روضة
الطالبين وعمدة المفتين ط المكتب الإسلامي كِتَابُ اللُّقَطَةِ
فِيهِ بَابَانِ.
[الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي أَرْكَانِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ.
[الرُّكْنُ] الْأَوَّلُ: الِالْتِقَاطُ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
[الْمَسْأَلَةُ] الْأُولَى: فِي وُجُوبِ الِالْتِقَاطِ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ
أَصَحُّهَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَظْهَرُهُمَا: لَا يَجِبُ كَالِاسْتِيدَاعِ. وَالثَّانِي يَجِبُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلَى
الظَّنِّ ضَيَاعُهَا، بِأَنْ تَكُونَ فِي مَمَرِّ الْفُسَّاقِ
وَالْخَوَنَةِ، وَجَبَ الِالْتِقَاطُ، وَإِلَّا، فَلَا. وَالثَّالِثُ: إِنْ
كَانَ لَا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَجِبْ قَطْعًا. وَإِنْ غَلَبَ عَلَى
ظَنِّهِ أَمَانَةُ نَفْسِهِ، فَفِيهِ الْقَوْلَانِ. وَالرَّابِعُ: لَا
يَجِبُ مُطْلَقًا. فَإِذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ، فَإِنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ،
فَفِي الِاسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا ثُبُوتُهُ. وَإِنْ لَمْ
يَثِقْ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَالِ مِنَ الْفَسَقَةِ، لَمْ يُسْتَحَبَّ
لَهُ الِالْتِقَاطُ قَطْعًا. قَالَهُ الْإِمَامُ. وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ
فِي الْجَوَازِ وَجْهَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: ثُبُوتُهُ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا
بِوُجُوبِ الِالْتِقَاطِ، أَوْ عَدَمِهِ، فَلَا يَضْمَنُ اللُّقَطَةَ
بِالتَّرْكِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ فِي يَدِهِ. هَذَا حُكْمُ
الْأَمِينِ، أَمَّا الْفَاسِقُ، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُكْرَهُ
لَهُ الِالْتِقَاطُ. وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ: إِنْ عَلِمَ
الْخِيَانَةَ، حَرُمَ الِالْتِقَاطُ، وَقَوْلُهُ فِي «الْوَسِيطِ» :
الْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ، فَمُخَالِفٌ لِمَا أَطْلَقَهُ
الْجُمْهُورُ مِنَ الْكَرَاهَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ
وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا يَجِبُ لَكِنْ
يُسْتَحَبُّ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ قَطْعًا. ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ
الْإِشْهَادِ، وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ: يَشْهَدُ
عَلَى أَصْلِهَا دُونَ صِفَاتِهَا، لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ كَاذِبٌ
(5/391)
إِلَيْهَا. قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَيَجُوزُ
أَنْ يَذْكُرَ جِنْسَهَا. وَالثَّانِي: يَشْهَدُ عَلَى صِفَاتِهَا أَيْضًا،
حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يَتَمَلَّكُهَا الْوَارِثُ، وَيَشْهَدُ الشُّهُودُ
لِلْمَالِكِ. وَأَشَارَ الْإِمَامُ إِلَى تَوَسُّطٍ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ،
وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْعِبُ الصِّفَاتِ، بَلْ يَذْكُرُ بَعْضَهَا
لِيَكُونَ فِي الْإِشْهَادِ فَائِدَةٌ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ، هَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْإِمَامُ. قَالَ
الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ سَاقِطٌ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ ذِكْرِ تَمَامِ الْأَوْصَافِ، لَا
نَرَاهُ يَنْتَهِي إِلَى التَّحْرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُلْتَقَطُ وَبِنَاءُ الْكَلَامِ فِيهِ عَلَى
أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ اللُّقَطَةَ فِيهَا مَعْنَى الْأَمَانَةِ
وَالْوِلَايَةِ وَالِاكْتِسَابِ، فَالْأَمَانَةُ وَالْوِلَايَةُ أَوَّلًا،
وَالِاكْتِسَابُ آخِرًا بَعْدَ التَّعْرِيفِ. وَهَلِ الْمُغَلَّبُ
الْأَمَانَةُ وَالْوِلَايَةُ لِأَنَّهَا نَاجِزَةٌ، أَمِ الِاكْتِسَابُ
لِأَنَّهُ مَقْصُودُهُ وَلَا يَسْتَقِلُّ الْآحَادُ بِالْأَمَانَاتِ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ أَرْبَعُ
صِفَاتٍ: الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْأَمَانَةُ، وَالتَّكْلِيفُ،
فَلَهُ أَنْ يَلْتَقِطَ وَيَعْرِفَ وَيَتَمَلَّكَ، لِأَنَّهُ أَهْلٌ
لِلْأَمَانَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالِاكْتِسَابِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ
مَسَائِلُ.
إِحْدَاهَا: يُمَكَّنُ الذِّمِّيُّ مِنَ الِالْتِقَاطِ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: قَطْعًا، كَالِاصْطِيَادِ،
وَالِاحْتِطَابِ، وَرُبَّمَا شُرِطَ فِيهِ عَدَالَتُهُ فِي دِينِهِ. فَإِنْ
قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الِالْتِقَاطُ فَالْتَقَطَ، أَخَذَهُ الْإِمَامُ
مِنْهُ وَحَفِظَهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، قَالَ
الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَالْتِقَاطِ الْفَاسِقِ. قَالَ: وَالْمُرْتَدُّ إِنْ
قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهُ، انْتُزِعَتِ اللُّقَطَةُ مِنْهُ، كَمَا لَوِ
احْتَطَبَ، يُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ،
فَكَالْفَاسِقِ يَلْتَقِطُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَزَلْنَا مِلْكَهُ،
فَمَا يَحْتَطِبُهُ يُنْتَزَعُ وَيَكُونُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فَإِنْ
كَانَتِ اللُّقَطَةُ كَذَلِكَ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَجُوزَ لِلْإِمَامِ
ابْتِدَاءُ الِالْتِقَاطِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَلِبَيْتِ الْمَالِ، وَأَنْ
يَجُوزَ لِلْوَلِيِّ الِالْتِقَاطُ لِلصَّبِيِّ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا
يَزُولُ مِلْكُهُ، فَهُوَ بِالذِّمِّيِّ أَشْبَهُ [مِنْهُ] مِنَ
الْفَاسِقِ، فَلْيَكُنْ كَالْتِقَاطِ الذِّمِّيِّ، وَبِهَذَا قَطَعَ
الْمُتَوَلِّي.
(5/392)
الثَّانِيَةُ: الْفَاسِقُ أَهْلٌ
لِلِالْتِقَاطِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ
ظَاهِرُ النَّصِّ. وَعَنِ الْقَفَّالِ، تَخْرِيجُهُ عَلَى الْأَصْلِ
الْمَذْكُورِ، إِنْ غَلَّبْنَا الِاكْتِسَابَ، فَنَعَمْ، أَوِ
الْأَمَانَةَ، فَلَا، وَمَا يَأْخُذُهُ مَغْصُوبٌ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ،
هَلْ يُقَرُّ الْمَالُ فِي يَدِهِ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا، بَلْ
يُنْتَزَعُ مِنْهُ وَيُوضَعُ عِنْدَ عَدْلٍ. وَالثَّانِي: نَعَمْ،
وَيُضَمُّ إِلَيْهِ عَدْلٌ يُشْرِفُ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ
وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا:
يُنْتَزَعُ أَوْ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ، فَفِي التَّعْرِيفِ قَوْلَانِ.
أَظْهَرُهُمَا: لَا يُعْتَمَدُ وَحْدَهُ، بَلْ يُضَمُّ إِلَيْهِ نَظَرُ
الْعَدْلِ، وَمُرَاقَبَتُهُ. وَالثَّانِي: يَكْفِي تَعْرِيفُهُ. ثُمَّ
إِذَا تَمَّ التَّعْرِيفُ، فَلِلْمُلْتَقِطِ التَّمَلُّكُ.
الثَّالِثَةُ: الْتِقَاطُ الْعَبْدِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.
أَحَدُهَا: الْتِقَاطٌ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ السَّيِّدُ وَلَا نَهَى عَنْهُ،
وَفِيهِ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: لَا يَصِحُّ، وَالثَّانِي:
كَاحْتِطَابِهِ، وَيَكُونُ الْحَاصِلُ لِسَيِّدِهِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا
يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ، لَمْ يُعْتَدَّ بِتَعْرِيفِهِ. ثُمَّ إِنْ لَمْ
يَعْلَمِ السَّيِّدُ الْتِقَاطَهُ، فَالْمَالُ مَضْمُونٌ فِي يَدِ
الْعَبْدِ، وَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ،
أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، كَالْمَغْصُوبِ. وَإِنْ
عَلِمَ، فَلَهُ أَحْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَلِهَذَا مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ الْمَغْصُوبَ
مِنَ الْغَاصِبِ لِيَحْفَظَهُ لِلْمَالِكِ، هَلْ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ مِنَ
الضَّمَانِ؟ وَجْهَانِ. أَقْيَسُهُمَا: الْبَرَاءَةُ، لِأَنَّ يَدَ
الْقَاضِي نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ. فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَبْرَأُ،
فَلِلْقَاضِي أَخْذُهُ مِنْهُ. وَإِنْ قُلْنَا: يَبْرَأُ، فَإِنْ كَانَ
الْمَالُ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ، وَالْغَاصِبِ بِحَيْثُ لَا يَبْعُدُ أَنْ
يُفْلِسَ، أَوْ يُغَيِّبَ وَجْهَهُ، فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا: لَا يَأْخُذُ، فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَالِكِ. وَالثَّانِي:
يَأْخُذُ نَظَرًا لَهُمَا جَمِيعًا. وَلَيْسَ لِآحَادِ النَّاسِ أَخْذُ
الْمَغْصُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَرَّضًا لِلضَّيَاعِ، وَلَا الْغَاصِبِ
بِحَيْثُ تَفُوتُ مُطَالَبَتُهُ ظَاهِرًا. وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ،
فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُوَ النَّائِبُ
عَنِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُ
(5/393)
قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ.
وَالثَّانِي: الْجَوَازُ احْتِسَابًا وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ. فَعَلَى
الْأَوَّلِ، لَوْ أَخَذَهُ ضَمِنَهُ، وَكَانَ كَغَاصِبٍ مِنْ غَاصِبٍ.
