مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج

[كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ والتعازير] 1

(5/506)


كتاب الأشربة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ وَالتَّعَازِيرِ، وَالْأَشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ بِمَعْنَى مَشْرُوبٍ، وَالشَّرِيبُ: الْمُولَعُ بِالشَّرَابِ، وَالشَّرْبُ

(5/507)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
بِفَتْحِ الشِّينِ وَسُكُونُ الرَّاءِ: الْجَمَاعَةُ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَشُرْبُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ هِيَ أُمُّ

(5/508)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:

(5/509)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الْآيَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] وَهُوَ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَاسْتُشْهِدَ لَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

(5/510)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
شَرِبْتُ الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ
وَتَظَافَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَحْرِيمِهَا. رَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الْخَمْرَةَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ حَرَّمَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى قَوْلِ مَنْ حُكِيَ عَنْهُ إبَاحَتُهَا. وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَشْرَبُونَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ اسْتِصْحَابًا مِنْهُمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ بِشَرْعٍ فِي إبَاحَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ، رَجَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَوَّلَ، وَالْمُصَنِّفُ الثَّانِي. وَكَانَ تَحْرِيمُهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْمُبَاحُ الشُّرْبَ، لَا مَا يَنْتَهِي إلَى السُّكْرِ الْمُزِيلِ لِلْعَقْلِ فَإِنَّهُ حُرِّمَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ. قَالَ

(5/511)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَهُوَ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالْخَمْرُ الْمُسْكِرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَقْذِفَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ.

(5/512)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
تَنْبِيهٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُقُوعِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى الْأَنْبِذَةِ حَقِيقَةً، فَقَالَ الْمُزَنِيّ وَجَمَاعَةٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الصِّفَةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَنَسَبَ الرَّافِعِيُّ إلَى الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا إلَّا مَجَازًا. أَمَّا فِي التَّحْرِيمِ وَالْحَدِّ فَهُوَ كَالْخَمْرِ، لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهَا، بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا دُونَ تِلْكَ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِهَا، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ الْإِمَامُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ

(5/513)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
بِتَكْفِيرِ مُسْتَحِلِّ الْخَمْرِ. قَالَ وَكَيْفَ نُكَفِّرُ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ مَنْ يَرُدُّ أَصْلَهُ، وَإِنَّمَا نُبَدِّعُهُ، وَأَوَّلَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ عَلَى مَا إذَا صَدَّقَ الْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ ثَبَتَ شَرْعًا ثُمَّ حَلَّلَهُ فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلشَّرْعِ، حَكَاهُ عَنْهُ الرَّافِعِيُّ. ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إنْ صَحَّ فَلْيَجْرِ فِي سَائِرِ مَا حَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى افْتِرَاضِهِ فَنَفَاهُ، أَوْ تَحْرِيمِهِ فَأَثْبَتَهُ.
وَأَجَابَ عَنْهُ الزَّنْجَانِيُّ بِأَنَّ مُسْتَحِلَّ الْخَمْرِ

(5/514)


كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ قَلِيلُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
لَا نُكَفِّرُهُ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا ثَبَتَ ضَرُورَةً أَنَّهُ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِجْمَاعُ وَالنَّصُّ عَلَيْهِ، وَشَمِلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ.

(كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ حَرُمَ) هُوَ، وَ (قَلِيلُهُ) جَمِيعُ الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ خَبَرَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ» ، وَصَحَّحَ التِّرْمِذِيُّ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ قَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ مِنْ نَقِيعِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَغَيْرِهِ، وَاسْتَنَدَ لِأَحَادِيثَ مَعْلُومَةٍ بَيْنَ الْحُفَّاظِ،

(5/515)


وَحُدَّ شَارِبُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
وَأَيْضًا أَحَادِيثُ التَّحْرِيمِ مُتَأَخِّرَةٌ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا وَإِنَّمَا حَرُمَ الْقَلِيلُ.

(وَحُدَّ شَارِبُهُ) وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ كَمَا حَرُمَ تَقْبِيلُ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ، وَلِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» وَقِيسَ بِهِ شُرْبُ النَّبِيذِ، وَلَوْ فُرِضَ شَخْصٌ لَا يُسْكِرُهُ شُرْبُ الْخَمْرِ حَرُمَ شُرْبُهُ لِلنَّجَاسَةِ لَا لِلْإِسْكَارِ، وَيُحَدُّ أَيْضًا كَمَا قَالَهُ الدَّمِيرِيُّ: وَغَيْرُهُ حَسْمًا لِلْبَابِ كَمَنْ شَرِبَ قَدْرًا يُؤَثِّرُ فِيهِ لَا يُسْكِرُ، وَمَنْ حُدَّ ثُمَّ شَرِبَ الْمُسْكِرَ حَالَ سُكْرِهِ فِي الشُّرْبِ الْأَوَّلِ حُدَّ ثَانِيًا.
تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالشَّارِبِ الْمُتَعَاطِي شُرْبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، سَوَاءٌ فِيهِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَسَوَاءٌ جَامِدُهُ وَمَائِعُهُ مَطْبُوخُهُ وَنِيئِهِ، وَسَوَاءٌ أَتَنَاوَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ أَمْ إبَاحَتَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ لِضَعْفِ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ كَمَا مَرَّ، وَخَرَجَ بِالشَّرَابِ النَّبَاتُ. قَالَ الدَّمِيرِيُّ: كَالْحَشِيشَةِ الَّتِي تَأْكُلُهَا الْحَرَافِيشُ، وَنَقَلَ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الْأَطْعِمَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ أَنَّ أَكْلَهَا حَرَامٌ وَلَا حَدَّ فِيهَا. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ: يَجِبُ عَلَى آكِلِهَا التَّعْزِيرُ وَالزَّجْرُ دُونَ الْحَدِّ، وَلَا تَبْطُلُ بِحَمْلِهَا الصَّلَاةُ. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إنَّ الْحَشِيشَةَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتْ فِي آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ حِينَ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرِ، وَشَرٌّ مِنْ الْخَمْرِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا تُورِثُ نَشْوَةً وَلَذَّةً وَطَرَبًا كَالْخَمْرِ وَيَصْعُبُ الْفِطَامُ عَنْهَا أَكْثَر مِنْ الْخَمْرِ، وَقَدْ أَخْطَأَ الْقَائِلُ فِيهَا:
حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ ... وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ
وَكُلُّ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ نَحْوِ بَنْجٍ لَا حَدَّ فِيهِ كَالْحَشِيشَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلَذُّ وَلَا يُطْرِبُ وَلَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ، بَلْ فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَلَا تُرَادُ الْخَمْرَةُ الْمَعْقُودَةُ وَالْحَشِيشُ

(5/516)


إلَّا صَبِيًّا وَمَجْنُونًا وَحَرْبِيًّا وَذِمِّيًّا وَمُوجَرًا وَكَذَا مُكْرَهٌ عَلَى شُرْبِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَمَنْ جَهِلَ كَوْنَهَا خَمْرًا: لَمْ يُحَدَّ، وَلَوْ قَرُبَ إسْلَامُهُ فَقَالَ: جَهِلْتُ تَحْرِيمَهَا لَمْ يُحَدَّ، أَوْ جَهِلْتُ الْحَدَّ حُدَّ.

