مختصر المزني في فروع الشافعية ط المعرفة

[بَابُ الرَّهْنِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : أَذِنَ اللَّهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - بِالرَّهْنِ فِي الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ حَقٌّ فَكَذَلِكَ كُلُّ حَقٍّ لَزِمَ فِي حِينِ الرَّهْنِ وَمَا تَقَدَّمَ الرَّهْنُ، وَقَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] (قَالَ) : وَلَا مَعْنَى لِلرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ حِينَ رَهَنَ وَحِينَ أَقْبَضَ وَمَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَقَبْضُهُ مِنْ مُشَاعٍ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إلَى وَارِثِهِ وَمَنْعُهُ وَلَوْ قَالَ أَرْهَنُك دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي فَدَايَنَهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَعْقِدَ الرَّهْنَ مَعَ الْحَقِّ أَوْ بَعْدَهُ.
(قَالَ) : حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَعَهُ أَوْ

(8/191)


بَعْدَهُ فَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا رَهْنَ قَالَ: وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ الْحَاكِمِ وَوَلِيُّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَهُ وَرَهْنُهُمَا عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ لَهُ وَذَلِكَ أَنْ يَبِيعَا وَيَفْضُلَا وَيَرْتَهِنَا فَأَمَّا أَنْ يُسَلِّفَا وَيَرْتَهِنَا فَهُمَا ضَامِنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ فِي السَّلَفِ يَعْنِي الْقَرْضَ وَمَنْ قُلْت لَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ إلَّا فِيمَا يَفْضُلُ مِنْ وَلِيٍّ لِيَتِيمٍ أَوْ أَبٍ لِابْنٍ طِفْلٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ وَالدَّيْنَ لَازِمٌ.
(قَالَ) : فَالرَّهْنُ نَقْصٌ عَلَيْهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنُوا إلَّا حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يُودِعُوا أَمْوَالَهُمْ مِنْ الضَّرُورَةِ بِالْخَوْفِ إلَى تَحْوِيلِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لِابْنِهِ الطِّفْلِ عَلَيْهِ حَقٌّ جَازَ أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ لَهُ، وَإِذَا قَبَضَ الرَّهْنَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إخْرَاجُهُ مِنْ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ. وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخْ الرَّهْنُ وَلَوْ رَهَنَهُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ وَأَذِنَ لَهُ بِقَبْضِهِ فَجَاءَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَهُ فِيهَا فَهُوَ قَبْضٌ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ وَدِيعَةً غَيْرُ قَبْضِهِ رَهْنًا.
(قَالَ) : وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْوَدِيعَةِ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَكُنْ قَبْضًا حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ فِيهِ وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ إلَّا مَا حَضَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ لَا حَائِلَ دُونَهُ.

وَالْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ جَائِزٌ إلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِي مِثْلِهِ فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُرْتَهِنَ أَنَّهُ قَبَضَ مَا كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِهِ أَحَلَفْتَهُ وَالْقَبْضُ فِي الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَمَا يَحُولُ أَنْ يَأْخُذَهُ مُرْتَهِنُهُ مِنْ يَدَيْ رَاهِنِهِ، وَقَبَضَ مَا لَا يَحُولُ مِنْ أَرْضٍ وَدَارٍ أَنْ يُسَلَّمَ لَا حَائِلَ دُونَهُ وَكَذَلِكَ الشِّقْصُ وَشِقْصُ السَّيْفِ أَنْ يَحُولَ حَتَّى يَضَعَهُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ يَدَيْ الشَّرِيكِ.

وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ بِغَصْبٍ لِلرَّاهِنِ فَرَهَنَهُ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ كَانَ رَهْنًا وَكَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ يُبْرِئَهُ مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا يُشْبِهُ أَصْلَ قَوْلِهِ إذَا جَعَلَ قَبْضَ الْغَصْبِ فِي الرَّهْنِ جَائِزًا كَمَا جَعَلَ قَبْضَهُ فِي الْبَيْعِ جَائِزًا أَنْ لَا يَجْعَلَ الْغَاصِبَ فِي الرَّهْنِ ضَامِنًا إذْ الرَّهْنُ عِنْدَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ رَهَنَهُ دَارَيْنِ فَقَبَضَ إحْدَاهُمَا وَلَمْ يَقْبِضْ الْأُخْرَى كَانَتْ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا دُونَ الْأُخْرَى بِجَمِيعِ الْحَقِّ وَلَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ بَعْدَ الْقَبْضِ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا، وَمَا سَقَطَ مِنْ خَشَبِهَا أَوْ طُوبِهَا يَعْنِي الْآجُرَّ.

وَلَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَقَرَّ بِهِ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ الرَّهْنِ وَلَوْ اغْتَصَبَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَوَطِئَهَا فَهِيَ بِحَالِهَا فَإِنْ افْتَضَّهَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا أَوْ قِصَاصًا مِنْ الْحَقِّ فَإِنْ أَحْبَلَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا لَمْ تُبَعْ مَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَلَدَتْ بِيعَتْ دُونَ وَلَدِهَا وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تَكُونُ رَهْنًا أَوْ قِصَاصًا مِنْ الْحَقِّ.
(قَالَ) : وَلَا يَكُونُ إحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا وَلَا مَالَ لَهُ فَأُبْطِلَ الْعِتْقَ وَتُبَاعُ (قَالَ الْمُزَنِيّ) : يَعْنِي إذَا كَانَ مُعْسِرًا.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا وَالْحَقُّ مِائَةٌ بِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْمِائَةِ وَالْبَاقِي لِسَيِّدِهَا وَلَا تُوطَأُ وَتُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: قَدْ قَطَعَ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ.
(قَالَ) : وَفِي الْأُمِّ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ بِيعَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا وَصَفْت ثُمَّ مَلَكَهَا سَيِّدُهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ بِذَلِكَ الْوَلَدِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت: أَنَا أُشَبِّهُ بِقَوْلِ أَنْ لَا تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْعَقْدَ إذَا لَمْ يَجُزْ فِي وَقْتِهِ لَمْ يَجُزْ بَعْدَهُ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَالَ لَا يَكُونُ إحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا.
(قَالَ) : وَلَوْ أَعْتَقَهَا أَبْطَلْتُ عِتْقَهَا.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا فَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَهَا مَنْ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ فِيهَا فَهِيَ رَقِيقٌ بِحَالِهَا فَكَيْفَ تُعْتَقُ أَوْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ بِحَادِثٍ مِنْ شِرَاءٍ وَهِيَ فِي مَعْنَى مَنْ أَعْتَقَهَا مَحْجُورٌ ثُمَّ أُطْلِقَ عَنْهُ الْحَجْرُ فَهُوَ لَا يَجْعَلُهَا حُرَّةً عَلَيْهِ أَبَدًا بِهَذَا.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَعْتَقْتهَا بِإِذْنِك، وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ رَهْنٌ وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُوسِرًا أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ، وَالْعِتْقُ وَالْوَلَاءُ لَهُ وَتَكُونُ مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا.
وَلَوْ

(8/192)


أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِوَطْئِهَا وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ لَهَا وَادَّعَاهُ الرَّاهِنُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَلَا يُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ وَفِي الْأَصْلِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا، وَهِيَ رَهْنٌ فَسَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ وَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إبْطَالُ الرَّهْنِ بِالْعِتْقِ وَلَا بِالْإِحْبَالِ وَبِيعَتْ فِي الرَّهْنِ فَلَمَّا جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ أُمَّ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَلَمْ تُبَعْ كَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ بِرَهْنٍ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مُوسِرًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ قِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا تُبَاعُ كَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ بِرَهْنٍ فَتَفَهَّمْ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ حُدَّ وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا مَهْرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَاهُ الْجَهَالَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ حَدِيثًا أَوْ بِبَادِيَةٍ نَائِيَةٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَلَوْ كَانَ رَبُّهَا أَذِنَ لَهُ فِي وَطْئِهَا وَكَانَ يَجْهَلُ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَكَانَ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ سَقَطَ وَفِي الْمَهْرِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرْمَ. وَالْآخَرُ: لَا غُرْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا لَهُ وَمَتَى مَلَكَهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا قَدْ مَضَى فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابِي لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَبَدًا.
(قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ) : وَهِمَ الْمُزَنِيّ فِي هَذَا فِي كِتَابِ الرَّبِيعِ وَمَتَى مَلَكَهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إلَى أَجَلٍ فَأَذِنَ لِلرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ فَجَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا وَلَا مَكَانَهُ رَهْنًا؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ رَجَعَ فِي الْإِذْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ وَلَوْ قَالَ أَذِنْت لَهُ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي ثَمَنَهُ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الشَّرْطَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ. وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهُ حَقَّهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ بِهِ، وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا أُشَبِّهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْ لَا يَفْسَخَ الشَّرْطُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ أَمَرْت رَجُلًا أَنْ يَبِيعَ ثَوْبِي عَلَى أَنَّ لَهُ عُشْرَ ثَمَنِهِ فَبَاعَهُ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لَا يَفْسَخُهُ فَسَادُ الشَّرْطِ فِي الثَّمَنِ وَكَذَا إذَا بَاعَ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَفْسَخُهُ فَسَادُ الشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا وَيَنْبَغِي إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَكَانَ الرَّهْنِ أَوْ يَتَقَاصَّانِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ بِحَقٍّ حَالٍّ فَأَذِنَ لَهُ فَبَاعَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لَهُ بَيْعُهُ وَأَخَذَ حَقَّهُ مِنْ ثَمَنِهِ.

وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلرَّاهِنِ فَهُوَ رَهْنٌ، وَإِنْ أَدَّى عَنْهَا الْخَرَاجَ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ كَرَجُلٍ اكْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ اكْتَرَاهَا فَدَفَعَ الْمُكْتَرِي الثَّانِي كِرَاءَهَا عَنْ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ.

وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَرَهَنَهُ قَبْلَهَا فَجَائِزٌ وَهُوَ قَطْعٌ لِخِيَارِهِ، وَإِيجَابٌ لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ فَتَمَّ لَهُ مِلْكُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ وَمِلْكُهُ عَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ تَامٍّ وَيَجُوزُ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ فَإِنْ قُتِلَ بَطَلَ الرَّهْنُ.

وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا بِرَهْنٍ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَزِيدَهُ أَلْفًا وَيَجْعَلَ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ رَهْنًا بِهَا وَبِالْأَلْفِ الْأُولَى فَفَعَلَ لَمْ يَجُزْ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَهْنًا كُلَّهُ بِالْأَلْفِ الْأُولَى كَمَا لَوْ تَكَارَى دَارًا سَنَةً بِعَشَرَةٍ ثُمَّ اكْتَرَاهَا تِلْكَ السَّنَةَ بِعَيْنِهَا بِعِشْرِينَ لَمْ يَكُنْ الْكِرَاءُ الثَّانِي إلَّا بَعْدَ فَسْخِ الْأَوَّلِ. (قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا: وَأَجَازَهُ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ فِي الْحَقِّ الْوَاحِدِ بِالرَّهْنِ الْوَاحِدِ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْحَقِّ رَهْنًا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الرَّهْنِ حَقًّا.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّ هَذَا الرَّهْنَ فِي يَدِهِ بِأَلْفَيْنِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ تَصَادَقَا فَهُوَ مَا قَالَا.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا قَدْ صَارَتْ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ أَوْ فِي مَالٍ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ، وَلَوْ أَبْطَلَ رَبُّ الْجِنَايَةِ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِهِ بِحَقٍّ لَهُ فِي عُنُقِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ تُسَاوِي دِينَارًا وَالْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا وَهَذَا أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَهْنُهُ بِحَقٍّ ثُمَّ رَهَنَهُ بَعْدَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ

(8/193)


الثَّانِي، وَلَوْ ارْتَهَنَهُ فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَى قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً ادَّعَى بِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَقِيلَ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ مَا عَلِمَ فَإِذَا حَلَفَ كَانَ الْقَوْلُ فِي إقْرَارِ الرَّاهِنِ بِأَنَّ عَبْدَهُ جَنَى قَبْلَ أَنْ يَرْهَنَهُ وَاحِدًا مِنْ قَوْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ رَهْنٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ بِحَقَّيْنِ لِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِ الْجِنَايَةِ وَالْآخَرُ مِنْ قِبَلِ الرَّهْنِ، وَإِذَا فُكَّ مِنْ الرَّهْنِ، وَهُوَ لَهُ فَالْجِنَايَةُ فِي رَقَبَتِهِ بِإِقْرَارِ سَيِّدِهِ إنْ كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ لَا قِصَاصَ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فِيهَا قِصَاصٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْعَبْدِ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا أُخِذَ مِنْ السَّيِّدِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ أَوْ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فَيُدْفَعُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّ فِي عُنُقِ عَبْدِهِ حَقًّا أَتْلَفَهُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِرَهْنِهِ إيَّاهُ وَكَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ، وَقَدْ جَنَى وَهُوَ مُوسِرٌ أَوْ أَتْلَفَهُ أَوْ قَتَلَهُ فَيَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ، وَإِنَّمَا أُتْلِفَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ وَمَتَى خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ فَالْجِنَايَةُ فِي عُنُقِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ بِبَيْعٍ فَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا: وَهَذَا أَصَحُّهَا وَأَشْبَهُهَا بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْعُلَمَاءُ مُجْمِعَةٌ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِمَا يَضُرُّهُ لَزِمَهُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يُبْطِلُ بِهِ حَقَّ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ بِعُدْوَانِهِ، وَقَدْ قَالَ: إنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى عِلْمِهِ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ لَمْ يَضُرَّ الْمُرْتَهِنَ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا بِيعَ فِي الرَّهْنِ.
(قَالَ) : وَمَتَى رَجَعَ إلَيْهِ عَتَقَ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ حُرٌّ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ جَنَى بَعْدَ الرَّهْنِ ثُمَّ بَرِئَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ رَهْنٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّهْنِ كَانَ صَحِيحًا وَلَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ رَهَنَهُ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ عِتْقًا قَدْ يَقَعُ قَبْلَ حُلُولِ الرَّهْنِ فَلَا يَسْقُطُ الْعِتْقُ، وَالرَّهْنُ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي التَّدْبِيرِ إلَّا بِأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ رَهَنَهُ كَانَ هَكَذَا.

(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: وَقَدْ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : إنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَلَوْ أَوْصَى بِهِ ثُمَّ رَهَنَهُ أَمَا كَانَ جَائِزًا؟ فَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ قَوْلِهِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْكِتَابِ الْجَدِيدِ آخِرُ مَا سَمِعْنَاهُ مِنْهُ: وَلَوْ قَالَ فِي الْمُدَبَّرِ إنْ أَدَّى بَعْدَ مَوْتِي كَذَا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ وَهَبَهُ هِبَةَ بَتَاتٍ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ وَرَجَعَ فَهَذَا رُجُوعٌ فِي التَّدْبِيرِ هَذَا نَصُّ قَوْلِهِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: فَقَدْ أَبْطَلَ تَدْبِيرَهُ بِغَيْرِ إخْرَاجٍ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِرَقَبَتِهِ، وَإِذَا رَهَنَهُ فَقَدْ أَوْجَبَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقًّا فِيهِ فَهُوَ أَوْلَى بِرَقَبَتِهِ مِنْهُ وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ لِلْحَقِّ الَّذِي عَقَدَهُ فِيهِ فَكَيْفَ يَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِقَوْلِهِ إنْ أَدَّى كَذَا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ وَهَبَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ حَتَّى رَجَعَ فِي هِبَتِهِ وَمِلْكُهُ فِيهِ بِحَالِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَلَا يَبْطُلُ تَدْبِيرُهُ بِأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِرَقَبَتِهِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ، وَقَبْضُ ثَمَنِهِ فِي دَيْنِهِ وَمُنِعَ سَيِّدُهُ مِنْ بَيْعِهِ فَهَذَا أَقْيَسُ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ شَرَحْت لَك فِي كِتَابِ الْمُدَبَّرِ فَتَفَهَّمْهُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا حُلْوًا كَانَ جَائِزًا فَإِنْ حَالَ إلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا أَوْ مُرًّا أَوْ شَيْئًا لَا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ فَإِنْ حَالَ الْعَصِيرُ إلَى أَنْ يُسْكِرَ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَرَامًا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا فَمَاتَ الْعَبْدُ فَإِنْ صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا ثُمَّ صَارَ خَلًّا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَهُوَ رَهْنٌ فَإِنْ صَارَ خَلًّا بِصَنْعَةِ آدَمِيٍّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حَلَالًا وَلَوْ قَالَ رَهَنْتُكَهُ عَصِيرًا ثُمَّ صَارَ فِي يَدَيْك خَمْرًا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ رَهَنْتَنِيهِ خَمْرًا فَفِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ كَمَا يَحْدُثُ الْعَيْبُ فِي الْبَيْعِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا أَرَاقَ الْخَمْرَ وَلَا رَهْنَ لَهُ، وَالْبَيْعُ لَازِمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا يَحِلُّ لَهُ ارْتِهَانُهُ بِحَالٍ وَلَيْسَ كَالْعَيْبِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَحِلُّ مِلْكُهُ وَالْعَيْبُ بِهِ وَالْمُرْتَهِنُ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا هَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُدَّعٍ.

