النهار، فهذه أسباب طرأت، لو [اقترنت] (1)
بالوقاع، لتضمنت إسقاطَ الكفارة، وانتهضت معاذيرَ في الفطر و (2)
منافيةً للصوم، كالجنون، والحيض، ففي سقوط الكفارة في هذه الصورة
أقوالٌ ثلاثة: أحدها - أنها لا تسقط، فإنّ الجماع جرى مفسداً؛ فلا أثر
لطريان ما طرأ بعده، وكأن هذه الأسباب كانت (3) تنتهض مقتضياتٍ للترخص
بالفطر، لو دام الصوم، فإذا تقدم الجماعُ المفسد، فكأن المجامع كما (4)
أفسد الصومَ سد على نفسه باب الترخص.
والقول الثاني - أن الكفارة تسقط [للشبهة] (5) وتوجيه ذلك لائح.
والقول الثالث - أنا نفصل بين طريان ما ينافي الصوم كالجنون والحيض،
وما لا ينافي، بل يُثبت رخصةَ الفطر، كالمرض، فتسقط الكفارة بما ينافي؛
إذ تبينا أن الصوم كان لا يتصوّر تمامه، ووضح أنه بالجماع لم يعترض على
صوم كان يتم، والمرض [من] (6) أسباب الرخص، وقد تختص [الرخصة] (7) بمن
[لم] (8) يفسدها على نفسه.
2333 - ولو أصبح مقيماً صائماً، [وجامع] (9) عاصياً، ثم سافر، لم يختلف
قولنا في أن الكفارة لا تسقط؛ فإن طريان السفر لا يرخّص في الإفطار
بخلاف، طريان المرض. ولم يجعل أئمتنا مذهبَ أحمد، والمزني -حيث صارا
إلى جواز الإفطار في هذا الموضع- شبهةً (10)، فإن ما صارا إليه في
مناقضة أصلٍ متمهدٍ ظاهر، وهو
__________
(1) غير مقروء في الأصل. و (ك): تقرنت.
(2) في (ط): أو.
(3) ساقطة من (ط).
(4) بمعنى: عندما.
(5) الأصل، (ك): للتشبه.
(6) مزيدة من (ط).
(7) زيادة من (ط).
(8) في الأصل: لا.
(9) مزيدة من (ط) وحدها.
(10) مفعول: يجعل.
(4/58)
تغليبُ حكم الحضر في العبادة، التي يشترك
فيها السفر، والحضر.
وذكر صاحب التقريب: أن من أصحابنا من خرّج سقوط الكفارة، عند طريان
السفر على قولين أيضاًً كالمرض، وهذا بعيد، ولكنه ذكره على ثبت.
واختلفت الرواية [في السفر] (1) عن أبي حنيفة (2) وموجَب هذه الطريقة:
أنه لو سافر، ثم جامع لم تلزمه الكفارة؛ بناء على درئها بمذهب من لا
يوجب (3) الصوم، وهذا تخليط، والأصل القطع بأن طريان السفر لا يؤثر.
فصل
2334 - إذا طبق الجنون أياماً من رمضانَ، ثم كانت الإفاقة في بقيةٍ من
الشهر، فلا يجب عندنا قضاء الأيام التي مرت في زمن الجنون. وكذلك إذا
مضت أيامٌ في الصبا، ثم طرأ البلوغ في أثناء الشهر، أو أسلم الكافر
الأصلي. وإنما التردد في اليوم الذي تزول فيه هذه المعاني، كما تقدم
ذكرنا له في الإمساك، والقضاء. ووافق أبو حنيفة (4) في الصِّبا والكفر،
وخالف في الجنون.
وذكر العراقيون عن ابن سريج مثلَ مذهب أبي حنيفة [في الجنون] (5) ثم
زيفوا هذا الذي حكَوْه، وقالوا: هو غلط عليه، ولعله لا يصح نقله عنه
أصلاً.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) قد كان إمام الحرمين في منتهى الدقة في عبارته عن الخلاف في هذه
المسألة، فقد اختلفت الرواية فعلاً عن أبي حنيفة، فمع أن كافة كتب
الأحناف لا تشير إلى خلاف، إلا أن الزمخشري روى هذا الخلاف في رؤوس
المسائل الخلافية (ر. المبسوط: 3/ 75، 76، البدائع: 2/ 100، 101، مختصر
اختلاف العلماء: 2/ 30 مسألة 514، البحر الرائق: 2/ 298، فتح القدير:
2/ 337، الاختيار: 1/ 131، رؤوس المسائل: 230 مسألة 126).
(3) (ط): يجيز.
(4) ر. الأصل: 2/ 183، 200، 201، 202، المبسوط: 3/ 80، 88، 93، مختصر
الطحاوي: 55، البدائع: 2/ 87، 88، اللباب: 1/ 172، 173، مختصر اختلاف
العلماء: 2/ 15 مسألة 498، 2/ 16 مسألة 499.
(5) ساقطة من الأصل وحدها.
(4/59)
والإغماء إذا استمر أياماً أو طبق جميعَ
الشهر، فيجب قضاء الصوم في الأيام المارّة فيه، وهو كالحيض في أنه لا
يُسقط قضاءَ الصوم، ويسقط قضاء الصلاة.
فصل
قال الشافعي: " ولو كان عليه يومٌ من شهر رمضان ... إلى آخره " (1).
2335 - نجمع في هذا الفصل تفاصيلَ الفدية، ومواضعَها.
ونبدأ بما تعرض له الشافعي الآن، فنقول: من فاته صيام أيامٍ من رمضان،
وتمكن من قضائها، فلا يجوز له أن يؤخر قضاءها إلى شهر رمضانَ في السنة
القابلة، وليس ما نذكره استحباباً، بل يتحتم ذلك، مع القدرة، وزوال
المعاذير.
ولو فرض تأخير القضاء إلى السنة القابلة، من غير عُذرٍ، فيجب مع القضاء
لكل يوم مدٌّ من طعام، والمعتمد في أصل التأقيت، وفي الفدية عند
الإخلال بالوقت الخبرُ، والأثر، وهما مذكوران في مسائلِ الخلاف، ولا
نرى قضاء عبادة يتأقت على الاستحقاق إلا هذا.
ولو أخر القضاء سنتين أو سنين، ففي تضعيف الفدية وجهان: أحدهما - أنها
لا تتضعّف، ولا يجب بالتأخير سنين إلا ما [وجب بالتأخير] (2) في السنة
الواحدة. ثم يجوز أن يكون هذا قضاءً بالتداخل (3)، كما مهدناه في كفارة
الوقاع، على قولٍ.
والأصح تعدد الفدية، وتجدّدها، فيجب على مقابلة التأخير في كل سنة
مدٌّ، فإن أخر سنتين، وجب مع قضاء كل يوم مدان. وهكذا زائداً، فصاعداً؛
فهذا مقامٌ في الفدية.
ومما يتعلق بذلك أن التأخير إن كان بعذر، فلا فدية أصلاً، مثل أن يدوم
المرض طول السنة، أو يدوم السفر، وكل ما يجوز تأخير أداء الصوم به،
يجوز تأخير القضاء به، ثم لا فديةَ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 17.
(2) في الأصل: يجب في السنة.
(3) في (ط): بالتواصل.
(4/60)
ومن صُور الفدية أن الشيخ إذا بلغ الهَرَم،
و (1) عجز عن الصوم لهَرَمه، لا لمرضٍ زائد عليه، فلا شك أنه لا يصوم،
ويلزمه أن يُخرج بدلَ كلِّ يوم مُداً، إذا قدر عليه.
وظاهر المذهب: أنه واجبٌ.
وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا
القولَ إلى رواية البويطي، وحرملة، ووجه هذا في القياس بيّن؛ فإن
الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مرضاً يبيح له
الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في
ذلك خلافاً، فلا يبعد أن يعد الهَرَم عذراً دائماً (2)، ولكن هذا
القول، مع اتجاهه في القياس، لا يُعوّل (3) عليه في المذهب.
ومن صور الفدية إفطار الحامل، والمرضع، وقد تفصّل القول فيهما، فيما
تقدم، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في إيجاب الفدية على من يتعمد الإفطارَ
بالأكل عاصياً.
2336 - ومما يتصل بالفدية أن من مات وعليه قضاءُ أيامٍ من رمضان، وكان
متمكناً من القضاء، ولا عذر، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يُخرَج من
تركته في مقابلة كل يوم مد، وهذا فيه إذا لزمه القضاء، وانتفى العذر،
ومات في خلال السنة. فأما إذا أخّر القضاءَ مقصِّراً إلى شهر رمضان في
القابل، والتزم [لذلك الفدية] (4)، ثم مات قبل القضاء، وإخراجِ الفدية،
فالذي ذهب إليه الجماهير إيجاب مُدَّيْن، في مقابلة كل يومٍ: مدٌّ في
مقابلة الصوم نفسه، ومد في مقابلة التأخير.
وحكى العراقيون وجهاً عن ابن سريج أنه قال: يتداخل المدان، ويكتفى
بواحد.
وهذا بعيدٌ جداً، لا ينقدح له وجه.
هذا تفريعنا على القول الجديد.
__________
(1) في (ط): أو عجز.
(2) في (ط): قائماً.
(3) في (ط): معوّل.
(4) في الأصل، (ك): الفدية كذلك.
(4/61)
2337 - وللشافعي قولٌ في القديم: أن من مات
وعليه صومٌ، صام عنه وليُّه، وقيل نُقل في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، على هذه الصيغة (1)، ولست أدري أن الشافعي ترك العمل
بالخبر في الجديد؛ لأنه استبان ضعفَه أو ثبت عنده نسخٌ.
ثم التفريع في هذا مما لم يتعرض له الأصحاب، فلا سبيل إلى [التحكم] (2)
به، والذي يصوم عن الميت الولي، كما ورد في الخبر، أو الوارث أو القريب
من غير اعتبار وراثة، أو يناط ذلك بالعصوبة؟ لا نقل عندي في تفصيل هذا.
وقد وجدت الأصحاب مضطربين فيمن يرث حدَّ القذف، وذلك بعيد عما نحن فيه.
وإن نزلنا هذا القولَ على لفظ الولي، فإنه المنقول، فليس معنا في معناه
ثبت نعتمده، والميت في غالب الأمر لا يكون مَوْلياً عليه. وكان شيخي
يقول: لا خلاف أنه لا يجب على الولي أن يصوم، وإنما الخلاف في أنه لو
صام عن الميت، هل يعتد به. والعلم عند الله تعالى.
2338 - وإذا أردنا جَمْعَ التراجم، قلنا: الفديةُ تتعلق بنفس الصوم
تارةً، فتحل محلَّه، وقد تنضم إلى الصوم ولا تبدله، فأما ثبوتها بدلاً
عن الصوم [ففي] (3) الشيخ الهِمّ، والذي مات وعليه صومٌ، كان قصر في
تأخير قضائه. وأما الفدية [المنضمة] (4) إلى القضاء، فالمتفق عليه منها
ما يجب بسبب تأخير القضاء من سنةٍ إلى سنة، والمختلف فيه الفدية في حق
الحامل، والمرضع. وفي المتعمد العاصي بالإفطار الخلافُ المقدم.
2339 - ثم جنس الأمداد جنسُ صدقةِ الفطر، والكفارات الواقعة بالإطعام.
وكل
__________
(1) حديث صيام الولي عن الميت. متفق عليه من حديث عائشة (البخاري:
الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح 1952، مسلم: الصوم، باب قضاء الصيام عن
الميت، ح 1147).
(2) في (ط)، (ك): الحكم.
(3) الهِمّ بالكسر: الشيخ الفاني، والأنثى: همة (مصباح). هذا وفي نسخة
الأصل، (ط): " في الشيخ الهم " وأثبتناها من (ك)، فالعبارة بدونها لا
تستقيم هنا.
(4) في الأصل، (ك): المتضمنة.
(4/62)
مدٍّ بمثابة كفارة تامّة، فلو أراد من
لزمته أمدادٌ جَمْع عدد منها في مسكين واحد، جاز له ذلك؛ إذ لا يجب
تفريق المدّ الواحد، وكل مدٍّ كفارة.
فصل
قال: " فإن بلع حصاةً، أو ما ليس بطعامٍ ... إلى آخره " (1).
2340 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الصوم، وقد مضى صدرٌ منها، فنرسمها
على هيئة الترجمة، ونستقصي ما لم يجرِ ذكره. ونبدأ به.
فنقول: وصول الواصل إلى باطن عضوٍ يعد مجوفاً مفطرٌ، على الاختيار
والذكر، كما تفصل ذلك. وإذا جاوز شيءٌ الحلقومَ فطَّر، وكذلك ما يجاوز
الخيشومَ في الاستعاط. والحقنةُ مفطرةٌ، وكذلك إيصال الشيء إلى
المثانة.
والمذهب أن ما تجاوز ظاهر الإحليل يُفطر، وإن لم ينته إلى فضاء
المثانة. وفيه وجهٌ بعيدٌ، لا أصل له.
ولو قطّر شيئاً في أذنه، فانتهى إلى داخل الأذن الباطن، فقد كان شيخي
يقطع بأنه مفطر، والذي قطع به الشيخ أبو علي، وطوائفُ من علماء المذهب
أنه لا يفطر.
وكان الشيخ يراعي الوصولَ إلى ما يُعدّ باطناً، والآخرون يرعَوْن أن
يكون في الباطن الذي إليه الوصول قوةٌ تُحيل الواصلَ إليه غذاء، أو
دواءً، وداخل الأذن ليس فيه ذلك، والتردد في داخل الإحليل، فوق
المثانة، قريب من هذا التردد.
ولو [وجأ] (2) الإنسان نفسَه بسكين، فإن انتهى طرفُ السكين إلى باطنٍ
كما وصفناه، حصل الفطر، وإن كان نصابُه (3) ظاهراً، وكذلك إذا بلع
طرفاً من خيط، وطرفٌ منه بارزٌ، فالفطر يحصل بوصول الطرف [الواصل] (4)،
وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك. ولو أوصل السكينَ إلى داخل لحم الساق،
والفخذ، فلا فطر، فإن [ما
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 17.
(2) في الأصل، (ك): وجه.
(3) النصاب مقبض السكين (معجم).
(4) مزيدة من (ط).
(5) ر. بدائع الصنائع: 2/ 93، البحر الرائق: 2/ 300.
(4/63)
وراء] (1) البشرة، وإن كان من الباطن، فليس
جوفاً، وكذلك إن انتهى طرفُ السكين إلى مكان المخ، فلا فطر؛ إذ العضو
لا يعد مجوفاً.
ولو أوصل الدواء [من شجة آمَّة (2) إلى ما وراء القِحْف (3)، حصل
الفطر، ولا يتوقف حصولُه على الوصول إلى ما وراء خريطة (4) الدماغ.
وإن أوصل الدواء] (5) إلى جرح نافذٍ إلى الباطن، فإن وصل إلى داخل
البطن، حصل الفطرُ، وإن لم ينته إلى الأمعاء. ولو جاوز الدواءُ سطحَ
البَشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن، فالوجه القطع بأنه لا يفطِّر، فإن
الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطِّر، لفطَّر وصولُ السكين إليه في
ابتداء الجرح، وفي بعض التصانيف غلطٌ ظاهر في الحكم [بالفطر] (6)
بمجاوزة الدواء البشرة، وهذا محمول على [تثبّج (7)] (8) العبارة، وسوء
الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفناه.
وقد ينفصل وصول اللبن إلى الباطن في حكم الرضاع، عما يحصل [الفطر] (9)
به في بعض التفاصيل، حتى جرى في حصول الرضاع بحقنة اللبن قولان، إلى
غير ذلك، على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
2341 - وداخل الفم والأنف إلى منتهى الخيشوم والغلصمة (10) في حكم
الظاهر.
والريق السائل من داخل الفم، فالواصل إلى الجوف واصلٌ من ظاهرٍ إلى
باطن،
__________
(1) في الأصل: فإن جاوز البشرة.
(2) أمّه: شجه، والاسم آمة بالمد اسم فاعل، والجمع: أَوَام، بفتح أوله
وثانيه مثل دابة ودواب. وسميت هذه الشجة آمّة، لأنها تصل إلى أم
الدماغ. (مصباح).
(3) القِحفُ بالكسر أعلى الدماغ. (مصباح).
(4) الخريطة في الأصل الوعاء، والمراد هنا التجويف العظمي (الجمجمة)
التي تحوي المخ.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(6) زيادة من (ط) وحدها.
(7) في الأصل، (ك): تقبح. والمثبت من (ط).
(8) ثبّج الرجلُ الكلام عمّاه، ولم يبينه، فالتثبّج مصدر تثبّج
بالتشديد. (المعجم).
(9) في الأصل، (ط): الفطرة.
(10) الغلصمة: صفيحة غضروفية عند أصل اللسان، تنحدر إلى الخلف لتغطية
فتحة الحنجرة لإقفالها عند البلع. (المعجم).
(4/64)
ولكن لما عسر التحرز منه، عُفي عنه. ولو
انقلع شيء من أسنانه، فازدرده الصائم، أو سال من العُمور (1) دم،
فتجرعه على قصدٍ، أفطر. ولو جمع الصائم ريقه، ولم يتركه يجري على
الخلقة، ثم ازدرده جملةً، ففي حصول الفطر وجهان: أصحهما أنه لا يفطر،
وإنما نشأ الوجهان من لفظ الشافعي، فإنه قال: وأكره العِلْك (2)، فإنه
يحلب الفم، فكأنه (3) حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة.
وقال الأئمة: لو أخرج الصائم لسانه، وعلى طرفه ريقٌ، ثم ردّه، فلا بأس،
وإن فارقت عذَبَة (4) اللسان الشفتين، فإن اللسان معتبر بداخل الفم،
كيف تقلّب.
ولو أخرج شيئاً من ريقه، وتركه على طرف الشفة بارزاً، ثم ردّه إلى فيه،
فهو بمثابة ما لو ألقاه على كفه، ثم رده، ثم الفطر يحصل به، وهو المذهب
في البلل المتصل بالخيط المجرور، إذا رُدّ، فإن [القلة] (5) فيه (6) لا
أثر لها في منع الفطر.
وما يقدّر وصوله بالمسام، فلا يتعلق الإفطار به، كالأدهان إذا تطلّى
الصائم بها، أو صبها على رأسه.
وإدراك الذوق مع مجّ جِرْم (7) المذوق لا يؤثر في الصوم.
ولا يفطِّر الاكتحالُ والاحتجامُ، خلافاً لبعض السلف. ولا خلاف أن
الافتصاد (8) لا يفطِّر.
وما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به. هكذا كان
يذكره شيخي، ولو تكلف صرفَه عن سَنَن الخلقة إلى فضاء الفم، ثم ازدرده،
فهذا يفطّره.
__________
(1) العَمُر بفتح العين: لحم اللثة، والجمع عُمور. (المعجم).
(2) العِلْك بكسر العين: ضربٌ من صمغ الشجر، كاللبان، يمضغ فلا يذوب.
(معجم).
(3) (ط): كأنه، (ك): فكأنهم.
(4) عَذَبةُ اللسان، بفتحتين: طرفه (المعجم).
(5) في الأصل، (ك): العلّة.
(6) ساقطة من (ط) وحدها.
(7) جرم بكسر الجيم: الجسد. (معجم).
(8) افتصد المريضَ: أخرج جزءاً من دم وريده بقصد العلاج. (معجم).
(4/65)
وأنا أقول: إن كانت النخامة لا تظهر في
الفم، وكان لها مَسْلك (1) متردد في الباطن، فلا شك أنه لا مؤاخذة بها.
وليس الأمر كذلك؛ فإنها تظهر إذا برزت من الثقبة النافذة إلى الدماغ في
أقصى الفم، ثم تجري إلى داخل الحلقوم.
فالوجه أن نقول: ما لا يَشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه،
وهو على علم وخُبْر، فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه
ومجِّه، ففيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخِذ به، وحَسَم الباب،
ما لم يتكلف صرفَه عن مجراه إلى الفم؛ فإنه إذا فعل ذلك، ثم ردّه،
وازدرده، أفطر.
ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه، مع القدرة على مجِّه، وهذا
يلتفت على المراتب التي ذكرناها في غبار الطريق وغيره.
ومما يلتحق بهذا الفن، القولُ في سبق الماء من المضمضة، والاستنشاق،
وفيما قدمناه من البيان مقنع تامٌ فيه.
وكان شيخي يحكي عن الأصحاب أن من بلل خيطاً بريقه، وجرّه، ثم ردّه،
وغلبه الريق، ولم يمجه بعد حصول ذلك، أفطر. وكان يقول: لست أرى الأمر
كذلك؛ فإن ذلك القدر النزر أقلُّ مما يبقى من أجزاء الماء في داخل
الفم، بعد المضمضة.
والاحتمال في هذا محال (2).
فهذا بيان هذا النوع من المفطرات، تأصيلاً وتفصيلاً.
2342 - ومن المفطرات الجماعُ، وقد فصلنا، وألحقنا الاستمناء في الإفساد
والإفطارِ بالجماع؛ من حيث كان مقصودَ الجماع. والقيءُ على ما فصلناه.
والردة تُفسد كلَّ عبادة، والحيض، والجنون، ينافيان العَقْدَ، ويقطعان
الدوامَ. وفي الإغماء ما سبق (3). فهذه جوامع المفسدات.
__________
(1) (ط) سلك.
(2) كذا في النسخ الثلاث، ولكن الأشبه بعبارات الإمام أن تكون: "
وللاحتمال في هذا مجال "، فهذا التعبير يتكرر كثيراً في كلامه. وكما
ترى المعنى ينعكس تماماً.
(3) عبارة الأصل، (ك): " في الإغماء على ما سبق ".
(4/66)
فصل
قال: " وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرَّى ... إلى آخره " (1).
2343 - الأسير المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان، تحرى، وراجع التواريخ
المنسلكةَ في ظنه، وقرَّب نظرَه جُهدَه، وصام شهراً.
والمسألة مفروضة في استمكانه من معرفة الهلال، فإذا صام شهراً من
الهلال إلى الهلال، فإن وافق شهرَ رمضان، فهو المُنى، وإن وافق شهراً
بعده، وكانت أيامه قابلةً للصوم، وقع الاعتداد بما جاء به.
2344 - واختلف الأئمة في أن صومه في ذلك الشهر قضاء أم أداء؟ فمن جعله
قضاءً، لم يَخْفَ توجيهُ قوله، ومن جعله أداء، تمسك بإجزائه [بنية] (2)
الأداء. ثم لا يمتنع أن يفارق حكمُ المضطر [حكمَ] (3) المختار.
وخرّج الأئمةُ على هذا الخلاف أن شهر رمضان في تلك السنة لو كان ثلاثين
يوماً، وكان ما صامه تسعةً وعشرين، فهل يكفيه ما جاء به، أم نكلفه بعد
التبين (4) قضاء يوم؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف في الأداء والقضاء: فإن
[جعلنا صومَه أداء، فكان ذلك الشهر شهرَه، فلا نظر إلى غيره، وإن] (5)
جعلناه قضاء، فقد صام تسعةً وعشرين، وبقي عليه يومٌ، فليقضه.
2345 - ولو صادف الشهرُ الذي صامه شهراً متقدِّماً على شهر رمضان، فإن
انجلى الإشكالُ وشهر رمضانَ بين يديه، لزمه صومُه، بلا خلاف.
وإن زال الإشكالُ بعد مضي شهر رمضان، ففي إجزاء صوم الشهر المتقدم
قولان
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 20.
(2) في الأصل، (ك): بقية.
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ك): الثلاثين.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(4/67)
للشافعي: أحدهما - لا يجزىء، فإن العبادة
البدنية إذا تقدمت على وقتها، لم يعتد بها. والثاني - أنها تجزئ
للضرورة. وكان القفال يبني هذين القولن على أنه لو وافق صومُه شهراً
بعد شهر رمضان، فصومه أداءٌ، أم قضاء؟ ووجه البناء أنا إن قدرناه
قضاءً، فالقضاء لا يتقدم، وعبادة البدن لا تتقدم على وقتها، وإن قدرنا
الصومَ في الشهر المتأخر أداء، بناء على ظنه فتخيُّلُ (1) ذلك في
التقدم والتأخر على وتيرة واحدة.
فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القولَ في خطأ
الحجيج، فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر أجزأهم الوقوفُ، وإن اتفق
غلطٌ في أهلّةٍ وترتب عليه الوقوف في الثامن، ففي إجزائه وجهان، وهذا
يناظر تقدمَ شهر الأسير على شهر رمضان؟ قلنا: هذا تشبيهٌ من حيث
الصورة؛ فإن الذي أوجبَ الفرقَ بين الثامن والعاشر عمومُ تصوّر الغلط
في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير، فإنه على وتيرة
واحدة في التقدم والتأخر، فلا ينبغي أن يُعتقد اتحاد مأخذ المسألتين.
2346 - ولو انجلى الإشكال، وقد بقي بعضُ شهر رمضان، فيجب صوم البقية،
وفي إجزاء ما مضى طريقان: منهم من خرّجه على القولن، وهو (2) الوجه،
ومنهم من قطع بأنه يجب استدراكه إذا اتفق إدراك شيء من الشهر.
وكان شيخي أبو محمد يقول: الاجتهاد في وقت الصلاة، في حق المحبوس، على
الترتيب الذي ذكرناه في الصوم، في صورة الخلاف والوفاق. فأما المجتهد
القادر على أن يَصْبر حتى يستيقن، إذا تقدمت [صلاته، لم يعتد] (3) بها
قولاً واحداً.
2347 - ثم ذكر الشافعي: أن من فاته صوم أيامٍ من رمضان، لا يجب عليه
رعاية الموالاة في القضاء، وقصد به الردّ على مالك (4)؛ فإنه أوجب
المتابعةَ في القضاء
__________
(1) (ط): تتخيل.
(2) (ك): وهذا.
(3) في الأصل: صلاة، لم يعيّد. (بهذا الضبط).
(4) الذي رأيناه عند المالكية أن التتابع لا يجب، بل يستحب (ر. حاشية
ابن حمدون: 2/ 520، الإشراف: 1/ 446 مسألة 680).
(4/68)
[ظاناً] (1) أن الأداء متتابع، وهذا غلط؛
فإن ما تخيله من التتابع في الأداء تواصل الأوقات، وليس تتابعاً راجعاً
إلى صفة العبادة، بدليل أن من أفطر اليوم الأخير من رمضان، لم يلزمه
قضاء ما تقدم عليه، بخلاف الصيام المتتابع في الكفارة شرعاً، أو الصوم
الذي نذر الناذر التتابعَ [فيه] (2).
فصل
قال: " وأحب للصائم أن ينزه صيامه ... إلى آخره " (3).
2348 - ظاهر التكليف في الصوم متعلق بالإمساك والنية، ولكن المقصود
غضُّ الهوى حتى تقوى النفس على التقوى، ولو كُلِّف الخلق هذا المقصودَ
تصريحاً، لما استقل به الأكثرون. وهذا من لطائف الشريعة، وكلّفوا ما
يفضي إلى طرفٍ من التقوى في الغالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الصوم جُنّة، وحصن حصين، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا
يفسق، وإن شاتمه رجل، فليقل: إني صائم " (4) ومعنى الحديث أن [يحدّث]
(5) نفسه بصومه، حتى يزجره ذلك عن المشاتمة؛ إذ لا معنى لذكر الصوم لمن
شاتمه.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) مزيدة من (ط).
(3) ر. المختصر: 2/ 21.
(4) حديث: " الصوم جنة " جزء من حديث أبي هريرة المشهور والمتفق عليه "
كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ... " وله في الصحيحين طرق وألفاظ، ليس
منها (حصن حصين)، وبهذا اللفظ رواه أحمد في مسنده: 2/ 402، قال الهيثمي
في المجمع: إسناده حسن: 3/ 180، وكذا حسنه المنذري في الترغيب
والترهيب: 2/ 83، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3881.
(البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل
الصيام، ح 1151 (163)).
(5) في الأصل، (ك): يجرّب.
(4/69)
فصل
قال: " ولا أكره في الصوم السواكَ ... إلى آخره " (1).
2349 - استعمال السواك في النصف الأول من النهار إلى زوال الشمس حسنٌ،
على شرط التحفّظ من تجرع حِلابه، وازدراد شَظِيِّه، فإذا زالت الشمس،
لم نر استعمالَ السواك استبقاءً للخُلُوف (2)، وفيه الحديث المشهور
(3). ولا فرق بين صوم التطوع والفرض.
...
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 24.
(2) خلوف: وزان قعود.
(3) إشارة إلى حديث: " لخلوف فم الصائم ". وهو جزء من حديث أبي هريرة
السابق: البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل
الصيام، ح 1151 (163).
(4/70)
باب صيام التطوع
2350 - لا يلزم صوم التطوع بالشروع عندنا، وكذلك الصلاة، وللشارع فيهما
قطعُهما، ثم لا يلزم القضاء. وكان شيخي يقول: الإفطار بالعذر مسوّغ،
ومن جملة المعاذير في ذلك أن يعز على من أضافه امتناعُه عن الطعام، فإن
لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم، والصلاة؟ فعلى وجهين كان يذكرهما، ولا
بُعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع.
***
(4/71)
باب النهي عن الوصال
2351 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل في العشر الأخير، فواصل
عمرُ وغيرُه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " وددت لو
مُدّ لي الشهر مدّاً، ليدع المتعمقون تعمُّقَهم، يقوى أحدكم على ما
أقوى عليه؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني " (1).
وغرض الباب أن الوصال كان قُربة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهو محرّم على أمته، والوصال يزول بقطرةٍ يتعاطاها كلَّ ليلة، ولا يكفي
اعتقادُه أن من جَنَّ عليه الليلُ، فقد أفطر (2).
...
__________
(1) حديث النهي عن الوصال، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: التمني،
باب ما يجوز من اللَّوْ، ح 7241، مسلم: الصيام، باب النهي عن الوصال في
الصوم، ح 1104).
(2) المعنى أن حقيقة الوصال تتحقق بعدم الأكل في الليل، فلو لم يأكل في
الليل، سواء نوى الوصال أم لم ينوه، فهو مواصل. وإن كان دخول الليل،
وانقضاء النهار، يعتبر منهياً للصوم. (ر. المجموع للنووي: 6/ 357 وما
بعدها، ففيها بحث لطيف، وتفصيل بديع).
(4/72)
باب صيام يوم عرفة
ويوم عاشوراء
2352 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة كفارةُ السنة
والسنة التي تليها، وصوم يوم عاشوراء كفارةُ السنة " (1). فقوله السنة
التي تليها يحتمل معنيين: أحدهما - السنة التي قبلها، فيكون إخباراً
أنه كفارةُ سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حملُها على السنة المستقبلة، وكل
ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمولٌ على الصغائر، دون
الموبقات.
وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم التاسوعاء، والعاشوراء،
فيحتمل أنه لم يؤثر إفرادَ يومٍ بالصوم، ويحتمل أنه احتاط لمصادفة
العاشر.
ثم لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم
صائماً فيه في حجة الوداع، وتبين ذلك لأصحابه، بتناوله لبناً في قدحٍ
وقتَ العصر، ومناولته سَوْدة أم الفضل بنت الحارث (2)، ولعل السبب فيه
أن لا يعجز عن الدعاء عشية عرفة، فلا يَعدِلُه فيما نظن دعاءٌ وذكرٌ في
غيره.
...
__________
(1) حديث صوم يوم عرفة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة
والطبراني وابن حبان والبيهقي كلهم من حديث أبي قتادة الأنصاري (مسلم:
الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة
وعاشوراء، ح 1162، أبو داود: الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر تطوعاً، ح
2425، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، ح 752،
ابن ماجة: الصيام، باب صيام يوم عرفة، ح 1730، باب صيام عاشوراء، ح
1338، الطبراني في الكبير: 19/ 4، 5 ح 6، 8، ابن حبان: ح 3632،
البيهقي: 4/ 283، 286).
(2) حديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم لبناً يوم عرفة متفق عليه من
حديث أم الفضل بنت الحارث، ومن حديث ميمونة (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 14 ح
686، 687).
(4/73)
باب الأيام التي نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها
2353 - أما العيدان، فلا يقبلان الصومَ، ويلغوا نذر صومهما.
2354 - فأما أيام التشريق، فالمنصوص عليه في الجديد أنها لا تقبل
صوماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: " إنها أيام أكل وشرب
وبِعَال " (1).
وقال في القديم: للمتمتع أن [يوقع] (2) فيها صيامَ الأيام الثلاثة
الثابتة في كفارة التمتع.
ثم اختلف أصحابنا في التفريع على القديم، فقال بعضهم: إنها لا تقبل غير
صوم التمتع، لضرورةٍ تخصه، وقال آخرون: إنها كيوم الشك، على ما نصف
حكمَه.
2355 - أما يوم الشك، فقد سبق تصويره، [واعتماد] (3) صومه من غير سبب
منهيٌ (4) عنه، وفي صحته وجهان، كالوجهين في إيقاع الصلوات التي لا
أسباب لها في الأوقات المكروهة، ونَذْر صومه يخرج على ذلك، فإن لم نصحح
فيه صوماً بلا سبب، لغا نذْر صومه، وإن صححنا صومه مع الكراهية، صح
النذر.
__________
(1) حديث أيام التشريق أيام أكل وشرب، روي من طرق صحيحة بدون لفظ
(بعال)، (مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وأما بلفظ: بعال، فقد رواه
الدارقطني والطبراني وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي شيبة
والنسائي من طرق مختلفة وكلها ضعيفة كما قال الحافظ في التلخيص (ر.
مسلم: الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، ح 1141، الدارقطني: 2/ 212،
ابن حبان: 5/ 245، المعجم الكبير للطبراني: 11/ 232 ح 11587، أبو يعلى:
ح 5913، 6024، ابن أبي شيبة: (3/ 104)، السنن الكبرى: 4/ 298، تلخيص
الحبير: 2/ 375 ح 894، خلاصة البدر المنير: ح 1108).
(2) في الأصل، (ك): يرفع.
(3) في الأصل، (ك): واعتماده.
(4) منهي: خبر لقوله: واعتمادُ، وليست نعتاً لـ" سبب ".
(4/74)
وذكر القاضي حسين مسلكاً يفضي إلى تنزيل
يوم العيد، منزلة يومِ الشك. وما نراه قاله عن عَقْدٍ، وإنما ذكره في
تقدير كلامٍ تقديراً، لا تحقيقاً. وأصل المذهب لا يُزال بمثل هذا.
ولو أوقع في يوم الشك قضاءً، أو صوماً منذوراً، أو صادف وِرداً له، فلا
بأس، ولا كراهية.
ولو أراد أن يصوم شعبان كله، فصام يومَ الشك على قصدِ استكمال شعبان،
فلا بأس أيضاًً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصوم شعبان كله " (1) والله أعلم.
...
__________
(1) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 20 ح 712).
(4/75)
باب الجود والإفضال
في شهر رمضان
2356 - قال ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الخلق،
فإذا دخل شهر رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة " (1) معناه في
العموم، أو في التسرع (2). وبالجملة شهر رمضان شهر البركات، والبدار
إلى الخيرات، والحسناتُ فيه مضاعفة، فليبتدرها الموفقون. والله وليّ
التوفيق.
...
__________
(1) حديث ابن عباس متفق عليه (البخاري: بدء الوحي، ح 6، مسلم: الفضائل،
باب جوده صلى الله عليه وسلم، ح 2308).
(2) في (ك): الشرع.
(4/76)
باب (1) الاعتكاف وليلة القدر
2357 - صدّر الشافعي كتابَ الاعتكاف بالقول في ليلة القدر، فإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يلتمسها في العشر الأواخر، ويعتكف فيها
ليلاً، ونهاراً.
واختلف العلماءُ: هل كانت ليلة القدر في الأمم؟ والمختار عندنا أنها
مختصة بهذه الأمة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً
من بني إسرائيل لبس لأْمَتَه (2)، وقاتل في سبيل الله ألف شهر، لا
ينزِعها (3)، فاستعظمت الصحابة، [ذلك] (4) وتمنَّوْا أن يكون لهم مثلُ
هذا العمر، وهذه القوة؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] إلى قوله تعالى:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، فدل هذا
على تخصيص هذه الأمة [بها] (5).
2358 - ثم اختلف الناس في وقتها: فذهب بعضُهم إلى أنها في السنة،
وعندنا أنها في الشهر، ومذهب أبي حنيفة (6) أنها في الشهر، لا يختص بها
عشر، وذهب الشافعي إلى أنها في العشر الأخير، وميله إلى أنها ليلةُ
الحادي والعشرين، وفيه الحديث الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " أريت هذه الليلةَ، فخرجت لأخبركم، فتلاحا فلانٌ
وفلان، فأُنسيتها، ولعله خيرٌ لكم، ورأيتني أسجد في صبيحتها إلى ماءٍ
وطين " قال راوي الحديث، أبو سعيد الخدري:
__________
(1) في (ط): كتاب.
(2) لأْمَته، بفتح فسكون: أداة الحرب كلُّها: من رمحٍ، وبيضة،
ومِغْفَرة، وسيف، ودرع.
(المعجم).
(3) ينزِع: من باب ضرب.
(4) مزيدة من (ط).
(5) زيادة من المحقق؛ رعاية للسياق والسباق.
(6) ر. فتح القدير: 3/ 389.
(4/77)
" أبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم وعلى جبهته وأنفه أثرُ الماء والطين، في صبيحة إحدى عشرين " (1).
وفي الحديث: إن المسجد كان على عريش، وأمطرت السماء فوكف (2).
وقال الشافعي -رحمه الله- في بعض المواضع: هي ليلةُ الحادي والعشرين،
أو ليلةُ الثالث والعشرين.
وذهب طوائفُ من الناس إلى أنها ليلةُ السابع والعشرين، وإليها صَغْوُ
(3) الناس، وهو مذهب ابن عباس. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: " اطلبوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر " (4) وروي
أنه قال: " اطلبوها لتسع بقين، أو لخمسٍ بقين، أو لثلاثٍ بقين، أو
الليلةَ الأخيرة " (5).
وذهب بعض العلماء إلى أنها رُفعت، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهذا أبعد المذاهب.
2359 - فإن قيل: فعلى ماذا التعويل؟ وما المعتبر في هذا؟ قلنا: للشافعي
مذهبان: أحدهما - في انحصار ليلة القدر في العشر الأخير، والآخر:
تعيينه الحاديَ والعشرين، والثالثَ والعشرين.
وبين مذهبيه فرقٌ، تبينه مسألة، وهي الكاشفة لغائلة الفصل.
[قال الشافعي] (6): لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى
ينفضي
__________
(1) حديث أبي سعيد في ليلة القدر متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 25 ح
725).
