الفتاوى
الكبرى الفقهية على مذهب الإمام الشافعي ج / 1 ص -13-
"كتاب الطهارة".
"سئل" رضي
الله عنه عما لو كان مع الشخص إداوة أو كوز فيه ماء فأراد أن يتوضأ,
فلقي فيه قليل نجاسة يابسة مثل الحمصة فهل ينجس الماء إذا كان من بعر
الغنم أو غيره؟ وهل إذا مست الأجنبية وضوءه هل يبطل الوضوء به؟ وما
السبب لذلك؟ وهل إذا جاءت الريح بشيء فألقته في الإناء الذي فيه ماء
قليل ما الحكم في ذلك؟ وهل إذا كان الإناء فيه أثر لبن ولم يمتزج
بالماء فتوضأ أجزأه أم لا؟
"فأجاب" -
نفع الله بعلومه - إذا كان الماء دون القلتين ينجس بمجرد ملاقاة
النجاسة وإن قلت سواء كانت من بعر الغنم أو غيره, ويجوز الوضوء مما
مسته الأجنبية ومما ألقت الريح فيه ترابا ومما فيه أثر لبن إذا لم
يتغير الماء به تغيرا كثيرا والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عن مسألة اختلف في الجواب عنها جماعة صورتها شخص تنجس ثوبه
فأعطاه فاسقا, وأمره بتطهيره من تلك النجاسة فغاب عنه الفاسق بالثوب ثم
جاء به وعليه أثر الغسل وأخبر أنه طهره فهل يقبل قوله في طهارة الثوب
المذكور أم لا؟.
أجاب الأول فقال:
لا يقبل قوله في طهارته لأمور أحدها: أن الأئمة رضي الله عنهم قالوا
بعدم قبول قوله في نجاسة الإناء وقياسه عدم قبول قوله في طهارة الثوب.
الأمر الثاني: أن الشيخ جمال الدين الإسنوي رحمه الله ذكر في شرح
المنهاج بحثا: أن قول الفاسق في تغسيل الميت لا يقبل ونقله الشيخ شهاب
الدين الأذرعي في كتابه المسمى بالتوسط عن بعض الأئمة من غير مخالفة
له, وهو كالصريح في عدم قبول قوله في تطهير الثوب. الأمر الثالث: أن
الفاسق لو أخبر من جهل القبلة أنه رأى الكعبة في هذه الناحية وهو على
جبل أو بناء عال أنه لا يقبل قوله على المذهب في شرح المهذب وغيره,
وطهارة الثوب شرط من شروط الصلاة كاستقبال القبلة وقياسه عدم قبوله
قوله في طهارة الثوب انتهى جواب الأول, وأجاب الثاني فقال: الأظهر أنه
يقبل قوله في طهارة الثوب لأمور أيضا أحدها: أن قبول قوله في طهارة
الثوب هو الأفسح للناس الأمر الثاني: أن الشيخ محيي الدين النووي نقل
في زوائد الروضة عن الإمام المتولي, وفي شرح المهذب نقل عنه وعن غيره
من الأئمة من غير مخالفة له أن الفاسق يقبل قوله في ذكاة الحيوان وعلله
بأنه من أهل الذكاة, ونقله أيضا جماعة من المتأخرين منهم الإمام نجم
الدين بن الرفعة - رحمه الله -.
ج / 1 ص -14-
وهو بعمومه كالصريح في قبول قوله في تطهير
الثوب إذ لو لم يقبل قوله في تطهير الثوب لما قبل في ذكاة الحيوان
المأكول لحمه؛ لأن تذكيته سبب لطهارته بعد موته. كما أن إيراده على
الثوب المتنجس, وإزالة عين النجاسة سبب لطهارة الثوب ولأن الفاسق من
أهل الطهارة للثوب كما أنه من أهل الذكاة الأمر الثالث: أن الفاسق لو
أخبر بعدم الماء جاز التيمم الأمر الرابع: أن النووي أيضا نقل في شرح
المهذب عن الجمهور: أن إخبار الصبي يقبل فيما طريقه المشاهدة فالفاسق
مثله الأمر الخامس: أن القدوة بالفاسق صحيحة اعتمادا على إخباره عن
طهارة الحدث والخبث, ولا يشترط مشاهدتنا لطهارته وقد قال الشافعي رضي
الله تعالى عنه: صلى ابن عمر خلف الحجاج وكفى به فاسقا, ومعلوم أن ابن
عمر وغيره من الجم الغفير لم يشاهدوا طهارة الحجاج مع تحققهم أنه كان
يبول ويتغوط فاقتضى مقام التوسيع والتسهيل على الأمة اعتماده في ذلك,
ومعلوم أن التضييق لا يتلقى من التوسيع فقد يمنع أيضا إلحاق قوله: بلت
في الإناء بقوله: ذبحت الشاة, وإن كان من فعله لمعارضته لأصل الطهارة
الذي راعوا فيه التوسيع. الأمر السادس: أن في اشتراط عدالة المأمور
بطهارة الثوب مشقة والمشقة تجلب التيسير لما في البحث عن عدالة المطهر
من المشقة, ولما يشهد له من منقول المذهب الأمر السابع: أنه يعتبر
اعتماد خبر الفاسق عن حاجته وتوقانه إلى النكاح حتى يجب إعفافه الأمر
الثامن: أن قياس الأول لإخباره بالتطهير على إخباره بنجاسة الإناء
ممنوع بتضمن المقيس عليه فيما إذا أخبر بنجاسة الإناء للتوسيع على
الأمة في التمسك بأصل الطهارة لقوته بحيث لا يقاومه خبر الفاسق فلا
يتلقى منه التضييق بالمنع من رد الثوب إلى أصل الطهارة بخبر الفاسق عن
تطهيره له حيث أمكن, وقد اكتفوا بإمكان طهر فم الهرة المعلوم نجاسته
حيث غابت فلم يحكموا بنجاسة قليل ولغت فيه بعد ذلك عملا بأصل طهارة
الماء مع أن الأصل استمرار نجاسة فمها كما أن الأصل عدم إزالة الفاسق
للنجاسة ولو عولوا على هذا الأصل ولم يكتفوا بخبره لما صححوا القدوة
بالفاسق إلا بشرط مشاهدة طهارته كما سبق. الأمر التاسع: أن النووي أيضا
قال في شرح المهذب: قال أصحابنا: يقبل قول الفاسق والكافر في الإذن في
دخول الدار وحمل الهدية كما يقبل قول الصبي فيهما قال: ولا أعلم في هذا
خلافا, ودليله الأحاديث الصحيحة أن النبي قبل هدايا الكفار المحمولة
على أيدي بعضهم إليه ا هـ. فإذا رجع إلى إخبار الكافر والفاسق بذلك
لإفادته في الجملة ظنا به, فكيف لا يرجع بإخبار الفاسق عما هو أهل له
إلى أصل الطهارة في مسألتنا, وما صرحوا به من صحة توكيل مسلم لكافر
وفاسق وصحة معاملتهما على ما بأيديهما ظاهر في الرجوع إليهما في ذلك
والتعويل على قولهما أتينا بالتصرف المأذون فيه في ذلك الأمر العاشر:
أن الإمام بدر الدين الزركشي ذكر في كتابه الخادم في الكلام على إخبار
الفاسق بنجاسة الماء أنه يستثنى ما لو أخبر الفاسق عن فعله كقوله: بلت
في هذا الإناء فقد ذكروا فيما لو وجدت شاة مذبوحة فقال كتابي أنا.
ج / 1 ص -15-
ذبحتها تحل ا هـ. فأنيط قبول خبره بالتنجيس
الناشئ عن فعله من قبول خبر الكافر بمقتضى الحل والطهارة الناشئين عن
فعله: فالفاسق أولى فانظر إلى السلف فإنهم كانوا يأكلون من ذبائح أهل
الكتاب مع احتمال عدم إتيانهم بالشرط في الذكاة؛ ولم يمتنع أحد منهم عن
أكلها لعدم مشاهدته لذبحها منهم بل عولوا عليهم في ذلك لأهليتهم له
رجوعا إلى أصل الإباحة الأمر الحادي عشر أن ما نقله في الجواب الأول عن
التوسط للإمام الأذرعي لم أره فيه بل تضمن كلامه أنه لم ير التصريح به
فإنه قرر أن المراد من عبارة أصل الروضة استحباب كون غاسل الميت أمينا
كما قاله الشيخ أبو حامد وكثيرون فإن صح عنه ما ذكر حمل على أنه إذا
أخبر بأن الميت غسل فلو أخبر أنه غسله قبل قوله. وقد صرح الكمال
الدميري في شرح المنهاج "بأن الفاسق إذا غسل الميت وقع الموقع" وقال في
المنهاج: "وليكن الغاسل أمينا" قال الإمام الأذرعي فأشعر بالوجوب ووجه
بأن غيره لا يوثق به, ولا يقبل خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذا منها ا
هـ. كلام الأذرعي. قال بعض المتأخرين: وقد يدعى أن سكوتهم عن عدها
للعلم بصحة غسله فهو أهل له ولدخوله في عموم قولهم بصحة استئجار من
يغسل الميت.
فأغنى ذلك مع ذكرهم لقبول خبره في الذبائح عن ذكرها ا هـ. الأمر الثاني
عشر: أن الإمام الشافعي قال لو مر مجتازون بميت في صحراء لزمهم القيام
به؛ فإن تركوه أثموا فإن كان ليس عليه أثر غسل ولا تكفين وجب عليهم
غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه, وإن كان عليه أثر الغسل والكفن
والحنوط دفنوه وإطلاق هذا النص يقتضي أنه لا فرق بين أن يتبين أن الذي
غسله كان فاسقا أم لا فإذا اكتفينا بوجود أثر الغسل والتكفين والحنوط
مع أن تقديم إزالة النجاسة التي على قبل الميت ودبره شرط لصحة الغسل
على الراجح كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن الأصحاب,
فقبول قوله في تطهير الثوب مع وجود أثر الغسل عليه أولى. الأمر الثالث
عشر: أن الشيخ نور الدين السمهودي حكى عن شيخه شرف الدين يحيى المناوي
أنه حكى عن شيخه أبي زرعة ولي الدين العراقي "رحمه الله تعالى" أنه إذا
تنجس له ثوب يأمر فتاه بتطهيره ولا ينظر إليه حالة التطهير فإذا أخبره
أنه طهره لبسه وحال الفتيان لا يخفى والله أعلم. وأجاب الثالث فقال:
الأقرب أنه إن أخبر بأن الثوب طهر لم يقبل قوله وإن أخبره أنه طهره قبل
قوله؛ لأنه إخبار عن فعل نفسه كقوله: بلت في هذا الإناء أو أنا متطهر
أو محدث وكمسألة ما إذا أخبر بأن الميت غسل فلو أخبر بأنه غسله قبل
قوله وكمسألة المتولي المذكورة وهذا مستثنى من أصل عدم قبول قول الفاسق
والله أعلم. فظهر لنا من جواب الثاني والثالث قبول قول الفاسق في تطهير
الثوب. فهل جوابكم كذلك؟ فقد ذكر الشيخ شرف الدين المناوي أن الفاسق
يقبل قوله في مسائل لا تخفى على الفقيه المطلع على كتب الأئمة وفتاويهم
فلعل مسألتنا أن تكون من هذا القبيل أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف
أثابكم الله الجنة. "فأجاب"
- نفع الله بعلومه - المعتمد من هذه الأجوبة وهو الثالث.
ج / 1 ص -16-
ومن ثم جريت على التفصيل في شرح العباب
وعبارتي من شرح العباب "وخرج بعدل الرواية الصبي" ولو مراهقا نعم تصح
رواية الصبي بعد بلوغه كل ما سمعه في صباه على الصحيح فعليه لو أخبر
بعد بلوغه عما شاهده في صباه من تنجس إناء أو ثوب أو نحوهما قبل, ووجب
العمل بمقتضاه في الزمن الماضي أيضا وأما الفاسق والكافر والمجهول فلا
تقبل أخبارهم وإن كان الأولى - كما قاله جمع - الاحتياط باجتناب ما
أخبر المميز بتنجسه سيما إن جرب بالصدق وينبغي أن يلحق به في نحو ذلك
نحو فاسق جرب صدقه لأن خبرهم يورث شبهة من أخبر منهم عن فعل نفسه
كقوله: بلت في هذا الإناء قبل كما قاله جمع قياسا على ما لو قال: أنا
متطهر أو محدث وكما يخبر الذمي عن شاته أنه ذكاها وكإخباره عن فعله
بالأولى إخباره المتواتر إذ القبول حينئذ من حيث إفادته العلم لا من
حيث الإخبار وبما تقرر يعلم أن قول نحو الفاسق ممن ذكر: طهرت الثوب
مقبول لأنه أخبر عن فعل نفسه بخلاف قوله طهر وبه أفتى المناوي وغيره بل
صدر كلامه صريح في اعتماد قوله مطلقا, وفرق بينه وبين إخباره بالنجاسة
بأن ذلك فيه خروج عن الأصل وهو الطهارة وبالمشقة لكثرة الاحتياج إلى
الغسالين مع فسقهم وحيث قبل إخباره بالطهارة بأن يقول: طهرته فالظاهر
أنه لا بد من معرفته مدلولها عند المخبر بخلاف قوله: غمسته في الماء
وهو مما يطهر بالغمس. وقول الأذرعي: لا يقبل قوله في تغسيل الميت بحث
من عنده استدل له بأنه لا يقبل خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذه منها
وهو مردود لأنهم إنما سكتوا عن عدها لكونها في معنى ما ذكروه ومن قبول
خبره عن فعل نفسه, فينبغي حمل كلامه على ما إذا أخبر بأنه غسل وطهر
بخلاف قوله: غسلته أو طهرته. وفي المجموع عن الجمهور في الأذان "يقبل
قول الصبي فيما طريقه المشاهدة كالغروب لا النقل كالإفتاء والتدريس
والمعتمد" بل قال الإسنوي: "الصواب ما فيه في موضع آخر" وفي غيره عن
عدم قبول خبره مطلقا إلا فيما رأى وفي نحو قوله في هدية ودخول دار
وإجابة صاحب وليمة ا هـ. كلام شرح العباب, وبه يعلم أن المعتمد التفصيل
الذي ذكره المجيب الثالث على أن الثاني أشار إليه في الأمر العاشر
والحادي عشر وغيرهما لكن في كلامه نظر من وجوه كثيرة لا بأس بالإشارة
لبعضها: منها قوله هو الأفسح للناس كأنه أخذه مما مر عن المناوي والوجه
خلافه وأنه لا يقبل إلا إن قال: طهرته إذ الأفسح للناس إنما هو القبول
حينئذ لا مطلقا ومنها ما نقله عن الروضة وشرح المهذب في قبوله في
الذكاة, وإطلاقه مردود لأن كلامهم إنما هو فيما إذا أخبر عن فعل نفسه
بأن قال: ذكيتها كما قدمته في عبارة شرح العباب ومنها قوله: لو أخبر
الفاسق بعدم الماء جاز التيمم وهو باطل بل يلزمه الطلب وإن ظن عدم
الماء, وخبر الفاسق لا يصل لظن العدم إلا إن وقع في القلب صدقه ومع ذلك
لا يقبل هنا لما علمت من تصريحهم بوجوب الطلب, وإن ظن العدم ومنها ما
ذكره في الرابع عن المجموع وقد قدمت أنه ضعيف ومنها ما قاله في الأمر
الخامس وهو إخباره عن فعل نفسه فلا حجة له.
ج / 1 ص -17-
فيه بل الحجة فيه لنا ومنها: قوله ومعلوم
أن التوسيع..إلخ وهو كلام كما تراه على أنه يعود بالبطلان على ما قاله
أولا من قبول قوله في الطهر قياسا على قبول قوله في الذكاة ومنها: ما
ذكره في الأمر السادس وهو عين ما ذكره في الأمر السابع وهو إخباره عن
فعل نفسه فلا حجة له فيه بل الحجة فيه لنا أيضا ومنها: ما ذكره في
الثامن من رد قياس الأول ولم يصب كل منهما بل إن أخبر عن فعل نفسه قبل
في الطهارة والنجاسة وإن أخبر لا عن فعل نفسه لم يقبل فيهما وفرق
الثاني بينهما مجرد خيال لا أثر له وإنما اكتفوا بإمكان طهر فم الهرة
في عدم تنجس ما ولغت فيه؛ لأنه تيقن الطهارة فلا ينجس بالشك وإن حكمنا
ببقاء نجاسة فم الهرة بالاستحباب وهو أضعف من اليقين فالحاصل أن هذين
الأمرين تعارضا نجاسة فمها بالاستصحاب, وطهارة الماء باليقين فحكمنا
بكل منهما بالنسبة لبقائه على حاله ولم نحكم بأن الأضعف وهو الاستحباب
ينجس الأقوى وهو تيقن الطهارة على أن قياس مسألة الهرة أن الثوب حيث
غاب عنا, وأمكن تطهيره لا ينجس ما وقع فيه مع الحكم ببقائه على نجاسته
فعلم أنه لا فرق بين فم الهرة والثوب في أن كلا منهما إن أمكن طهره في
الغيبة لم ينجس ما وقع فيه لا من حيث إخبار الفاسق بل لإمكان طهره ولو
بوقوعه في ماء كثير وإن لم يغب عنا فهو باق على نجاسته, وينجس ما وقع
فيه فاندفع ما ذكره من الاستدلال بمسألة الهرة. وقوله: ولو عولوا على
هذا الأصل..إلخ جوابه إنما صح الاقتداء بالفاسق لأنه يقبل إخباره عن
طهارته لما مر أنه إخبار عن فعل نفسه وهو مقبول كما مر. ومنها: ما ذكره
في الأمر التاسع ولا حجة له فيه لأنه مما استثني للحاجة وجريان
المسامحة فيه في سائر الأعصار بلا إنكار فلا يقاس به غيره مما ليس كذلك
ولا دليل له في صحة معاملته لأن يده قرينة شرعية على أن ما فيها ملك له
أو تحت ولايته, فاكتفينا في جواز معاملته بهذه القرينة الشرعية لا
بمجرد قوله فتأمله وما ذكره في العاشر والحادي عشر صريح فيما قلناه من
التفصيل ومنها قوله وإطلاق هذا النص يقتضي أنه لا فرق بين أن يتبين أن
الذي غسله كان فاسقا أم لا؟ كلام لا معنى له ولا حجة له فيه لأنه إذا
بان أن الذي غسله فاسق وقع الموقع بلا نزاع, ولا كلام فيه, وإنما
الكلام فيما لو قال الفاسق: هذا الميت غسل أو أنا غسلت هذا الميت فيقبل
في الثاني دون الأول دلالة لكلام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - على
واحد من هذين. وقوله: "مع أن تقديم إزالة النجاسة..إلخ" ضعيف والمعتمد
أن إزالتها بغسلة مستقلة ليست شرطا في الحي ولا في الميت وإنما سكت
النووي عن الاستدراك في باب الجنائز لأنه قدمه في باب الغسل فلم يحتج
إلى إعادته وقال بعضهم بل بينهما فرق وهو أن الميت يحتاط له أكثر ويرد
بأنا لا نسلم ذلك, بل الحي هو الذي يحتاط له في مثل هذا لمباشرته
للصلاة وغيرها فإذا اكتفوا فيه بغسلة واحدة مع ذلك وكونه مكلفا
بإزالتها فلا أقل أن يكون الميت مثله إن لم يكن أولى منه, وما ذكره عن
أبي زرعة صريح فيما قلناه لأن الفتى لم يخبره بأنه طهر بل بأنه طهره,
ونحن قائلون بقبول.