وَعَلَى الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ، وَبَرَاءَةُ الْغَاصِبِ عَلَى الْخِلَافِ
السَّابِقِ، وَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَبْرَأَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ هُنَاكَ قَاضٍ يُمْكِنُ رَفْعُ الْأَمْرِ
إِلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ، وَإِلَّا، فَيَجُوزُ. إِذَا عُرِفَ هَذَا،
فَقَالَ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ: إِذَا أَخَذَ السَّيِّدُ اللُّقَطَةَ مِنَ
الْعَبْدِ كَانَ أَخْذُهُ الْتِقَاطًا، لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ إِذَا لَمْ
تَكُنْ يَدَ الْتِقَاطٍ، كَانَ الْحَاصِلُ فِي يَدِهِ ضَائِعًا بَعْدُ،
وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنِ الْعَبْدِ لِوُصُولِهِ إِلَى نَائِبِ
الْمَالِكِ، فَإِنَّ كُلَّ أَهْلٍ لِلِالْتِقَاطِ كَأَنَّهُ نَائِبٌ
عَنْهُ. وَبِمِثْلِهِ قَالُوا فِيمَا لَوْ أَخَذَهُ أَجْنَبِيٌّ، إِلَّا
أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ جَعَلَ أَخْذَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْخِلَافِ
فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ صَيْدٌ بِشَبَكَةِ رَجُلٍ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ،
وَاسْتَبْعَدَ الْإِمَامُ قَوْلَهُمْ: إِنَّ أَخْذَ السَّيِّدِ الْتِقَاطٌ،
لِأَنَّ الْعَبْدَ ضَامِنٌ بِالْأَخْذِ. وَلَوْ كَانَ أَخْذُ السَّيِّدِ
الْتِقَاطًا، لَسَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ، فَيَتَضَرَّرُ [بِهِ]
الْمَالِكُ، وَهَذَا وَجْهٌ ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْمُتَوَلِّي،
وَحَكَيَا تَفْرِيعًا عَلَيْهِ أَنَّ السَّيِّدَ يَنْتَزِعُهُ مِنْ يَدِهِ،
وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهُ لِمَالِكِهِ أَبَدًا.
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَقَالَ: إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِالْتِقَاطٍ،
فَأَرَادَ أَخْذَهُ بِنَفَسِهِ وَحِفْظَهُ لِمَالِكِهِ، فَوَجْهَانِ
مُرَتَّبَانِ عَلَى أَخْذِ الْآحَادِ الْمَغْصُوبِ لِلْحِفْظِ، وَأَوْلَى
بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ السَّيِّدَ سَاعٍ لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ.
ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ حُصُولُ الْبَرَاءَةِ كَمَا
قَدَّمْنَا. وَإِنِ اسْتَدْعَى مِنَ الْحَاكِمِ انْتِزَاعُهُ، فَهَذِهِ
الصُّورَةُ أَوْلَى بِأَنْ يُزِيلَ الْحَاكِمُ فِيهَا الْيَدَ
الْعَادِيَةَ. وَإِذَا أَزَالَ، فَأَوْلَى أَنْ تَحْصُلَ [الْبَرَاءَةُ]
لِتَعَلُّقِ غَرَضِ السَّيِّدِ بِالْبَرَاءَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ
إِلَى عُدْوَانٍ حَتَّى يَغْلُظَ عَلَيْهِ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِهِ، وَيَسْتَحْفِظَهُ عَلَيْهِ
لِيَعْرِفَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ أَمِينًا، فَهُوَ مُتَعَدٍّ
بِالْإِقْرَارِ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ
كَانَ أَمِينًا، جَازَ،
(5/394)
كَمَا لَوِ اسْتَعَانَ بِهِ فِي تَعْرِيفِ
مَا الْتَقَطَهُ بِنَفْسِهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ
وَجْهَيْنِ.
أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُ: الْمَنْعُ. وَقِيَاسُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ
سُقُوطُهُ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَأْخُذَهُ وَلَا يُقِرَّهُ،
بَلْ يُهْمِلُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ. فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ أَنَّ
الضَّمَانَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ كَمَا كَانَ، وَلَا يُطَالِبُ
بِهِ السَّيِّدُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَدِّيَ مِنْهُ،
وَلَا أَثَرَ لِعِلْمِهِ، كَمَا لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يُتْلِفُ مَالًا
فَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَنَقَلَ الرَّبِيعُ تَعَلُّقَهُ بِالْعَبْدِ،
وَبِجَمِيعِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ. وَعَكَسَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَالِيُّ،
فَنَسَبَا الْأَوَّلَ إِلَى الرَّبِيعِ، وَالثَّانِيَ إِلَى الْمُزَنِيِّ.
وَالصَّوَابُ الْمُعْتَمَدُ، مَا سَبَقَ ثُمَّ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ طُرُقٍ.
أَصَحُّهَا وَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَظْهَرُهُمَا: تَعَلُّقُهُ بِالْعَبْدِ، وَسَائِرِ أَمْوَالِ السَّيِّدِ،
حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ، لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ. وَلَوْ أَفْلَسَ
السَّيِّدُ، قُدِّمَ صَاحِبُ اللُّقَطَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَائِرِ
الْغُرَمَاءِ. وَمَنْ قَالَ بِهِ، لَمْ يُسَلِّمْ عَدَمَ وُجُوبِ
الضَّمَانِ إِذَا رَأَى عَبْدَهُ يُتْلِفُ مَالًا فَلَمْ يَمْنَعْهُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَمْلُ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ
الْعَبْدُ مُمَيِّزًا، وَنَقْلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ.
وَالثَّالِثُ: الْقَطْعُ بِنَقْلِ الْمُزَنِيِّ فِي النَّقْلِ.
وَالرَّابِعُ: الْقَطْعُ بِنَقْلِ الرَّبِيعِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
إِسْحَاقَ، وَغَلَّطُوا الْمُزَنِيَّ فِي النَّقْلِ هَذَا كُلُّهُ إِذَا
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ. فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ، صَحَّ
تَعْرِيفُهُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعْرِيفُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ،
وَلَهُ التَّمَلُّكُ لِلسَّيِّدِ بِإِذْنِهِ، وَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ
إِذْنِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ كَاتِّهَابِهِ
وَشِرَائِهِ، فَعَلَى الْمَذْهَبِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِ
إِذْنِ سَيِّدِهِ. وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ كَالِالْتِقَاطِ. قَالَ
الْإِمَامُ: لَكِنْ إِنْ قُلْنَا: انْقِضَاءُ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ تُوجِبُ
الْمِلْكَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ، وَيَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ: يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ، كَمَا لَا يَثْبُتُ إِذَا
عَرَّفَ مَنْ قَصَدَ الْحِفْظَ. ثُمَّ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ
السَّيِّدُ بِالِالْتِقَاطِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ. فَإِنْ لَمْ
يَعْلَمْ، فَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْعَبْدِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ
مُعْرِضًا عَنِ التَّعْرِيفِ، فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ كَالْوَجْهَيْنِ
فِي الْحُرِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ التَّعْرِيفِ. وَلَوْ أَتْلَفَهُ
الْعَبْدُ بَعْدَ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ، أَوْ تَمَلَّكَهُ لِنَفْسِهِ
فَهَلَكَ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِذِمَّتِهِ كَمَا لَوِ
اقْتَرَضَ فَاسِدًا وَأَتْلَفَهُ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ كَالْمَغْصُوبِ؟
وَجْهَانِ. وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي
«الْفُرُوقِ» ،
(5/395)
وَلَوْ أَتْلَفَهُ فِي الْمُدَّةِ، أَوْ
تَلِفَ بِتَقْصِيرِهِ، فَالْمَذْهَبُ تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِرَقَبَتِهِ،
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ خِيَانَةٌ مَحْضَةٌ، إِذْ لَمْ
يَدْخُلْ وَقْتُ التَّمَلُّكِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ. وَقِيلَ:
فِي تَعَلُّقِهِ بِالرَّقَبَةِ، أَوِ الذِّمَّةِ قَوْلَانِ. وَإِنْ عَلِمَ
بِهِ السَّيِّدُ، فَلَهُ أَخْذُهُ كَأَكْسَابِهِ، ثُمَّ يَكُونُ
كَالْتِقَاطِهِ بِنَفْسِهِ. فَإِنْ شَاءَ حَفِظَهُ لِمَالِكِهِ، وَإِنْ
شَاءَ عَرَّفَ وَتَمَلَّكَ. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَرَّفَ بَعْضَ
الْمُدَّةِ، احْتَسَبَ [بِهِ] وَبَنَى عَلَيْهِ. وَإِنْ أَقَرَّهُ فِي
يَدِهِ وَهُوَ خَائِنٌ، ضَمِنَ السَّيِّدُ بِإِبْقَائِهِ فِي يَدِهِ.
وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، جَازَ، ثُمَّ إِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ
التَّعْرِيفِ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهَا، فَإِنْ أَذِنَ
السَّيِّدُ فِي التَّمَلُّكِ فَتَمَلَّكَ، لَمْ يَخْفَ الْحُكْمُ،
وَإِلَّا، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ
بِالسَّيِّدِ، لِإِذْنِهِ فِي سَبَبِ الضَّمَانِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ
فِي اسْتِيَامِ شَيْءٍ فَأَخَذَهُ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ. وَالثَّانِي:
[لَا] كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْغَصْبِ فَغَصَبَ. فَعَلَى الْأَوَّلِ،
يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ أَيْضًا بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، فَيُطَالَبُ بِهِ
بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا يُطَالَبُ بِهِ السَّيِّدُ فِي الْحَالِ، وَعَلَى
الثَّانِي، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِ
السَّيِّدِ. وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الضَّامِنُ
بِذِمَّةِ الْعَبْدِ، أَمْ بِرَقَبَتِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا:
الْأَوَّلُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّيِّدِ قَطْعًا. فَإِنْ أَتْلَفَهُ
الْعَبْدُ بَعْدَ الْمُدَّةِ، فَعَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ.
فَرْعٌ
قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : الْقَوْلَانِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ،
فِيمَا إِذَا نَوَى الِالْتِقَاطَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ نَوَى لِسَيِّدِهِ،
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُطْرَدَ الْقَوْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْطَعَ
بِالصِّحَّةِ. وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَوْلَانِ إِذَا الْتَقَطَ
لِيَدْفَعَ إِلَى سَيِّدِهِ. فَإِنْ قَصَدَ نَفْسَهُ، فَلَيْسَ لَهُ
الِالْتِقَاطُ قَطْعًا، بَلْ هُوَ مُتَعَدٍّ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْتِقَاطٌ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، بِأَنْ يَقُولَ:
مَتَى وَجَدْتَ لُقَطَةً فَخُذْهَا، وَائْتِنِي بِهَا، فَطَرِيقَانِ. قَالَ
ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا
يُفِيدُهُ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ.