(قَالَ) : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْهَنَ الْجَارِيَةَ وَلَهَا

(8/194)


وَلَدٌ صَغِيرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَفْرِقَةٍ

لَوْ ارْتَهَنَ نَخْلًا مُثْمِرًا فَالثَّمَرُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ طَلْعًا كَانَ أَوْ بُسْرًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعَ النَّخْلِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ تُرَى وَمَا هَلَكَ فِي يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ مِنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا رَهَنَهُ مَا يَفْسُدُ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ أَوْ مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يَابِسًا مِثْلُ الْبَقْلِ وَالْبِطِّيخِ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَالًّا فَجَائِزٌ وَيُبَاعُ، وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ يَفْسُدُ إلَيْهِ كَرِهْتُهُ وَمَنَعَنِي مِنْ فَسْخِهِ أَنَّ لِلرَّاهِنِ بَيْعَهُ قَبْلَ مَحِلِّ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يُعْطَى صَاحِبَ الْحَقِّ حَقُّهُ بِلَا شَرْطٍ فَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ إلَى أَنْ يَحِلَّ الْحَقُّ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ. وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بِلَا نَخْلٍ فَأَخْرَجَتْ نَخْلًا فَالنَّخْلُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَلْعُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْهَا حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ فَإِنْ بَلَغَتْ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ لَمْ تُقْلَعْ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قُلِعَتْ، وَإِنْ فَلِسَ بِدُيُونِ النَّاسِ بِيعَتْ الْأَرْضُ بِالنَّخْلِ ثُمَّ قُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ بِلَا نَخْلٍ وَعَلَى مَا بَلَغَتْ بِالنَّخْلِ فَأُعْطِيَ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَ الْأَرْضِ وَالْغُرَمَاءُ ثَمَنَ النَّخْلِ.
(قَالَ) : وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا وَنَخْلًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الرَّاهِنُ أَحْدَثْت فِيهَا نَخْلًا وَأَنْكَرَ الْمُرْتَهِنُ وَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةٌ وَأَمْكَنَ مَا قَالَ الرَّاهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا وَلَوْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ إذَا حَلَّ الْحَقُّ أَنْ يَبِيعَهُ لِمَنْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إلَّا بِأَنْ يَحْضُرَهُ رَبُّ الرَّهْنِ فَإِنْ امْتَنَعَ أَمَرَ الْحَاكِمُ بِبَيْعِهِ وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَدْلِ جَازَ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَفْسَخَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَكَالَتَهُ وَلَوْ بَاعَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى جَاءَ مَنْ يَزِيدُهُ قَبِلَ الزِّيَادَةَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَبَيْعُهُ مَرْدُودٌ.

وَإِذَا بِيعَ الرَّهْنُ فَثَمَنُهُ مِنْ الرَّاهِنِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَأَمَرَ الْحَاكِمُ عَدْلًا فَبَاعَ الرَّهْنَ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدَيْ الْعَدْلِ فَاسْتُحِقَّ الرَّهْنُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَاكِمُ وَلَا الْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَأَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ مَتَاعَهُ وَالْحَقُّ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ كَهِيَ لَوْ بَاعَ عَلَى نَفْسِهِ فَلَيْسَ الَّذِي يَبِيعُ لَهُ الرَّهْنَ مِنْ الْعُهْدَةِ بِسَبِيلٍ وَلَوْ بَاعَ الْعَدْلُ فَقَبَضَ الثَّمَنَ فَقَالَ ضَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ، وَإِنْ قَالَ: دَفَعْته إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَعَلَى الدَّافِعِ الْبَيِّنَةُ وَلَوْ بَاعَ بِدَيْنٍ كَانَ ضَامِنًا. وَلَوْ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: بِعْ بِدَنَانِيرَ وَالْآخَرُ بِعْ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَبِعْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي ثَمَنِ الرَّهْنِ وَحَقِّ الرَّاهِنِ فِي رَقَبَتِهِ وَثَمَنِهِ وَجَاءَ الْحَاكِمُ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْبَيْعِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ يَصْرِفَهُ فِيمَا الرَّهْنُ فِيهِ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ فَأَيُّهُمَا دَعَا إلَى إخْرَاجِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ وَهُمَا حَاضِرَانِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَوْ دَفَعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ مِنْ غَيْرِ مَحْضَرِهِمَا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَا بِعِيدَيْ الْغَيْبَةِ لَمْ أَرَ أَنْ يَضْطَرَّهُ عَلَى حَبْسِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَكَالَةٌ لَيْسَتْ لَهُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ إلَى عَدْلٍ.

وَلَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا فَلَا دَيْنَ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ فَإِنْ جَنَى عَبْدُهُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لَهُ آخَرَ مَرْهُونٍ فَلَهُ الْقِصَاصُ فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ فَالْمَالُ مَرْهُونٌ فِي يَدَيْ مُرْتَهِنِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ الَّذِي بِهِ أَجَزْت لِسَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ الْجِنَايَةَ مِنْ عُنُقِ عَبْدِهِ الْجَانِي وَلَا يَمْنَعُ الْمُرْتَهِنُ السَّيِّدَ مِنْ الْعَفْوِ بِلَا مَالٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ مَالٌ حَتَّى يَخْتَارَهُ الْوَلِيُّ وَمَا فَضَلَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ رَهْنٌ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ بِمَا فِيهِ قِصَاصٌ جَائِزٌ كَالْبَيِّنَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ فَإِقْرَارُهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فِي الرَّهْنِ قِيلَ لِسَيِّدِهِ إنْ فَدَيْته بِجَمِيعِ الْجِنَايَةِ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ، وَهُوَ رَهْنٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُرْتَهِنُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى السَّيِّدِ، وَإِنْ فَدَاهُ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَهْنًا بِهِ مَعَ الْحَقِّ الْأَوَّلِ فَجَائِزٌ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزْدَادَ حَقًّا فِي الرَّهْنِ الْوَاحِدِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ أَمَرَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ فَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ بَالِغًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ كُلِّفَ السَّيِّدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِرَهْنِهِ فَجَنَى فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ فَأَشْبَهَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ وَلَيْسَ كَالْمُسْتَعِيرِ الَّذِي مَنْفَعَتُهُ مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ عَنْ مُعِيرِهِ وَلِلسَّيِّدِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ عَبْدَهُ وَالْخَصْمُ فِيمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ فَإِنْ أَحَبَّ الْمُرْتَهِنُ حَضَرَ خُصُومَتَهُ فَإِذَا قَضَى لَهُ بِشَيْءٍ أَخَذَهُ رَهْنًا وَلَوْ عَفَا الْمُرْتَهِنُ كَانَ عَفْوُهُ بَاطِلًا. وَلَوْ

(8/195)


رَهَنَهُ عَبْدًا بِدَنَانِيرَ وَعَبْدًا بِحِنْطَةٍ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ كَانَتْ الْجِنَايَةُ هَدَرًا.

وَأَكْرَهُ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ مُشْرِكٍ مُصْحَفًا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى يَدَيْ مُسْلِمٍ وَلَا بَأْسَ بِرَهْنِهِ مَا سِوَاهُمَا «رَهَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ» . (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : فِي غَيْرِ كِتَابِ الرَّهْنِ الْكَبِيرِ: إنَّ الرَّهْنَ فِي الْمُصْحَفِ وَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بَاطِلٌ.

[بَابُ اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَمَعْقُولٌ إذَا أَذِنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَزَّ - بِالرَّهْنِ أَنَّهُ زِيَادَةُ وَثِيقَةٍ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَلَا جُزْءًا مِنْ عَدَدِهِ وَلَوْ بَاعَ رَجُلًا شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَعْرِفَانِهِ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ أَوْ عَلَى يَدَيْ الْمُرْتَهِنِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ تَامًّا حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ أَنْ يُقْبِضَهُ الرَّهْنَ لَمْ يُجْبِرْهُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي إتْمَامِ الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ أَوْ رَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّتِهِ دُونَ الرَّهْنِ وَهَكَذَا لَوْ بَاعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَمِيلًا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ لَهُ فَلَهُ رَدُّ الْبَيْعِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ نَقْصٌ يَكُونُ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ، وَلَوْ كَانَا جَهِلَا الرَّهْنَ أَوْ الْحَمِيلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ الرَّهْنُ فَاسِدٌ لِلْجَهْلِ بِهِ وَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِعِلْمِهِمَا بِهِ وَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَتَمَّ الْبَيْعَ بِلَا رَهْنٍ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِبُطْلَانِ الْوَثِيقَةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ قَالَ: أَرْهَنُك أَحَدَ عَبْدَيَّ كَانَ فَاسِدًا لَا يَجُوزُ إلَّا مَعْلُومًا يَعْرِفَانِهِ جَمِيعًا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ أَصَابَ الْمُرْتَهِنُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالرَّهْنِ عَيْبًا فَقَالَ: كَانَ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَنَا أَفْسَخُ الْبَيْعَ. وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يَحْدُثُ، وَلَوْ قُتِلَ الرَّهْنُ بِرِدَّةٍ أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ جَهِلَا الرَّهْنَ أَوْ الْحَمِيلَ غَيْرُ فَاسِدٍ، وَإِنَّمَا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إثْبَاتِهِ لِجَهْلِهِ بِالرَّهْنِ أَوْ الْحَمِيلِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَإِنْ كَانَ حَدَثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ، وَلَوْ مَاتَ فِي يَدَيْهِ، وَقَدْ دَلَّسَ لَهُ فِيهِ بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ؛ لِمَا فَاتَ مِنْ الرَّهْنِ. وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا رَهْنًا فِي الْبَيْعِ فَتَطَوَّعَ الْمُشْتَرِي فَرَهَنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ الرَّهْنِ وَبَقِيَ مِنْ الْحَقِّ شَيْءٌ.
وَلَوْ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ نَفْسُهُ رَهْنًا فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَبِيعُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ: أَرْهَنُك عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَا فَالرَّهْنُ مَفْسُوخٌ وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ وَيَرُدُّ مَا زَادَهُ. وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَوْضُوعَ عَلَى يَدَيْهِ قَبَضَ الرَّهْنَ جَعَلْته رَهْنًا، وَلَمْ أَقْبَلْ قَوْلَ الْعَدْلِ لَمْ أَقْبِضْهُ وَأَيُّهُمَا مَاتَ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ فِي اخْتِلَافِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي الْحَقِّ، وَالْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ فِيمَا يُشْبِهُ وَلَا يُشْبِهُ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ رَهَنْتُمَانِي عَبْدَكُمَا هَذَا بِمِائَةٍ، وَقَبَضْته مِنْكُمَا فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ نِصْفُهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَنِصْفُهُ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ فَإِنْ شَهِدَ شَرِيكُ صَاحِبِ نِصْفِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِدَعْوَى الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ عَدْلًا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ مَعَهُ وَكَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُ رَهْنًا بِخَمْسِينَ وَلَا مَعْنَى فِي شَهَادَتِهِ نَرُدُّهَا بِهِ. وَإِذَا كَانَتْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَانِ إحْدَاهُمَا بِرَهْنٍ وَالْأُخْرَى بِغَيْرِ رَهْنٍ فَقَضَاهُ أَلْفًا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ الَّتِي فِي الرَّهْنِ. وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: هِيَ الَّتِي بِلَا رَهْنٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي مَعَ يَمِينِهِ. وَلَوْ قَالَ رَهَنْته هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدَيْهِ بِأَلْفٍ وَلَمْ أَدْفَعْهَا إلَيْهِ فَغَصَبَنِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا مِنَى رَجُلٌ وَأَنْزَلَهُ فِيهَا أَوْ تَكَارَاهَا هُوَ مِنِّي فَنَزَلَهَا وَلَمْ أُسَلِّمْهَا رَهْنًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ.