ج / 1 ص -18-
خبره حينئذ. وأما ما قاله الأول من جميع ما
استدل به فإنه لا يفيده الإطلاق الذي زعمه من عدم القبول لأن جميعه
إنما هو مفروض فيما ليس بإخبار عن فعل نفسه ونحن قائلون بعدم القبول
حينئذ فظهر بجميع ما قررناه أن الحق في هذه المسألة هو التفصيل, ويوجه
بأنه يبعد عادة كذبه عن فعل نفسه بخلاف إخباره عن فعل الغير فإنه لا
يبعد فيه ذلك فقبلنا الأول منه عملا بتلك القرينة التي أبعدت احتمال
كذبه فافهم ذلك فإنه مهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وسئل" أيضا
- رضي الله تعالى عنه - عما لو سقط في ماء قليل ميتة نحو ذباب, فصب شخص
هذا الماء وهي فيه في ماء آخر ولم يبلغ قلتين فهل هو مثل ما لو أوقع
ميتة في الماء أم لا؟ وعما لو خلط زبادا فيه شعرتان أو ثلاث بزباد فيه
مثل ذلك أو لا شيء فيه فهل ينجسان أم لا؟ "فأجاب"
- نفع الله تعالى به - بقوله أما الأولى: فالذي يتجه فيها أنه كما لو
أوقع ميتة في الماء فيتنجس الماءان, وأما الثانية: فبحث بعض المتأخرين
أن محل العفو عن قليل شعر غير المأكول ما لم يكن بفعله فعليه ينجس
الزبادان والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي
الله تعالى عنه عن الماء القليل الذي خالطه شيء مستغنى عنه فغير أحد
أوصافه الثلاثة فسلب الطهورية ثم زال التغير بنفسه فهل يعود طهورا
كالماء الكثير الذي ينجس بالمخالط المتغير أحد أوصافه الثلاثة إذا زال
التغير بنفسه أم لا يكون كذلك؟ "فأجاب"
بقوله الجواب عن هذه المسألة هو أن الذي يصرح به كلامهم عود الطهورية
وهذا ظاهر لا مرية فيه ومن ثم قلت في شرح الإرشاد: "وظاهر أنه لو تغير
بما مر ثم زال تغيره عادت طهوريته". ا هـ. ومما يوضح ذلك أنهم أناطوا
سلب الطهورية بوجود التغير بشرطه من غير أن يفرقوا في ذلك بين قليل
الماء وكثيره, فإذا زال ما به سلب الطهورية عادت لأن الحكم يدور مع
علته وجودا وعدما ما لم يخلفها شيء آخر, وهنا لم يخلف تلك العلة أعني:
التغير شيء آخر يقتضي سلب الطهورية والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي
الله تعالى عنه عما لو خاف شخص من استعمال الماء المشمس هل يحرم عليه
استعماله كما يحرم عليه استعمال المسخن عند خوف الضرر كما نبه عليه
المحب الطبري أو لا يحرم عليه ذلك؟ لأن العلماء اختلفوا في ثبوت
الكراهة في استعمال المشمس في البدن مع بقية الشروط التي ذكروها فقال
الشافعي رضي الله عنه بالكراهة. وقال الأئمة الثلاثة بعدمها كما نقله
عنهم المراغي في شرح الزبد. وقال النووي المختار عدم الكراهة وصححه في
تنقيحه, وقال في المجموع: "أنه الصواب" وقال فيه لو برد الماء هل تزول
الكراهة؟ فيه أوجه. ثالثها: إن قال طبيبان أنه يورث البرص كره وإلا فلا
ا هـ. قال السائل: فإن كان في التحريم نص عند خوف الضرر فبينوه لنا؟
وإن كان التحريم إنما كان بالقياس على ما ذكره المحب الطبري في المسخن
فأوضحوا ذلك؟ - جزاكم الله تعالى خيرا -.
ج / 1 ص -19-
فإن ما ذكره الطبري من التحريم في المشمس
مشكل علينا بقول الشافعي رضي الله عنه "أن المضطر. إذا خاف من الطعام
المحضر إليه أنه مسموم" جاز له تركه والانتقال إلى الميتة إذ مقتضاه
أنه يجوز له أكله ولا يجب عليه تركه. ونص الشافعي المذكور نقله النووي
في المجموع في كتاب الأطعمة ا هـ. وهو مشكل أيضا بقولهم في باب التيمم
أنه إذا خاف من استعمال الماء محذورا يبيح التيمم ومقتضاه: جواز
استعمال الماء أو ندبه, وإن خاف محذورا يبيح التيمم ولا نعلم أحدا صرح
بحرمة استعماله حينئذ بينوا لنا ذلك فالمقصود التفهم والانتفاع لا
الاعتراض على كلام العلماء بالاستشكال من غير إحاطة واطلاع كما يقع ذلك
لبعض النفوس الشريرة والطباع - آجركم الله وزادكم كمال الاطلاع -. "فأجاب"
- رضي الله تعالى عنه - بقوله: الجواب عن هذه المسألة يتوقف على مقدمة
وهي أن ابن عبد السلام قال لم لا؟ قالوا بتحريم استعمال المشمس لما فيه
من الضرر إذا شهد عدلان أنه يورث البرص وأجاب بأن الضرر لا يترتب عليه
إلا نادرا بخلاف استعمال المسموم ا هـ. قال الزركشي عقبه وفيما قاله
نظر بل يحصل أي الضرر لمن داوم عليه ولهذا قال المحب الطبري: متى خاف
الضرر حرما. كلام الزركشي فهو ناقل عن المحب الطبري التصريح بالتحريم,
ويوافقه قول بعض المتأخرين لو أخبره عدل بضرر المشمس وأنه يورث البرص
وجب عليه التيمم وهذا نص في التحريم أيضا, وكأنه أخذ ذلك من قول السبكي
متى شهد طبيبان أو طبيب واحد بأنه يوجب البرص تعين القول بالكراهة أو
التحريم ا هـ. ويؤيد التحريم قوله في الحلبيات: استعمال المريض الماء
مع ظن ترتب ضرر يخاف منه حرام ومع الشك أو غلبة السلامة جائز نعم هذا,
ولك أن تجمع بين القول بالكراهة الذي هو ظاهر كلام الأصحاب, والقول
بالتحريم الذي مر عن المحب الطبري ومن بعده بأنه لا تنافي بينهما لأن
العدلين أو العدل بناء على الاكتفاء به الذي يصرح به كلام المجموع
وغيره كما بينته في شرح العباب تارة يخبران بضرر المشمس من حيث هو
وتارة يخبران بضرره لإنسان بخصوصه لمقتض قام بمزاجه فالأول: هو محل
الكراهة لا الحرمة لأن ما ندر ترتب الضرر عليه لا يحرم. كما صرح به ابن
عبد السلام وجعل منه المشمس إذ هو من حيث هو لا بالنسبة لمزاج مخصوص لا
يترتب عليه الضرر إلا نادرا كما صرح به رئيس الأطباء ابن النفيس في شرح
التنبيه. والثاني: هو محل الحرمة ويؤيده تصريحهم بأنه لو أخبر طبيب
بضرر الماء لبرد أو مرض حرم استعماله ولا ينافي ما ذكرته في المجموع من
حكاية وجه أن المشمس لا يكره إلا إن قال طبيبان أنه يورث البرص؛ لأن
صاحب هذا الوجه لم يثبت عنده أن الماء المشمس يتولد عنه برص فاشترط
شهادة طبيبين في ثبوته له من حيث هو فهم لا يخالف غيره في الكراهة
حينئذ, وإنما تخالفهما قبل شهادتهما فهو ينفي الكراهة إن لم يثبت عنده
موجبها وغيره قبل شهادتهما لأن موجبها ثابت من غير شهادة كما بينته في
شرح العباب بما حاصله أنه جاء في الخبر الصحيح :
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولا شك أن.
ج / 1 ص -20-
استعماله مريب, وقد رد الزركشي وغيره دعوى
النووي أن الموافق للدليل عدم الكراهة بأنه صح عن عمر أنه كرهه. وقال:
إنه يورث البرص ولم ينقل عن أحد من الصحابة مخالفته؛ فكان إجماعا ثم
الظاهر أنه قال: توقيفا إذ لا مجال للاجتهاد فيه ويؤيده الخبر الضعيف
خلافا لمن زعم وضعه عن عائشة رضي الله عنها سخنت للنبي ماء في الشمس
فقال "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص", وقول النووي لم يثبت عن
الأطباء فيه شيء شهادة نفي وكفى في إثباته إخبار السيد عمر رضي الله
عنه عنه الذي هو أعرف بالطب من غيره, وقد تمسك به الشافعي من حيث إنه
خبر لا تقليد فهو وقول جمع آخرين لم يذهب أحد من الأطباء إلى أنه يورث
البرص يرد بذلك أيضا. قال الزركشي ولقد أحسن الإمام علاء الدين بن
النفيس في شرحه على التنبيه وبين هذا أي أنه لا يورث البرص لكن على
ندور وهو عمدة في ذلك لجلالته فيها. وقد سقت عبارته بتمامها في شرح
العباب وهي مشتملة على مسائل نفيسة فينبغي مراجعتها, وقوله عنه أنه
عمدة في ذلك لجلالته فيه هو كذلك كما شهدت به كتبه وتراجم الأئمة له
ومن ثم كان عمدة الأطباء بعده إلى زماننا بإجماع الفرق؛ فثبت بما ذكرته
ظهور مذهب الشافعي وأن الكراهة هي الحق الموافق للدليل. والمعنى وإن
كثر المتنازعون فيها لا تتوقف على شهادة أحد من الأطباء بعد إخبار عمر
رضي الله عنه, وبما جمعت به بين القول بالكراهة والقول بالحرمة يعلم أن
ما هنا من حرمة المشمس والمسخن عند إخبار طبيبين أو طبيب بناء على ما
مر من أنه يضر المستعمل بالنسبة لمقتض قام بمزاجه لا ينافي ما في
السؤال عن الشافعي رضي الله عنه في المضطر إذا خاف السم لأنه في مجرد
خوف لم يستند لعلامة تغلب على الظن الضرر وما هنا في خوف استند لعلامة
هي إخبار العدل أو معرفته نفسه بالطب يغلب على الظن الضرر فمن ثم جاز
تناول الطعام في مسألة المضطر وحرم استعمال المشمس والمسخن في مسألتنا
وقد صرح ابن عبد السلام بأن ما ظن ترتب الضرر عليه غالبا حرام؛ لأن
الشارع أقام الظن مقام العلم في أكثر الأحكام وما شك في ترتبه عليه
جائز كما مر عن السبكي في حلبياته وكذا يقال في السؤال عنهما في التيمم
لأنه مجرد خوف لا ظن معه كما مر التصريح به عن السبكي والله أعلم
بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه عما إذا انغمس جنب في ماء دون قلتين فنوى في حالة انغماسه
وارتفع حدثه ثم لو أحدث حدثا آخر كان له أن يرفعه بما انغمس فيه ولو
مسح جميع رأسه ثم ردد الماء لم يحصل التثليث لأن الماء صار مستعملا وإن
لم ينفصل عن الرأس وحينئذ فقد حصل للنفل مزية على الفرض ما الجواب عن
ذلك؟ فإنه في غاية الإشكال. "فأجاب"
رضي الله عنه بأنه لم يحصل للنفل مزية فيما ذكر لأن ذلك مبني على عدم
الحكم بالاستعمال على الماء في الأولى وهو ظاهر لبقاء صورة الاستعمال
كما قاله النووي وعلى الحكم عليه في الثانية, وهذا هو المشكل ومن ثم
استشكله كثير من المتأخرين وتكلف بعضهم الجواب.
ج / 1 ص -21-
عن ذلك بما فيه نظر, وقد بينت ذلك مع
الجواب الصحيح الذي لا غبار عليه في كتابي شرح مختصر الروض فاطلبه فإنه
مهم.
"وسئل" رضي
الله عنه بما صورته قال ابن النقيب في مختصر الكفاية "لو كانت النجاسة
في نحو أحد الكمين أو أحد طرفي العمامة واشتبه فهل يجتهد؟ فيه وجهان:
أصحهما لا. وعليهما يخرج ما لو أخبره شخص بوقوع النجاسة في أحدهما فهل
يجوز له قبول خبره؟ إن قلنا يجتهد جاز وإلا فلا" ا هـ. فما وجه التخريج
فإنه أشكل على كثير. "فأجاب"
- نفع الله تعالى به - بقوله الظاهر أن هذا التخريج طريقة لبعض الأصحاب
وإلا فكلام الأكثرين يقتضي قبول خبره مطلقا وهو الوجه الذي لا محيد عنه
لأنه حيث كان المخبر ثقة وبين النجاسة, أو كان موافقا للمخبر في باب
تنجيس الثياب ونحوها وجب قبول خبره. وإن قال له وقعت النجاسة في نحو
أحد الكمين من غير أن عرف عين المتنجس كان هذا الإيهام لا يقتضي طعنا
في الخبر لإفادة خبره تحقق نجاسة أحدهما وعند تحققهما يجب غسلهما على
الأصح ويجتهد على مقابله فنتج من ذلك أن الوجه قبول خبره سواء أقلنا
يجتهد أم لا ولك أن تقول قد يمكن توجيه تلك الطريقة المذكورة في السؤال
بأن الإيهام في الخبر يورث فيه ريبة لكنها ليست قوية فلم تقو على رده
مطلقا بل مع القول بعدم الاجتهاد لما يترتب على ذلك من مشقة وجوب
غسلهما بخلاف ما إذا قلنا بجواز الاجتهاد فإنه لا مشقة حينئذ فجاز
القبول ثم فرضه الخلاف في جواز القبول وعدمه به نظر إن أراد بالجواز
إباحة؛ لأنه لا وجه للقول بحرمة القبول على القول به بل هو غلط فاحش
فإن أراد به ما يشمل الوجوب كان له وجه وحينئذ يكون المراد بهل يجوز
قبول إلخ؟ هل يجب؟.
"وسئل" رضي
الله عنه عن امرأة على يدها أساور فتوضأت فجرى الماء على يدها فإذا وصل
للأساور فمنه ما يعلو فوقها ثم يسقط على يدها ومنه ما يجري تحتها ثم
يجري الجميع على باقي يدها بعد الأساور فهل يكفي جريانه مرة واحدة بهذه
الصفة؟ "فأجاب"
- نفع الله تعالى به - بقوله: قضية كلامهم أنه لا يصير مستعملا بذلك
وأنه يكفي جريانه مرة واحدة بهذه الصفة المذكورة.
"وسئل" رضي
الله عنه عن ثوب صبغ بنيل متنجس فهل يشترط خروجه صافيا؟ وحينئذ فما
الفرق بينه وبين ما إذا تنجس نحو تراب أو عجين فأورد عليه ماء وأوصله
لجميع أجزائه فإنه يطهر. "فأجاب"
- نفع الله تعالى به - بقوله: نعم يشترط المبالغة في الغسل بحيث تزول
أوصاف الصبغ ولا يبقى إلا ما عسر زواله من لون أو ريح؛ لاختلاط النجاسة
بأجزائه فما دام فيه شيء من أوصاف النيل المتنجس الذي أقمناه مقام
العين النجسة مع سهولة التمييز فالنجاسة باقية في الثوب كما يدل له
كلام الأنوار وصرح به الماوردي حيث قال بأن اللون عرض, والنجاسة لا
تخالط الأعراض وإنما تخالط العين فإذا زالت العين التي هي محل.
ج / 1 ص -22-
النجاسة زالت النجاسة بزوالها. وعبارة
البغوي "إذا صبغ الثوب بصبغ نجس فما دام عين الصبغ عليه فهو نجس. فإن
زالت العين وبقي اللون فهو طاهر كلون الحناء النجس". وعبارة الغزالي
"وما تعسر إزالته كأثر الحناء النجس وما في معناه يعفى عنه", ويحكم
بطهارة المحل مع بقاء أثره كما في أثر الدم وكلام هؤلاء مصرح باشتراط
ما ذكرناه أما قول القاضي لو صبغ الثوب بصبغ نجس, ثم غسل بالماء وانغمس
وبقي اللون قالوا يحكم بطهارته؛ لأن الماء يقدر على إزالة النجاسة
ورفعها ولا يقدر على قطع الألوان ورفعها من المحل فإذا أورد الماء عليه
علمنا أن ما غمره الماء من النجاسة قد زال وإنما بقي اللون ويدل عليه
أن الصبغ النجس عند الانفراد إذا غمر بالماء يحكم بطهارته, واللون دائم
كما قبل الغسل فضعيف إلا أن يؤول بما يوافق ما مر وفارق ذلك ما نظر به
السائل بأن المتنجس في مسألتنا مائع وهو متعذر التطهير بخلافه فيما
ذكره.
"وسئل" رضي
الله عنه عما صورته ما الفرق بين المستعمل إذا جمع فبلغ قلتين والقليل
المكمل قلتين بمائع لا يغيره حيث يتأثر هذا الثاني بوقوع النجاسة فيه,
وإن لم يتغير بخلاف الأول وأيضا فقد نزلوا المائع المستهلك في الثاني
منزلة الماء في جواز استعمال الجميع لا في دفع النجاسة عن نفسه. وأجيب
بأن رفع الحدث وإزالة النجس من باب الرفع ودفع النجاسة من باب الدفع,
والدافع أقوى من الرافع فالدافع لا بد أن يكون أقوى من الرافع قيل وهذا
هو الجواب عن كون المستعمل إذا بلغ قلتين كان في عوده طهورا وجهان ولو
استعمل القلتين ابتداء لم يصر مستعملا بلا خلاف ا هـ. فهل هذا الفرق
صحيح؟ وكيف صورة الدفع وصورة الرفع؟ وما وجه قوة الدافع؟ "فأجاب"
- نفع الله به - بقوله: هذا يتوقف على مقدمة وهي أن القليل المستعمل هل
العلة في عدم طهوريته كونه مسلوبا أو مغلوبا؟ وفي ذلك وجهان: أصحهما
الثاني ومعنى السلب أن الطهور به قوة التطهير, فإذا استعمل بشرطه سلب
محل الحدث تلك القوة منه كما أن الحناء فيه قوة الصبغ فإذا حنيت به يد
سلبت منه تلك القوة بحيث إنه إذا حني به ثانيا لم يصبغ. ومعنى كونه
مغلوبا أنه إذا تطهر به مع قلته فأصل معنى التطهير باق فيه إلا أنه ضعف
بانتقال المانع إليه فصار مغلوبا لذلك. إذ المانع حينئذ شبيه بنحو صبر
المحل في ماء فعذوبة الماء باقية فيه غير مسلوبة عنه لكن مرارة الصبر
قد انتقلت إليه فغلبت عذوبته فالمانع مثله في انتقاله من العضو إلى
الماء إذا تقرر هذا. فالمستعمل إذا بلغ قلتين إن قلنا: إنه مسلوب,
فالسلب باق مع كثرته أيضا إذ المسلوب لا يمكن عوده فهو كالمائع لا يرفع
حدثا, ولا يزيل نجسا ولا يدفع به فإن قلنا: إنه مغلوب فما ذاك إلا
لضعفه بالقلة فإذا استعمل وهو كثير لم يتأثر بالاستعمال فإذا جمع
القليل المستعمل حتى كثر زال ضعفه فبرز معنى الطهورية الكامن فيه فصار
رافعا للحدث ومزيلا للنجس, ودافعا له فلم يتأثر به إذا وقع فيه بخلاف
الذي بلغ قلتين بتكميل المائع ولم يغيره فإنه طهور؛ لبقاء اسمه فهو كما
كان قبل انضمام المائع له لأنه كالمعدوم.