وَيُحَدُّ بِدُرْدِيِّ خَمْرٍ لَا بِخُبْزٍ عُجِنَ دَقِيقُهُ بِهَا، وَمَعْجُونٍ هِيَ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
الْمُذَابُ نَظَرًا لِأَصْلِهِمَا، وَبِالْمُسْكِرِ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْكِرِ الْمُنَصَّفُ، وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنْ تَمْرٍ وَرُطَبٍ، وَالْخَلِيطُ وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنْ بُسْرٍ وَرُطَبٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْكَارَ يُسْرِعُ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ الْخَلْطِ قَبْلَ أَنْ يَتَغَيَّرَ فَيَظُنُّ الشَّارِبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْكِرٍ وَيَكُونُ مُسْكِرًا، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ شَارِبِهِ مُكَلَّفًا مُلْتَزِمًا لِلْأَحْكَامِ مُخْتَارًا عَالِمًا بِأَنَّ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَمُحْتَرَزُ هَذِهِ الْقُيُودِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ (إلَّا صَبِيًّا وَمَجْنُونًا) لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا (وَحَرْبِيًّا) لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ (وَذِمِّيًّا) لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ بِالذِّمَّةِ مَا لَا يَعْتَقِدُ إلَّا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْعِبَادِ (وَمُوجَرًا) أَيْ: مَصْبُوبًا فِي حَلْقِهِ قَهْرًا (وَكَذَا مُكْرَهٌ عَلَى شُرْبِهِ) أَيْ الْمُسْكِرِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) لِحَدِيثِ «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَيُقَابِلُ الْمَذْهَبُ طَرِيقَةً حَاكِيَةً لِوَجْهَيْنِ. تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إلَّا صَبِيًّا وَمَا بَعْدَهُ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ التَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ، لَكِنَّ الْأَصْحَابَ إنَّمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ تَعَرَّضُوا لِلْحِلِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِكْرَاهِ وَالصَّحِيحُ الْحِلُّ، وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي الْجِرَاحِ: وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَيَّأَهُ، وَقِيلَ يَجِبُ، وَقِيلَ يُسَنُّ. وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ.

(وَمَنْ جَهِلَ كَوْنَهَا) أَيْ الْخَمْرِ (خَمْرًا) فَشَرِبَهَا ظَانًّا كَوْنَهَا شَرَابًا لَا يُسْكِرُ (لَمْ يُحَدَّ) لِلْعُذْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ مُدَّةِ السُّكْرِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ السَّكْرَانُ بَعْدَ الْإِصْحَاءِ كُنْتُ مُكْرَهًا، أَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الَّذِي شَرِبْتُهُ مُسْكِرًا صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. قَالَهُ فِي الْبَحْرِ: فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ (وَلَوْ قَرُبَ إسْلَامُهُ فَقَالَ جَهِلْتُ تَحْرِيمَهَا لَمْ يُحَدَّ) لِأَنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ مَنْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ. أَمَّا مَنْ نَشَأَ فِيهَا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ اهـ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (أَوْ) قَالَ: عَلِمْتُ تَحْرِيمَهَا وَلَكِنْ (جَهِلْتُ الْحَدَّ) بِشُرْبِهَا (حُدَّ) لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ إذَا عَلِمَ التَّحْرِيمَ أَنْ يَمْتَنِعَ.

(وَيُحَدُّ بِدُرْدِيِّ خَمْرٍ) وَهُوَ بِمُهْمَلَاتٍ وَتَشْدِيدِ آخِرِهِ: مَا فِي أَسْفَلِ وِعَاءِ الْخَمْرِ مِنْ عَكَرٍ لِأَنَّهُ مِنْهُ.
تَنْبِيهٌ: كَلَامُهُ قَدْ يُوهِمُ أَنَّ دُرْدِيَّ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَيُحَدُّ بِالثَّخِينِ مِنْهَا إذَا أَكَلَهُ، وَ (لَا) يُحَدُّ بِشُرْبِهَا فِيمَا اُسْتُهْلِكَتْ فِيهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَنْ الْإِمَامِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الرَّضَاعِ وَلَا (بِخُبْزٍ عُجِنَ دَقِيقُهُ بِهَا) عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ أَكَلَتْهَا النَّارُ وَبَقِيَ الْخُبْزُ نَجِسًا (وَ) لَا (مَعْجُونٍ هِيَ فِيهِ) لِاسْتِهْلَاكِهَا وَلَا بِأَكْلِ لَحْمٍ طُبِخَ بِهَا بِخِلَافِ مَرَقِهِ إذَا شَرِبَهُ أَوْ غَمَسَ فِيهِ أَوْ ثَرَدَ بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِبَقَاءِ

(5/517)


وَكَذَا حُقْنَةٌ وَسَعُوطٌ فِي الْأَصَحِّ.

وَمَنْ غَصَّ بِلُقْمَةٍ أَسَاغَهَا بِخَمْرٍ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِدَوَاءٍ وَعَطَشٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
عَيْنِهَا (وَكَذَا حُقْنَةٌ) بِهَا بِأَنْ أَدْخَلَهَا دُبُرَهُ (وَسَعُوطٌ) بِفَتْحِ السِّينِ بِأَنْ أَدْخَلَهَا أَنْفَهُ، فَلَا يُحَدُّ بِذَلِكَ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ هُنَا فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَدْعُو إلَيْهِ. وَالثَّانِي يُحَدُّ فِيهِمَا كَمَا يَحْصُلُ الْإِفْطَارُ بِهِمَا لِلصَّائِمِ. وَالثَّالِثُ وَجَرَى عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ أَنَّهُ يُحَدُّ فِي السَّعُوطِ دُونَ الْحُقْنَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَبُ بِهِ بِخِلَافِ الْحُقْنَةِ.