(5/396)
وَقَطَعَ غَيْرُهُ بِالصِّحَّةِ،
وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْإِمَامِ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي قَبُولِ
الْوَدِيعَةِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الِاكْتِسَابِ مُطْلَقًا، فَفِي
دُخُولِ الِالْتِقَاطِ وَجْهَانِ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْتِقَاطٌ
نَهَاهُ عَنْهُ السَّيِّدُ، فَقَطَعَ الْإِصْطَخْرِيُّ بِالْمَنْعِ،
وَطَرَدَ غَيْرُهُ الْقَوْلَيْنِ.
قُلْتُ: طَرِيقَةُ الْإِصْطَخْرِيِّ أَقْوَى، وَلَكِنَّ سَائِرَ
الْأَصْحَابِ عَلَى طَرْدِ الْقَوْلَيْنِ، قَالَهُ صَاحِبُ
«الْمُسْتَظْهِرِيِّ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
إِذَا الْتَقَطَ ثُمَّ أَعْتَقَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا
الْتِقَاطَهُ، فَهِيَ كَسْبُ عَبْدِهِ يَأْخُذُهَا السَّيِّدُ
وَيُعَرِّفُهَا، وَيَتَمَلَّكُهَا. فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ عَرَّفَ،
اعْتُدَّ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَلِ
السَّيِّدُ أَحَقُّ نَظَرًا إِلَى وَقْتِ الِالْتِقَاطِ، أَمِ الْعَبْدُ
نَظَرًا إِلَى وَقْتِ التَّمَلُّكِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ لَمْ نُصَحِّحِ
الْتِقَاطَهُ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: لِلسَّيِّدِ حَقُّ التَّمَلُّكِ إِذَا
قُلْنَا: لِلسَّيِّدِ التَّمَلُّكُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَطَعَ
الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا. فَعَلَى هَذَا، هَلْ
لِلْعَبْدِ تَمَلُّكُهَا وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، أَمْ
يَجِبُ أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا؟
وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْأَوَّلُ.
فَرْعٌ
فِي الْتِقَاطِ الْمُكَاتَبِ طُرُقٌ. أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ قَطْعًا.
وَالثَّانِي: الْمَنْعُ قَطْعًا، بِخِلَافِ الْقِنِّ، فَإِنَّ السَّيِّدَ
يَنْتَزِعُ مِنْهُ، وَلَا وِلَايَةَ لِلسَّيِّدِ عَلَى مَالِ الْمُكَاتَبِ
مَعَ نُقْصَانِهِ. وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ:
طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ كَالْعَبْدِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُنَا بِاتِّفَاقِ
الْأَصْحَابِ،
(5/397)
صِحَّةُ الْتِقَاطِهِ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ
أَنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ فِي الْمُكَاتَبِ كِتَابَةٌ صَحِيحَةٌ. فَأَمَّا
الْفَاسِدَةُ، فَكَالْقِنِّ قَطْعًا. وَقِيلَ بِطَرْدِ الْخِلَافِ فِي
النَّوْعَيْنِ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، تَفْرِيعًا
عَلَى الْقَطْعِ بِالصِّحَّةِ، أَنَّ فِي إِبْقَاءِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ
قَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي الْفَاسِقِ، وَكُتُبُهُمْ سَاكِتَةٌ عَنْ
ذَلِكَ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ صَحَّحْنَا الْتِقَاطَ
الْمُكَاتَبِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا وَيَكُونُ بَدَلُهَا فِي
كَسْبِهِ. وَفِي تَقَدُّمِ الْمَالِكِ بِهِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَجْهَانِ
فِي «أَمَالِي» أَبِي الْفَرَجِ الزَّازِ. وَإِذَا أُعْتِقَ فِي مُدَّةِ
التَّعْرِيفِ، أَتَمَّ التَّعْرِيفَ وَتَمَلَّكَ. وَإِنْ عَادَ إِلَى
الرِّقِّ قَبْلَ تَمَامِ التَّعْرِيفِ، فَالْمَنْقُولُ عَنِ الْأَصْحَابِ،
أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُهَا وَيَحْفَظُهَا لِلْمَالِكِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ
لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا وَتَمَلُّكُهَا، لِأَنَّ الْتِقَاطَ الْمُكَاتَبِ
لَا يَقَعُ لِلسَّيِّدِ، فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ:
يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ، وَالتَّمَلُّكُ، لِأَنَّ
الِالْتِقَاطَ اكْتِسَابٌ، وَأَكْسَابُ الْمُكَاتَبِ لِسَيِّدِهِ عِنْدَ
عَجْزِهِ. قَالَ: وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ، أَوِ الْعَبْدُ قَبْلَ
التَّعْرِيفِ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِلسَّيِّدِ التَّعْرِيفُ،
وَالتَّمَلُّكُ، كَمَا أَنَّ الْحُرَّ إِذَا الْتَقَطَ وَمَاتَ قَبْلَ
التَّعْرِيفِ، يُعَرِّفُ الْوَارِثُ وَيَتَمَلَّكُ. وَإِذَا لَمْ نُصَحِّحِ
الْتِقَاطَهُ فَالْتَقَطَ، صَارَ ضَامِنًا، وَلَا يَأْخُذُ السَّيِّدُ
اللُّقَطَةَ مِنْهُ، بَلْ يَأْخُذُهَا الْقَاضِي وَيَحْفَظُهَا، هَكَذَا
ذَكَرُوهُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: ذَكَرْتُمْ تَفْرِيعًا عَلَى مَنْعِ
الْتِقَاطِ الْقِنِّ، أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ أَخَذَهَا وَيَكُونُ
مُلْتَقِطًا، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا الْوِلَايَةَ، وَلَيْسَ السَّيِّدُ فِي
حَقِّ الْمُكَاتَبِ بِأَدْنَى حَالًا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْقِنِّ.
ثُمَّ إِذَا أَخَذَهَا الْحَاكِمُ بَرِئَ الْمُكَاتَبُ مِنَ الضَّمَانِ.
ثُمَّ كَيْفَ الْحُكْمُ؟ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَغَيْرُهُ:
أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا، فَذًّا انْقَضَتْ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ،
تَمَلَّكَهَا الْمُكَاتَبُ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
التَّمَلُّكُ، فَإِنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى فَسَادِ الِالْتِقَاطِ، لَكِنْ
إِذَا [أَخَذَهَا] حَفِظَهَا إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهَا.
(5/398)
فَرْعٌ
مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، هَلْ يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ
قَطْعًا، أَمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ كَالْقِنِّ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ. وَقِيلَ:
يَصِحُّ فِي قَدْرِ الْحُرِّيَّةِ قَطْعًا، وَفِي الْبَاقِي الطَّرِيقَانِ،
وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلِّي، وَأَبْدَاهُ الشَّاشِيُّ احْتِمَالًا.
قُلْتُ: الْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ، صِحَّةُ الْتِقَاطِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْأَخْذِ، ضَامِنٌ
بِقَدْرِ الْحُرِّيَّةِ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ، وَبِقَدْرِ الرِّقِّ فِي رَقَبَتِهِ. وَهَلْ يُنْتَزَعُ مِنْهُ،
أَمْ يَبْقَى فِي يَدِهِ وَيُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ؟ وَجْهَانِ
حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ. أَصَحُّهُمَا: الِانْتِزَاعُ. وَعَلَى هَذَا، هَلْ
يُسَلَّمُ إِلَى السَّيِّدِ، أَمْ يَحْفَظُهُ الْحَاكِمُ إِلَى ظُهُورِ
مَالِكِهِ؟ وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: الثَّانِي. فَإِنَّ سُلِّمَ إِلَى
السَّيِّدِ، فَعَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ السَّيِّدَ
يُعَرِّفُهُ وَيَتَمَلَّكُهُ. قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ. أَمَّا إِذَا
قُلْنَا: يَصِحُّ الْتِقَاطُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
السَّيِّدِ مُهَايَأَةٌ، فَاللُّقَطَةُ بَيْنَهُمَا يُعَرِّفَانِهَا
وَيَتَمَلَّكَانِهَا بِحَسَبِ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ كَشَخْصَيْنِ
الْتَقَطَا مَالًا. وَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ: يَخْتَصُّ بِهَا السَّيِّدُ
كَلُقَطَةِ الْقِنِّ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ
مُهَايَأَةٌ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ النَّادِرَ هَلْ يَدْخُلُ فِي
الْمُهَايَأَةِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي
زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَمَيْلُ الْعِرَاقِيِّينَ وَالصَّيْدَلَانِيِّ هُنَاكَ
إِلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الدُّخُولِ ثُمَّ أَنَّهُمْ مَعَ سَائِرِ
الْأَصْحَابِ، كَالْمُتَّفِقِينَ عَلَى تَرْجِيحِ عَدَمِ الدُّخُولِ هُنَا،
وَهُوَ نَصُّهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» . فَعَلَى هَذَا، إِنْ وَقَعَتِ
اللُّقَطَةُ فِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَهَا. وَإِنْ
وَقَعَتْ فِي نَوْبَةِ الْعَبْدِ، عَرَّفَهَا وَتَمَلَّكَ. وَالِاعْتِبَارُ
بِوَقْتِ الِالْتِقَاطِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ. وَأَشَارَ
(5/399)
الْإِمَامُ إِلَى وَجْهٍ: أَنَّ
الِاعْتِبَارَ بِوَقْتِ التَّمَلُّكِ. وَإِنْ قُلْنَا: النَّادِرُ لَا
يَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةً.
قُلْتُ: وَنَقَلَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ
اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ لَا يَدْخُلُ فِي
الْمُهَايَأَةِ، لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
الْمُدَبَّرُ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ
كَالْقِنِّ فِي الِالْتِقَاطِ. لَكِنْ حَيْثُ حَكَمْنَا بِتَعَلُّقِ
الضَّمَانِ بِرَقَبَةِ الْقِنِّ، فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ يَجِبُ عَلَى
السَّيِّدِ، سَوَاءٌ عَلِمَ الْتِقَاطَهَا، أَمْ لَا، لِأَنَّ جِنَايَتَهَا
عَلَى السَّيِّدِ. وَفِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ سَيِّدُهَا،
فَالضَّمَانُ فِي ذِمَّتِهِ، وَإِلَّا، فَفِي ذِمَّتِهَا، وَهَذَا لَمْ
يُثْبِتْهُ الْأَصْحَابُ، وَقَالُوا: هَذَا سَهْوٌ مِنْ كَاتِبٍ، أَوْ
غَلَطٌ مِنْ نَاقِلٍ، وَرُبَّمَا حَاوَلُوا تَأْوِيلَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ، فِيهِ طَرِيقَانِ
كَالْفَاسِقِ. وَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ كَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ،
فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَلِيُّ، وَأَتْلَفَهُ
الصَّبِيُّ، ضَمِنَ. وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا:
لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُودِعَ مَالًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ.