ج / 1 ص -23-
حينئذ حتى يجوز استعماله ولا يجب تبقية قدر
المائع إلا أنه لا يدفع النجس عن نفسه لمفهوم إذا بلغ الماء قلتين لم
يحمل خبثا وهذا لم يبلغ قلتين بمحض الماء, فهو ناقص عنهما في الحقيقة
إذ المخالط في معنى المعدوم. فإن قيل بل هو موجود حسا, وقد جعلتموه
كالماء في الطهارة به فليكن كالماء في دفع النجاسة كما أشير إليه في
السؤال. قلنا: وجوده بالنسبة إلى دفعها كعدمه كما مر فإنه وإن كثر
المائع لا يدفع النجاسة ووجوب استعماله في رفع الحدث ليس بكون المائع
صار ماء ولا مثله في الدفع بل إنه لم يسلبه اسم الماء لقلته, فالحكم
للماء وإذا سلم قول القائل أن الدافع لا بد أن يكون أقوى من الرافع
فعود الطهورية للقلتين اللتين من محض الماء وإن كان استعمل لكونهما
أقوى من قلتين: بعضهما ماء وبعضهما مائع نعم إطلاق القول بأن الدافع لا
بد أن يكون أقوى ليس على إطلاقه إذ الطلاق رافع للنكاح غير دافع له
والإحرام دافع له غير رافع. والطلاق بالنسبة إلى النكاح أقوى من
الإحرام فالرافع هنا أقوى وكالإحرام عدة الشبهة وحقيقة الرافع أن يكون
في محل أثر ويرد عليه ما يرفع ذلك الأثر كالطلاق إذا ورد على النكاح
بخلاف ما إذا ورد عقد نكاح الرجل على مطلقته الرجعية فإن النكاح لا
يندفع بذلك الطلاق السابق, وإن صدق عليها أنها مطلقته وحقيقة الدفع أن
يرد شيء على محل قابل لتأثره به لو لم يكن دافع فيصادف في ذلك المحل
شيئا يدفعه ويمنع تأثره فيه كالإحرام فإنه إذا ورد عقد النكاح على
المحرمة مثلا دفعه الإحرام فلا ينعقد وإن ورد الإحرام على النكاح لا
يرفعه بل يدوم معه والأغلب أن كل رافع دافع وعكسه, وقد يكون الشيء
دافعا فقط كالإحرام وعدة الشبهة وقد يكون رافعا فقط كالطلاق والماء
القليل.
"وسئل" رضي
الله تعالى عنه عن شجر بأرض الحبشة يخرج منه عند انتشار الرياح بخار
كالدخان ويرشح مائعا كالماء سواء بسواء فهل له حكم الماء في الطهورية؟
"فأجاب" -
نفع الله تعالى به - بقوله: ليس حكمه حكمه في ذلك بل هو كالمائع جزما,
وفارق بخار الطهور المغلي بأن ذلك من الماء بخلاف هذا إذ هو كماء الشجر
وهو ليس بطهور قطعا قال بعضهم: وبلغني أن القوافل بأرض الحبشة إذا
عدموا الماء حفروا حفرة ثم ستروها بشيء من الشجر وتركوها مدة ثم يصعد
بخار من الحفرة يعلق بالشجرة يرشح مائعا على هيئة الماء ويجتمع منه في
الحفرة ما يكفيهم وهو غير طهور كما هو ظاهر إذ هو ماء شجر أيضا.
"وسئل" رضي
الله عنه بما صورته حركت الريح التراب المختلط بالنجاسة وحملت منه
أجزاء كالذر وألقته على شيء من المائعات هل ينجسه؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: ذكر الغزالي في
البسيط أنه يعفى عن ذلك وظاهره أنه لا فرق بين أن يدركه الطرف أم لا.
"وسئل" رضي
الله عنه بما صورته لو تنجس حب أو أعيان متعددة صغيرة أو كبيرة فجمع
الحب أو الأعيان في إناء طاهر أو متنجس, وأورد عليه ماء قليل وأدير حتى
غمر.
ج / 1 ص -24-
الأعيان وجوانب الإناء وزالت عين النجاسة
فإن قلتم بالطهارة فذاك وإلا فما الحكم لو كان الموضوع في الإناء عينا
واحدة أهو كذلك أيضا أو لا؟ "فأجاب" - نفع الله تعالى به - بقوله: إذا
وضعت أعيان أو عين متنجسة نجاسة حكمية في إناء متنجس نجاسة حكمية أيضا,
ثم صب عليها ماء حتى غمرها وغمر جوانب الإناء أو أداره حتى طهرت جوانبه
طهر الإناء وما فيه وإلا فلا.
"وسئل" رضي
الله تعالى عنه بما لفظه قال النووي في شرح المهذب فيما إذا جرى الماء
على عضو المتطهر إلى عضوه الآخر وإن كان المتطهر جنبا فقال صاحب الحاوي
والبحر فيه وجهان: أحدهما يصير مستعملا ولا يرفع الجنابة عن العضو الذي
انتقل إليه كالمحدث قالا وأصحهما لا يصير مستعملا حتى ينفصل عن كل
البدن لأنه كله كعضو. وقال الفوراني والمتولي وصاحب العدة إذا صب الجنب
على رأسه الماء فسقط من الرأس إلى البطن وخرق الهواء صار مستعملا
لانفصاله, وحكى إمام الحرمين هذا الكلام عن بعض المصنفين ويعني به صاحب
الإبانة الفوراني. قال الإمام في هذا فضل نظر فإن الماء إذا كان يتردد
على الأعضاء وهي متفاوتة الخلقة وقع في جريانه بعض التقاذف من عضو إلى
عضو لا محالة, ولا يمكن الاحتراز من هذا كيف ولم يرد الشرع بالاعتناء
بهذا أصلا فما كان من هذا الجنس فهو عفو مطلقا وأما التقاذف الذي لا
يقع إلا نادرا فإن كان عن قصد فهو مستعمل, وإن اتفق ذلك بلا قصد لم
يمتنع أن يعفى عنه فإن الغالب على الظن أن أمثال هذا للأولين وما وقع
عنه بحث من سائل ولا تنبيه مرشد ا هـ. لفظ شرح المهذب. وعبارة التحقيق
"ولا يصير مستعملا ما دام يتردد على العضو فإن فارقه صار ويقال: لا من
يد إلى يد وبدن جنب كعضو محدث وقيل: لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه وقيل
إن نقله ضر" ا هـ. هذه عبارته التي وقفت عليها وفي العمدة لابن النحوي
لا يصير الماء مستعملا ما دام مترددا على العضو فإن فارقه صار, وقيل:
لا من يد إلى يد؛ لأنهما كعضو وبدن جنب كمحدث كما صححه في التحقيق,
وقيل: يضر انفصاله إلى باقي بدنه, وقيل: إن تقاصر ا هـ. لفظ العمدة.
فعبارته فيها حذف لا بعد قيل فهل يقال: إنه وقف على نسخة من نسخ
التحقيق بحذف لا؟ وعبارة جامع المختصرات "أو جرى على عضو أصغر قيل: أو
أكبر" وفي شرحه إذا انفصل الماء من عضو إلى آخر يجري الماء إليه, فإن
كان في الحدث الأصغر فمستعمل وفي اليدين وجه شاذ أو في الأكبر. فالأصح
في التحقيق وفاقا للروياني والماوردي بقاء طهوريته إذ جميعه كعضو, ورجح
الخراسانيون خلافه ا هـ. وعبارته في المنتقى وإن انفصل من عضو لآخر في
الوضوء فمستعمل وفي البيان وجه شاذ في اليدين أو الجنابة صحح الحاوي
والبحر المنع كما في التحقيق, ورجح الخراسانيون خلافه وقال الإمام: إن
قصد فنعم وإلا فلا ا هـ. فهذا الإمام النسائي الموصوف بالتحقيق العظيم
لكلام الشيخين نقل عن التحقيق عدم الاستعمال, واعتمد ابن النحوي عدم
الاستعمال ونقل في المهمات عن
ج / 1 ص -25-
التحقيق الاستعمال, وكذا ابن أبي شريف وكذا
الشيخ زكريا, ونقله عن كلام الروضة وعبارته في الغرر "ولو انفصل ماء
الجنب من عضو إلى آخر فوجهان: الأصح عند صاحبي الحاوي والبحر منع
استعماله ورجح الخراسانيون خلافه" حكاه النووي في الروضة ورجح في
تحقيقه الثاني ووهم من قال أنه رجح فيه الأول وعبارته فيه "ولا يصير
مستعملا ما دام مترددا على العضو" فإن فارقه صار وبدن جنب وكعضو محدث
وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه ا هـ. وكان الشيخ زكريا يقدر عبارة
التحقيق بنحو هذا التقدير وبدن جنب كعضو محدث أي فلا يصير مستعملا ما
دام يتردد على بدن الجنب, فإن فارق الماء بدن الجنب ولو إلى محل آخر
منه صار مستعملا؛ فيحسن مع التقدير. هذا إثبات لنا, ولنا أن نقول معنى
قوله فإن فارقه صار؛ أي فارق البدن جميعه وانفصل عنه إلى خارج وليس
المراد المفارقة إلى بعضه لأن كله كعضو واحد, ومع هذا يسقط احتجاجه
ويدل لنا ما يأتي عن شرح المهذب فتأملوا كلامه هذا في اعتماد الاستعمال
فإن تعليلهم للوجه الضعيف فيما إذا انتقل ماء المتوضئ من يد إلى يد
بأنه لا يصير مستعملا على هذا الوجه بأنهما كعضو واحد يرد ما قاله,
وكذا قوله في شرح المهذب بعد هذا والصواب الأول لأنهما عضوان متميزان
وإنما عفونا عن ذلك في العضو الواحد؛ للضرورة فيه. أعظم شاهد على رد ما
اعتمده الشيخ زكريا وفي شرح المهذب في التيمم ما لفظه "قالوا: فإن قيل:
إذا سقط فرض الراحتين صار التراب الذي عليهما مستعملا فكيف يجوز مسح
الذراعين به ولا يجوز نقل الماء الذي غسلت إحدى اليدين به إلى الأخرى؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أن اليدين كعضو واحد ولهذا جاز تقديم اليسار
على اليمين ولا يصير مستعملا إلا بانفصاله والماء ينفصل عن اليد
المغسولة فيصير مستعملا. الثاني: أنه يحتاج إلى هذا هنا فإنه لا يمكن
أن ييمم الذراع بكفها, بل يفتقر إلى الكف الأخرى فصار كنقل الماء من
بعض العضو إلى بعضه, وهذان الجوابان ذكرهما ابن الصباغ وهما مشهوران في
كتب العراقيين" ا هـ. المقصود من كلام شرح المهذب. فقوله: "كنقل الماء
من بعض العضو إلى بعضه" فيه أعظم شاهد ودليل على أن نقل الماء من بعض
أعضاء الجنب إلى بعض لا يصيره مستعملا, وإن كان الشيخ زكريا بحث هنا في
شرح الروض أنه ينبغي أن يكون مراده بنقل الماء مفارقة الذي يغلب كما
عبر به الرافعي ا هـ كلامه. وبحثه هذا يأباه كلام المهذب وفي شرح
المهذب في باب الوضوء لما ذكر مذهب من لم يشترط الترتيب فيه واحتجاجهم
بأنه طهارة؛ فلم يجب فيها ترتيب كالجنابة ما لفظه "والجواب عن قياسهم
على غسل الجنابة أن جميع بدن الجنب شيء واحد فلم يجب ترتيبه كالوجه
بخلاف أعضاء الوضوء فإنها متغايرة ومتفاصلة, والدليل على أن بدن الجنب
واحد أنه لو جرى الماء من موضع إلى غيره أجزأه كالعضو الواحد في
الوضوء؛ بخلاف الوضوء فإنه لو انتقل من الوجه إلى اليد لم يجزئه" ا هـ.
وفي شرح المهذب واستدل مالك وأبو ثور وغيرهم على طهارة المستعمل بأنه
صلى الله عليه وسلم اغتسل ونسي لمعة ثم عصر
ج / 1 ص -26-
عليها شعرا. قال: وجوابه من أوجه: أحدها
أنه ضعيف. والثاني: لو صح حمل على بلل باق من الغسلة الثانية أو
الثالثة. والثالث: أن حكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال عن العضو
وهذا لم ينفصل, وبدن الجنب كعضو واحد؛ ولهذا لا ترتيب فيها. وفي هذا
أيضا دليل على اعتماد عدم الاستعمال فحينئذ القصد من تفضلكم إمعان
النظر في هذه المسألة وتبيين ما تعتمدونه فيها فإن كثيرا من العلماء
المتأخرين ممن اجتمعت به وأخذت عنه يعتمد الاستعمال في المسألة, ولكن
تأملوا الكلام الذي ذكرته واكتبوا الجواب بما يترجح. "فأجاب"
- شكر الله سعيه - بقوله: سبب اختلاف المتأخرين - رحمهم الله تعالى
وشكر سعيهم - في فهم عبارة التحقيق والنقل عنها أن نسخه مختلفة ففي
بعضها بل أكثرها ما حكاه السائل - نفع الله بعلومه وبركته - بقوله:
وعبارة التحقيق "ولا يصير مستعملا..إلخ" وهو ما حكاه شيخنا زكريا خاتمة
المحققين - سقى الله عهده صوب الرحمة والرضوان وأعلى درجته في الجنان
آمين - لكنه حذف من العبارة حكاية الضعيف لعدم غرض له فيه. وفي بعضها,
وقيل: لا ويضر انفصاله بزيادة واو فمن نقل عنه ترجيح الاستعمال
كالإسنوي ومن تبعه كشيخنا لعله إنما رأى النسخة التي سقطت منها الواو
ومن نقل عنه ترجيح عدم الاستعمال كالنشائي ومن تبعه لعله إنما رأى
النسخة التي ثبتت فيها الواو وعبارة ابن الملقن المذكورة في السؤال لا
توافق كلا من النسختين. والظاهر أن نسخته فيها حذف لا مع الواو فإن
قلت: ما وجه فهم ما ذكر من العبارة على كلا الطريقين؟ قلت: أما على
إثبات الواو فيكون معنى العبارة وبدن جنب كعضو محدث في حالة تردد الماء
عليه بلا انفصال فلا يكون مستعملا وقيل لا فيكون مستعملا ثم قال ويضر
انفصاله إلى باقي بدنه فاتجه حينئذ نقل عدم الاستعمال عند الجري على
الاتصال عن عبارة التحقيق, فإن قلت: تعبير النشائي بالانفصال ينافي ما
ذكرت قلت: قوله يجري الماء إليه ظاهر فيما ذكرت من أن الكلام في الجري
على الاتصال. وعلى تسليم ظاهر التعبير بالانفصال فهو محمول على انفصال
يغلب فيه التقاذف فإنه لا يضر كما يأتي عن الرافعي وغيره, وأما على حذف
الواو فيكون معنى العبارة وبدن جنب كعضو محدث في أن الماء يصير مستعملا
لمفارقته بعض الأعضاء إلى بعض آخر وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه
فاتضح حينئذ نقل الاستعمال لكن عند جريان الماء لا على الاتصال كما
يفهمه التعبير بالمفارقة, وبتأمل هذا الذي قررته يتضح أنه لا مخالفة في
الحكم بين ما فهمه الإسنوي والنشائي؛ لأن كلا فهم حالة حكمها صحيح ولك
أن تسلك في وجه اختلاف فهمها من العبارة طريقا آخر, وإن سلمنا أنهما
إنما اطلعا على النسخة المحذوف منها الواو لكونها الأكثر, وذلك لأن قول
التحقيق ولا يصير الماء مستعملا ما دام يتردد على العضو فإن فارقه صار
فيه حكمان: هما عدم الاستعمال عند التردد, والاستعمال عند المفارقة.
وقوله: "وبدن جنب كعضو محدث" يحتمل أن التشبيه.
