روضة الطالبين وعمدة المفتين ط المكتب الإسلامي

كِتَابُ الرِّدَّةِ
هِيَ مِنْ أَفْحَشِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَأَغْلَظِهَا حُكْمًا، وَفِيهِ بَابَانِ:
الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَةِ الرِّدَّةِ، وَمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ، وَفِيهِ طَرَفَانِ:
الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَتِهَا، وَهِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ تَارَةً بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ، وَالْأَفْعَالُ الْمُوجِبَةُ لِلْكُفْرِ هِيَ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَاسْتِهْزَاءٍ بِالدِّينِ صَرِيحٍ، كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّمْسِ، وَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَالسِّحْرِ الَّذِي فِيهِ عِبَادَةُ الشَّمْسِ وَنَحْوِهَا، قَالَ الْإِمَامُ: فِي بَعْضِ التَّعَالِيقِ عَنْ شَيْخِي أَنَّ الْفِعْلَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا، قَالَ: وَهَذَا زَلَلٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُعَلِّقِ ذَكَرْتُهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَلَطِهِ، وَتَحْصُلُ الرِّدَّةُ بِالْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، سَوَاءٌ صَدَرَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِنَادٍ أَوِ اسْتِهْزَاءٍ، هَذَا قَوْلٌ جُمَلِيٌّ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَقَالَ الْمُتَوَلِّي: مَنِ اعْتَقَدَ قِدَمَ الْعَالَمِ، أَوْ حُدُوثَ الصَّانِعِ، أَوْ نَفَى مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلْقَدِيمِ بِالْإِجْمَاعِ، كَكَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا، أَوْ أَثْبَتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ، كَالْأَلْوَانِ، أَوْ أَثْبَتَ لَهُ الِاتِّصَالَ وَالِانْفِصَالَ، كَانَ كَافِرًا، وَكَذَا مَنْ جَحَدَ جَوَازَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، أَوْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، أَوْ كَذَّبَهُ، أَوْ جَحَدَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَوْ زَادَ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةً وَاعْتَقَدَ أَنَّهَا مِنْهُ، أَوْ سَبَّ نَبِيًّا، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوِ اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ كَالْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ نَفَى وُجُوبَ مُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ، كَرَكْعَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ، كَصَلَاةٍ سَادِسَةٍ وَصَوْمِ شَوَّالٍ، أَوْ نَسَبَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى الْفَاحِشَةِ، أَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ

(10/64)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَدَّقَ مُدَّعِيًا لَهَا، أَوْ عَظَّمَ صَنَمًا بِالسُّجُودِ لَهُ، أَوِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالذَّبْحِ بِاسْمِهِ، فَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ: إِنَّ جَاحِدَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَكْفُرُ، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلِ الصَّوَابُ فِيهِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَقِبَ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ إِنْ جَحَدَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ يُعْلَمُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً، كَفَرَ إِنْ كَانَ فِيهِ نَصٌّ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ فِي الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهُ كُلُّ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكْفُرْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ قَالَ الْمُسْلِمُ: يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ، كَفَرَ ; لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا، وَالْعَزْمُ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُفْرٌ فِي الْحَالِ، وَكَذَا التَّرَدُّدُ فِي أَنَّهُ يَكْفُرُ أَمْ لَا، فَهُوَ كُفْرٌ فِي الْحَالِ، وَكَذَا التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ، أَوْ تَنَصَّرْتُ، قَالَ: وَالرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ، حَتَّى لَوْ سَأَلَهُ كَافِرٌ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ أَنْ يُلَقِّنَهُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يُسْلِمَ، أَوْ عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ، فَهُوَ كَافِرٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِكَافِرٍ: لَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، فَلَيْسَ بِكُفْرٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ رِضًى بِالْكُفْرِ، لَكِنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي «الْفَتَاوَى» وَجْهًا ضَعِيفًا، أَنَّ مَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: سَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ، كَفَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَكْرَهَ مُسْلِمًا عَلَى الْكُفْرِ، صَارَ الْمُكْرِهُ كَافِرًا، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالرِّضَى بِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَيْسَ بِإِسْلَامٍ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ، وَشَرِبَ مَعَهُمُ الْخَمْرَ، وَأَكَلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، لَا يُحْكَمُ

(10/65)


بِكُفْرِهِ، وَارْتِكَابُ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَلَا يَنْسَلِبُ بِهِ اسْمُ الْإِيمَانِ، وَالْفَاسِقُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ.
فَرْعٌ
فِي كُتُبِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِنَاءٌ تَامٌّ بِتَفْصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكُفْرِ، وَأَكْثَرُهُمَا مِمَّا يَقْتَضِي إِطْلَاقُ أَصْحَابِنَا الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ، فَنَذْكُرُ مَا يَحْضُرُنَا مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ.
مِنْهَا: إِذَا سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِوَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ، كَفَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَوْ أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْ، أَوْ لَوْ صَارَتِ الْقِبْلَةُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا، أَوْ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا.
قُلْتُ: مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا وَالْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي قَوْلِهِ لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَتْرُكِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُؤَاخِذُكَ، فَقَالَ: لَوْ وَاخَذَنِي اللَّهُ بِهَا مَعَ مَا بِي مِنَ الْمَرَضِ وَالشِّدَّةِ، ظَلَمَنِي، أَوْ قَالَ الْمَظْلُومُ: هَذَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الظَّالِمُ: أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ بِكَذَا مَا صَدَّقْتُهُمْ، كَفَرَ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: قَلِّمْ أَظْفَارَكَ، فَإِنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً، كَفَرَ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ اسْتِهْزَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: فُلَانٌ فِي عَيْنِي كَالْيَهُودِيِّ، وَالنَّصْرَانِيِّ فِي عَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ كُفْرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ أَرَادَ الْجَارِحَةَ، كَفَرَ، وَإِلَّا فَلَا، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ

(10/66)