وَتَسْلِيطُ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى الِالْتِقَاطِ، كَتَسْلِيطِ الْمُودِعِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُ لِضَعْفِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ فِي
يَدِهِ. فَإِنْ عَلِمَ بِهِ الْوَلِيُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَزِعَهُ
مِنْ يَدِهِ، وَيُعَرِّفَهُ. ثُمَّ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي
تَمَلُّكِهِ لِلصَّبِيِّ، جَازِ حَيْثُ يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي يَجُوزُ التَّمَلُّكُ لَهُ، وَإِنْ
لَمْ يَجُزِ الِاقْتِرَاضُ، لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُلْحَقٌ
بِالِاكْتِسَابِ.
(5/400)
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ
الصَّبَّاغِ، كَمَا هُوَ شُذُوذٌ عَنِ الْأَصْحَابِ، فَهُوَ ضَعِيفٌ
دَلِيلًا، فَإِنَّهُ اقْتِرَاضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ لَمْ يَرَ التَّمَلُّكَ لَهُ، حَفِظَهُ أَمَانَةً، أَوْ سَلَّمَهُ
إِلَى الْقَاضِي. وَإِذَا احْتَاجَ التَّعْرِيفُ إِلَى مُؤْنَةٍ، لَمْ
يَصْرِفْهَا مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى
الْقَاضِي لِيَبِيعَ جُزْءًا مِنَ اللُّقَطَةِ لِمُؤْنَةِ التَّعْرِيفِ.
وَيَجِيءُ وَجْهٌ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي
الْتِقَاطِ الشَّاةِ: أَنَّهُ يَبِيعُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى
إِذْنِ الْحَاكِمِ. وَلَوْ تَلِفَتِ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ الصَّبِيِّ
قَبْلَ الِانْتِزَاعِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، فَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ قَصَّرَ
الْوَلِيُّ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ، أَوْ أَتْلَفَهَا،
لَزِمَ الْوَلِيَّ الضَّمَانُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَشَبَّهُوهُ بِمَا
إِذَا احْتَطَبَ الصَّبِيُّ وَتَرَكَهُ الْوَلِيُّ فِي يَدِهِ حَتَّى
تَلِفَ، أَوْ أَتْلَفَهُ الصَّبِيُّ، يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ،
لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَ الصَّبِيِّ عَنْ مِثْلِهِ. قَالَ الْبَغَوِيُّ:
ثُمَّ يُعَرِّفُ التَّالِفَ، وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ يُتَمَلَّكُ
لِلصَّبِيِّ إِنْ كَانَ فِي التَّمَلُّكِ مَصْلَحَةٌ، وَيُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ هَذَا فِيمَا إِذَا وُجِدَ قَبْضٌ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي لِيَصِيرَ
الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُلْتَقِطِ، أَوْ إِفْرَازًا مِنْ جِهَةِ
الْوَلِيِّ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ مَنِ الْتَقَطَ شَاةً وَأَكَلَهَا
يَفْرِزُ بِنَفْسِهِ قِيمَتَهَا مِنْ مَالِهِ. فَأَمَّا الضَّمَانُ فِي
الذِّمَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ تَمَلُّكُهُ لِلصَّبِيِّ. أَمَّا إِذَا
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ الْتِقَاطُ الصَّبِيِّ، فَإِذَا الْتَقَطَ وَتَلِفَتْ
فِي يَدِهِ أَوْ أَتْلَفَهَا، وَجَبَ الضَّمَانُ فِي مَالِهِ، وَلَيْسَ
لِلْوَلِيِّ أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِهِ، بَلْ يَسْعَى فِي انْتِزَاعِهَا،
فَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي، فَعَلَ، وَإِنِ
انْتَزَعَ الْحَاكِمُ، فَفِي بَرَاءَةِ الصَّبِيِّ عَنِ الضَّمَانِ
الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي انْتِزَاعِ الْقَاضِي الْمَغْصُوبَ مِنَ
الْغَاصِبِ، وَأَوْلَى بِحُصُولِ الْبَرَاءَةِ نَظَرًا لِلطِّفْلِ. إِنْ
لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي، أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ،
وَتَبَنَّى بَرَاءَةَ الصَّبِيِّ عَنِ الضَّمَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي
بَرَاءَةِ الْغَاصِبِ بِأَخْذِ الْآحَادِ.
(5/401)
فَإِنْ لَمْ تَحْصُلِ الْبَرَاءَةُ،
فَفَائِدَةُ الْأَخْذِ صَوْنُ عَيْنِ الْمَالِ عَنِ التَّضْيِيعِ،
وَالْإِتْلَافِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَإِذَا أَخَذَهُ الْوَلِيُّ، فَإِنْ
أَمْكَنَهُ التَّسْلِيمُ إِلَى الْقَاضِي فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَلِفَ،
لَزِمَهُ الضَّمَانُ، وَإِلَّا، فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الصَّبِيِّ.
وَفِي كَوْنِ الْوَلِيِّ طَرِيقًا، وَجْهَانِ. وَهَذَا إِذَا أَخَذَ
الْوَلِيُّ لَا عَلَى قَصْدِ الِالْتِقَاطِ. أَمَّا إِذَا قَصَدَ
ابْتِدَاءَ الِالْتِقَاطِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلِيَكُونَا كَالْخِلَافِ
فِي الْأَخْذِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ إِذَا لَمْ نُصَحِّحِ
الْتِقَاطَهُ. وَلَوْ قَصَّرَ الْوَلِيُّ وَتَرَكَ الْمَالَ فِي يَدِهِ،
قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَحْصُلْ فِي يَدِهِ، وَلَا حَقَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ
حِفْظُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَخَصَّصَ الْإِمَامُ هَذَا الْجَوَابَ بِمَا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ
أَخْذَهُ لَا يُبَرِّئُ الصَّبِيَّ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: يُبَرِّئُ،
فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِتَرْكِهِ الصَّبِيَّ فِي وَرْطَةِ الضَّمَانِ،
وَيَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَخْذَهُ لَا يُبَرِّئُ
الصَّبِيَّ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ الصَّبِيِّ مُعَرَّضٌ لِلضَّيَاعِ،
فَحَقٌّ أَنْ يَصُونَهُ.
فَرْعٌ
الْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ فِي الِالْتِقَاطِ، وَكَذَا الْمَحْجُورُ
عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْرِيفُهُ، وَلَا يَصِحُّ
تَعْرِيفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الشَّيْءُ الْمُلْتَقَطُ، وَهُوَ قِسْمَانِ. مَالٌ
وَغَيْرُهُ، وَالْمَالُ نَوْعَانِ، حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ. وَالْحَيَوَانُ
ضَرْبَانِ، آدَمِيٌّ وَغَيْرُهُ. وَغَيْرُهُ صِنْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ،
كَالْإِبِلِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، أَوْ بِشِدَّةِ
عَدْوِهِ كَالْأَرَانِبِ، وَالظِّبَاءِ الْمَمْلُوكَةِ، أَوْ بِطَيَرَانِهِ
كَالْحَمَامِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَفَازَةٍ، فَلِلْحَاكِمِ وَنُوَّابِهِ
أَخْذُهَا لِلْحِفْظِ. وَفِي جَوَازِ أَخْذِهَا لِلْآحَادِ لِلْحِفْظِ
وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْمُتَوَلِّي،
وَغَيْرِهِمَا: جَوَازُهُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ، لِئَلَّا يَأْخُذَهَا
(5/402)
خَائِنٌ فَتَضِيعَ. وَأَمَّا أَخْذُهَا
لِلتَّمَلُّكِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ. فَمَنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ
ضَمِنَهَا، وَلَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ بِالرَّدِّ إِلَى ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ. فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْقَاضِي، بَرِئَ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَإِنْ وَجَدَهَا فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ
مِنْهَا، فَوَجْهَانِ أَوْ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ
الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ كَالْمَفَازَةِ. وَأَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ،
لِأَنَّهَا فِي الْعِمَارَةِ تَضِيعُ بِتَسَلُّطِ الْخَوَنَةِ. وَقِيلَ:
يَجُوزُ قَطْعًا. وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ قَطْعًا. فَإِنْ مَنَعْنَا،
فَالْتِقَاطُهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْتِقَاطِهَا
مِنَ الصَّحْرَاءِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، فَعَلَى مَا سَيَأْتِي فِي
النِّصْفِ الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. هَذَا كُلُّهُ إِذَا
كَانَ زَمَانُ أَمْنٍ. فَأَمَّا فِي زَمَنِ النَّهْبِ، وَالْفَسَادِ،
فَيَجُوزُ الْتِقَاطُهَا قَطْعًا. وَسَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي الصَّحْرَاءِ
أَوِ الْعُمْرَانِ، كَمَا سَيَأْتِي فِيمَا لَا يَمْتَنِعُ، قَالَهُ
الْمُتَوَلِّي.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ،
كَالْكَسِيرِ، وَالْغَنَمِ، وَالْعُجُولِ، وَالْفُصْلَانِ، فَيَجُوزُ
الْتِقَاطُهَا لِلتَّمَلُّكِ، سَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي الْمَفَازَةِ، أَوِ
الْعُمْرَانِ. وَفِي وَجْهٍ: لَا يُؤْخَذُ مَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ.
وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ. ثُمَّ إِذَا وَجَدَهُ فِي
الْمَفَازَةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَهَا،
وَيُعَرِّفَهَا، ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا،
وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا، وَيُعَرِّفَهَا، ثُمَّ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ،
وَبَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهَا إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً وَيَغْرَمَ
قِيمَتَهَا. وَالْخَصْلَةُ الْأُولَى أَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ،
وَالثَّانِيَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّالِثَةِ. وَإِنْ وَجَدَهَا فِي
الْعُمْرَانِ، فَلَهُ الْإِمْسَاكُ مَعَ التَّعْرِيفِ، وَالتَّمَلُّكِ،
وَلَهُ الْبَيْعُ وَالتَّعْرِيفُ وَتَمَلُّكُ الثَّمَنِ. وَفِي الْأَكْلِ
قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ كَالْمَفَازَةِ. وَأَظْهَرُهُمَا
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْعُمْرَانِ
أَسْهَلُ هَذَا إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً، فَأَمَّا الْجَحْشُ وَصِغَارُ
مَا لَا يُؤْكَلُ، فَحُكْمُهَا فِي الْإِمْسَاكِ وَالْبَيْعِ حُكْمُ
الْمَأْكُولِ، وَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهَا فِي الْحَالِ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ الْمَأْكُولِ. وَلَوْ لَمْ
نُجَوِّزْ ذَلِكَ لَأَعْرَضَ عَنْهَا الْوَاجِدُونَ وَلَضَاعَتْ،
وَأَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا حَتَّى تُعَرَّفَ سَنَةً
كَغَيْرِهَا.