ج / 1 ص -27-
فيه في كل من الحكمين, وأنه في الأول أو
الثاني لكن قوله "وقيل لا يضر انفصاله إلى باقي بدنه" صريح في أن
التشبيه في الحكم الثاني؛ لأن هذا الوجه المحكي مقابل له فقط, والتشبيه
في الحكم الأول محتمل الوجود والانتفاء إذ لا قرينة على أحدهما فمن نقل
عنه عدم الاستعمال فهم أن التشبيه إنما هو في الحكم الأول فقط, وهو فهم
بعيد لأن قرينة قوله: وقيل لا يضر انفصاله تبعد من ذلك ومن نقل عنه
الاستعمال فهم أن التشبيه في الحكم الثاني بقرينة حكاية الوجه المذكور
وهو فهم قريب لقيام القرينة عليه, ومن ثم ساغ لشيخنا أن يحكم على الفهم
الأول بأنه وهم لما تقرر من أن آخر العبارة أعني حكاية الوجه السابق
يرده. نعم شيخنا لم يوهمه من حيث الحكم لما أشرنا إليه فيما مر ولما
سنذكره بل من حيث فهم ذلك من العبارة ونقله عنها وإنما يتم هذا للشيخ
إن كانت النسخة التي رآها النشائي بحذف الواو كما تقرر. أما إذا كانت
التي رآها بإثباتها فما فهمه من التشبيه في الحكم الأول فقط هو صريح
العبارة فلا اعتراض عليه ولا إيهام وقع منه هذا, والأوجه في العبارة
المحذوف منها الواو أن يجعل التشبيه فيها راجعا لكل من الحكمين وقول
السائل - نفع الله تعالى به - اعتراضا على ما فهمه شيخنا من العبارة
ولنا أن نقول معنى قوله فإن فارقه صار أي فارق البدن جميعه وانفصل عنه
إلى خارج. وليس المراد المفارقة إلى بعضه..إلخ يجاب عنه بأن قول
التحقيق: "فإن فارقه صار. ويقال: لا من يد إلى يد" صريح في أن مراده
بالمفارقة ما يشمل المفارقة من أحد اليدين إلى الأخرى بدليل قوله:
"ويقال لا من يد إلى يد" وما يشمل المفارقة بالكلية فاتضح ما فهمه
شيخنا كالإسنوي وغيره من العبارة, واندفع الاعتراض بما ذكر واعتماد
هؤلاء للاستعمال في مسألة المفارقة الذي هو صريح كلام التحقيق كما تقرر
لا يرده تعليلهم الوجه الضعيف خلافا لما في السؤال لأنهم حكموا
بالاستعمال. عند انفصال الماء من إحدى اليدين إلى الأخرى مع كونهم
جعلوهما كعضو واحد في عدم وجوب الترتيب ونحوه فعلمنا أن تعليل الوجه
الضعيف بما ذكر لا ينتج للسائل ما ذكر. وكون الضعيف لا يعلل بما يوافقه
الصحيح عليه كثير لا أكثري فضلا عن كونه كليا, وقول المجموع
"والصواب..إلخ" ليس فيه رد لما مر من اعتماد الاستعمال بل قوله وإنما
عفونا عن ذلك في العضو الواحد للضرورة مؤيد للاستعمال؛ لأن عضو المحدث
يضطر فيه لانتقال الماء من بعضه لمزيد القرب بين المحلين, وبدن الجنب
لا يضطر في جميعه إلى ذلك بل إنما يضطر إلى ذلك فيما يغلب فيه التقاذف
فقط كما يأتي, وقول المجموع "كنقل الماء من بعض العضو إلى بعض" يتعين
تأويله بما ذكره شيخنا حتى يوافق ما ذكره عن الرافعي وما سنذكره وأيضا
فإبقاء كلامه هذا على ظاهره يفهم منه أنه لو انفصل الماء من كف المحدث
ثم عاد إلى مرفقه لا يضر, وليس كذلك كما سنذكره إذ الفرق بين عضو
المحدث وبدن الجنب واضح كما أشرت إليه فيما مر. وكلام المجموع في عضو
المحدث فلا يقاس به بدن الجنب على إطلاقه لما مر ولما يأتي وكلام
المجموع المذكور في السؤال الذي في الوضوء, وما بعده محمول على التفصيل
الآتي فلا شاهد فيه إذا تقررت هذه الجمل وعلم ما يتعلق بالسؤال فلا بأس
ج / 1 ص -28-
بالإشارة إلى خلاصة حكم هذه المسألة أعني
بدن الجنب, وإن كنت أشرت إلى ما يفيده فيما مر والحاصل أن النووي نقل
فيها الخلاف في الروضة والمجموع كما ذكر في السؤال. ولم يرجح في
الكتابين من ذلك شيئا لكنه رجح في التحقيق كما تقدم مبسوطا الاستعمال
عند المفارقة وعدمه عند التردد على عضو المحدث وبدن الجنب بلا مفارقة
والحكم بعدم الاستعمال عند الجري على الاتصال المحسوس لا خلاف فيه كما
يعلم مما يأتي, وصرح به ابن النقيب في مختصر الكفاية وأما عند الانفصال
فتارة يكون بأن يخرج عن البدن ويخرق الهواء ثم يرجع إليه كأن ينفصل من
رأسه ويفقأ طولا على فخذه, وهذا هو محل الخلاف والراجح أنه يصير
مستعملا لكن يستثنى منه كما جزم به الرافعي في باب التيمم وتبعه ما
يغلب فيه التقاذف فلا يصير الماء مستعملا بالانفصال إليه, وعلى هذا
يحمل ما صححه في الكفاية من منع الاستعمال وكذا ما نقله النشائي وغيره
عن التحقيق كما مر تارة يكون بأن ينفصل عن بعض الأعضاء إلى بعض بتردد
وجريان من غير خروج في الهواء وليس فيه اتصال حسي وهذا لا يكون مستعملا
قطعا كما أشار إليه الإمام وصاحب البيان وحاول في الكفاية مجيء وجه فيه
ولا وجه له كما قاله الزركشي وقال كشيخه الأذرعي في قول الروضة وقال
الإمام: إن نقله قصدا وإلا فلا. هذا ما قاله الإمام في التقاذف الذي لا
يقع إلا نادرا وأما الذي لا يمكن الاحتراز عنه فقال: إنه عفو قطعا لأن
البدن ليس سطحا بسيطا ومما يزيح الإشكال جميعه في هذه المسألة عبارة
الغزالي في بسيطه وهي "لو انفصل من عضو وتقاطر على عضو آخر يحتمل أن
يقال: إن جميع. البدن في حكم العضو الواحد" ويحتمل أن يقال إنه مستعمل
وهو المنقول في المذهب, وعدم المنع من الأولين لذلك محمول على الغالب
في ترادف قطرات ماء وتتابعها وذلك بيان لمن تأمله انتهى. فاشدد بهذه
العبارة يديك فإنك لن تجد في هذا المحل أحسن منها واحمل عليها كلام
إمامه الذي حكاه السائل عنه عن المجموع وتأمل قوله وهو المنقول في
المذهب يتضح لك ما مر عن الإسنوي وشيخنا وغيرهما من اعتمادهم
الاستعمال. ويتضح لك أيضا أنه الحقيقي بالاعتماد وأنه يتعين تأويل ما
أوهم خلافه من ظواهر عبارات أشير إلى بعضها في السؤال وكان هذا هو
الحامل للزركشي على قوله, والتحقيق أنه يصير مستعملا لأن الماء لو
انفصل من العضو صار مستعملا بالنسبة إليه فكيف بالنسبة إلى غيره انتهى.
"وسئل" رضي
الله عنه بما لفظه ذكر في شرح المهذب ما لفظه "إذا كان على عضو من
أعضاء المتوضئ أو المغتسل نجاسة حكمية فغسله مرة واحدة بنية رفع الحدث
وإزالة النجس أو بنية رفع الحدث وحدها حكم بطهارته عن النجاسة بلا خلاف
وهل يطهر عن الحدث أو الجنابة فيه وجهان حكاهما الماوردي والشاشي
وغيرهما أصحهما يطهر وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ نصر المقدسي في
كتابه الانتخاب وابن الصباغ لأن مقتضى الطهارتين واحد فكفاهما غسلة
واحدة كما لو كان عليه غسل جنابة وغسل حيض.
ج / 1 ص -29-
والثاني لا يطهر وبه قطع القاضي حسين
وصاحباه المتولي والبغوي وصححه الشافعي في كتابه المعتمد والرافعي,
والمختار الأول. ذكر القاضي أبو الطيب والقاضي حسين والبغوي والشيخ نصر
هذه المسألة في هذا الباب وذكرها صاحب الشامل في باب الاجتهاد في
الأواني والمتولي في المياه والماوردي والشاشي والروياني في باب الغسل,
ولو كان على يده عجين أو طين ونحوه فغسلها بنية رفع الحدث لا يجزئه
وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل ذكره
القاضي حسين والله أعلم ا هـ. لفظ شرح المهذب بحروفه. وكماله ذكره في
الكلام على النية والمقصود من السؤال قوله وإذا جرى الماء إلى موضع آخر
لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل في أي صورة هذا الكلام وإنما سقنا
الكلام إلى آخره مع شهرة ما قبل ذلك. ووضوحه ومعرفة طريقة القاضي حسين
لتبينوا لنا كلامه هذا هل له تعلق بما تقدم كما هو صريح كلام السمهودي
فإنه ذكر في كتابه درر السموط ما لفظه. "ومعنى قوله وإذا جرى الماء إلى
موضع آخر..إلخ" أنه جرى الماء الذي غسل به النجاسة إلى موضع آخر من
اليد ليس عليه حائل لا يحسب عن الطهارة؛ لأنه صار مستعملا في غسل
النجاسة وهذا على طريقة القاضي في أن الغسلة الواحدة لا تكفي للحدث
والنجس؛ ولهذا نسبه للقاضي ثم ذكر تمام الكلام في ذلك فتلقفوا عليه
فعلى هذا ما جواب مسألة العجين بنفسها إذا انفردت؟ فإذا كان على يده
عجين أو طين ونحوه وغسلها بنية رفع الحدث وجرى الماء إلى موضع آخر وكان
غير متغير هل يقال يحسب عن الطهارة وكذا لو كان متغيرا ما حكمه؟ ورأيت
في التجريد للمزجد ما لفظه لو كان على يده عجين أو طين ونحوه فغسلها
بنية رفع الحدث لم يجزه. وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لم يجزه عن
الطهارة لأنه مستعمل نقله النووي عن القاضي. قلت هذا إطلاق منتقد إذا
لم يرفع الماء حدثا فما وجه الحكم باستعماله نعم إن تغير بالعجين ونحوه
تغيرا فاحشا اتجه عدم رفعه لتغيره لا لكونه مستعملا ا هـ كلام المزجد
وفهم المزجد هذا غير ما فهمه السمهودي كما قدمناه ولا يليق فهم المزجد
هذا بكلام نقله الإمام النووي - نفع الله به - عن الإمام القاضي حسين
وقرره وعلله بالاستعمال فليتأمل المسئول ذلك تأملا حسنا ويوضح ذلك
الإيضاح الذي لا يبقى معه ريب, ونقل في العمدة شرح المنهاج للإمام ابن
النحوي مسألة العجين ونحوه مستقلة ولم يصدرها بما صدر بها الإمام
النووي ولفظه: "فرع لو كان على يده عجين أو طين ونحوهما فغسلها بنية
رفع الحدث لا يجزؤه وإذا جرى إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه
مستعمل نقله المصنف في باب نية الوضوء عن القاضي حسين" ا هـ. وكذا
نقلها مستقلة الدميري في شرحه على المنهاج ذكر ذلك في باب الغسل ا هـ.
فتأملوا نقل ابن النحوي والدميري المسألة مستقلة وأوضحوه لنا وما معنى
الحكم بالاستعمال مع كونهما ذكراها مستقلة؟ ولا ينبغي أن ينسب إلى
الإمام ابن النحوي والدميري التقرير على التعليل بالاستعمال لشيء لا
يحكم فيه.
ج / 1 ص -30-
بالاستعمال؛ لأن هذا لا يخفى على أحد إلا
أن يكون لكلامهما معنى آخر لم يدركه فهمنا فبالله أمعنوا النظر في
المسألة وانظروا تعليق القاضي حسين وغيره من مصنفاته وانظروه نظرا تاما
وأمعنوا في تحقيق طلب ذلك فضلا منكم مأجورين. "فأجاب" - شكر الله سعيه
- بقوله: قول المجموع "لو كان على يده عجين..إلخ" ظاهر في أنه مسألة
مستقلة لا تعلق لها بما قبلها وهو ما فهمه ابن الملقن الدميري وغيرهما
كالفتى وصاحب الأنوار فقال لو كان على يده عجين أو في شقوقها شمع أو
تحت أظفاره وسخ فالغسلة التي تزيله لا تحسب من الوضوء ا هـ. لكن قيد
ذلك تلميذ القاضي الإمام البغوي بما إذا تغير الماء بذلك, ثم قال وإن
لم يتغير فإن كان ذاكرا للنية حسبت أي الغسلة عن الطهارة وإلا فوجهان
كما لو نوى التنظيف وهو ناس للنية ا هـ. وقضية تشبيهه عدم الحسبان وهو
الأوجه الأليق بكلامهم فإن قلت: إطلاق القاضي عدم الإجزاء هل له وجه؟
قلت إن كان الفرض أن الحائل يمنع وصول الماء إلى العضو ولا يزول بتلك
الغسلة فالإطلاق صحيح, وإن كان الفرض أنه لا يمنع ويتغير الماء به
فكذلك وإن كان الفرض أنه لا يمنع ولا يتغير الماء به وقصد مع رفع الحدث
إزالة ذلك الحائل بغسلة واحدة فيوجه عدم ارتفاع الحدث حينئذ بأنه يشترك
بين واجب وغيره, وذلك الغير لا يحصل ضمنا فضر قصده بخلاف نية التبرد
مثلا فإنه يحصل ضمنا وإن لم ينو فلم يضر قصده وإن كان الفرض أنه لا
يمنع ولا يتغير الماء به ولا قصد مع رفع الحدث شيئا آخر فلا وجه للقول
بأن الغسلة حينئذ لا ترفع الحدث وبتأمل تفصيل البغوي بين التغير وعدمه
الذي قدمته وأنه من الموافقين للقاضي في أنه لا يكفي للحدث والخبث غسلة
واحدة يعلم أن مسألتنا هذه لا تعلق لها بما قبلها في المجموع من مسألة
الحدث والخبث إذ لو كان كذلك لم يمكن البغوي التفصيل المذكور لأن
الغسلة عنده لا تجزئ عن الحدث المقارن للخبث وإن لم يتغير الماء كما هو
مقرر في محله, ولما كان لإطلاق القاضي عدم الإجزاء وجه بل كان القياس
أن يقول أجزأه عن الخبث لأنه لا يقبل الصرف إذ لا يحتاج إلى نية بخلاف
الحدث فلما أطلق عدم الإجزاء, وفصل تلميذه بين التغير وعدمه وأنه تارة
يكون ذاكرا للنية وتارة لا علمنا أن هذه المسألة لا تعلق لها بتلك
المسألة أصلا, وأن كلامهما في مسألتنا هذه إنما هو لمعنى ومدرك آخر غير
مدركهما في مسألة اجتماع الحدث والخبث فإن قلت: قياس ما قاله القاضي في
مسألتنا أنه في مسألة الاجتماع لا يزول الخبث فلأي معنى فرق بين
المسألتين قلت الفرق بينهما ظاهر, وهو أن النجاسة تطلب الطهارة فلم يعد
قصد إزالتها صارفا منافيا لقصد إزالة الحدث فأجزأت الغسلة عن الحدث
والخبث عند من يقول بالاندراج أو عن الخبث فقط عند القاضي وغيره فمن
يقول بعدم الاندراج بناه على قاعدته وهو أنه لا يمكن ارتفاع الحدث إلا
بعد زوال الخبث فتلخص أن مسألة العجين لا تعلق لها بمسألة اجتماع الحدث
والخبث أصلا وحينئذ فقول المجموع "وإذا جرى الماء إلى موضع..إلخ" يحتمل
عوده إلى مسألة النجاسة.
ج / 1 ص -31-
ويكون النووي وسط مسألة العجين لأن لها
تعلقا بمسألة النجاسة من حيث المشابهة التي مرت الإشارة إليها, والجواب
عنها وهذا ما فهمه السيد السمهودي وعليه فلا إشكال في التعليل بقوله
لأنه مستعمل. ويحتمل عوده إلى مسألة العجين وهو الأقرب لظاهر العبارة
وهو ما فهمه ابن الملقن وغيره وعليه فالتعليل بالاستعمال مشكل إلا أن
يجاب عنه بأن القاضي أراد الاستعمال اللغوي الذي نشأ منه عدم ارتفاع
الحدث عن محل العجين لما تقرر فإذا جرى إلى محل آخر لا يرفع حدثه أما
عند فرض التغير فواضح, وأما عند عدم فرضه فلأن جريانه إلى المحل الآخر
حصل من غير قصد من المتطهر إلى إجرائه؛ ولذا عبر بجرى ولم يعبر بأجري
فانتفاء رفعه لاستعماله في الأول الناشئ عند جريانه إلى الموضع الثاني
من غير قصد فأطلق الاستعمال على ما يعم الاستعمال اللغوي ووجه ذلك: أن
الاستعمال اللغوي هو الذي نشأ منه عدم الرفع لما تقرر من أنه نشأ منه
الجريان إلى المحل الآخر من غير قصد, وأما قصده رفع الحدث أولا فغير
صحيح بناء على ما مر عن القاضي ولك حمله على الاستعمال الشرعي. ووجهه
أنه إذا صب الماء على نحو العجين الغالب أنه لا بد أن يمس الماء شيئا
من محاذي الحائل لأن مس الماء للعجين فقط من غير مس لشيء مما حاذاه ولا
شيء عليه في غاية الندرة وواضح أن ماء ذلك الجزء المحاذي الذي لا حائل
عليه مستعمل, وقد اختلط ببقية الماء وإذا جرى الماء جميعه إلى محل آخر
بعد جريانه على ذلك وعدم تغيره به لا يرفع حدثا لأنه مستعمل إذ الطهور
إذا اختلط به مستعمل يصير كله مستعملا فإن قلت شرط المستعمل الانفصال
قلت القاضي حسين لا يشترط ذلك, بل يثبت للماء حكم الاستعمال وإن لم
ينفصل كما هو مقرر في مذهبه في مسألة اجتماع الحدث والخبث فظهر صحة
تعليله بقوله لأنه مستعمل. وإن فرضنا انقطاع مسألة العجين عما قبلها,
وأن مراده الاستعمال الشرعي لا اللغوي وأن ذلك صحيح بالنسبة إلى طريقته
ولما لم يظهر للسيد السمهودي هذا الحمل بقسميه جعل هذا متعلقا بمسألة
النجاسة ورأى أن حمله على ذلك نظرا لصحة المعنى بحسب ما فهمه أولى وإن
كان ظاهر العبارة يأبى ذلك ولما ظهر لابن الملقن ومن تبعه صحة حمله على
نحو ما ذكر نقلوه وأقروه مشيا مع ظاهر العبارة وإن كان فيها تجوز بعيد
بالنسبة للحمل الأول وحمل على ما يوافق الغالب لا مطلقا بالنسبة للحمل
الثاني. والتجوز البعيد يقع في كلام الأئمة كثيرا اتكالا على فهم
الناظرين في كتبهم وكان اللائق بالمزجد أن يؤول كلام القاضي على نحو ما
أولنا به ولا يعترض على ظاهر العبارة لأن المراد منها واضح لكن عذره في
ذلك أن الناظرين في كلام غيرهم تختلف مقاصدهم فمنهم: من يترجح عنده
النظر إلى ظواهر العبارات مع قطع النظر عن القواعد وغيرها فيبين ما
فيها من اعتراض ونقد وإن كان معلوما رده من محل آخر أو كان جليا قصد
بتبيينه الأغبياء وتشحيذ أذهان غيرهم ومنهم: من يترجح عنده النظر مع
ذلك إلى مراعاة القواعد والنظائر فلا يعترض على كثير منها تعويلا على
الفروع.
ج / 1 ص -32-
والقواعد المقررة في أبوابها ومحالها,
والمتأخرون - رحمهم الله - انقسموا إلى هذين الفرقتين وكلاهما حسن لكن
الثانية قد يترجح حسنها, ومن ثم لما نقل النووي هذا الكلام عن القاضي,
وتعليله بالاستعمال لم يعترضه بأن المستعمل أن يزيل مانعا وهذا ليس
كذلك لأن الفقهاء قد يريدون بالاستعمال الاستعمال اللغوي. إذا تقرر ذلك
فنعود إلى ما في السؤال فنقول بتأمل ما أوضحناه يعلم الجواب عن قول
السائل فعلى هذا ما جواب مسألة العجين إذا انفردت. إلخ؟ وحاصله أن
الأوجه فيها ما مر عن البغوي مبسوطا من أنه إن تغير الماء أو لم يزل
الحائل لم يرتفع الحدث وإن لم يتغير وزال الحائل بتلك الغسلة فإن قصد
رفع الحدث أو أطلق ارتفع الحدث, وإن قصد إزالة الحائل فإن كان ذاكرا
للنية فكذلك وإلا لم يرتفع لأن قصد الإزالة حينئذ صارف. وعن قوله: "ولا
يليق فهم المزجد..إلخ" وذلك لما تقدم من أن تقرير النووي للقاضي بناء
على أن كلامه مستقل إنما هو لوضوح المراد والعلم به مما قدمه وهذا لا
يمنع الاعتراض على ظاهر العبارة بناء على سلوك الطريقة الأولى السابقة
وإن كان خلافها قد يكون أحسن وعن قوله: "وما معنى الحكم بالاستعمال مع
كونهما ذكراها مسألة مستقلة؟ وذلك لما قدمته من أنهما فهما أن القاضي
أراد الاستعمال اللغوي أو الشرعي بالطريقة التي قدمناها وبهذا علم
الجواب عن قوله أيضا, ولا ينبغي أن ينسب إلى الإمام ابن النحوي
والدميري التقرير على التعليل بالاستعمال..إلخ" فوضح المراد في هذه
المسألة وزال ما فيها من الإشكال نسأل الله التوفيق والسداد في القول
والعمل آمين.
