبب.

(والثانى)
لا يجوز لان ما حكم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلناه: إنه يصح حماه فأحياه رجل.
ففيه قولان
(أحدهما)
لا يملكه كما لا يملك ما حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(وَالثَّانِي)
يملك لان حمى الامام اجتهاد، وملك الارض بالاحياء نص، والنص لا ينقض بالاجتهاد (الشرح) حديث الصعب بن جثامة رواه أحمد وأبو داود والبخاري والنسائي ولفظ النسائي هو الذى ساقه المصنف، والفظ أحمد وأبى دَاوُد (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع وقال (لا حمى إلا لله ولرسوله) وتتمة رواية البخاري هكذا: وقال (بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى شرف والربذة) وأخرج الحديث أيضا الحاكم وقال البيهقى: ان قوله (حمى النقيع) من قول الزهري.
وقد روى الحديث النسائي فذكر الموصول فقط وهو قوله (لا حمى إلا لله ورسوله) ويؤيد ما قاله البيهقى أن أبا داود أخرجه من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري فذكره وقال في آخره قال ابن شهاب: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.
قال بعض المحدثين: وقد وهم الحاكم فزعم أن حديث لا حمى إلا لله متفق عليه.
وهو من أفراد البخاري، وتبع الحاكم في وهمه أبو الفتح القشيرى في الالمام وابن الرفعة في المطلب.
والصعب بن جثامة بتشديد المثلثة مع فتح الجيم اللبثى، صحابي مات في خلافة أبى بكر على ما قيل، والاصح أنه عاش إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.
وحديث ابن عمر رواه أحمد وابن حبان.
والنقيع بالنون مكان معروف.
وحكى الخطابى أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة، وهو على قدر عشرين فرسخا من المدينة ومساحته ميل في ثمانية أميال، أفاده ابن وهب في موطئه، وأهل

(15/235)


النقيع كل موضع فيه الماء، وهذا النقيع المذكور غير نقيع الخضمات الذى جمع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة على المشهور.
وقال ابن الجوزى: إن
بعضهم قال: إنهما واحد والاول أصح وأثر عمر سقناه في الفصل قبله في الرد على مالك، وأما خبر تولية هنئ مولى عمر فقد رواه البخاري عن أسلم مولى عمر وأخرجه عن الدراوردى عن زيد بن أسلم عن أبيه بلفظ المصنف.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا أما الاحكام فإن الحمى هو المنع من إحياء الموات ليتوفر فيه الكلا فترعاه المواشى، لان الحمى في كلامهم هو المنع، والحمى على ثلاثة أنواع: حمى حَمَاهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ روى أنه وقف على جبل يعمل فصلى عليه ثم قال: هذا حماى وأشار إلى النقيع وهو قدر ميل في ثمانية.
وقال الماوردى ستة أميال فحماه لخيل المسلمين.
ولان اجتهاد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمته أمضى، وقضاؤه فيهم أنفذ، وكان ما حماه لمصالحهم أولى أن يكون مقرا من إحيائهم وعمارتهم.
فأما حمى الامام بعده فإن أراد أن يحمى لنفسه أو لاهله أو للاغنياء خصوصا لم يجز، وكان ما حماه مباحا لمن أحياه.
وان أراد أن يحمى لخيل المجاهدين ونعم الجزية والصدقة ومواشي الفقراء نظر، فإن كان الحمى يضر بكافة المسلمين فقرائهم وأغنيائهم لضيق الكلا عليهم فحمى أكثر مواتهم لم يجز.
وان كان لا يضر بهم لانه قليل من كثير يكتفى المسلمون بما بقى من مواتهم ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجوز أن يحمى لرواية مجاهد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: المسلمون شركاء في ثلاثة.
الماء والغار والكلا وثمنه حرام، وسيأتى تخريجه في باب حكم المياه، وحديث الصعب بن جثامة الذى سبق.