(5/403)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِصَالِ الثَّلَاثِ
مَسَائِلُ:
إِحْدَاهَا: إِذَا أَمْسَكَهَا وَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ، فَذَاكَ.
وَإِنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ، فَلْيُنْفِقْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ حَاكِمًا، أَشْهَدَ كَمَا سَبَقَ فِي نَظَائِرِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا،
اسْتَقَلَّ بِهِ. وَإِنْ وَجَدَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ
اسْتِئْذَانُهُ. وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ جُزْءٍ مِنْهَا لِنَفَقَةِ
بَاقِيهَا؟ قَالَ الْإِمَامُ: نَعَمْ، كَمَا تُبَاعُ جَمِيعُهَا. وَحَكَى
عَنْ شَيْخِهِ احْتِمَالًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى
أَنْ تَأْكُلَ نَفْسَهَا، وَبِهَذَا قَطَعَ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ،
قَالَ: وَلَا يَسْتَقْرِضُ عَلَى الْمَالِكِ أَيْضًا، لِهَذَا الْمَعْنَى،
لَكِنَّهُ يُخَالِفُ مَا سَبَقَ فِي هَرَبِ الْجِمَالِ وَنَحْوِهِ.
قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَرَبِ الْجِمَالِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ
هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْبَيْعُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ،
وَهُنَا يُمْكِنُ، فَلَا يَجُوزُ الْإِضْرَارُ بِمَالِكِهَا مِنْ غَيْرِ
ضَرُورَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
مَتَّى حَصَلَتِ الضَّالَّةُ فِي يَدِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ
حِمًى، سَرَّحَهَا فِيهِ وَوَسَمَهَا بِسِمَةِ الضَّوَالِّ، وَيَسِمُ
نِتَاجَهَا أَيْضًا. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ، فَالْقَوْلُ فِي بَيْعِ
كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا لِلنَّفَقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ، لَكِنْ لَوْ
تَوَقَّعَ مَجِيءَ الْمَالِكِ فِي طَلَبِهَا عَلَى قُرْبٍ، بِأَنْ عَرَفَ
أَنَّهَا مِنْ نَعَمِ بَنِي فُلَانٍ، تَأَنَّى أَيَّامًا كَمَا يَرَاهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْآدَمِيُّ، فَإِذَا وَجَدَ رَقِيقًا مُمَيِّزًا،
وَالزَّمَانُ آمِنٌ، لَمْ يَأْخُذْهُ، لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى
سَيِّدِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ مُمَيَّزًا فِي زَمَنِ
نَهْبٍ، جَازَ أَخْذُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. ثُمَّ يَجُوزُ تَمَلُّكُ
الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ كَالْمَجُوسِيَّةِ،
وَالْمَحْرَمِ. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِلُّ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ
كَالِاسْتِقْرَاضِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، لَمْ يَجِبِ التَّعْرِيفُ، كَذَا
ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ. وَيُنْفِقُ عَلَى الرَّقِيقِ مُدَّةَ
الْحِفْظِ مِنْ كَسْبِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الْكَسْبِ
(5/404)
حُفِظَ مَعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَسْبٌ،
فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي. وَإِذَا بِيعَ ثُمَّ ظَهَرَ
الْمَالِكُ وَقَالَ: كُنْتُ أَعْتَقْتُهُ، فَقَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا:
يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُحْكَمُ بِفَسَادِ الْبَيْعِ. وَالثَّانِي: لَا،
كَمَا لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْجَمَادُ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَبْقَى،
بِمُعَالَجَةٍ، كَالرُّطَبِ يُجَفَّفُ، أَوْ بِغَيْرِهَا، كَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالثِّيَابِ، وَإِلَى مَا لَا يَبْقَى، كَالْهَرِيسَةِ،
وَكُلُّ ذَلِكَ لُقَطَةٌ يُؤْخَذُ وَيُمَلَّكُ، لَكِنْ فِيمَا لَا يَبْقَى،
أَوْ يَبْقَى بِمُعَالَجَةِ مَزِيدِ كَلَامٍ نَذْكُرُهُ فِي الْبَابِ
الثَّانِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَيْسَ بِمَالٍ، كَكَلْبٍ يُقْتَنَى، فَمَيْلُ
الْإِمَامِ وَالْآخِذِينَ عَنْهُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا عَلَى
قَصْدِ الْحِفْظِ أَبَدًا لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِهِ بِعِوَضٍ مُمْتَنِعٌ،
وَبِلَا عِوَضٍ يُخَالِفُ وَضْعَ اللُّقَطَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ:
يُعَرِّفُهُ سَنَةً ثُمَّ يَخْتَصُّ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَإِنْ ظَهَرَ
صَاحِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ تَلِفَ، فَلَا ضَمَانَ. وَهَلْ عَلَيْهِ
أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَنْفَعَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً
عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهِ.
فَصْلٌ
يُشْتَرَطُ فِي اللُّقَطَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ غَيْرُ مَا سَبَقَ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ شَيْئًا ضَاعَ مِنْ مَالِكِهِ لِسُقُوطٍ، أَوْ
غَفْلَةٍ، وَنَحْوِهِمَا. فَأَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي
حِجْرِهِ، أَوْ أَلْقَى إِلَيْهِ هَارِبٌ كِيسًا، وَلَمْ يَعْرِفْ مَنْ
هُوَ، أَوْ مَاتَ مُورِثُهُ عَنْ وَدَائِعَ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ
مُلَّاكَهَا، فَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ يُحْفَظُ، وَلَا يُتَمَلَّكُ. وَلَوْ
وُجِدَ دَفِينًا فِي الْأَرْضِ فَالْقَوْلُ فِي أَنَّهُ رِكَازٌ، أَوْ
لُقَطَةٌ سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ فِي مَوَاتٍ، أَوْ شَارِعٍ، أَوْ مَسْجِدٍ. أَمَّا
إِذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَا يُؤْخَذُ
لِلتَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، بَلْ هُوَ لِصَاحِبِ الْيَدِ فِي
(5/405)
الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ،
فَلِمَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَهُ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ
إِلَى الْمُحْيِي، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، حِينَئِذٍ يَكُونُ لُقَطَةً.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فِي دَارِ
الْحَرْبِ، وَفِيهَا مُسْلِمُونَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا
مُسْلِمٌ، فَمَا يُوجَدُ فِيهَا غَنِيمَةٌ، خُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ،
وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.
الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ الِالْتِقَاطِ الصَّحِيحِ
وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
[الْحُكْمُ] الْأَوَّلُ: فِي الْأَمَانَةِ، وَالضَّمَانِ، وَيَخْلَتِفُ
ذَلِكَ بِقَصْدِهِ. وَلَهُ أَحْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَهَا لِيَحْفَظَهَا أَبَدًا، فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي
يَدِهِ. فَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ. وَكَذَا
مَنْ أَخَذَ لِلتَّمَلُّكِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَدَفَعَهَا إِلَى
الْحَاكِمِ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ. وَهَلْ يَجِبُ التَّعْرِيفُ إِذَا قَصَدَ
الْحِفْظَ أَبَدًا؟ وَجْهَانِ يَأْتِي بَيَانُهُمَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى -. فَإِنْ لَمْ يَجِبْ، لَمْ يَضْمَنْ بِتَرْكِهِ. وَإِذَا بَدَا
لَهُ قَصْدُ التَّمَلُّكِ، عَرَّفَهَا سَنَةً مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَلَا
يُعْتَدُّ بِمَا عَرَفَ مِنْ قَبْلُ. وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ
بِالتَّرْكِ. حَتَّى لَوْ بَدَأَ بِالتَّعْرِيفِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلَكَ
فِي سَنَةِ التَّعْرِيفِ، ضَمِنَ.
الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ، وَالِاسْتِيلَاءِ،
فَيَكُونُ ضَامِنًا غَاصِبًا. وَفِي بَرَاءَتِهِ بِالدَّفْعِ إِلَى
الْحَاكِمِ الْوَجْهَانِ فِي الْغَاصِبِ، فَلَوْ عَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ
وَأَرَادَ التَّمَلُّكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ،
وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، كَالْغَاصِبِ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ، لِوُجُودِ
صُورَةِ الِالْتِقَاطِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَأْخُذَهَا لِيُعَرِّفَهَا سَنَةً، وَيَتَمَلَّكَهَا
بَعْدَ السَّنَةِ، فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي السَّنَةِ،
(5/406)
وَأَمَّا بَعْدَ السَّنَةِ، فَإِنْ
قُلْنَا: تُمَلَّكُ بِمُضِيِّ السَّنَةِ، فَقَدْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ،
وَضَمَانِهِ، وَإِلَّا، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: تَصِيرُ مَضْمُونَةً
عَلَيْهِ إِذَا كَانَ غُرْمُ التَّمَلُّكِ مُطَّرِدًا، وَلَمْ يُوَافِقْهُ
غَيْرُهُ، فَالْأَصَحُّ مَا صَرَّحَ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَالْبَغَوِيُّ:
أَنَّهَا أَمَانَةٌ مَا لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ قَصْدًا، أَوْ لَفْظًا
إِذَا اعْتَبَرْنَاهُ، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ، لَكِنْ إِذَا اخْتَارَ
وَقُلْنَا: لَا بُدَّ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَضْمُونًا
عَلَيْهِ كَالْقَرْضِ. وَإِذَا قَصَدَ الْأَمَانَةَ، ثُمَّ قَصَدَ
الْخِيَانَةَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ
بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ، كَالْمُودَعِ لَا يَضْمَنُ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ
عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالثَّانِي: يَصِيرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّطْهُ
الْمَالِكُ. وَمَهْمَا صَارَ الْمُلْتَقِطُ ضَامِنًا فِي الدَّوَامِ،
إِمَّا بِحَقِيقَةِ الْخِيَانَةِ، أَوْ بِقَصْدِهَا، ثُمَّ أَقْلَعَ،
وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ، وَيَتَمَلَّكَ، فَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ.