"وسئل" -
نفع الله تعالى به - بما لفظه إذا انغمس المحدث حدثا أصغر في ماء قليل
فهل يرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء كما هو ظاهر إطلاق المنهاج وغيره
في آخر باب الوضوء وهل يصح أن يقال: لا يرتفع حدثه إلا عن وجهه فقط
لأنه بمجرد انغساله يصير الماء مستعملا بالنسبة إلى بقية الأعضاء لوجوب
الترتيب, وتعدد محل الحدث فيصير حينئذ كجنبين انغمسا في ماء قليل,
وتقدمت نية أحدهما فيصير مستعملا بالنسبة لمن تأخرت نيته. وإطلاق
المنهاج وغيره في آخر باب الوضوء مقيد بما ذكره في أول الكتاب بقوله:
"والمستعمل في فرض الطهارة غير طهور" فاكتفى بهذا عن إعادته في باب
الوضوء كما اكتفى بقوله: في باب الوضوء أو الغسل "إن المحدث إذا كان
على بدنه نجاسة يكفي لها غسلة واحدة" عن إعادته في باب الجنازة في
قوله: "والواجب تعميم شعره وبشره بعد إزالة النجس. وهل صرح أحد بأنه لا
فرق بين القليل والكثير؟ وهل فرق بين تعدد المحل في الموضعين؟ "فأجاب" بأن قضية قولهم لو انغمس جنب في ماء قليل ناويا رفع
الجنابة ثم أحدث فيه قبل خروجه منه حدثا أصغر أو أكبر صح رفع حدثه
الثاني به, وإن كان بعد رفع رأسه منه فيعيد الانغماس فيه للمحدث الثاني
ويجزئه أن المنغمس في ماء قليل للوضوء به كالجنب فيما ذكر فيرتفع حدثه
وبه صرح الإمام حيث قال بعد انغماس الجنب, ومثله المتوضئ ونقله عنه.
ج / 1 ص -33-
في المجموع, وأقره وبه صرح أيضا الخوارزمي
في كافيه حيث قال: إنما يحكم باستعمال الغسالة بعد الفصل حتى لو دخل
جنب ماء قليلا ثم انغمس فيه ارتفعت جنابته فلو أحدث قبل أن يخرج ثم
انغمس ثانيا صحت طهارتها. فما مشى عليه الشرف المناوي كالشرف ابن
المقري من أن حدثه لا يرتفع إلا عن الوجه لوجوب الترتيب فيه بخلاف
الجنب يرد حكما بأن المنقول خلافه كما علمت, وتعليلا بأنهم صرحوا في
مسألة ارتفاع الحدث في مسألة الانغماس المذكورة في الوضوء بأن علة
ارتفاعه بذلك مع فقد الترتيب فيه أن الترتيب تقديري في لحظة لطيفة,
وأنه يصير وضوءه غسلا والمعتمد هو العلة الأولى وكل من العلتين تقتضي
ارتفاع جميع حدثه ولا نظر لوجوب الترتيب لما تقرر من أنه تقديري فلا
يلاحظ أو أنه صير وضوءه غسلا وهو لا يجب فيه ترتيب, فاعتماد بعضهم
للثاني وتأويله لكلام صاحب الكافي الذي ذكرته بما يصرفه عن ظاهره ليس
في محله, وبما تقرر يعلم الفرق بين ما نحن فيه وجنبين أو محدثين انغمسا
في ماء قليل وتقدمت نية أحدهما. ومشى الزركشي في الخادم على ما مر عن
صاحب الكافي ولم يؤوله بل ارتضى ظاهره وما وقع له فيه مما يخالف ذلك
مبني على ضعيف كما يعلم بمراجعة كلامه ولا ينافي ذلك قوله في الوضوء:
"إن نفي الخلاف فيما إذا راعى الترتيب في الوضوء, محله إذا كثر الماء
وإلا كان بارتفاع الحدث عن وجهه مستعملا لكله فلا يجزئه عن غيره للفرق
الظاهر بين وقوع الانغماس مرتبا على ترتيب أعضاء الوضوء فلا يكفي عن
غير الوجه؛ إذ لا يمكن تقدير الترتيب حينئذ وعلى هذا قد يحمل كلام
الشرفين, بل كلام الأول كالصريح فيه وبين أن لا يقع كذلك بأن تؤخر
النية إلى تمام الانغماس فيكفي, ويرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء
لإمكان تقدير الترتيب حينئذ فاعتمد ذلك ولا تغتر بما خالفه.
"وسئل" رضي
الله عنه لو تنجس الفم وبين الأسنان أعيان فهل تجب إزالتها بنحو تخليل
أو يكفي التمضمض لتطهير الفم؟ وتلك الأعيان إذا زال به أوصاف النجاسة.
"فأجاب":
بأنه لا يجب إزالة ما بين الأسنان فيها بل يكفي إيصال الماء إلى ما
وصلت إليه النجاسة منها بشرط أن لا يتغير ولا يزيد وزنه, وأن يزول
أوصاف النجاسة بتفصيله المعروف ولا يقال النجاسة تسري إلى جميع أجزائها
لأن الماء على تقدير تسليم ذلك له قوة سريان أكثر فهو يصل إلى ما وصلت
إليه النجاسة الأولى.
"وسئل" رضي
الله عنه عما لو تنجس شعر شخص أو جسده وهو مدهن الادهان المعروف بحيث
لو لمس لظهر بملامسته أثر منه ولا يمكن إزالته بإجراء الماء عليه بل
يحتاج إلى نحو سدر أو كان أثره ضعيفا كماس اللحم والألية يعلق بيده أثر
فهل يكفي إجراء الماء إذا كانت النجاسة حكمية أو عينية وزالت بقية
أوصافها دون ذلك الأثر؟ بينوا لنا حد أثر الادهان الذي يطهر بنفس جريان
الماء من غير احتياج إلى غير ذلك وما يعفى ويتسامح فيه.
ج / 1 ص -34-
من ذلك؛ فالادهان من المندوبات وضروري
خصوصا في مظان البر. "فأجاب"
بأنهم صرحوا بأن من أكل ميتة ولا يمكن إزالة دسومتها من أسنانه إلا
بالسواك وجب عليه الاستياك لتوقف إزالة النجاسة عليه فقياسه أنه متى
تنجس الشعر أو البدن وعليه دهن ولم يمكن إزالة الدهن إلا بنحو سدر أنه
يجب لأنه صار متنجسا, وإزالته الواجبة متوقفة على ذلك وما توقف عليه
الواجب كان واجبا ولا نظر إلى كون الادهان قربة؛ لأن المدار في باب
تطهير النجاسة على إزالتها بجميع أوصافها إلا اللون أو الريح إن عسر من
غير نظر إلى كونه عصى بسبب ذلك أم لا, ألا ترى أنه لو وجب عليه أكل
الميتة للاضطرار وتوقفت إزالة الدسومة على نحو السواك أنه يجب. فمسألة
الادهان كذلك من باب أولى.
"وسئل" رضي
الله عنه عن ميتة لا دم لها سائل وقعت في ماء قليل ثم زيد عليه - وهي
فيه - ماء آخر فهل يبقى العفو؟ "أجاب"
بقوله: يمكن تخريج هذه المسألة على مسألة ابن أبي الصيف المشهورة بجامع
أن كلا فيه ما يضر في الأصل لكنه عفي عنه للمشقة, فمن نظر إلى خصوص
المشقة يقول فيها بالتأثير إذ لا مشقة في خصوص هذه وكذا في صورة
السؤال, ومن نظر إلى أن المشقة اقتضت طهورية الماء وألغى هذا المانع
يقول بعدم التأثير, ثم رأيتني صرحت بالمسألتين في شرح الإرشاد. وجعلت
صورة السؤال شاهدا لما رجحته في مسألة ابن أبي الصيف من عدم التأثير
وعبارته: "ولو صب متغير بخليط لا يؤثر على غير متغير فغيره كثيرا ضر,
وإن كان كثيرا على ما ارتضاه جمع لسهولة الاحتراز عنه, لكن مشى آخرون
على أنه لا يضر وهو الأقرب ألا ترى أنه لو وقع ذباب في مائع ولم يغيره
فصب على مائع آخر لم يؤثر فيه كما هو ظاهر لطهارته المستثنية عن مشقة
الاحتراز, فكذلك لا يضر هذا لطهوريته المستثنية عن ذلك انتهت.
"وسئل" رضي
الله عنه عن أرواث الفئران هل يعفى عنها وعن آثارها لشدة البلوى بها
كذرق الطيور أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: صرح بالعفو عنها بعض المتأخرين كما نقلته في شرح الإرشاد
والعباب وفيه وقفة والذي يتجه خلافه لأن الابتلاء بها لم يعم كعمومه
بذرق الطيور كما هو جلي, والمشاهدة قاضية بذلك فيتعين الاحتياط في ذلك.
"وسئل" -
نفع الله به - عن إخبار القصار الكافر بتنجس الثوب عنده مع بيان سببه
وبغسله وإخباره عن غسل الثوب الذي كان متنجسا قبل التسليم إليه مع عدم
علمه بشروط التطهير هل يعتمد خبره بذلك أم لا؟ وهل الكافر كالفاسق في
الإخبار أم لا؟ "فأجاب"
بقوله: "أطلق الأصحاب أنه لا يقبل إخبار الفاسق والكافر بنجاسة ولا
بطهارة ويستثنى منه ما إذا بلغ المخبر من الفاسق أو الكافر عدد
التواتر, بأن كانوا جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب, وأخبروا عن عيان
فيقبل خبرهم كما صرح به الفقهاء والأصوليون ثم إنهم إن وافقوا المخبر
في مذهبه في باب النجاسة والطهارة لم يشترط بيان السبب وإلا اشترط,
ويستثنى منه أيضا.
ج / 1 ص -35-
ما إذا أخبر الكافر أو الفاسق عن فعل نفسه
وبين السبب كقوله: بلت في هذا الإناء أو طهرت الثوب بماء كذا حتى زالت
عين النجاسة عنه, فيقبل خبره هنا أيضا ففي الروضة عن المتولي وفي
المجموع عنه وعن غيره أنه لو وجدت شاة مذبوحة فقال ذمي: أنا ذبحتها حلت
لأنه من أهل الذكاة انتهى. فإذا قبل إخبار الكافر عن فعل الذكاة قبل
إخباره عن فعله التنجيس أو التطهير مع بيان سببها بالمساواة إن لم يكن
بالأولى؛ لأن الذكاة يحتاط فيها ما لا يحتاط في ذينك وقد أطلق السلف
إباحة ذبائح أهل الكتاب ولم يشترطوا مشاهدتنا لذبحها, بل عولوا عليهم
في ذلك توسيعا في الرجوع إلى أصل الإباحة وما يؤيد ذلك صحة الاقتداء
بالفاسق وإن شوهد سبق حدثه ولم يشاهد وضوءه وليس ملحظه إلا أنه لو أخبر
بأنه توضأ قبل خبره؛ لأنه إخبار عن فعل نفسه قال شيخ الإسلام فقيه عصره
وأستاذ أهل مصره الشرف المناوي: كان شيخنا شيخ الإسلام الولي أبو زرعة
إذا تنجس ثوبه دفعه لفتاه وأمره بتطهيره فإذا أتاه به وقال طهرته لبسه
وحال الفتيان لا يخفى ا هـ. وأشار الشرف بذلك إلى أن ذلك الفتى الذي
كان الولي يدفع إليه ثوبه ليطهره لم يكن معلوم العدالة, وإلا لم يقل
الشرف وحال الفتيان لا يخفى وحينئذ فهذا من الولي وتلميذه الشرف اعتماد
لمقتضى القياس الذي قدمته على إخبار الذمي بالذكاة, وأن الفاسق ومثله
الكافر متى قال طهرته أو نجسته وبين السبب أو كان الفاسق موافقا عارفا
بالطهارة أو النجاسة قبل خبره وقد أفتى المناوي بذلك كما يأتي ومما
يؤيد ذلك أيضا إطباقهم بحسب ما اقتضاه كلامهم على ما قاله بعضهم على من
استأجر فاسقا أي عن نفسه, بأن كان معضوبا ليحج عنه صحت إجارته وقبل
قوله حججت من غير يمين ولا بينة؛ لأن مرجعه إلى النية ولا يمكن الاطلاع
عليها. ومن ثم قال الدبيلي لو قال للأجير جامعت في إحرامك فأفسدته لم
تسمع هذه الدعوى فلا يحلف الأجير وكذا لو ادعى عليه تأخر إحرامه عن
الميقات أو نحوه؛ لأنه من حقوق الله تعالى وهو أمين عليها. وصرحوا أيضا
بأن المطلقة ثلاثا لو قالت تزوجت برجل وطئني ثم طلقني واعتددت قبل
قولها بلا يمين أي وإن كانت فاسقة كما اقتضاه إطلاقهم ولا يؤثر في
تصديقها في ذلك إنكار الزوج الثاني ما نسبته إليه, ثم إن ظن الأول
صدقها نكحها بلا كراهة وإن لم يظن ذلك ندب له الإعراض عنها فإن صرح
بكذبها امتنع عليه تزوجها حتى يقول تبينت صدقها. وقول الفوراني وتبعه
الغزالي: "إذا غلب على ظنه كذبها لم تحل له" غلط عند الأصحاب كما في
الروضة فقد نقل الإمام اتفاقهم على الحل حيث أمكن صدقها وإن غلب على
الظن كذبها, وبه يصرح نص الأم, وصرحوا أيضا بصحة الاستئجار على تغسيل
الميت ولم يشترطوا كون الأجير ثقة فاقتضى ذلك قبول قوله حيث لم يكذبه
المستأجر؛ لأن الحق هنا للغير وبه يفرق بينه وبين ما مر في مدعية
التحليل. وقد قال الأذرعي في توسطه عند قول الروضة: "ينبغي أن يكون
الغاسل أمينا" كذا عبارة جماعة والمراد أنه يستحب ذلك كما قاله الشيخ
أبو حامد وكثيرون ثم قال وعبارة المنهاج تشعر.
ج / 1 ص -36-
بالوجوب ووجه بأن غيره لا يوثق به ولا يقبل
خبره إلا في مسائل لم يعدوا هذه منها ا هـ. وأجيب بأنهم إنما سكتوا على
استثنائها لأنها في معنى ما ذكروه من إخبار الذمي بالذكاة, وفي التوسط
أيضا عند الكلام على الازدحام على الغسل أن قضية كلام الشيخين أن الصبا
والفسق لا يؤثران قال: وفيه نظر؛ لأنها أمانة, وليسا من أهلها. وقد جزم
الصيمري بأنه لا حق للفاسق ولا لغير البالغ في الصلاة, وينبغي أن يكون
الحكم هنا كذلك بل أولى ا هـ. واعترض بأن ما ادعاه من عدم الأهلية
ممنوع وأقول: ما ذكره وإن سلم لا يعكر على ما نحن فيه؛ لأن ما ذكره في
تزاحم ذوي حقوق فلا يقدم منهم على الباقين إلا كامل, والصبي والفاسق
ليسا كذلك فعدم تقديم الفاسق هنا؛ إنما هو لما ذكرته فلا يقتضي بوجه من
الوجوه عدم قبول قوله إذا أخبر عن فعل نفسه. فإن قلت اتفق أصحابنا على
قبول قول الفاسق والكافر في الإذن في دخول الدار وإيصال الهدية كما
يقبل قول الصبي فيها للأحاديث أنه قبل هدايا الكفار أي المحمولة إليه
على أيديهم كما ذكره في المجموع هذا مع أن الأصل عدم الإباحة, والإذن
في الدخول والإرسال, وهما فعل غيره فإذا قبلوا قول الفاسق والكافر هنا
مطلقا فلم لا يقبل قولهما في النجاسة والطهارة مطلقا قلت في هذا تأييد
ظاهر لما قدمته من قبول خبرهما عن فعلهما وإنما لم نأخذ بقضية هذا من
قبول خبرهما مطلقا لأن السلف والخلف اكتفوا بهما فيما ذكر دون غيره
لعموم إضرار الناس إلى إنابتهما في نحو الإذن والإرسال؛ لأنا لو كلفنا
أن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه أو لا يستنيب فيه إلا ثقة لشق ذلك على
الناس مشقة عظيمة؛ فاقتضت الضرورة المسامحة في قبولهما في ذلك فلا يقاس
به غيره مما لا مشقة فيه لكنها ليست مثل تلك المشقة. وممن صرح بأن ذلك
إنما جاز للمشقة ابن عبد السلام في قواعده فقال لو أذن في الدخول أو في
حمل الهدية فاسق فالذي أراه أنه يجوز الإقدام قولا واحدا لأن قوله
مقبول شرعا وجراءته أبعد من جراءة الصبيان أي المكتفى بإخبارهم في ذلك
حيث لم يجرب عليهم كذب, ولا وقفة عندي في المستور وعليه عمل الناس من
غير إنكار واستثني ذلك لما على المالك من المشقة في مباشرة ذلك على أن
الأشياء إذا ضاقت اتسعت ا هـ. وأيده الزركشي بأنه صلى الله عليه وسلم
جعل ابن أم أريقط الليثي وهو مشرك دليلا حين هاجر إلى المدينة فعلم من
قول ابن عبد السلام "واستثني ذلك..إلخ" قبول قول الكافر أو الفاسق في
مسألتنا إذا أخبرا عن فعل نفسهما بالأولى لا سيما في التطهير؛ لأن
تعاطيه بالنفس لو وجب لشق ذلك على الناس مشقة عظيمة فاقتضى التوسيع
المتلقى من أصول الشريعة السمحاء قبول قوله: طهرته إذا وافق مذهب
المخبر أو بين السبب, وأما إفتاء بعضهم بعدم قبول قولهما مطلقا في
التطهير كما لو أخبرا بالتنجيس أو بأن الكعبة في هذه الجهة فهو غير
معتمد؛ لما سبق من كلام الأصحاب في غير موضع مما يصرح بخلافه, وقياسه
عن التنجيس غير صحيح؛ لأن فيه الذي في التطهير فهما على حد سواء من
قبول خبر الكافر أو الفاسق عنهما إن أخبر عن
ج / 1 ص -37-
فعل نفسه وقد بين السبب أو وافق المخبر.
ويلحق بهما الصبي المميز الذي لم يجرب عليه الكذب. وقياسه على الإخبار
عن الكعبة غير صحيح أيضا لأنه لم يخبر عن فعل نفسه ونحن إنما نعتمد
خبره إن كان عن فعل نفسه وممن أفتى بنحو ما ذكرته: السيد السمهودي -
شكر الله تعالى سعيه - وكذا شيخه المناوي, وملخص عبارته "الأظهر قبول
خبر الفاسق فإنه الأصلح للناس وكما يقبل خبره بتذكية شاة وبعدم الماء
فيجوز التيمم" وفي المجموع عن الجمهور يقبل خبر الصبي فيما طريقه
المشاهدة فالفاسق مثله, وقياس صحة القدوة بالفاسق صحة اعتماد إخباره عن
طهارته عن الحدث والخبث ومن نظائر ذلك اعتماد خبر الفاسق عن حاجته
وتوقانه إلى النكاح حتى يجب إعفافه, فحينئذ الأصح ما قلناه ما عليه من
عمل الناس ولما في البحث عن حال المطهر من المشقة ولما يشهد له من
منقول المذهب وإن كان في بعض ما يشهد له نظر فقد قوي بانضمامه إلى
غيره. وقد استثني في الخادم من عدم قبول خبر الفاسق بنجاسة الإناء ما
لو كان التنجيس من فعله كما لو قال: بلت في الإناء, والتطهير مثله؛
لأنه من فعل نفسه وما نقل عن بعض الأئمة مما يخالف ذلك لعله وجه ضعيف ا
هـ. وقوله: "وبعدم الماء فيجوز التيمم" لم أره لغيره والوجه خلافه بل
لا يجوز اعتماد المخبر بالماء أو بفقده إلا إن كان ثقة وقوله: وفي
المجموع عن الجمهور..إلخ هو أعني ما فيه ضعيف والمعتمد أنه لا يقبل خبر
الصبي إلا في نحو دخول الدار وإيصال الهدية والدعوة للوليمة.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عن قول الفقهاء: "مقدار القلتين بالمساحة في المربع
ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا وفي المدور ذراعان طولا وذراع عرضا وعمقا.