(15/236)


(والقول الثاني) يجوز له أن يحيى لما فيه من صلاح المسلمين، ولما روى أن أبا بكر رضى عنه حميى الربذة لابل الصدقة واستعمل عليها مولاه أبا أسامة وتولى عليه قطبة بن مالك الثعلبي رضى الله عنه وحمى عمر رضى الله عنه الشرف فحمى منه نحو ما حمى أبو بكر بالربذة، وولى عليه مولى له يقال له: هنئ وقال: يا هنى اضمم جناحك على المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوه المظلوم مستجابة وأدخل رب الصريمة وهى بالتصغير القطعة من الابل نحو الثلاثين أو ما بين العشرة إلى الاربعين ورب الغنيمة ما بين الاربعين إلى المائة من الشاء والغنم وتفرد به راع واحد وإياى ونعم ابن عوف يعنى عبد الرحمن ونعم ابن عفان يعنى عثمان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالماء والكلا أيسر من الذهب والورق وعمر بهذا يلزم نفسه ويلزم أمراء المسلمين بعده بأن عليهم عوض ما هلك من أموال الرعية بسبب تقصيرهم في حفظ أموالهم وعنده أن توفير المرعى والكلا أيسر من توفير الذهب والفضة يبذلهما في تعويض ما تلف على رب الصريمة والغنيمة ثم يقول: وايم الله إنهم ليرون أنى قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام.
وهكذا يعطى تقويما صحيحا وتقديرا سليما لمقومات الوطنية عند الشعب وهم الرعية ومقومات الديموقراطية والعدل عند الحاكم حين يسمح لرعيته أن يتهموه بالظلم إذا قصرت الدولة في بذل الخدمات وتأمين سلامة الرعية وهو حمى من أرضهم جزءا للمرعى فيجب ألا يسمح للاغنياء والقادرين أن يزاحموهم في مراعيهم لان لهم من بساتينهم ومزارعهم غنية عن مزاحمة الفقراء.
والحمى فيه نفع للفقراء والاغنياء، أما الفقراء فلانه مرعى صدقاتهم، وأما الاغنياء فلخيل المجاهدين عنهم، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا حمى إلا الله) فمعناه لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(15/237)


فيسلم فيما للفقراء المسلمين ومصالحهم فخالف فيه فعل الجاهلية فإن الذى في الجاهلية كان إذا استولى على بلد أوتى بكلب فجعله على جبل أو على نشز من الارض واستعداه فحيث انتهى عواؤه حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره ويشارك الناس فيما سواه، وهكذا كان كليب بن وائل إذا أعجبته روضة ألقى فيها كلبا وحمى إلى منتهى عوائه وفيه يقول معبد بن شعبة الضبى: كفعل كليب أنبئت أنه يرى
* يخطط أكلاء المياه ويمنع وقال العباس بن مرداس: كما كان يبغيها كليب
* لظلمه من العز حتى صاح وهو قتيلها على وائل إذ يترك الكلب هائجا
* وإذ يمنع الاكلاء منها حلولها وأما حمى الواحد من عوام المسلمين فمحظور وحماه مباح، ان حمى لنفسه فقد تحكم وتعدى بمنعه، وان حمى للمسلمين فليس من أهل الولاية عليهم ولا ممن يؤثر اجتهاده لهم، وقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعا (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) .
فلو أن رجلا من عوام المسلمين حمى مواتا ومنع الناس منه زمانا رعاه وحده، ثم ظهر الامام عليه ورفع يده عنه لم يغرمه ما رعاه لانه ليس بمالك، ولا يعزره لانه أحد مستحقيه ولكن ينهاه عن مثله من التعدي.
فأما أمير البلد ووالى الاقليم إذا رأى أن يحمى لمصالح المسلمين كالامام فليس له ذلك الا بإذن الامام، لان اجتهاد الامام أعم.
ولكن لو أن والى الصدقات اجتمعت معه ماشية الصدقة، وقل المرعى لها وخاف عليها التلف ان لم يحم الموات لها: فإن منع الامام من الحمى كان والى الصدقات أولى، وان جوز الامام الحمى ففى جوازه لو إلى الصدقات عندما ذكرناه من حدوث الضرورة به وجهان.