(2) وكف البيت بالمطر، من باب وعد: سال قليلاً قليلاً. (المصباح).
(3) صغو: من باب عدا: مَيْلُ. (المختار).
(4) حديث: " اطلبوها في العشر " جزء من حديث أبي سعيد الخدري السابق،
وهو متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 20/ 25 ح 725).
(5) حديث: " اطلبوها لتسع بقين " رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان،
والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (أحمد: 5/ 36، 39، الترمذي: الصوم، باب
ما جاء في ليلة القدر، ح 794، ابن حبان: 3686، الحاكم: 1/ 438). هذا
وقد جاء في الحديث زيادة (، أو لسبع " بين التسع والخمس، وقد سقطت من
سياقة الإمام للحديث.
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(4/78)
العشر، ولو انقضت، طُلّقت، ولا نحكم بوقوع
الطلاق بانقضاء الحادي والعشرين، ولا بانقضاء الثالثة (1) والعشرين؛
فمذهبه ثابتٌ في أنها في العَشر، وهو على تردد في التعيين من العشر،
والحديث الذي يتكرر في متن كل مروي قوله: " التمسوها في العشر الأخير "
وفي الحديث تأكيدُ الأمر بالألتماس في الأوتار، من غير إغفال الأشفاع.
فإن قيل: الانحصار في العشر مقطوعٌ به؟ قلنا: لا، ولكنه [مذهبٌ] (2)
ثابت، والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة (3).
وذكر صاحب التقريب في كتابه تردداً، في أنه يجوز أن تكون في النصف
الأخير من رمضان. وهذا متروك عليه، ولا نعرف له متعلَّقاً.
وفي العلماء من قال: إنها تنتقل.
هذا نجاز القول في ذلك.
2360 - ثم حق من يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل
المعتكَف قبل غروب الشمس يومَ العشرين، حتى تغرب عليه الشمس، وهو في
معتكفه، ثم يستمر إلى استهلال هلال شوال، ولو أحيا ليلةَ العيد، تعرّض
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا ليلتي العيد، لم يمت
قلبُه يوم تموت القلوب " (4).
__________
(1) كذا. على معنى الليلة، وفي (ك): " الثالث ".
(2) مزيدة من (ط) وحدها.
(3) ر. المجموع للنووي: 6/ 453، وراجع موضوع ليلة القدر كاملاً من 446
- 474، ففيه كلام نفيس، وعلم غزير.
(4) حديث: " من أحيا ليلتي العيد ... " رواه ابن ماجه من حديث أبي
أمامة مرفوعاًً وسنده ضعيف كما في الزوائد، ونقل الحافظ أن الدارقطني
ذكره في العلل من حديث ثور عن مكحول عن أبي أمامة. وقال: والصحيح أنه
موقوف على مكحول. وقد رواه الشافعي في الأم: (1/ 231) موقوفاً على أبي
الدرداء - (ابن ماجة: الصيام، باب فيمن قام في ليلتي العيد، ح 1782،
مجمع الزوائد: 2/ 198، التلخيص: 2/ 160 ح 676، السلسلة الضعيفة
للألباني: ح 521).
(4/79)
والاعتكاف كان في الشرائع المتقدمة، قال
الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. وعن عائشة أنها قالت: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف، فيدني إليّ رأسَه، فأرَجِّله "
(1).
فصل
قال: " والاعتكاف سنة حسنة، ويجوز بغير صوم ... إلى آخره " (2).
2361 - المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الاعتكاف يصح بغير صوم، ويصح
في الليلة الفردة، والعيد وأيام التشريق.
وقال أبو حنيفة (3): " لا اعتكافَ إلا بصوم "، ثم ناقض، وقال: لو اعتكف
يوماً محتوشاً بليلتين، صح اعتكافه في اليوم والليلتين، وإن كانت
الليلةُ لا تحتمل الصوم.
وحكى الأئمة قولاً للشافعي في القديم، في اشتراط الصوم في الاعتكاف. ثم
قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم، لم نصحح الاعتكاف في الليل،
لا تبعاً، ولا مفرداً.
2362 - فإن قلنا: الصومُ شرطُ الاعتكاف، لم نشترط الإتيانَ بصومٍ لأجل
الاعتكاف، بل نصحح الاعتكافَ في رمضان، وإن كان صومُه مستحَقاً شرعاً،
مقصوداً.
وإن قلنا: الصوم ليس بشرط في الاعتكاف، فلو نذر أن يعتكف صائماً، فهل
يلزمه الجمع بين الصوم والاعتكاف، [أم يجوز له أن يعتكف بلا صوم،
ويصومَ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه (البخاري: الاعتكاف، باب
الحائض ترجل رأس المعتكف، ح 2028، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض
رأس زوجها، ح 297).
(2) ر. المختصر: 2/ 31.
(3) ر. الأصل: 2/ 230، 239، 254، مختصر الطحاوي: 57، المبسوط: 3/ 115،
البدائع: 2/ 109، 110، 111، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 47 مسألة 534،
و2/ 50 مسألة 539 رؤوس المسائل: 237 مسألة 133.
(4/80)
بلا اعتكاف] (1)، فعلى وجهين، وربما كان
يقول: على قولين: أحدهما - لا يجب الجمع؛ فإنهما عبادتان، كلُّ واحدة
مقصودةٌ في نفسها، فلا يجب الجمع بينهما بالنذر، كما لو قال: لله عليّ
أن أعتكف مصلياً؛ فإنه لا يلزمه الجمع بينهما.
والثاني - يلزمه الجمع، لاستواء العبادتين في المقصود؛ إذ الغرض من كل
واحد منهما الإمساك، والانكفاف، وإذا تقاربتا، لم يبعد التزام جمعهما،
كما لو نذر أن يُقرن بين الحج والعمرة.
وكان شيخي يقول: لو نذر أن يصوم معتكفاً، لم يلزمه الجمع بينهما، وجهاً
واحداً. وهذا لا أرى له وجهاً، فلا فرق بين أن ينذر الاعتكاف صائماً،
وبين أن ينذر الصوم معتكفاً، فالوجهان جاريان.
قال القفال: إذا قال: لله عليّ صلاةٌ، أقرأ فيها السورة الفلانية، فهل
يجب عليه الوفاء بذلك جمعاً، حتى لو قرأ تلك السورة في غير الصلاة
المنذورة، وأقام الصلاة دونها، يجوز؟ قال: هذا يخرّج على الخلاف في أنه
هل يجب الجمع بين الاعتكاف والصوم بالنذر.
فصل
قال: " ومن أراد أن يعتكف العشرَ الأواخر ... إلى آخره " (2).
2363 - الأَوْلى فرض هذا الفصل في النذر. فإذا قال الرجل: لله عليّ أن
أعتكف العشر الأواخر من الشهر، فإن ابتدأ الاعتكافَ مع (3) انقضاء
العشرين من الشهر، ثم خرج الشهر ناقصاً، فقد خرج عن موجَب نذره؛ فإنه
وإن نذر العشرَ في لفظه، فالمراد به (4) افتتاحُ الاعتكاف في الوقت
الذي ذكرناه، إلى انقضاء الشهر، ثم الشهر قد يكمل، وقد ينقص، فلا حكمَ
لذكر العشرِ مع تعيين الآخر من الشهر.
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) ر. المختصر: 2/ 32، 33.
(3) (ط): من.
(4) (ط): فيه.
(4/81)
ولو قال: لله عليّ أن أعتكف عشرةَ أيامٍ،
ثم افتتح الاعتكاف، في الوقت الذي ذكرناه من الشهر، ثم نقص الشهر، لزمه
اعتكافُ يومٍ آخر؛ فإنه اعتبر بالعشر، وجرَّد القصد إليه، فلا بد منه،
ووضوح ذلك يغني عن الإطناب فيه.
فصل
2364 - لا بد من ذكر الاعتكاف المتطوّع به، والمنذور، وتمييزِ أحد
القسمين عن الثاني، على الجملة.
ثم المسائل الموضوعة في الباب تفصِّل ما نجمله [فيهما] (1).
فالاعتكاف يقع تطوعاً، ومنذوراً، فأما التطوع، فعماده النيّة، وقد
اختلف -أولاً- أئمتنا في أن حضور المسجد من غير مُكث: هل يكون اعتكافاً
معتداً به؟ فمنهم من قال: لا بد من لُبث، وهو الاعتكاف.
ومنهم من قال: الحضور يقع قُربةً، معدودة من قبيل الاعتكاف، وإن لم يقع
لُبث. فهذا (2) بمثابة حضور عرفة، فإنه يُغني ويَكفي في تحصيل الركن،
وإن كان قد أُوجب باسم الوقوف، وهو مشعر بالمكث إشعار العكوف (3).
التفريع:
2365 - إن حكمنا بأن الحضور كافٍ، فحضور المسجد اعتكافٌ مع النية، حتى
لو نوى من يدخل من بابٍ ويخرج من بابٍ الاعتكافَ، كان ما جاء به
قُربةً، من قبيل الاعتكاف.
وإن قلنا: لا بد من لُبث، لم يكفِ فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛
فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض منها، انفصالُ آخرِ حركةِ
الهُويّ عن أولِ حركة الرفع عن الركوع، وكأن الغرض تحصيلُ صورة الركوع،
مع فصله عما قبله وبعده. وأما هذه القُربة، فشرط تصويرها عند هذا
القائل المُكث، فليكن محسوساً.
__________
(1) في الأصل، (ك): فيها.
(2) (ط): وهذا.
(3) (ط): الوقوف.
(4/82)
ولو كان المعتكف متردّداً (1) في أرجاء
المسجد، فهو معتكف، وقد يكون زمان تردد من يصح اعتكافه أقلَّ من زمان
من يدخل من بابٍ، ويخرج من باب، والبابان متحاذيان.
2366 - ثم إذا ثبت أن الاعتكافَ المتطوعَ به يعتمدُ النيةَ، فالنيةُ لا
يخلو إما أن تثبت مرسلة، من غير ربط بأمدٍ معلوم، وإما أن تتعلق بمدة
معلومة. فإن نوى من دخل المسجدَ الاعتكافَ، بقي معتكفاًً ما بقي في
المسجد، طال الزمان، أو قصر.
وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة، في (2) الصلاة ويقول: إذا نوى
المتطوع الصلاةَ مطلقةً، ولم يربط قصدَه بأعدادٍ معلومة من الركعات،
فالوجه تصحيحُ ركعةٍ؛ إن اقتصر عليها، أو ركعتين، أو أربع (3)، فأما
المزيد -ولم يرد فيه ثبتٌ على الاسترسال- ففيه نظر.
ووجدت لغيره القطعَ بأنه لو نوى الصلاةَ وأراد إقامةَ مائةِ ركعة في
تسليمةٍ، فلا بأس. وهذا هو القياس.
ولا ينبغي للمحصل إذا هاب شيئاً أن يتخذ هيبته معوَّل نظره.
فإذا كان الاعتكاف كذلك، فمهما اتفق خروجٌ، انقطعَ، ولا بد في العَوْد
من تجديد النية، ثم يكون اعتكافاً مبتدأً، والذي مضى اعتكافٌ تام [إن]
(4) كان لُبثٌ، وإن لم يكن، فعلى ما قدمناه من الخلاف.
و (5) لا فرق بين أن يخرج لقضاء الحاجة، أو لغيرها فيما ذكرناه.
فلو ربط النيةَ بأمدٍ، ارتبطت به. قال شيخي: إذا خرج، وعاد، فإن قرب
الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية في المدة المعينة. وإن بعد الزمان،
ففي البناء على
__________
(1) (ط): يتردد.
(2) (ط): وفي.
(3) في الأصل، (ط): أربعة. وهو جائزٌ إذا تقدّم المعدود.
(4) ساقطة من الأصل، (ك).
(5) الواو مزيدة من (ط).
(4/83)
النية المتقدمة، والاكتفاءِ [بها] (1)
قولان مأخوذان من تفريق الطهارة، وما ذكرناه فيه إذا لم يكن الاعتكافُ
منذوراً.
2367 - قال الإمام: لو نذر اعتكافَ أيام، ولم يشترط التتابعَ، فدخل
المعتكَف، ونوى إقامة الوفاء بالنذر، فإذا خرج، وعاد، وقرب الزمان، لم
يحتج إلى تجديد النية. وإن بعد، فعلى القولين؛ فإن التتابعَ إذا لم يكن
مستحَقاً، قامت النية في إقامة الوفاء بالنذر، مقام (2) النية في
التطوع بأصل الاعتكاف، ولا يختلف النوعان بالاستحقاق، [والاستحباب]
(3)، وإنما المتبع النيةُ، وصفة التتابع غيرُ مرعية. ولم يفصل شيخي
(4)، لمّا قال: " إذا قرب الزمان، فلا حاجة إلى تجديد النية "، بين أن
يكون الخروج لقضاء [الحاجة] (5)، أو غيرها، وإنما اعتبر قربَ الزمان.
وفي (6) كلام أئمتنا في الطرق: إن الخروج إن (7) كان لقضاء الحاجة، فلا
حاجة إلى تجديد النية عند العَوْد، وإن لم يكن لقضاء الحاجة، ففي
التجديد عند العود خلافٌ، وإن قرب الزمان؛ لأن الخروج مناقضٌ للاعتكاف،
وليس كالتفريق في الزمان اليسير، في الطهارة. وهذا محتملٌ.
2368 - وفي بعض التصانيف أن مَنْ كان يعتاد دخولَ المسجد، لإقامة
الجماعة، أو غيرها، وكان لا يظهر ما يخالف عادته في الدخول والخروج،
فلو نوى كلما دخل الاعتكافَ، لم يكن اعتكافاً عند بعض الأصحاب، لأنه
غيرُ مخالفٍ لعادته، في دخلاته وخرجاته. وهذا معدود من سقطات الكتاب
(8)؛ فإن المكث، والحضور،
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) في الأصل، (ك): ومقام.
(3) في الأصل، (ك): والاستحثاث. وفي (ط): فالاستحباب. والمثبت لفظ (ط)
مع تغيير الواو بالفاء. مراعاة للسياق.
(4) هذا يؤكد أنه يعني شيخه بقوله: (الإمام).
(5) في الأصل، (ك): حاجة.
(6) (ط): ومن.
(7) (ط): إذا.
(8) المراد كتاب (أبي القاسم الفوراني)، فإمام الحرمين كثير التتبع
للفوراني، والحط عليه،=
(4/84)
هو الذي تردّد الأئمة فيه، فأما إذا حصل
المكثُ، وانضمّت النيةُ إليه، فليس يتجه إلا القطعُ بتصحيح الاعتكاف.
وحكى الشيخ أبو بكر في آخر الكتاب (1): إن من أصحابنا من لم يصحح
الاعتكافَ إلا يوماً، أو ما يدنو من يوم، وزعم هذا القائل أن النصف من
اليوم، فما دونه، مما يغلب جريان المكث في مثله لعامة الناس، لحاجاتٍ
تعنّ لهم في المساجد، ولا يثبت الاعتكاف إلا بمكثٍ يظهر في (2) مثله أن
صاحبه معتكف في المسجد، [وهذا] (3) أبعد.
وما حكيناه من هذا التصنيف، وما قدمنا في ذلك التصنيف، وما حكاه الشيخ
واحد. وإنما التردد في الصيغة.
هذا قولينا في التطوع بالاعتكاف.
2369 - فأما الواجب، فهو المنذور، ولا يجب الاعتكاف شرعاً، وهذا يخرم
ضبطاً لبعض الأصحاب، فيما يلزم بالنذر؛ فإن طائفةً منهم، صاروا إلى أنه
لا يُلتزم بالنذر إلا ما يجب بأصل الشرع، والاعتكاف يَرِد على ذلك،
ومحاولة الجواب عنه تكلّفٌ.
وسنذكر حقيقة ذلك وسرّه، في كتاب النذور.
ثم الاعتكاف المنذور ينقسم إلى: مقيد بالتتابع، وإلى مضافٍ إلى الزمان
المعين، من غير تتابع، وإلى مضافٍ إلى زمان معين، مع التقييد بالتتابع.
فأما المنذور المطلق الذي لم يتقيد بزمانٍ، ولا تتابع، فقد ذكرنا فيه
غرضَنَا في
__________
=وللفوراني كتابان مشهوران، هما: (الإبانة)، و (العمد). ولعل المقصود
هنا (الإبانة)، فهو الأكثر شهرة.
(1) واضحٌ أنه يعني (كتاب الاعتكاف)، وإلا، فليس من المعقول أن يكون
هذا الكلام عن الاعتكاف في ختام كتابه الذي يحوي الفقهَ كلَّه.
(2) في (ط): (من). وهي مرادفة لـ (في).
(3) في الأصل: وهو.
(4/85)
فرض الاشتغال بالوفاء به، عقداً ونيةً،
وأوضحنا أن التتابعَ إذا لم يكن شرطاً، فالقول يؤول إلى النية في إنشاء
الوفاء.
ثم الخروج من المعتكَف والعَوْد إليه يستدعي الكلامَ في الاحتياج إلى
تجديد النية.
وقد ذكرنا تفصيلَ ذلك؛ فإذاً هذا خارجٌ عن غرضنا.
والقول وراء ذلك في الأقسام الثلاثة، التي ترجمناها، فنقول:
أمّا النذر المقيّد بالتتابع، من غير إضافةٍ إلى [الزمان، فالتتابع
مرعيٌّ] (1) فيه وفاءً بالنذر، ولا يخفى أن من حكم التتابع إذا انقطع،
بما يتضمّن قطعَه [كما سنصفه] (2)، فأثرُ ذلك بطلان الاعتكاف، فيما
مضى.
2370 - ونحن نذكر معاقد المذهب فيما يؤثر في التتابع وفاقاً، وفي مواقع
الخلاف، وفيما لا يؤثر، ولا نحوي جملةَ الغرض، بل نبيّن ما يظهر، ويجري
مجرى تأسيس القواعد، ونحيل غيره عفى مسائل الكتاب؛ فإنها منصوصة.
فالخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابعَ، وإن لم يجر له تعرّض؛ فإن هذا
في حكم المذكور المستثنى بقرينة الحال، ثم إن قرب زمان الخروج
والعَوْد، فلا أثر لما جرى. وإن كان منزله بعيداً وتطاول الفصل لذلك،
فوجهان.
وكذلك لو كثرت الخرجات لعارضٍ اقتضى الخروج عن عادة الاعتدال، فهو على
الوجهين: فمن أئمتنا من راعى جنس (3) الخروج لقضاء الحاجة، ولم يجعله
مؤثراً، من غير تعريج على التفاصيل، ومنهم من خصص عدم التأثير [بقرب]
(4) الزمان، وجريان الأمر على عادة الاعتدال.
وما ذكرناه من القرب والبعد، لا توقيف فيه، والرجوع (5) إلى العادة،
فكل زمان
__________
(1) في الأصل، (ك): زمانٍ مرعي.
(2) بياض بالأصل.
(3) ساقطة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): بفوت.
(5) (ك): فالرجوعُ.
(4/86)
لا يُخرج المرءَ عن هيئة ملازمة المسجد،
فهو قريب، وما يخرجه عن هيئة الملازمة، فهو البعيد الذي ذكرناه.
ولو كان له داران قريبة وبعيدة، ولم تكن البعيدة -بحيث لو لم يملك
غيرها- لا يُقطع الاعتكافُ بالخروج إليها في وجهٍ [عند] (1) فرض
الانفراد، فإذا تُصوّرت المسألة بهذه الصورة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - يتعين الخروج إلى المنزل القريب؛ إذ لا حاجة إلى غيره.
والثاني - لا بأس بالخروج إلى المنزل البعيد، إذا كان على الحد الذي
وصفناه في الانفراد.
وظهر اختلاف أصحابنا في الخروج لأجل الوضوء، من غيرِ بولٍ وتغوّط، فذهب
الأكثرون إلى أنه يؤثر؛ فإن الوضوء في المسجد ممكن، ولا شك أن هذا في
الوضوء الواجب.
وكذلك اختلف أئمتنا في الخروج لأجل الأكل، والأظهر أنه يؤثر. ومتعلَّق
من يقول: إنه لا يؤثر أن الأكل في المسجد قد يقدح في المروءة. ونهايةُ
الضرورة ليست مرعية.
ولا خلاف أنا [لا] (2) نشترط غايةَ إرهاق الطبيعة في الحاجة.
2371 - ومما يتعلق بما نبغيه في ذلك: أن المرأة إذا اعتكفت، وحاضت، [و]
(3) خرجت عن معتكفها، نظر: فإن كانت نذرت الاعتكاف في زمان متطاول يغلب
طريان الحيض عليه، فلا ينقطع التتابع بطريان الحيض؛ فإن ذلك مما لا
يتأتى التحرزُ منه.
وكذلك القول في طريان الحيض على الصيام المتتابع في الزمان الممتد.
وإن نذرت الاعتكافَ المتتابعَ، في زمانٍ لا يبعد خلوه عن الحيض، ولكنها
قربت افتتاحَ الوفاء من نوبتها، [أو] (4) اتفق تقدم الحيضة على [خلاف]
(5) عادتها، ففي
__________
(1) في الأصل: عن.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) مزيدة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): و.
(5) مزيدة من (ط).
(4/87)
انقطاع التتابع في الصورتين وجهان: أحدهما
- ينقطع لخروج الحيض عن القبيل الذي يغلب طريانه. والثاني - لا ينقطع؛
نظراً إلى جنس الحيض وتركاً للاشتغال بتفصيله، ونظائر ذلك كثيرة، وقد
ذكرنا في هذا الفصل ما يقرب منه، وهو الخروج لقضاء الحاجة على بعد
الزمان بسبب بعد المنزل، أو خروج الطبيعة عن عادة الاعتدال.
وسيأتي نظير هذا في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، إذا فرض
طريان الحيض عليها، على قولينا باشتراط التتابع.
فإن قيل: إن جرى الخلاف في تقدم الحيضة، فما وجهه إذا قصدت تقريب زمان
افتتاح الوفاء من عادتها؟ قلنا: تأخّر الحيضةِ ممكن كما يمكن تقدمها،
نعم: أصح الوجهين في هذه الصورة الانقطاعُ.
2372 - ولو خرج المعتكف لعذر المرض المنتهي إلى مبلغٍ يقتضي الخروجَ عن
المعتكَف، ففي انقطاع التتابع قولان، وكذلك إذا أفطر الملابس للصوم
المتتابع.
فمن قال: لا ينقطع التتابعُ في الموضعين، فمتعلقه ثبوت الضرورة في
الفِطر، والخروج من المعتكَف، ومن قال بالقول الثاني، فمتعلقه أن المرض
ليس مما يعرض (1) ويطرأ لا محالة، بخلاف الحيض، وهذا تقرر في موضعه.
وإن كان المرض بحيث يؤدي إلى تلويث المسجد لو فرض المكث [فيه] (2)
كاسترخاء الأَسْر (3)، والاستحاضة، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحقه
بالحيض، ليقطع بأنه لا يقطع التتابعَ، ومنهم من أقره على القولين، وهو
القياس.
فهذه جملٌ نبهنا عليها. وقد ترد مسائل في الكتاب تلتفت على هذه
القواعد، وفاقاً وخلافاً، لم نذكرها الآن، حتى ننتهي إليها.
2373 - فإذا تبين ما يقطع التتابع وما لا يقطعه، فإنا نذكر وراء ذلك
التفصيلَ في أن الأزمنةَ التي تمضي في غير المعتكَف هل يعتد بها من
الاعتكاف؟
__________
(1) (ط): يفرض.
(2) مزيدة من (ط).
(3) الأَسر بفتح وسكون شدة الخلق، والأسر بضمتين، أو بضم فسكون: احتباس
البول. فالمراد هنا باسترخاء الأَسْر، ضعف القدرة على التحكم في البول
(معجم ومصباح).
(4/88)
فنقول: أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد
ذكرنا: أنه لا يؤثر في قطع التتابع، ونقول الآن: إنه معتدٌّ به حتى إذا
اعتكف الرجل أياماً، ولو جمعت أوقات خرجاته، لبلغت يوماًً أو بعض يوم،
فلا نقول: يجب تداركها. اتفق الأصحاب عليه، حتى قال طوائف من المحققين:
إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف، وإن لم يكن في المسجد، واستدل هؤلاء
بالاعتداد بهذا الزمان، وكان من الممكن أن لا يعتد بها، وإن كان يُحكم
بأن التتابع لا ينقطع.
واحتج هؤلاء أيضاًً بأن الخارج لقضاء حاجته [لو] (1) جامع، فسد
اعتكافه. وكان من الممكن أن يقال: لا يفسد، ويُعدّ الجماع الواقعُ منه
بمثابة الجماع الواقع [منه] (2) ليلاً في الصوم المتتابع.
وقال قائلون: ليس الخارج معتكفاً، ولكن زمان خروجه مستثنىً، وكأن
الناذر قال: لله عليّ اعتكاف عشرة أيام، إلا أوقاتَ خروجي لقضاء
الحاجة، وأما الجماع، فقد حمله هؤلاء -في كونه مفسداً- على اشتغال
الخارج بما لا يتعلق بحاجته، وقد نقول: لو عاد مريضاً، ينقطع تتابعُه.
وإن كان خروجه لقضاء الحاجة على ما نفصله، حتى لو فرض الوقاع مع
الاشتغال بقضاء الحاجة -على بعدٍ [في] (3) التصوير- لم يفسد الاعتكاف.
وهذا بعيدٌ، والصحيح أنه يفسد الاعتكاف- وإن (4) فرعنا على أنه غير
معتكف؛ فإنه (5) عظيمُ الوقع في الشريعة، وهو [وإن] (6) قرب زمانه أظهر
أثراً من عيادة مريض.
وقد ذكر أئمتنا أن الخارج لقضاء حاجته إن عاد مريضاً في طريقه، فلم
يحتج إلى
__________
(1) الأصل، (ك): أو.
(2) مزيدة من (ط).
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ط): فإن.
(5) الضمير يعود على الجماع، كما صرح الرافعي في فتح العزيز: 6/ 533
حيث نقل نفس العبارة. والفاء متعلقة بـ (يفسد) تعليلاً.
(6) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): وهو أنه قرب زمانه.
(4/89)
الازورار (1)، فلا بأس بذلك، ولو ازورّ،
وعاد، انقطع التتابع، وإن قرب الزمان على وجهٍ كان يحتمل مثلُه في
الأناة في المشي؛ فإن هذا يقدح في القصد المجرّد إلى قضاء الحاجة.
وذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقماً، فلا بأس إذا لم
يجرِ أكلٌ مقصودٌ، ولم يظهر طول زمان معتبرٍ، والجماع في مثل هذا الوقت
مؤثر بلا خلاف، ومِنْ تَكلُّفِ تصويرهِ، [فرضُ جريانه مع الاشتغال] (2)
بقضاء الحاجة.
هذا كلام الأئمة في الخروج لقضاء الحاجة.
فأما الخروج لعذر الحيض، أو عذر المرض، على أحد القولين، فغير معتد به،
ولا بد من استدراكه، بخلاف زمان الخروج لقضاء الحاجة. وإن استوى جميع
ذلك في أنها لا تقطع التتابع. وهذا ظاهرٌ في الحيض، والمرض، وإنما
الغموض في الاعتداد بزمان الخروج لقضاء الحاجة.
ولو خرج والاعتكاف متتابع، لزيارةٍ، أو عيادةٍ، أو غرضٍ آخرَ صحيحٍ، من
غير حاجة، فلا شك في انقطاع التتابع.
2374 - ولو استثنى الخروج لأغراضٍ، فقال: لا أخرج عن معتكفي إلا لكذا،
وكذا، فالأصح الذي قطع به معظم الأئمة صحةُ (3) الاستثناء، والمصيرُ
إلى أن التتابع لا ينقطع بالخروج بالأغراض المستثناة.
وحكى صاحب التقريب والإمامُ قولاً للشافعي في القديم: أن الاستثناء
باطلٌ، ويجب الوفاء بالتتابع، وهذا مهجور لا تفريع عليه.
فإذا خرج لما استثناه، وحكمنا بأنه لا ينقطع تتابعُ اعتكافه، فيعود
ويبني، ولا يُعتد بزمان خروجه، كزمان المرض والحيض، بخلاف زمان الخروج
لقضاء
__________
(1) الازورار: الميل، والمراد هنا الميل عن الطريق إلى طريق آخر بسبب
عيادة المريض.
(2) في الأصل: فرضه مع جريانه مع الاشتغال وفي (ط): فرضه في جريانه،
وفي (ك): فرضه جريانه.
(3) ساقطة من (ط).
(4/90)
الحاجة؛ فإنه إنما استثنى ما ذكره؛ حتى لا
يؤثر في قطع التتابع، ولم يذكره حتى [لا] (1) يحط من زمان اعتكافه.
2375 - وإذ نجز هذا، نعود بعده إلى تفصيل القول في تجديد النية، فنقول:
أما إذا خرج لقضاء الحاجة، وعاد على ما ينبغي، فلا يحتاج إلى تجديد،
وإن عاد بعد زمانِ المرض، أو زمان الغرض المستثنى، فقد ذكرنا أن
التتابع لا ينقطع، وهل يحتاج إلى تجديد النية؟ ذكر الشيخ أبو علي
وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التجديد؛ فإن التتابع منتظمٌ والمتخلّلُ
غيرُ معتد به. وفيه وجهٌ آخر: أنه لا بد من تجديد النية. وذكره شيخي.
وهذا الخلاف مبنيٌّ على نظير له في الطهارة، فإذا فرق المتوضئ وضؤَه،
وقلنا: التفريق لا يبطل الوضوء، [فإذا] (2) عاد إلى البناء على بقية
الطهارة، ففي اشتراط تجديد النية وجهان مشهوران.
وكل ما ذكرناه [من] (3) كلام في قسمٍ واحد من الأقسام الثلاثة، وهو إذا
نذر اعتكافاً متتابعاً، ولم يعين زماناً.
2376 - فأما إذا [نذر] (4) اعتكافاً وأضافه إلى زمانٍ حكمه التواصل،
ولكنه لم يتعرض للتتابع، مثل أن يقول: لله عليّ أن أعتكف العشرَ
الأواخر، من هذا الشهر، فاعتكافه -إذا وفَّى به- يقع متتابعاً، ولكن
ذلك التتابع لتواصل الأوقات، لا لكونه مقصوداً في نفسه، ويظهر أثر ذلك
[بفَرْضِ] (5) الكلام [في القضاء] (6) فلو (7) لم يف بإيقاع الاعتكاف
في ذلك الوقت المعين، فلا شك أنا نُلزمه القضاءَ، ثم لا نوجب
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) الأصل، (ك): وإذا.
(3) مزيدة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): ذكر.
(5) في الأصل: بغرض، (ك): بعرض.
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(7) في الأصل، (ك): ولو.
(4/91)
التتابعَ، كما لا نوجب التتابعَ في قضاء
صيامٍ عن شهر رمضان.
ولو افتتح الوفاءَ، ثم خرج عن معتكفه لقضاء الحاجة، لم يؤثر خروجُه،
ولم يلزمه استدراك زمان الخروج للحاجة، وإذا عاد، لم يلزمه تجديد
النية، ولو خرج لا لحاجة -من غير استثناء-، فزمان خروجه لا يعتد به،
ولا يبطل ما تقدم من الاعتكاف؛ فإن التتابع ليس مرعياً في هذا النوع،
قصداً إليه، والاعتكاف في كل لحظة عبادةٌ على حيالها، فصار تخلل ما
ذكرناه بمثابة تخلل الإفطار في أيام رمضان.
وكذلك لو فرض طريانُ مفسدٍ، وهو الجماع المفسد، [فلا] (1) يفسد ما مضى.
ثم كما لا يفسد ما مضى، لا يخرج باقي الزمان عن التهيؤ [لقبول] (2)
الاعتكاف الواجب.
وإذا كان كذلك، فإذا فرض عودُه في الصورة التي انتهينا إليها، فالمذهب
أنه لا بد من تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادةٌ منفصلة، عما يستقبله
الآن، وقد تخلل المفسدُ، أو الزمن الذي لا يعتد به. ولو رُددنا إلى
القياس، لما اكتفينا بنية واحدةٍ، في أوقات، كما لا يكتفى بنية واحدة
في أول شهر رمضان، ولكن تخصيص كل لحظة بنية عسرٌ، فلأجل ذلك انبسطت
نيةٌ واحدة على الأوقات المتواصلة، فإذا تخلل ما يقطع التواصل، وجب
الرجوعُ إلى الأصل المنقاس الذي مهدناه.
وذكر الشيخ أبو علي في هذه الصورة وجهاً آخر، عن بعض الأصحاب: أن النية
الأولى شاملةٌ كافيةٌ، وقد نوى اعتكافَ العشر، فلئن طرأ ما لا يعتد به،
فحكم النية باقٍ في البقية.
2377 - ومما يتصل بهذا القسم أنه (3) لو عين الناذر أوقاتاً لاعتكافٍ
(4) متواصلة، واستثنى أغراضاً، فإذا خرج لها، على حسب استثنائه، لم يجب
عليه تداركها في هذا القسم؛ من جهة أن (5) معنى استثنائه لها يرجع إلى
حط أوقاتها عن الأوقات
__________
(1) في الأصل، (ك): ولا.
(2) في الأصل، (ك): والقبول.
(3) ساقطة من (ك).
(4) عبارة (ط): أوقات الاعتكاف.
(5) (ك): أنه.
(4/92)
المعيّنة، فكأنه قال: لله تعالى عليَّ أن
أعتكف هذه الأوقات، إلا أوقاتَ خروجي، وليس كما إذا نذر اعتكاف أيامٍ
شائعةٍ متتابعة من غير تعيين زمان، ثم افتتح الوفاء، وقد كان استثنى
الخروجَ لأغراضٍ، فإذا خرج لها، لم يعتد بزمان خروجه، وإن لم ينقطع
التتابع؛ لأن استثناءه في القسم الأول محمول على أن لا ينقطع التتابع،
وهو محمول في القسم الذي نحن فيه على الحط عن الزمان. وهذا واضح لا شك
فيه.
ولو حاضت المرأة، [و] (1) كانت عينت زماناً في النذر، من غير تعرضٍ
للتتابع، أو مرضَ الناذرُ كذلك، فخرج، فزمان الحيض والخروج، لا يعتد
به، ويجب تلافيه، وليس كالأوقات التي تمضي في الأغراض المستثناة،
والسبب فيه أن استثناءه مُصرِّح باقتضاء حطّ الأوقات، فأما زمان الحيض
والمرض، فليس يتعلق به لفظٌ يتضمن الحطَّ، وقد يستوعب الزمانُ [جملةَ]
(2) الوقتِ المعيّن، فصار زمان العوارض (3) في حكم ترك الملتزَم، وإن
كان الترك بسبب العوارض مسوَّغاَّ.
ومن نذر صوم يوم، ثم تركه من غير عذرٍ، قضاه، ولو تركه لعذر، قضاه.
نعم، الخروجُ لقضاء الحاجة مستثنىً عن هذا القانون، في كل مسلكٍ، ولا
يجب تداركُه، ولهذا ذهب ذاهبون إلى أن الخارج في ذلك الوقت معتكفٌ.
وقد نجز غرضُنا في هذا القسم.
2378 - فأما القسم الثالث - وهو إذا جمع بين تعيين الزمان، وبين التعرض
للتتابع، فقال: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأخير، من هذا الشهر،
متتابعاً، فهل يثبت التتابع مقصوداً؟ حتى يقال: لو طرأ مفسد يبطل ما
مضى؟ فعلى وجهين: أحدهما (4) أنه يثبت (5) حكم التتابع؛ فإنه تعرّض له،
وجرّد القصد إليه، فلا منافاة بينه، وبين تعيين الزمان.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) مزيدة من (ط).
(3) إشارة إلى الحيض والمرض.
(4) (ط): أصحهما.
(5) (ك): لا يُثبت.
(4/93)
والوجه الثاني - أن التتابع يُلغَى،
والغلبة لما عينه من الوقت، وذكر التتابع محمول على تواصل (1) الزمان.
ثم ما قدمناه من الأحكام، المتعلقة بالتتابع، وتعيين الوقت لا تخفى
إعادته هاهنا.
فهذا منتهى غرضنا في جمل عقد (2) المذهب، في قواعد الاعتكاف.
2379 - وقد قال صاحب التقريب: إذا وقع التفريع على الأصح في تصحيح
الاستثناء عن التتابع، فلو قال الناذر: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم،
إلا أن أحتاج قبل التَّصدُّق (3)، فإذا احتاج، فهل يسقط واجب النذر
إعمالاً للاستثناء؟ [قال:] (4) المسألة محتملة. وكذلك لو فُرض في نذر
الصوم والصلاة وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر. وطرد هذا فيه، إذا
قال: لله عليّ شيء من ذلك، إلا أن يبدوَ لي. زعم أن المسألة محتملة؛
إذا بدا له. ولم يُشر في مجاري كلامه إلى إفساد النذر، لمكان الشرط.
نعم ذكر شيخي أنه لو استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض، كالافتقار
في نذر الصدقة، وكما (5) يناظر هذا في كل قُربة، فالاحتمال لائح.
فأما إذا قال: إلا أن يبدو لي، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء؛ فإنه غير
متعلق بغرض. وقد يتجه عندنا إفساد النذر، في هذه الصورة؛ فإنه إذا علق
بِخيَرة نفسه، فهو مضادٌّ لمعنى الإلتزام، وتعويل الوفاء على التصميم
إذاً (6)، والمصمم على التطوع يُمضيه.
2380 - وألحق العراقيون شيئاً بهذا الفصل يدانيه من وجهٍ، [و] (7)
الغرض منه
__________
(1) (ط): تتابع.
(2) (ط): في عقد جمل المذهب.
(3) (ط): الصدقة.
(4) في الأصل، (ك): فإن.
(5) (ط): كما. (بدون الواو).
(6) (ط): أداءً.
(7) زيادة من (ط).
(4/94)
غيرُه، فقالوا: إذا كان نَذَر صوماً، ثم
شرع فيه، وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل عنه، إن عنّ عارض عيّنه، مما يعد
[عَرَضاً] (1) مؤثراً، وإن لم يكن في عينه مبيحاً للخروج، كالمرض التام
المؤثر في إثبات رخصة الإفطار، قالوا ينعقد الصوم، ويثبت التحلل
[عندنا، على] (2) شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء.
ولو شرط التحلل عن الحج لعارض المرض، وهو -كيف قدر- لا يبيح التحلّلَ
عندنا لعينه، فهل يثبت التحلل بالشرط؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما في
المناسك، -إن شاء الله تعالى- وسبب الفرق أن الحج مباينٌ لسائر
العبادات، في مزيد [التأكيد] (3).