وفي شرح الروض المراد بالطول في المدور العمق, وبالعرض فيه ما بين
حائطي البئر من سائر الجوانب فعلى هذا التقدير هل يساوي المدور المربع
في المقدار أو يتفاوت ما بينهما؟ وإن تفاوت فهل التفاوت قدر ما يعفى
عنه أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: نعم يتفاوتان لكن بالقدر المعفو عنه, وبيانه يعلم من سوق عبارتي
في شرح العباب مع فوائد أخرى نفيسة اشتملت عليها, وهي: وهما بالمساحة
في الموضع المربع قال في الكفاية: "المستوي الأضلاع أي الأبعاد الثلاثة
الطول والعرض والعمق, ذراع وربع طولا وذراع وربع عرضا وذراع وربع عمقا
كما في زوائد الروضة, وبيان ذلك يظهر بأن يكعب ما سبق بأن يضرب الطول
في العرض والحاصل في العمق لكن بعد أن يبسط كلا منها أرباعا للكسر
الزائد على الذراع وهو الربع فبسط الطول خمسة أرباع تضربها في خمسة
العرض ثم الحاصل في خمسة العمق يحصل مائة وخمسة وعشرون ربعا يخص كل ربع
أربعة أرطال, ثم اجعل هذا ميزانا تنسب إليه وتقيس عليه ما شئت فتكعبه
بعد البسط أرباعا أيضا كما صنعت في الميزان لتتضح لك النسبة بينهما.
فإن ساواها فقلتان وإلا فانقص أو زد لائقا بالحال ثم بينت فيه أن
المراد بالذراع هنا ذراع الآدمي, وأنه شبران تقريبا وأن ذلك هل هو على
مرجح النووي في رطل بغداد فقط أو على.
ج / 1 ص -38-
مرجح الرافعي أيضا وأن الذي ينبغي أنه
عليهما لأن التفاوت بينهما يسير, ثم بينت ما يتعلق بمنحرف الأضلاع وما
وقع للناس في ذلك من الوهم بكلام طويل مبسوط ثم قلت: والعبرة في المدور
كما ذكره القاضي عن المهندسين وجرى عليه ابن الصلاح والعجلي وغيرهما
ذراعان طولا أي عمقا بذراع النجار كما قاله الزركشي أخذا من كون القاضي
حكاه عن المهندسين وهو متعين لما يأتي. قال شيخنا أي زكريا - رحمه الله
-: وهو بذراع الآدمي ذراع وربع تقريبا وقال غيره: اعتبرته فوجدته ذراعا
ونصفا ا هـ. وفيه نظر؛ لأن اعتبار كونه ذراعا ونصفا يؤدي إلى زيادة ذلك
على مقدار القلتين بكثير كما يعلم مما يأتي قريبا, ثم رأيت الأذرعي
أشار في غير هذا الباب إلى أنه ذراع وثلث وبه يتأيد ما قاله الشيخ.
وذراع بذراع الآدمي المذكور في المربع عرضا وإنما لم يكن الذراع في
الكل واحدا قال شيخنا؛ لأنه لو كان الذراع في طول المدور, أي عمقه,
وطول المربع واحدا مما مر؛ لاقتضى ذلك أن يكون الطول في المدور ذراعين
ونصفا تقريبا إذا كان العرض ذراعا, وجهه أن يبسط كل من العرض ومحيطه,
وهو ثلاثة أمثاله وسبع والطول أرباعا لوجود مخرجها في القلتين في
المربع ثم يضرب نصف العرض وهو اثنان في نصف المحيط وهو ستة وسبعان تبلغ
اثني عشر وأربعة أسباع وهو بسط المسطح فيضرب في بسط الطول وهو عشرة
تبلغ مائة وخمسة وعشرين ربعا مبلغ مقدار مسح القلتين في المربع وهو
مائة وخمسة وعشرون ربعا مع زيادة خمسة أسباع ربع, وبها حصل التقريب فلو
كان الذراع في طول المدور والمربع واحدا, وطول المدور ذراعين لكان
الحاصل مائة ربع وأربعة أسباع ربع, وهي أنقص من مقدار مسح القلتين بخمس
تقريبا ا هـ. وبه يندفع قول الزركشي. نقل القمولي عن العجلي أنه في
المدور ذراع في عمق ذراعين وهو تحريف لا يمكن صحته فإن المربع إذا كان
ذراعا وربعا طولا وعرضا كذلك كان دوره خمسة أذرع فإذا كانت في عمق ذراع
وربع كانت ستة وربعا, والمدور إذا كان عرضه ذراعا كان دوره ثلاثة أذرع
وسبع ذراع فإذا كان عمق ذراعين كان مجموعه ستة أذرع وسبعي ذراع,
والسبعان أكثر من الربع ا هـ. فاعتمد في التغليط على ما ذكره آخرا من
أن السبعين أكثر من الربع, وفاته أن التفاوت بينهما لا نظر إليه؛ لأن
الأمر في ذلك تقريبي كما تقرر على أنه جزم بهذا الذي غلط فيه القمولي
قبل ذلك ونقل ثانيا عن العجلي كذلك وكان سبب الاشتباه أنه عبر فيما جزم
ونقله عن العجلي بالطول وفيما نقله عن القمولي بالعمق فظن التخالف, وإن
كان صرح بعد ذلك بأن المراد بالطول العمق وبالعرض ما بين حائطي البئر
من سائر الجوانب, ووقع هذا التوهم للريمي في تفقيهه وسقت عبارته وعبارة
الجواهر مع اختلاف نسخها, وبسطت ما في ذلك وغيره مما لا حاجة لنا ببسطه
هنا وإن كان مما يتعين الوقوف عليه لنفاسته, والحاصل أنه علم مما تقرر
أن بسط المدور كبسط المربع إلا أن المدور يزيد بشيء يسير مما يعفى عنه
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ج / 1 ص -39-
"وسئل" رضي
الله عنه عما إذا تغير الماء بما على العضو من زعفران ونحوه ولم يمنع
وصول الماء إلى البشر هل يصح الوضوء أم لا؟ "فأجاب" بقوله: المنقول المعتمد أنه يضر تغير الماء بما على
العضو من مخالط كزعفران أو سدر سواء في ذلك الحي والميت كما بسطت ذلك
وحررته في شرحي العباب والإرشاد وغيرهما ووقع لجماعة من المتأخرين في
هذه المسألة ما لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعول عليه فاحذره.
"وسئل" -
فسح الله في مدته - عمن وضع يده في إناء بنية الاغتراف فانغسل ظاهرها
وباطنها فيه ثم خرج بالماء الذي فيها وغسل به ساعده فهل يرتفع حدث ظاهر
يده بانغساله في الماء قبل خروجها أو لا بد من جريان الماء الذي فيها
على ظاهرها بعد خروجها؟ "فأجاب"
بقوله: لا بد مما ذكر؛ لأن من لازم نية الاغتراف منعها لارتفاع حدث
العضو الملاقي للماء فيه, فحينئذ لا تطهر اليد بما فيها إلا بعد خروجها
من الماء, والماء بعد خروجها إنما يلاقي باطنها فلا بد من إمراره على
ظاهرها كباطنها يرتفع في الماء فلا يحتاج بعد خروجها إلى إمراره على
ظاهره بل له غسل ساعدها بما فيها على المنقول المعتمد.
"وسئل" -
نفع الله به - عما لو كان بكفيه نجاسة وغسلهما معا هل يطهران أم لا بد
لطهارتهما من غسل كل كف منفردا لأنهما عضوان؟ إذ حكم الخبث في
الاستعمال وعدمه حكم الحدث كما صرحوا به ففي زوائد الروضة أن الماء إذا
جرى من عضو المتوضئ إلى عضو آخر صار مستعملا على الصحيح, وفي هذه
الصورة وجه شاذ محكي في كتاب التيمم من البيان أنه لا يصير مستعملا لأن
اليدين كعضو ا هـ. كلام الروضة. لكن في مهمات الإسنوي ما لفظه: "قد سبق
أن الماء إذا طهر أحد اليدين لا يجوز نقله إلى تطهير الأخرى على
المعروف فإذا استحضرت ما قالوه وجدته هنا مشقا يقع فيه كل مغترف ولا
يمر بالبال فتأمله ولا أظن أحدا هنا يوجب ما تقتضيه تلك المقالة,
وحينئذ فيكون مخالفا والصواب ما دل عليه كلامهم هنا ا هـ. فما في
المهمات دال على الطهارة في المسألة المسئول عنها فهل هو كذلك؟ وحينئذ
يكون كلام الروضة محمولا على غير صورة الكفين أو يكون ضعيفا. "فأجاب"
بقوله: إن صب الماء على الكفين المتنجسين معا, ولم يتقاطر من ماء
أحدهما المستعمل على الأخرى شيء ارتفع خبثهما إذ لا موجب للاستعمال
حينئذ لما تقرر أن الفرض أن الماء صب عليهما معا مع انفصال كل عن
الأخرى وأما إذا صب عليهما معا وإحداهما أسفل من الأخرى فجرى الماء على
العليا ثم على السفلى فلا يطهر إلا العليا دون السفلى؛ لأن الماء
الواصل إليها مستعمل لانفصاله عن محله وقد تقرر أن كلا من اليدين في
هذا الباب عضو مستقل. وزعم الوجه الشاذ أنه لا ترتيب بينهما فكانا كجنب
برد كما بسطته في شرح العباب بأن الترتيب إنما سقط ثم للعسر فلرعايته
جعل بدنه كعضو واحد مطلقا, وأما سقوطه هنا فهو لاتحاد الاسم للمشقة,
واتحاده لا دخل له في جعل
ج / 1 ص -40-
الانفصال الحسي كغيره بخلاف المشقة. وأنت
مع هذا الذي تقرر في الفرق خبير بقوة هذا الوجه لقوة قياسه فدعوى
الروضة فيها شذوذه فيها نظر إلا أن يجاب بأنه شاذ نقلا لا معنى ولا
ينافي ما تقرر قول القاضي وتبعه البغوي وغيره لو كانت نجاسة بمحلين فمر
الماء على أعلاهما ثم على الأخرى طهرا؛ لأن صورة المسألة كما بينته في
الشرح المذكور أن يكونا على بدن واحد ويجري الماء إليهما على الاتصال
وكذا إن انفصل وكان المحلان قريبين بحيث يغلب على الظن التقاذف من
أحدهما إلى الآخر أخذا مما قالوه في الجنب. أما إذا تباعدا ولم يجر على
الاتصال فإن الخبث لا يرتفع لأن الماء صار مستعملا بانفصاله المذكور,
وانفصاله من اليد إلى الأخرى كهذا الانفصال الضار لا كالانفصال في إحدى
الصورتين الأوليين فتأمله, وأما ما نقله السائل عن المهمات فإنه لم
يذكره على عبارة الروضة التي ساقها السائل وإنما ذكره على قولها في باب
الوضوء ثم من يدخل يده في الإناء ولم يتيقن طهارتها يكره له ذلك من قبل
الغسل فقال عقب ذلك فيه أمور: أحدها: أن تعبيره بقوله: "ولم يتيقن
طهارتها يدخل فيه أربعة أقسام وهي تيقن النجاسة وظنها وتوهمها, واستواء
الأمرين ودخولها صحيح إلا القسم الأول ثم قال: الأمر الثاني قد سبق في
الطهارة أن الماء إذا طهر إحدى اليدين إلى آخر ما ذكره السائل, وهو
كلام غير مستقيم وإن نقله غير واحد وأقروه, وبيان ذلك أن كلامه إن كان
في الخبث بأن كانت يداه نجستين لم يخل إما أن يغترف بيده إلى يده
الأخرى من ماء كثير أو قليل فإن كان الأول طهرت اليد بغمسها فيه بشرطه,
وإن كان الثاني فالماء كله صار نجسا فلم يصح ما قاله في صورة الخبث فإن
قلت يمكن تصويره بأن يدخل يده في الكثير ولا تطهر لبقاء وصف النجاسة
السهل الإزالة قلت هذا نادر ولا مشقة فيه فلا يصدق عليه كلامه. وإن كان
في الحدث بأن يكون مراده فرض ذلك في الاغتراف بيده إلى الأخرى بعد كمال
غسل الوجه لم يخل أيضا إما أن يغترف من كثير أو قليل, فإن كان الأول
فقد ارتفع حدثه بدخولها فيه فالماء الذي فيها غير مستعمل فيصح أن تطهر
به الأخرى, وإن كان الثاني بأن لم ينو الاغتراف أو نواه فما أخذه بيده
يطهرها ولا يرفع حدث الأخرى لو نقله إليها, ثم إن كان نوى الاغتراف
احتاج إلى غرفة ثانية ليده الأخرى إذا لم يغترف بها لاستعمال ماء
الأولى وهذا كله ظاهر معلوم من كلامهم في بحث المستعمل, ولم يذكروا هنا
ما يخالفه أصلا لأن الذي ذكروه هنا أن إدخال اليدين في الإناء مع عدم
تيقن طهرهما مكروه وإن نجس الماء في صورة تيقن النجاسة, واستشكال
الإسنوي رده جماعة كما بسطته في شرح العباب. فليس في هذا اغتراف. ولا
مخالفة لما ذكروه في بحث المستعمل من أن إحدى اليدين منفصلة عن الأخرى
في الحدث والخبث فاندفع قوله, ولا أظن أحدا هنا..إلخ وبان واتضح أنه لا
مخالفة بين الموضعين وأن التصويب والاعتراض اللذين ذكرهما في غير
محلهما فتأمل ذلك فإنه مهم, لأن جماعة نقلوا كلام الإسنوي هذا وسكتوا
عليه, وهو عجيب لوضوح فساده كما يظهر.
ج / 1 ص -41-
بأدنى تأمل فإن قلت قد يقع لبعض الناس أنه
يغترف بيده المتنجسة من القليل لتطهير الأخرى ولبعضهم أن يغترف من
القليل بلا نية اغتراف لتطهير يده الأخرى قلت: لا يسع الإسنوي أن يصوب
في هذه ما يوهمه كلامهم هنا أن هذا الماء يطهر يده الأخرى ولم يبالوا
بهذا الإيهام لو فرض وجوده وإلا فالصواب أنه لا إيهام كما علم مما
قدمته؛ لأن حكم ذلك معلوم من كلامهم في المستعمل, ومثل هذا السفساف لا
يورد على الأئمة. فإن قلت: قد يقع أيضا أن بعض الناس يدخل يده بنية
الاغتراف فيأخذ بها الماء لتطهير الأخرى وهو لا يطهرها؛ لأنه صار
مستعملا برفعه حدثها قلت: لا يصح فرض كلام الإسنوي في هذه أيضا؛ لأن
سلب الطهورية فيها هو صريح قول الروضة "أن الماء إذا جرى من عضو
المتوضئ إلى عضو آخر صار مستعملا" فكيف يصوب خلاف ذلك الموافق للوجه
الشاذ المتقدم قريبا, وبسبر هذه الصور مع بيان عدم صحة تأتي كلام
الإسنوي فيها "بأن فساد عبارته هذه كما تقرر وبعد أن تتأمل ذلك كله
يظهر لك اندفاع قول السائل فما في المهمات. إلخ. ووجه اندفاعه ما تقرر
أنه غير صحيح بل لا معنى له وبفرض صحته فهو في الاغتراف, والمسئول عنه
ليس فيه اغتراف واندفاع قوله أعني السائل, وحينئذ يكون كلام الروضة.
إلخ. ووجه اندفاع هذا أيضا أن كلام الروضة يشمل الاغتراف بإحدى اليدين
والصب عليهما ليصل الماء إلى الأخرى, وكله صحيح لا غبار عليه فتأمله
يظهر لك الصواب إن شاء الله تعالى.
"وسئل" -
نفع الله به - أيما أفضل الأنهار؟ "فأجاب"
بقوله: نيل مصر لما رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما "نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب".
"وسئل" رضي
الله عنه أيما أفضل ماء زمزم أو الكوثر؟ "فأجاب" بقوله قال شيخ الإسلام البلقيني ماء زمزم أفضل؛ لأن
الملائكة غسلوا به قلبه صلى الله عليه وسلم حين شقوه ليلة الإسراء مع
قدرتهم على ماء الكوثر فاختياره في هذا المقام دليل على أفضليته ولا
يعارضه أنه عطية الله لإسماعيل, والكوثر عطية الله لنبينا لأن الكلام
في عالم الدنيا لا الآخرة ولا مرية أن الكوثر في الآخرة من أعظم مزايا
نبينا صلى الله عليه وسلم ومن ثم قال تعالى:
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] بنون العظمة
الدالة على ذلك, وبما قررته علم الجواب عما اعترض به على البلقيني.
"وسئل" رضي
الله عنه عن أرواث الفئران إذ عمت البلوى بها في بلاد مليبار هل يعفى
عنها لأن عموم البلوى بها أكثر وأظهر من ذرق الطيور أو لا؟ "فأجاب"
- نفع الله بقوله - صرح النووي في مجموعه بأنه يعفى عن النجاسة التي
على منفذ الفأر إذا وقعت تلك الفأرة وعلى منفذها النجاسة في ماء قليل
أو مائع, ونقله ابن الرفعة في الكفاية عن الأصحاب. ولما ذكرت ذلك في
شرح العباب قلت عقبه: "ويؤخذ من ذلك بالأولى العفو عما تلقيه.
ج / 1 ص -42-
الفأرة في بيوت الأخلية من النجاسة ويؤيده
قول الفزاري يعفى عن بعرها إذا وقع في مائع وعمت البلوى بها, ويوافقه
ما نقله ابن العماد عن مشايخ مشايخه من العفو عن بعر الشياه الواقع في
اللبن حال الحلب, لكن في هذا نظر فإن الاحتراز لا يعسر عن ذلك عسرا
يلحقه بما قبله وما بعده, ونقل أيضا عن بعض مشايخه أنه يعفى عن مماسة
العسل للكوارة المجعولة من روث البقر ونحوه ا هـ. المقصود من عبارة شرح
العباب وبها علم أن الفزاري وهو من معاصري النووي - رحمهما الله - قائل
بالعفو في صورة السؤال وهو متجه في المعنى لكن ظاهر كلام الأصحاب
خلافه, وعليه فيفرق بينه وبين ذرق الطيور بأن البلوى بها عامة في كل
محل ويتعذر الصون عنها ولا كذلك الفئران فإن البلوى بها مختصة ببعض
الأماكن ومع ذلك يسهل الاحتراز عنها بتغطية الإناء وإحكام غطائه, وهذا
أمر سهل لا مشقة فيه فمن ثم لم يسمح الأصحاب بالعفو عن زبل الفئران وإن
سمحوا بالعفو عما على منافذها إلحاقا لها بسائر الحيوانات في ذلك
فينبغي لذي الورع الاحتياط والتحرز عما وقع فيه بعرها, ولا يقلد
الفزاري في العفو عنه لما علمت أن كلام الأصحاب ظاهر في رده والله
أعلم.
باب النجاسة.