(وَمَنْ غَصَّ) بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ بِخَطِّهِ، وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَالْفَتْحُ أَجْوَدُ. قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ فِي تَهْذِيبِهِ: أَيْ: شَرِقَ (بِلُقْمَةٍ) مَثَلًا (أَسَاغَهَا) أَيْ أَزَالَهَا (بِخَمْرٍ) وُجُوبًا كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ (إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا) وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إنْقَاذًا لِلنَّفْسِ مِنْ الْهَلَاكِ وَالسَّلَامَةُ بِذَلِكَ قَطْعِيَّةٌ بِخِلَافِ التَّدَاوِي، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَاجِبَةٌ (وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا) أَيْ تَنَاوُلِهَا عَلَى مُكَلَّفٍ (لِدَوَاءٍ وَعَطَشٍ) أَمَّا تَحْرِيمُ الدَّوَاءِ بِهَا فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا سُئِلَ عَنْ التَّدَاوِي بِهَا. قَالَ «إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَبَ الْخَمْرَ مَنَافِعَهَا عِنْدَمَا حَرَّمَهَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْخَمْرِ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَةَ سَلَبَهَا الْمَنَافِعَ» وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ إنَّمَا هُوَ قَبْلَ تَحْرِيمِهَا، وَإِنْ سُلِّمَ بَقَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَتَحْرِيمُهَا مَقْطُوعٌ بِهِ، وَحُصُولُ الشِّفَاءِ بِهَا مَظْنُونٌ، فَلَا يَقْوَى عَلَى إزَالَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَأَمَّا تَحْرِيمُهَا لِلْعَطَشِ فَلِأَنَّهَا لَا تُزِيلُهُ، بَلْ تَزِيدُهُ؛ لِأَنَّ طَبْعَهَا حَارٌّ يَابِسٌ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الطِّبِّ، وَلِهَذَا يَحْرِصُ شَارِبُهَا عَلَى الْمَاءِ الْبَارِدِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: سَأَلْتُ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا. فَقَالَ تَرْوِي فِي الْحَالِ ثُمَّ تُثِيرُ عَطَشًا شَدِيدًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ رِوَايَةُ فَاسِقٍ لَا تُقْبَلُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ أَخْبَرَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ. وَالثَّانِي يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا: أَيْ: بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ، وَيَجُوزُ شُرْبُهَا لِإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِهَا، وَقِيلَ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا دُونَ شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ، وَقِيلَ عَكْسُهُ، وَشُرْبُهَا لِدَفْعِ الْجُوعِ كَشُرْبِهَا لِدَفْعِ الْعَطَشِ.
تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي التَّدَاوِي بِهَا بِصَرْفِهَا. أَمَّا التِّرْيَاقُ الْمَعْجُونُ بِهَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تُسْتَهْلَكُ فِيهِ فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ عِنْدَ فَقْدِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّدَاوِي مِنْ الطَّاهِرَاتِ كَالتَّدَاوِي بِنَجَسٍ كَلَحْمِ حَيَّةٍ وَبَوْلٍ، وَلَوْ كَانَ التَّدَاوِي بِذَلِكَ لِتَعْجِيلِ شِفَاءٍ بِشَرْطِ إخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ أَوْ مَعْرِفَتِهِ لِلتَّدَاوِي بِهِ، وَالنَّدُّ بِالْفَتْحِ الْمَعْجُونُ بِخَمْرٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِنَجَاسَتِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجَوَّزَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ لِإِمْكَانِ تَطْهِيرِهِ بِنَقْعِهِ فِي الْمَاءِ، وَدُخَانُهُ

(5/518)


وَحَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ وَرَقِيقٍ عِشْرُونَ

بِسَوْطٍ أَوْ أَيْدٍ أَوْ نِعَالٍ أَوْ أَطْرَافِ ثِيَابٍ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ سَوْطٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
كَدُخَانِ النَّجَاسَةِ، فَفِي تَنَجُّسِ الْمُتَبَخِّرِ بِهِ وَجْهَانِ، وَقَضِيَّةُ تَشْبِيهِهِ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا بِدُخَانِ النَّجَاسَةِ التَّنْجِيسُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ التَّبَخُّرِ بِهِ، وَيَجُوزُ تَنَاوُلُ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ لِقَطْعِ عُضْوٍ. أَمَّا الْأَشْرِبَةُ فَلَا يَجُوزُ تَعَاطِيهَا لِذَلِكَ، وَيَنْبَغِي إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا أَوْ لَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ إلَّا بِهَا جَوَازُهُ، وَيُقَدَّمُ النَّبِيذُ عَلَى الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي حُرْمَتِهِ، وَمَحَلُّهُ فِي شُرْبِهَا لِلْعَطَشِ إذَا لَمْ يَنْتَهِ الْأَمْرُ بِهِ إلَى الْهَلَاكِ، فَإِنْ انْتَهَى بِهِ إلَى ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهَا كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ كَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ إجْمَاعِ الْأَصْحَابِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِهَا وَشُرْبِهَا لَا حَدَّ، وَكَذَا عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ فِي التَّدَاوِي عَنْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ، وَصَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، لِشُبْهَةِ قَصْدِ التَّدَاوِي وَمِثْلُهُ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ، وَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ بِذَلِكَ ضَعَّفَهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَجَزَمَ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ بِجَوَازِ إسْقَائِهَا لِلْبَهَائِمِ وَإِطْفَاءِ الْحَرِيقِ بِهَا.

(وَحَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ) جَلْدَةً لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ» .

(وَ) حَدُّ (رَقِيقٍ) وَلَوْ مُبَعَّضًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ: (عِشْرُونَ) لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَبَعَّضُ فَتَنَصَّفَ عَلَى الرَّقِيقِ كَحَدِّ الزِّنَا.

تَنْبِيهٌ: لَوْ تَعَدَّدَ الشُّرْبُ كَفَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي الرَّابِعَةِ مَنْسُوخٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ الْقَائِلَ:
إذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ ... لِتَرْوِيَ عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُهَا
وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا
جَلَدَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِرَارًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدْ نَبَتَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ أُصُولِ كَرْمٍ وَقَدْ طَالَتْ وَانْتَشَرَتْ وَهِيَ مُعَرِّشَةٌ عَلَى قَبْرِهِ بِنَوَاحِي جُرْجَانَ.