تَعَالَى جَلَسَ لِلْإِنْصَافِ، كَفَرَ، أَوْ قَامَ لِلْإِنْصَافِ، فَهُوَ كُفْرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِيَمِينِ خَصْمِهِ، وَقَدْ أَرَادَ الْخَصْمُ أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى: لَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِنَّمَا أُرِيدُ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَادَى رَجُلًا اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَدْخَلَ فِي آخِرِهِ حَرْفَ الْكَافِ الَّذِي يَدْخُلُ لِلتَّصْغِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ، فَقِيلَ: يَكْفُرُ، وَقِيلَ: إِنْ تَعَمَّدَ التَّصْغِيرِ كَفَرَ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَصْدٌ، لَا يَكْفُرُ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَالَ: رُؤْيَتِي إِيَّاكَ كَرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ، قَالُوا: وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ضَرْبِ الدُّفِّ أَوِ الْقَضِيبِ، أَوْ قِيلَ لَهُ: تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ كُفْرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ خَرَجَ لِسَفَرٍ، فَصَاحَ الْعَقْعَقُ، فَرَجَعَ هَلْ يَكْفُرُ؟
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ: لَوْ كَانَ فُلَانٌ نَبِيًّا، آمَنْتُ بِهِ، كَفَرَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْأَنْبِيَاءُ صِدْقًا نَجَوْنَا، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْسِيًّا أَمْ جِنِّيًّا، أَوْ قَالَ: إِنَّهُ جِنٌّ، أَوْ صَغَّرَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِهَانَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَالَ: كَانَ طَوِيلَ الظُّفْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا، أَوْ مَعَ ثَوْبٍ نَجِسٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
قُلْتُ: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، لَا يَكْفُرُ إِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ الْآخَرُ: لَا حَوْلَ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، كَفَرَ، وَلَوْ سَمِعَ أَذَانَ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ: إِنَّهُ يَكْذِبُ، أَوْ قَالَ وَهُوَ يَتَعَاطَى قَدَحَ الْخَمْرِ، أَوْ يُقْدِمُ عَلَى الزِّنَا: بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، اسْتِخْفَافًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ، كَفَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ:

(10/67)


سَلَّمْتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: سَلَّمْتَهُ إِلَى مَنْ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ إِذَا سَرَقَ، وَلَوْ حَضَرَ جَمَاعَةٌ، وَجَلَسَ أَحَدُهُمْ عَلَى مَكَانٍ رَفِيعٍ تَشَبُّهًا بِالْمُذَكِّرِينَ، فَسَأَلُوهُ الْمَسَائِلَ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِالْمِخْرَاقِ، أَوْ تَشَبَّهَ بِالْمُعَلِّمِينَ، فَأَخَذَ خَشَبَةً، وَجَلَسَ الْقَوْمُ حَوْلَهُ كَالصِّبْيَانِ، وَضَحِكُوا وَاسْتَهْزَءُوا، وَقَالَ: قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ، كَفَرَ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَتَيِ التَّشَبُّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ دَامَ مَرَضُهُ وَاشْتَدَّ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا، وَإِنْ شِئْتَ تَوَفَّنِي كَافِرًا، صَارَ كَافِرًا، وَكَذَا لَوِ ابْتُلِيَ بِمَصَائِبَ، فَقَالَ: أَخَذْتَ مَالِي، وَأَخَذْتَ وَلَدِي، وَكَذَا وَكَذَا، وَمَاذَا تَفْعَلُ أَيْضًا، أَوْ مَاذَا بَقِيَ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، كَفَرَ، وَلَوْ غَضِبَ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ غُلَامِهِ، فَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَسْتَ بِمُسْلِمٍ، فَقَالَ: لَا، مُتَعَمِّدًا كَفَرَ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ، يَا مَجُوسِيُّ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، كَفَرَ، قُلْتُ: فِي هَذَا نَظَرٌ إِذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، فَأَعْطَاهُ النَّاسُ أَمْوَالًا، فَقَالَ مُسْلِمٌ: لَيْتَنِي كُنْتُ كَافِرًا فَأُسْلِمُ، فَأُعْطَى، قَالَ بَعْضُ الْمَشَائِخِ: يَكْفُرُ.
قُلْتُ: فِي هَذَا نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِالْإِسْلَامِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي قِصَّةِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَتَلَ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ، وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَمْرَ، أَوْ لَا يُحَرِّمَ الْمُنَاكَحَةَ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ تَمَنَّى أَنْ لَا يُحَرِّمَ اللَّهُ تَعَالَى الظُّلْمَ أَوِ الزِّنَا،

(10/68)


وَقَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، كَفَرَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ مَا كَانَ حَلَالًا فِي زَمَانٍ فَتَمَنَّى حِلَّهُ لَا يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ الزُّنَّارَ عَلَى وَسَطِهِ، كَفَرَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ حَبْلًا، فَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: هَذَا زُنَّارٌ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَلَوْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ، كَفَرَ، وَإِنْ دَخَلَ لِتَخْلِيصِ الْأُسَارَى، لَمْ يَكْفُرْ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّمَنِّي وَمَا بَعْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَالَ مُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ: الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرٍ ; لِأَنَّهُمْ يَقْضُونَ حُقُوقَ مُعَلِّمِي صِبْيَانِهِمْ، كَفَرَ، وَقَالُوا: وَلَوْ قَالَ: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ، كَفَرَ، وَلَوْ قَالَ: الْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، لَا يَكْفُرُ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا دِينُ حَقٍّ الْيَوْمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَوْ عَطَسَ السُّلْطَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَقَالَ آخَرُ: لَا تَقُلْ لِلسُّلْطَانِ هَذَا، كَفَرَ الْآخَرُ.
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِمُجَرَّدِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَوْ سَقَى فَاسِقٌ وَلَدَهُ خَمْرًا، فَنَثَرَ أَقْرِبَاؤُهُ الدَّرَاهِمَ وَالسُّكَّرَ، كَفَرُوا.
قُلْتُ: الصَّوَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكْفُرُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ لِمُسْلِمٍ: اعْرِضْ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ: حَتَّى أَرَى، أَوِ اصْبِرْ إِلَى الْغَدِ، أَوْ طَلَبَ عَرْضَ الْإِسْلَامِ مِنْ وَاعِظٍ، فَقَالَ:

(10/69)


اجْلِسْ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، كَفَرَ، وَقَدْ حَكَيْنَا نَظِيرَهُ عَنِ الْمُتَوَلِّي، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ لِعَدُوِّهِ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ أُؤْمِنْ بِهِ، أَوْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَفَرَ، قَالُوا: وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ: مَا الْإِيمَانُ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، كَفَرَ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَفَرَ، وَهَذِهِ الصُّوَرُ تَتَبَّعُوا فِيهَا الْأَلْفَاظَ الْوَاقِعَةَ فِي كَلَامِ النَّاسِ وَأَجَابُوا فِيهَا اتِّفَاقًا أَوِ اخْتِلَافًا بِمَا ذُكِرَ، وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِي مُوَافَقَتَهُمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا يُشْتَرَطُ وُقُوعُ اللَّفْظِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِهْزَاءِ.
قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَوِ الْفَضْلُ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ الشِّفَاءِ بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ نَبِيِّنَا الْمُصْطَفَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً فِي الْأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَةِ غَيْرَ مَا سَبَقَ، نَقَلَهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ، أَكْثَرُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَمِنْهَا: أَنَّ مَرِيضًا شُفِيَ ثُمَّ قَالَ: لَقِيتُ فِي مَرَضِي هَذَا مَا لَوْ قَتَلْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ أَسْتَوْجِبْهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ النِّسْبَةَ إِلَى الْجَوْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَيُسْتَتَابُ وَيُعَزَّرُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ، أَوْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ هُوَ بِقُرَشِيٍّ، فَهُوَ كُفْرٌ ; لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ نَفْيٌ لَهُ وَتَكْذِيبٌ بِهِ، وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى أَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، أَوْ أَنَّهُ يَبْلُغُ بِصَفَاءِ الْقَلْبِ إِلَى مَرْتَبَتِهَا، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ النُّبُوَّةَ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَيُعَانِقُ الْحُورَ، فَهُوَ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ قَطْعًا، وَأَنَّ مَنْ دَافَعَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الْإِسْلَامِ كَالنَّصَارَى، أَوْ شَكَّ فِي تَكْفِيرِهِمْ، أَوْ صَحَّحَ مَذْهَبَهُمْ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ أَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِسْلَامَ وَاعْتَقَدَهُ، وَكَذَا يَقْطَعُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ قَائِلٍ قَوْلًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ، أَوْ تَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ، وَكَذَا

(10/70)


مَنْ فَعَلَ فِعْلًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ مَعَ فِعْلِهِ، كَالسُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوِ النَّارِ وَالْمَشْيِ إِلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنَ الزُّنَّانِيرِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا مَنْ أَنْكَرَ مَكَّةَ، أَوِ الْبَيْتَ، أَوِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، أَوْ صِفَةَ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي أَنَّ هَذِهِ الْمُسَمَّاةَ بِمَكَّةَ هِيَ مَكَّةُ أَمْ غَيْرُهَا، فَكُلُّ هَذَا أَوْ شَبَهُهُ لَا شَكَّ فِي تَكْفِيرِ قَائِلِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ عِلْمُ ذَلِكَ، وَمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلَامٍ، أَوْ بِمُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ، عَرَّفْنَاهُ ذَلِكَ، وَلَا يُعْذَرُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ، وَكَذَا مَنْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ بِمُعْجِزٍ، أَوْ قَالَ: لَيْسَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَالَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْبَعْثَ أَوِ الْحِسَابَ، أَوِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَالَ: الْأَئِمَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

الطَّرَفُ الثَّانِي فِيمَنْ تَصِحُّ رِدَّتُهُ وَشَرْطُهَا التَّكْلِيفُ.
فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَمَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ جُنَّ لَا يُقْتَلُ فِي جُنُونِهِ، وَكَذَا مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ جُنَّ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ، أَوْ حَدِّ قَذْفٍ ثُمَّ جُنَّ، فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي جُنُونِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِزِنَاهُ، ثُمَّ جُنَّ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: هَذَا كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ، فَلَوْ قُتِلَ فِي حَالِ الْجُنُونُ، أَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَمَاتَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، وَتَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ فِي طَلَاقِهِ، فَإِنْ صَحَّحْنَاهَا، فَارْتَدَّ فِي سُكْرِهِ، أَوْ أَقَرَّ بِالرِّدَّةِ، وَجَبَ الْقَتْلُ، لَكِنْ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يَفِيقَ فَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَفِي صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ فِي السُّكْرِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَغَوِيُّ،

(10/71)


أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤَخَّرَ إِلَى الْإِفَاقَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ ; لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَزُولُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ، وَلَوْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي السُّكْرِ، صَحَّ إِسْلَامُهُ، وَارْتَفَعَ حُكْمُ الرِّدَّةِ، وَسَبَقَ ذِكْرُ طَرِيقِ أَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُ السَّكْرَانِ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَالِهِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ صَحَّحْنَا إِسْلَامَهُ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ فِي إِهْدَارِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا تَصِحُّ رِدَّةُ السَّكْرَانِ، فَقُتِلَ تَعَلَّقَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ وَالضَّمَانُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ: تَجِبُ الدِّيَةُ دُونَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَلَوِ ارْتَدَّ صَاحِيًا، ثُمَّ سَكِرَ فَأَسْلَمَ، حَكَى ابْنُ كَجٍّ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا، وَالْقِيَاسُ جَعْلُهُ عَلَى الْخِلَافِ.