هذا ترتيبهم.
وكان شيخي يقلب هذا الأمرَ، ويجعل التحلّلَ في الحج وفاءً بالشرط- أولى
بالثبوت؛ لخبرٍ فيه ما سنرويه في موضعه؛ إذ قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أهلِّي، واشترطي أن محلي حيث حبستني " (4) ويقول: لو فرض
شرطٌ مثلُه في الصوم المنذور، فلا ينقدح إلا بطلان الشرط، [أو] (5)
بطلان النية بالشرط، حتى لا ينعقد الصوم كذلك.
2381 - ومن تمام القول في الاستثناء في الاعتكاف [أنا] (6) إذا صححناه،
لم يزد على مقتضاه، حتى لو استثنى عيادة المرضى، لم يخرج لأمرٍ هو أهم
منها. وقال الأصحاب: لو ذكر عيادةَ زيدٍ، لم يخرج لعيادة عمرو. ولو
قال: أخرج لكل شُغل يعنّ لي، فهو صحيح، فليخرج إن أراد، لكل ما يُعد
شغلاً، ديناً ودنيا، على شرط
__________
(1) في الأصل، ط: غرضاً.
(2) عبارة الأصل، (ك): ويثبت التحلل عن شرط القضاء.
(3) الأصل، (ك): الناذر.
(4) حديث: " أهلي واشترطي ... " متفق عليه من حديث عائشة في قصة
ضُبَاعة بنت الزبير (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 37 ح 754).
(5) الأصل، (ك): و.
(6) الأصل، (ك): أما.
(4/95)
أن يكون مستباحاً في الشرع. وليس من
الأشغال الخروجُ للنظر إلى رُفقةٍ، [أو] (1) مجتمعٍ، فإن هذا يعد في
العرف هَزلاً، غير محصل. وقد يمكن أن يضبط الشغل بمقصود (2) المسافر في
مقصد سفره، على ما تفصّل في موضعه.
ولو قال: أخرج مهما أردتُ، فهذا ضد التتابع، فكأنه التزم التتابعَ، ثم
نفاه، وفيه وجهان: أحدهما - أن التتابع يَبْطل التزامُه.
والثاني - أنه يلزمه، ويبطل الاستثناء.
وقد يلتفت هذا على شرائط فاسدة، تُقرَن بالوقوف والحُبُس، فإنا (3) في
مسلكٍ لنا نُبطل الشرطَ وننفذ الوقف، وفي مسلكٍ آخر نُبطل الوقفَ،
لاقترانه بالشرط المفسد.
2382 - هذا تمام البيان في ذلك.
فصل
قال: " واعتكافه في المسجد الجامع أحب إليّ ... إلى آخره " (4).
2383 - هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في تعيين المساجد في الاعتكاف.
فنقول: أولاً - إذا عين مسجداً في نذرِ صلاةٍ، فقال: لله عليّ أن أصلي
في هذا المسجد، فإن كان غيرَ المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد
المدينة، ومسجد القدس، لم يتعين المسجد للصلاة، وله أن يقيمها في غير
ذلك المسجد، ولا حرج عليه في إقامتها في غير المساجد.
ولو عين مسجد القدس، ومسجد المدينة، ففي وجوب الوفاء قولان، فإن عين
المسجدَ الحرامَ للصلاة في سياق نذرها، ففي المسألة طريقان: قال
قائلون: يجب
__________
(1) في الأصل، (ك): ومجتمع.
(2) في الأصل، (ك): لمقصود.
(3) (ط): فأما.
(4) ر. المختصر: 2/ 33.
(4/96)
الوفاء، قولاً واحداً. وخرّج آخرون المسألة
على قولين في المسجدين: مسجد المدينة، ومسجد إيليا (1).
وتفصيل ذلك والتفريع عليه يُستقصى في كتاب النذور -إن شاء الله تعالى-.
فأما إذا عين مسجداً غير المساجد الثلاثة في سياق نذر الاعتكاف، ففي
تعيين المسجد وجهان: أحدهما - أنه لا يتعين، كما لا يتعين للصلاة.
والثاني - أنه يتعين، وهو ظاهر النص، والسبب فيه أن الاعتكاف في
الحقيقة انكفافٌ عن الانتشار في سائر الأماكن والتقلب فيها، كما أن
الصوم انكفاف عن [أشياء زمناً] (2) مخصوصاً، فنسبة الاعتكاف إلى
المكان، كنسبة الصوم إلى الزمان.
ولو عين الناذر يوماً بعينه [لنذر] (3) صومه، تعين اليوم، على المذهب
الأصح، فليتعيّن المسجد بالتعيين أيضاًً، ثم إذا تعين ما سوى المساجد
الثلاثة (4)، فتعيّنها أولى. وإن لم يتعين ما سواها، ففي تعيينها
القولان المذكوران في الصلاة، وينبغي أن يكون صَغْو الفقيه إلى [كون]
(5) التعيين أليق بالاعتكاف منه بالصلاة.
وهذا يقتضي ترتيباً في محل الخلاف: فإذا ثبت ذلك، قلنا بعده: لو عين
مسجداً لنذره، فليلتزمه، وإن أقام الاعتكاف في غيره، لم يُعتدّ به. وإن
قلنا [إنه] (6) لا يتعين، فلو [خاض] (7) في الاعتكاف في مسجدٍ كان
عينه، ثم خرج لقضاء حاجةٍ، وعاد إلى مسجدٍ آخرَ، على مثل مسافة ذلك
المسجد، أو أقرب [منه] (8) ثم اعتاد ذلك مثلاً في كل خرجة، فقد اختلف
أئمتنا: فقال بعضهم: يجوز، وهو القياس؛ فإنه آتٍ بالاعتكاف، ولا
تعيُّنَ، والخرجات لقضاء الحاجات مقتصدةٌ على الضبط
__________
(1) إيليا: اسم مدينة بيت المقدس؛ قيل: معناه: بيت الله. (معجم
البلدان).
(2) في الأصل، (ك): انتشارٍ ما.
(3) في الأصل، (ط): كنذر.
(4) في الأصل، (ك): الثلاث. وهو جائز حيث تقدّم المعدود.
(5) مزيدة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): فاض.
(8) مزيدة من (ط).
(4/97)
المقدّم. وجَبُن (1) بعض الأصحاب، فمنع
هذا، صائراً إلى أن [الخوض في] (2) الاعتكاف في مسجدٍ يوجب إتمامه فيه،
وإنما الكلام فيما قبل الشروع. وهذا ساقطٌ، لا أصل له، فينبغي ألا يعتد
به.
2384 - عاد بنا الكلامُ إلى ما ذكره الشافعي، إذ قال: " الاعتكاف في
المسجد الجامع أحب إليّ "، وإنما قال ذلك، لكثرة الجماعة في المسجد
الجامع، وقد يزيد أمد اعتكافه المتتابع على أسبوع، فإذا كان في الجامع،
لم يحتج إلى الخروج عن معتكَفه. وقد بنى الشافعي قولَه هذا على تعيّن
المسجد؛ فإنه عوّل في تعويل الاستحباب، على أنه لا يحتاج إلى الخروج من
معتكفه للجمعة، وإذا قلنا: لا يتعين المسجدُ، فلا يمتنع فرضُ خروجٍ
لقضاء [الحاجة] (3) مع العود إلى الجامع، كما مهدنا في المقدمة صورَ
الوفاق والخلاف.
ثم يتصل بهذا الفصل أنه [إن] (4) عيّن غير الجامع، وزاد أمد اعتكافه
على الأسبوع، فيلزمه الخروج إلى الجمعة، فإذا عيّنَّا المسجدَ بالنذر،
ثم أوجبنا الخروج، فهل ينقطع (5) التتابع؟ فيه اختلاف [قولٍ] (6) وله
نظائر، سأذكرها مجموعةً في فصلٍ، بعد ذلك.
والذي [ننجزه] (7) هاهنا: أن نذره لا ينتهض عذراً في جواز ترك الجمعة؛
فإنه هو الذي أدخل على نفسه هذا التضييق، والعسر (8)، فليتأمل الناظر
ذلك.
وإن لم يعين المسجدَ، فلو خرج لحاجةٍ، ثم عاد على قُربٍ، من الزمان
__________
(1) وصف عجيب، ينبئ عن حدّةٍ في طبع إمامنا الجليل، وعن إيمانه
بالقواعد والمعاقد التي يضعها، للالتزام بها، والتفريع عليها.
(2) زيادة من (ط).
(3) في الأصل، (ك): حاجة.
(4) مزيدة من (ط).
(5) (ط): يتقاطع.
(6) في الأصل، (ك): قوله.
(7) في الأصل، (ك): ننحوه.
(8) (ط): والعَنْس. (وفيها معنى الاحتباس). (المعجم والمصباح).
(4/98)
والمكان إلى الجامع، فالمذهب أن تتابعه لا
ينقطع، ولو خرج إلى الجامع من غير توسط الخروج لقضاء الحاجة، فهذا
خروجٌ إلى واجب، ففيه الخلاف المقدّم الذي رمزنا إليه، ووعدنا تقريره
مع نظائره.
فصل
قال: " ولا بأس أن يسأل عن المريض ... إلى آخره " (1)
2385 - وقد ذكرنا أن الحائض في الاعتكاف المتتابع، إذا لم تستثن شيئاً،
لم تخرج إلا لقضاء الحاجة، وألحقنا بها في التفصيل ما مضى.
فلو خرج لعيادة مريض قصداً، بطل تتابعه، وبطل ببطلانه اعتكافُه، ولو
رأى مريضاً على طريقه، في ممره إلى قضاء حاجته، فعاده، ولم يُطل، فلا
بأس؛ فإن هذا لا يعد قصداً إلى العيادة، ولو مال عن الطريق، فعاد
مريضاًً يبطل التتابع؛ فإنه تجديد قصدٍ، ولو سأل عن المريض غيرَه، ممن
يصادفه، على [طريقه] (2) فلا بأس، وإذا لم تؤثر عيادته مريضاً على
ممرّه، فلا شك أن السؤال عنه على الممر لا يؤثر، ولو دخل منزلَه، فجلس
جلسة حتى يُهيَّأ له موضعُ الحاجة، احتُمل ذلك، وعُدّ اشتغالاً بقضاء
الحاجة، فلو أنه في هذه الحالة تعاطى لقماً، فأكلها، فلا بأس، ولو قضى
حاجته، ثم خرج وأكل لقماً، ولم يأت بأكلٍ مقصود في نفسه، فهذا القدر لا
يؤثر أيضاًً -وإن وقع بعد الفراغ- على الأصح من المذهب، وفيه شيء على
بعد.
وقد ذكرت في الانتقال إلى المنزل للوضوء من غير قضاء حاجةِ البلوى
خلافاً، ولا خلاف أن من قضى حاجته واستنجى، لم نكلفه نقلَ الوضوء إلى
المسجد، فإن هذا يقع تابعاً، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن المريض، إلا مارّاً في
اعتكافه، لا يعرج على شيء " (3).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 33.
(2) في الأصل، (ك): طريق.
(3) حديث عائشة رواه أبو داود، وقد ضعَّف الحافظ إسناده، ثم قال: "
والصحيح عن عائشة من=
(4/99)
وقد أجمع أصحابنا على أن الوقفة القريبة لا
تؤثر إذا لم تصر (1) العيادة مقصودة، ولو ازورّ مسرعاً، وعاد مريضاً،
وعاد في زمن يحتمل مثله، بين الرَّيْت والعجل، فالذي جاء به يقطع
التتابع لمكان القَصْد، والعيادة (2) على الطريق يعتبر [فيها] (3) طول
الزمان وقصره.
ثم الذي إليه الرجوع أن يزيد الأمدُ زيادةً تزيد [على وصف الاقتصاد،
بحيث تزيد على الاتئاد] (4)، بحيث يُحسّ به (5) المنتظر المراقب.
وما ذكرناه في الأكل جريانٌ على الأصح في أنه لو خرج للأكل، لم يجز.
فصل
قال: " ولا بأس أن يشتري، ويبيعَ ... إلى آخره " (6).
2386 - إذا اشتغل في معتكفه بالبيع والشراء، لم يبطل اعتكافُه، وكذلك
(7) إذا كان يَخيط، أو يحترف بحرفة أخرى، ولا فرق بين أن يقع ذلك، وهو
صنعةُ الرجل يتبلغ بها، وبين ألا تكون صنعتَه.
وعن مالك (8): أنه إذا كان يقيم صنعةً يكتسب بها في المسجد، لم يصح
__________
=فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره، ا. هـ (ر. أبو داود: الصوم، باب
المعتكف يعود المريض، ح 2472، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس
زوجها، ح 297، التلخيص: 2/ 419 ح 952).
(1) (ط): تغير.
(2) (ط): فالعيادة.
(3) مزيدة من (ط).
(4) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): تزيد على الارتياد على وصف
الاقتصاد.
(5) (ط): بحيث تجزئه المنتظر.
(6) ر. المختصر: 2/ 34.
(7) (ط): فكذلك.
(8) ر. تهذيب المدونة: 1/ 389، حاشية العدوي: 1/ 413.
(4/100)
اعتكافه، وهذا باطلٌ [عندنا] (1)؛ فإن
انحصاره في المسجد هو الاعتكاف، إذا اقترنت به النية.
وفي بعض التصانيف (2) إضافة مذهب مالك إلى الشافعي على البت (3)، وهذا
غلطٌ صريح، ولو جاز أن نعول على ما ذكره مالك، لامتنع الاعتكافُ رأساً،
فإن صاحبه اتخذ المسجد بيتَه، ومسكنه، فلا حاصل لهذا، لا نقلاً، ولا
تعليلاً.
2387 - ثم قال الشافعي: ولا يُفسده سباب، ولا جدال، والأمر على ما قال.
لا يَفسدُ الاعتكافُ بهذا، كما لا يفسد الصوم بمثله.
قال الصيدلاني: ولكن يذهبُ أجرُه بذلك، وتفوته الفضيلة، وليس الكلامُ
في الأجر والفضيلة من شأن الفقهاء، فلا حاصل لما ذكره، والثواب غَيْب
لا مطَّلع عليه.
وإن ورد خبر في أن [الغِيبة] (4) تُحبط الأجرَ، فهو تهديد مؤوَّل، وقد
يرد مثله في الترغيب.
ثم ذكر الشافعي في أثناء الكلام: أن صاحب الاعتكاف المتتابع لا يخرج
لشهود الجِنازة، فإن أدخلت الجنازة رحبةَ المسجد، وهي من المسجد، فلا
كلام، وإن خرج لقضاء حاجته، فصادف جنازةً على الطريق، فصلى عليها، فلا
بأس؛ فإن الزمان قريب.
فليتخذ الفقيه هذا معتبرَه، وليثق بما ذكرناه في الوقوف للعيادة، ولا
يزْوَرُّ (5) للصلاة على الجنازة.
__________
(1) في الأصل، (ك): عندي.
(2) يتأكد هنا أن المراد ببعض التصانيف كتب أبي القاسم الفوراني، حيث
يرفض إمامنا إضافته مذهب مالك إلى الشافعي وحكايته على أنه مذهب
الشافعي مروي عنه، وقد أكد السبكي أن حملة إمام الحرمين على الفوراني،
إنما هي من جهة تضعيفه في النقل (ر. الطبقات: 5/ 110).
(3) (ك): اللبث.
(4) الأصل، (ك): الفتنة.
(5) ط: يرون، ويزورّ: أي يميل عن طريقه.
(4/101)
فصل
قال: " ولا بأس إذا كان مؤذِّئاً أن يصعد المئذنة، فإن كانت خارجةً ...
إلى آخره " (1).
2388 - إذا شرع المؤذن في اعتكافٍ، متتابعٍ، ثم كان يصعد المئذنة،
ويؤذن، فإن كانت المئذنة من المسجد، فلا إشكال في دوام الاعتكاف؛ فإن
المئذنة بمثابةِ بيتٍ في المسجد.
وإن كانت المئذنة خارجةً عن سمت المسجد، متصلةً به، وكان بابُها لافظاً
في المسجد نفسِه، فقد قطع الأئمة بأن التتابع لا ينقطع بالخروج إليها،
والرقيّ فيها.
2389 - وإذا كانت لا تُعد من المسجد، ولو نذر (2) الاعتكافَ فيها، لم
يصح؛ فإنّ حريم المسجد، لا يثبت له حكم المسجد في جواز الاعتكاف فيه،
وتحريمِ المكث على الجُنب، والمرورِ على الحائض، ولكن النص قاطع بما
ذكرناه. ولم أعثر بعد على خلافٍ [للأصحاب] (3) فيه، مع الاحتمال الظاهر
في القياس؛ فإن الخارج إلى هذه المئذنة خارجٌ إلى بقعةٍ غيرِ صالحةٍ
للاعتكاف.
ولو كان بابُ المئذنة إلى الشارع، أو إلى الحريم، وكان المؤذّن يخرج
إلى موضع الباب، ويرقى، ففي انقطاع تتابعه وجهان مشهوران: أحدهما -
الانقطاع وقياسه بيّن، والثاني -[أنه لا ينقطع لمعنيين: أحدهما - كون
المئذنة على الحريم، والحريمُ من حقوق المسجد، والثاني] (4) - أن
خرجاته للأذان مستثنىً في ظاهر حاله، كخرجات الرجل لقضاء حاجته.
وهذا في المؤذن الراتب، فأما غيره إذا خرج، فإن قلنا: ينقطع تتابع
المؤذنِ
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 34.
(2) (ط): قدّر.
(3) في الأصل، (ك): الأصحاب.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(4/102)
الراتب، فلأن ينقطع تتابع هذا أولى، وإلا،
فوجهان، على المعنيين، فمن اعتمد استثناء المذهب (1) [لخرجاته] (2) حكم
ببطلان تتابع من ليس راتباً، ومن عوّل على الحريم، لم (3) يُبطل
اعتكافَ غير الراتب أيضاًً.
فهذا غاية النقل، مع التنبيه على الاحتمال، والإشكال.
2390 - والقول الحاصل: أن الباب إذا كان لافظاً في المسجد، وانضم إليه
الرقيّ للأذان من الراتب، فلا خلاف من طريق النقل، وفي الاحتمال ما
ذكرناه.
فإن كان في الحريم، والباب خارجٌ، فالخروج للأذان من الراتب على وجهين،
ومن غير الراتب للأذان على خلافٍ مرتبٍ، والخروج من الراتب وغيرِه لغير
الأذان -والباب خارج- يقطع التتابعَ.
والرقيّ في المئذنة اللافظ بابها في المسجد، لغير الأذان [لا] (4) نقل
فيه عندنا، والظاهر الانقطاع؛ فإن المئذنة، وإن كانت لافظةَ الباب في
المسجد، فإنها ليست معدودةً من المسجد؛ إذ لا يجوز الاعتكاف فيها.
فهذا تمام المراد في ذلك.
2391 - وفي النفس شيء، يتعلق تمام البيان فيه، بذكر معنى الحريم،
وسنجمع (5) قولاً بالغاً في كتاب الصلح -إن شاء الله تعالى- وفيه نبيّن
حريمَ المسجد، والمِلْك.
ولا شك أن المؤذن لو دخل حجرةً مُهيَّأة للسكنى بابها لافظ في المسجد،
يبطل اعتكافه، وإنما قيل ما قيل في المئذنة، لأنها مبنيةٌ لإقامة شعار
المسجد.
__________
(1) (ط): العادة.
(2) في الأصل، (ك): بخرجاته.
(3) (ط): لا.
(4) الأصل، (ك): فلا.
(5) (ط): نجمع.
(4/103)
2392 - ثم قال الشافعي: " وأكره الأذان
بالصلاة للولاة " (1). فمن أئمتنا من قال: ليس هذا من مسائل الاعتكاف،
بل هو كلام معترض فيها، والمراد أنا نكره للمؤذن أن يأتيَ بابَ الوالي
وغيره، فيؤذنَ على بابه، أو (2) يأتي ببعض كلمات الأذان، كالحيعلتين؛
فإن الأذان الراتبَ دعوةٌ عامة، فليكتفِ بها (3) آحاد (4) الناس.
ولو حضر المنبِّه أبوابَ الأعيان ونادى بالصلاة، ولم يذكر شيئاً من كلم
(5) الأذان، فقد اختلف أئمتنا في ذلك (6): فمنهم من قال: إنه لا يكره،
وهو اختيار القفال، ويشهد له: أن بلالاً كان يأتي بابَ حجرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، إذا قرب قيامُ الصلاة، وينادي: " الصلاةَ الصلاةَ
" (7).
والشاهد في كراهية الأذان، ما روي: " أن المؤذن أتى بابَ عمر، بعد ما
أذن للعامة، فأذن له (8)، فأنكر عليه، وقال: أما يكفيني أذان العامة "
(9).
فهذا ما يتعلق بالكراهية في ذلك، نفياً وإثباتاً.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 34.
(2) (ط): ويأتي.
(3) (ط): بهذا.
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: كآحاد الناس.
(5) (ط): كلام.
(6) (ط): اختُلِفَ فيه.
(7) خبر نداء بلال ... لم نجده بهذا السياق، وإنما جاء في كنز العمال
من حديث ابن عمر: " جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه
الصلاة، صلاة الصبح، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
الصلاة يرحمك الله! قالها مرتين أو ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أغفى، فجاء بلال فقال: الصلاة خير من النوم ... " (ر. الكنز:
8/ 357 ح 23253 وعزاه لأبي الشيخ، وللضياء المقدسي في المختارة).
(8) (ط): به.
(9) خبر الأذان بباب عمر لم نجده بهذا اللفظ، وإنما روى الضياء المقدسي
في المختارة أن عمر قدم مكة، فأتاه أبو محذورة، فقال: " الصلاة يا أمير
المؤمنين، حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال له عمر: حي على الصلاة حي
على الفلاح! أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك، تأتنا ثانياً؟!
(ر. كنز العمال: 8/ 341 ح 23168).
(4/104)
وحمل بعضُ الأصحاب هذا على مسائل الاعتكاف،
وزعم أن المراد أن المؤذن لا يخرج من معتكفه ليقف على الأبواب، وينادي،
ولو فعل ذلك، انقطع تتابع اعتكافه، وهذا يخالف خروجَه للأذان على حريم
المسجد، كما سبق (1) التفصيل [فيه] (2).
فصل
قال: " وإن كانت عليه شهادةٌ ... إلى آخره " (3).
2393 - نذكر في هذا الفصل خرجاتٍ، ضروريةٍ، طارئةٍ، على الاعتكاف
المتتابع. وأصل جميعها أن المرض إذا ثقل، وعسر احتمالُه في المسجد،
فإذا خرج المعتكف لأجله، ففي انقطاع التتابع القولان المقدَّمان.
ويقع في مرتبته ما إذا [أخرج] (4) الإنسان عن معتكفه قَهْراً (5)،
والجامع بينهما أن كل واحد منهما عارضٌ ضروري، لا يحكم عليه بغلبة
الوقوع، قبل [اتفاقه] (6)، فالمعتكف (7) غير منتسب فيه إلى تفريطٍ
سابق.
ومما يتعين التنبه له [أن] (8) الصائم لو أُوجر الطعامَ، لم يفطر
وفاقاً، ولو أكره حتى [طعم] (9)، ففي الفطر قولان.
والخروج من المعتكَف، لا فرق فيه بين أن يُكرَه حتى يخرج بنفسه، وبين
أن يُحمل، بل نفسُ مفارقةِ المسجد، إذا تحقق، نيط به من الحكم ما
يقتضيه الحال.
والذي أراه أن المعتكِف، لو خرج من معتكَفه ناسياً، فيظهر الحكمُ
بانقطاع
__________
(1) (ط): تبين.
(2) ساقط من الأصل، (ك).
(3) ر. المختصر: 2/ 34.
(4) في الأصل، (ك): خرج.
(5) (ط): فهذا.
(6) في الأصل، (ك): إيقاعه.
(7) (ط) والمعتكف.
(8) زيادة من (ط).
(9) في الأصل، (ك): يطعم.
(4/105)
تتابعه، بناء على هذا الأصل، الذي مهدناه،
والغاية فيه أن يُلحق النسيانُ بالمعاذير، حتى يتردد القولُ، وليس
كالأكل على حكم النسيان في الصوم.
2394 - ولو تحمل الرجل شهادة، ثم اعتكف اعتكافاً متتابعاً، وطُلب منه
أداء الشهادة؛ فإن لم يتعين عليه أداؤها، فليس له أن يخرج، وإن خرج،
انقطع تتابعه.
وإن تعين عليه الخروجُ -وتفصيله (1) في كتاب الشهادة- ففي انقطاع
تتابعه قولان، مرتبان على القولين فيه إذا خرج لمرض أو أخرجه مخرج.
وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة أن التحملَ المتقدم
على الاعتكاف تسبُّبٌ منه إلى الخروج من المعتكف، ولئن لم تلحقه التهمة
(2) في تحمله، فقد كان متمكناً من الاستثناء، فإذا أغفله، وضح من هذه
الجهة تقصيرُه.
وقد تردد بعضُ المحققين في أن استئناءَ إخراج السلطان إياه من المسجد،
هل ينفع على قولينا: إنه يقطع التتابع؟ فقال بعضهم: ينفع. وقال آخرون:
لا أثر للاستثناء (3 فيما يتعلق بالغير، وإنما يؤثر الاستثناء 3)
المرء، وهذا لطيفٌ. وهو تفريع على إعمال الاستثناء.
2395 - ولو التزم الرجل حداً، ثم شرع في اعتكافٍ متتابعٍ، فأخرجه
السلطان، لإقامة الحد عليه، فقد ذكر الشيخ أبو علي قولين، في انقطاع
التتابع، ولا بد من ترتيبها على تقدم تحمل الشهادة، وهذه الصورة
الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة الانتساب إلى المعصية، الموجبة
للحد، والحكمُ ببقاء التتابع، من فن التخفيف، وهو غير لائقٍ بالمتسبب
على حكم المعصية.
2396 - ولو اعتكفت المرأةُ اعتكافاً منذوراً، متتابعاً، فمات عنها
زوجُها، في أثناء الاعتكاف، أو طلقها، فالغرض من هذا ينبني على تصوير
الإذن فيه وعدمه من الزوج.
__________
(1) أي تفصيل التعين.
(2) (ط): لائمة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4/106)
فإن نذرت بإذنه، ودخلت المعتكَف، بإذنه، لم
يملك الزوج إخراجها، وإن وُجد أحدهما بإذنه، دون الثاني، ففيه خلافٌ،
وموضع استقصائه كتاب النذور والأيمان.
وإن كان الزوج يملك إخراجها من المعتكَف، لو دام النكاح، فمات عنها، أو
طلقها، فيلزمها الخروج عن المعتكَف، والعَود إلى مسكن النكاح،
للاعتداد، فإذا خرجت، ففي انقطاع التتابع الخلافُ المقدَّم. وهذا يلتحق
بالمرتبة الأخيرة، إن عصت بدخول المعتكَف، وإن لم تعصِ، ولكنا كنا
جوزنا للزوج الرجوعَ عن الإذن، على أحد الوجهين فيه إذا جرى أحد
السببين بإذنه، والآخر بغير إذنه، فهذا يلتحق بمرتبةِ تحمّل الشهادة.
ولو كان الزوج لا يملك إخراجها لو دام النكاح، فإذا طلقها، أو مات
عنها، فهل لها أن تُتم اعتكافها للإذن السابق؟ فعلى وجهين، سنذكر
أصلهما في كتاب العِدد.
فإن قلنا: لا تخرج، فلو خرجت، بطل اعتكافها. وإن قلنا: يلزمها الخروجُ
بطريان العدة، ففي انقطاع التتابع قولان، كما قدّمنا ذكرهما، قبيل هذا
في أمر العدة.
فهذا بيان ابتناء هذه الخرجات الواجبة، على الخروج لأجل المرض مع ترتيب
المراتب.
فصل
2397 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الاعتكاف، في قَرَنٍ (1): فمنها
الجماع، فكل جماعٍ يُفسد الصومَ مفسدٌ (2) للاعتكاف، منافٍ له.
2398 - فأما المباشرةُ دون الجماع، فقد اضطربت النصوص فيها، فقال في
كتاب الصيام: لا يباشر المعتكف، فإن فعل، فسد اعتكافه، وقال في موضع
آخر:
__________
(1) القَرَن بفتحتين: الحبل يجمع به البعيران، والمعنى نجمع مفسدات
الاعتكاف هنا في سياق واحد متتابعةً.
(2) في الأصل، (ك): فهو مفسد.
(4/107)
لا يفسد الاعتكاف إلا بالوطء الذي يوجب
الحد.
واضطربت الأئمة في ترتيب المذهب. ونحن نفرض مباشرةً وهي التقاء
البشرتين، من غير إنزالٍ، ثم نفرضها مع الإنزال.
فإن لم يتفق الإنزال، فمن أصحابنا من خرّج قولين في أنها هل تُفسد
الاعتكاف؟ أحدهما - لا تفسده، كما لا تفسد الصومَ.
والثاني - تفسده، لظاهر قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. والغالب على الظن أن
المراد المباشرةُ، دون الإنزال، والجماع، فإنهما لا يقعان (1)، ولا
يخفى على العامة اجتنابُهما، فتخصيص المباشرة بالنهي عنها في الاعتكاف،
يشعر بالمباشرةِ العريّه عن الإنزال، فقد عُدّت خصّيصة (2) بمحظورات
الاعتكاف، ثم هي محظورة في الحج، وإن لم تكن مفسدةً له.
فأما المباشرة إذا اتصل بها الإنزال، فالذي يليق بالتحقيق القطعُ بأنها
تُفسدُ الاعتكاف، كما تُفسد الصوم، وهي بإفساد الاعتكاف أولى، فإنا قد
نُحوَجُ (3) إلى تكلّفٍ في تعليل إفساد الصوم بالإنزال، فإنه ليس
جِماعاً، ولا دخول داخلٍ إلى الجوف، وتعليل إفساد الإنزال للاعتكاف
لائحٌ، من جهة أن المنزل مُجنب، ويحرم على الجنب المكثُ في المسجد،
والاعتكاف مكثٌ في المسجد، ويستحيل أن يكون المكثُ محرماً منهيّاً عنه
[نهياً] (4) مقصوداً، ثم يقع قُربة، مأموراً بها، وليس ذلك من قبيل
الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي لا يتجرد إلى الصلاة قصداً، كما
قررناه في فن الأصول (5).
وذكر بعض أصحابنا قولين في المباشرة مع الإنزال، وزعموا أن الإفساد
يختص
__________
(1) كان المعنى لا يقع فيهما -أعني الإنزال والجماع- المعتكف،
ويتحاشاهما، لظهور حكمهما، كما هو واضح من السياق.
(2) الخصّيص: الأخص من الخاص (معجم).
(3) (ط): نخرج.
(4) مزيدة من (ط).
(5) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 208 - 212.
(4/108)
بالجماع، وهذا مشهورٌ في الحكاية، [و] (1)
لا اتجاه له أصلاً عندنا، لما نبهنا عليه من خروج الجنب، عن أن يكون
أهلاً للكَوْن في المسجد.
ثم [من] (2) خصص الإفساد بالجماع، فيظهر عندنا أنه يَعتبر فيه الجماعَ
المفسدَ للصوم، من غير تعريجٍ على إيجاب الكفارة. وفي نص الشافعي ما
يدل على اعتبار الجماع التام؛ فإنه قال، فيما نص عليه، في بعض المواضع:
" ولا يَفسُد اعتكافه إلا بوطءٍ يوجب الحدَّ "، ومقتضى هذا أن إتيان
البهيمة إذا لم يوجب [الحد] (3)، لم يتعلق به إفساد الاعتكاف (4)،
والظاهر اعتبارُ (5) فساد الاعتكاف، بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم
يَفسُد بكل جماع، يوجب الغُسل.
وإذا قلنا: المباشرةُ تفسد الاعتكاف من غير إنزال، فالضبط فيه: أن كل
ما يوجب من هذا النوع الفديةَ على المحرم، يُفسد الاعتكاف. وضبط
[البابين] (6) جميعاً: ما ينقض الوضوء [نفياً] (7) وإثباتاً، وفاقاً
وخلافاً.
__________
(1) مزيدة رعاية للسياق، واستئناساً بما حكاه النووي في المجموع عن
إمام الحرمين (المجموع: 6/ 525).
(2) مزيدة من (ط).
(3) مزيدة من (ط).
(4) قال الإمام النووي تعليقاً على هذا الكلام: " وهذا الذي قاله
الإمام عجب، فإن المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء ... ومن أظرف
العجائب قول إمام الحرمين هذا، مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم مطلقاً
رحمه الله تعالى ". ا. هـ (المجموع: 6/ 525).
ومع شهادة النووي لإمامنا بعلوّ المرتبة، والتفذذ في العلوم مطلقاً،
فنحن نرى في كلامه شيئاً من التحامل، فإمام الحرمين لم يأت بهذا من عند
نفسه، بل رآه مدلولاً ومأخوذاً من نص الشافعي، ثم لم يقف عند هذا
(العجب) الذي حكاه النووي، بل عقب قائلاً: " والظاهر اعتبار فساد
الاعتكاف بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يفسد بكل جماع يوجب الغسل "
وهذا النص واضحٌ بين يديك في أعلى الصفحة. وهو لا يختلف عن كلام النووي
الذي علق به على قول الشافعي، فإمام الحرمين جعله (الظاهر) والنووي
جعله (المذهب المشهور).
وكأني بالفرق قريب. والله أعلم.
(5) اعتبار: أي قياس، كما هو مفهوم.
(6) في الأصل، (ك): الناس.
(7) في الأصل، (ك): جميعاً.
(4/109)
2399 - ولم يختلف العلماء في أن الحيض
ينافي الاعتكافَ؛ من جهة أن الحائض ليست من أهل المسجد أصلاً.
2400 - فأما الجنابة، فينبغي أن يتأنَّى الناظرُ فيها: أما القياس،
فيقتضي لا محالةَ الحكمَ بمنافاتها الاعتكاف، ولكن قد نقل بعضُ الأئمة
أن المباشرة إذا اتصلت بالإنزال، لم يفسد الاعتكاف، ومن ضرورة الإنزال
الإجناب، فالوجه عندنا في تخريج ما قيل، على طريق أن نقول: للجنب حضور
المسجد [مجتازاً] (1)، بخلاف الحائض، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من جعل
حضور المسجد اعتكافاً، من غير مُكث، فإن جرينا عليه، وفرضنا إنزالاً،
واشتغالاً على أثره بالاغتسال من عينٍ في المسجد، فالجنابة لا تحرّم
هذا الكَوْن، واللحظة الواحدة قُربةٌ، فلا يخرج الكَوْن فيها عن وضع
الاعتكاف، فأما فرض المُكث في المسجد، مع الجنابة، فلم أرَ محققاً
يستجيز الحكمَ بكونه اعتكافاً صحيحاً.
على أنا فيما ذكرناه على تكلُّفٍ فإن عبور الجنب في حكم المسوَّغَات
(2)، ولا يجوز أن يقع في رتبة القُربات.
والذي يجب القطع به أن من اعتمد الإنزال وإن تأتى منه الاغتسالُ في
المسجد، فيحرم منه، ما جاء به. [وللاحتمال فيه مجال] (3).
ولا وصول إلى ما تكلفناه على [صفوه] (4)؛ فإن الاشتغال بالاغتسال ليس
من الخروج (5)، ويرد عليه أن دخول [المسجد] (6) جائزٌ للجنب، على قصد
الإطراق.
__________
(1) في الأصل: مختاراً.
(2) المسوّغات: أي المسموحات المترخص بها.
(3) هذه عبارة (ط) أما الأصل، (ك): " والاحتمال فيه مُحالٌ ". وهو عكس
المعنى تماماً، ولكن عبارة (ط) هي المعهودة في لسان إمام الحرمين، وقد
سبق مثل هذا آنفاً.
(4) في الأصل، وك: صغره. والمثبت من (ط) ولعل المعنى: على صفو المسألة
ووضوحها لا وصول إلى القطع فيها. والله أعلم.
(5) أي يعكر على القول بوقوع الاعتكاف من الجنب أن هذا (الكَوْنَ) منه
في المسجد، لا يجوز إلا في حالة مروره مجتازاً للمسجد، والاشتغال
بالغسل من الجنابة ليس خروجاً.
(6) بياض بالأصل.
(4/110)
فليقف الناظر عند معاصات (1) الكلام.
2401 - واستتمام هذا بما نصفه [قائلين] (2): إذا أجنب الرجل في المسجد،
وكان بالقرب منه (3) ماءٌ يتيسر منه الانغماس فيه، على قربٍ من الزمان،
ولو حاول الانفصالَ من المسجد، وقطْعَ عرصته الفيحاء (4)، لزاد زمان
القطع على زمان الغُسل، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يتعين عليه إيثارُ
الخروج، ولا نظر إلى الزمان، طال (5) أو قصر.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: يجوز الاغتسال على الصورة التي ذكرناها.
وهذا ساقط، من وجهين: أحدهما - أن الاغتسال على حالٍ حطٌّ للجنابة،
واتخاذ المسجد محلاً لمثل هذا غضٌّ من أُبَّهَتِه، وأيضاًً، فإباحة
العبور ليست معقولةَ المعنى، وإنما كان يتطرق المعنى إلى ذلك لو خُصّ
جواز العبور بالاضطرار، فإذ [ذاك] (6) كنا نقدر الحركاتِ على قصد
الانفصال في حكم الخروج (7) من الأرض المغصوبة، وليس الأمر كذلك؛ فإن
للجنب دخول المسجد على قصد الاطّراق، وإن وجد مسلكاً غيرَه، فالتعويل
على ظاهر لفظ الكتاب العزيز (8). فكل ما لا يعد من قبيل العبور، بل يعد
تعريجاً على أمرٍ، فهو نقيض العبور، والاشتغال بالاغتسال من ذلك.
ولم أر أحداً من الأصحاب يوجب إيثار الاغتسال نظراً إلى قرب الزمان.
و [حظُّ] (9) الاعتكاف من هذا الفصل، أنه قد ينقدح للناظر توجيه
الاشتغال
__________
(1) عاص الكلامُ يعوص: خفي معناه، وصعب فهمه، فهو عويص، ومعاص اسم مكان
من عاص. (المعجم).
(2) مزيدة من (ط).
(3) (ط): منها.
(4) عرصته الفيحاء: أي ساحته الواسعة. وفاحت الدار: اتسعت، فهي فيحاء.
(المعجم).
(5) في الأصل، (ك): وإن طال .. (بزيادة وإن).
(6) الأصل، (ك): ذلك.
(7) ساقطة من (ط).