(8/196)


[بَابُ انْتِفَاعِ الرَّاهِنِ بِمَا يَرْهَنُهُ]
ُ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الْمُزَنِيّ قَالَ: (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ» .
(قَالَ) : وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ رَهَنَ ذَاتَ دَرٍّ وَظَهْرٍ لَمْ يُمْنَعْ الرَّاهِنُ مِنْ ظَهْرِهَا وَدَرِّهَا، وَأَصْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ حَقًّا فِي رَقَبَةِ الرَّهْنِ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَا يَحْدُثُ مِمَّا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ سُكْنَى الدُّورِ وَزُرُوعِ الْأَرَضِينَ وَغَيْرِهَا فَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ فِي الرَّهْنِ عَبْدَهُ وَيَرْكَبَ دَوَابَّهُ وَيُؤَاجِرَهَا وَيَحْلُبَ دَرَّهَا وَيَجُزَّ صُوفَهَا وَتَأْوِي بِاللَّيْلِ إلَى مُرْتَهِنِهَا أَوْ إلَى يَدَيْ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى يَدَيْهِ وَكُلُّ وَلَدِ أَمَةٍ وَنِتَاجِ مَاشِيَةٍ وَثَمَرِ شَجَرَةٍ وَنَخْلَةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ يُسَلَّمُ لِلرَّاهِنِ وَعَلَيْهِ مُؤْنَةُ رُهُونِهِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ رَقِيقِهِ فَعَلَيْهِ كَفَنُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمَةِ تُعْتَقُ أَوْ تُبَاعُ فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا وَبَيْنَ الرَّهْنِ أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ أَوْ بَاعَ زَالَ مِلْكُهُ وَحَدَثَ الْوَلَدُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَإِذَا رَهَنَ فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ وَحَدَثَ الْوَلَدُ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ مُحَوَّلٌ دُونَهُ لِحَقٍّ حُبِسَ بِهِ لِغَيْرِهِ كَمَا يُؤَاجِرُهَا فَتَكُونُ مُحْتَبِسَةً بِحَقِّ غَيْرِهِ.
وَإِنْ وَلَدَتْ لَمْ يَدْخُلْ وَلَدُهَا فِي ذَلِكَ مَعَهَا وَالرَّهْنُ كَالضَّمِينِ لَا يَلْزَمُ إلَّا مَنْ أَخَلَّ نَفْسَهُ فِيهِ وَوَلَدُ الْأَمَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الرَّهْنِ قَطُّ، وَأَكْرَهُ رَهْنَ الْأَمَةِ إلَّا أَنْ تُوضَعَ عَلَى يَدَيْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا لِلْخِدْمَةِ خَوْفًا أَنْ يُحْبِلَهَا، وَمَا كَانَتْ مِنْ زِيَادَةٍ لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهَا مِثْلُ الْجَارِيَةِ تَكْبَرُ وَالثَّمَرَةُ تَعْظُمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا وَهِيَ رَهْنٌ كُلُّهَا. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مَاشِيَةً فَأَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُنْزِيَ عَلَيْهَا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَنْ يَخْتِنَهُ أَوْ احْتَاجَ إلَى شُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ فَتْحِ عِرْقٍ أَوْ الدَّابَّةِ إلَى تَوْدِيجٍ أَوْ تبزيع فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِمَّا فِيهِ لِلرَّهْنِ مَنْفَعَةٌ، وَيَمْنَعُهُ مِمَّا فِيهِ مَضَرَّةٌ.