فَصْلٌ
الْمُؤْمِنُ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهَا، لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، فَلَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ، وَلَوْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَسَبَقَ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ بِالْإِكْرَاهِ، وَأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِهَا، وَهَلْ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مُطْلَقًا، أَمْ لَا تُقْبَلُ حَتَّى يُفْصَلَ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُوجِبُهَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِرِدَّتِهِ فَقَالَ: كَذَبَا، أَوْ مَا ارْتَدَدْتُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَا يُغْنِيهِ التَّكْذِيبُ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا، وَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِي بَيْنُونَةِ زَوْجَتِهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ شَرَطْنَا التَّفْصِيلَ، فَفَصَّلَا، وَكَذَّبَهُمَا، فَلَوْ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا فِيمَا فَعَلْتُهُ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ تَشْهَدُ لَهُ، بِأَنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْكُفَّارِ، أَوْ كَانَ مَحْفُوفًا بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، قَالَ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِإِقْرَارِهِ بِالْبَيْعِ

(10/72)


وَغَيْرِهِ وَكَانَ مُقَيَّدًا أَوْ مَحْبُوسًا، فَقَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، وَإِنْ لَمْ تَشْهَدِ الْقَرَائِنُ بِصِدْقِهِ، بِأَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مُخْلًى آمِنٌ، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الشَّاهِدَانِ: ارْتَدَّ، بَلْ قَالَا: تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَقَالَ: صَدَقَا، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ مُكْرَهًا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَتَابَعُوهُ عَلَيْهِ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبُ الشَّاهِدِ بِخِلَافِ مَا إِذَا شَهِدَ بِالرِّدَّةِ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي الرِّدَّةَ وَلَا يُنَافِي التَّلَفُّظَ بِكَلِمَتِهَا، قَالَ الشَّيْخُ: وَالْجَزْمُ أَنْ يُجَدِّدَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، فَلَوْ قُتِلَ قَبْلَ التَّجْدِيدِ، فَهَلْ يَكُونُ قَتْلُهُ مَضْمُونًا ; لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَثْبُتْ أَمْ لَا ; لِأَنَّ لَفْظَ الرِّدَّةِ وُجِدَ وَالْأَصْلُ الِاخْتِيَارُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ قَالَ الْإِمَامُ: وَالْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَدَّعِ الْإِكْرَاهَ، أَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ادَّعَاهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْإِكْرَاهُ بِالْحُجَّةِ، فَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ مَضْمُونٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِرِدَّةِ الْأَسِيرِ، وَلَمْ يَدَّعِ إِكْرَاهًا، حُكِمَ بِرِدَّتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حُكِيَ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَوِ ارْتَدَّ أَسِيرٌ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ أَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَاطَّلَعَ مِنَ الْحِصْنِ وَقَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ وَإِنَّمَا تَشَبَّهْتُ بِهِمْ خَوْفًا، قُبِلَ قَوْلُهُ وَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ارْتَدَّ طَائِعًا، وَإِنْ مَاتَ أَسِيرًا، وَعَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِتَلَفُّظِ رَجُلٍ بِالْكُفْرِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ مُقَيَّدٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّاهِدَانِ لِلْإِكْرَاهِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» أَنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَ يَسْجُدُ لِلصَّنَمِ، وَيَتَكَلَّمُ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ مُكْرَهًا، فَإِنْ فَعَلَهُ فِي مَكَانٍ خَالٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قُبِلَ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ أَسِيرًا، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا، فَلَا.
فَرْعٌ
مَاتَ مَعْرُوفٌ بِالْإِسْلَامِ عَنِ ابْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَاتَ

(10/73)


مُسْلِمًا، وَقَالَ الْآخَرُ: كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَمَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبَهُ، فَقَالَ: سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَفَرَ بِهِ، فَلَا إِرْثَ لَهُ، وَيُصْرَفُ نَصِيبُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَحَدُهَا: يُصْرَفُ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ وَلَا أَثَرَ لِإِقْرَارِهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كُفْرًا، وَالثَّانِي: يُجْعَلُ فَيْئًا، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: يَسْتَفْصِلُ، فَإِنْ ذَكَرَ مَا هُوَ كُفْرٌ، كَانَ فَيْئًا، وَإِنْ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ، صُرِفَ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: مَاتَ كَافِرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُ الْخِنْزِيرَ، فَهَلْ يَرِثُهُ؟ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: نَعَمْ.
فَرْعٌ
تَلَفَّظَ أَسِيرٌ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ مُكْرَهًا، لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، فَإِنْ مَاتَ هُنَاكَ، مَاتَ مُسْلِمًا وَوَرِثَهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، عُرِضَ عَلَيْهِ الدِّينُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَتَى بِهِ، وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: أَطْلَقَ الْجُمْهُورُ الْعَرْضَ، وَشَرَطَ لَهُ ابْنُ كَجٍّ أَنْ لَا يَؤُمَّ الْجَمَاعَاتِ وَلَا يُقْبِلَ عَلَى الطَّاعَاتِ بَعْدَ الْعَوْدِ إِلَيْنَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا عَرْضَ.
الثَّانِي: سَكَتَ الْجُمْهُورُ عَنْ كَوْنِ هَذَا الْعَرْضِ مُسْتَحَبًّا أَمْ وَاجِبًا، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ.
الثَّالِثُ: إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ الْعَرْضِ، فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيُسْتَدَلُّ بِامْتِنَاعِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا عِنْدَ التَّلَفُّظِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ بِكُفْرِهِ مِنْ يَوْمئِذٍ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِي الْحُكْمِ بِكُفْرِهِ احْتِمَالٌ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَرْضِ وَالتَّلَفُّظِ بِالْإِسْلَامِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْنَا، وَقِيلَ: يَمُوتُ كَافِرًا وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ إِذَا جَاءَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.
فَرْعٌ
ارْتَدَّ الْأَسِيرُ مُخْتَارًا ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ،

(10/74)


فَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ; لِأَنَّهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَكُونُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَدْ تَكُونُ لِلتَّقِيَّةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هِيَ إِسْلَامٌ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ وَقَالَ: الْوَجْهُ فِي قِيَاسِ الْمُرَاوَزَةِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ إِسْلَامًا، كَمَا لَوْ رَأَيْنَا الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ يُصَلِّي فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَسَوَّى صَاحِبُ «الْبَيَانِ» بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَقَالَ: إِذَا صَلَّى الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَلَوْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يُحْكَمْ بِهِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ صَاحِبِ «الْبَيَانِ» هُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَةُ الرَّافِعِيِّ لَهُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي، فَحَكَاهُ هُنَاكَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِسْلَامًا مِنَ الْأَصْلِيِّ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ; لِأَنَّ عَلَقَةَ الْإِسْلَامِ بَاقِيَةٌ فِي الْمُرْتَدِّ، فَصَلَاتُهُ عَوْدٌ مِنْهُ إِلَى مَا كَانَ، ثُمَّ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا وَإِمَامًا وَمُقْتَدِيًا، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ التَّشَهُّدُ فِيهَا، فَإِنْ سَمِعْنَاهُ، فَهُوَ مُسْلِمٌ حَيْثُ مَا كَانَ، وَأَيُّ كَافِرٍ كَانَ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَذَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الرِّدَّةِ
أَحْكَامُهَا كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْأَبْوَابِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا نَفْسُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ، أَمَّا نَفْسُهُ فَمُهْدَرَةٌ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، سَوَاءٌ انْتَقَلَ إِلَى دِينِ أَهْلِ كِتَابٍ أَمْ لَا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَإِسْلَامُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَارْتَدَّ، أَوْ كَافِرًا أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكُفْرُ الَّذِي ارْتَدَّ إِلَيْهِ كُفْرًا ظَاهِرًا، أَوْ غَيْرَهُ كَكُفْرِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ظَاهِرَ الْكُفْرِ، أَوْ زِنْدِيقًا يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَالْإِسْلَامُ، أَمْ لَا،

(10/75)


فَيُقْبَلُ إِسْلَامُ الزِّنْدِيقِ وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَغَيْرُهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ إِسْلَامُ الزِّنْدِيقِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْحِلْيَةِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا، وَالثَّالِثُ عَنِ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ: أَنَّ الْمُتَنَاهِينَ فِي الْخُبْثِ، كَدُعَاةِ الْبَاطِنِيَّةِ، لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ وَرُجُوعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُقْبَلُ مِنْ عَوَامِّهِمْ، وَالرَّابِعُ عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: أَنَّهُ إِنْ أُخِذَ لِيُقْتَلَ، فَتَابَ، لَمْ تُقْبَلْ، وَإِنْ جَاءَ تَائِبًا ابْتِدَاءً، وَظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الصِّدْقِ، قُبِلَتْ، وَالْخَامِسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يُقْبَلُ إِسْلَامُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَعَلَى الصَّحِيحِ إِذَا تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ عُزِّرَ.
وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِضَرْبِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْإِحْرَاقِ وَغَيْرِهِ، وَيَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ عُزِّرَ، وَيُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ قَتْلِهِ، وَهَلِ الِاسْتِتَابَةُ وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا: وَاجِبَةٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فِي قَدْرِهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَظْهَرُهُمَا: فِي الْحَالِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَمْ يُمْهَلْ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ الْإِمْهَالُ ثَلَاثًا قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْتِحْبَابِهِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُخَلَّى فِي مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، بَلْ يُحْبَسُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ، أَوْ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِمْهَالِ، لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسِيئًا بِفِعْلِهِ.
فَرْعٌ
إِذَا وَجَبَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ إِمَّا فِي الْحَالِ، وَإِمَّا بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ، فَقَالَ: عَرَضَتْ لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لِأَعُودَ إِلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ نُنَاظِرُهُ لِإِزَالَتِهَا وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى السَّيْفِ، وَالثَّانِي: لَا ; لِأَنَّ الشُّبَهَ لَا تَنْحَصِرُ، فَيُورِدُ بَعْضَهَا بِإِثْرِ بَعْضٍ فَتَطُولُ الْمُدَّةُ، فَحَقُّهُ أَنْ يُسْلِمَ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ، وَحَكَى

(10/76)


الرُّويَانِيُّ الثَّانِي عَنِ النَّصِّ، وَاسْتَبْعَدَ الْخِلَافَ، وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنَا جَائِعٌ فَأَطْعِمُونِي، ثُمَّ نَاظِرُونِي، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهُ، أَخَّرْنَاهُ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْمُرْتَدِّ بِحَالٍ، سَوَاءٌ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
فَصْلٌ
أَمَّا وَلَدُ الْمُرْتَدِّ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا، أَوِ انْعَقَدَ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَمُسْلِمٌ، حَتَّى لَوِ ارْتَدَّتْ حَامِلٌ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّةِ الْوَلَدِ، فَإِنْ بَلَغَ وَأَعْرَبَ بِالْكُفْرِ، كَانَ مُرْتَدًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنْ حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا، فَهُوَ مُسْلِمٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَا مُرْتَدَّيْنِ، فَهَلْ هُوَ مُسْلِمٌ، أَمْ مُرْتَدٌّ، أَمْ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: مُسْلِمٍ.
قُلْتُ: كَذَا صَحَّحَهُ الْبَغَوِيُّ، فَتَابَعَهُ الرَّافِعِيُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَبِهِ قَطَعَ جَمِيعُ الْعِرَاقِيِّينَ، نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ «الْمُجَرَّدِ» أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ كَافِرٌ أَصْلِيٌّ أَمْ مُرْتَدٌّ، وَالْأَظْهَرُ: مُرْتَدٌّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْلِمٌ، لَا يُسْتَرَقَّ بِحَالٍ، وَإِنْ مَاتَ صَغِيرًا وَرِثَهُ قَرَابَتُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ إِنْ كَانَ رَقِيقًا، وَإِنْ بَلَغَ وَأَعْرَبَ بِالْكُفْرِ، فَمُرْتَدٌّ، وَإِنْ قُلْنَا: كَافِرٌ أَصْلِيٌّ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَيَجُوزُ عَقْدُ الْجِزْيَةِ مَعَهُ إِذَا بَلَغَ وَهُوَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِي كُلِّ مَعْنًى، وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَقْدُ جِزْيَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كِتَابِيًّا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُرْتَدٌّ، لَمْ يُسْتَرَقَّ بِحَالٍ، وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُسْتَتَابَ، فَإِنْ أَصَرَّ، قُتِلَ، وَأَوْلَادُهُ أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَوْلَادِ الْمُرْتَدِّينَ.