وَالْأَصْلُ فِي الْجَلْدِ أَنْ يَكُونَ (بِسَوْطٍ أَوْ أَيْدٍ أَوْ نِعَالٍ أَوْ أَطْرَافِ ثِيَابٍ) لِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَضْرِبُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ» وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ ضَرَبَهُ بِثَوْبِهِ» .
تَنْبِيهٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِطَرَفِ الثَّوْبِ: الضَّرْبُ بِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يُفْتَلُ حَتَّى يَشْتَدَّ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ (وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ) لِلْجَلْدِ (سَوْطٌ) لِلسَّلِيمِ الْقَوِيِّ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْمُتَّخَذُ مِنْ جُلُودِ سُيُورٍ تُلْوَى وَتُلَفُّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ

(5/519)


وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ، وَالزِّيَادَةُ تَعْزِيرَاتٌ، وَقِيلَ حَدٌّ.

وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، لَا بِرِيحِ خَمْرٍ وَسُكْرٍ وَقَيْءٍ، وَيَكْفِي فِي إقْرَارٍ وَشَهَادَةٍ شَرِبَ خَمْرًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
لِأَنَّهُ يُسَوِّطُ اللَّحْمَ بِالدَّمِ: أَيْ يَخْلِطُهُ. أَمَّا نِضْوُ الْخَلْقِ فَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ بِسَوْطٍ جَزْمًا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ.

(وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ) أَيْ الْحَدِّ لِلْحُرِّ (ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ) الْمَنْصُوصِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ لِأَنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ، وَإِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الِافْتِرَاءِ ثَمَانُونَ» وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " أُتِيَ بِشَيْخٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ وَنَفَاهُ إلَى الشَّامِ. وَقَالَ: فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَيْخًا يَتَصَابَى ". قَالَ: " وَأُتِيَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِشَيْخٍ سَكِرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْغَدِ وَضَرَبَهُ عِشْرِينَ، ثُمَّ قَالَ: إنَّمَا ضَرَبْتُكَ هَذِهِ الْعِشْرِينَ لِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ " وَالثَّانِي لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ لِرُجُوعِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يَجْلِدُ فِي خِلَافَتِهِ أَرْبَعِينَ.
تَنْبِيهٌ: يَجْرِي الْخِلَافُ فِي بُلُوغِهِ فِي الرَّقِيقِ أَرْبَعِينَ (وَالزِّيَادَةُ) عَلَيْهَا فِي الْحُرِّ، وَعَلَى الْعِشْرِينَ فِي غَيْرِهِ (تَعْزِيرَاتٌ) لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَدًّا لِمَا جَازَ تَرْكُهَا (وَقِيلَ حَدٌّ) لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ جِنَايَةٍ مُحَقَّقَةٍ. وَاعْتُرِضَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ وَضْعَ التَّعْزِيرِ النَّقْصُ عَنْ الْحَدِّ فَكَيْفَ يُسَاوِيهِ؟ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لِجِنَايَةٍ تَوَلَّدَتْ مِنْ الشَّارِبِ، وَلِهَذَا اُسْتُحْسِنَ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفُ بِتَعْزِيرَاتٍ عَلَى تَعْبِيرِ الْمُحَرَّرِ بِتَعْزِيرٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ شَافِيًا فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ حَتَّى يُعَزَّرَ، وَالْجِنَايَاتُ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْ الْخَمْرِ لَا تَنْحَصِرُ فَلْتَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَانِينَ وَقَدْ مَنَعُوهَا. قَالَ: وَفِي قِصَّةِ تَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ الضَّرْبَ ثَمَانِينَ أَلْفَاظٌ مُشْعِرَةٌ بِأَنَّ الْكُلَّ حَدٌّ، وَعَلَيْهِ فَحَدُّ الشُّرْبِ مَخْصُوصٌ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُدُودِ بِأَنْ يَتَحَتَّمَ بَعْضُهُ وَيَتَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. اهـ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تَعْزِيرَاتٌ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ اقْتِصَارًا عَلَى مَا وَرَدَ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ شُرْبُ الْمُسْكِرِ. فَقَالَ (وَيُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ) كَقَوْلِهِ: شَرِبْتُ خَمْرًا أَوْ شَرِبْتُ مِمَّا شَرِبَ مِنْهُ غَيْرِي فَسَكِرَ مِنْهُ (أَوْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ) يَشْهَدَانِ بِمِثْلِ ذَلِكَ (لَا) بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ نَاقِصَةٌ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ لِمَا مَرَّ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، وَلَا (بِرِيحِ خَمْرٍ وَسُكْرٍ وَقَيْءٍ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ شَرِبَ غَالِطًا أَوْ مُكْرَهًا، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا يَسْتَوْفِيهِ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، نَعَمْ سَيِّدُ الْعَبْدِ يَسْتَوْفِيهِ بِعِلْمِهِ لِإِصْلَاحِ مِلْكِهِ (وَ) لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ تَفْصِيلٌ، بَلْ (يَكْفِي) الْإِطْلَاقُ (فِي إقْرَارٍ) مِنْ شَخْصٍ بِأَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا (وَ) فِي (شَهَادَةٍ) بِشُرْبِ مُسْكِرٍ (شَرِبَ) فُلَانٌ (خَمْرًا) وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ مُخْتَارٌ عَالِمٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ، وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ الشَّارِبِ عِلْمُهُ بِمَا يَشْرَبُهُ فَنَزَلَ

(5/520)


وَقِيلَ يُشْتَرَطُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُخْتَارٌ.

وَلَا يُحَدُّ حَالَ سُكْرِهِ، وَسَوْطُ الْحُدُودِ بَيْنَ قَضِيبٍ وَعَصًا وَرَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ إلَّا الْمَقَاتِلَ وَالْوَجْهَ، قِيلَ: وَالرَّأْسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ (وَقِيلَ يُشْتَرَطُ) التَّفْصِيلُ بِأَنْ يُزَادَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. كَقَوْلِ الْمُقِرِّ: وَأَنَا عَالِمٌ مُخْتَارٌ: وَكَقَوْلِ الشَّاهِدِ (وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مُخْتَارٌ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَاقَبُ بِالْيَقِينِ كَالشَّهَادَةِ بِالزِّنَا، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الزِّنَا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَا حَدَّ فِيهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْعَيْنَانِ يَزْنِيَانِ» بِخِلَافِ سُكْرِ الْمُسْكِرِ.
تَنْبِيهٌ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ هُنَا عَنْ حُكْمِ رُجُوعِ الْمُقِرِّ بِشُرْبِ خَمْرٍ وَهُوَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي حَدِّ الزِّنَا. فَإِنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّ آدَمِيٍّ يُقْبَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ.