(8) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}
[النساء: 43].
(9) في الأصل: حفظ.
(4/111)
بالاغتسال، في حق الجنب المعتكف؛ حتى لا
يحتاج إلى الخروج، وهذا ساقط؛ فإن الخروجَ إذا أمر به، فهو في معنى
الخروج لقضاء الحاجة.
والذي يتنخلّ (1) عندنا من تنزيل هذا القول الذي شُهر، أن يقال:
الإنزال إذا جرى من غير قصد، فالخروج من المسجد محمول على الخروج لقضاء
الحاجة، ثم نفس الخروج مع [مباينته للمسجد] (2) غيرُ مؤثر، فليكن
الخروج لأجل الإنزال بهذه المثابة.
وقد طال الكلام بعض الطول وسببه ما في هذا القول من الإشكال.
2402 - ومما نلحقه بمفسدات الاعتكاف شيئان، اختلف النص فيهما، ونحن
ننقل النصَّين في موضعهما، ونذكر ترتيب المذهب في كل واحدٍ.
نص الشافعي على أن الردَّة لا تفسد الاعتكافَ، ونص على أن السكر يفسد
الاعتكاف.
فأما الردة، فلأصحابنا فيها ثلاث طرق، قال بعضهم: هي مفسدةٌ للاعتكاف؛
فإنها محبطةٌ للأعمال المقترنة بها، فلا يتصور اعتداد بعبادةٍ تساوقها
الردة. وهذا القائل يقول: نصُّ الشافعي محمول على اعتكافٍ غيرِ متتابع
طرأت الردةُ في خلله، وقوله: " لا تُفسدُ الاعتكاف " معناه لا تُفسد ما
مضى، ردّاً على أبي حنيفة (3)، حيث قال: الردة تحبط سوابق الأعمال، وإن
اتفقت الموافاة (4) على الإسلام.
وفي هذا التأويل بعضُ البعد؛ فإن الشافعي قال في طارئ الردة: إنها لا
تُفسد، ويبني إذا عاد إلى الإسلام، وهذا مشعرٌ بفرض الأمر في اعتكافٍ
متتابع، [بفرض] (5) انقطاعه وانتظامه، فهذه طريقة.
__________
(1) (ك): ينتجل.
(2) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): مع أنه غير مؤثر.
(3) ر. المبسوط: 3/ 125، البدائع: 2/ 116.
(4) أي موافاة الأعمال لحالة الإسلام.
(5) في الأصل، (ك): لغرض.
(4/112)
ومن [أصحابنا مَنْ] (1) قال: الردةُ لا
تفسد الاعتكافَ أصلاً؛ جرياً على النّص، وسنشير إلى ما قيل في توجيهه.
ومن أصحابنا من قال: إذا قصر الزمان، وعاد على قربٍ، انتظم الاعتكافُ
المتتابع، وإن طال الزمان، انقطع التتابع. وسنبين حقيقة هذا الوجه
أيضاًً.
فهذا نقل مقالات الأصحاب، لم نوجه منها إلا القولَ الأول [الظاهر] (2).
فأما السكر، فظاهر النص فيه، أنه يناقض ويُفسد، ولأصحابنا ثلاثُ طرق:
منهم من قطع بأنه لا يفسد، كالنوم، واستمرار الغفلة.
ومنهم من قطع بالإفساد، قَلّ زمان السكر أو كثر.
ومنهم من قال: إن قلّ الزمانُ، فلا مبالاة به، وإن كثر، انقطع التتابع.
2403 - فإذاً في الردة والسكر في كل واحد منهما ثلاثُ طرق، غير أن
القياسَ يخالف النصَّ في الموضعين، فالقياس [من الطرق الثلاث في الردة،
الفسادُ، والمنافاة، والقياس] (3) من الطرق الثلاث في السكر، أن لا
منافاة، ولا فساد.
وتكلف بعض أصحابنا، فذكر ما هو طريقة رابعة، والتزم الجريان على
النصين، وقال: الردة لا تنافي؛ [فإن] (4) المرتد من أهل المسجد (5)،
وخاصية الاعتكاف اختصاص بالمسجد. وأما السكران (6 فليس من أهل المسجد
6)، فإنه لا يبقى فيه.
وهذا تكلّف، لا أصل له.
ثم من قال: الردة لا تُفسد الاعتكاف، فليت شعري ماذا يقول فيه إذا أنشأ
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) ساقط من الأصل، (ك).
(3) مزيدة من (ط).
(4) مزيدة من (ط).
(5) من أهل المسجد على معنى أن المسجد من المنافع العامة، وسيأتي بيان
هذا الحكم في كتاب السير، حيث ذكر هناك وجهاً أن الذمي له أن يدخل
المسجد ولا يمنع من الكَوْن فيه باعتباره ملكاً عامّاً.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(4/113)
الاعتكاف مرتدّاً؟ فإن قال: يصح اعتكافه،
فهو أمر عظيم، وإن سلّم الفسادَ عند اقتران (1) الردة، فالفرق بين
المقارن والطارئ عسِر، ولم يختلف أصحابنا في أن من ارتد في أثناء
الوضوء، وغسل عضواً من أعضائه، في زمن ردته، لم يعتد بما أتى به في زمن
الردة، والمكث الذي يقارن الردةَ الطارئة، كان يعتد به لولا الردة،
فكيف الاعتداد به مع كَوْن (2) الردة.
فإن روجعنا [في الصحيح] (3) من ذلك، فالوجه الحكمُ بكون الردة مفسدةً،
واحتمال بُعدٍ في التأويل للنص.
وأما السُّكْر، فإذا طال، فليس يبعد احتمالٌ في فساد الاعتكاف. على أن
القياس أن لا يفسد مع تقدم النية. فإذاً يحمل النص على الإخراج من
المسجد لإقامة الحدّ، وتكون فائدة التصوير أنه إذا كان منتسباً إلى
التزام الحد، كان إخراجه على القهر، بمثابة خروجه من معتكفَه اختياراً.
وأما من قال بالفصل بين الزمان اليسير والكثير في الردة، فليس له وجه،
به مبالاة.
ولكن إن لم يكن من المصير إلى ظاهر النص بُدّ، فقد ينتظم الاستنباط من
قول الأصحاب في هذا [فصل] (4) وهو أن من خرج عن معتكفه مختاراً من غير
عذر، انقطع تتابعه، وإن قرب الزمان. وإن بقي في معتكفه وطرأ مفسد،
كالردة -إذا اعتقدناها مفسدة- فإذا قرب الزمان، فالأصحاب مترددون في
انقطاع التتابع، كما نبهنا عليه، ولا وجه أصلاً للاعتداد بالزمان الذي
كان مرتداً فيه.
فهذا منتهى الحِيَل (5) بعد النقل، في تنزيل كل قول، على الممكن فيه.
وقد نجز تمام المراد في جميع مفسدات الاعتكاف.
__________
(1) (ط): اعتقاد.
(2) أي وجودها.
(3) في الأصل، (ك): فالصحيح.
(4) في الأصل، (ك): قصد. هذا والمراد بقوله (فصلٌ) أي كلامٌ يسوقه
ملخصاً جامعاً مرتَّباً.
(5) الحِيَل: جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف
في الأمور.
(المعجم).
(4/114)
فصل
قال: "وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر ولم يقل متتابعاً، أحببته متتابعاً
... إلى آخره " (1).
2404 - من نذر اعتكاف شهر أو اعتكاف أيامٍ، ولم يتعرض للتتابع، ذِكراً،
وعقداً، ولم يلفظ به، ولم يَنْوه، فلا يلزمه رعايةُ التتابع.
وكذلك القول في نذر صوم شهر، وصوم أيامٍ.
وقال: أبو حنيفة (2) في الصوم ما قلناه، وذهب إلى أن التتابع يجب في
الشهر والأيام في الاعتكاف.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سريج، أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة في
الاعتكاف، وهذا بعيد، ولست أدري ماذا يقول ابن سريج في الصوم؟ أيفصل
بينه وبين الاعتكاف، كمذهب أبي حنيفة، أو يطرد مذهبه في البابين؟ ولا
تفريع على هذا، ولا عودَ.
2405 - ولو قيد نذره بالتتابع، لزم. ولو نوى التتابع بقلبه، فمضمون
الطرق أنه يلزم؛ فإن مطلق اللفظ يحتمله، وهذا كتنزيل النيات مع
الكنايات منزلة الصريح.
فإذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً، والتفريع على ما هو المذهب، من أن
التتابع لا يلزم، من غير لفظٍ، أو عقدٍ، فإذا قال: أعتكف يوماً، وأراد
أن يعتكف نصفي يومين، أو [أثلاث] (3) ثلاثة أيام، ففي إجزاء ذلك وجهان
(4) مشهوران: أحدهما - يجزىء؛ فإن التتابع لم يقع له تعرض، فكانت
الساعات بالإضافة إلى اليوم، كالأيام
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 37.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 58، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 54 مسألة 543،
المبسوط: 3/ 119، البدائع: 2/ 111.
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ط): قولان.
(4/115)
المتفرقة بالإضافة إلى الشهر. والوجه
الثاني - لا يجزئه؛ فإن الأيام المتفرقةَ، تسمى عشرةَ أيام، وتسمى عند
تقدير الضم، والتلفيق، شهراً. والساعات المتفرقة، لا تسمى يوماً، فاسم
اليوم إذاً ينطلق على ساعات متواصلةٍ من طلوع فجر إلى غروب شمس ذلك
اليوم.
التفريع على الوجهين:
2406 - إن قلنا: يجزئه تفريق الساعات، فينبغي ألاّ يلزمه إلا ساعات
أقصر الأيام؛ فإنه لو اعتكف في أقصر الأيام، كفاه.
وإن قلنا: لا يجزيه تفريقُ ساعاتِ اليوم، فلو بدا الاعتكافَ من وقت
الزوال، فلما غربت الشمس، خرج ثم عاد مع الفجر، فاعتكف إلى مثل ذلك
الزمان الذي أنشأ الاعتكافَ فيه في نفسه، فلا يجزئه، على منع التفريق.
وإن لم يخرج من معتكفه ليلاً، حتى انتهى [إلى] (1) زمان ابتداء أمسه،
فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب جواز ذلك، وإن فرعنا على منع التفريق؛
لأن الأوقات لها حكم التواصل، لمّا لم يخرج من معتكفه.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي وجهاً آخر، اختاره لنفسه، وهو أن
ذلك لا يجزيه، فإنه لم يأت بيومٍ متواصلِ الساعات من الطلوع إلى
الغروب، واعتكاف تلك الليلةِ، لا مبالاة به، وهو غير محسوب، سواء مكث
في المسجد، أو خرج منه فتخلله يجب أن يكون مُفرِّقاً قاطعاً، لما
نبغيه، من تواصل ساعات اليوم الواحد.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ متّجه.
وعُرض عليه نص الشافعي في تجويز ذلك، مع مصيره إلى أن تفريق الساعات
غيرُ مجزىء، فقال: نصه محمول على ما إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً
من وقتي هذا، فإذا قال ذلك، فلا وجه إلا المصير، إلى وقتٍ مثله من
الغد.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(4/116)
2407 - ومن تمام البيان شيء يدور (1) في
النفس، وهو أن الأصحاب قالوا تفريعاً على جواز التفريق: يكفيه ساعات
أقصر (2) النهار وتفرقها.
ثم يتجه في النظر أن يعتبر جزءُ كلِّ يوم منسوباً إليه، حتى إن فرّق
الساعات على أيامٍ هي أقصر الأيام في السنين، فالأمر كذلك (3).
وإن كان يعتكف في أيامٍ متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب
اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه؛ إن كان ثلثاً: فقد خرج عن ثلث ما
عليه، وهكذا، إلى النجاز، والذي يحقق ذلك، أنه لو نذَر اعتكاف يومٍ، ثم
اعتكف تسعَ ساعاتٍ، [ونصفاً] (4) من أطول الأيام، فلا يكون خارجاً عما
عليه قطعاً؛ فدل على أن النظر إلى اليوم الذي يوقع الاعتكافَ فيه.
فيتجه وينقدح جوابٌ عن هذا، بأن يقال: إذا كان يواصلُ، فليأت بيومٍ
كاملٍ.
ومن نذر اعتكافَ يوم، فاعتكف أطول الأيام، فكل ما جاء به فرضٌ. ولو
اعتكف في أقصر النهار، فالذي جاء به كافٍ.
2408 - ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن الليالي إذا لم يَتعرض لها
الناذرُ، وذكر في نذره الأيام، فهل تندرج تحت مطلق تسمية الأيام؟ قال
أصحابنا: إذا نذر اعتكافَ يومٍ، لم يلزمه ضمُّ الليلةِ إليه، وفاقاً،
إلا أن ينويها، ثم اتفقوا على أنه إذا نواها، يلزم الاعتكافُ فيها، وإن
لم يجر لها ذكرٌ، والنية المجردة لا تلزم.
والوجه فيه أن اليومَ قد يطلق، والمراد به اليوم بليلته. هذا سائغٌ على
الجملة، وإن لم يكن ظاهراً، [فعملت] (5) النيةُ لذلك (6).
__________
(1) (ط): يدوّن.
(2) (ط): أكثر.
(3) (ط): ذلك.
(4) مزيدة من: ط.
(5) في الأصل، (ك): فعلمت.
(6) والمعنى أن نية اعتكاف الأيام تشمل لياليها إذا قصدها، وإن لم
(يجرّد) لها نية خاصة، فاليوم إذا أطلق قد يُراد به اليوم والليلة،
ولذا (عملت) نية اعتكاف اليوم وشملت الليل، وكفت في ذلك.
(4/117)
ولو نذر اعتكافَ شهرٍ، فلا خلاف أنه يلزمه
الليالي مع الأيام؛ فإن اسم الشهر يشمل الجميع.
وإن قال: اعتكاف ثلاثة أيام؛ فصاعداً، ففي استحقاق الاعتكاف بالليالي
على عدة الأيام وجهان مشهوران في الطرق: أحدهما - أنه يجب الاعتكاف
بالليالي على عِدة الأيام. والثاني - لا يجب ما لم ينوها.
وقطع أصحابنا المراوزة بأن اليومين في التفصيل، كاليوم الواحد. فإذا
أُطلقا، لم يجب الاعتكاف إلا في اليومين. وجعل العراقيون، في بعض طرقهم
اليومين كالأيام الثلاثة فصاعداً.
والقول في هذا مبهم عندنا [بعدُ] (1).
2409 - أما (2) اليومُ، فلا شك أنه لا يستدعي الليلةَ بوجهٍ إلاّ على
بُعدٍ، كما تقدم. وما قيل في الشهر، لا شك فيه. وأما الكلامُ في
اليومين، فإن لم يثبت فيهما استحقاقُ التتابع، فلا وجه إلا القطعُ بأنه
لو اعتكف في يومين متفرقين، ولم يعتكف ليلةً، فقد خرج عما عليه.
فأما إذا نذر اعتكاف يومين، ونوى التتابعَ، أو ذكره، فقد قال
العراقيون: ينبغي أن يبتدئ الاعتكافَ مع الفجر في يومٍ، أو قُبَيله،
استظهاراً، ثم يعتكف إذا غربت الشمس (3)، ويدومُ في معتكفه إلى غروب
الشمس من اليوم الثاني. قالوا: لو خرج من معتكفه ليلاً، كان [ذلك] (4)
قطعاً للتتابع.
وكان شيخي يقطع بأن الخروج من المعتكف ليلاً، مع العود مقترناً بالفجر
من اليوم الثاني، لا يقطع التتابع؛ فإن الاعتكاف إذا لم يكن مستحقاً
ليلاً، فلا معنى لإلزام
__________
(1) في الأصل، (ط): بعيد.
(2) ساقطة من (ط).
(3) كذا في النسخ الثلاث، وليس المعنى أنه يقطع الاعتكاف ثم يستأنفه
إذا غربت الشمس، بل المعنى أنه يبدأ اعتكافه قبيل الفجر ثم يتابع إلى
غروب الشمس، ثم يدوم إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فيتحقق بذلك
الوفاء باليومين.
(4) مزيدة من (ط).
(4/118)
الناذر لزوم المعتكَف في الليل. والليلُ
إذا لم يلزم اعتكافه، فتخلله كتخلل الليالي، بين الصوم المتتابع، وما
ذكره منقاسٌ حسن.
2410 - ومما ينكشف به الإبهام: أن الأصحاب ذكروا وجهين، في الأيام إذا
ذكرت: أن (1) الليالي هل يُستَحق الاعتكافُ فيها؟ وهذا إنما أخذه، مَن
أخذه، من ظن الناس أن الأيام إذا أطلقت في التواريخ، على صيغة الجمع،
أريد بها الأيام بلياليها، وهذا غير منتظم؛ فإن الإنسان إذا قال: أقمتُ
عند فلانٍ أياماًً، وكان يفارقه بالليالي، فما قاله صدقٌ، منتظمٌ، لا
تلبيس فيه. نعم إنما يتوقع طلبُ توَلُّج الليل إذا جرى في الكلام
إشعارٌ بالتتابع، بحيث يُفهم تواصلُ أزمانِ الإقامة. وإذا كان كذلك،
فتتخلَّلُ ليالٍ (2).
ولكن إذا افتتح الإقامة مع أول نهارٍ، وخرج مع غروب الشمس يومَ الثالث،
فهو مقيمٌ [ثلاثة] (3) أيام متواصلة، ويكفي في الوفاء بالتواصل ليلتان،
فلا وجه لاشتراط الليالي على عدد الأيام، وكذلك يكفي في العشر (4) تسعُ
ليالٍ، على نحو ما صورناه؛ فينقص عدد الليالي، التي بها تواصل الأيام،
عن عدد الأيام المذكورة بواحدة. هذا لا بد منه، إن كان الرجوع إلى
التواريخ.
ئم إذا قال: أعتكف ثلاثةَ أيامٍ، فقد حمل بعض الأصحاب ذلك على التواصل،
واعتقد الظهور فيه، وموجَبُ التواصل تولّجُ الليالي، وعلى هذا يظهر
تخريجُ ابنِ سريج في أن إطلاق نذرِ اعتكاف الأيام يقتضي التتابعَ.
والأظهر أنه لا يلزم التواصل، لتردد الكلام فيه، وإذا تردد، ولم يكن
نصَّاً صريحاً، ولا منوياً، فالإلزام مع التردد، محال.
وإن صور مصور ما يقتضي التواصل، فهو مضطرٌّ إلى تصوير قرينةِ حالٍ في
أمرٍ
__________
(1) (ط): وأن.
(2) فاعل (فتتخلل).
(3) في الأصل، (ك): تلزمه. (وهو تصحيف واضح).
(4) المعدود مذكر (الأيام) ولكن جاز في لفظ (العشر) التذكير على اعتبار
تقدم المعدود، كما هو معروف.
(4/119)
يذكره، ثم تخيُّلُ التواصل -إذا نُزّل
الكلامُ عليه- ممكنٌ في اليومين، إمكانه في الثلاثة، فصاعداً. ويعود في
الأيام -إذا لم نوجب الاعتكافَ في لياليها- أنه لو نذر التتابعَ فيها،
فهل يجوز الخروج عن المعتكف في الليالي؟ فيه من خلاف المراوزة
والعراقيين، ما ذكرناه في اليومين.
فصل
2411 - المرأة إذا اعتكفت في مسجد بيتها، وهو معتزَلٌ في البيت، مهيأٌ
للصلاة، وليس مسجداً على الحقيقة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك ليس
باعتكاف؛ فإن الاعتكاف مخصوص بالمساجد، وليس ذلك الموضع مسجداً، فلا
تتعلق به أحكام المساجد.
ونصَّ الشافعي في القديم على أنها لو اعتكفت في ذلك الموضع، أجزأها؛
فإن التحرز (1) أحرى بها، فأفضل بقاعها قَعْر بيتها. ثم في القديم خصص
ما قاله بمسجد البيت، فإن لم يكن لهذا القول مستند، من خبرٍ أو أثر،
فلا متعلَّق له في المعنى. ثم ذكر أئمتنا في الرجل إذا اعتكف في مسجد
بيته قولين، مرتّبين [على المرأة] (2) واعتكافه أولى بالفساد، بل، لا
وجهَ لصحته أصلاً.
فصل
قال: " إذا قال: لله عليّ أن أعتكف اليومَ الذي يقدَم فيه فلان ... إلى
آخره " (3).
2412 - أما إذا قال لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان، فقدِم
نصفَ النهار، فقد فات الصوم في هذا اليوم، وفي وجوب قضاء يومٍ قولان،
سنذكرهما في
__________
(1) (ط) التخدر.
(2) زيادة من (ط).
(3) ر. المختصر: 2/ 37.
(4/120)
النذور -إن شاء الله تعالى- وهما مأخوذان
من أصلٍ، وهو أنا هل نتبين بقدومه في اليوم أن الصوم كان مستحقاً من
أوله؟ أم ننظر إلى ما يستعقبه القدوم، ولا نلتفت إلى سابقٍ في تقدير
الوجوب؟ فإن بنينا الأمرَ على التبيُّن، فيلزمه قضاء يوم، وإن نظرنا
إلى ما يستعقبه القدوم، فصومُ يومٍ بعد القدوم [محال] (1)، فكان كما لو
قدِم ليلاً. وليس من غرضنا تفصيل هذا.
2413 - ولكن. لو قال: لله عليّ أن أعتكف يوم يقدَم (2) فلان، فقدِم
نصفَ النهار، فيجب على الناذر اعتكافُ بقية النهار وفاقاً، وهل يجب
عليه اعتكافُ نصفِ يومٍ لينضم إلى ما جاء به، فيكمل يوماًً؟ هذا خارج
على القولين في وجوب القضاء في الصوم، فإن أوجبنا القضاء ثَمَّ، أوجبنا
هاهنا تكملةَ البقيةِ من يوم آخر، وإن لم نوجب القضاء ثَمَّ، اكتفينا
بالاعتكاف في بقية النهار، الذي قدم فيه.
ثم إن المزني قال: وأحب أن يستأنف اعتكافَ يومٍ، حتى يكون اعتكافه
متصلاً. وقد قال أئمتنا: هذا غلط؛ فإن الاعتدادَ بما جاء به لا بد منه،
وإذا اعتُدَّ به، فلا معنى لأمره باعتكافِ يومٍ كاملٍ، بسبب ما قدّمه
من لفظه، لا على الاستحباب، ولا على الإيجاب.
وذكر شيخي في دروسٍ: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكافَ، في بقية
النهار أيضاًً؛ تخريجاً على أن النهار لا يتبعض، بتقدير تفريق الساعات،
وهو قد ذكرَ اليوم، واعتكافُ يومٍ بعد قدومه غيرُ ممكن، إلاّ على نعت
التقطيع.
والفكر لا نهاية له. ولكن الفقيه يقتصر منه على مسلك الحق، ويطّرح ما
عداه.
2414 - ثم قال الشافعي: " ولا بأس أن يلبس المعتكف والمعتكفة " (3) ولا
خفاء بما ذكره، وغرضه أن الاعتكاف لا يحرم ما يحرمه الإحرام، وعلى هذا
لا بأس أن ينكح، ويُنكح.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) بفتح الدال: من باب تعب.
(3) ر. المختصر: 2/ 38.
(4/121)
2415 - قال: " ولا بأس أن توضع المائدة في
المسجد، ولا بأس بغسل الأيدي في الطسوس " (1) توقيةً للمسجد من البلل؛
فعساه يمنع مصلياً.
2416 - قال: " والمرأة والعبد، والمسافر يعتكفون " والأمر على ما قال،
فالاعتكاف يصح من كل من تصح منه النية، وفي بعض التصانيف ذكر وجهين في
أن المكاتَب هل يعتكف؛ وهذا خُرق، وخروج عن الحد، ولا خلاف أنه (2) لو
سكن في بيته، ولم يكتسب اليومَ واليومين، فلا معترض عليه، قبل مَحِل
النجم (3).
فرع:
2417 - تعيين الزمان للاعتكاف، كتعيين الزمان للصوم، والأصح أن الزمان
يتعين للصوم في نذره، حتى لا يجوز التقديمُ عليه، ولا التأخير.
وفي المسألة وجه بعيدٌ -نذكره في النذور- أن الزمان لا يتعين للصوم،
كما لا يتعين لنذر الصلاة والصدقة، وذلك الوجه يجري في الاعتكاف، ولا
تفريع عليه.
وما ذكرناه من نذر الأيام مفرّعٌ على الأصح؛ فإنه لو نذر اعتكافَ يومٍ،
لم يجزه إقامةُ ساعات الليل، مقامَ ساعات النهار. وكذلك لو عيّن
الليلَ، لم يجزئه ساعاتُ النهار.
فرع:
2418 - إذا كان نذرَ اعتكافَ أيامٍ، ومات، ولم يف بنذره، مع القدرة،
فقد ذكر شيخي قولين: أحدهما - أنا نقابل كلَّ يوم بمدٍّ من طعام، نخرجه
من تركته، كدأبنا في الصوم.
والقول الثاني - أنه يَعتكف عنه وليُّه. وذكر أن القولين منصوصان
للشافعي.
وهذا عندي مشكلٌ من طريق الاحتمال، فإنَّا (4) تبعنا الأثرَ في مقابلة
صوم يوم بمُدٍّ، وليس ينقدح قياس الاعتكاف في ذلك على الصوم، ثم اعتكاف
لحظةٍ عبادةٌ
__________
(1) في المختصر: الطشت: 2/ 39.
(2) أي المكاتب.
(3) أي موعد القسط.
(4) (ط): فإذا.
(4/122)
تامة، ثم ليت شعري ماذا يقول في اليوم مع
الليلة؟ وقد (1) ذكر رحمه الله صريحاً أن اليوم بليلةٍ يقابِلان
مُدّاً، وإذا كان يقول ذلك، فما القول في اليوم الفرد؟ وهو على الجملة
مختبطٌ.
وأقصى ما علينا التنبيهُ على الاحتمال، مع الوفاء بما بلغنا من طريق
النقل. والله أعلم بالصواب.
...
__________
(1) (ط): قد (بدون واو).
(4/123)
كِتَابُ الحَجِّ
باب بيان فرض الحج
قال الشافعي: "فرض الله تعالى الحجَّ على كل حرٍّ بالغٍ، استطاع إليه
سبيلاً ... إلى آخره" (1).
2419 - قيل: " أول من حج البيت آدم عليه السلام ". وقيل: " ما من نبي
إلا وقد حج هذا البيت ". وعن محمدِ بنِ إسحاق، أنه قال: " ما من نبي
هلك قومُه، إلا انتقل بعدهم إلى مكة، يعبد الله سبحانه وتعالى، عند
البيت، إلى أن أتاه أجله " (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مرّ موسى بالروحاء في سبعين
نبياً، عليهم العباء، يؤمُّون البيت العتيق، يلبون، وصفائح الروحاء
تجاوبهم " (3).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 39.
(2) لم نجد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق مع طول البحث على قدر طاقتنا،
وإنما رواه الأزرقي في تاريخ مكة من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن
سابط، وذكره القرطبي في تفسيره عن محمد بن سابط أيضاً، أما السيوطي في
الدر المنثور، فقد عزاه إلى الجَنَدي (في تاريخ مكة) من طريق عطاء عن
محمد بن سابط، وعزاه أيضاً إلى الأزرقي، والجندي من طريق عطاء عن عبد
الرحمن بن سابط. هذا ولم نصل في كتب الرجال وطبقات الحفاظ إلى من اسمه
محمد بن سابط، وإنما المعروف والمذكور هو عبد الرحمن بن سابط، فلعل
محمد بن إسحاق الواردة عند الإمام تصحيف عن محمد بن سابط، ومحمد بن
سابط تصحيف عن عبد الرحمن بن سابط، والله أعلم.
(3) حديث: مرّ موسى عليه السلام بالروحاء .. ، رواه الطبراني والعقيلي
عن أبي موسى مرفوعاً بسند ضعيف، ولابن ماجة وأحمد عن ابن عباس بألفاظ
أخرى، وفي إسنادهما مقال. انتهى ملخصاً من كلام الحافظ. وقال أحمد
شاكر: ونقله ابن كثير في تاريخه: (1/ 138) وقال: إسناده حسن (ر. مسند
أحمد: 3/ 340 ح 2067 (شاكر)، ابن ماجة: المناسك، باب=
(4/125)
2420 - ثم الحج لا يجب في الشرع إلاّ مرة
واحدة؛ لحديث الأقرع بن حابس، قال: " يا رسول الله أحجتنا لعامنا أم
للأبد "؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " للأبد، ولو قلتُ لعامنا هذا،
لوجب، ولو وجب، لم تطيقوا " (1).
2421 - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج قبل الهجرة [كل سنة،
واختلف أصحابنا هل كان الحج واجباً قبل الهجرة؟ منهم من قال: كان نزل
وجوبه قبل الهجرة] (2).
ومنهم من قال: بل بعد الهجرة، ويتصل بذلك حديث ضِمام (3) بن ثعلبة،
وكان ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافداً لقومه، فلما دخل
المسجد قال: أيكم ابن عبد المطلب، فقالوا ذلك الأبيض المترفّق -وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على مرفقيه- فأتاه حتى وقف عليه،
وقال: أنت ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدتَه.
فقال: إني سائلك، ومغلظٌ عليك، فلا تَجِدْ عليّ، ثم قال: أنشدك الله:
آلله أرسلك رسولاً؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله آلله أمرك أن
تأمرنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال أنشدك
الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نؤدي الزكاة، من أموالنا؟ قال: اللهم
نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نحج البيت إن استطعنا
إليه سبيلاً؟
__________
=دخول الحرم، ح 2939، الضعفاء الكبير للعقيلي: 1/ 36، التلخيص: 2/ 463
ح 1009). هذا، والروحاء (بفتح الأول، وبالحاء المهملة ممدودة) قرية على
بُعد ليلتين من المدينة المنوّرة، قاله البكري (ر. معجم ما استعجم: 2/
681).
(1) حديث الأقرع بن حابس رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة
والدارمي والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (أحمد: 1/
290، 255، 352، 370، أبو داود: المناسك، باب فرض الحج، ح 1721،
النسائي: مناسك الحج، باب وجوب الحج، ح 2620، 2621، ابن ماجة: المناسك،
باب فرض الحج، ح 2886، الدارمي: ح 1788، الدارقطني: 2/ 279، الحاكم: 1/
441) ولمسلم من حديث أبي هريرة -دون ذكر الأقرع بن حابس- الحج، باب فرض
الحج مرة في العمر، ح 1337.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(3) ضمام: بكسر ضاد، وخفة ميم.
(4/126)
قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله
أمرك أن تأمرنا أن نصوم شهر رمضان؟ قال: اللهم نعم " (1). ثم أسلم،
وحسن إسلامه، وروي أن هذا كان سنة خمسٍ من الهجرة (2).
فصل
2422 - الصفات المرعية في صحة الحج، ووقوعه عن فرض الإسلام، واستقرار
فرضيته في الذمة: الإسلامُ، والعقل، والحرية، والبلوغ، والاستطاعة.
فأما شرط تصوّر الحج، فالإسلام المحض؛ فإن الصبي غيرَ المميز، يحج عنه
وليه، كما سيأتي. وإن أردنا تصوير الحج من الشخص بأن يتعاطى الإحرامَ،
فنضمُّ إلى الإسلام العقلَ، وهو الذي يسميه الفقهاء التمييزَ، في حق
الصبي، ثم في استبداده (3)، واشتراط صَدَر (4) إحرامه عن إذن وليّه
كلام سيأتي، إن شاء الله، عز وجل.
وأما الحرية والبلوغ، فمضمومان إلى ما قدمناه، في وقوع الحج، عن فرض
الإسلام؛ فإن حج الصبي، والعبد، وإن صح، فلا يقع عن حجة الإسلام.
__________
(1) قصة ضمام بن ثعلبة رواها البخاري من حديث أنس: العلم، باب القراءة
والعرض على المحدّث، ح 63، ومن حديث أنس أيضاً رواها النسائي: الصيام،
باب وجوب الصيام، ح 2093، 2094، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء في فرض
الصلوات الخمس، ح 1402، والدارمي: ح 650، وأحمد: 3/ 168، والبيهقي: 4/
325، ورواها أحمد: (2/ 250، 264)، والدارمي: ح 652 من حديث ابن عباس.
(2) في هامش (ك) ما نصه: يعني فرض الحج، لا قصة إسلام ضمام. وهذا القول
صححه الفاضي حسين، وبعده الرافعي.
وقيل: بل ذلك كان في سنة ست، وصححه الرافعي والنواوي في السير.
وقيل: بل سنة ثمانٍ. قاله الماوردي. وقيل: سنة تسع، وصححه عياض.
(3) استبداده: أي انفراده بإرادة الإحرام، من غير إذن وليه.
(4) (ك) صدور. وأظنه من تصرّف الناسخ. فإمام الحرمين دائماً يستخدم هذا
الوزن لمصدر الفعل (صَدَر) كما يستخدم (حَدَث) مكان حدوث.
(4/127)
وأما الاستطاعة، فهي مضمومةٌ إلى الشرائط
المتقدمة، في الحكم باستقرار فرائض (1) الإسلام في الذمة.
2423 - ومقصود الفصل تفصيل القول في الاستطاعة، وهي تنقسم إلى
الاستطاعة في تولّي الحج، وتعاطيه بالنفس، وإلى الاستنابة.
فأما الاستطاعة (2) في تعاطي الحج، فهي معتبرةٌ أولاً، بدليل الكتاب،
والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الاستطاعة: " زادٌ وراحلة
" (3). ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة.
ثم المتبع عندنا تفسيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على الأيّد
(4)، القادرِ على المشي أن يحج ماشياً، إذا بعدت المسافة، ولا نعتمد في
ذلك مسلكاً معنوياً؛ فإن الضرر الذي يلحق القويَّ في المشي من خمسين
فرسخاً، قد يقلّ، ويقصر عن الضرر الذي ينال الراكب الضعيف، بسبب
الركوب، في المسافة الطويلة؛ فلْيقع (5) التعويل على تفسير رسول الله
صلى الله عليه وسلم الاستطاعةَ بالزاد والراحلة، في محاولة الرد على
مالك في قوله: يجب المشيُ على القادر عليه (6).
وهذا مقامٌ لابد من التنبه له، في وضع (7) الشرع؛ فإنا لا نستريب في
__________
(1) (ط): فرض.
(2) (ط): استطاعة تعاطي.
(3) حديث تفسير الاستطاعة رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه،
والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس وابن عمر وابن عباس وغيرهم،
وفي طرقه ضعفٌ أشار إليه الحافظ في التلخيص، وابن الصلاح في مشكل
الوسيط. (ر. الأم: 2/ 116، الترمذي: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج
بالزاد والراحلة، ح 813، ابن ماجه: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896،
الدارقطني: 2/ 216 - 218، الحاكم: 1/ 442، البيهقي: 4/ 330، مشكل
الوسيط (بهامش الوسيط): 2/ 582، التلخيص: 2/ 442 ح 955).
(4) الأيّد: القوي الشديد.
(5) (ط) ولْنقل.
(6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 457 مسألة 706.
(7) (ك): موضع.
(4/128)
[أن] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لما ذكر الزاد والراحلة، أراد بما ذكره ألا يُجَشّم الناسَ المشيَ، لما
فيه من المشقة.
وهذا لا سبيل إلى إنكاره، ولكن لا استقلال (2) بتقريره في [مسالك] (3)
الأقيسة، وإن تخيلناه على الجملة. ونظائر ذلك كثيرة. ولسنا لها الآن.
ويغلب في هذا الفن البناءُ على قاعدة الحسم (4)؛ فإن المشي على الجملة
ظاهرُ الضرار، ولا التفات إلى ما يندر ويشذ، بخلاف ضرر الركوب.
قال الأئمة: الزاد نفقةُ السفر في الذهاب، والإياب، فأهبة الذاهب،
وأهبة المنقلِب زادُه، ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق في ذكر
الزاد، فإن كان للرجل أهل، شرطنا في الاستطاعة نفقةَ الذهاب، والإياب.
وأهلُ الرجل: زوجةُ الرجل وأولادُه.
قال الصيدلاني: الأقارب من الأهل، المحارمُ منهم وغيرُ المحارم. وليس
في الطرق ما يخالف قولَه والمرعي فيه، أنه يعظُم على الإنسان [مفارقة
ذويه وقراباته، كما يعظم عليه] (5) مفارقةُ زوجته، فاشتراط نفقة الإياب
لذلك.
وإن لم يكن له أهل، على ما فسرناه، ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان:
أحدهما - أنها لا تشترط؛ فإن البلاد متساويةٌ، في حق من لا أهل له.
والثاني - أنّا نشترط نفقة الإياب؛ لما في النفوس من الحنين إلى
الأوطان. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب، للمعارف والأصدقاء، كانوا، أو لم
يكونوا؛ فإن الاستبدال عن الصديق ممكن، بخلاف الأهل؛ فإن الاستبدال فيه
قد يعسر، ولا يفرض في القرابات إلاّ على بُعد.
__________
(1) في الأصل، (ك): قول.
(2) (ك): استقرار.
(3) الأصل، (ك): مسائل.
(4) (ط): الجسم.
(5) ساقط من (ك).
(4/129)
2424 - ثم لم يختلف الأئمة في أن قضاء
الديون مقدَّمٌ على ما ذكرناه، من النفقة.
والقول [في الفصل] (1) بين المؤجل والمعجل، سيأتي إن شاء الله تعالى.
وحسن الترتيب يقتضي استقصاء كل ما يتعلق بالفصل، ولكنَّا ملتزمون
الجريَ على ترتيب السواد (2)، فنكتفي بعقد التراجم، في بعض الأشياء
[المؤخرة] (3)، ونستقصي ما يتعلق بالترتيب استقصاؤه.
2425 - ومما يتعلق بالمقصود، وهو [مؤخر] (4) القول في صفة الطرق، في
الأمن والخوف، والرخص والغلاء، والبر والبحر وكل ذلك يأتي مفصلاً في
باب بعد ذلك.
2426 - ولو كان لا يستمسك على الراحلة، ويستمسك في المحمل، فيشترط أن
يجد مؤنة المحمل، ولو لم يجد شِقَّ مَحمِلٍ (5)، بأن عَدِم من يشاركه،
فلا استطاعة، وإن وجد مشاركاً، ثبتت الاستطاعة، ولو اتسعت ذاتُ يده
لمحملٍ تام، ولكن يكتفى بشق محمل، فالزيادة من باب المؤنة المجحفة.
وسنذكر شرح القول فيها، في الرخص والغلاء.