الْحَالُ الرَّابِعُ: أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ، وَلَا يَقْصِدُ
خِيَانَةً، وَلَا أَمَانَةً، أَوْ يَقْصِدَ أَحَدَهُمَا وَيَنْسَاهُ، فَلَا
تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَلَهُ التَّمَلُّكُ بِشَرْطِهِ.
الْحُكْمُ الثَّانِي: التَّعْرِيفُ، فَيَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ
يَعْرِفَ اللُّقَطَةَ، وَيُعَرِّفَهَا. أَمَّا الْمَعْرِفَةُ، فَيُعْلِمُ
عِفَاصَهَا، وَهُوَ الْوِعَاءُ مِنْ جِلْدٍ وَخِرْقَةٍ، وَغَيْرِهِمَا،
وَوِكَاءَهَا، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ، وَجِنْسَهَا،
أَذَهَبٌ أَمْ غَيْرُهُ؟ وَنَوْعَهَا، أَهَرَوِيَّةٌ، أَمْ غَيْرُهَا؟
وَقَدْرَهَا، بِوَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ وَإِنَّمَا يُعَرِّفُ هَذِهِ الْأُمُورَ
لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِمَالِهِ، وَيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى صِدْقِ
طَالِبِهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَقْيِيدُهَا بِالْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا التَّعْرِيفُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ. إِحْدَاهَا: يَجِبُ تَعْرِيفُ
اللُّقَطَةِ سَنَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى اسْتِيعَابِ السَّنَةِ،
بَلْ لَا يُعَرِّفُ فِي اللَّيْلِ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ الْأَيَّامَ
أَيْضًا، بَلْ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَيُعَرِّفُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي
كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ
مَرَّةً، ثُمَّ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً، ثُمَّ فِي
كُلِّ شَهْرٍ بِحَيْثُ لَا يَنْسَى أَنَّهُ تَكْرَارٌ لِلْأَوَّلِ. وَفِي
وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ بِالتَّعْرِيفِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ.
الْأَصَحُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْجُمْهُورِ: لَا يَجِبُ، بَلِ
الْمُعْتَبَرُ تَعْرِيفُ سَنَةٍ مَتَى كَانَ. وَهَلْ تَكْفِي سَنَةٌ
مُفَرَّقَةٌ بِأَنْ يُفَرِّقَ شَهْرَيْنِ مَثَلًا، وَيَتْرُكَ شَهْرَيْنِ،
وَهَكَذَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْإِمَامُ،
لِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ.
(5/407)
فَعَلَى هَذَا، إِذَا قَطَعَ مُدَّةً،
وَجَبَ الِاسْتِئْنَافُ. وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ،
وَالرُّويَانِيُّ: نَعَمْ.
قُلْتُ: هَذَا الثَّانِي أَصَحُّ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ
بَلْ صَحَّحُوهُ، لِأَنَّهُ عُرِّفَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: لِيَصِفِ الْمُلْتَقِطُ بَعْضَ أَوْصَافِ اللُّقَطَةِ،
فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّفَرِ بِالْمَالِكِ. وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ،
أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: مُسْتَحَبٌّ. فَإِنْ
شَرَطْنَاهُ، فَهَلْ يَكْفِي ذِكْرُ الْجِنْسِ بِأَنْ يَقُولَ: مَنْ ضَاعَ
مِنْهُ دَرَاهِمُ؟ قَالَ الْإِمَامُ: عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكْفِي،
وَلَكِنْ يَتَعَرَّضُ لِلْعِفَاصِ، وَالْوِكَاءِ، وَمَكَانِ الِالْتِقَاطِ
وَزَمَنِهِ، وَلَا يَسْتَوْعِبُ الصِّفَاتِ، وَلَا يُبَالِغُ فِيهَا
لِئَلَّا يَعْتَمِدَهَا الْكَاذِبُ. فَإِنْ بَالَغَ، فَفِي مَصِيرِهِ
ضَامِنًا وَجْهَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إِلَّا
بِبَيِّنَةٍ، لَكِنْ قَدْ يَرْفَعُهُ إِلَى حَاكِمٍ يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ
بِالْوَصْفِ.
قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: الضَّمَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: إِنْ تَبَرَّعَ الْمُلْتَقِطُ بِالتَّعْرِيفِ، أَوْ بَذَلَ
مُؤْنَتَهُ، فَذَاكَ، وَإِلَّا، فَإِنَّ أَخْذَهَا لِلْحِفْظِ أَبَدًا،
فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَهُوَ
مُتَبَرِّعٌ إِنْ عَرَّفَ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ
مُؤْنَتُهُ، بَلْ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبْذُلَ
أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يَقْتَرِضَ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ
يَأْمُرَ الْمُلْتَقِطَ بِهِ لِيَرْجِعَ كَمَا فِي هَرَبِ الْجَمَّالِ.
وَإِنْ أَخَذَهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَاتَّصَلَ الْأَمْرُ بِالتَّمَلُّكِ،
فَمُؤْنَةُ التَّعْرِيفِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ قَطْعًا. وَإِنْ ظَهَرَ
مَالِكُهَا، فَهَلْ هِيَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ لِقَصْدِهِ التَّمَلُّكَ،
أَمْ عَلَى الْمَالِكِ لِعَوْدِ الْفَائِدَةِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أَصَحُّهُمَا: أَوَّلُهُمَا. وَلَوْ قَصَدَ الْأَمَانَةَ أَوَّلًا، ثُمَّ
قَصَدَ التَّمَلُّكَ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ.
(5/408)
الرَّابِعَةُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
وُجُوبِ التَّعْرِيفِ، هُوَ فِيمَا إِذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ، أَمَّا
إِذَا قَصَدَ الْحِفْظَ أَبَدًا، فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا
عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ: وُجُوبُهُ، لِئَلَّا يَكُونَ
كِتْمَانًا مُفَوِّتًا لِلْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَالثَّانِي وَبِهِ
قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يَجِبُ، قَالُوا: لِأَنَّ التَّعْرِيفَ
إِنَّمَا يَجِبُ لِتَخْصِيصِ شَرْطِ التَّمَلُّكِ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
الْخَامِسَةُ: لِيَكُنِ التَّعْرِيفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَجَامِعِ
النَّاسِ، وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ خُرُوجِ النَّاسِ مِنَ
الْجَمَاعَاتِ، وَلَا يُعَرِّفْ فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا لَا تُطْلَبُ
اللُّقَطَةُ فِيهَا، قَالَ الشَّاشِيُّ فِي «الْمُعْتَمَدِ» : إِلَّا أَنَّ
الْأَصَحَّ جَوَازُ التَّعْرِيفِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بِخِلَافِ
سَائِرِ الْمَسَاجِدِ. ثُمَّ إِذَا الْتَقَطَ فِي بَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ،
فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْرِيفِ فِيهَا، وَلْيَكُنْ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ
فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي وَجَدَ فِيهَا، لِأَنَّ طَلَبَ الشَّيْءِ فِي
مَوْضِعِ ضَيَاعِهِ أَكْثَرُ. فَإِنْ حَضَرَهُ سَفَرٌ، فَوَّضَ
التَّعْرِيفَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُسَافِرُ بِهَا. وَإِنِ الْتَقَطَ فِي
الصَّحْرَاءِ، فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: أَنَّهُ إِنِ اجْتَازَتْ بِهِ
قَافِلَةٌ، تَبِعَهُمْ وَعَرَّفَ، وَإِلَّا، فَلَا فَائِدَةَ فِي
التَّعْرِيفِ فِي الْمَوَاضِعِ الْخَالِيَةِ، وَلَكِنْ يُعَرِّفُ فِي
الْبَلْدَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ. وَإِنْ بَدَا
لَهُ الرُّجُوعُ، أَوْ قَصَدَ بَلْدَةً أُخْرَى، عَرَّفَ فِيهَا، وَلَا
يُكَلَّفُ أَنْ يُغَيِّرَ قَصْدَهُ، وَيَعْدِلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ
إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَتَابَعَهُ الْغَزَالِيُّ.
وَلَكِنْ ذَكَرَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يُعَرِّفُ فِي أَقْرَبِ
الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَهَذَا إِنْ أَرَادَ بِهِ الْأَفْضَلَ فَذَاكَ،
وَإِلَّا، فَيَحْصُلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَجْهَانِ.
قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْعُدُولَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
(5/409)
فَرْعٌ
لَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ لِيُعَرِّفَهُ
إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ فَعَلَ، ضَمِنَ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ،
وَغَيْرُهُ.
فَرْعٌ
يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُعَرِّفِ عَاقِلًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بِالْخَلَاعَةِ
وَالْمُجُونِ، وَإِلَّا، فَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، وَلَا تَحْصُلُ
فَائِدَةُ التَّعْرِيفِ.
فَصْلٌ
إِنَّمَا يَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ إِذَا جَمَعَتْ وَصْفَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْمُلْتَقَطِ كَثِيرًا. فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا،
نُظِرَ، إِنِ انْتَهَتْ قِلَّتُهُ إِلَى حَدٍّ يَسْقُطُ تَمَوُّلُهُ
كَحَبَّةِ الْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبَةِ، فَلَا تَعْرِيفَ، وَلِوَاجِدِهِ
الِاسْتِبْدَادُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مُتَمَوَّلًا مَعَ قِلَّتِهِ، وَجَبَ
تَعْرِيفُهُ، وَفِي قَدْرِ تَعْرِيفِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ
الْعِرَاقِيِّينَ:
[سَنَةٌ] كَالْكَثِيرِ. وَأَشْبَهَهُمَا بِاخْتِيَارِ مُعْظَمِ
الْأَصْحَابِ: لَا يَجِبُ سُنَّةً. فَعَلَى هَذَا أَوْجُهٌ: أَحَدُهَا:
يَكْفِي مَرَّةً. وَالثَّانِي: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَأَصَحُّهَا: مُدَّةً
يُظَنُّ فِي مِثْلِهَا طَلَبُ فَاقِدِهِ لَهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى
الظَّنِّ إِعْرَاضُهُ، سَقَطَ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ،
قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَدَانِقُ الْفِضَّةِ يُعَرَّفُ فِي الْحَالِ،
وَدَانِقُ الذَّهَبِ يُعَرَّفُ يَوْمًا، أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةً.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْمُتَمَوَّلِ وَالْكَثِيرِ،
فَفِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا يَتَقَدَّرُ، بَلْ مَا غَلَبَ عَلَى
الظَّنِّ أَنَّ فَاقِدَهُ لَا يَكْثُرُ أَسَفُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَطُولُ
طَلَبُهُ لَهُ غَالِبًا، فَقَلِيلٌ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ،
وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ
(5/410)
الْغَزَالِيُّ، وَالْمُتَوَلِّي.