(وَلَا يُحَدُّ حَالَ سُكْرِهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ وَالتَّنْكِيلُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَعَ السُّكْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْوَرْدِيِّ فِي بَهْجَتِهِ لِيَرْتَدِعَ. فَإِنْ حُدَّ قَبْلَهَا فَفِي الِاعْتِدَادِ بِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ: الِاعْتِدَادُ بِهِ.

(وَسَوْطُ الْحُدُودِ) أَوْ التَّعَازِيرِ (بَيْنَ قَضِيبٍ) وَهُوَ الْغُصْنُ (وَعَصًا) غَيْرِ مُعْتَدِلَةٍ (وَ) بَيْنَ (رَطْبٍ وَيَابِسٍ) بِأَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الْجِرْمِ وَالرُّطُوبَةِ لِلِاتِّبَاعِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِوُجُوبِ هَذَا وَلَا بِنَدْبِهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ الْوُجُوبُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِفَةِ السَّوْطِ بَيَّنَ كَيْفِيَّةِ عَدَدِ الضَّرْبِ بِقَوْلِهِ (وَيُفَرِّقُهُ) أَيْ: السَّوْطَ: أَيْ: الضَّرْبَ بِهِ (عَلَى الْأَعْضَاءِ) فَلَا يَجْمَعُهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ: " أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ " وَالتَّفْرِيقُ وَاجِبٌ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ يَعْظُمُ أَلَمُهُ بِالْمُوَالَاةِ، وَقَدْ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْأَصْحَابِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْمُصَنِّفُ مِنْ الْأَعْضَاءِ قَوْلَهُ (إلَّا الْمَقَاتِلَ) وَهِيَ مَوَاضِعُ يُسْرِعُ الْقَتْلُ إلَيْهَا بِالضَّرْبِ كَقَلْبٍ وَثُغْرَةِ نَحْرٍ وَفَرْجٍ فَلَا يَضْرِبُهُ عَلَيْهَا لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ: وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ رَدْعُهُ لَا قَتْلُهُ، فَلَوْ ضَرَبَهُ عَلَى مَقْتَلٍ فَمَاتَ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الدَّارِمِيِّ تَرْجِيحُ نَفْيِ الضَّمَانِ (وَ) إلَّا (الْوَجْهَ) فَلَا يَضْرِبُهُ عَلَيْهِ وُجُوبًا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» وَلِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ فَيَعْظُمُ أَثَرُ شَيْنِهِ (قِيلَ: وَ) إلَّا (الرَّأْسَ) فَلَا يَضْرِبُهُ لِشَرَفِهِ كَالْوَجْهِ، وَالْأَصَحُّ وَعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ لَا، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ مُعَظَّمٌ غَالِبًا فَلَا يَخَافُ تَشْوِيهَهُ بِالضَّرْبِ بِخِلَافِ الْوَجْهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اضْرِبْ الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِي الرَّأْسِ. وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: وَفِي قَوْلٍ وَالرَّأْسُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ حَكَاهُ عَنْ نَصِّ الْبُوَيْطِيِّ وَرَجَّحَهُ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَصَاحِبُ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي التَّجْرِبَةِ: غَلِطَ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ.
تَنْبِيهٌ: لَا يَجُوزُ لِلْجَلَّادِ رَفْعُ يَدِهِ بِحَيْثُ يَبْدُو بَيَاضُ إبِطِهِ، وَلَا يَخْفِضُهَا خَفْضًا شَدِيدًا، بَلْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ خَفْضٍ وَرَفْعٍ، فَيَرْفَعُ ذِرَاعَهُ لَا عَضُدَهُ، وَلَا يُبَالِي بِكَوْنِ الْمَجْلُودِ رَقِيقَ الْجِلْدِ يُدْمِيهِ

(5/521)


وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ، وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ، وَيُوَالِي الضَّرْبَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ زَجْرٌ وَتَنْكِيلٌ.

[فَصْلٌ] يُعَزَّرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا كَفَّارَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
الضَّرْبُ الْخَفِيفُ (وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ) أَيْ: الْمَجْلُودِ بَلْ تُتْرَكُ مُطْلَقَةً يَتَّقِي بِهَا، وَإِذَا وَضَعَهَا عَلَى مَوْضِعٍ ضَرَبَ غَيْرَهُ، وَلَا يُلْقَى عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يُرْبَطُ، وَلَا يُمَدُّ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ بَلْ يُجْلَدُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً (وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ) الْخَفِيفَةُ الَّتِي لَا تَمْنَعُ أَثَرَ الضَّرْبِ. أَمَّا مَا يَمْنَعُ كَالْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ وَالْفَرْوَةِ فَتُنْزَعُ عَنْهُ مُرَاعَاةً لِمَقْصُودِ الْحَدِّ، وَيُتْرَكُ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَيَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهَا امْرَأَةٌ أَوْ مَحْرَمٌ، وَيَكُونُ بِقُرْبِهَا إنْ تَكَشَّفَتْ سَتَرَهَا. وَأَمَّا الْجَلْدُ فَيَتَوَلَّاهُ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّ الْجَلْدَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ بِشَدِّ ثِيَابِهِ الْمَرْأَةُ وَنَحْوُهَا، وَيُحْتَمَلُ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا تَعَيُّنُ الْمَحْرَمِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ ضُرِبَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْخَلَوَاتِ، وَإِلَّا فَفِي الْمَلَأ، وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُعَزَّرُ فِي الْمَسْجِدِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَلَوَّثَ مِنْ جِرَاحَةٍ تَحْدُثُ، فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ كَالصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، كَذَا قَالَاهُ هُنَا، وَقَضِيَّتُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَنْدَنِيجِيُّ لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَاهُ فِي بَابِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، بَلْ يُكْرَهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَيُوَالِي الضَّرْبَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ زَجْرٌ وَتَنْكِيلٌ) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ عَلَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ لِعَدَمِ الْإِيلَامِ الْمَقْصُودِ فِي الْحَدِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ إذَا فَرَّقَهَا عَلَى الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ الْأَيْمَانِ إلَى الِاسْمِ، وَهُنَا التَّنْكِيلُ وَالزَّجْرُ وَلَمْ يَحْصُلْ، وَلَوْ جُلِدَ لِلزِّنَا خَمْسِينَ وِلَاءً وَفِي غَدِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَ.
تَنْبِيهٌ: لَمْ يُضْبَطْ التَّفْرِيقُ الْجَائِزُ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْإِمَامُ: إنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ أَلَمٌ لَهُ وَقَعَ كَسَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَهَذَا لَيْسَ بِحَدٍّ، وَإِنْ آلَمَ وَأَثَّرَ بِمَا لَهُ وَقْعٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ زَمَنٌ يَزُولُ فِيهِ الْأَلَمُ الْأَوَّلُ كَفَى، وَإِنْ تَخَلَّلَ لَمْ يَكْفِ عَلَى الْأَصَحِّ، ثُمَّ عَقَّبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجِنَايَاتِ السَّبْعَ الْمُوجِبَةَ لِلْحَدِّ بِالتَّعْزِيرِ، وَتَرْجَمَ لَهُ بِفَصْلٍ.