(10/77)


قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: لَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُرْتَدًّا وَالْآخَرُ كَافِرًا أَصْلِيًّا، فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا كَانَا مُرْتَدَّيْنِ يَكُونُ الْوَلَدُ مُسْلِمًا، كَانَ هُنَا مُسْلِمًا أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: يَكُونُ هُنَاكَ مُرْتَدًّا أَوْ كَافِرًا أَصْلِيًّا، كَانَ هُنَا كَافِرًا أَصْلِيًّا، يُقِرُّ بِالْجِزْيَةِ إِنْ كَانَ الْأَصْلِيُّ مِمَّنْ يُقَرِّبُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَجُوسِيًّا وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلِيُّ كِتَابِيًّا، كَانَ الْوَلَدُ كِتَابِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إِذَا نَقَضَ الْعَهْدَ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَتَرَكَ وَلَدَهُ عِنْدَنَا، لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ، فَإِذَا بَلَغَ وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ وَيُلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ، وَفِي وَجْهٍ: يُسْتَرَقُّ وَلَدُهُ بِلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَفِي وَجْهٍ: إِنْ هَلَكَ هُنَاكَ، أَوِ اسْتُرِقَّ، اسْتُرِقَّ وَلَدُهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَالُهُ، فَهَلْ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: نَعَمْ لِزَوَالِ عِصْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: لَا، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَأَظْهَرُهَا: مَوْقُوفٌ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، بَانَ زَوَالُهُ بِالرِّدَّةِ، وَإِنْ أَسْلَمَ، بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ; لِأَنَّ بُطْلَانَ أَعْمَالِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَوْتِهِ مُرْتَدًّا، فَكَذَا مِلْكُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِاسْتِمْرَارِ مِلْكِهِ، وَجُعِلَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ بِالرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ، وَالْخِلَافُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ يَجْرِي فِي ابْتِدَاءِ التَّمَلُّكِ إِذَا اصْطَادَ أَوِ احْتَطَبَ، فَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ، قَالَ الْإِمَامُ: ظَاهِرُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ فِيمَا اصْطَادَ وَاحْتَطَبَ، كَمَا يَحْصُلُ مِلْكُ السَّيِّدِ فِيمَا احْتَطَبَ الْعَبْدُ، قَالَ: وَلْيَكُنْ شِرَاؤُهُ وَاتِّهَابُهُ، كَشِرَاءِ الْعَبْدِ وَاتِّهَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، حَتَّى يَجِيءَ الْخِلَافُ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا إِذَا اصْطَادَ الْمُحْرِمُ لَا يَمْلِكُهُ، وَيَبْقَى الصَّيْدُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْقَى مِلْكُ الْمُرْتَدِّ فِيمَا احْتَطَبَهُ، أَوِ اصْطَادَهُ

(10/78)


مِلْكَهُ كَالْحَرْبِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا: مَوْقُوفٌ، فَمَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَانَ أَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ يَوْمِ الْأَخْذِ، وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، قَالَ الْمُتَوَلِّيَ: حُكِمَ بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، تُقْضَى مِنْ مَالِهِ دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَزِيدُ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَدْ تَكُونُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ مِنَ الدَّيْنِ اللَّازِمِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، وَلَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا تُقْضَى دُيُونُهُ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَيُجْعَلُ الْمَالُ كَالتَّالِفِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا فِي مُدَّةِ الرِّدَّةِ، فَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ كَحَاجَةِ الْمَيِّتِ إِلَى الْكَفَنِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ، أَنَّهُ لَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ، بَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ الِاسْتِتَابَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وَهَلْ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ زَوْجَاتِهِ الْمَوْقُوفِ نِكَاحُهُنَّ، وَنَفَقَةٌ قَرِيبَةٌ، وَغَرَامَةُ مَا يُتْلِفُهُ مِنَ الرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِ زَوَالِ الْمِلْكِ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ وَالْإِصْطَخْرِيِّ: لَا، وَاخْتَارَهُ الْمُتَوَلِّي، إِذْ لَا مِلْكَ لَهُ وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرَ عُدْوَانٍ، وَمَاتَ، وَحَصَلَ بِهَا إِتْلَافٌ، يُؤْخَذُ الضَّمَانُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْمَوْتِ.
فَرْعٌ
إِذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، فَأَسْلَمَ، عَادَ مِلْكُهُ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّ إِزَالَةَ مِلْكِهِ عُقُوبَةٌ، فَعَادَ بِالتَّوْبَةِ.
فَرْعٌ
إِذَا قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِعْتَاقٍ وَوَصِيَّةٍ وَغَيْرِهَا ; لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَفِي الشِّرَاءِ مَا سَبَقَ عَنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَبْقَى مِلْكُهُ، مُنِعَ مِنَ التَّصَرُّفِ، نَظَرًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ:

(10/79)


قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ، وَخُصَّ الْخِلَافُ بِقَوْلِنَا: مِلْكُهُ مَوْقُوفٌ، ثُمَّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، هَلْ هُوَ كَحَجْرِ السَّفِيهِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ أَمْ كَحَجْرِ الْمُفْلِسِ ; لِأَنَّهُ لِصِيَانَةِ حَقِّ غَيْرِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، فَإِنْ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي، وَلَمْ يُضْرَبْ نَفَذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: يَحْصُلُ الْحَجْرُ بِلَا ضَرْبٍ أَوْ بِالضَّرْبِ فَضُرِبَ، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَحَجْرِ السَّفَهِ، لَمْ يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ فِي الْحَالِ فِي الْمَالِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ، لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَمُفْلِسٍ، فَهَلْ تَبْطُلُ تَصَرُّفَاتُهُ أَمْ تُوقَفُ؟ قَوْلَانِ كَمَا فِي الْمُفْلِسِ، وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ وَبِالْعَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمُفْلِسِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ، كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ، مَوْقُوفٌ أَيْضًا، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْكِتَابَةُ وَنَحْوُهَا، فَهِيَ عَلَى قَوْلِي وَقْفُ الْعُقُودِ، فَعَلَى الْجَدِيدِ هِيَ بَاطِلَةٌ، وَعَلَى الْقَدِيمِ تُوقَفُ، إِنْ أَسْلَمَ حُكِمَ بِصِحَّتِهَا، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ وَلَا إِنْكَاحُهُ، لِسُقُوطِ وِلَايَتِهِ، وَحَكَى الْبَغَوِيُّ عَلَى قَوْلِنَا: لَا يَزُولُ مِلْكُهُ وَجْهًا أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْوِيجُ أَمَتِهِ إِذَا لَمْ يَحْجُرِ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، كَسَائِرِ تَصَرُّفِهِ الْمَالِيِّ، قَالَ: وَهَذَا غَيْرُ قَوِيٍّ، وَقَطَعَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ بِهَذَا.
فَرْعٌ
عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا لَا يَعْتِقُ بِالرِّدَّةِ مُدَبَّرُ الْمُرْتَدِّ، وَلَا أُمُّ وَلَدِهِ، فَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا، عَتِقَتِ الْمُسْتَوْلَدَةُ، وَفِي الْمُدَبَّرِ كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ
سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ الْتَحَقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَمْ كَانَ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ، وَعَلَى الْأَقْوَالِ يُوضَعُ مَالُ مُرْتَدٍّ عِنْدَ عَدْلٍ، وَأَمَتُهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ; لِأَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِهِ، فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ، فَيُحْتَاطُ، وَيُؤَجَّرُ عَقَارُهُ وَرَقِيقُهُ وَأُمُّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرُهُ، وَيُؤَدِّي مُكَاتَبُهُ النُّجُومَ إِلَى

(10/80)


الْحَاكِمِ، وَإِذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَرَأَى الْحَاكِمُ الْحَظَّ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ، فَعَلَ، وَإِذَا ارْتَدَّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَإِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ، حَلَّ الدَّيْنُ كَمَا لَوْ مَاتَ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَزُولُ، لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْوَقْفِ، فَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ، وَإِذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ، نَفَذَ الِاسْتِيلَاءُ إِنْ أَبْقَيْنَا مِلْكَهُ، وَإِنْ أَزَلْنَاهُ فَلَا، فَإِنْ أَسْلَمَ، فَقَوْلَانِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَدَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، وَقُلْنَا: الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، فَتَمَّ الْبَيْعُ.
فَصْلٌ
إِذَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ، وَامْتَنَعُوا بِحِصْنٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَيُقَدَّمُ عَلَى قِتَالِ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ، وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُتْبَعُ فِي الْقِتَالِ مُدْبِرُهُمْ، وَيُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَمَنْ ظَفِرْنَا بِهِ، اسْتَتَبْنَاهُ، وَهَلْ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فِي الْقِتَالِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ، وَإِذَا أَتْلَفَ الْمُرْتَدُّ فِي غَيْرِ الْقِتَالِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَالْقِصَاصُ، وَيُقَدَّمُ الْقِصَاصُ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ بَادَرَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ عَنِ الرِّدَّةِ، أَوْ عَفَا الْمُسْتَحِقُّ، أَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ، أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ جَنَى خَطَأً وَمَاتَ، أَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا، أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ عَاجِلًا، وَلَوْ وُطِئَتْ مُرْتَدَّةٌ بِشُبْهَةٍ أَوْ مُكْرَهَةً، فَإِنْ قُلْنَا: الرِّدَّةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ، فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ وُطِئَتْ زَانِيَةٌ مُحْصَنَةٌ بِشُبْهَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُطِئَتْ حَرْبِيَّةٌ بِشُبْهَةٍ، فَلَا مَهْرَ ; لِأَنَّ مَالَهَا غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَكَذَا مَنْفَعَةُ بُضَعِهَا، وَمَالُ الْمُرْتَدَّةِ مَضْمُونٌ، وَإِنْ قُلْنَا: يَزُولُ مِلْكُهَا، لَمْ يَجِبْ، كَمَا لَوْ وَطِئَ مَيِّتَةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا حَيَّةٌ بِشُبْهَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ، فَالْمَهْرُ مَوْقُوفٌ، وَلَوْ أُكْرِهَ مُرْتَدٌّ عَلَى عَمَلٍ، فَالْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ مِثْلِهِ كَمَا فِي الْمَهْرِ، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَسَمَّى أُجْرَةً، بُنِيَ عَلَى صِحَّةِ عُقُودِهِ، وَحُكْمُ الْمُسَمَّى إِنْ صَحَّحْنَا

(10/81)


عُقُودَهُ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ إِنْ لَمْ نُصَحِّحْهَا حُكْمَ الْمَهْرِ، وَلَوْ زَنَى فِي رِدَّتِهِ، أَوْ شَرِبَ، فَهَلْ يَكْفِي قَتْلُهُ، أَمْ يُحَدُّ ثُمَّ يُقْتَلُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

فَصْلٌ
فِيمَا تَحْصُلُ بِهِ تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَفِي مَعْنَاهَا إِسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ.
وَقَدْ وَصَفَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَوْبَتَهُ فَقَالَ: أَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ، صَارَ مُسْلِمًا، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ قَوْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، بَلْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْكُفَّارِ وَعَقَائِدِهِمْ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ كَانَ الْكَافِرُ وَثَنِيًّا أَوْ ثَنَوِيًّا لَا يُقِرُّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَإِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْوَحْدَانِيَّةِ، مُنْكِرًا نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ: الرِّسَالَةُ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَقُولَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، أَوْ يَبْرَأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ بِجُحُودِ فَرْضٍ أَوِ اسْتِبَاحَةِ مُحَرَّمٍ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَرْجِعَ عَمَّا اعْتَقَدَهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُمْتَحَنَ كُلُّ كَافِرٍ أَسْلَمَ بِالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ: أَنَا وَلِيُّ مُحَمَّدٍ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ كَذَا وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِثْلُكُمْ، أَوْ مُسْلِمٌ أَوْ آمَنْتُ، أَوْ أَسْلَمْتُ، لَمْ يَصِحَّ إِسْلَامُهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ دِينُكُمْ حَقٌّ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ عَلَى خِلَافِ عَقِيدَتِهِ، كَفَرْضِيَّةِ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ، أَوْ أَقَرَّ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَمَا يَصِيرُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَافِرًا إِذَا جَحَدَهُ، يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسَلَّمًا إِذَا أَقَرَّ بِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ

(10/82)


سَائِرِ الْأَحْكَامِ، فَإِنِ امْتَنَعَ، قُتِلَ كَالْمُرْتَدِّ، وَلَوْ أَقَرَّ يَهُودِيٌّ بِرِسَالَةِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي قَوْلٍ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ جَحَدَ رِسَالَتَهُ، كَفَرَ، نَقَلَ هَذَا كُلَّهُ الْبَغَوِيُّ وَهُوَ طَرِيقَةٌ، ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ أَنَّ الْإِمَامَ نَسَبهَا إِلَى الْمُحَقِّقِينَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافُهَا.