(أحدهما)
يجوز كما يجوز عند الضرورة أن يبيع ما بيده من مال الصدقة،

(15/238)


وإن كان بيعها لا يجوز من غير الضرورة، فعلى هذا يتقدر الحمى بزمان الضرورة، ولا يستديم بخلاف حمى الامام.
(والوجه الثاني) لا يجوز أن يحمى لانه ليس له أن يرفع الضرر عن أموال الفقراء بإدخال الضرر على الاغنياء، ويكون الضرر إن كان بالفريقين معا، وهذا أصح الوجهين كما أفاده الماوردى في الحاوى الكبير.
(فرع)
إذا حمى الامام مواتا وصححناه وقلنا: انه كحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحياه رجل من عامة المسلمين فهل يملك بإحيائه أم لا؟ قال الماوردى تبعا للشيخ أبى اسحاق: فيه قولان.
أحدهما: لا يملك المحي ما أحياه من حمى الامام كما لا يملك حمى النبي صلى الله عليه وسلم لان كليهما حمى محرم.
والقول الثاني: يملك بالاحياء، وان منع منه لان حمى الامام اجتهاد وملك الموات بالاحياء نص، والنص أثبت حكما من الاجتهاد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: باب حكم المياه الماء اثنان، مباح وغير مباح، فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة، فصاحب الارض أحق به من غيره، لانه على المنصوص: يملكه، وعلى قول أبى إسحاق: لا يملكه، إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه،
فكان أحق به، وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية للكلا لزمه بدله من غير عوض.
وقال أبو عبيد بن حرب: لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلا للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقى به الماء للماشية، والمذهب الاول لما روى إياس بن عمرو (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع فضل الماء) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلا منعه الله فضل رحمته) ويخالف الكلا فإنه لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته

(15/239)


والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف، فيستضر والضرر لا يزال بالضرر، ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع، لان الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه، ولو كانت الماشية له لزمه سقيها، وان لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على منع الفضل.
ولان ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله، والضرر لا يزال بالضرر.
(الشرح) حديث اياس بن عمرو عند أهل السنن وصححه الترمذي.
وقال أبو الفتح القشيرى: هو على شرط الشيخين وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعا.
أما حديث أبى هريرة فقد وجدته عند الشيخين بلفظ (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) وللبخاري (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلا) وعند أحمد من حديث أبى هريرة أيضا (ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه) أما اللفظ الذى ساقه المصنف معزوا إلى أبى هريرة فإنى وجدته عند أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ولفظه (من منع فضل مائه، أو فضل كلئه.
منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة) وفى اسناده محمد بن راشد الخزاعى
وهو ثقة وقد ضعفه.
قال ابن حجر: صدوق يهم، ورمى بالقدر، ورواه الطبراني في الصغير عن عمرو بن شعيب ورواه في الكبير من حديث وائلة بلفظ آخر واسناده ضعيف والاحاديث يشهد بعضها لبعض ويشهد لها جميعا حديث أبى هريرة عند الشيخين وحديث عائشة عند أحمد وابن ماجه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يمنع نفع البئر) وحديث جابر عند مسلم (نهى عن بيع فضل الماء) وفى مسند عبد الله بن أحمد عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بين أهل المدينة في النخل أن لا يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلا) والنقع الماء الفاضل فيها عن حاجة صاحبها، وقوله (فضل الماء) المراد به ما زاد على الحاجة ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (ولا يمنع ماء بعد أن يستغنى عنه) .

(15/240)


قال ابن حجر في فتح الباري: وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الارض المملوكة.
وكذلك في الموات إذا كان لقصد التملك، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها.
وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل.
وفى الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته.
والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات.
وقالوا في البئر التى لا تملك لا يجب عليه بذل فضلها.
وأما الماء المحرز في الاناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح.
اه قال في البحر: والماء على أضرب، حق إجماعا كالانهار غير المستخرجة
والسيول، وملك إجماعا كماء يحرز في الجرار ونحوها، ومختلف فيه كماء الآبار والعيون والقنا المحتفرة في الملك اه قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الحق أحق بمائه حتى يروى قال الحافظ ابن حجر، وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك، فكأن الذين يذهبون إلى أنه يملك وهم الجمهور هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك وقد استدل بتوجه النهى إلى الفضل على جواز بيع الماء الذى لا نضل فيه.
وقد تقدم في أبواب البيوع بحوث مستفيضة من المجموع فاشدد بها يديك.
وقوله (ليمنع به الكلا) هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى أن يكون حول البئر كلا ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشى رعيه إلا إذا مكنوا من سقى بهائمهم من تلك لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعى، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعى، والى هذا التفسير ذهب الجمهور.
وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية، ويلحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب، لانه إذا منعهم من الشرب امتنعوا من الرعى هناك.
ويحتمل أن يقال يمكنهم حمل الماء لانفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف البهائم، والصحيح الاول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعية وبه قالت الحنفية الاختصاص بالماشية وفرق الشافعي فيما حكاه المزني