[فَصْل فِي التَّعْزِيرِ]
فَقَالَ: [فَصْلٌ] فِي التَّعْزِيرِ، وَهُوَ لُغَةً. التَّأْدِيبُ. وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: 9] أَيْ: تَدْفَعُوا الْعَدُوَّ عَنْهُ وَتَمْنَعُوهُ، وَيُخَالِفُ الْحَدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَتَعْزِيرُ ذَوِي الْهَيْئَاتِ أَخَفُّ وَيَسْتَوُونَ فِي الْحَدِّ. وَالثَّانِي تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ وَالْعَفْوُ بَلْ يُسْتَحَبَّانِ. وَالثَّالِثُ التَّالِفُ بِهِ مَضْمُونٌ فِي الْأَصَحِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ. وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (يُعَزَّرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا كَفَّارَةَ) سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِآدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ مُقَدِّمَاتِ مَا

(5/522)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
فِيهِ حَدٌّ كَمُبَاشَرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ، وَسَرِقَةِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَالسَّبِّ بِمَا لَيْسَ بِقَذْفٍ أَمْ لَا كَالتَّزْوِيرِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالضَّرْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنُشُوزِ الْمَرْأَةِ وَمَنْعِ الزَّوْجِ حَقَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] الْآيَةَ فَأَبَاحَ الضَّرْبَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَكَانَ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى التَّعْزِيرِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ: إذَا كَانَ دُونَ نِصَابٍ غُرْمُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا فَاسِقُ يَا خَبِيثُ؟ فَقَالَ: يُعَزَّرُ.
تَنْبِيهٌ: اقْتَضَى كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ. الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: تَعْزِيرُ ذِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ.
الْأُولَى: إذَا صَدَرَ مِنْ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى صَغِيرَةٌ فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. قَالَ: وَقَدْ جَهِلَ أَكْثَرُ النَّاسِ فَزَعَمُوا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَسْقُطُ بِالصَّغِيرَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا الْحُدُودَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْمُرَادُ بِذَوِي الْهَيْئَاتِ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُونَ بِالشَّرِّ فَيَزِلُّ أَحَدُهُمْ الزَّلَّةُ، وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عَزَّرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ مَشَاهِيرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَهُمْ رُءُوسُ الْأَوْلِيَاءِ وَسَادَةُ الْأُمَّةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ؟ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَوَّلِ زَلَّةٍ زَلَّهَا مُطِيعٌ.
الثَّانِيَة: إذَا قَطَعَ شَخْصٌ أَطْرَافَ نَفْسِهِ. الثَّالِثَةُ إذَا وَطِئَ زَوْجَتَهُ أَوَأَمَته فِي دُبُرِهَا فَلَا يُعَزَّرُ بِأَوَّلِ مَرَّةٍ، بَلْ يُنْهَى عَنْ الْعَوْدِ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَصَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ. الرَّابِعَةُ: الْأَصْلُ لَا يُعَزَّرُ لِحَقِّ الْفَرْعِ كَمَا لَا يُحَدُّ بِقَذْفِهِ. الْخَامِسَةُ: إذَا رَأَى مَنْ يَزْنِي بِزَوْجَتِهِ وَهُوَ مُحْصَنٌ فَقَتَلَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَإِنْ افْتَاتَ عَلَى الْإِمَامِ لِأَجْلِ الْحَمِيَّةِ، حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ أَبِي دَاوُد. السَّادِسَةُ: إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْقُوَى إلَى الْحِمَى الَّذِي حَمَاهُ الْإِمَامُ لِلضِّعْفَةِ وَنَحْوِهِمْ فَرَعَى مِنْهُمْ لَا تَعْزِيرَ عَلَيْهِ وَلَا غُرْمَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَآثِمًا، لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ الرَّعْيِ، كَذَا نَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ هُنَاكَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَأَقَرَّهُ.
السَّابِعَةُ: إذَا ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. الثَّامِنَةُ: إذَا كَلَّفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مَا لَا يُطِيقُ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَزَّرُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ لَا تَعُدْ، فَإِنْ عَادَ عُزِّرَ، ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ اللِّعَانِ. التَّاسِعَةُ: إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ إنْ قَدَرَ عَلَى إجَابَتِهَا فَهُوَ حَتْمٌ وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ. وَإِنْ كَانَ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُوَكَّلُ بِهِ، وَلَكِنْ يَعْصِي

(5/523)


بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ أَوْ تَوْبِيخٍ، وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
بِمَنْعِهِ، الْعَاشِرَةُ: إذَا عَرَّضَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِسَبِّ الْإِمَامِ لَمْ يُعَزَّرُوا عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ حَدٌّ كَالزِّنَا، أَوْ كَفَّارَةٌ كَالتَّمَتُّعِ بِطِيبٍ فِي الْإِحْرَامِ يَنْتَفِي التَّعْزِيرُ لِإِيجَابِ الْأَوَّلِ لِلْحَدِّ وَالثَّانِي لِلْكَفَّارَةِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ.
الْأُولَى: إفْسَادُ الصَّائِمِ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ. الثَّانِيَة: الْمُظَاهِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ مَعَ الْكَفَّارَةِ. الثَّالِثَةُ: إذَا قَتَلَ مَنْ لَا يُقَادُ بِهِ كَوَلَدِهِ وَعَبْدِهِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: نَعَمْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ لَيْسَ لِلْمَعْصِيَةِ، بَلْ لِإِعْدَامِ النَّفْسِ بِدَلِيلِ إيجَابِهَا بِقَتْلِ الْخَطَأِ، فَلَمَّا بَقِيَ التَّعَمُّدَ خَالِيًا عَنْ الزَّجْرِ أَوْجَبْنَا فِيهِ التَّعْزِيرَ. الرَّابِعَةُ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ يَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ وَالتَّعْزِيرُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهَذَّبِ الْخَامِسَةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فِي شُرْبِ الْمُسْكِرِ إلَى الثَّمَانِينَ تَعْزِيرَاتٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
السَّادِسَةُ: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأُمِّهِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ مُعْتَكِفٌ مُحْرِمٌ لَزِمَهُ الْعِتْقُ وَالْبَدَنَةُ، وَيُحَدُّ لِلزِّنَا، وَيُعَزَّرُ لِقَطْعِ رَحِمَهُ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ.
السَّابِعَةُ: مَا ذَكَرَهُ الْفُورَانِيُّ أَنَّ السَّارِقَ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ يُعَزَّرُ. قَالَ فِي الذَّخَائِرِ: إنْ أَرَادَ بِهِ تَعْلِيقَ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ فَحَسَنٌ، أَوْ غَيْرَهُ فَمُنْفَرِدٌ بِهِ، وَتَعْلِيقُ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ ضَرْبٌ مِنْ النَّكَالِ، نُصَّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ الْحَدِّ قَطْعًا إذْ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِهِ أَحَدٌ. الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسَائِلُ. الْأَوَّلُ: الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُعَزَّرَانِ إذَا فَعَلَا مَا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ الْبَالِغُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمَا مَعْصِيَةً، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الصَّبِيِّ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي الْمَجْنُونِ. الثَّانِيَة. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ يَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ مَنْ يَكْتَسِبُ بِاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذُ وَالْمُعْطِيَ، وَظَاهِرُهُ تَنَاوُلُ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ.
ثَالِثُهَا نَفْيُ الْمُخَنَّثِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا فُعِلَ لِلْمَصْلَحَةِ.

، وَتَعْلِيقُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ سَابِقًا يُعَزَّرُ قَوْلَهُ هُنَا (بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ) وَهُوَ الضَّرْبُ بِجَمْعِ الْكَفِّ (أَوْ تَوْبِيخٍ) بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الرَّدْعَ وَالزَّجْرَ عَنْ الْجَرِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ التَّأْدِيبَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ فَعَنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ الْمُبَرِّحِ وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ بِضَرْبِهِ غَيْرَ مُبَرِّحٍ إقَامَةً لِصُورَةِ الْوَاجِبِ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَهُوَ ظَاهِرٌ.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْهَا، وَلَيْسَ مُرَادًا، فَفِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ أَنَّ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْحَبْسِ مُدَّةٌ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا، بَلْ شَرْطُهُ النَّقْصُ عَنْ سَنَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَصَرَّحَ بِهِ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ، وَقَضِيَّتُهُ أَيْضًا الْحَصْرُ فِيمَا ذَكَرَهُ، وَلَيْسَ مُرَادًا أَيْضًا، فَإِنَّ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ النَّفْيَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ، وَمِنْهُ كَشْفُ الرَّأْسِ وَالْقِيَامُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَالْإِعْرَاضُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (وَيَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا مُوكَلٌ إلَى رَأْيِهِ يَجْتَهِدُ فِي سُلُوكِ الْأَصْلَحِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ النَّاسِ وَبِاخْتِلَافِ الْمَعَاصِي فَلَهُ أَنْ يُشْهِرَ فِي النَّاسِ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ

(5/524)


وَقِيلَ إنْ تَعَلَّقَ بِآدَمِيٍّ لَمْ يَكْفِ تَوْبِيخٌ.

فَإِنْ جَلَدَ وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ فِي عَبْدٍ عَنْ عَشْرٍ جَلْدَةً وَحُرٍّ عَنْ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ عِشْرِينَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
دُونَ لِحْيَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْلَبَ حَيًّا، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَا مِنْ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي يَوْمِيًّا وَيُعِيدُ إذَا أَرْسَلَ، وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ اهـ.
وَاعْتُرِضَ مَنْعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ مُتَمَكِّنًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ، وَفِي جَوَازِ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَهُ إرْكَابُهُ الدَّابَّةَ مَنْكُوسًا، وَعَلَى الْإِمَامِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ وَالتَّدْرِيجِ اللَّائِقِ بِالْحَالِ فِي الْقَدْرِ وَالنَّوْعِ كَمَا يُرَاعِيهِ فِي دَفْعِ الصَّائِلِ، فَلَا يَرْقَى إلَى مَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا كَافِيًا مُؤَثِّرًا كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ أَوْهَمَ عَطْفُ الْمُصَنِّفِ بِأَوْ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْيِيرِ خِلَافَهُ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا الْإِمَامُ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ مَسَائِلُ.
الْأُولَى: لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ضَرْبُ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ زَجْرًا لَهُمَا عَنْ سَيِّئِ الْأَخْلَاقِ وَإِصْلَاحًا لَهُمَا. قَالَ شَيْخُنَا: وَمِثْلُهُمَا السَّفِيهُ، وَعِبَارَةُ الدَّمِيرِيِّ: وَلَيْسَ لِلْأَبِ تَعْزِيرُ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ شُهْبَةَ. الثَّانِيَة لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُؤَدِّبَ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، لَكِنْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ. الثَّالِثَةُ لِلزَّوْجِ ضَرْبُ زَوْجَتِهِ لِنُشُوزِهَا وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ عَلَيْهَا لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ أَوَّلَ الْبَابِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضَرْبُهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ الْبَرَزِيِّ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَمْرُ زَوْجَتِهِ بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا أَمْرُهُ لَهَا بِالصَّلَاةِ فَمُسَلَّمٌ.
الرَّابِعَةُ لِلسَّيِّدِ ضَرْبُ رَقِيقِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ كَمَا فِي الزَّوْجِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ سَلْطَنَتَهُ أَقْوَى، وَكَذَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي الزِّنَا، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسَائِلُ الْمُسْتَثْنَاةُ تَعْزِيرًا، وَقِيلَ إنَّمَا يُسَمَّى مَا عَدَا ضَرْبَ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ تَأْدِيبًا لَا تَعْزِيرًا، وَعَلَى هَذَا لَا اسْتِثْنَاءَ (وَقِيلَ إنْ تَعَلَّقَ) التَّعْزِيرُ (بِآدَمِيٍّ لَمْ يَكْفِ) فِيهِ (تَوْبِيخٌ) لِتَأَكُّدِ حَقِّ الْآدَمِيِّ، وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ كَمَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ قَدْرِ التَّعْزِيرِ بِقَوْلِهِ (فَإِنْ جَلَدَ) الْإِمَامُ (وَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ فِي عَبْدٍ عَنْ عِشْرِينَ جَلْدَةً وَ) فِي (حُرٍّ عَنْ أَرْبَعِينَ) جَلْدَةً أَدْنَى حُدُودِهِمَا، لِخَبَرِ «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: الْمَحْفُوظُ إرْسَالُهُ، وَكَمَا يَجِبُ نَقْصُ الْحُكُومَةِ عَنْ الدِّيَةِ وَالرَّضْخِ عَنْ السَّهْمِ (وَقِيلَ) يَجِبُ أَنْ يُنْقِصَ فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ عَنْ (عِشْرِينَ) جَلْدَةً لِأَنَّهَا حَدُّ الْعَبْدِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَنْعِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقِيلَ لَا يُزَادُ فِي تَعْزِيرِهِمَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ لِحَدِيثِ «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى» وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اتِّبَاعِ الْخَبَرِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: لَوْ بَلَغَ الشَّافِعِيَّ لَقَالَ بِهِ.
وَأَجَابَ الْأَوَّلُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِعَمَلِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ. قَالَ الْقُونَوِيُّ: وَحَمْلُهُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَمَلِ بِخِلَافِهِ أَهْوَنُ مِنْ النَّسْخِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ.
فَائِدَةٌ: أَهْلُ بَدْرٍ إذَا عَمِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَنْبًا يَقْتَضِي حَدًّا أَوْ غَيْرَهُ أُقِيمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَا

(5/525)


وَيَسْتَوِي فِي هَذَا جَمِيعُ الْمَعَاصِي فِي الْأَصَحِّ.

وَلَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدٍّ فَلَا تَعْزِيرَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ، أَوْ تَعْزِيرٍ فَلَهُ فِي الْأَصَحِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مغني المحتاج]
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَغْفُورٌ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ الْمَاضِي لَا الْمُسْتَقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُسْتَقْبَلِ لَكَانَ إطْلَاقًا فِي الذُّنُوبِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ «وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُعَيْمَانَ فِي الْخَمْرِ» وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ فِيهِ أَيْضًا، وَكَانَا بَدْرِيَّيْنِ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِسْطَحًا الْحَدَّ، وَكَانَ بَدْرِيًّا (وَيَسْتَوِي فِي هَذَا) الْمَذْكُورِ (جَمِيعُ الْمَعَاصِي) السَّابِقَةُ: أَيْ: مَعْصِيَةُ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ (فِي الْأَصَحِّ) فَيَلْحَقُ مَا هُوَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْحُدُودِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا، إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّفْرِقَةِ، وَالثَّانِي لَا بَلْ يُقَاسُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ.

(وَلَوْ عَفَا مُسْتَحِقُّ حَدٍّ) عَنْهُ كَحَدِّ قَذْفٍ (فَلَا تَعْزِيرَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ لَازِمٌ مُقَدَّرٌ لَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ فَجَازَ إسْقَاطُهُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ. وَالثَّانِي لَهُ التَّعْزِيرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ) عَفَا مُسْتَحِقُّ (تَعْزِيرٍ فَلَهُ) أَيْ: الْإِمَامِ التَّعْزِيرُ (فِي الْأَصَحِّ) لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَا يُعَزِّرُ بِدُونِ عَفْوٍ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ أَصْلُهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إسْقَاطُ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ التَّعْزِيرَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِأَنْوَاعٍ شَتَّى مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَتَوْبِيخٍ وَحَبْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَحْصُلُ بِقَلِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَكَثِيرِهَا، وَمُسْتَحِقُّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ نَوْعًا مُعَيَّنًا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَازِيرِ وَلَا مِقْدَارًا مُعَيَّنًا بَلْ اسْتَحَقَّ مَجْهُولًا وَالْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ. وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ أَسْقَطَهُ.

خَاتِمَةٌ: لِلْإِمَامِ تَرْكُ تَعْزِيرٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْرَاضِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ جَمَاعَةٍ اسْتَحَقُّوهُ كَالْغَالِّ فِي الْغَنِيمَةِ وَلَاوِي شِدْقَهُ فِي حُكْمِهِ لِلزُّبَيْرِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إنْ كَانَ لِآدَمِيٍّ عِنْدَ طَلَبِهِ كَالْقِصَاصِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْحَاوِي الصَّغِيرُ وَمُخْتَصَرُهُ خِلَافًا لِمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُعَزَّرُ مَنْ وَافَقَ الْكُفَّارَ فِي أَعْيَادِهِمْ، وَمَنْ يُمْسِكُ الْحَيَّةَ وَيَدْخُلُ النَّارَ، وَمَنْ قَالَ لِذِمِّيٍّ يَا حَاجُّ، وَمَنْ هَنَّأَهُ بِعِيدِهِ، وَمَنْ سَمَّى زَائِرَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ حَاجًّا، وَالسَّاعِي بِالنَّمِيمَةِ لِكَثْرَةِ إفْسَادِهَا بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: يُفْسِدُ النَّمَّامُ فِي سَاعَةٍ مَا لَا يُفْسِدُهُ السَّاحِرُ فِي السَّنَةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْعَفْوُ عَنْ الْحَدِّ، وَلَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ» وَفِي الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ صَادَّ اللَّهَ فِي حُكْمِهِ» وَتُسَنُّ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُقُوقِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حَدٍّ أَوْ أَمْرٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ كَالشَّفَاعَةِ إلَى نَاظِرِ يَتِيمٍ أَوْ وَقْفٍ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْحُقُوقِ الَّتِي فِي وِلَايَتِهِ، فَهَذِهِ شَفَاعَةُ سُوءٍ مُحَرَّمَةٌ، وَاسْتُدِلَّ لِلشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] الْآيَةَ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ، وَقَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» .

(5/526)