ولو كان استمساكه على الراحلة ممكناً، ولكنه كان يلقى ضرراً بيّناً،
فإذا كان لا يجد إلا مؤنة راحلة، فكيف الوجه، فيما صورناه؟ كان شيخي
يقول: إن كان بين تقدير ركوب الراحلة والمحمل من الضرر، ما بين أصل
الركوب والمشي، فلا نجعله مستطيعاً، ما لم يجد مؤنةَ محمل. وذكر غيرُه
-فيما بلغنا- ظهورَ خوف المرض، من تقدير ركوب الراحلة، والأمران
قريبان، لا يؤديان إلى خلافٍ، فيما أظن.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) " السواد ": يريد به مختصر المزني، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من
قبل. وكما ترى ألزم الإمام نفسَه بالجري على ترتيبه، فاكتفى (بتراجم)
المسائل، أي عناوينها، وترك استقصاءها، إلى حين مكانها في (السواد).
(3) في الأصل، (ك): الموجزة.
(4) في الأصل، (ك): موجز.
(5) المحمل: وزان مجلس، ما يوضع على البعير، ويكون ذا شِقَّين يركب فيه
اثنان كل واحد في شِق، فهما عديلان (القاموس).
(4/130)
2427 - ثم ذكر العراقيون: أن مسكن الرجل
غيرُ محسوب عليه، في استطاعته، والزاد مقدر بعد المسكن، وكذلك القول في
العبد، يملكه الرجل، وهو محتاج إلى خدمته، كما سنذكره في الكفارات،
ونزّلوا المسكنَ، والمملوكَ، الذي تمس الحاجةُ إلى خدمته، في الباب،
منزلتهما في الكفارات المرتّبة، وسنذكر [فيها] (1) إن شاء الله تعالى
أن الخادمَ والمسكنَ غيرُ محسوبين، ولا ذكر لهذا في طرق المراوزة،
ولكنه قياسهم.
ثم إذا فرض للرجل مسكنٌ، وقد تركناه عليه، فالوجه القطعُ في هذه
الصورة، باشتراط نفقةِ الإياب، وتخصيص الوجهين بما إذا لم يكن له مسكنٌ
مملوك. وإنما يجوز (2) تقدير الحنين إلى البلد الذي هو وطنه، وفيما
ذكرناه احتمال على بعد؛ فإن بيع الدار، وتقدير ابتياع مثلها، في بلدة
أخرى ممكنٌ، والقول في ذلك يتعلق بالحنين إلى الوطن، هذا محتمل.
والأظهر ما قدمناه.
2428 - ومما ذكره العراقيون في هذا الفن أن الرجل إذا كان يتصرف في رأس
المال، وكان جهةُ اكتسابه التجارةَ، فقد قالوا: نكلفه صرفَ رأس المال،
إلى ديونه المحيطة به، ولا نخلّفه عليه، وحكَوْا عن ابن سُريج أنه قال:
يُخَلّف عليه رأس ماله، الذي بالتجارة فيه يَتَبلّغ، ويَتَوصل إلى
تحصيل قوته، في مستقبل الزمان، إذا كان لا يُحسن الاكتسابَ، إلاّ من
هذه الجهة، كما نخلّف له دَسْت ثوبٍ يليق بمنصبه. ثم غلطوه وزيفوا
مذهبَه، والأمر على ما ذكروه (3).
وبَنَوْا عليه أن رأس المال مصروفٌ في أهبة الحج، على المذهب [الظاهر،
وليس كالمسكن، والخادم، وحكَوْا فيه خلافَ ابن سريج. ولا شك، أن من
يُخلِّف رأسَ المال عن ديون الآدميين، يخلِّفه عن أهبة الحج] (4)، ولا
خلاف أن المسكنَ والعبدَ مصروفان إلى الديون، وإن لم يصرفا إلى أهبة
الحج.
__________
(1) في الأصل، (ك): فيهما.
(2) ط: تجرد.
(3) هذا في الديون عندما تحيط به، ويطلبه الدائنون، ويُضرب الحجر عليه.
(4) ما بين المعقفين ساقط من: الأصل، (ك).
(4/131)
وفيما حكَوْه عن ابن سريج في الحج، من
تخليف رأس المال احتمالٌ ظاهر؛ فإن تكليف الرجل الانسلاخَ، عن ذات يده،
والألتحاقَ بالمساكين، فيه عُسر. على أن الظاهر أنه مصروف إلى الحج.
ثم القول في اعتبار رأس المال في الكفارات المرتبة، كالقول في الحج، بل
الأمر في الكفارات أظهر؛ من جهة أن المبدل فيها إذا لم يتفق، فالبدل
القائم مقامه لا يعطل الكفارة.
2429 - وقال العراقيون: إن فضل شيء، ولكن كان الرجل يخاف العنت [لو]
(1) لم يتزوج، وكان على حالةٍ قد نبيح فيها للحر التزوج بالأمة، عند
فقد طَوْل (2) الحرة، فلا يلزمه أن يحج، بل نُسوِّغ له صرفَ ما يملكه
إلى مؤونة التزويج؛ وذلك، لأنا إذا سوَّغنا إيثار تزوج الأمة، مع ما
فيه من التسبب إلى إرقاق الولد، أشعر ذلك بأن محاذرة العنت (3) مهم،
والكاشف له أنه في حكم ضرورة ناجزةٍ، والحج وإن تحقق وجوبه، فهو على
التراخي، وحكم ما يتنجز التقديمُ على ما يتراخى، فإذاً لا استطاعةَ،
ولا وجوب.
وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياسُ طرقنا، وإن لم نجده منصوصاً فيها.
2430 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا لم نوجب المشيَ في المسافة
الطويلة، وقد اعتبر الأئمة في الطُّول مسافة القصر، وقَضَوْا بأن ما
ينحط عنها من المسافة يجب المشي فيها على القادر القوي، وإن كان على
الماشي في المسافة القصيرة ضررٌ
__________
(1) في الأصل، (ك): أو.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] والطول: الغنى واليسار، ومؤنة
النكاح، والأصل أن يعدى بـ (إلى) فيقال: وجدَ طَوْلاً إلى الحرّة، ولكن
الفقهاء أضافوه تخفيفاً. (المصباح).
(3) العنت في اللغة: المشقة الشديدة، قال المبرد: العنت هاهنا: الهلاك:
أي يخاف أن تحمله الشهوة على مواقعة الزنا، فيكون الحد في الدنيا،
والإثم العظيم في الآخرة. وقيل: معناه: أن يعشق الأمَةَ، وليس في الآية
ذكر العشق، ولكن ذا العشق يلقى عنتاً. وقال الفراء: هو الفجور هاهنا.
(ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 311/فقرة: 682).
(4/132)
ظاهر، فالقول فيه كالقول في الراحلة
والمَحْمِل، على ما تفصل.
ولو كان لا يتأتى المشي، ولكن قد نفرض الزحف في زمانٍ ممتد، فلا نوجب
الزحفَ أصلاً. وهذا خارج على تحقق الضرر.
فهذا منتهى مقصودنا في أحد قسمي الاستطاعة، وهو استطاعة تعاطي الحج،
وتولّيه.
2431 - وأما القسم الثاني من الاستطاعة، فهو تحصيل الحج بطريق
الاستنابة، فنقول- على الجملة: أولاً- العاجز عن التعاطي -كما سنصف
العجز- إذا قدر على الاستنابة، لزمه تحصيل الحج بها، كما يلزم القادرَ
على التعاطي تولِّي الحج، خلافاً لأبي حنيفة (1).
ثم شرطُ الاستنابة: صحةً (2)، ثم وجوباً - أن يعجِز الرجل بزمانته (3)،
وعضَبه (4)، عن تعاطي الحج بنفسه. فلو استناب قادرٌ على التعاطي، لم
تصح الاستنابة، ولتكن الزمانة بحيث لا يرجى بظاهر الظن زوالُها.
ولم يجوّز مالكٌ (5) الاستنابةَ في حالة الحياة؛ فإن أخبار الاستنابة،
صادفها بعد الموت، [واعتبر] (6) الشافعيُّ تحقُّقَ العجز في الحياة،
بالعجز المترتب (7) على
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 51، المبسوط: 4/ 153، البدائع: 3/ 121، 124،
حاشية ابن عابدين: 2/ 238، رؤوس المسائل: 243 مسألة 137.
(2) أي شروط صحة الاستنا بة، وشروط وجوبها.
(3) الزمانة: كل داءٍ ملازمٍ، يُزمن الإنسان، ويدوم به، وزمن من باب
تعب. (الزاهر، والمعجم، والمصباح).
(4) عضبه عضباً: من باب ضرب: قطعه، ومنه السيف العضب أي القاطع،
والمعضوب زمن، لا حراك به، كأن الزمانة عضبته أي قطعته ومنعته عن
الحركة. (مصباح) وفي الزاهر: المعضوب: من عضبته أعضبه: إذا قطعته.
والعضب شبيهٌ بالخَبْل (بمعجمة مفتوحة، وباء ساكنة) والخبل: قطع الأيدي
والأرجل. (فقرة 339).
(5) ر. تهذيب المدونة: 1/ 584، حاشية الدسوقي: 2/ 17، شرح الحطاب: 3/
2.
(6) في الأصل، (ك): اختار. و" اعتبر " هنا بمعنى "قاس".
(7) (ط): المرتب.
(4/133)
الموت، وهذا إلى فقهٍ (1)؛ فإن الحيّ هو
المخاطب، والنيابة بعد موته في العبادة أبعدُ من النيابة في حياته،
والخطابُ مستمر عليه.
ثم المعتبر في الاستنابةِ أحدُ شيئين: إما المالُ يبذله لمن يستأجره،
وإما فرضُ بذل الطاعة من الغير، من غير مالٍ.
ونحن نذكر في كل قسمٍ ما يليق به:
2432 - فأما الاستئجار، فإذا ملك أجرةَ أجيرٍ يحج عنه، وفضل ذلك عن
ديونه، وعما نخلّفه له، لزم بذلُه، ولا نظر إلى إياب الأجير، وإنما
المعتمد أجرتُه. وهذا لا خفاء به.
ولو وجد أجرة أجيرٍ ماشٍ، ولم يجد أجرة أجيرٍ راكب، ففي وجوب استئجار
الماشي وجهان: أحدهما - أنه يجب؛ فإن الفرق بين المشي والركوب إنما
يتجه في حق الرجل نفسه؛ من جهة أنه لا يكلّف المشي، فأما الأجير إذا
تَكَلَّفَه، والتزم تحصيلَ الحج، فاعتبار ضراره في حق مستأجِره بعيد.
وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني - أنه لا يجب استئجاره، من جهة أن الماشي على غررٍ
ظاهرٍ، وبذل المال في أجرته تغريرٌ بالمال، من غير ثقةٍ ظاهرة بتحصيل
المقصود.
2433 - ويتصل بهذا الموضوع سرٌّ في المذهب، يتضح به حقيقةُ الفصل، فإن
قيل: لو كانت الأجرة مملوكةً، ولكن لو بذلها، كان فقيراً بعد بذلها، لا
يجد ما ينفقه، فكيف الوجه في ذلك؟ قلنا: إن جرينا على ما حكاه
العراقيون عن ابن سُريج، في تخليف رأس (2) المال في قسم استطاعة مباشرة
الحج، فلا شك أنا نرعى أن تكون الأجرةُ المبذولة زائدةً على ما يخلِّفه
من بلاغ.
وإن قلنا: لا يُشترط ذلك في حق المباشرة، فلا شك أن نفقة المباشرة
ذاهباً وآيباً، وما يتركه على أهله بلاغٌ له في الحال، فإن فرض
انقطاعٌ، فهو بعد حصول الحج، فكأنا نقول: لا مبالاة بمسكنته بعد حصول
الحج، وهذا الذي نقدره من المسكنة
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى: وهذا يُشير إلى الفقه، أو وهذا هو
الفقه.
(2) ساقطة من (ط).
(4/134)
لا تحقيق له، فإن أبواب الرزق ليست منحسمة،
والأموال تغدو وتروح، [وقد] (1) تحقق في قسم المباشرة أن (2) البلاع
ناجزٌ، والمسكنةُ بعد حصول الحج ليست واقعةً لا محالة.
وإذا فرضنا القولَ في بذل الأجرة، فيتنجز ببذلها الفقرُ الناجز، وحصولُ
الحج مرقوبٌ، فالحاجة متنجزةٌ، وحصول الحج غيبٌ، فكيف الوجه فيه،
والحال كذلك؟
أما نفقة اليوم لابد (3) منها، له ولأهله، فإنا نقدم هذا على ديون
الغرماء، يوم صرف المال إليهم، وأما الزائد على نفقة اليوم، فظاهر
الاحتمال.
وفيما نقله الصيدلاني، ما يدل على أنا لا نشترط أن يبقى له بلاغٌ، بعد
بذل الأجرة. وفي لفظه تردُّدٌ؛ فإنه قال: إنه (4) لا يشترط أن يكون له
نفقته، ونفقةُ أهله إلى إياب الأجير، فيحتمل أنه يريد التعرض للنفقة في
زمان تقدير انقلاب الأجير، ويحتمل أنه ليس يرعى النفقة أصلاً ما عدا
نفقةَ اليوم، [و] (5) المعتبر في الفطرة ما يفضل عن نفقة اليوم، [و]
(6) هذا هو المرعي في الكفارات المرتّبة، إن لم يشترط فيها تخليف رأس
المال، كما قدمناه، وليست الفطرة والكفارة مشابهةً لما نحن فيه؛ فإن
الفطرة تتأدى [و] (7) الكفارة كذلك، والمالُ فيما انتهينا إليه مبذولٌ،
والحج مرتقب (8)، ولكن وجوب البذل على الجملة، هو الذي يجر الإشكال [و]
(9) هو كوجوب إخراج الفطرة.
__________
(1) في الأصل، (ك): فقد.
(2) في الأصل، (ك): وأن.
(3) بدون الفاء في جواب (أما): على مذهب الكوفيين.
(4) ساقطة من (ط).
(5) مزيدة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): في.
(8) (ط): مترتب.
(9) مزيدة من (ط).
(4/135)
فانتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد النزول عن
[رأي] (1) ابن سريج- أنّ ما يحصِّل الغرضَ لا يعتبر فيه إلا نفقةُ
اليوم، وما [لا] (2) يحصل الغرض ناجزاً، ولكنه في أصل الشرع واجبٌ، فهو
على التردد الظاهر (3).
ثم إن ملنا إلى تخليف نفقةٍ، فهي إلى حصول الحج، ولا شك أنا لا نزيد
على هذا المنتهى.
وهذا في إحدى جهتي الاستنابة.
2434 - فأما بذل الطاعة، فالولدُ إذا بذل الطاعةَ لأبيه المعضوب، لزمه
استنابته؛ إذا كان ذا زادٍ وراحلة. وإن بذل الطاعة لأبيه على أن يمشي
حاجاً عنه، ولم يملك الراحلة، ففي وجوب الاستنابة، والحالة هذه- وجهان:
قدمنا نظيره في الأجير الماشي. وكان شيخي يرتب الخلاف في الابن على ما
تقدم في الأجير، ويجعل هذه الصورةَ أولى بأن لا تجب الاستنابةُ فيها؛
فإنه قد يعظم على الأب مشيُ ولدِه، ولا يعز عليه مشيُ الأجير.
ولو (4) أوجبنا الاستنابة، والابن ماشٍ، فهو فيه إذا كان يملك الزاد
(5)، فإن عوّل على كسبٍ في الطريق متيسر، فالخلاف قائم، مع ترتب، فإن
المكاسب قد تنحسم في الأسفار.
وإن لم يكن ذا مالٍ ولا كسوباً، وعوّل على السؤال، فالخلاف قائم، مع
الترتب.
وإن كان يحتاج إلى أن يركب مفازةً، لا ينفع في مثلها السؤال، ولا
الكسب، فلا
__________
(1) في الأصل، (ك): رأس مال ابن سريج. ثم نقول: المراد برأي ابن سُريج
أنه قال: يترك عليه رأس مال تجارته، الذي به قوام عيشه.
(2) مزيدة من (ط).
(3) يوجز الإمام هنا العبارة عن المسألة والخلاف فيها، فيقول: إن ما
يحقق الغرض ناجزاً كالفطرة والكفارة، فيعتبر فيه نففة اليوم، أما ما لا
يحصل الغرض ناجزاً، كالحج؛ فإنه يبذل الأجرة الآن، ولكن الحج يتحقق بعد
زمانِ، فهذا موضع التردّد فيما نُخلِّف بعد بذل الأجرة.
(4) في الأصل، (ك): وأجب.
(5) أي وجوب الاستنابة ماشياً، تكون عند ملكه للزاد.
(4/136)
خلاف أنه لا يجب عليه الاستنابة، والحالة
هذه؛ فإنه يحرم التغرير بالنفس على الابن، وإذا حرم عليه هذا، استحال
وجوب استنابته، والحالة هذه.
2435 - ولو بذل الابن للأب [المعضوب] (1) مالاً يستأجر به، ففي وجوب
قبول المال، وصرفه إلى تحصيل الحج وجهان مشهوران: أحدهما - يجب القبول،
كما يجب قبول الطاعة من الابن نفسه، إذا كان يباشر الحجَّ عن أبيه.
والثاني - لا يجب؛ فإن المنَة تثقل وتتجنب (2)، في الأموال، وطاعة
[البدن] (3) في حكم الخدمة، ولا يثقل على الأب استخدام الابن.
وكان شيخي يتردد في بذل الابن [ثمن الماء] (4) لأبيه، ويذكر من الخلاف
في وجوب القبول، ما قدمناه، ولا فرق كما قال بينهما.
ولو بذل الأجنبي للمعضوب مالاً يستأجر به، فلا خلاف أنه لا يلزمه
قبولُه، ولو بذل له الطاعةَ في الحج عنه بنفسه، ففي وجوب استنابته
وجهان مشهوران، لا يخفى توجيههما، كما لا يخفى الفصل في الترتيب بين
الأجنبي والولد.
وكان شيخي يقول: الأب إذا بذل الطاعة لولده، فهو كالأجنبي يبذل الطاعة
للمعضوب؛ فإن خدمة الأب تثقل على الابن، فأما إذا بذل [المالَ] (5)
لولده، ففيه ترددٌ. يجوز أن يكون (6 كبذل الأجنبي المال، ويجوز أن يكون
كبذل 6) الابن المالَ لأبيه، ولعل الأظهر هذا.
فهذا معاقد المذهب في الاستطاعة بالنفس، والاستنابة. وقد شذ عنها
نوعان: أحدهما أخرناه لترتيب المختصر (7)، والثاني نضبطه برسم فروع.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) في (ط) وتخفّ.
(3) في الأصل، (ك): البذل.
(4) في الأصل، (ك): ثم المال.
(5) زيادة من (ط).
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(7) المراد مختصر المزني، فقد وعد إمامنا بأنه " سيجري على ترتيب
المختصر جهده ".
(4/137)
فرع:
2436 - قد ذكرنا أن الاستنابة لا تصح إلاّ من معضوبٍ موصوف بزمانة، لا
يُرجى زوالُها، في غالب الظن، فلو استأجر والحالة هذه، ثم استمر العضبُ
حتى مات، وقع الحج موقعه.
ولو حج الأجير في قيامِ العضب، ثم اتفق زوالُ العضب -على ندورٍ-[و] (1)
الاستمكانُ من المباشرة، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنا نتبين أن
الحج غيرُ منصرفٍ إلى المستأجر. والثاني - أن الحج منصرفٌ إليه، على
(2) غالب الظن، في لزوم العَضْب. وشبه الأئمةُ القولين فيما ذكرناه،
بالقولين فيما لو رأى الرجل سواداً مقبلاً، حسبه عدواً، لا طاقة له به؛
فصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن الذي حسبه، لم يكن، ففي صحة الصلاة قولان.
فإن قيل: كيف وجهُ التشبيه، والعضب هاهنا متحَقَّقٌ، غيرُ مظنون؟ قلنا:
العضب المعتبر، هو الدائم إلى الموت، وصحةُ الحج بطريق الاستنابة، لا
تعتمد تنجّز العضب في الحال، وإنما يعتمد جواز الاستنابة غلبةَ الظن،
بدوام العضب.
فلو لم تكن الزمانة بحيث لا يُرجى زوالها، فقد ذكرنا أن جواز الاستنابة
لا يعتمد، [مثل] (3) هذه الزمانة.
فلو استأجر أجيراً، وهو على رجاءٍ ظاهرٍ من زوال الزمانة، فاستمرت
الزمانةُ إلى الموت، فقد ذكر الأئمة في ذلك قولين أيضاًً، وخرجوا
الاختلاف في الصورتين على أنا نعتبر الحال [أو] (4) نعتبر ما يُفضي
إليه الأمر في المآل.
2437 - وتمام الكلام في الفرع: أنا إذا حكمنا بأن الحج ينصرف إلى
المستأجِر، فلا شك أن الأجرة مستحَقّةٌ للأجير، وإن حكمنا بأن الحجة
غيرَ منصرفةٍ إلى المستأجِر، فقد ذكر شيخي عن شيخه القفال، أن من
أئمتنا من يقول: لا يقع الحج
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) " على " هنا بمعنى لام التعليل، وهو منصوصٌ عليه عند أهل اللغة.
والمعنى: ينصرف الحج إليه بسبب غلبة الظن في لزوم العضب، وعدم زواله.
(3) في الأصل، (ك): قبل.
(4) في الأصل، (ك): ونعتبر.
(4/138)
عن فرض المستأجِر، ولكنها تقع عنه تطوعاً.
وهذا بعيدٌ؛ فإن تطوع الحج لا يسبق فرضَه، غيرَ أن هذا القائل يجعل
العَضْب الناجزَ، بمثابة الرق، والعبدُ إذا حجَّ، ئم عَتَق، فما سبق من
الحج -في الرق- تطوّعٌ، [متقدمٌ] (1) على فرض الإسلام.
وهذا بعيدٌ، لا أصل له، فإن حكمنا بأن الحج يقع عن المستأجر تطوعاً،
فالأجير يستحق الأجرةَ، وإن قلنا: لا ينصرف الحج إلى المستأجر أصلاً،
فهل يستحق الأجير الأجرة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا
يستحقها؛ فإنه كان مستأجَراً على تحصيل الحج لمستأجِره، ثم تبين أنه لم
يحصل له.
والوجه الثاني - أنه يستحق الأجرةَ، لأنه عمل في الظاهر ما التمس منه،
ولم يقصر فيه.
والأصح استرداد الأجرة؛ من جهة أن الحجَّ وقع عن الأجير، ويبعد أن يقع
الحج له، ويستحق الأجرة على غيره، على مقابلة الحج الواقع عنه، وهو في
التقدير بمثابة ما لو قال: استأجرتك للحج عن نفسك، ولا فصل إلا العلم
والجهل، وجهاتُ الاستحقاق لا تختلف بالجهل، والعلم.
فإن قلنا: لا يستحق الأجرة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يستحقها، فقد
اختلف أصحابنا على ذلك، فقال بعضهنم: يستحق الأجرة المسماة.
وقال آخرون: يستحق أجرة المثل.
وينبني، على هذين الوجهين القولُ في أنا هل نتبين فساد الإجارة؟ فإن
أثبتنا المسمّى، فالاستئجار صحيح، وإن أثبتنا أجرةَ المثل، فقد قضينا
بتبيّنِ فساد الاستئجار.
وقال شيخي: إذا حكمنا بأن الحَجةَ تقع تطوعاً عن المستأجر، فلا يمتنع
(2) تخريج الخلاف في أجرة المثل، والمسمى؛ فإن الواقع ليس هو الذي وقع
الاستئجار عليه،
__________
(1) في الأصل، (ك): يتقدّم.
(2) (ط): يتسع.
(4/139)
غيرَ أن ثبوت المسمَّى في التفريع على هذا
الوجه أولى.
2438 - وألحق الأئمة بما نحن فيه صورةً من صور الإجارة، فقالوا: إذا صح
الاستئجار، وانعقد الحج عن المستأجر، ثم إن الأجير، كما (1) أحرم، بدا
له أن يصرفَ الحجَّ إلى نفسه، فظن أن ذلك ممكن، فإذا أنهى الحجَّ، فهل
يستحق الأجرة؛ فيه اختلاف مشهورٌ: من أصحابنا من قال: إنه لا (2) يستحق
الأجرة؛ نظراً إلى قصده في صرف الحج إلى نفسه.
وإذا ضممنا هذا إلى ما قدمناه، انتظم من المجموع أن من أئمتنا من اعتبر
في استحقاق الأجرة حصولَ الحج للمستأجر، وهؤلاء يقولون: إذا [تبينا]
(3) أن الحج غيرُ منصرف إليه، في صورة زوال العَضْب، فلا أجرة، وإذا
صرف الأجير الحج إلى نفسه بعد الإحرام، استحق الأجرة (4).
ومنهم من اعتبر قصد الأجير، وإقدامه على صورةِ ما التُمس منه، وهؤلاء
يقولون: إذا صرف الأجير الحج إلى نفسه، لم يستحق الأجرةَ، وإن لم ينصرف
إليه. وإذا زال العَضْب، وقلنا: لا ينصرف الحجُّ إلى المستأجر، فللأجير
أجرتُه؛ اعتباراً بقصده.
ومسائل، الإجارة وغوامضُها كثيرة. وإنما نذكر الآن ما يليق بغرضنا؛ فإن
باب الإجارة بمسائله بين أيدينا.
فرع:
2439 - الابن إذا بذل الطاعةَ لوالده، فقد ذكرنا أنه يجب عليه
استنابته، ولا استئجار؛ إذ لا أجرةَ، فلو رجع الابن عن طاعته، فهل له
ذلك؟ أم يلزمه الوفاء بما بذل من الطاعة، [وإتمام ما وعده] (5) ذكر
العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه الوفاء، وهو الأصح؛ إذ
لا عَقْد، ولا استئجار. والثاني - يلزم الوفاءُ،
__________
(1) أي: عندما أحرم.
(2) سقطت من (ط).
(3) في الأصل، (ك) " أثبتنا ". واعتمدنا مكانها (ط).
(4) لأن صرف الحج إلى نفسه بعد إحرامه عن المستأجر غير ممكن.
(5) في الأصل، (ك): وإتمامها.
(4/140)
وبذل الطاعة فيه بمثابة الضمان، والضمان
يُلزم الضامنَ الوفاء بقوله. والأصح الأولُ.
فرع:
2440 - المباشر للحج إذا لم يجد مالاً عتيداً يتخذه زاداً، ولكنه كان
كسوباً، وقد ادّخر لأهله ما يكفيهم، فهل يلزمه أن يخرج حاجّاً،
معوِّلاً على كسبه؟ قال العراقيون: إن كان السفر طويلاً، لم يلزم
التعويلُ على الكسب، وشرطُ وجوب الحج اعتبارُ الزاد؛ فإن الكسب قد
يتخلف. وينضم إليه أن مقاساةَ أحوال السفر، إذا انضمت إلى تعب الكسب،
عظمت المشقة.
وإن قصرت المسافة، فقد ذكرنا أن الواجب المشيُ على المقتدر عليه، على
التفصيل المقدّم. وهل نوجب الخروج، مع قصر المسافة، تعويلاً على الكسب؟
قالوا: إن كان كسبه في يومٍ يكفيه لأيامٍ، فعليه الخروج، وإن كان كسبه
في يومٍ لا يفضُل عن اليوم، فلا يلزمه الحج؛ فإنه في أيام الحج ينقطع
عن كسبه، فيتضرر به.
هذا ما ذكروه. ولا ذكر له في طريقتنا. وفيه احتمال على حالٍ؛ فإن
القدرة على الكسب في يوم الفطرة، لم تُجعل كحصول الصاع في الملك، ولا
يبعد أن يقال: الكسب وإن أمكن، فهو كالمشي، وقد ألزمناه في السفر
القصير، وإن كنا لا نلزمه في السفر الطويل.
فصل
2441 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيّما صبيّ حج، ولو عشرَ
حِجَج، فإذا بلغ، فعليه حَجة الإسلام، وأيما عبد حج، ولو عشر حجج، فإذا
عَتَق، فعليه حَجة الأسلام، وأيما أعرابي حج، ولو عشر حجج، فإذا هاجر
فعليه حَجَّة الإسلام " (1)، (2). قيل: هذا حين كانت الولايةُ منقطعةً،
بين المهاجر وغير
__________
(1) حديث: أيما صبي حج ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: ح 15081، وابن
خزيمة في صحيحه: 4/ 249 ح 3050. والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم:
1/ 481، والبيهقي: 4/ 325، مع اختلافِ اللفظ (ر. التلخيص: 2/ 421 ح
954).
(2) في هامش (ك) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: هذا الحديث بهذا اللفظ لم
أجده، وإنما روى الإمام الشافعي، والبخاري موقوفاً على ابن عباس: "
أيما مملوك حج به أهله، فمات قبل أن=
(4/141)
المهاجر، بالتوارث وغيره من الأحكام، فكانت
حَجة الأعرابي، الذي لم يهاجر، إذ ذاك نَفْلاً.
وقيل: أراد بالأعرابي الكافر، فأبان أن من وجد منه الحج، على صورته في
الكفر، فلا اعتداد به، وعبر عن الكافر بالأعرابي الذي لم يهاجر، لأنهم
إذ ذاك، كانوا إذا أسلموا، هاجروا.
ومقصود الفصل: أن الصبا، والرّقَّ [لا] (1) ينافيان صحةَ الحج، ولكنهما
ينافيان وجوبَه، وإجزاءه عن الواجب، لو وقع.
والفقير الذي لم نُثبته مستطيعاً، لو تكلف المشقة، وحج، وقع حجه عن فرض
(2) الإسلام.
فالفقر كالصبا والرق في منافاة وجوب الحج، وليس بمثابتهما في منافاة
إجزاء الحج.
وليس الحج فيما وصفناه كالجمعة؛ فالعبد والمريض المعذور مستويان، في
أنه لا يجب على واحدٍ منهما حضور الجامع، وإذا حضراه، وصلَّيَا أجزأت
الصلاةُ عنهما، عن فرض الوقت، ويفترقان في أن المريضَ إذا حضر
تَقَيَّد، ولزمه إقامة الجمعة؛ فإنّ عذره كان يَحُط عنه تكلّفَ الحضور،
وقد حضر، فكأنه ليس معذوراً الآن. وللعبد أن ينصرف بعد الحضور؛ فإن رقه
قائم. وهذا ظاهر.
__________
=يعتق، فقد قضى حجه، وإن عتق قبل أن يموت، فليحج، وأيما غلام حج به
أهله، فمات قبل أن يدرك، فقد قضت عنه حجته، وإن بلغ، فليحج "، لكن قد
رواه محمد بن المنهال الضرير عن يزيد بن زُرَيْع عن شعبة عن الأعمش عن
أبي ظبيان عن ابن عباسٍ مرفوعاً وزاد فيه، وأيما أعرابي حج، فمات قبل
أن يهاجر، أجزأت عنه، فإن هاجر، فعليه الحج.
قلت: وهذه الرواية غريبة جداً. وقد رواه بعدها أيضاً (كلمة غير مقروءة)
من حديث محمد بن كعب القُرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
والله أعلم ا. هـ بنصه إلا كلمة أو كلمتان.
وهذا الذي ذكره في الهامش انظره في الأم: 2/ 95، والسنن الكبرى: 5/
179.
(1) زيادة من (ط).
(2) (ط): فقر. (وهو سبق قلم).
(4/142)
2442 - ثم ذكر الشافعي أن حَجة الإسلام إذا
وقعت على شرطها، فهي للعمر، وقد تقدم هذا. وغرضه بالإعادة الردُّ على
أبي حنيفةَ في مسألةٍ، فمذهبنا أن من حج، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام،
لم يلزمه إعادةُ الحج. وقال أبو حنيفة (1) يلزمه إعادته، مصيراً إلى أن
الردة تُحبط ما سبق، والمسألة مشهورة.
فصل
قال الشافعي: " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن
فلانٍ ... إلى آخره " (2).
2443 - مذهبنا أن حَجةَ الإسلام في حق من يُتصور منه وقوعُها، مقدمةٌ
على سائر أنواع الحَج. والحج يقع ركناً، وقضاء واجباً، عن حج لم يكن
ركناً لو تم، ومنذوراً، وتطوعاً، والحجة الأولى مصروفةٌ إلى جهة الركن،
وفرضِ الإسلام، [و] (3) لا يجب تعيينُ النيةِ في ذلك، فلو تلبس بالحج
مطلقاً، من يصح منه حجةُ الإسلام، فمُطلَقُ حجه مصروفٌ (4) إلى ما عليه
من فرض الإسلام. وكذلك لو نوى الحجة المنذورةَ، أو حج القضاء، انصرف ما
جاء به إلى حجةِ فرض الإسلام.
والقضاء إنما يفرض في حق من كان عبداً، وشرع في الحج، وأفسده، ثم
عَتَق، فعليه حجةُ قضاءٍ، لما أفسده، وهذا القضاء لا يكون حجةَ
الإسلام؛ فإن القضاء يحكي الأداءَ، فكل أداءٍ لو تم، لم يتأدّ به فرضُ
الإسلام، فقضاؤه بمثابته.
ولو فرغ عن حجة الإسلام وعليه حجةٌ منذورة، فلتقع البداية بها، فلو نوى
التطوع، [لغا قصدُ التطوع و] (5) انصرف الحج إلى جهة النذر.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 261، رؤوس المسائل: 240 مسألة: 138، مختصر
اختلاف العلماء: 2/ 238 مسألة: 707.
(2) ر. المختصر: 2/ 42.
(3) زيادة من (ط).
(4) (ط) فتطلق حجةً مصروفةً.
(5) زيادة من (ط).
(4/143)
ولو كان عليه قضاءٌ، كما صورناه وحجةٌ
منذورة، فقد كان شيخي يقول: يجب تقديمُ القضاء؛ فإنه واجب شرعاً على
المنذور، واستمر على هذا في دروسه، ولم يتعرض لهذا الترتيب غيرُه. وفي
المسألة احتمالٌ ظاهر؛ فإن هذا القضاءَ فرعُ حجٍّ، لم يكن واجباً، كما
أن الإقدام (1) على النذر، لم يكن واجباً.
وبالجملة تعليلُ سقوط أثر التعيين في النية، عسرٌ (2) مشكلٌ في قاعدة
المذهب، ولكن الممكن فيه أن قصد التطوع لا يُفسد العقد، ووجوب تقديم حج
الإسلام ثابت.
2444 - فينتظم من ذلك صحةُ الحج، على الترتيب المستحق. وكان يمكن أن
نقضي بفساد النية، وإنما عِظم وقع الإشكال، لانضمام مشكلٍ إلى مشكلٍ:
أحدهما - ما ذكرناه من التعيين. والثاني - استحقاقُ الترتيب، وهذا عوض
من الأول (3)، سيما على أصلنا، في أن الحج على التراخي.
ثم في (4) مذهبنا أن المستأجَر على الحج، ينبغي أن يكون بريء الذمة، من
حجة الإسلام، فلو كان عليه فرضُ الإسلام، ينصرف حجُّه إلى فرض إسلامه،
وإن قصد مستأجِرَه، خلافاً لأبي حنيفة (5).
ومعتمد المذهب في ذلك الحديث الذي رواه الشافعي، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، لما سمع رجلاً يقول: " لبيك عن شُبرمة فقال له: أحججت عن
نفسك، فقال: لا. فقال: هذه عنك، ثم حُج عن شبرمة " (6) وهذا متعلَّق
بالغٌ في
__________
(1) (ط): الإحرام.
(2) (ط): غير.
(3) (ط): الأصل.
(4) (ط): ثم مذهبنا (بدون في).
(5) ر. المبسوط: 4/ 151، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 94 مسألة: 570، رؤوس
المسائل: 248 مسألة: 142، الاختيار: 1/ 171، حاشية ابن عابدين 2/ 241.
(6) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: لبيك
عن شبرمة ... " رواه الشافعي موقوفاً على ابن عباس، قال ابن الصلاح: "
بإسناد جيد ". ورواه مرفوعاً أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي
(ر. الأم: 2/ 105، أبو داود: المناسك، باب الرجل=
(4/144)
المسألة، وإذا ثبت مضمون الحديث، في الأجير
الصرورة (1)، أمكن بناءُ استحقاق الترتيب في حق الشخص على ذلك.
فنقول: كما يتعين على [الأجير] (2) تقديمُ فرض نفسه على ما استؤجر له،
فكذلك يتعين عليه في نفسه، أن يقدّم فرض إسلامه، على ما يتطوّع به؛
فيتسق [على] (3) ذلك استحقاقُ الترتيب، بناء على مسألة الأجير.
2445 - والأجير إذا صح استئجاره، وعيّن له المستأجر سنةً، فإذا انتهى
إلى الميقات، ونوى التطوعَ عن نفسه، فقد قال شيخي: ينصرف ما جاء به إلى
جهة الإجارة، فإن الحجةَ في هذه السنة مستحقةٌ عليه، والمستحق مقدمٌ في
وضع الحج، على المتطوّع به.
وأجمع أصحابنا على خلافه في هذا، فإن استحقاق الحج عليه ليس من حكم
وجوبٍ يؤول إلى الحج، وإنما يتقدم واجبُ الحج على تطوّعه إذا رجع
الوجوب إلى الحج، فإذا تطوّع الأجيرُ، فقد أساء، والوجه الحكمُ بوقوعِ
الحج تطوعاً عنه، ثم الأجرةُ مردودةٌ، والإجارة منفسخة، كما سيأتي شرح
أحكام الإجارة.
ولو استأجر الرجل صرورةً، لم يحج عن نفسه، وعين له السنة القابلة،
فالإجارةُ فاسدةٌ، لما ذكرناه. وإن ألزم الحجَّ ذمّتَه، ولم يعين
الإتيان به سنةً، فالإجارة صحيحةٌ، ثم وجه الوفاء بها أن يحج عن نفسه
أولاً، في سنته، ثم يحج عن مستأجِره.
...
__________
=يحج عن غيره، ح 1811، ابن ماجه: المناسك، باب الحج عن الميت، ح 2903،
الدارقطني: 2/ 267، البيهقي: 4/ 336، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش
الوسيط: 2/ 589).
(1) الصرورة: الرجل الذي لم يحج.
(2) ساقطة من الأصل، (ك).
(3) في الأصل، (ك): فعلى.
(4/145)
باب إمكان الحج وأنه
من رأس المال
قال الشافعي: " وإن استطاع الرجل، فأمكنه مسيرَ الناس ... إلى آخره "
(1).
2446 - إذا ثبتت الاستطاعة على الشرائط المقدمة، ودامت حتى انقضت سنة،
والمعنيّ بها انقضاءُ وقتٍ يسع المسير إلى الحرم، وإقامة الحج، فإذا
دامت الاستطاعة (2) في المدة التي وصفناها، استقر الحج في الذمة، ومعنى
استقراره أنه إذا مات، لزم الإحجاجُ عنه من رأس المال، كما سنذكره.