وَالثَّانِي: الْقَلِيلُ: مَا دُونَ نِصَابِ السَّرِقَةِ. وَالثَّالِثُ:
الدِّينَارُ قَلِيلٌ. وَالرَّابِعُ: مَا دُونَ الدِّرْهَمِ قَلِيلٌ،
وَالدِّرْهَمُ كَثِيرٌ.
فَرْعٌ
قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَحِلُّ الْتِقَاطُ السَّنَابِلِ وَقْتَ الْحَصَادِ
إِنْ أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ، أَوْ كَانَ قَدْرًا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ
أَنْ يُلْتَقَطَ، وَإِنْ كَانَ يَلْتَقِطُ بِنَفْسِهِ لَوِ اطَّلَعَ
عَلَيْهِ، وَإِلَّا، فَلَا يَحِلُّ.
الْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَفْسُدُ. أَمَّا مَا
يَفْسُدُ، فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُمْكِنَ إِبْقَاؤُهُ كَالْهَرِيسَةِ، وَالرُّطَبِ
الَّذِي لَا يَتَتَمَّرُ، وَالْبُقُولِ. فَإِنْ وَجَدَهُ فِي بَرِّيَّةٍ،
فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ، وَبَيْنَ
أَنْ يَتَمَلَّكَهُ فِي الْحَالِ فَيَأْكُلَهُ وَيَغْرَمَ قِيمَتَهُ.
وَإِنْ وَجَدَهُ فِي بَلْدَةٍ، أَوْ قَرْيَةٍ، فَطَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ الْأَكْلُ، بَلْ
يَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ لِمَالِكِهِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مُتَيَسِّرٌ
فِي الْعُمْرَانِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ كَمَا لَوْ
وُجِدَ فِي بَرِّيَّةٍ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِالْمَشْهُورِ.
فَإِذَا لَمْ نُجَوِّزِ الْأَكْلَ، فَأَخَذَ لِلْأَكْلِ، كَانَ غَاصِبًا.
وَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَأَكَلَ، فَفِي وُجُوبِ التَّعْرِيفِ بَعْدَهُ
وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، كَمَا
أَنَّهُ إِذَا بَاعَ يُعَرِّفُ. وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ، قَالَ
الْإِمَامُ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ
فِيهِ. وَهَلْ يَجِبُ إِفْرَازُ الْقِيمَةِ الْمَغْرُومَةِ مِنْ مَالِهِ؟
وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّ مَا فِي
الذِّمَّةِ لَا يُخْشَى هَلَاكُهُ، وَإِذَا أَفْرَزَ [كَانَ الْمُفْرَزُ]
أَمَانَةً. وَالثَّانِي: يَجِبُ احْتِيَاطًا لِصَاحِبِ الْمَالِ
لِيُقَدَّمَ بِالْمُفْرَزِ لَوْ أَفْلَسَ الْمُلْتَقِطُ. وَعَلَى هَذَا،
فَالطَّرِيقُ أَنَّهُ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَقْبِضَ عَنْ
صَاحِبِ الْمَالِ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا، فَهَلْ لِلْمُلْتَقِطِ
بِسُلْطَانِ الِالْتِقَاطِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ
(5/411)
عِنْدَ الْإِمَامِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ،
وَالْغَزَالِيُّ، أَنَّهُ إِذَا أَفْرَزَهَا، لَمْ تَصِرْ مِلْكًا
لِصَاحِبِ الْمَالِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى بِتَمَلُّكِهَا. وَلَوْ كَانَ كَمَا
قَالَا، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِهَلَاكِ الْمُفْرَزِ. وَقَدْ نَصُّوا
عَلَى السُّقُوطِ، وَنَصُّوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ مُدَّةُ
التَّعْرِيفِ، فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمُفْرَزَ كَمَا يَتَمَلَّكُ
نَفْسَ اللُّقَطَةِ، وَكَمَا يَتَمَلَّكُ الثَّمَنَ إِذَا بَاعَ
الطَّعَامَ، وَهَذَا يَقْتَضِي صَيْرُورَةَ الْمُفْرَزِ مِلْكًا لِصَاحِبِ
اللُّقَطَةِ. وَلَوِ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ يَوْمَيِ الْأَخْذِ وَالْأَكْلِ،
فَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ إِنْ أَخَذَ لِلْأَكْلِ اعْتُبِرَتْ
قِيمَةُ يَوْمِ الْأَخْذِ. وَإِنْ أَخَذَ التَّعْرِيفَ، اعْتُبِرَتْ
قِيمَةُ يَوْمِ الْأَكْلِ. وَإِذَا اخْتَارَ الْبَيْعَ، فَفِي الْحَاجَةِ
إِلَى إِذْنِ الْحَاكِمِ مَا سَبَقَ فِي بَيْعِ الشَّاةِ. وَإِذَا بَاعَ
أَوْ أَكَلَ، عَرَّفَ الْمَبِيعَ وَالْمَأْكُولَ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ،
لَا الثَّمَنَ وَالْقِيمَةَ، سَوَاءٌ أَفْرَزَهَا، أَمْ لَا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِالْمُعَالَجَةِ
وَالتَّجْفِيفِ. فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ رُطَبًا،
بِيعَ، وَإِلَّا، فَإِنْ تَبَرَّعَ الْمُلْتَقِطُ بِالتَّجْفِيفِ فَذَاكَ،
وَإِلَّا، بِيعَ بَعْضُهُ وَأُنْفِقَ عَلَى تَجْفِيفِ الْبَاقِي.
الْحُكْمُ الثَّالِثُ: التَّمَلُّكُ، فَيَجُوزُ تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ
بَعْدَ التَّعْرِيفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَنِيًّا، أَوْ
فَقِيرًا، وَمَتَى تَمَلَّكَ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ. أَصَحُّهَا: لَا تَمَلُّكَ
إِلَّا بِلَفْظٍ، كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُ وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: لَا
تَمَلُّكَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ. وَعَلَى هَذَا، يُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ
الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْقَرْضِ، فِي أَنَّ الْمِلْكَ بِأَيِّ
نَوْعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ. وَالثَّالِثُ: يَكْفِيهِ تَجْدِيدُ
قَصْدِ التَّمَلُّكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظٌ.
وَالرَّابِعُ: تَمَلُّكٌ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ السَّنَةِ.
فَرْعٌ
فِي لُقَطَةِ مَكَّةَ وَحَرَمِهَا وَجْهَانِ. الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ أَخْذُهَا لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ لِلْحِفْظِ أَبَدًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَلُقَطَةِ سَائِرِ الْبِقَاعِ. قَالَ هَذَا
الْقَائِلُ: وَالْمُرَادُ
(5/412)
بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ»
أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهَا سَنَةً كَغَيْرِهَا، لِئَلَّا
يُتَوَهَّمَ أَنَّ تَعْرِيفَهَا فِي الْمَوْسِمِ كَافٍ لِكَثْرَةِ
النَّاسِ، وَبَعْدَ الْعَوْدِ فِي طَلَبِهَا مِنَ الْآفَاقِ.
قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَلْزَمُ الْمُلْتَقِطَ بِهَا الْإِقَامَةُ
لِلتَّعْرِيفِ، أَوْ دَفْعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ، فَلَا يَجِيءُ هُنَا
الْخِلَافُ السَّابِقُ فِيمَنِ الْتَقَطَ لِلْحِفْظِ، هَلْ يَلْزَمُهُ
التَّعْرِيفُ؟ بَلْ يَجْزِمُ هُنَا بِوُجُوبِهِ، لِلْحَدِيثِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
الْحُكْمُ الرَّابِعُ: رَدَّ عَيْنَهَا، أَوْ بَدَلَهَا عِنْدَ ظُهُورِ
مَالِكِهَا. فَإِذَا جَاءَ مَنْ يَدَّعِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً
أَنَّهَا لَهُ، وَلَمْ يَصِفْهَا، لَمْ تُدْفَعْ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ
يَعْلَمَ الْمُلْتَقِطُ أَنَّهَا لَهُ، فَيَلْزَمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ.
وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً، دُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَإِنْ وَصَفَهَا، نُظِرَ،
إِنْ لَمْ يَظُنَّ الْمُلْتَقِطُ صِدْقَهُ، لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ عَلَى
الْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ، وَحَكَى الْإِمَامُ تَرَدُّدًا فِي جَوَازِ
الدَّفْعِ، وَإِنْ ظَنَّ صِدْقَهُ، جَازَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ
عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ فِي
وُجُوبِهِ وَجْهَيْنِ. فَعَلَى الْمَذْهَبِ، لَوْ قَالَ الْوَاصِفُ:
يَلْزَمُكَ تَسْلِيمُهَا إِلَيَّ، فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ. وَلَوْ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهَا مِلْكِي، فَلَهُ أَنْ
يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ. وَلَوْ أَقَامَ الْوَاصِفُ شَاهِدًا،
فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ
وُجُوبَهُ. وَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْوَاصِفِ بِوَصْفِهِ، فَأَقَامَ
غَيْرُهُ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، انْتُزِعَتْ
مِنْهُ وَدُفِعَتْ إِلَى الثَّانِي. وَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ، فَهُوَ
بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَ الْمُلْتَقِطُ، أَوِ الْوَاصِفُ. فَإِنْ
ضَمِنَ الْوَاصِفُ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُلْتَقِطِ. وَإِنْ ضَمِنَ
الْمُلْتَقِطُ، رَجَعَ عَلَى الْوَاصِفِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ بِالْمِلْكِ
لِلْوَاصِفِ. وَإِنْ أَقَرَّ، لَمْ يَرْجِعْ، مُؤَاخَذَةً لَهُ. هَذَا
إِذَا دَفَعَ بِنَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا أَلْزَمَهُ الْحَاكِمُ الدَّفْعَ
إِلَى الْوَاصِفِ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ تَضْمِينُهُ.
(5/413)
فَرْعٌ
لَوْ جَاءَ الْوَاصِفُ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَ الْمُلْتَقِطُ اللُّقَطَةَ،
وَأَتْلَفَهَا، فَغَرَّمَهَا الْمُلْتَقِطَ لِظَنِّهِ صِدْقَهُ، فَأَقَامَ
آخَرُ بَيِّنَةً بِهَا، طَالَبَ الْمُلْتَقِطَ دُونَ الْوَاصِفِ، لِأَنَّ
الْحَاصِلَ عِنْدَ الْوَاصِفِ مَالُ الْمُلْتَقِطِ، لَا مَالُهُ. وَإِذَا
غُرِّمَ الْمُلْتَقِطَ، هَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْوَاصِفِ؟ يُنْظَرُ، هَلْ
أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ أَمْ لَا كَمَا سَبَقَ
فَرْعٌ
أَقَامَ مُدَّعِي اللُّقَطَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ
الْمُلْتَقِطِ، وَهُمَا فَاسِقَانِ عِنْدَ الْقَاضِي، لَمْ يُلْزِمْهُ
الْقَاضِي الدَّفْعَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: يُلْزِمُهُ،
لِاعْتِرَافِهِ بِعَدَالَتِهِمَا.