"وسئل" رضي
الله عنه - ونفع بعلومه وبركته المسلمين - عن مسألة, قال سائل هذه
المسألة: وقع في نفسي بسببها شيء مع كثرة النقل فيها فتوى وغيرها وهي
أنهم ذكروا أن الشعر طاهر ما لم يعلم كونه من غير مذكاة دون بقية أجزاء
الحيوانات التي لا تصير أجزاؤها طاهرة إلا بالذكاة, ونحن نجدهم يأتون
بالسمن من الحبشة وغيرها وكذا الزباد من السواحل في بطاط وقرون من بلد
فيها مسلمون وكفار أو خالص أحدهما يأتي به المسلم أو غيره ويشتريه
المسلم أو غيره وكالشفار بمكة تباع, وأنصبتها عظام أو بعضها وفي نفسي
من هذه أكثر فإن عظام صيد البحر طاهرة فكيف يقال بالنجاسة مطلقا في
العظام؟ بينوا ذلك وابسطوه؟ "فأجاب"
فسح الله في مدته بأن ما نقل من أن الشعر طاهر ما لم يعلم كونه من غير
مذكاة دون بقية أجزاء الحيوانات التي لا تصير أجزاؤها طاهرة إلا بالذبح
لم أره في كلام أحد من الأئمة وكأن وجهه أن الشعر أي ونحوه كالصوف
والوبر والريش إذا كان من مأكول, وانفصل في الحياة يكون طاهرا بخلاف
نحو القرن والعظم والظلف فإنها لا تكون طاهرة من المأكول إلا إذا
انفصلت بعد الذبح دون ما إذا انفصلت قبله فقد عهد لنحو الشعر حالة يحكم
له فيها بالطهارة مع الحكم بالنجاسة في تلك الحالة لنحو العظم فمن ثم
افترقا فهذا الفرق, وإن تخيل لكنه لا يجدي ما ذكر من الحكم بالطهارة
لنحو الشعر والنجاسة لنحو العظم. فإن هذا الفرق إنما يتأتى في نحو شعر
علم حاله ونحو عظم كذلك وهذا لا كلام.
ج / 1 ص -43-
فيه وإنما الكلام فيما جهل حاله منهما فلم
يدر هل هو من مأكول أو من غيره أو انفصل قبل الذبح أو بعده أو في حال
الحياة أو الموت, وكل منهما حينئذ على حد سواء؛ لأنا إن نظرنا لحالة
اتصالهما فهما طاهران أو لحالة انفصالهما بعد الذبح, وهما من مأكول
فهما كذلك أو بعد الموت فهما نجسان أو في حالة الحياة فأمرهما مشكوك,
فهما عند الجهل بحالهما على حد سواء فإما أن يقال بطهارتهما أو
نجاستهما, والذي يظهر أن الكل طاهر ما لم يتحقق أنه من غير مأكول, وأنه
انفصل منه بعد موته وذلك؛ لأنا تيقنا طهارته عند اتصاله وشككنا في موجب
نجاسته وهو كونه من غير مأكول انفصل بعد موته أو في حياته بالنسبة لنحو
العظم, والأصل عدم طرق ما ينجسه فهو من قاعدة تعارض الأصل وغيره. وحاصل
ما في المجموع وغيره فيها عن الأصحاب, أن الأصل واليقين لا يترك حكمه
بالشك إلا في مسائل يسيرة لأدلة خاصة, وبعضها إذا حقق كان داخلا في
القاعدة فلو كان معه نحو ماء أو عصير مما أصله الطهارة وتردد في نجاسته
لم يضر تردده وهو باق على طهارته سواء كان تردده بين الطهارة والنجاسة
مستويا أو ترجح احتمال النجاسة حتى غلب على الظن الحكم بها, فإنه لا
يلتفت إليه وإن استند الحكم بها إلى سبب معين لا بقيده الآتي, كمقبرة
شك في نبشها وثياب متدينين بالنجاسة ومدمني الخمر والصبيان والمجانين
والقصابين والجوخ, وقد اشتهر عمله بشحم الخنزير, والورق ينشر رطبا على
الحيطان النجسة والخزف الآجر خلافا لمن قطع بنجاسته كالماوردي وغيره
نظرا لاطراد العادة باستعمال السرجين فيه والجبن المجلوب من بلاد
الفرنج. وإن اشتهر عمله بإنفحة الخنزير أو الملح الذي في جلدها والفراء
السنجاب ونحوها وإن اشتهر أنها لا تذبح وإنما تخنق, فكل هذه محكوم
بطهارتها عملا بالأصل نعم يكره استعمال ما غلبت فيه النجاسة, ثم محل
العمل بالأصل إذا استند ظن النجاسة إلى غلبتها فحسب. أما لو استند إلى
علامة تتعلق بالعين فيعمل بها كما لو رأى ظبية تبول في ماء كثير فوجده
عقب البول متغيرا وشك في أن تغيره به أو بنحو طول المكث واحتمل تغيره
به فحينئذ يحكم بنجاسته عملا بالظاهر؛ لاستناده إلى سبب معين كخبر
العدل بخلاف ما لم يوجد عقب البول متغيرا بأن غاب عنه زمنا ثم وجده
متغيرا أو وجد عقب البول غير متغير ثم تغير, ولم يقل أهل الخبرة أن
تغيره منه أو وجد عقبه متغيرا ولم يحتمل تغيره به لقلته فإنه في هذه
الصور كلها طاهر؛ لأن الأصل لم يعارضه شيء. وكما لو وجد قطعة لحم
مكشوفة في غير إناء أو كانت في إناء أو خرقة لكن في بلد فيه من لا يحل
ذبحه ومن تحل ذبيحته سواء استويا أو غلب من لا تحل ذبيحته فإنها لا تحل
حينئذ عملا بالظاهر أما عند غلبة من لا تحل ذبيحته فواضح وأما عند
استوائهما فتغليبا للمانع بخلاف ما لو كان من تحل ذبيحته أغلب فإنها
تحل؛ لأنه يغلب على الظن أنها ذبيحة مسلم, وكما لو جرح صيدا فغاب عنه
ثم وجد ميتا فإن وجد الموت عقب الجرح أحيل على السبب وإلا فلا ففي هذه
المسائل الثلاث ونحوها أعني مسألة الظبية وما بعدها حكم.
ج / 1 ص -44-
فيها بالنجاسة أو عدم الحل على خلاف الأصل
أو سبب قوي اقتضى ذلك, وهو العلامة المتعلقة بالعين الظاهر أثرها بخلاف
غيرها مما مر ونحوه فإنه لم يوجد فيه سبب قوي كذلك يقتضي الخروج عن
الأصل فحكم بطهارته على الأصل فكذا يقال في نحو الشعر والعظام: الأصل
فيه الطهارة ولم يوجد سبب قوي كذلك يخرجه عن الأصل فعمل به فيه. فإن
قلت لا نسلم عدم وجود سبب فيه كذلك يخرجه عن الأصل بل وجد ما أخرجه
عنه, نظير ما تقرر في مسألة القطعة اللحم المذكورة قلت الذي تقرر في
طعم اللحم إنما هو بالنسبة لحل أكلها وعدمه كما قدمنا الإشارة إليه
بفرض الحكم في حل الأكل وعدمه أما بالنسبة إلى النجاسة فلا كما صرح به
بعض مختصري الروضة حيث قال عقب التفصيل في القطعة اللحم وهذا بالنسبة
للأكل أما لو أصابت شيئا فلا تنجسه ا هـ. فإن قلت فما الفرق بين حل
الأكل وحرمته والطهارة والنجاسة؟ قلت: يفرق بينهما بأن الأصل في اللحم
حال اتصاله في حال الحياة حرمة أكله؛ فعملنا فيه بالأصل المذكور حتى
يوجد سبب قوي يقتضي حله وهو كونه في إناء ومن تحل ذبيحته أغلب. والأصل
في نحو الشعر والعظم حال اتصاله في حال الحياة الطهارة فعملنا بها فيه
حتى يوجد سبب قوي يقتضي نجاسته ولم يوجد ذلك فيه؛ فأبقيناه على أصله
ولم ننظر إلى أن ما يوجد منهما مرميا مثلا الغالب أنه يكون من ميتة على
أنه لا نسلم أن الغالب ذلك فظهر فرقان: ما بين حل الأكل وحرمته
والطهارة والنجاسة فلا يشكل عليك بعد ذلك إحدى المسألتين على الأخرى.
وما قلناه في قطعة اللحم يأتي حرفا بحرف فيما قالوه في صيد جرحه فغاب
عنه ثم وجد ميتا وبهذا الفرق الذي ذكرته هنا اتضح قولي في شرح مختصر
الروض بعد ذكر التفصيل في قطعة اللحم: وهل نحو الجلد والشعر والعظام
الملقاة في الشوارع كاللحم فيما ذكر من التفصيل أو هي طاهرة مطلقا؟ لأن
كون قطعة اللحم مرمية بلا إناء يغلب على الظن أنها ميتة بخلاف هذه,
الظاهر الثاني ا هـ. وبما قررته يعلم الجواب عن قول السائل - حفظه الله
- ونحن نجدهم يأتون بالسمن. إلخ. وحاصل الجواب عن ذلك؛ المعلوم أنها
طاهرة أيضا وأن القول بنجاسة ذلك غير صحيح لما علمته على أنه يحتمل أن
القائل بالتفصيل بين نحو الشعر ونحو العظم جرى في ذلك على مذهب عمر بن
عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر فإن
هؤلاء ذهبوا إلى أن الشعر والوبر والصوف والريش من الميتة طاهرة,
والعظم والقرن والسن والظفر نجسة وقال آخرون: إن هذه نجسة لكنها تطهر
بالغسل وقد استوفي في شرح المهذب حكاية الخلاف في ذلك والاستدلال
لمذهبنا من أن الحياة تحل الجميع بما ليس هذا محل بسطه. وعلى التنزل
والقول بما مر من أن نحو العظم نجس ما لم يعلم أنه انفصل من مذكاة فلا
نقول بنجاسة السمن والزباد ووعائهما وأنصبة الشفار ولأنا نعلم بالضرورة
أن من ذلك ما هو من مذكى وما هو من غيره. وقد صرحوا بأنه لو اشتبه إناء
بول بأواني بلد أو ميتة بمذكياته أخذ منهما ما شاء بلا اجتهاد إلا
واحدا, وذكر.
ج / 1 ص -45-
الإناء مثال فلو اشتبه أكثر من واحد أخذ ما
عدا العدد المشتبه فكذا يقال هنا: قد اشتبه أعيان نجسة بأعيان طاهرة
فيجوز الأخذ منها بلا اجتهاد ولا نحكم بنجاسة بعضها على التعيين. وقد
نقل في المجموع عن ابن الصلاح ما يؤيد ذلك فإنه نقل عن الشيخ أبي محمد
الجويني أنه بالغ في ذم من يغسل فاه بعد أكل الخبز زاعما أن الحنطة
تداس بالبقر وهي تبول وتروث عليها أياما طويلة, وعن الشيخ أبي عمرو بن
الصلاح أنه قال: "والفقه في ذلك أن ما بأيدي الناس من القمح المتنجس
بذلك قليل جدا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة فقد اشتبه إذا
واختلط قمح قليل متنجس بقمح طاهر ولا ينحصر ولا منع من ذلك, بل يجوز
التناول من أي موضع أراد كما لو اشتبهت أخته بنساء لا ينحصرن؛ فله نكاح
من شاء وهذا أولى بالجواز" ا هـ. هـ. وبه يتأيد ما ذكرته وإن كان مبنيا
على ضعيف وهو أن بول البقر على الحنطة مثلا وهي تدوسها لا يعفى عنه
والصحيح أنه يعفى عن ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" -
متع الله بحياته - عن رطوبة الفرج المنصوص على طهارتها هل تشمل الرطوبة
الواقعة حال الجماع التي قد تخرج في بعض الأحيان أم لا؟ "فأجاب" - حشرني الله في زمرته - بأن الذي صرحوا به أن
رطوبة فرج الحيوان الطاهر طاهرة إن كانت في الظاهر, وهي ما يوجد عند
ملتقى الشفرين ولا فرق في طهارة هذه بين المنفصلة والمتصلة خلافا لمن
وهم فيه بخلاف رطوبة الباطن الذي وراء ملتقى الشفرين فإنها نجسة لكن لا
يحكم بنجاستها إلا إن انفصلت؛ لأن ما في الجوف لا يحكم بنجاسته حتى
ينفصل ومع ذلك فلا يحكم بنجاسة ذكر المجامع؛ لأن الأصل عدم خروج
الرطوبة الباطنة التي هي نجسة, فإن علم خروجها مع الجماع نجست ظاهر
الفرج وذكر المجامع؛ فعلم أن الرطوبة الخارجة حال الجماع إن علم أنها
من الظاهر أو شك هل هي منه أو من الباطن؟ حكم بطهارتها وشملها قولهم:
ورطوبة الفرج طاهرة وإن علم أنها من الباطن كانت نجسة كما صرحوا به,
ولم يشملها كلامهم الأول والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه عما يخرج من العقرب حالة قتلها هل هو دم أم لا؟ وهل يعفى عنه
ولو خالطته رطوبة أخرى أجنبية؟ فإنه قد عم البلاء بقتل العقرب في
المسجد فيلاقي ما يخرج منها رجل المتطهر حال رطوبتها أم لا يعفى عن
ذلك؟ "فأجاب"
رضي الله عنه بأن الذي صرح به أصحابنا: أن العقرب ليس له دم يسيل قال
الغزالي وخرج بيسيل ما فيه رطوبة حمراء لا تفارقه بالسيلان فلا أثر
لها؛ لأنها لا تسمى دما إذ الدم ما يجتمع في عرق ويخرج بفتق ذلك العرق؛
أي ومع كون هذه الرطوبة لا تسمى دما هي نجسة فلو تحقق بقتلها في المسجد
إصابة هذه الرطوبة لشيء من أجزائه حرم قتلها فيه, وكون الشارع ندب إلى
قتلها لا يقتضي أن ذلك عذر في عدم تنجس المسجد وإذا أصابت هذه الرطوبة
بدن المصلي أو ثوبه عفي عن قليلها كدم الأجنبي, بل أولى نعم يشترط أن
لا يلاقيها رطوبة أجنبية, لكن.
ج / 1 ص -46-
الرطوبة الحاصلة من ماء الوضوء والغسل مما
يضطر لملاقاته لا يمنع ملاقاته العفو عن ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
"وسئل" -
أمدنا الله من مدده - ما الحكمة في تنجس الكلب؟ وهل سم الحيات ونحوها
نجس؟ "فأجاب"
- أفاض الله علي من فيض مدده - الحكمة في تنجس الكلب التنفير مما كان
يعتاده أهل الجاهلية من القبائح كمؤاكلة الكلاب, وزيادة إلفها
ومخالطتها مع ما فيها من الدناءة والخسة المانعة لذوي المروآت وأرباب
العقول من معاشرة من تحلى بهما ومن ثم حرم الجلوس على نحو جلد النمور
والسباع لأن ذلك كان فعل المتكبرين من الجاهلية؛ فنهى الشارع عن التأسي
بهم في ذلك فلما لم يكن في التأسي بهم هنا ما ليس فيه من الدناءة ثم
كان ثم حرمة ونجاسة, وهنا حرمة فقط. وسم نحو الحيات نجس كما صرح به جمع
متقدمون ومتأخرون والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يجوز التداوي بحافر الميتة وعظمها؟ "فأجاب"
- فسح الله في مدته - يجوز التداوي بحافر الميتة وعظامها بسائر
النجاسات صرفها ومخلوطها إلا الخمر فلا يجوز التداوي بصرفها ويجوز
بمخلوطها.
"وسئل" رضي
الله عنه عمن تنجس بكلبية فما حكمه؟ "فأجاب"
- نفع الله به - إن كانت النجاسة حكمية طهرت بمرور الماء عليها سبعا مع
الترتيب في إحداها, وإن كانت عينية لم تطهر إلا إذا زالت العين
وصفاتها, ثم غسلت سبعا إحداهن بالتراب فلو فرض أن العين لم تزل إلا بست
غسلات كانت كلها غسلة واحدة على الأصح والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه إذا كحل بنجس هل يجب عليه غسل باطن عينه؟ "فأجاب"
- نفع الله بحياته - يجب غسل باطن العين من النجاسة بخلاف الحدث الأصغر
والأكبر لندرة النجاسة وتكررهما فلو أمر بغسله فيهما أدى ذلك إلى ضرر؛
من ثم لم يندب غسله فيهما لأنه لم ينقل خلاف لقول جمع من أصحابنا
بندبه, ولا حجة لهم في نص الشافعي رضي الله عنه لأنه ليس ظاهرا في ذلك
كما قاله في شرح المهذب ولا في فعل ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه مذهب
له بل صرح الدارمي بكراهة غسله أي لمن تأذى به أذى خفيفا وإلا فالوجه
تحريمه. ثم رأيت الأذرعي أشار إليه على أن بعضهم أخذ بقضية إطلاق
الدارمي فصرح بكراهته وإن لم يتأذ به لكن من شأنه أن يتضرر به والله
سبحانه أعلم بالصواب.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - وبركته إذا أكل لحم كلب أو شرب لبنه فأخرجه من أسفل
على صورته هل يجب تسبيع المخرج أو يكفي غسلة واحدة؟ "فأجاب" رضي الله عنه من أكل لحم كلب مثلا طهر فمه بالتسبيع
ويكفيه في الفرجين الاستنجاء من فضلته ولو بالحجر ونحوه؛ لزوال حكم
المغلظ باستحالته. قال الروياني بعد نقله ذلك عن الشافعي: وعلى ذلك.