ولو ثبتت الاستطاعة في جهة المباشرة، أو جهة الاستنابة، ثم زالت قبل
مضي الزمن الذي يسع الحجَّ، فلا أثر لما كان، ولا يستقر الحج في الذمة،
وإذا مات، لم يكن الإحجاج عنه دَيْناً.
ولو تمكن من مباشرة الحج خُروجَ (3) الناس، فلم يخرج، فلما حجوا، مات
ذلك المتخلِّف، قبل انقضاء زمان الرجوع، فالحج مستقر في الذمة؛ فإنه لو
خرج، وحج، لكان يموت على هذا التقدير، ويغنيه موتُه عن تكلّف الرجوع؛
فقد جرى إذاً في عمره زمان إمكان الحج، على التصوير والتقدير (4) الذي
ذكرناه.
ولو بقي حياً في هذه الصورة، ولكن تلف ماله قبل زمان رجوعهم، حيث يشترط
في الاستطاعة نفقةُ الذهاب والإياب، فإذا مات على فقره هذا، فلا يكون
الحج مستقراً، مخرَجاً إخراجَ الديون؛ والسبب فيه أنا تبينا (5) عجزَه
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 42.
(2) (ط): الأسباب.
(3) (ط) وخرج.
(4) في الأصل، (ك): التقرير.
(5) (ط) أنا إذاً تبينا.
(4/146)
[بالأَخَرة] (1) عن أهبة الإياب، حيث نشترط
نفقة الإياب، كما نشترط نفقةَ الذهاب، ذكره الصيدلاني وهو حسن.
وفيه أدنى احتمال، من جهة أنه كان مالكاً في ابتداء السنة، لنفقة
الذهاب والإياب، ولو خرج، لأدَّى الحجَّ، فطريان جائحةٍ على نفقة إيابه
-والصورة هذه- ليست بمثابة ما لو لم يملك في الابتداء نفقةَ [الإياب]
(2). والظاهر ما ذكره الشيخ أبو بكر (3).
2447 - ومما نُلحقه بهذا الفصل أن قول الشافعي اختلَف في جواز
الاستئجار، على [حج] (4) التطوع. وسيأتي ذكر القولين، وتفريعهما، في
باب الاستئجار.
فلو مات -ولكن كان حج حجة الإسلام- فأراد وارثه أن يستأجر عنه من يحج
عنه تطوعاً، ففيه القولان.
ولو استمر عمرَه على انتفاء الاستطاعة، ولم يستقر الحجُّ في ذمته،
فأراد الوارث أن يُحِج أجيراً عنه، ففي جواز ذلك طريقان: أحدهما -
القطع بالجواز؛ فإنه لو قُدّر صحتُه، لكان حجةَ الإسلام. والثاني -
يخرج جواز الإحجاج عنه على القولين المذكورين في حج التطوع. ولا فرق
(5) بين حج التطوع والحج [الذي] (6) يفرض (7) غير مستقر في الذمة، فإن
كلَّ واحد منهما لو قدرت الوصية به، فهو من الثلث؛ فإنهما مستويان في
[انتفاء] (8) الدَّيْنية (9) عنهما.
ولو شرع الرجل في حج التطوع، وأفسده، ثم قضاه، فلقضائه من الحكم ما
لأدائه.
__________
(1) في الأصل، (ك): فالأجرة. والأَخَرَة بفتحتين: أي أخيراً.
(2) في الأصل، (ك): ابتداء.
(3) أبو بكر هنا= الصيدلاني.
(4) مزيدة من (ط).
(5) في (ط): يفرق.
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل: يعرض. و (ك): بغرضٍ.
(8) في الأصل، (ك): استواء.
(9) في (ط) الذنبية. والدّينية: أي عدم استقرارهما في الذمة ديناً.
(4/147)
ولو تكلف غيرُ المستطيع وحضر المشاهدَ،
وشرع في الحج، فأفسده، فقضاؤه يقع عن فرض الإسلام؛ فإن الأداء لو تم،
لكان فرضَ الإسلام.
فليتأمل الناظرُ المنازلَ، في التطوع، وما لم يستقر في الذمة، مما لو
وقع، لكان فرضاً.
فصل
قال: "ولو كان يُجَن ويُفيق ... إلى آخره" (1).
2448 - الجنون ينافي توجّه الخطاب بالحج، فإن الاستنابةَ وإن كانت
ممكنةً في الحج، فهو عبَادةٌ بدنية، والغرض منه التعبد بأدائه، أو
توجيه الخطاب عنه (2) بالاستنابة فيه، فإذا لم يكن المجنون ممن يؤدي
بنفسه، ولم يتأت توجّه الخطاب عنه بالاستنابة، فيسقط فرض الحج عنه-
بخلاف الزكاة؛ فإن الغرض الأظهر منها الإرفاق.
فلو كان الرجل يجن ويُفيق، فأفاق وامتدت إفاقته مدةً تسعُ الحجَّ، فقد
استقر الحج في ذمته، وقد مضى استقرار الحج.
ولو لم تبلغ مدةُ إفاقته مدةً تسع الحجَّ، فليس لوليه أن يحج به من
ماله، فلو فعل، فالنفقة الزائدة لأجل السفر مضمونةٌ على الوليّ، ولو
خرج الوليّ به، وكان يُجن أياماً، ويُفيق أياماًً، فاتفق أنه أفاق في
أيام الحج، وتم منه الحج على الصحة، فما بذله الوليّ من ماله محسوبٌ،
غيرُ مضمون؛ فإنه تأدى بسبب بذله فرضُ الإسلام. وإنما يجب الضمان، إذا
لم يكن الحج الحاصلُ واقعاً عن فرض الإسلام.
2449 - ومما يتعلق بما نحن فيه، أن المبذر محجورٌ عليه، في ماله،
كالمجنون، والصبي، ولكن ليس لولي الصبي والمجنون بذلُ مالهما، في تحصيل
الحج لهما، ووليّ المبذّر يبذل مالَه ليحج، ويخرج معه بنفسه، ويُنفق
عليه
__________
(1) ر. الأم: 2/ 94. ولم أصل إليها في المختصر.
(2) ساقطة من (ط).
(4/148)
بالمعروف، والاقتصاد، أو يُخرج معه من
يراقبه وينفق عليه، فإن [نفس] (1) التبذير لا ينافي وجوبَ الحج،
ووقوعَه موقع الاعتداد إذا صح.
فصل
قال: " فإن كان عامَ جدب، أو عطش ... إلى آخره " (2).
2450 - إذا كان الطعام، والعلف، والماء، موجوداً، في الطريق، وكانت
البُلْغةُ (3) وافيةً، فالاستطاعة حاصلةٌ، ولا فرق بين أن تكون الأسعار
راخيةً، أو غاليةً، إذا كان في المال وفاءٌ.
وقد ذكرنا أن الماء إذا كان يعرض على البيع بثمن غالٍ بالإضافة إلى
القُرى ومحال الريف، ولكن كان الثمن في ذلك المكان والزمان، لائقاً
بالماء، فيجب ابتياعه للطهارة، وإنما يسقط وجوبُ [ابتياعه] (4)، إذا
كان لا يُباع إلا بغبن، [بأن كان] (5) الماء في ذلك المكان يساوي
مقداراً، وكان صاحبه يطلب في ثمنه أكثر منه، فلا يجب ابتياعه.
ونظير هذا من الحج ما يُستأدى من الحجيج في المراصد (6) [بباطل] (7)،
فإذا كان لا يتأتى دفعُه، ولا يَجد المرءُ مسلكاً، لا راصد عليه، فلا
يجب عليه الحج، وإن قلّ قدرُ ذلك المطلوب، كما ذكرناه في الغبن، في ثمن
الماء.
وحاصل المقصود أن المؤن، وإن ثقلت بغلاء الكراء، والأسعار، لم يسقط
__________
(1) في الأصل، (ك) نقص، (ط): نقض. بالضاد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية
للسياق.
(2) ر. المختصر: 2/ 43.
(3) البُلغة: ما يكفي لسد الحاجة، ولا يفضل عنها.
(4) في الأصل، (ك.): إيقاعه.
(5) في الأصل، (ك): فإن الماء.
(6) الرَّصَد هو الذي يقعد على الطريق، ينتظر الناس، ليأخذ شيئاً من
أموالهم ظلماً وعدواناً.
والمراصد جمع مرصد، مكان الرصَد. (مصباح).
(7) في الأصل، (ك): باطل.
(4/149)
وجوب الحج، إذا كان في المال وفاء بها.
وإذا كان يُطلب مالٌ بغير حق، فيسقط وجوب الحج.
2451 - ولو كان يحتاج المسافر إلى من يُبَذْرِقُه (1)، وإذا استأجره،
أمن الغوائل، في غالب الظن، فهل يجب الحج، والحالة هذه؟ اختلف أئمتنا
في المسألة، فقال قائلون: يجب، وهو المختار، فإن بذل الأجرة بذلُ مالٍ
بحق والمبذرِقُ أهبةٌ، من الأهب، كالدابة، وغيرها.
وقال قائلون: لا يجب ذلك، فإن الاحتياج إليه سببُه خوفُ الطرق، وخروجها
عن الاعتدال. وقد ثبت في وضع الشرع، سقوط الحج عند خوف الطارقين، في
غالب الأمر، ولو أوجبنا استئجار مبذرِق، لزم أن نوجب استئجار عسكرٍ،
عند وفاء المال، وعِظَم الغائلة. وهذا بعيدٌ عما فهمه الأولون، من
اشتراط أمن الطريق. ثم ليس الأمن الذي نذكره قطعاً (2)، " فالمسافر
ومتاعه على قَلَت (3) إلا ما وقى الله "، وإنما الحكم على غالب الظن،
والنفس لا تثق بالخلاص عن الحوادث.
فالذي يجب التفطن له، أنا لا نشترط في السفر [الأمن] (4) الذي يغلب في
الحضر، فإن ذلك إنما يحصل لو صار السفر في حكم الحضر، بأن تصير الطرق
آهلة، [و] (5) لا سبيل إلى شرط ذلك، فالأمن في كل مكانٍ، على حسب ما
يليق به.
__________
(1) يبذرقه: يحرسه. قيل: معرّبة، وقيل: مولّدة. وقيل بالذال، وقيل
بالمهملة، وقيل: بهما جميعاً. (المعجم والمصباح).
(2) أي لا قطع، ولا يقين في أمن المسافر.
(3) قَلَت: هلاك. (النهاية في غريب الحديث).
ومما يذكر أن إمام الحرمين لم يروه هنا حديثاً، كما صنع في البرهان.
وهو ليس بحديث كما قاله الجوهري في الصحاح، وكما قاله أيضاً النووي في
تهذيب الأسماء واللغات، حيث قال: إنه من كلام بعض السلف، قيل: إنه عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن السكيت والجوهري وابن منظور
أنه لأعرابي (ا. هـ بتصرف) وانظر كشف الخفا ح 781، وانظر ما قاله
الحافظ في التلخيص: 3/ 211 ح 1458.
(4) زيادة من (ط).
(5) الأصل، (ك): فلا.
(4/150)
فصل
قال: " ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوبَ البحر ... إلى آخره " (1).
2452 - اختلف نص الشافعي في وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فقال هاهنا:
ولا يبين لي أن أوجبه، وقال في موضع آخر: لا أوجبه إلا أن يكون أكثر
عيشِه في البحر، [و] (2) عندي أنه نصَّ في بعض المواضع على وجوب ركوب
البحر، إذا كان يعتاد ركوبَه.
فقال بعض أصحابنا: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب ركوبه؛ فإنه
مهلكة والخارج منه يُعدّ ناجياً، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {دَعَوُا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ
إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
والقول الثاني: إنه يجب؛ فإنه مطروق العقلاء، ويُبعدُ الآفةَ عن سفينة
صحيحة شِحْنتُها (3) على قَدْر (4)، وإجراؤها في وقت متَخيَّر، فلا
يبقى إلا مهَابةُ النفوس، فلا تعويل عليها.
ثم القولان فيما يعتاد ركوبه، ولا يُنسب صاحبُه إلى اقتحام العَطَب.
فإن كان البحر بحيث لا يركبه إلا هجّام، مغرِّر بنفسه، فلا يجب ركوبُه،
بل قد نقول: لا يحل ركوبُه. وكذلك إن اغتلم (5) بحرٌ، يُعتاد ركوبه في
بعض الأوقات، فالكلام في ذلك الوقت، كالكلام في البحر المغرِق.
ومن أصحابنا من [نزل] (6) المسألةَ على جرأة الراكب، واستشعاره. وفي نص
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 43.
(2) مزيدة من (ط).
(3) الشِّحنة: ما تُملأ به السفينة. وشحن يشحن من باب تعب. (معجم).
(4) قَدْر بفتح وسكون: المقدار المساوي من غير زيادة، ولا نقصان.
(معجم).
(5) اغتلم البحر: هاج واضطربت أمواجه. (معجم).
(6) الأصل، (ك): ترك.
(4/151)
الشافعي إشعارٌ به، وسبب التنزيل على [هذا]
(1) أن الاستشعار إذا عظم، ظهر أثره، وعظم ضرره، وقد يخلع قلب
المستشعر. وإذا وقع التنزيل على ذلك، فمنهم من قال: [المستشعر لا يلزمه
الركوب، وفي غير المستشعر قولان، ومنهم من قال:] (2) غير المستشعر
يركب، وفي المستشعر قولان.
ومنهم من نزل النصين على الحالين، على قطعٍ، من غير ترديد قول، وقال:
المستشعر لا يلزمه الركوب، وغيره يركب. وكل ذلك والبحر مركوب لا يعد
مُغْرِقاً (3).
وقال بعض أصحابنا: لا يجب ركوبُ البحر قط، وما ذكره الشافعي غيرُ مصرح
به، ولا يمتنع حمله على ما إذا [ركب] (4) البحر وفاقاً، وقرب من الشط
الذي يتاخم (5) مكة، فيجب عليه التمادي، ولا محيص، وإلى المقصود أقرب.
2453 - وإذا لم نوجب ركوبَ [البحر] (6) وقد توسطه المرء، واستوى في ظنه
ما بين يديه، وما خلفه، فهل يجب التمادي في صوب مكة؟ فعلى وجهين،
كالوجهين في المحصر إذا أحاط به العدوّ من الجوانب. وإن قلّ ما في صوب
مكة، وكثر البحر في غيره من الجوانب، وجب التمادي. وإن كثر ما في صوب
مكة، جاز الرجوع، وإنما الوجهان [في] (7) ظن الاستواء، وهو كالوجهين في
المحصر يحيط به العدوّ من جوانبه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أنه لا يجب ركوبُ البحر، وصورة الوجهين في
الاستواء مخصوصةٌ بما إذا كان يجد في المنصَرَف طريقاً غير البحر، أما
إذا كان يضطر في الانصراف إلى ركوب البحر، فالانصراف من شط (8) البحر
أقربُ من قطع البحر إلى
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(3) ط (مغرقة).
(4) ساقط من الأصل.
(5) تاخَم الموضع الموضعَ: جاوره، ولاصقه. (المعجم).
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(7) ساقطة من الأصل، (ك).
(8) واضح أن المراد جانب البحر القريب من الشط، لا اليابس نفسه.
(4/152)
مكة، مع الاضطرار إلى قطع كله في الانصراف.
ثم قال الأئمة: النسوة أولى بأن لا يجب عليهن ركوبُ البحر، لأنهن
عوراتٌ، والبحر هتّاك للأستار؛ فإن جعلنا المسألة على قولين في الرجال،
ففي النسوة قولان مرتبان، والفرق ما ذكرناه.
وإن لم نوجب ركوبَ البحر، ولم يكن البحر معروفاً بالإهلاك، فلا يُنكر
الأمر بركوبه استحباباً، ولا نرى الأمر ينتهي إلى دفع ذلك.
ولو كان مُخْطِراً (1)، فإن غلب [على] (2) الظن الهلاكُ، حرم الركوب،
وفاقاً، وتأسياً بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وإن استوى الأمران، ولم يقض العقل بتغليب الهلاك، أو السلامة، فقد كان
شيخي يقطع بتحريم الركوب أيضاًً. وفيه نظر. وللأصحاب مرامز إلى نفي
التحريم في مثل ذلك. أما الكراهيةُ فكائنةٌ، لا شك فيها.
واضطرب الأئمة في ركوب البحر المُخطِر، والمقصودُ الجهاد، فمنهم من
استمر على التحريم؛ فإن الخطر المحتمل في الجهاد ما يَلقى الغزاة من
جهة القتال.
وقال قائلون: لا يحرم الركوب في جهة الغزو؛ فإن التواصل (3) إلى
المقصود يناسبه، فإذا كان المقصود على الغرر، لم يبعد احتماله في
التسبب.
فصل
2454 - والمرأة كالرجل في التزام الحج عند ثبوت الاستطاعة، وما ذكرناه
في الرجل من الزاد، والراحلة، وغيرهما، فجملته معتبرةٌ في المرأة،
وفيها مزيدٌ؛ فإنها عورةٌ. فإن ساعدها زوج [أو ذو رحم، فذاك، وكذلك
المحرم، وإن لم يكن ذا رحم، كالأخ من الرضاع.
__________
(1) مُخْطِراً: من أخطره المرض: جعله بين السلامة والهلاك. ويقال بادية
مُخطرة. (معجم).
(2) ساقطة من الأصل، (ك).
(3) (ط): التوصل.
(4/153)
وإن لم تجد محرماً، ولم يساعدها زوج] (1)،
واتفق جمعٌ من النسوة الثقات، يصطحبن، فذلك يبعدهن من تقدير الطمع
فيهن، فمن أصحابنا من أوجب عليهن الخروجَ في رفقةٍ مأمونة. ومنهم من لم
يوجب ذلك، حتى يكون مع واحدةٍ فيهن محرم. وهذا اختيار القفال، فإنهن قد
ينوبهن أمرٌ، فيستعنّ بالتي لها محرم، ويستظهرن به.
ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم.
وما اختاره القفال حسن بالغ، يعضده حكم الخلوة؛ فإنه كما يحرم على
الرجل أن يخلو بامرأة واحدةٍ، فكذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا
رجل بنسوة، كان محرمَ واحدةٍ منهن، فلا بأس.
وكذلك إذا خلت امرأة برجالٍ، واحدهم محرمٌ لها، جاز. ولو خلا عشرون
رجلاً
بعشرين امرأةٍ، وإحداهن محرم لأحدهم، أو زوجةٌ، كفى ذلك.
وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء منفردات، فيصلي
بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له.
2455 - ثم من لطيف القول في هذا الفصل: أنها إذا عدِمت محرماً، أو
زوجاً، وباقي الصفات في الاستطاعة ثابتةٌ، فالقول في المنع من الخروج
ما ذكرناه، ويبتني عليه أَنْ لا استطاعةَ قطعاً، ولو تمادى الأمر كذلك
إلى الموت، فلا نقضي باستقرار الحج في ذمتها. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة
(2): يستقر الحج، وإن كان يمتنع الخروجُ. وهذا متناقضٌ لا أصل له.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(2) يختلف الأحناف هل المحرم أو الزوج شرط وجوب أم شرط أداء؟ ومقتضى
كونه شرط وجوب أن الحج لا يستقر في ذمتها، ومقتضى كونه شرط أداء أن
الحج يستقر في ذمتها. والقائل من الأحناف أنه شرط أداء هو القاضي أبو
خازم، أما الإمام أبو حنيفة فيقول: إنه شرط وجوب.
ولا يفوتنا التنبيه إلى دقة عبارة إمامنا حيث نسب القول باستقرار الحج
في ذمة المرأة إلى بعض أصحاب أبي حنيفة وليس إلى أبي حنيفة، ولا إلى كل
أصحابه (ر. البدائع: 2/ 123، 124، البحر الرائق: 2/ 339، 340، وحاشية
ابن عابدين: 2/ 339، تبيين الحقائق: 2/ 4، 6، فتح القدير: 2/ 329،
332).
(4/154)
وإذا تمكنت من استئجار محرم، فالقول في
هذا، كالقول في استئجار المُبَذْرِق، والأظهر هاهنا وجوبُ الاستئجار؛
فإن زيادة المؤنة في حقها بمثابة زيادة المؤنة، في حق من يحتاج إلى
المحمل، ولا يكتفي بالراحلة. ومن لم يوجب، قال: استئجارُ المحرم ليس من
المؤن الغالبة، التي تقع، والنادر لا يلتزَم. والأصح الإلتزام.
فصل
قال الشافعي: " فإن مات قضي عنه ... إلى آخره " (1).
2456 - من استطاع في حياته، واستقر الحج في ذمته ومات، كان الحج ديناً
مأخوذاً من رأس التركة مقدماً، على الوصايا، وحقوق الورثة.
هذا هو المنصوص عليه، في معظم الكتب، وهو ظاهرُ المذهب، وذكر هذا
القولَ في الحج الكبير (2)، ثم قال (3): قد قيل ذلك، وقيل: إن لم يوصِ
به، فلا يُحَج عنه، وإن أوصى به، حُجّ من الثلث من ميقاته.
فحصل قولان: أصحهما - الأول، والثاني مذهب أبي حنيفة (4)، وهو جارٍ في
جملة الحقوق التي تثبت لله تعالى.
وفي القول الموافق لمذهب أبي حنيفةَ إشكالُ ظاهر، وهو أن معتمد ذلك
القول أن العباداتِ مفتقرةٌ إلى النية، ولا يتطرق إليها استقلالُ الغير
بالأداء، من غير توكيلٍ ممن عليه؛ [فإن] (5) من أدى عن غيره مقدار
زكاته من غير إذنه، لم يعتد بما أخرجه،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 42.
(2) الحج الكبير: المراد به كتاب الحج من الأم، وسماه الكبير في مقابلة
(كتاب الحج) من
مختصر المزني.
(3) القائل هو الشافعي رضي الله عنه. (ر. الأم: 2/ 107 باب من أين نفقة
من مات ولم يحج؟).
(4) ر. مختصر الطحاوي: 59، البدائع: 2/ 221، 222، رؤوس المسائل: 247
مسألة 141، حاشية ابن عابدين: 2/ 242، 243 مختصر اختلاف العلماء: 2/ 91
مسألة: 569.
(5) ساقطة من الأصل، (ك).
(4/155)
وليس كما لو أدى عنه دَيْنَه، وإذا مات،
ولم يوصِ بما وجب لله تعالى قُربةً، فلا يقع المخرَج متعلَّقاً بإذنه،
وتختل النيةُ بذلك، وهذا على بعده كلامٌ على [حال] (1).
ولكن القياس يقتضي أن يقال: إذا مات، ولم يوصِ، فهو مرتهَنٌ بما وجب
عليه، ولكن تعذّر طريقُ التأدية، فبقي الوبال على المتوفَّى، والله
حسيبه، فإذا أوصى، فقد زال هذا المعنى، واقتضى القياسُ إذا تيسر طريقُ
الأداء أن يكون دَيْناً من رأس المال. هذا هو القياس، ولكن لم يذكره
أحد من الأَصحاب، تصريحاً، ولا رمزاً، وإنما نقلوا ذلك القول على وفق
مذهب أبي حنيفة، في الحَسْب من الثلث عند الوصية.
ولا عود الآن إلى هذا القول.
والتفريع على الأصح الأظهر.
2457 - فإذا مات، واستقر الحج عليه، فالقدر المستحق، المحكوم بكونه
دَيْناً حَجَّةٌ من الميقات، المنسوب إلى صوب جهته، وذلك يمكن تحصيله
بمبلغٍ قريب، ولا يجب إحجاج أجير قاصدٍ عنه من بلده (2)، وذلك لو طُلِب
قام بمالٍ له قدرٌ، وعلةُ المذهب أن الغرض تحصيلُ الحج، ومبتدأ الحج من
الإهلال، وهو من الميقات، والرجل لو حج بنفسه في حياته، لاحتاج إلى
[مؤنةٍ] (3) لسفره من بلده، ولكن لا تتأتى المباشرةُ إلا كذلك،
والمقصود ما ينشئه من ميقاته، ويتأتى تحصيل الحج بطريق الاستئجار من
الميقات، ثم اعتبر ميقاتُ صوبه، والغرضُ يختلف بذلك، فإن المواقيت
متباينةٌ، كما سيأتي وصفها في بابٍ.
[ولا خلاف] (4) أنا لا نعتبر الميقات بعينه، وإنما نعتبر مسافةَ ميقات
صوبه، وهذا من باب المواقيت.
__________
(1) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): كلامٌ عليٌّ.
(2) أي أن الأجرة التي يحكم بكونها ديناً، تكون عن المسافة من الميقات
إلى المشاعر، ولا تعتبر من البلد، وإن كان الأجير قاصداً أي متوسطاً في
الأجرة غير مغالٍ فيها.
(3) في الأصل، (ك): قوته.
(4) في الأصل: فلا اختلاف.
(4/156)
ثم سبيلُ تحصيل حجة ميقاتية (1) أن يلتمس
من المارّين إلى مكة، أن يستأجروا ثَمَّ أجيراً من الميقات، فإن لم يجد
من يتطوّع بذلك، فاستئجار بعض الواصلين على الاستئجار تَقرُب أجرتُه
(2).
2458 - ولو أوصى بأن يستأجر عنه من الميقات أجيراً من ثلثه، والتفريع
على الأصح، ففائدة إضافة الحجة التي هي دينٌ إلى الثلث مزاحمةُ الوصايا
بها، فإن كانت تحصل مع (3) المضاربة، فذاك وإلا فرضنا المضاربةَ،
ونظرنا إلى حصة الحج، ثم أكملنا الحَجة الميقاتية من رأس المال،
[ونُحْوَج] (4) في مثل ذلك إلى الحساب الدوري (5)، وكل صوره يشترك فيها
حسابُ رأس المال والثلث، ومن ضرورة الأخذ من رأس المال تقليلُ الثلث
بعده، فالغرض الحسابي يصفو بالدور، ولعلنا نوفَّق [لجمع] (6) ضوابط
حسابية [سيّالة] (7)، وجيزة القدر -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا
(8).
ولو أوصى بأن يُحج عنه من ميقاته، حجةُ الإسلام، ولم يتعرض للثلث،
والتفريع على القول الأظهر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا
معنى لذكره الأمر بالإحجاج عنه إلا التذكيرُ والاستحثاث على إبراء
ذمته. والثاني - أن ذلك يحمل
__________
(1) (ط): ميقاته.
(2) المعنى أن دَفْعَ أجرة لبعض من يصل إلى الميقات كي يستأجر له
أجيراً يبدأ حجه من الميقات أمر سهل قريب، أي مثل هذه الأجرة تكون
زهيدة ميسورة.
(3) ط: من.
(4) في النسخ الثلاث: " نخرج " والمثبت تقدير منا؛ رعايةً للسياق.
(5) الدوري: نسبة إلى الدور، وهو توقف كلٍّ من شيئين على الآخر. وهنا
يتوقف معرفة ما تتم به، الحجة على معرفة ثلث الباقي، لتعرف حصة الواجب
منه، ويتوقف معرفة ثلث الباقي على معرفة ما تتم به الحجة، ولاستخراجه
طرق، منها الجبر والمقابلة. (راجع شرحاً وتمثيلاً لذلك: حاشية قليوبي
وعميرة: 3/ 174).
(6) في الأصل، (ك) بجميع.
(7) في الأصل، (ك): مسئلة.
(8) وفى الإمام بما وعد، ووفِّق كما ترجَّى، فقد أفاض وأفاد في شرح
النماذج الحسابية في كتاب الوصايا مما استغرق مئات الصفحات، وهي بين
أيدينا.
(4/157)
على مزاحمة الوصايا، ليُفيد لفظُه وذكره
(1)، وهذا بعيد.
والوجهان يجريان في الأمر بقضاء ديون الآدميين، وكل ما [يخرج] (2) من
رأس التركة من غير ذكر (3).
ولست أدري أيخصون هذا الخلافَ بذكر الوصية في لفظها، أم يطردونه في
الأمر المطلق؟ ولو خصصوه بذكر الوصية، لكان أقرب، مع اشتهار لفظ الوصية
بالتبرعات المنحصرة في الثلث.
وإن قال: يحج عنّي من بلدي، ولم يقل من الثلث، والتفريع على أن مجرد
الوصية من غير إضافةٍ إلى الثلث في الحجة الميقاتية لا يتضمن مزاحمةَ
الوصايا، فإذا قال: أحجوا عني من (4) بلدي، فقدرُ الحج من الميقات
مأخوذٌ من رأس المال، كما لو لم تكن وصية، ثم تقعُ (5) المزاحمة بما
بين البلد والميقات للوصايا، فإن وفت الحصةُ، فذاك، وإن لم تف، فما
يحصل يضم إلى ما أخذناه من رأس المال، ويُحج عنه، من حيث بلغ.
وقد ذكرنا قولين في الوصية بحَجّة التطوع، ونحن نفرّع على تصحيحها. فلا
شك أنها محسوبةٌ من الثلث.
2459 - ولو نذر حجةً في مرض موته، أو نذر صدقة، أو أقدم على ما يوجب
كفارة، فهذه الحقوق محسوبةٌ من الثلث [وفاقاً] (6)؛ فإن أسبابها جرت في
المرض، ولو جرى النذرُ في الصحة، أو جرت أسبابُ الكفارات في الصحة (7)،
ففي محل هذه الحقوق وجهان: أحدهما - أنها من الثلث. والثاني - أنها من
رأس المال.
__________
(1) أي حتى لا يكون كلامه لغواً.
(2) في الأصل، (ك): يجري.
(3) (ط): عذر.
(4) مكانها بياض في (ط).
(5) ساقطة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) هنا اضطراب وخرمٌ في (ك) فعبارتها هكذا: " في صحتهم، ولا يطلبون
بها، ما بقوا، فإذا ماتوا سقطت حقوق الورثة، وليست كتبرعات البتات ".
(4/158)
[فمن قال، إنها من رأس المال] (1)، فوجه
ذلك أنها استقرت حقوقاً في حال كمال التصرف، ومن قال: إنها من الثلث،
فوجه قوله أنها لو احتسبت من رأس المال، لاتخذ الناس ذلك ذريعةً في
إسقاط حقوق الورثة (2 بأن يأتوا بأسباب الكفارات في صحتهم، ولا يطالبون
بها ما بقوا، فإذا ماتوا، سقطت حقوق الورثة 2) وليست كتبرعات البتات في
الصحة؛ فإنه لا تهمةَ فيها، مع امتداد الحياة والصحة، وإذا بُتَّت (3)
في مرضه، أو صحته، وقلنا بالاحتساب من الثلث، فلا حاجة إلى الوصية بها،
تفريعاً على القول الأظهر، في أن الوصيةَ لا حاجة إليها، في أمثال هذه
الحقوق؛ فإن جريان النذور بمثابةِ الوصية، وهذا لائحٌ.
2460 - ومما ذكره الأئمة في آخر هذا [الباب] (4) أن الأصحاب اختلفوا في
أن الوصية بحج التطوع، والوصيةَ بالعتق هل يقدمان على ما سواهما من
الوصايا؟ فيهما قولان مشهوران.
ثم قال صاحب التقريب: إذا قدمنا الحجَّ والعتق على سائر الوصايا، ففي
الوصية بالحج، مع العتق المحسوب من الثلث قولان: أحدهما - (5 العتق
مقدم على الحج، والثاني 5) الحج مقدّم على العتق. هكذا حكاه.
ويتجه الحكم بأستوائهما، لتقابلهما باختصاص كل واحد منهما بمزية في
الفقه.
والأصح أنا لا نقدم الوصيةَ بالعتق، والحج، على سائر الوصايا، ولا حاصل
للتقديم، مع الانحصار في الثلث، إلا أن يوصى بتقديم (6 بعضها على بعض
6).
فعلى هذا إذا أوصى بحجة التطوع، وحكمنا بمزاحمتها الوصايا، فإن كانت
حصة
__________
(1) ساقط من الأصل. وهو ضمن الخرم المشار إليه من (ك).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) ط، (ك): ثبت.
(4) الأصل، (ك): الكتاب.
(5) ساقط ما بين القوسين من (ط).
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4/159)
حجة التطوع وافيةً بحجةٍ من الميقات، فذاك
وإن لم (1) يصب الحج ما يكفي لحجٍّ من الميقات، فتبطل وصية الحج؛ فإنه
لا يتبعض، بخلاف الوصية بالعتق، فإن تحصيل بعضه ممكن، على ما سنذكره في
الوصايا والعتق. إن شاء الله تعالى.
...
__________
(1) ساقطة من (ط).
(4/160)
باب تأخير الحج
قال الشافعي: " أنزلت فريضةُ الحج بعد الهجرة ... إلى آخره " (1).
2461 - مذهب الشافعي أن وجوب الحج ليس على الفور، وليس على المستطيع
البدارُ إليه وعمره فسحته، ومدته؛ فإن الحج عبادةُ العمر، فكان موقعه
من العمر، كموقع صلاة الظهر، من زوال الشمس إلى مصير كل شيء مثله. ولو
استشعر من نفسه العَضْب، فمن أصحابنا من أوجب عليه البدارَ لهذا
الاستشعار، ومنهم من لم يوجبه.
2462 - ثم إذا استطاع، فأخر، فمات، فالمذهب أنه يموت عاصياً؛ فإنا لو
لم نعصِّه، لأخرجنا الحجَّ عن حقيقة الوجوب.
وأبعد بعض الفقهاء فقال: لا يموت عاصياً، لأنه أخر، والتأخير مسوَّغ
له، وإنما يعصي، من فعل ما ليس له فعله.
وهذا قولٌ عريٌّ عن الإحاطة بأصول الشريعة؛ فإن التأخير إنما يسوغ على
خطرٍ (2) يلابسه، في عاقبة أمره، وقد ذكرتُ في فن الأصول (3) في ذلك
سرّاً، فقلت: وجه وجوب الحج أن مؤخره متعرض للغرر، وهو مما يؤلم القلب،
ولولا هذا، لما تحقق الوجوب. وظهر اختلاف أئمتنا في أن من أخر الصلاة
[المؤقتة] (4) إلى وسط الوقت، فاخترمته المنية، فهل نقضي بأنه يلقى
الله عاصياً؟ فقال قائلون: إنه يعصي كما يعصي المستطيع إذا مات، ولم
يحج، وقال آخرون: لا يعصي؛ فإن التأخير،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 44.
(2) (ك): على غير خطر.
(3) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/ 168 - 178 فقرة 143 - 161.
(4) مزيدة من (ط).
(4/161)
كان مربوطاً بوقتٍ مضبوطٍ، ومنتهى العمر لا
ضبط له.
وهذا وإن ارتضاه طوائفُ من أئمة الفقه، فهو غيرُ صحيحٍ على قاعدة
الأصول، ويلزم القائلَ به أن يُخرج الصلاةَ عن حقيقةِ الوجوب في أول
الوقت، فالوقت للصلاة، كالعمر للحج، فإذاً ثبت أن من أخر الحج حتى مات،
يلقى الله عاصياً. وما حكيناه من نفي التعصية غلطٌ غير معتد به، وقد
ذكره شيخي، وبعضُ المصنفين.
[وقد] (1) قال قائلون: إنه يعصي معصيةً منسوبة إلى آخر سنةٍ من سني
الإمكان.
وقال قائلون: يعصي معصيةً منبسطةً على جميع وقت الإمكان، والوجهان
عندنا [لا حاصل] (2) لهما، فلا تقبض (3) المعصية، ولا تنبسط، والوجه
القطع بأنه مات عاصياً، ولقي الله تعالى، على صفة العصيان. ولا معنى
لأضافة العصيان إلى زمانٍ، وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني في كتابه.
2463 - ومما يجب التنبيه له أن التأخير إلى زمان العَضْب يحقق المعصيةَ
في الحياة، وإن كان تحصيل الحج بطريق الاستنابة ممكناً؛ إذ لو قلنا: لا
يعصي بالتأخير إلى العَضْب، لوجب أن نقول: لا يعصي بالتأخير إلى الموت،
لإمكان تحصيل الحج بعده.
ومن أراد أن يتكلف توجيهاً (4) لنفي المعصية، فليكن صغوُه إلى ما نبهنا
عليه (6 من إمكان تحصيل الحج بالموت (5)، ولا ينبغي أن يغتر الفقيه
بهذا؛ فإن الاستنابة في حكم بدلٍ والمباشرة 6) في حكم الأصل، ولا يجوز
ترك الأصل مع القدرة عليه.
2464 - ومما يتعلق بذلك، أن من أخر الحجَّ إلى العَضْب، وعصَّيناه،
فعليه وقد باء بالمعصية، أن يبادر إلى الاستنابة، ولا يؤخرها، وإن كان
لا يخرج عما باء به من المعصية.
__________
(1) في الأصل، (ط): فقد.
(2) في الأصل، (ك): تفاصيل.
(3) (ط): تقتصر.
(4) في الأصل، (ك): توجيههما.
(5) أي إمكان أن يُحجَّ عنه من تركته بعد موته.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4/162)
وفي بعض التصانيف ما يدل على أنه لا يتضيق
وقت الاستنابة، حتى يقال: إذا أخرها، انضمت معصيته إلى المعصية التي
باء بها بتأخير المباشرة إلى العضب، [فقد] (1) حصلنا إذاً في ذلك على
وجهين.
ولا ينبغي أن يقدرَ خلافٌ فيه، إذا لم تجر قدرةٌ على المباشرة، وكان
المرء في وقت استجماعه شرائط التكليف معضوباً. والوجه في حق من هذا
وصفه أن يقال: الاستنابة في حقه كالمباشرة في حق القادر عليها.
وفي بعض التصانيف أن من طرأت عليه الزمانة، وأخّر الاستنابة، فهل
للقاضي أن يجبره عليها، فعلى وجهين.
ثم قال صاحب التقريب (2): الأصح أن يجبره.
وهذا خُرق (3)؛ فإنا وإن حكمنا بتضييق وقت الاستنابة، فليس هذا مما
يتعلق بتصرّف (4) الولاة، ويجوز أن يقال: الامتناع عما يتضيق في ذلك،
بمثابة الامتناع عن أداء الصلاة، من غير عذر، ثم عن قضائها. وإذا جرى
ذلك، فالسلطان يجبر على القضاء، فإن امتنع ضرب رقبتَه، ويجوز أن يفصل
بين الصلاة والحج، فيقال: يتعلق بترك الصلاة حدٌّ، والحدود إلى الأئمة،
بخلاف الحج. والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل، (ك): وقد.
(2) في (ط): التصنيف.
(3) خرق: أي جهلٌ وحمق. (المعجم).