فَرْعٌ
فِي «الْمِنْهَاجِ» لِلْإِمَامِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ غَيْرُ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ سِوَى اللَّهِ، أَوْ مَا عَدَا اللَّهَ، أَوْ مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ، أَوْ لَا رَحْمَنَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا الْبَارِئُ، أَوْ لَا بَارِئَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَحْمَدُ أَوْ أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ كَافِرٌ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، نُظِرَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى دِينٍ قَبْلَ ذَلِكَ، صَارَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَقُولَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْتُ بِمَا كُنْتُ أُشْرِكُ بِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَوْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لِكَافِرٍ: أَسْلِمْ لِلَّهِ، أَوْ آمِنْ بِاللَّهِ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ أَوْ آمَنْتُ، يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَوْ أُسْلِمُ لِلَّهِ، فَهُوَ إِيمَانٌ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، يَمِينٌ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَعْدِ إِلَّا أَنْ يُرِيدَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: اللَّهُ رَبِّي، أَوِ اللَّهُ خَالِقِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دِينٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ إِيمَانٌ، وَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِقِدَمِ شَيْءٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ: لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ الْمُشَبِّهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ التَّشْبِيهِ وَيُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَإِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

(10/83)


جَاءَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنَ التَّشْبِيهِ، وَطَرْدِ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيمَا إِذَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ قِدَمَ أَشْيَاءَ مَعَ اللَّهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَنْفِي ذَلِكَ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الثَّنَوِيَّ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنَ الْقَوْلِ بِقِدَمِ الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ أَنْ لَا قَدِيمَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّ الْوَثَنِيَّ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَثَنَ شَرِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، صَارَ مُؤْمِنًا.
وَإِنْ كَانَ يَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ وَيُعَظِّمُ الْوَثَنَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الْوَثَنِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبُرْهُمِيُّ وَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْجَاحِدُ لِلرُّسُلِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، صَارَ مُؤْمِنًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِرِسَالَةِ نَبِيٍّ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَيَجِيءُ فِيهِ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ فِي يَهُودِيٍّ أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْمُعَطِّلَ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدْ قِيلَ يَكُونُ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمُرْسَلَ وَإِنَّ الْكَافِرَ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، صَارَ مُؤْمِنًا.
وَلَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، أَوْ بِمَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ الْوَثَنَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ، كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ لِإِثْبَاتِهِ الْإِلَهَ، وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُولَ: بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، أَوْ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، إِيمَانٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ: آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ الرَّسُولِ، لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالرَّسُولَ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّ الْفَلْسَفِيَّ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلَّةُ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ مُبْدِؤُهَا أَوْ سَبَبُهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِيمَانًا حَتَّى يُقِرَّ أَنَّهُ مُخْتَرِعٌ لِمَا سِوَاهُ وَمُحْدِثُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ

(10/84)


إِلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، فَإِنْ لَمْ يَكُ مِنَ الطَّبَائِعِيِّينَ كَانَ مُؤْمِنًا، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ، فَلَا حَتَّى يَقُولَ: إِلَّا اللَّهُ، أَوْ إِلَّا الْبَارِيُ، أَوِ اسْمًا آخَرَ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ فِيهِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمَالِكُ، أَوِ الرَّازِقُ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ السُّلْطَانَ الَّذِي يَمْلِكُ أَمْرَ الْجُنْدِ وَيُرَتِّبُ أَرْزَاقَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: لَا مَالِكَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ لَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، كَانَ مُؤْمِنًا، وَبِمَثَلِهِ أَجَابَ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَزِيزُ، أَوِ الْعَظِيمُ، أَوِ الْحَكِيمُ، أَوِ الْكَرِيمُ، وَبِالْعُكُوسِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، أَوْ إِلَّا مَلِكُ السَّمَاءِ، كَانَ مُؤْمِنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
وَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا سَاكِنُ السَّمَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ السُّكُونَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ إِنْ شَاءَ، أَوْ إِنْ كَانَ شَاءَ بِنَا، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْيَهُودِيَّ: أَنَا بَرِئٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، أَوْ نَصَرَانِيٌّ: أَنَا بَرِيءٌ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ ضِدُّ الْيَهُودِيَّةِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ تُخَالِفُ الْإِسْلَامَ، فَلَيْسَ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّعْطِيلَ ; لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ وَلَيْسَ بِمِلَّةٍ، فَإِنْ قَالَ: مِنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ مِنْ دِينٍ وَرَأْيٍ وَهَوًى، كَانَ مُؤْمِنًا، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ; لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالْحَقِّ وَلَا يَنْقَادُ لَهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا حَكَيْنَا عَنِ الْبَغَوِيِّ فِي قَوْلِهِ: دِينُكُمْ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِمُعْتَقِدِ مِلَّةٍ: أَسْلِمْ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ، لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُسَمِّي دِينَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ إِسْلَامًا، وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ: أَنَا مُسْلِمٌ مِثْلُكُمْ، كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ، وَلَوْ قِيلَ لِمُعَطِّلٍ: أَسْلِمْ، فَقَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ، أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ مُقِرًّا بِالْإِسْلَامِ ; لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ يُسَمِّيهِ إِسْلَامًا، وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِي هَذَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(10/85)