(15/241)


عنه بين المواشى والزرع، بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها، بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره.
واستدل لمالك بحديث جابر في صحيح مسلم الذى ذكرناه لاطلاقه وعدم تقييده، وتعقب بأنه يحمل على المقيد، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلا يرعى فلا منع من لانتفاء العلة.
على أنه ليس هناك صارف يصرف النهى عن معناه
الحقيقي من التحريم، لا سيما وأن النهى مصحوب في بعض روايات الحديث بالوعيد.
وقال في الفتح، وظاهر الحديث وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور.
وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في طعام المضطر وتعقب بأنه يلزم منه جواز البيع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن يقال يجب عليه البذل وتثبت له القيمة في ذمة المبذول له، فيكون له أخذ القيمة منه متى أمكن، ولكنه لا يخفى أن رواية لا يباع فضل الماء، ورواية النهى عن بيع فضل الماء يدلان على تحريم البيع، ولو جاز له أخذ العوض لجاز له البيع.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وأما المباح فهو الماء الذى ينبع في الموات، فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاثة، الماء والنار والكلا) فمن سبق منهم إلى شئ منه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به) فإن أراد أن يسقى منه أرضا، فإن كان نهرا عظيما كالنيل والفرات وما أشبههما من الاودية العظيمة، جاز أن يسقى منه ما شاء ومتى شاء، لانه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن سقى الارض منه الا أن يحبسه، فان كانت الارض متساوية، بدأ من أول النهر، فيحبس الماء حتى يسقى أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وعلى هذا إلى أن تنتهى الاراضي، لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قضى في شرب نهر من سيل أن للاعلى أن يشرب قبل الاسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الاسفل الذى يليه كذلك، حتى تنتهى

(15/242)


الارضون) وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلا من الانصار تنازعا في
شراج الحرة التى يسقى بها النخل، فقال الانصاري للزبير: سرح الماء، فأبى الزبير، فاختصما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الانصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ فتلون وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجذر) وإن كانت الارض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الارض العالية إلى الكعب حتى يقف في الارض المستقلة إلى الوسط، فيسقى المستقلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يسدها ويسقى العالية حتى يبلغ الكعب، فإن أحيا جماعة أرضا على هذا النهر وسقوا منه، ثم جاء رجل فأحيا أرضا في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر، منع من ذلك، لان من ملك أرضا ملكها بمرافقها، والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه (الشرح) حديث (الناس شركاء) رواه أحمد وأبو داود عن أبى خراش عن بعض اصحاب النبي صلى الله علهى وَسَلَّمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلا والنار) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه (وثمنه حرام) وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبى خراش، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم عنه فقال أبوخراش لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجدت ممن كنيته أبوخراش في الصحابة، وهو حدرد بن أبى حدود الاسلمي وهو صحابي قال ابن حجر في التقريب: له حديث واحد.
ووجدت هذا الحديث يذكره ابن الاثير في أسد الغابة يقول: روى جندل بن والق عن يحيى بن يحيى الاسلمي عن سعيد بن مقلاص عن الوليد بن أبى الوليد عن عمران بن ابى أنس عن حدود
الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (هجرة الرجل أخاه سنة كسفك دمه) ووجدت أبا داود يسميه في روايته حبان بن زيد وفى هامش فتح العلام

(15/243)


أبوخداش حبان بن زيد الشعرى ثقة لم يعرفه ابن حزم فقال: انه مجهول.
انتهى.
وقال ابن حجر في التقريب: حبان بن زيد الشرعبى أبوخداش ثقة.
أخطأ من زعم أن له صحبة.
وقال في بلوغ المرام: عن رجل من الصحابة قال (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول (الناس شركاء في ثلاثة.
الكلا والماء والنار) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.
(قلت) والجهالة بالصحابى لا تؤثر في صحة الحديث كما هو معروف عند المحدثين، لانهم رضوان الله عليهم عدول أجمعون.
وأما رواية ابن عباس عند ابن ماجه والتى فيها (وثمنه حرام) ففيها عبد الله ابن خراش، هو متروك، وقد صححه ابن السكن، ويشهد لرواية ابن عباس رواية أبى خراش ورواية أبى هريرة عند ابن ماجه وعبد الله بن أحمد إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يمنع الماء والنار والكلا) وأما حديث من (سبق الخ) فقد مر تخريجه في غير موضع وحديث عبادة بن الصامت رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد والبيهقي والطبراني وفيها انقطاع بلفظ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في شرب النخل من السبيل أن الاعلى يشرب قبل الاسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الاسفل الذى يليه.
وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء) ورواها عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَضَى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الاسفل) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ عبد الرحمن بن الحرث المخزومى المدنى تكلم فيه الامام أحمد.