[بَابُ رَهْنِ الْمُشْتَرَكِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَإِذَا رَهَنَاهُ مَعًا عَبْدًا بِمِائَةٍ، وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ فَجَائِزٌ، وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِمَّا عَلَيْهِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ. وَلَوْ رَهَنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ بِمِائَةٍ، وَقَبَضَاهُ فَنِصْفُهُ مَرْهُونٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِينَ فَإِنْ أَبْرَأَهُ أَحَدَهُمَا أَوْ قَبَضَ مِنْهُ نِصْفَ الْمِائَةِ فَنِصْفُهُ خَارِجٌ مِنْ الرَّهْنِ. وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَانَ لِلَّذِي افْتَكَّ نِصْفَهُ أَنْ يُقَاسِمَ الْمُرْتَهِنَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ فِي أَنْ يَرْهَنَ عَبْدَهُ إلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ مِنْ الرَّهْنِ شَيْءٌ وَلَوْ رَهَنَهُ بِمَا أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَخْذَهُ بِافْتِكَاكِهِ وَكَانَ الْحَقُّ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَتَبِعَ فِي مَالِهِ حَتَّى يُوفِيَ الْغَرِيمَ حَقَّهُ وَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ الْغَرِيمُ أَسْلَمَ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِافْتِكَاكِهِ إلَّا إلَى مَحِلِّهِ.
وَلَوْ رَهَنَ عَبْدَهُ رَجُلَيْنِ وَأَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَبْضِهِ كُلِّهِ بِالرَّهْنِ، وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ رَهْنَهُ وَقَبْضَهُ كَانَ قَبْلَ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَدَّقَ الرَّاهِنُ أَحَدَهُمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. وَلَوْ أَنْكَرَ أَيُّهُمَا الْأَوَّلَ أُحْلِفَ وَكَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا وَصَدَّقَ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يُصَدَّقُ وَالْآخَرُ لَا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ الْعَبْدُ يَمْلِكُ بِالرَّهْنِ مِثْلَ مَا يَمْلِكُ الْمُرْتَهِنُ غَيْرَهُ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: أَصَحُّهُمَا أَنْ يُصَدَّقَ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ الْحُقُوقِ اجْتَمَعَ فِيهِ إقْرَارُ الْمُرْتَهِنِ وَرَبُّ الرَّهْنِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : ثُمَّ رَأَيْت أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مُقِرٌّ لَهُ أَنَّهُ أَقْبَضَهُ إيَّاهُ فِي جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَلَهُ فَضْلُ يَدَيْهِ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الرَّاهِنِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ

(8/197)


الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ قَبَضَهُ فَيَعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ قَبْضَ صَاحِبِهِ قَبْلَهُ.

[بَابُ رَهْنِ الْأَرْضِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : إذَا رَهَنَ أَرْضًا وَلَمْ يَقُلْ بِبِنَائِهَا وَشَجَرِهَا فَالْأَرْضُ رَهْنٌ دُونَ بِنَائِهَا وَشَجَرِهَا وَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَبَيْنَ الشَّجَرِ بَيَاضٌ فَالشَّجَرُ رَهْنٌ دُونَ الْبَيَاضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إلَّا مَا سَمَّى.

وَإِذَا رَهَنَ ثَمَرًا قَدْ خَرَجَ مِنْ نَخْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُهُ وَمَعَهُ النَّخْلُ فَهُمَا رَهْنٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ حَلَّ جَازَ أَنْ يُبَاعَ وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ مَحِلِّ الْحَقِّ وَبِيعَتْ خُيِّرَ الرَّاهِنُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا مَرْهُونًا مَعَ النَّخْلِ أَوْ قِصَاصًا إلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الثَّمَرَةُ تَيْبَسُ فَلَا يَكُونُ لَهُ بَيْعُهَا إلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ.

وَلَوْ رَهَنَهُ الثَّمَرَ دُونَ النَّخْلِ طَلْعًا أَوْ مُؤَبَّرَةً أَوْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ إلَّا أَنْ يَتَشَارَطَا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ إذَا حَلَّ حَقُّهُ قَطْعَهَا وَبَيْعَهَا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ الثَّمَرِ أَنَّهُ يُتْرَكُ إلَى أَنْ يَصْلُحَ أَلَا تَرَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» لِمَعْرِفَةِ النَّاسِ أَنَّهَا تُتْرَكُ إلَى بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ وَزَرْعٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَمَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الثَّمَرِ شَيْءٌ يَخْرُجُ فَرَهَنَهُ وَكَانَ يَخْرُجُ بَعْدَهُ غَيْرُهُ مِنْهُ فَلَا يَتَمَيَّزُ الْخَارِجُ الْأَوَّلُ الْمَرْهُونُ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا أَنْ يُقْطَعَ فِي مُدَّةٍ قَبْلَ أَنْ يُلْحَقُهُ الثَّانِي فَيَجُوزَ الرَّهْنُ فَإِنْ تُرِكَ حَتَّى يَخْرُجَ بَعْدَهُ ثَمَرَةٌ لَا تَتَمَيَّزُ فَفِيهَا قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَفْسُدُ الرَّهْنُ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ فِي قَدْرِ الثَّمَرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ مِنْ الْمَرْهُونَةِ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ حِنْطَةً فَاخْتَلَطَتْ بِحِنْطَةٍ لِلرَّاهِنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي قَدْرِ الْمَرْهُونَةِ مِنْ الْمُخْتَلِطَةِ بِهَا مَعَ يَمِينِهِ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: هَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ بَيَّنْته فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي بَابِ ثَمَرِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ.
(قُلْت أَنَا) : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي الزِّيَادَةِ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ فِي يَدَيْهِ وَالرَّاهِنُ مُدَّعٍ قَدْرَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قِيَاسِهِ عِنْدِي، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَإِذَا رَهَنَهُ ثَمَرَةً فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا وَصَلَاحُهَا وَجِدَادُهَا وَتَشْمِيسُهَا كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْمُرْتَهِنِ قَطْعُهَا قَبْلَ أَوَانِهَا إلَّا بِأَنْ يَرْضَيَا بِهِ، وَإِذَا بَلَغَتْ إبَّانَهَا فَأَيُّهُمَا أَرَادَ قَطْعَهَا جُبِرَ الْآخَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَلَاحِهَا فَإِنْ أَبَى الْمَوْضُوعَةُ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي مَنْزِلِهِ إلَّا بِكِرَاءٍ قِيلَ لِلرَّاهِنِ عَلَيْك لَهَا مَنْزِلٌ تُحْرَزُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِهَا فَإِنْ جِئْت بِهِ، وَإِلَّا اكْتَرَى عَلَيْك مِنْهَا.