فَرْعٌ
[إِذَا] ادَّعَاهَا اثْنَانِ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهَا
لَهُ، فَفِيهِ أَقْوَالُ التَّعَارُضِ.
فَصْلٌ
إِذَا ظَهَرَ الْمَالِكُ قَبْلَ تَمَلُّكِ الْمُلْتَقِطِ، أَخَذَ
اللُّقَطَةَ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ، وَالْمُنْفَصِلَةِ. وَإِنْ
ظَهَرَ بَعْدَ التَّمَلُّكِ، فَلِلُّقَطَةِ حَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ
تَكُونَ بَاقِيَةً عِنْدَهُ، فَيُنْظَرُ، إِنْ بَقِيَتْ بِحَالِهَا،
فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَهُ أَخْذُهَا، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ
يُلْزِمَهُ أَخْذَ بَدَلِهَا. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
لَوْ رَدَّهَا الْمُلْتَقِطُ لَزِمَ الْمَالِكَ الْقَبُولُ، فَعَلَى
الْأَصَحِّ:
(5/414)
لَوْ بَاعَهَا الْمُلْتَقِطُ فَجَاءَ
الْمَالِكُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، فَهَلْ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ؟
وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ بِأَنَّ الْفَسْخَ
حَقٌّ لِلْعَاقِدِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَجَعَلَ ابْنُ كَجٍّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ يُجْبِرُ الْمُلْتَقِطَ
عَلَى الْفَسْخِ، وَيَجُوزُ فَرْضُ الْوَجْهَيْنِ فِي الِانْفِسَاخِ.
فَإِنْ زَادَتْ، فَالْمُتَّصِلَةُ تَتْبَعُهَا، وَالْمُنْفَصِلَةُ
تُسَلَّمُ لِلْمُلْتَقِطِ، وَيَرُدُّ الْأَصْلَ، وَإِنْ نَقَصَتْ بِعَيْبٍ
وَنَحْوِهِ وَقُلْنَا: لَوْ بَقِيَتْ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ
أَخْذُهَا قَهْرًا، رَجَعَ إِلَى بَدَلِهَا سَلِيمَةً. وَإِنْ قُلْنَا:
لَهُ أَخْذُهَا قَهْرًا فَكَذَا هُنَا، وَيُغَرِّمُهُ الْأَرْشَ، لِأَنَّ
الْكُلَّ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا أَرْشَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ
الْبَغَوِيُّ. وَلَوْ أَرَادَ بَدَلَهَا، وَقَالَ الْمُلْتَقِطُ: أَضُمُّ
إِلَيْهَا الْأَرْشَ وَأَرُدُّهَا، أُجِيبَ الْمُلْتَقِطُ عَلَى
الْأَصَحِّ. وَالثَّانِي: يُجَابُ الْمَالِكُ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ
الْبَدَلِ أَوِ الْعَيْنِ النَّاقِصَةِ مَعَ الْأَرْشِ، أَوْ دُونَهُ كَمَا
سَبَقَ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ تَالِفَةً، فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا:
الْمِثْلُ، أَوِ الْقِيمَةُ. وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ يَوْمِ
التَّمَلُّكِ. وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا -: لَا
يُطَالَبُ بِالْقِيمَةِ، وَلَا بِرَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ بَقَائِهَا.
وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَعَلَى هَذَا، فَالضَّمَانُ
ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ يَوْمِ التَّلَفِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ عِنْدَ
مَجِيءِ الْمَالِكِ وَطَلَبِهِ.
فَصْلٌ
فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ
إِحْدَاهَا: وَجَدَ رَجُلَانِ لُقْطَةً، يُعَرِّفَانِهَا،
وَيَتَمَلَّكَانِهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا نَقْلُ حَقِّهِ إِلَى
صَاحِبِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ نَقْلُ حَقِّهِ إِلَى
غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: تَنَازَعَا، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيِّنَةً أَنَّهُ
الْمُلْتَقِطُ، فَإِنْ تَعَرَّضَتْ بَيِّنَةٌ لِسَبْقٍ، حُكِمَ بِهَا،
وَإِلَّا، فَعَلَى الْخِلَافِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ.
(5/415)
الثَّالِثَةُ: ضَاعَتْ مِنْ يَدِ
الْمُلْتَقِطِ، فَأَخَذَهَا آخَرُ، فَالْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا عَلَى
الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الثَّانِي.
الرَّابِعُ: كَانَا يَتَمَاشَيَانِ، فَرَأَى أَحَدُهُمَا اللُّقَطَةَ،
وَأَخْبَرَ بِهَا الْآخَرُ، فَالْآخِذُ أَوْلَى. فَلَوْ أَرَاهُ
اللُّقَطَةَ وَقَالَ: هَاتِهَا، فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، فَهِيَ لِلْآخِذِ.
وَإِنْ أَخَذَهَا لِلْآمِرِ، أَوْ لَهُ وَلِنَفْسِهِ، فَعَلَى
الْقَوْلَيْنِ فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالِاصْطِيَادِ وَنَحْوِهِ.
الْخَامِسَةُ: رَأَى شَيْئًا مَطْرُوحًا عَلَى الْأَرْضِ، فَدَفَعَهُ
بِرِجْلِهِ لِيَعْرِفَ جِنْسَهُ، أَوْ قَدْرَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى
ضَاعَ، لَمْ يَضْمَنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِهِ، قَالَهُ
الْمُتَوَلِّي.
السَّادِسَةُ: دَفَعَ اللُّقَطَةَ إِلَى الْحَاكِمِ وَتَرَكَ التَّعْرِيفَ
وَالتَّمَلُّكَ، ثُمَّ نَدِمَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ وَيَتَمَلَّكَ،
فَفِي تَمْكِينِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
السَّابِعَةُ: قَالَ فِي «الْمُهَذَّبِ» : لَوْ وَجَدَ خَمْرًا أَرَاقَهَا
صَاحِبُهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهَا، لِأَنَّ إِرَاقَتَهَا
مُسْتَحَقَّةٌ. فَإِنْ صَارَتْ عِنْدَهُ خَلًّا، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا:
أَنَّهَا لِلْمُرِيقِ، كَمَا لَوْ غَصَبَهَا فَصَارَتْ خَلًّا.
وَالثَّانِي: لِلْوَاجِدِ، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ، بِخِلَافِ
الْغَصْبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَصْوِيرًا وَتَوْجِيهًا، إِنَّمَا
يَسْتَمِرُّ فِي الْخَمْرَةِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ
إِرَاقَتُهَا مُسْتَحَقَّةً. أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ، فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْوَاجِدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إِمْسَاكُهَا إِذَا
خَلَا عَنْ قَصْدٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ
مَخْصُوصًا بِمَا إِذَا أَرَاقَهَا، لِأَنَّهُ مَعْرِضٌ. أَمَّا إِذَا
ضَاعَتِ الْمُحْتَرَمَةُ مِنْ صَاحِبِهَا، فَلْتُعَرَّفْ كَالْكَلْبِ.
قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ. .
إِلَى آخِرِهِ، فَكَذَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» فَقَالَ:
وَجَدَ خَمْرًا أَرَاقَهَا صَاحِبُهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ
الْوَاجِدَ يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُهَا،
(5/416)
فَغَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلْ لَا يَجُوزُ
وَإِنْ خَلَا عَنِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ. وَالْكَلَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ
يَعْلَمِ الْوَاجِدُ أَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ صَاحِبِ
«الْمُهَذَّبِ» : الْإِرَاقَةُ وَاجِبَةٌ - يَعْنِي عَلَى الْوَاجِدِ -
كَلَامٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ احْتِرَامِهَا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْبَعِيرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لَا
يُلْتَقَطُ إِذَا وُجِدَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَاسْتَثْنَى صَاحِبُ
التَّلْخِيصِ مَا إِذَا وَجَدَ بَعِيرًا فِي أَيَّامِ مِنًى مُقَلَّدًا فِي
الصَّحْرَاءِ تَقْلِيدَ الْهَدَايَا، فَحَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَيَّامَ
مِنًى. فَإِنْ خَافَ فَوْتَ وَقْتِ النَّحْرِ، نَحَرَهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ
أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِنَحْرِهِ. وَحَكَى
غَيْرُهُ قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ. وَبَنَوُا الْقَوْلَيْنِ
عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِيمَنْ وَجَدَ بَدَنَةً مَنْحُورَةً قَدْ غَمَسَ
نَعْلَهَا فِي دَمِهَا، وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهَا، هَلْ يَجُوزُ الْأَكْلُ
مِنْهَا؟ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، مَنَعْنَا الْأَخْذَ هُنَا. وَإِنْ
جَوَّزْنَاهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَلَامَةِ، فَكَذَا هُنَا التَّقْلِيدُ
عَلَامَةٌ. وَالْأُضْحِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ إِذَا ذُبِحَتْ فِي وَقْتِ
النَّحْرِ، وَقَعَتِ الْمَوْقِعَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَاحِبُهَا، قَالَ
الْإِمَامُ: لَكِنَّ ذَبْحَ الْأُضْحِيَّةِ إِنْ وَقَعَ الْمَوْقِعَ، لَا
يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، وَلِهَذَا الْإِشْكَالِ
قَالَ الْقَفَّالُ تَفْرِيعًا عَلَى [هَذَا] الْقَوْلِ يَجِبُ رَفْعُ
الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي لِيَنْحَرَهُ، وَأَوَّلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اسْتُحِبَّ. ثُمَّ لَكَ أَنْ تَقُولَ:
الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَإِنْ جَوَّزْنَا الْأَخْذَ، لِأَنَّ
الْأَخْذَ الْمَمْنُوعَ إِنَّمَا هُوَ الْأَخْذُ لِلتَّمَلُّكِ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ هَذَا الْبَعِيرَ لَا يُؤْخَذُ لِلتَّمَلُّكِ.
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْبَعِيرِ لِآحَادِ النَّاسِ
لِلْحِفْظِ وَجْهَانِ. فَإِنْ مَنَعْنَاهُ، ظَهَرَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَإِنْ
جَوَّزْنَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَفَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ جَوَازُ
التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالنَّحْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/417)
|