(15/244)


وقال الحافظ في الفتح: إن إسناد هذا الحديث حسن ورواه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة أنه قضى في سيل مهزور أن الاعلى يرسل إلى الاسفل ويحبس قدر الكعبين.
وأعله الدارقطني بالوقف وصححه الحاكم، ورواه ابن ماجه وأبو داود من حديث ثعلبة بن أبى مالك.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبى حاتم القرظى عن أبيه عن جده أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في بنى قريظة فخاصم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهزور السيل الذى يقسمون ماءه فقضى بينهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى الاسفل) ومهزور وادى بنى قريظة بالحجاز.
قال ابن الاثير: أما مهروز بتقديم الراء على الزاى فموضع سوق المدينة.
وهذه الاحاديث تدل على أن الاعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والنيل وماء البئر قبل الارض التى تحتها، وأن الاعلى يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين أي كعبي رجل الانسان الواقعيين عند مفصل الساق والقدم ثم يرسله بعد ذلك.
وقال صاحب البحر: إن الماء إذا كان قليلا فحده أن يعم أرض الاعلى إلى الكعبين في النخيل وإلى الشراك في الزرع لقضائه صلى الله عليه وسلم بذلك في خبر عبادة بن الصامت.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك حتى يبلغ الجدر) فقيل: عقوبة لخصمه، وقيل: بل هو المستحق، وكان أمره صلى الله عليه وسلم بالتفضيل، فإن كانت الارض بعضها مطمئن فلا يبلغ في بعضها الكعبين إلا وهو في المطمئن إلى الركبتين، قدم المطمئن إلى الكعبين ثم حبسه
وسقى باقيها.
وقال أبو طالب: العبرة بالكفاية للاعلى.
أما حديث الزبير فقد رواه أصحاب الكتب الستة وهو عند الخمسة من رواية عبد الله بن الزبير عن أبيه وعند النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه وللبخاري في رواية قال: خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه، وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأى فيه سعة له وللانصاري، فلما أحفظ الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم) .

(15/245)


قال عروة: قال الزبير (فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت الا في ذلك) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) رواه أحمد كذلك لكن قال، عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره جعله من مسنده وزاد البخاري في رواية.
قال ابن شهاب فقدرت الانصار والناس قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اسق يا زبير ثم احتس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فكان ذلك إلى الكعبين، وقد جاء هذا الحديث عند المحدثين في أبواب الاقضية وأن القاضى إذا حكم وهو غضبان صح ان صادف الحق لانه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الرجل ولا يخفى أنه لا يصح الحاق غيره صلى الله عليه وسلم به لانه معصوم فلا يدل حكمه صلى الله عليه وسلم وهو غضبان على جواز ذلك للقضاء، والنبى صلى الله عليه وسلم معصوم عن الحكم بالباطل في غضبه ورضاه بخلاف غيره، ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهى عنه، وسيأتى مزيد ايضاح ان شاء الله تعالى في كتاب الاقضية، وقد رواه مالك في موطئه من حديث
عروة عن ابيه.
والرجل المبهم الذى خاصم الزبير هو ثعلبة بن حاطب، وقيل حميد، وقيل حاطب بن ابى بلتعة ولا يصح لانه ليس أنصاريا، وقيل: انه ثابت بن قيس بن شماس، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد ان جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لاجل القرابة لان ذلك كان في أوائل الاسلام وقد كان صلى الله عليه وسلم يتالف الناس إذ ذاك ترك قتل عبد الله بن أبى بعد أن جاء بما يسوغ به قتله.
وقال القرطبى: يحتمل انه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد، كما اتفق لحاطب بن أبى بلتعة في قصة تخابره مع العدو ومسطح في قصة الافك وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية.
على ان الحكم في هذا الفصل ياتي هكذا: إذا كان الماء صغير المجرى بحيث يزدهم الناس فيه ويتشاحون في مائة أو سيل يتشاح الناس من أصحاب الارض الشاربة منه فيه، فان يبدأ بمن في أول النهر فيسقى ويحبس الماء حتى يبلغ إلى