[بَابُ مَا يُفْسِدُ الرَّهْنَ مِنْ الشَّرْطِ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ]
َ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : إنْ اشْتَرَطَ الْمُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفٌ فَقَالَ زِدْنِي أَلْفًا عَلَى أَنْ أَرْهَنَك بِهِمَا مَعًا رَهْنًا يَعْرِفَانِهِ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا. وَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْنِي عَبْدًا بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيَك بِهَا وَبِالْأَلْفِ الَّتِي لَك عَلَيَّ بِلَا رَهْنٍ دَارِي رَهْنًا فَفَعَلَ كَانَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ مَفْسُوخًا وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْنًا وَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي السَّلَفِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ أَوْ إثْبَاتِهِ وَالرَّهْنِ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : قُلْت أَنَا: أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أُجِيزَ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا

(8/198)


يَجُوزُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ اُشْتُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ لَا يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ مَحِلِّ الْحَقِّ إلَّا بِمَا يُرْضِي الرَّاهِنَ أَوْ حَتَّى يَبْلُغَ كَذَا أَوْ بَعْدَ مَحِلِّ الْحَقِّ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَانَ الرَّهْنُ فَاسِدًا حَتَّى لَا يَكُونَ دُونَ بَيْعِهِ حَائِلٌ عِنْدَ مَحِلِّ الْحَقِّ. وَلَوْ رَهَنَهُ نَخْلًا عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ أَوْ مَاشِيَةً عَلَى أَنَّ مَا نَتَجَتْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ كَانَ الرَّهْنُ مِنْ النَّخْلِ وَالْمَاشِيَةِ رَهْنًا وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ ثَمَرُ الْحَائِطِ وَلَا نِتَاجُ الْمَاشِيَةِ إذَا كَانَ الرَّهْنُ بِحَقٍّ وَاجِبٍ قَبْلَ الرَّهْنِ وَهَذَا كَرَجُلٍ رَهَنَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ أُخْرَى غَيْرَ أَنَّ الْبَيْعَ إنْ وَقَعَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُسِخَ الرَّهْنُ وَكَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الشَّرْطُ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هَذَا جَائِزٌ فِي قَوْلِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَرْهَنَهُ عَبْدَيْنِ فَيُصِيبَ أَحَدَهُمَا حُرًّا فَيُجِيزَ الْجَائِزَ وَيَرُدَّ الْمَرْدُودَ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ يَفْسُدُ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ إذَا جَمَعَتْ الصَّفْقَةُ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ.
(قَالَ الْمُزَنِيّ) قُلْت أَنَا: مَا قَطَعَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ أَوْلَى وَجَوَابَاتُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى بِاَلَّذِي قَطَعَ بِهِ شَبِيهٌ. وَقَدْ قَالَ لَوْ تَبَايَعَا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ هَذَا الْعَصِيرَ فَرَهَنَهُ إيَّاهُ فَإِذَا هُوَ مِنْ سَاعَتِهِ خَمْرٌ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ الرَّهْنُ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ حَقًّا فَقَالَ قَدْ رَهَنْتُكَهُ بِمَا فِيهِ، وَقَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ وَرَضِيَ كَانَ الْحَقُّ رَهْنًا وَمَا فِيهِ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ لِجَهْلِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا فِيهِ وَأَمَّا الْخَرِيطَةُ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِيهَا إلَّا بِأَنْ يَقُولَ دُونَ مَا فِيهَا وَيَجُوزُ فِي الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْحَقِّ أَنَّ لَهُ قِيمَةً وَالظَّاهِرُ مِنْ الْخَرِيطَةِ أَنْ لَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ مَا فِيهَا وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ وَغَيْرُ مَضْمُونٍ.

[بَابُ ضَمَانِ الرَّهْنِ]
ِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ وَالرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَوَصَلَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُهُ أَوْ مِثْلُ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَضَمَانُهُ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ» ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ «لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَغُنْمُهُ سَلَامَتُهُ وَزِيَادَتُهُ وَغُرْمُهُ عَطَبُهُ وَنُقْصَانُهُ.
أَلَا تَرَى لَوْ ارْتَهَنَ خَاتَمًا بِدِرْهَمٍ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَهَلَكَ الْخَاتَمُ فَمَنْ قَالَ ذَهَبَ دِرْهَمُ الْمُرْتَهِنِ بِالْخَاتَمِ زَعَمَ أَنَّ غُرْمَهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ دِرْهَمَهُ ذَهَبَ، وَكَانَ الرَّاهِنُ بَرِيئًا مِنْ غُرْمِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ ثَمَنَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَلَمْ يَغْرَمْ لَهُ شَيْئًا، وَأَحَالَ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(قَالَ) : وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَنْ يَدَعَ الرَّاهِنُ قَضَاءَ حَقِّهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : مِلْكُ الرَّهْنِ لِرَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِأَخْذِهِ وَلَا مُخَاطِرٌ بِارْتِهَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إذَا هَلَكَ بَطَلَ مَالُهُ كَانَ مُخَاطِرًا بِمَالِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَثِيقَةً لَهُ وَكَانَ خَيْرًا لَهُ تَرْكُ الِارْتِهَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَضْمُونًا فِي جَمِيعِ مَالِ غَرِيمِهِ.
(قَالَ الشَّافِعِيُّ) : وَمَا ظَهَرَ هَلَاكُهُ وَخَفِيَ سَوَاءٌ لَا يَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْضُوعُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الرَّهْنِ شَيْئًا إلَّا فِيمَا يَضْمَنَانِ فِيهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ بِالتَّعَدِّي فَإِنْ قَضَاهُ مَا فِي الرَّهْنِ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ فَحَبَسَهُ عَنْهُ وَهُوَ يُمْكِنُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ.

(8/199)