(4) (ط): بتطرّق.
(4/163)
باب وقت الحج
والعمرة
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
[البقرة: 197] ... إلى آخره " (1).
2465 - الإحرام بالحج يتأقت عندنا بشهرين: شوال، وذي القعدة، وتسعٍ من
ذي الحجة.
واختلف الأئمة في أن من أنشأ الإحرام بالحج ليلةَ العيد، فهل يصح ذلك؟
فمنهم من قال: يصح؛ فإنه وقت الوقوف، وهذا هو الأصح؛ فوقت الإحرام
إذاً: شهران، وتسعة أيام [وليلة] (2).
[ومن أصحابنا] (3) من لم يصحح الإحرام ليلةَ [العيد] (4) ابتداء، وإن
جعل المحرمَ قبل غروب الشمس مدركاً للحج، إذا أدرك الوقوف ليلاً، فعلى
هذا: الوقتُ شهران، وتسعةُ أيامٍ، بلياليها، من ذي الحجة.
2466 - ولو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، لم ينعقد إحرامه بالحج، ولكن
يصير محرماً، واختلف النص، فيما هو فيه: فقال الشافعي في موضعٍ: "
انعقد إحرامه عمرةً "، وبه أجاب هاهنا. وقال في موضعٍ: " يتحلل بعمل
عمرة ".
فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن إحرامه يقع عمرة
صحيحة، حتى لو كانت عليه عمرةُ الإسلام، سقطت عنه، إذا طاف وسعى.
والثاني
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 46.
(2) في الأصل، (ك): ولياليها من ذي الحجة.
(3) ساقط من الأصل، (ك).
(4) ساقطة من الأصل، (ك).
(4/164)
- أنه ليس بعمرة، وليس إحراماً بحج، فلا
يتصف ما هو [فيه] (1) بواحد من النسكين، ولكن يلزمه إتيان مكة، لما
التزمه، وتسبب (2) الإحرام به، لتأكده ولزوم حكمه.
وأقرب شيء يُشبَّه حالُه به، حالُ من أحرم بالحج، ثم فاته الوقوف. [على
أنه قد يقال: من فاته الوقوف] (3)، فهو في إحرامٍ بحجٍّ فائت، ولا يسوغ
إطلاق هذا فيما نحن فيه.
وبنى بعض أصحابنا القولين على ما إذا تحرم الرجلُ بصلاة الظهر، قبل
الزوال، فلا شك أن صلاته لا تنعقد ظهراً، وفي انعقادها نفلاً قولان.
وهذا القائل يزعم أن الإحرام المطلق، إذا نُزّل على أقل المراتب، فهو
عمرة، فتنزيل الصلاة على النفل، كتنزيل الإحرام المرسل، على العمرة.
فلو نوى الرجل الصلاةَ، ولم يتعرض لتطوعٍ، ولا فرضٍ، انعقدت صلاته
نفلاً. ولو أحرم مطلقاً، في وقت إمكان الحج، فإحرامه مبهم، وله تفسيره
بالحج، وتنزيله على العمرة، فإن الإحرام بالنسك، يقبل الاستبهام، وهذا
غيرُ ممكن في الصلاة.
هذا منتهى الطريقة.
2467 - ومن أصحابنا من قطع بأن الإحرام بالحج، قبل أشهر الحج لا ينعقد
عمرة، ونصُّ الشافعي حيث [قال] (4): " إنه محمول على العمرة "، يحمل
على إطلاق الإحرام، وهذه هي الطريقة السديدة؛ فإن ذكر الخلاف في صلاة
الظهر قبل الوقت، متلقًى من اعتقاد كون صلاة الظهر صلاة موصوفة، فإذا
سقطت صفتها، بقيت الصلاة المطلقة. وهذا المعنى يبعد تخيله، فيما نحن
فيه؛ فإن الإحرام بالحج ليس كذلك، إذ ليس عمرةً موصوفة، بصفة زائدةٍ.
[و] (5) لمن سلك طريقة القولين أن يقول: إذا جاز تنزيل الإحرام المطلق
على العمرة، فالذي جاء به المحرم بالحج
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) (ط) وتشبث.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(4) ساقط من الأصل، (ك).
(5) زيادة من (ط).
(4/165)
إحرامٌ، وصرفٌ إلى جهةٍ، فإذا بطلت الجهة
المعيّنة، بقي الإحرام.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يقول: المحرم بالحج قبل أشهر الحج
بالخيار: إن شاء صرفه إلى العمرة، جرياً على ما ذكرناه في الإحرام
المعقود على الإبهام، فإنْ صرفه إلى العمرة، كانت عمرةً صحيحة، وإن لم
يصرفه إليها، تحلل بعمل عُمرة. وهذا فيه بعض البعد؛ فإن الإبهام إنما
يحسن عند تحقق التردد بين النسكين، ومثار هذا الإشكال من إحرامٍ ليس
حجاً، ولا عمرة.
وبالجملة: لا بأس بهذا الوجه الذي حكيناه.
وهذا منتهى قولنا في وقت الحج.
2468 - فأما العمرة، فلا وقت للإحرام بها، وجميع أوقات السنة صالحٌ
للإحرام بها. وهي من وجهٍ كالتطوعات التي ينشط المرء لها.
ولكن في اليوم والليلة ساعات يكره إقامة التطوعات فيها، وليس في السنة
وقتٌ يكره الإحرام بالعمرة فيه عندنا. فكلُّ (1) [متخلٍّ] (2) عن
النسك، يبتدئ الإحرام بالعمرة، إلا الحاج العاكف بمنى، فالمعرّج على
الرمي، والمبيت، فإنه يتحلل عن الحج التحللين. والأصحاب مجمعون على أنه
لو أحرم بالعمرة في وقته هذا لم ينعقد إحرامه بها، فإن ما يأتي به بعد
التحللين من مناسك الحج، فامتنع من الاشتغال بها الإحرامُ (3) بالعمرة،
وكان من حق تلك المناسك ألا تقع إلا في زمن التحلل، وأيام التطيب،
والبعال، والتحلِّي (4) مستحق في إقامتها، كما يمتنع الصوم فيها، على
الأصح.
...
__________
(1) (ط): فهل.
(2) في الأصل، (ك): متحلل. والمعنى واحد: أي خالٍ عن الإحرام بالنسك.
(3) فاعل " امتنع "، والمعنى أن المقيم بمنى، وإن كان خالياً من علائق
الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيم على نُسك، مشتغلٌ بإتمامه، وهو الرمي
والمبيت، وهما من تمام الحج؛ فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه (قاله أبو
محمد في كتابه (الفروق) ونقله عنه النووي في المجموع: 7/ 148).
(4) (ط): والتخلي.
(4/166)
باب وجوب العمرة
2469 - المنصوص عليه في الجديد أنه يجب على المرء عمرةٌ واحدةٌ في
عمره، كما يجب عليه حَجَّةٌ في عمره. وعلق الشافعي القولَ في وجوب
العمرة في القديم؛ فقال في أحد القولين: إنها سنة مستحبة. وهذا قول أبي
حنيفة (1). وتوجيه القولين في الأخبار، وقد ذكرناها في مسائل الخلاف
(2).
ومن لطيف القول في الباب: أنا إذا أوجبنا العمرةَ [لم تقم حجة مقامها،
وإن اشتملت على أعمال العمرة] (3) وزادت. ونقيم الغسل مقام الوضوء.
وهذا من أصدق الأدلة -إذا أردتها- على تغاير الحج والعمرة.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 59، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 98 مسألة: 572،
رؤوس المسائل: 251 مسألة: 144، بدائع الصنائع: 1/ 226، حاشية ابن
عابدين: 2/ 151.
(2) لم يذكره في الدرّة المضية - فهو يشير إلى كتاب من كتبه الأخرى في
الخلاف.
(3) ساقط من الأصل، (ك).
(4/167)
باب ما يجزئ من العمرة إذا جُمعت إلى غيرها
قال الشافعي: " ويجزئه أن يَقرُنَ (1) العمرةَ مع الحج ... إلى آخره "
(2).
2470 - الحج والعمرةُ يؤدَّيان على ثلاث جهات: الإفراد، والتمتع،
والقِران. فأما الأفراد، فصورته الجارية على الاعتياد في حق الغريب، أن
ينتهيَ في أشهر الحج إلى ميقات جهته، فيحرمَ بالحج، ويجريَ فيه إلى
انتهائه، ثم يعودَ إلى مكة بعد التحلل، ويخرج إلى أدنى الحل، ويحرم
بالعمرة. هذه صورة الإفراد. وسنلحق بالإفراد صوراً، في فصل التمتع
[ينخرم] (3) فيها شرائط التمتع، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله
تعالى-
ولا يتأتى شرح هذه الأقسام بدفعة، فإنما يحصل شفاء الصدر من أغراضها
عند نجازها، فليعتن الناظرُ بفهم ما ينتهي إليه، واثقاً بأن ما يدور في
خلده بين يديه (4).
2471 - فأما التمتع، فله شرائط.
[الشرط الأول] (5)
منها أن تقع العمرة في أشهر الحج، فلو انتهى الغريب إلى ميقات بلده في
رمضان، وأحرم بالعمرة، وتحلل منها، قبل هلال شوال، ثم أحرم بالحج من
جوف مكة، مع أهلها؛ فإنه ليس متمتعاً، وفاقاً.
__________
(1) قرن من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب. (مصباح).
(2) ر. المختصر: 2/ 49، 50.
(3) في الأصل، (ك): يتحرم.
(4) أي أمامه، وهذا من منهج إمام الحرمين: أن يبين في أول الباب خطته
وطريقته.
(5) زيادة من عمل المحقق.
(4/168)
ومما يتعين الاعتناء بفهمه في صور أحكام
التمتع: أن المعتبر فيه أمران: أحدهما - وقوع العمرة في أشهر الحج،
وكان ذلك في مرتبة المستنكرات؛ إذ كان الناس يَرَوْن أن أشهر الحج لا
تُشغل إلا بالحج، ولا يُزحم الحج بالعمرة، في وقت إمكان الحج، فورد
التمتعُ في حكم الرخصة، وجُوِّز للناس إيقاعُ العمرة في أشهر الحج،
وكأن السبب في الرخصة أن الغريب كان يرد مكة، قبل عرفةَ بأيام، وكان
يعسُر عليه استدامةُ الإحرام بالحج، ولا (1) يجد سبيلاً إلى مجاوزة
الميقات، الذي ينتهي إليه في جهته، فجوز له أن يحرم بالعمرة، ويتحلل
عنها، على شرط الشرع، ويبقى بمكة متحللاً، ثم يُحرم بالحج، من جوف مكة.
هذا أحد الأمرين.
والثاني - أن الغريب لو أحرم بالحج، من ميقاته الذي انتهى إليه، لكان
يحرم بالعمرة، بعد نجاز الحج من ميقات العمرة، وهو أَدْنى الحل. وإذا
أحرم بالعمرة متمتعاًً، فقد ربح أحدَ الميقاتين في أحد النسكين.
فينبغي أن يكون هذان الأمران على ذُكرٍ من الناظر في هذه المسائل.
فإذا أوقع العمرة بتمامها في شهر رمضان، لم يكن متمتعاًً.
ولو أحرم بها في شهر رمضان، وأوقع جميع أفعالها في شوال، فهل يكون
متمتعاًً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يكون متمتعاًً، لأنه لم
يزحَم الحجَّ بإحرامه، والأصل الإحرام، والأعمالُ وفاءٌ به، فكان كما
لو أوقع العمرة في شهر رمضان.
والثاني - أنه يكون متمتعاًً؛ لأن المقصود من العمرة أفعالُها،
والإحرام رابطةٌ لها، وقد وقعت الأفعال في أشهر الحج.
وحكى الأئمةُ وجهاً ثالثاً، عن ابن سريج: أنه قال: إن عاد، فمرّ على
الميقات محرماً، بعد هلال شوال، أو كان مقيماً به، حتى دخل شوال، فهو
متمتعٌ؛ نظراً إلى حصوله بالميقات محرماً، في أشهر الحج. وإن كان جاوز
الميقات محرماً، في رمضان، واستمر، ولم يعد، لم يكن متمتعاً.
__________
(1) (ط): ولم.
(4/169)
وهذا الخلاف والأفعالُ واقعةٌ في أشهر
الحج.
فأما إذا أوقع شيئاً منها في رمضان، فإن قلنا: وقوع الإحرام في رمضان
يخرجه عن كونه متمتعاًً، فهذه الصورة أولى بذلك، وإن قلنا: وقوع
الإحرام في شهر رمضان (1) لا يخرجه عن التمتع، ففي [هذه] (2) الصورة
وجهان: أحدهما - أنه ليس متمتعاًً؛ لأنه جمع بين الإحرام، وهو القصد،
وبين إيقاع المقصود، فأوقعهما في رمضان. وهذا القائل يقول: لو أوقع
بعضاً من أشواط الطواف في رمضان، لم يكن متمتعاًً.
والوجه الثاني - أنه متمتع؛ لأنه صادف الأشهر، وهو محرم بالعمرة؛ فحصلت
المزاحمة، التي أشرنا إليها. وهذا القائل يقول: لو أوقع في الأشهر [وهو
محرم] (3) الحلقَ على قولينا: إنه نسك، كفى ذلك، في كونه متمتعاًً.
فهذا بيان هذا الشرط.
2472 - وفي إتمام القول فيه شيءٌ، لا يطلع على حقيقة [الفصل] (4) من لم
يعرفه، فنقول: إذا أوقع العمرة بتمامها في رمضان، وقلنا: إنه ليس
متمتعاًً، فلا شك أنا نجعله مفرداً، ولا يلزمه دم التمتع؛ إذ لا تمتع،
وهل يلزمه دم الإساءة؟ اضطرب الأئمة فيه، فكان شيخي يقطع بوجوب دم
الإساءة من جهة أن الغريب ربح ميقاتاً، على ما سبق التنبيه عليه، ودم
الإساءة يجب بسبب الإخلال بالميقات.
وذهب المحققون إلى أنه لا يلزم دمُ الإساءة؛ فإن المسيء من ينتهي إلى
ميقاتٍ، وهو على قصد النسك، فيجاوزه، وهو غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن
جاوز الميقات، محرماً بالعمرة، وأما الحج، فقد أتى به من ميقاتٍ انتهى
إليه، وهو مكة، فإيجاب دم الإساءة بعيد.
والذي يحقق ذلك أن المسيء منهيٌّ عن صورة فعله، ثم إذا فعله، ففعله
مقابل
__________
(1) (ط) في أشهر الحج. (وهو وهمٌ مخالف للسياق).
(2) مزيدة من (ط).
(3) زيادة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): القصد.
(4/170)
بكفارة، ومن تحرم بالعمرة في رمضان، ليس
مرتكباً نهياً، ولا مخالفاً أمراً، فتقديره مسيئاً، لا وجه له.
والمتمتع إذا تجمعت له الشرائط، ليس مسيئاً، ولكنه مُزاحِمٌ للحج،
ورابحٌ ميقاتاً، فكان السببان مقتضيين للدم، مع الترخيص في الإقدام على
موجِب الدم.
ومن هذا ينشأ اختلاف العلماء في أن دم التمتع دمُ جبران، أو دمُ نسك،
فرآه الشافعي دمَ جبران، ومعتمده في تصوير النقصان المحوِج إلى الجبران
المزاحمةُ ورِبح ميقات.
وقال أبو حنيفة (1): إنه دم نسك، وإنما حمله على ذلك، أنه لم ير في
أعمال التمتع نقصاناً، يقتضي جُبراناً. فليفهم الناظر وقع الكلام. هذا
قولينا في شرط واحد من شرائط التمتع.
[الشرط الثاني] (2)
2473 - والثاني أن يقع الحج والعمرة في سنةٍ واحدة، فلو اعتمر الغريب
من ميقاته، ولم يحج في تلك السنة أصلاً، وأقام بمكة، وحج في السنة
القابلة؛ فإنه ليس متمتعاًً، ولكل سنة حكمُها، وما أجريناه في أثناء
الكلام من مزاحمة الحج بالعمرة، فهو مشروط باتفاق الجج في تلك السنة.
وهذا كما أن المسيء من يمرّ على الميقات ناوياً نسكاً، مع ترك حق
الميقات، فإذا جمعت السَّنةُ العمرةَ والحجَّ، وتقدمت العمرة، كان ذلك
خلاف النظم المألوف، في النسكين.
ثم الغريب إذا دخل مكة معتمراً، وحج في السنة القابلة، فهو مفردٌ [غير]
(3) مسيء بلا خلاف. ولو أقام بمكة، سنين، وكان يحج كل سنةٍ، من مكة،
فلا إساءة، ولا دم؛ فإنه ينشئ الحج، كل سنة، من ميقاتٍ، هو عاكف عليه.
وهذا لا خفاء به.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 174، البحر الرائق: 2/ 387، حاشية ابن
عابدين: 2/ 193.
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) مزيدة من (ط).
(4/171)
ولكن لا ينبغي، أن [يُتَبَرَّمَ] (1) بذكر
الجليات في المناسك، فإنها قُربٌ غيرُ مألوفة، لمعظم الناس، وتركُ
الجليّ فيها يَجرّ عَماية.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (2) أنه كان يشترط أن تقع العمرةُ والحج
في شهر واحد، وهذا مزيَّف لا أصل له، من جهة التوقيف، ولا من جهة
المعنى.
[الشرط الثالث] (3)
2474 - والثالث من الشرائط: أن لا يكون المتمتع من حاضري المسجد
الحرام، ولما ذكر الله تعالى التمتع وحكمَه، قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ
يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثم
اضطرب العلماء في معنى الحاضر، فقال مالك (4): هو ساكنُ مكة، أو الحرم،
وإن لم يكن عمران مكة متصلاً به.
وقال أبو حنيفة (5): الحاضر، من هو على ميقاتٍ من المواقيت، فجعل
المقيمَ بذي الحُلَيفةَ من حاضري المسجد الحرام، وبينه وبينه تسعون
فرسخاً ونيِّف.
واعتبر الشافعي في ذلك مسافةَ القصر، فقال: من كان على مسافة القصر [من
مكةَ، فليس من الحاضرين، ويتأتى منه التمتع، ويلزمه دمُه، ومن كان
منزله من مكة على مسافةٍ، تقصر عن مسافة القصر] (6)، فهو من الحاضرين؛
فلا يلزمه دمُ التمتع، إذا أحرم بالعمرة، من مسكنه، ثم أحرم بالحج، من
جوف مكة. ثم لا خلاف أنا كما لا (7) نلزمه دمَ التمتع، لا نُلزِمه دماً
آخر.
فإن قيل: قد وُجدت منه المزاحمة، وتقديم العمرة. قلنا: كأنا نعتبر في
إلزام دم
__________
(1) في الأصل، (ك): يلتزم.
(2) سبقت ترجمة ابن خيران في كتاب الطهارة، فقرة 99.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 465 مسألة 725.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 60، بدائع الصنائع: 2/ 169.
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(7) سقطت من (ط).
(4/172)
التمتع أن يشغلَ ميقاتاً، بالغاً مسافة
القصر، بإحرامِ العمرة، فإذا كان منزله على مسافةٍ قريبةٍ -وحدّ القرب
ما ذكرناه- فهو كالمكّي، والمكي إذا قدّم العمرةَ على الحج، ثم أحرم
بالحج، من جوف مكة، فالذي جاء به على صورةِ التمتع، ولا يلزمه شيء (1
أصلاً، فكذلك من قربت مسافته، إذا أحرم بالعمرة من وطنه، ثم أحرم بالحج
من جوف مكة، فلا يلزمه شيء 1).
2475 - وقد يرد على من يعتمد مسلك المعنى سؤال، فيقال (2): من كان
مسكنه دون ميقاتٍ، وكان من حاضري المسجد الحرام، كما وصفناه، فلو قصد
مكةَ ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنَه وقريته، غيرَ محرم، فهو مسيء ملتزم
دمَ الإساءة، وفاقاً. ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل
مكة، فلا يلزمه شيء إذا أحرم من مكة. والسبيل في الجواب، أن يقال: مسلك
المعنى لا يكاد [يتجرد] (3) في هذه القاعدة، والتعويل على التنزيل،
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدنا إليهما سبيلاً، وقد قال
تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فرأى الشافعي من قربت المسافة بين وطنه وبين
مكة، معدوداً من المتصلين بالحرم، وأدرجه في اسم الحاضرين.
وبالجملة لا يشهد لوجوب دم التمتع معنىً مستقلٌّ صحيحٌ على [السَّبْر]
(4)، وقد أحيا كل ميقات بنسك، ولكن ثبت دم التمتع نصَّاً، فاتبعناه،
وتكلفنا على بعدٍ معناه، فإذا عدمنا ما تخيلناه من الشرائط، فلا غموض
في نفي وجوب الدم.
وأما من يدخل مكة مُحلاً، وهو على قصد النسك [فهذا] (5) تركٌ منه لحق
وطنه، وحق الحرم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) في الأصل، (ك): فيقال له (بزيادة " له ") ولا معنى لها، فهو سائل:
أي يقال على لسانه، ولا يقال له.
(3) في الأصل، (ك): يتجرى.
(4) في الأصل، (ك): السنن.
(5) ساقطة من الأصل، (ك).
(4/173)
فهذا منتهى القول في ذلك. وإذا بلغ [طلبُ]
(1) الفقيه في فصلٍ منتهاه، لم يكن من مخايل رشده طلب شيء سواه.
فرع:
2476 - الغريب الآفاقي (2) إذا انتهى إلى ميقات فجاوزه، وكان لا يبغي
إذ ذاك الإحرام، ودخول الحرم، فلما تعدّاه، وقرب من مكةَ، بدا له أن
يحرم بالعمرة، ثم يحرمَ بعدها بالحج، من جوف مكة، على صورة التمتع، ففي
المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه دم التمتع؛ [لأنه غريب أتى بصورة
التمتع] (3) والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يلتزم الإحرام، وهو على مسافة
بعيدة، وإذ خطر له أن يحرم، كان على مسافة أهل تلك البقعة، إذا كان بها
ناس يعدون من حاضري المسجد.
والذي يجب إمالة (4) الفتوى إليه إيجاب الدم، فإنه يسمى متمتعاًً، ولا
يسمى من حاضري المسجد الحرام. وأسعد المذاهب في هذه المراتب، ما يعتضد
بقول الشارع.
فرع:
2477 - إذا كان لرجل مسكنان، أحدهما على مسافة القصر، والثاني دونها،
فإن كان أكثر سكناه في القريب، فهو من الحاضرين، وإن كان أكثر سكناه في
المسكن البعيد، فهو غريبٌ متمتع.
وإن كان يسكنهما على استواء، وكان أهله بأحدهما، فهو منسوب إليه، وإن
استويا في كل وجه، فقد قال صاحب التقريب، وغيره: ينظر إلى الموضع الذي
يُحرم منه، ويثبت له حكم ذلك الموضع، قريباً كان، أو بعيداً.
ولعلنا نعود إلى هذه الصورة في باب المواقيت، ونستقصي فيه تمامَ
البيان.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) الآفاقي: نسبة إلى الجمع على غير قياس. قال النووي في تهذيبه: "
وأما قول الغزالي، وغيره في كتاب الحج: الحاج الآفاقي، فمنكر؛ فإن
الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى واحده " ا. هـ.
ومن الطريف أن مجمع اللغة العربية في عصرنا هذا (منذ نحو ثلاثين سنة)
أجاز النسبة إلور الجمع، فيقال: صحفي، ومراكبي.
(3) ساقطة من الأصل، (ك).
(4) (ط): إحالة.
(4/174)
[الشرط الرابع] (1)
2478 - الشرط الرابع في التمتع أن يحرم الغريب بالحج من جوف مكة، فلو
رجع إلى ميقاته، وأحرم بالحج منه، فليس متمتعاًً، ولا يلزمه شيء، وكذلك
لو رجع إلى مسافة ميقاته؛ فإن أعيان المواقيت ليست مقصودة، وإنما
المقصود منها مسافاتها (2)، التي تُقطع على صفة الإحرام.
ثم كما لا يلزم دم التمتع، لا يلزم دم الإساءة، لا شك فيه. ومجرد تقديم
العمرة في أشهر الحج على الحج، لا يوجب دماً.
ولو أحرم الغريب بالحج، من جوف مكةَ، بعد الفراغ من العمرة، ثم رجع إلى
ميقات بلده محرماً، ومرّ عليه عابراً إلى الحرم، ففي سقوط دم الإساءة
قولان معروفان، سيأتي توجيههما، وتفريعهما، إن شاء الله تعالى.
ولو كان ميقات الغريب القادمِ بعمرةٍ الجُحفةَ، وهي على خمسين فرسخاً
من مكة، فلما تحلل عن العمرة، عادَ إلى ذات عرق، أو إلى مرحلتين في
جهةٍ، لا ميقات فيها، وأحرم بالحج من تلك المسافة، فقد اختلف الأئمة في
هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن دمَ التمتع لا يسقط عنه بهذا؛ فإنه لم
يعد إلى ميقاته، ولا إلى مسافة ميقاته، وكان يُحرم بالحج من الجُحفة،
لو أفرد، فليعد إلى مسافتها.
والوجه الثاني - وهو اختيار القفال، فيما حكاه الصيدلاني: أنه يسقط عنه
دم التمتع؛ من جهة أنه أحرم من موضعٍ، لا يكون ساكنوه من حاضري المسجد
الحرام.
وهذا [يتجه] (3) بأن يجدد الإنسان عهدَه بخروج دم التمتع عن قاعدة
القياس؛ فإن إلزام الدم، وقد أحيا الغريبُ كل ميقات بنسكٍ، فيه بُعدٌ،
من جهة المعنى. فإذا أحرم بالحج من مسافة القصر، فلا نظر إلى الميقات
الطويل الذي أحرم منه معتمراً،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) (ط): مسافة.
(3) في الأصل، (ك): متجه.
(4/175)
وإنما النظر إلى خروجه (1) عن صفة
المتمتعين.
فرع (2):
2479 - الغريب إذا دخل مكة معتمراً على صورة المتمتع [ثم] (3) نوى [في
تلك السنة] (4) أن يستوطن مكة، وأحرم من جوف مكة، فلا يسقط دم التمتع
عنه وفاقاً، وإن (5) صار في هذه السنة من سكان مكة؛ لأنه لما جاوز
ميقات بلده غيرَ محرم بالحج، فقد التزم أحد الأمرين في هذه السنة، إما
أن يعود، فيحرم بالحج، وإما أن يلتزم دمَ التمتع، فإذا نوى الاستيطان،
لم يسقط ما جرى في هذه السنة التزامُه. ولو استمر، ولم يتفق خروجُه من
مكة، لفقدان الرفاق، فأحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها، فلا يلزمه في
السنة الثانية شيء؛ فإنه [لم] (6) يمرّ فيها على ميقاتٍ غير مكة.
فهذا وجه [الكشف] (7) في ذلك.
وقد انتهى ما يعوّل عليه من شرائط التمتع.
[الشرط الخامس] (8)
[غيرُ مُسلَّم]
2480 - وذكر الخِضري شرطاً خامساً، عن بعض الأصحاب، فقال: ينبغي أن يقع
النسكان عن شخصٍ واحد، حتى [لو] (9) كان أجيراً، استأجره شخص على
العمرة،
__________
(1) (ط): الخروج.
(2) في الأصل، (ك): فصلٌ (مكان فرع) ورجحنا (فرع) لأن موضوع الفصل لم
يتم بعد.
(3) مزيدة من (ط).
(4) زيادة عن (ط).
(5) (ط): وإذا.
(6) زيادة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): الكسب.
(8) زيادة من المحقق.
(9) مزيدة من (ط).
(4/176)
فاعتمر عن مستأجِرِه من ميقات جهته، ثم
أحرم بالحج من جوف مكة عن نفسه، فلا يكون متمتعاًً.
وهذا خيال فاسد، مشعرٌ بخلوّ صاحبه عن مدار الباب، وحقيقتِه، فحق مسائل
الباب أن تُتلقى مما قدمنا ذكره، من مزاحمة الحج بالعمرة، في الميقات
الذي إليه الانتهاء، مع ربح أحد الميقاتين، كما قررناه. ولا أثر [بعد]
(1) هذا لوقوع النسكين عن شخصٍ، أو شخصين.
ثم إذا جرينا على الأصح، فهو متمتع.
2481 - وإن لم نجعله متمتعاً، فهل نجعله مسيئاً، حتى نُلزمه دم
الإساءة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه مسيءٌ، ملتزمٌ؛ فإنه مُخلّ
بالترتيب، مُخْلٍ ميقاتَه البعيد، عن نسك الحج، مع إمكانه. والثاني -
إنه ليس بمسيء؛ فإنه لم يُخْلِ ميقاتاً عن نسك، وقد ذكرنا قريباً من
هذا: الخلافَ فيه إذا أوقع العمرة في رمضانَ، ثم أحرم بالحج من جوف
مكة، فليس هو متمتعاًً. وهل يلزمه دم الإساءة؟ فعلى خلافٍ قدمناه.
والأصح في الصورة المتقدمة أن لا يلزم الدم؛ فإنه قد أحيا الميقات
بعمرة، حين لم يكن الحج والإحرام به ممكناً، فلم ينتسب إلى تقصير. وفي
المسألة الأخيرة قد أتى بالعمرة في وقت إمكان الحج، ثم أخل بشرائط
التمتع، [فإذا لم يجب دم التمتع] (2) فيبعد أن لا يجب شيء آخر. فإن لم
نجعله مسيئاً، فلا كلام، ولا ينقدح من ترك الشرط إلاّ فواتُ فضيلة
التمتع، إن جعلناه أفضل -في قول- من الإفراد. وإن جعلناه مسيئاً، فلا
يلزمه إلاّ دمٌ.
ويبقى فرقان: أحدهما - أنا لا نلزم المتمتع الرجوعَ إلى الميقات، ونلزم
المسيء ذلك؛ فإن لم يفعل جَبَر ما تركه بدم. والآخر- أنه تاركٌ فضيلةَ
التمتع، على ما ذكرناه.
وتمام البيان في ذلك: أنه إذا عاد إلى الميقات -على قولينا: إنه مسيء-
ففي
__________
(1) في الأصل، (ك): مع.
(2) زيادة من (ك).
(4/177)
سقوط [دم] (1) الإساءة عنه قولان؛ [فإن
المسيء إذا تعلق بالحرم، ثم عاد، وأحرم، ففي سقوط الدم عنه قولان] (2)،
والمتمتع يسقط عنه دم التمتع، قولاً واحداً، إذا عاد إلى الميقات، كما
تقدم ذكره. وإنما ألزمنا هذا الخبطَ، من تفريعنا على وجهٍ ضعيفٍ، لا
أصل له، وهو ما حكاه الخِضْري.
[الشرط السادس] (3)
[غير مُسلَّم]
2482 - وذكر بعض الأصحاب شرطاً سادساً فقال من شرائط التمتع والاعتداد
به على الصحة النيةُ.
وهذا مع اشتهاره مردود عند كافة المحققين، ولا يصير إليه إلاّ عريٌّ عن
تحصيل مقصود الباب؛ فإن مبنى الباب على ما قدمناه من المزاحمة، وربح
أحد السَّفْرتين، وعلى اتباع قول الشارع، ولا أثر لنية التمتع، فيما
ذكرناه. وسيزداد هذا الوجه ضعفاً، إذا فرعناه، وإنما التفت من اشترط
النية إلى الجمع بين الصلاتين؛ فإن النية شرطٌ في جمع التقديم، على
ظاهر المذهب. وليس يشبه ما نحن فيه الجمعُ؛ فإن من يقدم صلاة العصر على
وقتها، فإنه مغيّر لوضعه المألوف في الشرع، وتقديم العبادات البدنية
على أوقاتها بعيدٌ عن قياس موضوع الشرع، وليس يتحقق مثل ذلك في
النُّسُكَين.
2483 - فإن لم نشترط النية، فلا كلام وإن شرطناها، فقد ذكر العراقيون،
وغيرُهم ثلاثةَ أوجه في وقت النية: أحدها - أن وقتها عند الشروع في
العمرة، كوقت نية الجمع من صلاة الظهر، في حق من يجمع بينها وبين صلاة
العصر.
والثاني - أن ذلك وقتها، ثم يمتد إلى التحلل، من العمرة. ولهذا نظيرٌ
في نية
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ساقط من الأصل (وحدها).
(3) زيادة من المحقق.
(4/178)
الجمع. الثالث - أن ما قدمناه [وقتها] (1)
ويمتد إلى [ما] (2) قبل الشروع في الحج. وهذا يناظر مذهبَ المزني في
وقت نية الجمع بين الصلاتين، فإنه قال: ينوي الجامع ما بين الفراغ من
الأولى، والشروع في الثانية. و (3 تفريع هذا الخلاف في وقت النية،
يُبيّن نهايةَ ضعف الأصل.
نعم، لو 3) قال قائل: لو لم يكن المنتهي إلى الميقات على قصد الحج، أو
كان خطر له أن يقتصر في هذه السنة على العمرة، ثم اتفق منه الحج، فلا
دم عليه، قياساً على من تجاوز ميقاتَه، وهو لا يقصد النسك.
وإن كان على قصد الحج، فأتى بالعمرة، فقد قدّم أدنى النسكين، وأتى به
من أطول الميقاتين، فيلتزم دماً لقصده، فكان هذا قريباً من مأخذ
المناسك.
ثم هذا يقتضي القطعَ باعتبار وقت الخوض في العمرة، وليس هو نية قُربة،
وإنما هو قصدٌ مخصوص، يناط به حكمٌ، وذِكْر الأصحاب الأوجُهَ في وقت
النية، يدل على إضرابهم عما نبهنا عليه.
ثم إن فرعنا على مسلك الأصحاب في النية، فلو ترك النيةَ، فقد قيل: إنه
مسيء بتركه شرطَ التمتع، وقد ذكرنا أمثال هذا.
2484 - وإن قال بما ذكرناه قائل: في أن القصد هو المرعي، فالوجه أن
نقول: إن قصد التمتعَ، التزم دمَ التمتع، وإن لم يقصد، فلا شيء عليه،
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إثبات ذريعة في إسقاط دم التمتع، قلنا: [هذا
خُرق من قائله] (4)؛ فإن القصود لا تلبيس فيها، وإنما [يبدي] (5) المرء
خلاف ما يضمره، فأما قصوده، فلا قدرة على تغييرها.
__________
(1) في النسخ الثلاث: وقت. والمثبت تقديرٌ منا. رعاية للسياق.
(2) مزيدة من (ط).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: يدري.
(4/179)
فرع:
2485 - الغريب إذا تمتع بالعمرة إلى الحج، على الشرائط التي ذكرناها،
فإنه يُحرم بالحج من جوف مكة.
ثم اختلف الأئمة في المكان الذي يستحب له الإحرام منه، فذهب بعضهم إلى
أن [الأولى أن] (1) يبتدئ الإحرام من الموضع الذي هو نازله، ثم يدخل
المسجدَ محرماً.
ومنهم من قال: الأولى أن يغتسل ويتأهب، ويدخل المسجد، ويحرم، عند
البيت.
وقد نُعيد هذا في باب المواقيت.
فلو جاوز مكةَ والحرمَ، ثم أحرم بالحج، فهو متمتع مسيء، فيلزمه دمُ
التمتع، لاستجماعه شرائطَه، ويلزمه دم الإساءة لمجاوزته ميقاتَ حجه،
قطع بذلك العراقيون.
وتعليلُه تعدُّد السبب الموجب للدم. ولا وجه إلا ما ذكروه.
وهو بمثابة ما لو جاوز ميقات بلده غير محرم، ثم يحرم بالعمرة، ويتمادى
على صفة التمتع، فيلزمه دم التمتع، ودم الإساءة جميعاً.
فإن قيل: دمُ التمتع دمُ جبران، والنقصان آيل إلى الميقات، فهلا وقع
الاكتفاءُ به؟ قلنا: ما قدمنا ذكره من النقصان، ليس من قبيل الإساءة،
ووجوه النقصان في النسك شتَّى، والذي يُحقِّق ما ذكرناه أن دم التمتع،
وما يتعلق به من بدل، قد يخالف دمَ الإساءة، فوضح تباينهما.
وقد نجز غرضنا في تصوير التمتع، والإفراد.
2486 - فأما الجهة الثالثة في أداء النسكين، فالقِران.
ولتصويره وجهان: أحدهما - أن يحرم الرجل بهما جميعاً.
ْوالثاني - أن يدخل أحد النسكين في الآخر.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(4/180)
فإن أحرم بالعمرة أولاً، ثم أحرم بالحج،
نُظر: فإن كان الإحرام بالحج قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة، صار
قارناً، ولا حاجة إلى نية القِران وفاقاً، وهذا يؤكد فسادَ قول من
يقول: لابد من النية في التمتع.
وإن اشتغل بشيء من أعمال العمرة [مثل] (1) أن يخوض في الطواف، فقد انسد
(2) إمكان القِران، فلو أحرم والحالة هذه بالحج، لم ينعقد إحرامه، ولغا
عقده.
فأما إذا أحرم بالحج أولاً، ثم أحرم بالعمرة، ففي المسألة قولان:
أحدهما - أنه لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني - يصح.
من قال بالصحة، احتج بإدخال الحج على العمرة، ومن منع (3)، استدل بأن
العمرة مستغرَقة في الحج، من جهة الأعمال، فلا يتجدد على الحاج عمل،
بتقدير إدخال العمرة، وليس كإدخال الحج على العمرة.
وهذا (4) يرد عليه الإحرام بالنسكين معاً.
فإن جرينا على الأصح، وهو جواز إدخال العمرة على الحج، فإلى متى يجوزِ
ذلك؟ فعلى أوجهٍ: أحدها -[أنه] (5) يجوز ما لم ينقرض زمان الوقوف؛ فإن
إدراكَ الحج، وفواتَه، منوطان بالوقوف، وهو حالٌّ محلّ المعظم. وقد قال
الرسول صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " (6).
__________
(1) في الأصل: " قبل "، والمثبت من (ط)، (ك).
(2) (ط): أفسد.
(3) ساقطة من: (ط).
(4) (ط): فهذا.
(5) مزيدة من (ط).
(6) حديث الحج عرفة رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم
والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر (أبو داود: المناسك،
باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، الترمذي: الحج، باب ما جاء فيمن أدرك
الإمام بجَمْع فقد أدرك الحج، ح 889، النسائي: مناسك الحج، باب فيمن لم
يُدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، ح 3044، ابن ماجة: المناسك، باب
من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح 3015، التلخيص 2/ 487 ح 1048).