(15/246)


الكعب ثم برسل إلى الذى يليه فيصنع كذلك، وعلى هذا إلى ان تنتهى الاراضي كلها، فان لم يفضل عن الاول شئ أو عن الثاني أو عمن يليهم فلا شئ للباقين، لانه ليس لهم إلا ما فضل، فهم كالعصبة في الميراث، وهذا قول الفقهاء من اهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد ولا نعلم فيه ومخالفا، والاصل فيه حديث الزبير، قال الزهري: نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر) فوجدنا ذلك إلى الكعبين.
قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج، والشرج نهر صغير، والحرة أرض ملتبسة بحجارة بركانية سود، والجدر الجدار، وانما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير
ان يسقى ثم يرسل الماء تسهيلا على غيره، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها، فان دخولوا على أن يتساووا، تساووا في الانفاق، وان دخولوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الانفاق، ويكون الماء بينهم على قدر النفقة، لانهم استفادوا ذلك بالانفاق فكان حقهم على قدره، فإن أرادوا سقى اراضيهم بالمهاياة يوما يوما جاز، وان ارادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الاراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم، فخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه، فان أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك، لان حريم النهر مشترك بينهم، فلا يجوز لواحد منهم ان يحفر فيه، فان أراد أن ينصب رحا قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك، لانه يتصرف في حريم مشترك، فان أراد أن يأخذ الماء ويسقى به أرضا اخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه يجعل لنفسه شربا لم يكن له، كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى فيجعل لنفسه طريقا لم يكن له، والله تعالى أعلم.
(الشرح) قوله: بالمهايأة أي بالمناوبة.
وقوله: كوى جمع كوة بضم الكاف وتشديد الواو مثل مدية ومدى وتفتح ايضا وهى الثقب في الحائط.

(15/247)


إذا كان النهر لجماعة وقد قلنا فيما مضى ان النهر المحيى في موات يكون لمحييه حقوق الملك، وان لم يكن مالكا فهو بينهم على حسب العمل والنفقة أو على حسب اتفاقهم، لانه انما كان لهم حق الملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فان كفى جميعهم فلا كلام، وان لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهاياة أو غيرها جاز لانه حقهم
لا يخرج عنهم، وان تشاحوا في قسمته قسمه الحاكم بينهم على قدر نفقتهم، لان لكل واحد منهم من الحقوق بقدر ذلك، فتؤخذ خشبة صلبة أو حجر مستوى الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الارض في مقدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم يخرج من كل جزء أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد منهم، فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به وليس له أن يأخذ قبل القسم، كما أن ليس له أن يسقى أرضا ليس لها رسم شرب في هذا الماء لان ذلك يدل على أن لها قسما في هذا الماء، فربما جعل سقيها منه دليلا على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الاولى، فأراد تنفيذ أحداهما إلى الاخرى لم يجز، لانه يجعل لنفسه استطارقا من كل واحدة من الدارين وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوما مثل أن يجعلوا لكل حصه يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل.
وان قسموا النهار فجعلوا الواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال وللاخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز.
وان قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك بشئ معلوم كطاسة مثقوبة تترك في الماء وفيها علامات إذا انتهى الماء إلى علامه كانت ساعة وإذا انتهى إلى الاخرى كانت ساعتين.
لا يجوز في النهر المشترك ان يتصرف أحد المشتركين بعمل رحى أو دولاب أو معبر للماء لانه يتصرف في نهر مشترك وفى حريمه بغير اذن شركائه.
اما الشرب لنفسه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه والانتفاع به في أشباه ذلك فانه يجوز لكل المسلمين، ولا يحل لصاحب الماء منعه من ذلك لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل كان يفضل ماء الطريق فمنعه ابن السبيل) رواه البخاري.

(15/248)


وعن بهيسه عن أبيها أنه قال: يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال: (الماء) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (الملح) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (ان تفعل الخير خير لك) رواه أبو داود، ولان ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، فاما إذا لم يفضل شئ عن حاجة ماشيته لم يلزمه.
والله تعال أعلم