(4/181)
ومن أصحابنا من يقول: إذا مضى من الحج
ركنٌ، امتنع الإحرام بعده بالعمرة، فإذا دخل الحاج مكة، قبل يوم عرفة،
وطاف طواف القدوم، وسعى، فالسعي يقع ركناً، فلو أحرم بالعمرة، لم
ينعقد، [وان لم يأت بركن أصلاً] (1)، ينعقد إحرامه بالعمرة، ويصير
قارناً؛ فعلى هذا لو طاف [طواف] (2) القدوم، وأحرم بالعمرة، قبل
الاشتغال بالسعي، صح، وصار قارناً؛ فإن طواف القدوم ليس من الأركان.
ومن أصحابنا من قال: يصح الإحرام بالعمرة، ما لم يأت الحاج، بعملٍ من
أعمال الحج، سوى الإحرام، فإن طاف طواف القدوم، ثم أحرم بالعمرة على
هذا الوجه، لم ينعقد إحرامه بها. وهذا القائل لا يَعُدّ التلبيةَ من
الأعمال المؤثرة.
ومن أصحابنا من قال: ينعقد الإحرام بالعمرة، ما لم يشتغل بشيء من أسباب
التحلل، على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
2487 - فإن قيل: [قطعتم] (3) القول بأن الإحرام بالحج لا ينعقد، مع
الخوض في شيء من أعمال العمرة، وردَّدتُم المذهبَ في إدخال العمرة على
الحج.
قلنا: السبب فيه: أن جميع أعمال المعتمر أسبابُ التحلل، ولهذا يتحلل من
فاته الحج، بأعمال المعتمر. وكذلك من أحرم بالحج في غير أشهر الحج،
وقلنا: إنه ليس معتمراً، فإنه يلقى البيتَ بعملِ معتمرٍ.
2488 - وتمام البيان فيما نحن فيه: [أنا] (4) على الوجه الأخير إذا
اعتبرنا التحلّلَ، نقول: إذا اشتغل الحاج صبيحة يوم النحر برمي جمرةِ
العقبة، فإذا رمى حصاةً، امتنع الإحرام بالعمرة، وإن كان التحلل الأول
لا يحصل برمي حصاةٍ واحدة، ولكن الاشتغال بالتحلل في حكم استفتاح قطع
العبادة، فكفى في منع الإحرام افتتاحُ القطع، وإن لم يتم بعدُ، ولهذا
قلنا: لا يدخل الحجة على العمرة، إذا اشتغل المعتمر بالطواف، وإن لم
يفرغ منه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) في الأصل: معظم.
(4) في الأصل: أما.
(4/182)
فهذا بيان تصوير القِران.
2489 - وعلى القارن دمٌ، صفتهُ وصفة بدله، كصفة دم التمتع، كما سنذكره.
ثم إنما يلتزم القارن الدمَ إذا كان غريباً.
فأما إذا قرن المكي، فلا يلزمه شيء، كما لا يلزمه بصورة التمتع شيء،
وهذا متفق عليه. والسبب فيه أن المكي إذا أتى بصورة التمتع، فإنه يحرم
بالعمرة من أدنى الحل، ويحرم بالحج من جوف مكة، فقد أتى بالنسكين من
ميقاتهما، فقيل: لا دَم عليه. وإذا قرن، فالذي لم يأت به في ظاهر الحال
العمرةُ من الحل، وهذا لا مبالاة به؛ فإنه سيخرج من الحرم، وينتهي إلى
الحل، فيصير جامعاً بين الحل والحرم.
ومن ظن سبب وجوب الدم على القارن الغريب أنه يقتصر (1) على طواف واحد
وسعْيٍ واحد، فقد أبعد، فإنا لو قلنا ذلك، لكنا قائلين بأن سقوط
الأركان مقابل بجبران، وهذا محالٌ.
فإن قيل: الغريب أيضاًً يجمع بين الحل والحرم، فأسقطوا عنه الدمَ.
قلنا: ميقاته الأصلي الحلُّ، ولا أثر للحرم في حقه في حكم الميقات، فقد
تعدد نسكه، واتحد ميقاته.
ولو دخل الغريب (2) القارنُ مكةَ، قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى ميقاته
لأجل الحج، فهل يكون عوده، وهو قارن بمثابة عود الغريب المتمتع؟ قلنا:
نذكر صورة في المتمتع، ثم نعود إلى ذلك.
فإذا تحلل الغريب المتمتع من عمرته، وأحرم بالحج من جوف مكة، ثم عاد
محرماً إلى ميقاته، ففي سقوط دم التمتع عنه وجهان، مبنيان على الوجهين
فيه إذا جاوز من يريد النسك ميقاتَه، وأحرم مجاوزاً، وعاد إلى الميقات
محرماً، ففي سقوط دم الإساءة خلافٌ سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ط): مقتصر.
(2) ساقطة من (ك).
(4/183)
2490 - رجعنا (1) إلى القارن في [الصورة]
(2) التي ذكرناها، وهي إذا عاد القارن إلى ميقاته، فإن قلنا: المتمتع
إذا عاد بعد الإحرام من مكة، لا يسقط الدم عنه، فالقارن العائد (3)
بذلك أولى، وإن قلنا: يسقط الدم عن المتمتع في الصورة التي ذكرناها،
ففي سقوط الدم عن القارن، إذا عاد وجهان، ذكرهما الصيدلاني وغيرُه:
أحدهما - أنه يسقط دم القران، وهو قياسٌ بيّن. والثاني - لا يسقط؛ فإن
القارن في حكم متمسك بنسك [واحد] (4)، فلا وقع لعوده، واسم القِران
باقٍ لا يزول، والتمتع يزول بالعَوْد إلى الميقات، وهذا كان يحسن وقعُه
لو أوجبنا الكفارة على المكّي إذا قرن، وفرقنا بين صورة التمتع منه،
وبين صورة القِران، وليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاء الكفارة عن المكي في
القِران متفق عليه.
وقد قال الشافعي في أثناء كلامه، في هذه المسائل: " والقارن أخف حالاً
من المتمتع " واختلف الأئمة في تفسير لفظه: فقيل: أراد به الردَّ على
مالك (5)؛ فإنه أوجب على القارن بدنة، وعلى المتمتع شاة، فقال ردّاً
عليه: الغريب القارن أتى بنسكيه (6) من ميقات بلده، والمتمتع يأتي
بالحج من ميقات غيره، فالقارن أخف حالاً فيما يتعلق بأمر الميقات، فلا
ينبغي أن تزيد كفارته على كفارة المتمتع.
وقيل: أراد الشافعي الردّ على داود (7)؛ فإنه قال: لا شيء على القارن،
وإنما الكفارة على المتمتع. فقال رداً عليه: القارن أخف حالاً، فإنه لا
يتعدد ميقات نسكيه، والمتمتع يتعدد ميقاته، ويتفصَّل (8)، فيجوز أن
يؤاخذ القارن الذي أتى
__________
(1) (ط): رجعٌ.
(2) في الأصل: العودة.
(3) (ط): العامد.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 470 مسألة 737.
(6) عبارة (ط): " الغريب القارن إذاً أتى بنسكيه ... ".
(7) ر. المحلى: 7/ 167.
(8) (ط): ينفصل.
(4/184)
بميقاتٍ واحد، بما لا يؤاخذ به من أتى
بميقاتين.
فهذا تمام ما أردناه، في تصوير الجهات الثلاث، في أداء النسكين.
2491 - وإذا انتجز التصوير، فالقول في بيان الأفضل من هذه الجهات، ثم
في تفصيل الكفارة، وقد أورد الشافعي لذلك باباً، فنجري على ترتيب
السواد (1).
فصل
قال: " ولو أفرد الحجَّ، فأراد العمرةَ بعد الحج ... إلى آخره " (2).
2492 - المفرد إذا فرغ من الحج، فإنه يأتي بالعمرة بعد الفراغ من الحج،
وسبيله أن يخرج إلى الحل، وُيحرم بالعمرة منه، ويعود، ويأتي بأعمال
عمرته.
ثم يكفي أن يخرج إلى أي طرفٍ شاء، فإذا لابس الحلَّ، أحرم، وعاد.
وأقربُ المسافات إلى الحل، ما في جهة مسجد عائشة رضي الله عنها، وذلك
الموضع هو الذي يسمى التنعيم، ولو كان الحرمُ ينتهي في قطرٍ أقرب من
انتهائه في الجهة التي ْذكرناها، لاكتفينا بتلك الجهة. والمرعي على
الجملة الانفصالُ من الحرم.
ولو أحرم الرجل بالعمرة في الحرم، وطاف، وسعى، وحلق، فهل يعتد بطوافه،
وسعيه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يُعتدّ بهما؛ لأن الإحرام قد انعقد،
وأتى بصورة الأعمال على شرطها، وأقصى ما نقدر بعد ذلك، أنه أخل بميقات
__________
(1) مرة ثانية يستخدم لفظ (السواد)، فهل يعني به -كما قدرنا- عامة
الأصحاب، رجال المذهب؟ أم يعني به مختصر المزني؛ إذ قال في المقدمة:
وسأجري على أبواب المختصر جهدي، فما العلاقة بين لفظ السواد ولفظ
المختصر؟
قلتُ (عبد العظيم): كنت كتبت هذا أولاً منذ أعوام، ثم تحقق لدينا أنه
يعني بلفظ (السواد) المختصر، فلفظ (السواد) يستعمل بمعنى المتن،
والأصل، وهذا المعنى غير موجود بالمعاجم، أفادنا بهذا العِلْم شيخُنا
الجليل الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه، وقدس روحه، ونور
ضريحه.
(2) ر. المختصر: 2/ 50.
(4/185)
العمرة، والإخلال بالميقات لا يمنع
الاعتداد بالأعمال.
والقول الثاني - أنه لا يكتفى بتلك الأعمال، ووجّه الصيدلاني هذا
القولَ، بأن قال: الجمعُ بين الحل والحرم ركنٌ في الحج، فليكن ركناً في
العمرة، غيرَ أن الكون في الحل للوقوف مؤقت يفوت، والخروج إلى الحل في
العمرة ليس بمؤقت، فلا يفوت، فإذا أراد المحرم بالعمرة من جوف مكة، أن
(1 يعتد بأفعاله، فليخرج 1) إلى الحل، وليعد، ثم ليطف، وليسع، فإن طواف
الزيارة هو الركن في الحج، وهو مرتب على الوقوف بعرفة، فينبغي أن يترتب
طواف العمرة، على الجمع بين الحرم والحل.
التفريع:
2493 - إذا قلنا: نعتد بالطواف والسعي، فنجعله بترك الخروج إلى الحل
مسيئاً، ملتزماً دمَ الإساءة؛ من جهة تركه الميقاتَ المشروع للعمرة.
وإن قلنا: لا يعتد بما جاء به؛ فإحرامه منعقدٌ، لا خلاف فيه. ولكن إن
أراد الاعتداد بأعماله، فليخرج إلى الحل، ثم يعود، ويأتي بالطواف،
والسعي، فإذا فعل ذلك، فهل نقول: حكمه حكم من جاوز الميقات مسيئاً،
وأحرم، ثم عاد إلى الميقات، حتى يخرج سقوطُ الدم على الخلاف؟
اختلف الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: لا دم عليه في مسألتنا وجهاً واحداً،
وهو من طريق التمثيل بمثابة من يُحرم قبل الميقات، ثم يمر عليه؛ فإن
المسيء هو الذي ينتهي إلى ميقاتٍ، ناوياً نسكاً، ثم يجاوزه، ولم يتحقق
هذا فيمن أحرم من جوف مكة، ثم خرج إلى الحل.
ومن أصحابنا من خرّج ذلك على الخلاف المذكور في عَوْد المسيء.
والمسألة محتملة جداً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(4/186)
فصل
قال: " وأحب إليّ أن يعتمر من الجعْرَانة ... إلى آخره " (1).
2494 - لما ذكر الشافعي أن أدنى الحل ميقاتُ العمرة، كما تقدم، ذكر في
هذا الفصل أفضلَ البقاع من أطراف الحل، وقال: أفضلها الجِعْرَانة (2)،
وبعدها التنعيم [وبعدها الحُدَيبية، والسبب فيه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، اعتمر من الجِعْرَانة، لما عاد] (3) لقضاء العمرة التي صُدّ
عنها، عن مكة، عام الحديبية، فدل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلك البقعة، على تفضيلها، ولما التمست عائشةُ من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يُعمرَها، أمر أخاها عبد الرحمن، حتى أعمرها من التنعيم،
فقدّم الشافعيُّ ما دل عليه فعلُه، صائراً إلى أنه لا يختار لنفسه إلا
الأفضل، ثم أتبع ذلك ما أمر به في قصة عائشةَ، ثم جعل ما همّ به، ولم
يتفق [منه] (4) إتمامه آخراً، وهو الحديبية.
2495 - فإن قيل: كيف قدم هاهنا فعلَه على همّه؟ وفي تحويل الرداء في
الاستسقاء قدّم ما همّ به على ما فعل؟ فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أراد أن يقلب رداءه، فيجعل أسفله أعلاه، فلما ثَقُل عليه قلبه من
اليمين إلى الشمال، ولم يجعل الأسفل أعلى، والأفضلُ أن يفعل الإمام
وغيرُه ما همّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: لأن ما همّ به مشتمَلٌ في باب التحويل على ما هو فعله؛ فإن الغرض
التفاؤل
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 51.
(2) الجِعْرَانة، بسكون العين والتخفيف. على الأصح، قاله الفيومي في
المصباح. وقال البكري في معجمه: هي عند العراقيين بكسر الجيم والعين
وتشديد الراء (الجعِرَّانة)، والحجازيون يخففون، فيقولون (الجعْرَانة)
وقال الأصمعي: هي الجعَرانة، بالتخفيف. (ر. معجم ما استعجم: 1/ 384).
(3) ساقط من الأصل.
(4) مزيدة من (ط)، (ك).
(4/187)
بتحويل الرداء [لتحويل الحال] (1)، وكان
حصل بالقلب من اليمين إلى الشمال ذلك، فعسر إتمام ما همّ به من
التحويل، فكان صلى الله عليه وسلم مبتدئاً أمراً تعذر عليه إتمامه،
والعمرة عن الحديبية لا تشتمل على العمرة عن الجِعْرانة.
والأمر في ذلك قريب.
وإلا كان لقائلٍ أن يقول: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ
الحديبية عن اختيارٍ، وإنما صُدّ اضطراراً، فتقديمُ ما أمر به على ما
كان خاض فيه، ولم (2) يتم له، عن اضطرارٍ فيه (3) بعضُ النظر.
ولكن توجيه ما ذكره الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار
عائشةَ من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية، فاقتضى ذلك
تقديمَ ما أمر به.
2496 - وقد ذكر الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة
الجِعْرانة عامَ القضاء، ولم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث (4)،
وفيه إشكالٌ؛ من جهة أن ذا
__________
(1) في الأصل: .. الرداء التحويل وكان ....
(2) (ط) لم (بدون واو).
(3) في محل خبر (فتقديمُ).
(4) هذا التعليق من إمام الحرمين على ما قاله الفقهاء، وردّه لقولهم:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجعرانة عام الفضاء.
وتغليطه الفقهاء في ذلك، ورده عليهم بالمنقول والمعقول حيث قال: لم أر
لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث.
كما علل ردَّه لكلام الفقهاء بأن هذا غير معقول، فكيف يجاوز رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة مع نية النسك، ثم يصل إلى طريق الطائف
مجاوزاً مكة، ليحرم من الجعرانة؟
هذا التعليق يوحي لنا بعدة أمور:
أولاً- إن إمام الحرمين ليس كما أكثروا القول عنه بأنه كان قليل
المراجعة لكتب الحديث وقليل العلم بالحديث؛ فها هو يردّ كلام الفقهاء
وينص صراحة على أنه راجع كتب الحديث فلم يجد ذكراً لهذا الكلام.
ومعلوم أن الحكم بعدم الوجود لا يقال إلا عن تثبت واستقراء وسعة اطلاع،
فمن هو (قليل المراجعة لكتب الحديث) يستحيل أن يرد كلام الأئمة مستنداً
إلى عدم الوجود فيها، فذاك يحتاج كما ألمعنا آنفاً إلى إحاطة شاملة
واستقراء كامل.
ثانياً- إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ردّ كلام الفقهاء هذا في تلخيصه
الحبير بنفس ألفاظ=
(4/188)
الحُلَيفة، كان على ممر الرسول صلى الله
عليه وسلم، وكان قصدُه مكةَ للعمرة، فيبعد منه صلى الله عليه وسلم
مجاوزةُ الميقات، مع نية النسك، والأظهر أنه كان أحرم من ذي الحليفة،
لتلك العمرة، وعمرة الجِعْرانة، كانت عمرةً أخرى، برز لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة. والله أعلم
بالصواب.
...
__________
=إمام الحرمين تقريباً، ولسنا نزعم بهذه الملاحظة أنه تبع في هذا الرد
كلام إمام الحرمين واعتمد عليه، حاشا لله أن نقول ذلك، فابن حجر إمام
الحديث لابدّ أنه راجع كتب الحديث قبل أن يقول ذلك. وإن كنا نؤكد أن
ابن حجر قرأ النهاية لإمام الحرمين. (ر. تلخيص الحبير: 2/ 439).
ثالثاً - لاحظنا كثيراً أن الحافظ ابن حجر كان إذا نقل عبارة عن
الرافعي فيها شيء من الأوهام الحديثية يتخطى الرافعي (غالباً) وينحي
باللائمة على إمام الحرمين قائلاً: إن الرافعي تبع الغزالي، والغزالي
تبع فيه إمام الحرمين.
ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يقل الحافظ: وقد ردَّ هذا القول (عمرة
الجعرانة عام القضاء) إمامُ الحرمين في النهاية. ويَتعجب من الرافعي
الذي لم يتبع إمام الحرمين في الرد والتصحيح، جرياً على منهجه الذي
يُحمّل فيه إمام الحرمين الأوهام الحديثية في كلام الرافعي.
فهل كان الحافظ على غير ذكرٍ من كلام الإمام في النهاية؟ للاحتمال
مجال، والله أعلم.
رابعاً - من موقف الحافظ، من هذه المسألة وغيرها ترجح عندنا أن الحافظ
عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، لمَّا نعرف له تفسيراً بعد، وإن كان
يلوح لنا أنه تبع فيه ابن الصلاح رحمه الله ورضي عنه. ونسأل الله أن
يلهمنا الصواب.
(4/189)
باب الاختيار في
إفراد الحج
قال: " وأحب إليّ أن يُفرد ... إلى آخره " (1).
2497 - قد ذكرنا إجزاء الجهات الثلاث في النسكين، وقد قيل: الإفراد
مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والقِران من قوله
تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]،
والتمتع مصرَّحٌ به في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الأئمة: القِران مؤخَّرٌ عن الإفراد والتمتع. وفي الإفراد
والتمتع قولان: أظهرهما - أن الإفراد مقدّمٌ على التمتع. نصَّ عليه في
مختصر الحج (2). والقول الثاني - أن التمتع أفضل. نص عليه في اختلاف
الأحاديث (3).
2498 - توجيه القولين: من قال التمتع أفضل، احتج بأن النبي صلى الله
عليه وسلم، قال، لطوائف من أصحابه، عامَ الوداع: " لو استقبلت من أمري
ما استدبرت، ما سقت الهديَ، ولجعلتها عمرة " (4)؛ فدل أن تقديم العمرة
أفضل.
وشهد له تمنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال رسول الله صلى
الله عليه
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 53.
(2) ر. الأم: 2/ 173.
(3) هذا النص في آخر باب كتاب اختلاف الحديث (باب المختلفات التي عليها
دلالة- بهامش الأم: 7/ 404).
(4) حديث: " لو استقبلت من أمري " متفق عليه من حديث جابر (ر. البخاري:
الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، ح 1785، مسلم: الحج،
باب بيان وجوه الإحرام، ح 1216).
(4/190)
وسلم ذلك لما نزل عليه القضاء (1) وهو بين
الصفا والمروة، أن كل من معه هدي، فليحج (2)، ومن لا هدي معه، فليطف،
وليسع، ثم [ليحل] (3).
وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحةَ رضي الله عنه الهديُ،
ولم يكن مع غيرهما، فلما خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً،
حيث أمرهم بالعمرة ليتمتعوا، وأقام على حجه، قال (4) ما قال، وكانوا
يعتقدون من قبلُ أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأكبر
الكبائر، فشق عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً،
معناه على قرب عهدنا بالجماع، ويمكن أن يكون ما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم تمهيداً لعذرهم، وتسكيناً لقلوبهم (5).
2499 - ثم عندنا من ساق الهديَ، ومن لم يسق سواءٌ في الجهات الثلاث،
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -على هذا- محمولٌ على أني " سقتُ
الهديَ لأتطوَّع "، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع، لصار ما ساقه
كفارة، ويخرج عن كونه هدياً، متطوَّعاً به، فلم يُرد النبي صلى الله
عليه وسلم أن يُبطل قصده في تحقيق التطوع.
__________
(1) يشير إلى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم مطلقاً: أي لم
يعين حجاً، ولا عمرة، ينتظر القضاء من السماء، فنزل عليه جبريل،
والخلاف فيما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف مشهور: قيل:
أهل بالحج، ولما دخل مكة بعد الطواف والسعي، فسخه إلى العمرة، وقيل: بل
أهل بحج، وعمرة، وقيل أهلّ مطلقاً ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو
فيما بين الصفا والمروة.
وحديث الإحرام مطلقاً، رواه الشافعي مرسلاً عن طاووس، وكذا البيهقي،
ورُوي أيضاً عن جابر، وعن ابن عمر، وعائشة، رواها الشافعي، وحديث جابر،
وعائشة عند مسلم (ر. مختصر المزني: 2/ 54، ومسلم: الحج، باب 17 (بيان
وجوه الإحرام ... ) ح 129، باب 19 (حجة النبي صلى الله عليه وسلم) ح
147، وراجع الدرّة المضية مسألة: 191، وراجع المجموع للنووي: 7/ 166
خاصة. والفصل كله).
(2) في (ط): فليجمع.
(3) في الأصل، ك: ليحج، وفي (ط): ليحجج. والمثبت من لفظ الحديث.
(4) جواب لما.
(5) (ط): لقولهم.
(4/191)
وأبو حنيفة (1) يجعل (2) سوق الهدي إحراماً
بالحج، ويتمسك (3) بالحديث.
2500 - ومن قال الإفراد أفضل، تعلق بما صح عند الشافعي، من إفراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحج، في روايةٍ عن جابر، وحمل ما قدمناه من
إظهار التمني، على تمهيد معاذير الصحابة، رضي الله عنهم. والمعنى: إني
لو لم أسق، لآثرت موافقتَكم على الإفراد؛ فإن الموافقة أجلب للقلوب،
وهي أولى من تحصيل فضيلةٍ، ولهذا يؤثر للمتطوع بالصوم، أن يفطر لمن
يبغي منه أن يفطر.
فهذا بيان القولين.
وقد أجمع أصحابنا قاطبة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان
مفرداً عام الوداع، وقال ابن سُريج: إنه كان متمتعاًً. وهذا مما انفرد
به ابن سُريج، فإن من نصر تفضيل التمتع، سلّم وقوعَ الإفراد من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وتعلّق بتمنيه، كما روينا.
فهذا ما أردناه في تفضيل الجهات، بعضها على بعض.
وفي بعض التصانيف أن الإفراد مقدَّمٌ على التمتعِ والقران، قولاً
واحداً، وإنما اختلف القولُ في أن التمتعَ أفضلُ من القِران، أم
القِرانُ أفضلُ من التمتع؟ فعلى قولين. وهذا -إن لم يكن سقطةً من
ناسخٍ- غيرُ سديد. وإنما المسلك المشهور في التفضيل ما قدمناه.
2501 - ومما يجب التفطنُ له أن الشافعي اعتمد فيما كان من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، روايةَ جابر بن عبد الله، قال: إنه أحسن الرواة
سياقة للحديث، وفي روايته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم
الإحرام أولاً، ينتظر الوحي، فنزل عليه جبريل: أن اجعله حَجة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 161، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 79 مسألة:
561، حاشية ابن عابدين: 2/ 160، البحر الرائق: 3/ 347.
(2) (ط): بجعل.
(3) (ط): يتمسك.
(4/192)
فقال بعض أئمة العراق: الأفضل أن يُبهم
الرجلُ إحرامه تأسِّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا وَحيَ
بعده، ولكن كل إنسان يتفكر بعد إحرامه، ويعلم ما هو الأرفق به والأوفق
له، فإن لم يمنع مانعٌ من الإفراد، ابتدره ورآه أفضلَ من غيره.
وهذا عندي هفوةٌ ظاهرةٌ؛ فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم،
محمولٌ
على انتظاره الوحي قطعاً، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة.
***
(4/193)
باب صوم التمتع
بالعمرة إلى الحج
2502 - على المتمتع دمُ شاةٍ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ثم الدمُ يبدله الصوم،
وهذه الكفارة مرتَّبة بدليل نص القران، والإجماع.
ونحن نبدأ بما يتعلق بالدم حتى إذا نجز، خضنا في بيان الصوم.
فنقول: إذا تحلل المتمتع من العمرة، وأحرم بالحج، فقد وجب عليه دمُ
شاةٍ، إن وجدها؛ فإن وجوبَ الدم منوطٌ في الكتاب بالتمتع بالعمرة إلى
الحج، وإنما يتحقق هذا إذا شرع في الحج، ثم إذا وجب الدمُ، فلا وقتَ له
على الخصوص، بعد الوجوب، فله أن يُريق الدمَ قبل العيد، قياساً على
سائر دماء الجبرانات.
وخالف أبو حنيفة (1) في ذلك، وقضى بأنه يتأقّت بأيام النحر، وبنى ذلك
على مذهبه، في أن دمَ التمتع دمُ نسك، فيتأقت بما يتأقت به القرابين
والهدايا.
فإن تحلَّلَ من العمرة، فاراد إراقة الدم، وتفرقةَ اللحم، قبل الشروع
في الحج، ففي إجزاء ذلك قولان ذكرهما الأئمة: أحد القولين - أنه يجزىء؛
فإن الكفارة متعلقةٌ بالعمرة والحج، وكل كفارة ماليةٍ نيطت بسببين،
فيجوز تقديمُها على السبب الثاني، إذا تقدم الأول، قياساً على كفارة
اليمين، فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحِنث.
والقول الثاني - لا يجزىء، بخلاف كفارة اليمين؛ فإن تلك الكفارة
منسوبةٌ في لسان الشرع إلى اليمين، والدم الذي نتكلم فيه ليس متعلقاً
بالعمرة، وإنما تعلّقه
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 223 مسألة: 694، رؤوس المسائل: 256
مسألة: 147، البحر: 2/ 386، حاشية ابن عابدين: 1/ 250.
(4/194)
بالتمتع من العمرة إلى الحج، [و] (1) هذه
خصلة واحدةٌ، لا انقسام فيها، ولا حصول لها، إلا بالشروع في الحج.
التفريع على القولين:
2503 - إن قلنا: لا يجوز تقديم الإراقة على الشروع في الحج، (2 فلا
كلام.
وإن قلنا: يجوز التقديم على الشروع في الحج 2)، فلو لابس العمرةَ،
وأراد الإراقةَ قبل التحلل منها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا
يجوز؛ فإن العمرة على القول الذي نفرع عليه أحدُ السببين، فينبغي أن
يتم، ثم يقع التقديمُ على السبب الثاني، بعد تمام الأول. والدليل عليه:
أن من وكل وكيلاً حتى يعتق عن كفارة يمينه عبداً، ورسم له أن يعتقه إذا
اشتغل هو بلفظ [اليمين] (3) فإذا ابتدأ الموكِّل الحلف، فأعتق الوكيل
العبدَ، قبل أن يتم لفظ الحلف، فالعتق لا يقع الموقعَ، وِفاقاً، فكذلك
يجب أن تكون ملابسة العمرة، بهذه المثابة.
والوجه الثاني - أن إراقة الدم مجزئةٌ، في خلال العمرة، والفرق أن
انعقاد العمرة حكمٌ واقعٌ، وأمرٌ شرعيٌّ ثابتٌ، والإتيان ببعض لفظ
اليمين ليس [بشيء] (4)، فإذا خاض في العمرة، فقد تحقق السببُ، ولا نظر
إلى الأعداد (5)، فإن الإنسان قد يحنث بأفعالٍ جمّة، ويجوز تقديم
الكفارة على جميعها، بعد ثبوت اليمين.
هذا قولينا في دم التمتع.
وقد مهدنا في المذهب أنه دمُ جبران، فينبني عليه أنه يحرم على المتمتع
الأكل منه كما يحرم، الأكل من سائر دماء الجبرانات.
__________
(1) مزيدة من (ط)، (ك).
(2) ساقط ما بين القوسين من (ك).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: كشيء.
(5) أي أعداد الأسباب، كما يفهم مما بعده.
(4/195)
2504 - وقد حان الآن أن نتكلم في بدل الدم،
وهو الصوم؛ فنقول: الصوم في بدل التمتع مقدّم في نص القرآن، قال الله
تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
والكلام في الصوم يتعلق في التقسيم الأول، بذكر الأيام الثلاثة، ثم
نتكلم بعدها في الأيام السبعة، ثم ننظر فيما يقتضيه نظمُ الكلام:
فأمّا الأيام الثلاثة، فإن حقها أن تقع في الحج، كما قال الله تعالى:
{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الإمام وغيره: لا يجوز تقديمُ هذه الأيام على الشروع في الحج؛
[فإنها عبادة بدنية، وهي لا تجب قبل الشروع في الحج] (1) والعبادات
البدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. ونحن لما جوزنا تقديمَ كفارة
اليمين، إذا كانت بالمال على الحنْث، لم نجوّز تقديم الصيام على
الحنْث، والمعنى في ذلك ظاهر.
والعجب أن أبا حنيفة (2) جوز للمتمتع أن يصوم الأيامَ الثلاثة، قبل
الشروع في الحج، والدمُ لا يقدمه على الحج، فإنه هدي، والهدي يتقيد
بيوم النحر، وأيامِ التشريق.
والحج يتقدم لا محالةَ عقدُه على يوم العيد، ثم إذا شرع في الحج، دخلَ
وقتُ صيام الثلاثة، ولو طالت مدة إحرامه [المتقدمة] (3) على يوم عرفة،
فليصم الثلاثةَ متى شاء، وليقدّمها على العيد، والأوْلى أن يقدمها على
عرفة؛ فإن صومه، وإن كان صحيحاً من الحاج، فالأوْلى فيه الفطر، كما مضى
ذكره، في كتاب الصيام.
ثم قال الأئمة: إذا اتسع الوقت قبل العيد، فهو بالخيار: إن شاء صام
الأيامَ الثلاثة متتابعة، وإن شاء، صامها متفرقةً، فالتتابع غيرُ
مشروطٍ فيها.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. البدائع: 2/ 173، البحر الرائق: 2/ 391، حاشية ابن عابدين: 2/
196.
(3) ساقطة من الأصل.
(4/196)
2505 - ولو لم يتفق صومُ الثلاثة قبل
العيد، فالذي نص عليه في الجديد أن أيام التشريق لا تقبلُ الصيام
أصلاً، كيوم العيد، ونص في القديم على أن المتمتع إذا لم يصم قبل
النحر، فله أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة، في أيام التشريق.
ثم إذا جوزنا له ذلك، تفريعاً على القديم، فلو أراد غيرُ المتمتع أن
يصوم أيامَ التشريق، فهل يصح صومُه، فعلى وجهين - أحدهما - يصح، فإنها
إذا قَبِلت صوماً على الاختيار، قبلت كلّ صومٍ. والثاني - أن قبولها
يختص بصوم المتمتع رخصةً له، وفُسحة، ثم إذا لم يتفق صومُ الثلاثة في
الحج، ولا في أيام التشريق، على القديم.
وبقي على الحاج طوافُ الزيارة، فإنه من جهة الآخر لا يتأقت، فهو في
بقية الحج لا محالة، وكيف لا؟ وقد بقي عليه ركنٌ من الحج.
ثم قال الصيدلاني: لو أراد أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة بعد أيام
التشريق، وقبل طواف الزيارة، فالذي يأتي به لا يكون أداء، بل يكون
قضاء، إن قلنا: الصيامُ في الثلاثة مقضيٌّ، وهو ظاهر المذهب (1)، كما
سيأتي الآن شرحُه.
فإن قيل: من عليه الطوافُ في الحج بعدُ، فهلا قلنا: صوم الثلاثة مؤدّى،
ما دام عليه طوافُ الزيارة؟ قلنا: الحج المذكور في قوله تعالى
{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، [هو الحج التام] (2)
والأيام الثلاثة واقعةٌ في صلبه. هذا ما ذكره الصيدلاني، وعلى هذا
القياس إذا قلنا: للمتمتع أن يصوم أيام التشريق على القديم، فالصوم
مؤدَّى، وإن وقع بعد التحللين؛ فإن المفهومَ من القرآن تقييد صوم
الثلاثة، بأيام الحج (3)، وهي مضبوطةٌ، وأيام التشريق ملحقةٌ بأيام
الحج، على بُعد (4).
فأما النظر إلى البقاء في الإحرام. لامتداد زمان طواف الزيارة، فليس
مرادَ الكتاب؛ فإن تأخير الطواف عن أيام التشريق يبعد وقوعه، فليفهم
الناظر حقيقةَ ذلك؛
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) ساقط من الأصل.
(3) أيام الحج سبق تحديدها، وأنها تنتهي بنهاية التاسع من ذي الحجة على
قولٍ، ويدخل فيها ليلة العاشر على قولٍ. وأما أيام التشريق فليست منها،
وإنما هي ملحقة بها -على بُعدٍ- كما قال.
(4) (ك): على بعدٍ ما.
(4/197)
فإني لم أقله رأياً واستنباطاً، وإنما
نقلته من فحوى كلام الأئمة.
والذي يوضح ذلك أن الشافعي لما نص في القديم على تخصيص المتمتع بصيام
أيام التشريق، عد ذلك رُخصةً في حقه، ولو كان الصيام مقضياً، لما كان
لذلك معنَى؛ فإن أيام القضاء لا نهاية لها.
هذا تمام ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، المقيدة في نص القرآن
بالحج.
2506 - فأما صومُ الأيام السبعة، فإنه مقيد في القرآن بالرجوع، قال عز
من قائل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. وقد اختلف
العلماء في معنى الرجوع، ونحن نذكر ما جرى من تلك المذاهب: قولاً لصاحب
المذهب، أو وجهاً لبعض أئمة المذهب.
قال الشافعي في قولٍ: " الرجوع هو الفراغ من الحج ". وقال في قولٍ: "
الرجوع هو الرجوع إلى الوطن "، وفي بعض التصانيف قول ثالث: " إنه
الرجوع إلى مكة "، وهذا لا أصل له في مذهب الشافعي. وهو قولُ بعض
السلف.
فإن قلنا: الرجوعُ معناه الفراغ من الحج، فلا شك أنه لو أوقع صيامَ
السبعة مع الثلاثة في صلب الحج، في اتساع المدة، لم يُعتد بالسبعة؛
فإنها مقدَّمةٌ على وقتها، ولا يجوز تقديمُ العبادة البدنية على وقتها.
وكان يقول شيخي: إذا قلنا: أيامُ التشريق تقبلُ كلّ صوم، فلو أوقع فيها
ثلاثةَ أيامٍ من السبعة، والتفريع على أن الرجوع هو الفراغ، فلا يجزئه
صومُه؛ فإن العاكفَ بمنى، وإن لم يكن في حج، فهو في أشغال الحج. ولذلك
لا يصح منه الإحرام بالعمرة، مادام عاكفاً على مناسك مِنى.
وإذا قلنا: الرجوع معناه الوصول إلى الوطن، فلو فرغ من الحج، واستقبل
صوبَ الوطن، فأراد أن يصومَ الأيامَ السبعة، في طريقه، فقد ذكر
الصيدلاني وجهين في ذلك: أحدهما - أنه لا يجزئه؛ فإن صيام السبعة
مقيَّدٌ بالرجوع مؤَقَّتٌ به.
والثاني - يجوز؛ فإن إمهاله الوصولَ إلى الوطن رخصةٌ، والتأقيتُ
الحقيقي بالفراغ من الحج.
وهذا الوجه عندي هو بعينه تفسير الرجوع بالفراغ، ولكن يرجع الخلاف إلى
(4/198)
تفسير القرآن، ولا خلاف في حقيقة المطلب
والمذهب من جهة الفقه.
فإذا ثبت ما أردناه في أداء (1) صيام الأيام الثلاثة، وفي [أداء] (2)
صيام الأيام السبعة.
فنتكلم بعد هذا في فوات صيام الأيام الثلاثة، بانقضاء الحج، خالياً
عنه، ثم نرتب عليه ما ينبغي.
2507 - فنقول: إذا لم يصم المتمتع الأيامَ الثلاثةَ، حتى انقضى الحج،
فقد قال أبو حنيفة (3)، فات صيامُ الثلاثة، ولا تقضى.
وظاهر مذهب الشافعي أنه [تُقْضَى] (4) قياساً على كل صوم مؤقت [بوقتٍ]
(5) يفوت.
ونسب صاحبُ التقريب -في تصرفاتٍ حكاها عن ابن سُرَيج- قولاً إلى
الشافعي، مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يقضي الصوم في الأيام
الثلاثة، ووجهه على بعده أنه في حكم رخصةٍ عُلِّقت بالسفر، وحقه في
السفر، فإذا فاتت، لم تُقض. وهذا في نهاية البعد، وهو غيرُ معدودٍ من
المذهب.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن الحاج المتمتع لو مات في الحج، بعد التمكن
من الصيام، ونحن نقول: الصيامُ بعد الفراغ من الحج مقضي، فإذا تَقدَّر
الموتُ في الحج، فللشافعي قولان حكاهما طوائف من الأئمة: أحد القولين -
أن الصوم يسقط، لا إلى بدل. والثاني - أنه لا يسقط.
التوجيهُ: من قال لا يسقط، احتج بأن الصوم قد وجب، بالشروع في الحج،
فلا يصقط من غير تقدير بدلٍ.
__________
(1) ساقطة مَن (ط).
(2) في الأصل: فوات الأيام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 66، بدائع الصنائع: 2/ 173، حاشية ابن عابدين:
2/ 193، الاختيار: 2/ 158، البحر الرائق: 2/ 388.
(4) في الأصل، (ك): مقضي.
(5) ساقطة من الأصل.
(4/199)
ومن قال: إنه يسقط، احتج بأن قال: هو
كفارةٌ في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على
رفاهيةٍ، وربْحِ سفرٍ، فإذا مات، لم يتحقق ذلك.