ج / 1 ص -47-
العمل في جميع البلاد, وتشكيك النفس فيه من
الوسواس ا هـ. ويؤيده أن المستحيل في المعدة كالمستحال إليه طهارة
ونجاسة ألا ترى أن اللبن النجس لما استحال إنفحة صار مثلها في الطاهرية
فكذا اللحم المغلظ لما استحال غائطا صار مثله, وبهذا يرد على ابن
العماد قوله لو تقيأ لزمه إعادة تسبيع فمه وتتريبه إلا أن يحمل على أنه
خرج منه قبل الاستحالة ومع ذلك ففيه نظر أيضا لما مر من نجاسة القيء
بمجرد وصوله للمعدة, وإن لم يتغير, إعطاء له حكم ما فيها بمجرد ملاقاته
لها فلم يفرق بين استحالته وعدمها, ويؤيده أيضا ما اقتضاه قول الزركشي
في تنجس ما لاقاها وما لاقته من نجاسة هي أغلظ من أنه لو شربت شاة ماء
متنجسا بمغلظ فذبحت فورا لم يجب تسبيع ما وصل إليه ذلك الماء. والفرق
بين الفم والسبيلين حيث يجب تسبيعه دونهما كما مر وإن خرج المأكول على
هيئته فإنهما لا يتغير حكمهما بدليل ما لو أكل نجسا غير مغلظ يجزئه
الحجر ويتعين غسل الفم بالماء, ويفرق بين هذا واستحالة الكلب ملحا فإنه
لا يتغير حكمه بل هو باق على تغليظه في حال انقلابه إلى الملح أيضا بأن
محل النجس ورد التخفيف فيه رخصة فعم ذلك التخفيف المغلظ وغيره بعدم
تعرض النصوص فيه للفرق بينهما, بل وتبعه التخفيف في غيره ألا ترى أن
عذرة لحم المغلظ الخارجة من أكله لا تسبيع على مماسها كما اقتضاه إطلاق
النص, وأما قول البلقيني: "يجب التسبيع والتتريب حتى في الفرج" فضعيف
وقد بينت ما في كلامه في شرح العباب والله أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه عن مسألة صورتها: سئل قاضي مكة المشرفة برهان الدين إبراهيم
بن ظهيرة - رحمه الله - عن الأمعاء من الشاة ونحوها هل يجب غسلها بعد
إزالة الفرث منها أم يعفى عنها؟ وهل صرح أحد من الأئمة بذلك. فأجاب
القاضي المذكور بقوله: يجب فيها بعد إزالة الفرث الغسل ولا يعفى عما
هناك من الأثر؛ إذ لا مشقة في ذلك. وقد صرح الإمام بدر الدين الزركشي
بما يدل على ذلك في الكلام على الإنفحة استطرادا والله تعالى أعلم
بالصواب انتهى جوابه. وسئل الشيخ الإمام السمهودي شيخ الحرم النبوي عما
إذا رئي عليها أثر الغسل والنظافة وطيب الرائحة ونحو ذلك هل يجب السؤال
عن غسلها قبل الأكل منها أم لا؟ حيث رئي عليها ما سبق. فأجاب - رحمه
الله - فقال الظاهر عدم وجوب السؤال عن ذلك حيث شاهد نظافة المطبوخ من
ذلك وطيب ريحه, ونحو ذلك فإنها آثار دالة على تقدم الغسل كما قالوه في
المجتازين بميت في صحراء وعليه أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يصلون
عليه, ثم يدفنونه فإن انتفى الأثر الدال على ذلك وجب الغسل أيضا والله
أعلم انتهى جواب السمهودي. فعلى هذا إذا وجدنا على ثوب كان عليه نجاسة
أثر الغسل ونحو ذلك فهل يكفي عن السؤال عن طهارته كالأمعاء المسئول
عنها أو لا؟ بينوا ذلك بيانا شافيا أثابكم الله. "فأجاب"
- نفع الله به - أما ما قاله المجيب الأول من عدم العفو عن الأثر فهو
صحيح, وقد ذكرت في شرح العباب وغيره ما يوافقه, وعبارة شرح العباب
"وأفتى جمع
ج / 1 ص -48-
يمنيون بأن ما يبقى في نحو الكرش مما يشق
غسله وتنقيته منه يعفى عنه بل بالغ بعضهم فقال الذي عليه عمل من علمت
من الفقهاء وغيرهم جواز أكل المصارين والأمعاء إذا نقيت عما فيها من
الفضلات وإن لم تغسل بخلاف الكرش" ا هـ. وفيه نظر, والوجه أنه لا بد من
غسلها إذ لا مشقة في ذلك وأنه لا بد من تنقية نحو الكرش مما فيه ما لم
يبق فيه ريح يعسر زواله انتهت عبارة شرح العباب. وما ذكره السمهودي من
أنه لا يجب السؤال, فهو متجه وهو الذي عليه الإجماع الفعلي ممن يعتد
بهم وغيرهم؛ للعادة المطردة أنها لا تطبخ إلا بعد غسلها وتنقيتها, بل
ومزيد المبالغة في نظافتها ولا يقاس بها الثوب إذا علمنا نجاستها ثم
رأيناها مغسولة مطيبة ولم ندر من غسلها بل نحكم مع ذلك ببقائها على
نجاستها إلا أن قياس ما قالوه في الهرة: أنه إذا غابت عنا وأمكن تطهير
فمها لا تنجس ما وقعت فيه لكنا نحكم ببقائها على نجاستها استصحابا
للأصل الذي عملناه, ويفرق بينه وبين الكرش بأن ذلك سومح فيه للمشقة في
السؤال عنه ولاطراد العادة فيه بمثل ذلك فكان الوجه عدم إلحاقه بالكرش
فيما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" أيضا
- أدام الله وجوده - سؤالا صورته إذا كان موضع من أرض أو ثوب مثلا
متنجسا فوقع على بعض ذلك المتنجس ماء فهل يطهر ذلك فقط أم لا يطهر إلا
بغسل الجميع؟ "فأجاب"
بقوله: إذا وقع الماء على بعض المتنجس فإن كانت نجاسته حكمية طهر ما
أصابه الماء, وإن كانت عينية وزالت يجب في غسل الباقي إدخال جزء مما
أصابه الماء والله أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عما إذا مات النحل وفيه عسل فهل ينجس؟ "فأجاب"
القياس أنه لا ينجس؛ لأن ميتتها لا تنجس ما مسته والله أعلم.
"وسئل" -
فسح الله في مدته - بما صورته فرض آدمي متولد بين آدمي وكلب فما حكمه؟
"فأجاب"
بقوله: الوجه كما اقتضاه صريح كلامهم وصرح به بعض المتأخرين أنه يكون
نجس العين ويتعلق به الأحكام الشرعية حتى إزالة النجاسة وحرمة دخول
المسجد إلا مع أمن التلويث, وتغتفر نجاسته بالقياس إلى ما يتعلق به ولا
تغتفر بالنظر إلى غيره ولو نحو زوجته فيما يظهر قال بعضهم, والظاهر أنه
لا يجوز الاقتداء به؛ لأن صحة صلاته لمكان الضرورة, ولا ضرورة إلى
الاقتداء ا هـ. وفيه نظر ومقتضى قولهم: كل من تصح صلاته من غير إعادة
يصح الاقتداء به صحة القدوة به وهو الأوجه؛ لأنه لا إعادة عليه فهو
كالسلس والمستحاضة.
"وسئل" -
فسح الله في مدته - عن ثوب به نجاسة معفو عنها كدم براغيث, فوقع فيه
نجس آخر غير معفو عنه وأريد غسله فهل يجب أيضا إزالة المعفو عنه تبعا
أم لا؟ لأنه قد يعسر زواله وقد يشق لكثرته "فأجاب"
بقوله قضية كلامهم أنه يجب عليه إزالته, لكن أفتى بعض.
ج / 1 ص -49-
اليمنيين بخلافه وعلله بأنه قد ينتشر
المعفو عنه بماء التطهير فهو كانتشاره بالعرق ونحوه, وإن تخيل متخيل أن
الماء يتأثر بوصوله إلى المعفو عنه ثم يسري إلى باقي الثوب فقد ذكر
البغوي أنه إذا كان على موضعين متفرقين من بدنه نجاسة فصب الماء على
أعلاهما فمر عليه ثم انحدر للأسفل فإنهما يطهران جميعا, فإذا كان الماء
فيما ذكره يطهر النجس الأسفل مع أنه قد يطهر الأعلى ولا يتأثر به,
فصورتنا أولى بعدم التأثر هذا إن كانت النجاستان على موضعين متفرقين
وإلا فالذي يظهر أنه تجب المبالغة في الغسل بحيث تزول أوصافهما أو يبقى
ما تعسر إزالته من لون أو ريح, ويبقى النظر فيما إذا بقي لون إحداهما
وريح الأخرى في محل واحد, وكلام الأصحاب في غير هذه الصورة قد يفهم
الطهارة ا هـ. وفيه تأمل لا يخفى على الفقيه.
"وسئل" -
فسح الله في مدته - عن رطوبة فرج المرأة التي هي ماء أبيض متردد بين
المذي والعرق هل يفرق في طهارتها بين المنفصلة وغيرها؟ وهل قول
الأقفهسي في شرح منظومته في النجاسات, وأما رطوبة الفرج فالصحيح
طهارتها ما لم تنفصل معتمد أعني تقييده بعدم الانفصال حتى إذا انفصلت
عن الفرج تكون نجسة, وكذا نقل شيخنا العلامة موسى بن زين العابدين عن
الخادم ما لفظه: "هذا كله في حال اتصالها فلو انفصلت ففي الكفاية عن
الإمام أنها نجسة بلا شك يعني بلا خلاف" ا هـ. هل كلامه هذا في الرطوبة
الخارجة من قعر الرحم الموصوفة أنها مترددة بين العرق والمذي أو في
الرطوبة الخارجة من الباطن, فإن كان في الأولى فكيف يحكم بنجاستها وهي
مقيسة على العرق, والعرق طاهر مطلقا انفصل أو لم ينفصل, وأيضا فإن
سيدنا الشيخ أبا إسحاق الشيرازي ذكر في المهذب لما حكى الخلاف فيها ما
لفظه: "ومن أصحابنا من قال أنها طاهرة كسائر رطوبات البدن" ا هـ.
ومعلوم أن رطوبات البدن طاهرة مطلقا وإن انفصلت, وعبارة الروض "وكذا
رطوبة فرج المرأة قال في شرحه فإنها طاهرة كعرقه ومنيه" لكنه قال بعد
ذلك "وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فنجسة" ا هـ. فقوله: "باطن
الفرج" هذه العبارة عبر بها هو وغيره من العلماء - نفع الله بهم - ولكن
هذا الكلام يبقى الإنسان معه في الحيرة العظيمة؛ لأن الرطوبة المختلف
فيها المصحح فيها الطهارة لا شك أنها تخرج من باطن الفرج, وعبارة
الجوجري بعد قول الإرشاد ولا مترشح من طاهر, ومن هذا القسم رطوبة الفرج
طاهرة من الحيوان الطاهر ونجسة من النجس قال في المجموع "وهي ماء أبيض
متردد بين المذي والعرق قال, وأما الرطوبة الخارجة من باطن المرأة فهي
نجسة ا هـ. كلام الجوجري, وعبارة الإسعاد "أما الرطوبة الخارجة من جوف
المرأة مثلا إلى داخل الفرج فإنها نجسة كما في المجموع والشرح الصغير
ولعله لم يحكم بنجاسة ذكر المجامع لأصل الطهارة" ا هـ فالقصد من تفضلكم
تحرير هذه المسألة فإن التفريق بين الانفصال وعدمه في الرطوبة الخارجة
من قعر الرحم فيه بعد عظيم, وكذا قولهم أما الرطوبة
ج / 1 ص -50-
الخارجة من باطن فرج المرأة فحرروا لنا ذلك
تؤجروا ولم أزل أستشكل كلامهم هنا في هذه المسألة "فأجاب
- شكر الله سعيه - بقوله: مأخذ الخلاف في طهارة الرطوبة ونجاستها هو
كونها مترددة بين المذي والعرق فالقائلون بنجاستها غلبوا شبهها بالمذي,
والقائلون بطهارتها غلبوا شبهها بالعرق كما هو مقرر في موضعه, ولما كان
شبهها بالعرق أقوى لكونها مجرد رطوبة لا تنفصل غالبا كالعرق كان الحكم
بالطهارة هو المعتمد, ثم المراد بالرطوبة المذكورة التي وقع هذا الخلاف
فيها هي التي توجد عند ملتقى الشفرين وهذا المحل في حكم الظاهر؛ لأنه
يظهر عند جلوس الثيب على قدميها؛ ومن ثم وجب غسله في الغسل من نحو
الجنابة أما الرطوبة الخارجة من الباطن الذي وراء هذا المحل فهي نجسة,
ولا فرق في طهارة الأولى بين المنفصلة والمتصلة, وأما الثانية فلا يحكم
بنجاستها إلا إن انفصلت؛؛ لأن ما في الجوف لا يحكم بنجاسته حتى ينفصل.
وأما ما وقع لابن العماد والزركشي من تقييد الأولى بعدم الانفصال فهو
وهم منشؤه عدم التأمل في كلام الإمام وفي كلام ابن الرفعة الناقل لذلك
عن الإمام فإن ابن الرفعة وتبعه ابن النقيب في مختصر الكفاية لما شرحا
قول التنبيه "ورطوبة فرج المرأة في ظاهر المذهب وبينا وجه الخلاف فيها
وتعليل الصحيح والضعيف" قالا: في آخر كلامهما بعد أن فرغا من ذلك "ولو
خرج من باطن فرج المرأة رطوبة قال الإمام: فلا شك في نجاستها وإنما
حكمنا بالطهارة..إلخ" وبتأمل صريح كلام ابن الرفعة في أن هذا ليس
تقييدا للأولى بحال الاتصال يظهر ما قدمته وقد تبع ابن الرفعة في هذا
السياق والحكاية لكلام الإمام على هذا الوجه القمولي فإنه ذكر الخلاف
في التي تخرج من قعر الرحم ثم قال قال الإمام: أما التي تخرج من الباطن
فلا شك في نجاستها ا هـ. وكذلك الأذرعي لكن بزيادة, وعبارته قال
الإمام: "وتساهل الأئمة في إطلاقهم الخلاف في رطوبة الفرج, ومرادهم أن
تلك الرطوبة هل ثبت لها حكم؟ وهل تنجس ما خرج؟ ثم قال ولو خرج من باطن
فرجها رطوبة فلا شك في نجاستها" ا هـ. وكذلك ابن الملقن فإنه حكى
الخلاف في نجاستها وطهارتها ثم قال: وأما إذا خرج من باطن فرج المرأة
رطوبة قال الإمام: لا شك في نجاستها وإنما حكمنا بالطهارة؛ لأنا لا
نقطع بخروجها ا هـ. فأفهمت هذه العبارات الصريحة الصحيحة أن الذي قال
الإمام فيه بالنجاسة إنما هو الرطوبة الخارجة من الباطن, وأن المراد
بالباطن غير المراد بقعر الرحم, وأن الإمام نفسه قائل بالطهارة مطلقا
انفصلت أو اتصلت ما لم يتحقق خروجها من الباطن وإلا كانت رطوبة الفرج
الظاهرة والباطنة نجسة أما الباطنة فواضح, وأما الظاهرة فلاتصالها بها
وأن الصواب خلاف ما دلت عليه عبارة ابن العماد, وخلاف قول الزركشي هذا
كله في حال اتصالها فإن انفصلت ففي الكفاية عن الإمام أنها نجسة بلا شك
يعني بلا خلاف ا هـ. فقوله: هذا كله في حال اتصالها ليس في محله؛ لأن
الخلاف إنما هو في الرطوبة الظاهرة, وما ذكره الإمام إنما هو في
الرطوبة الباطنة كما.
ج / 1 ص -51-
علمته مما مر فكيف يقيد هذا بذلك؟ ثم قوله:
بلا شك يعني بلا خلاف غير صحيح فقد ذكر هو بعد ذلك خلافا في الماء الذي
يخرج مع الولد, واعتمد فيه النجاسة وهو من الرطوبة الباطنة قطعا. إذا
تقرر ذلك واتضح الحق فيه وأن الصواب خلاف ما وقع لابن العماد والزركشي
فلنرجع إلى ما في السؤال فقوله: فإن كان في الأولى فكيف يحكم بنجاستها
وهي مقيسة على العرق يجاب عنه بأن الكلام ليس في الأولى كما تقرر موضحا
وقوله: ولكن هذا الكلام يبقى الإنسان معه في الحيرة لأن الرطوبة
المختلف فيها المصحح فيها الطهارة لا شك أنها تخرج من باطن الفرج يجاب
عنه أيضا بما مر من أن الخلاف إنما هو في الخارجة من المحل الذي يجب
غسله, وأن الخارجة من الجوف نجسة قطعا أو مع خلاف ضعيف جدا, ومن عبر عن
الأولى برطوبة باطن الفرج أراد بالباطن ما هو مستور وإن كان من الظاهر
وهذا هو مراد من عبر أيضا بقعر الرحم ومن عبر عن الثانية برطوبة باطن
الفرج أيضا أراد بالباطن الجوف. فحينئذ قول السائل لا شك أنها تخرج من
باطن الفرج إن أراد المعنى الأول فمسلم وإن أراد المعنى الثاني فممنوع
لتصريحهم بخلافه.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عن لفظ الخمر الواقع عند ذكر طهارة الخمر بالتخلل هل
هو حقيقة أو مجاز أو محمول عليهما حتى يشمل النبيذ؟ وهل يلزم من الحمل
عليهما الجمع بين الحقيقة والمجاز معا في لفظ باعتبار واحد؟ وهل الأصح
طهارة النبيذ بالتخلل أو لا؟ وهل المسكر المائع المحلوب من أشجار
النارجيل من غير اختلاط شيء به حكمه حكم النبيذ أو هو من النبيذ أو هو
خمر كالمشتد من ماء العنب؟ وما قولكم فيما إذا كان في إناء خمر فأدخل
فيها شيء حتى ارتفعت, ثم أخرج منها وعادت كما كانت ثم تخللت فهل تطهر
أو لا؟ إلا إذا صب عليها خمر وارتفعت إلى الموضع الأول قبل الجفاف كما
حكي عن البغوي أو بعد الجفاف أيضا وهل المعتمد قول البغوي أو لا؟ وما
قولكم فيما إذا كان في إناء خمر ثم أريقت ثم صب فيه خمر أخرى قبل غسله
ثم نقلت منه إلى إناء آخر طاهر ثم تخللت فيه فهل يحكم بطهارتها أو لا؟
لملاقاتها المحل المتنجس بالخمر في الإناء الأول, وهل يفرق هنا بين ما
إذا صبت قبل الجفاف وبين ما إذا صبت بعده أو لا؟ وهل الحكم المتقدم في
المسألة التي قبلها مختص بإناء التخلل أو شامل له ولغيره؟ "فأجاب"
بقوله: الخمر حقيقته هي المشتد من ماء العنب ثم إلحاق غيرها من الأنبذة
بها؛ إما بطريق القياس لغة بناء على أن اللغة تثبت قياسا وهو ما عليه
جمع محققون من أكابر أصحابنا كابن سريج وابن أبي هريرة وأبي إسحاق
الشيرازي والإمام الرازي ونقله ابن برهان وابن السمعاني وغيرهما عن
أكثر أصحابنا قالوا: فإذا اشتمل معنى اسم على وصف مناسب للتسمية كالخمر
أي المسكر من ماء العنب لتخميره أي تغطيته للعقل ووجد ذلك الوصف في
معنى آخر كالنبيذ أي المسكر من غير ماء العنب ثبت له بالقياس ذا الاسم
لغة, فيسمى النبيذ خمرا فيجب اجتنابه بآية.
ج / 1 ص -52-
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية لا بالقياس على الخمر. وعلى هذا القول؛
فالنبيذ يسمى خمرا حقيقة فيشمله قول أصحابنا: تطهر الخمر بالتخلل؛ وإما
بطريق القياس شرعا بناء على القول الآخر وهو: أن اللغة لا تثبت قياسا
وعليه بعض أصحابنا كإمام الحرمين والغزالي والآمدي ونقله في المحصول عن
أكثر أصحابنا وجمهور الحنفية؛ فعليه لا يسمى النبيذ خمرا وإن أعطي
حكمها فلا يشمله قولهم: تطهر الخمر بالتخلل بل قياسا فعلم مما قررته.
أن لفظ الخمر على الأول مشترك بين المسكر من ماء العنب والمسكر من غيره
وعلى الثاني حقيقة في الأول مجاز في الثاني وفي استعمال المشترك بين
معنييه خلاف في الأصول والأصح أنه يصح - لغة - إطلاقه على معنييه مثلا
معا, بأن يرادا به من متكلم واحد في وقت واحد إن أمكن الجمع بينهما لكن
ذلك مجاز؛ لأنه لم يوضع لهما معا, وعن الشافعي رضي الله عنه وغيره أنه
حقيقة نظرا لوضعه لكل منهما قال الشافعي وهو ظاهر فيهما عند التجرد عن
القرائن المعينة لأحدهما, وفي استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه الخلاف
في المشترك, فعلى الأصح يصح لغة مجازا أن يرادا معا باللفظ الواحد كما
في قولك: رأيت الأسد وتريد الحيوان المفترس والرجل الشجاع, وقول
الباقلاني: "لا يجوز ذلك لما فيه من الجمع بين متنافيين حيث أريد
باللفظ الموضوع له أي أولا, وغير الموضوع له معا مردود بأنه لا تنافي
بين هذين, وقال بعضهم لم يمنع الباقلاني استعماله في حقيقته ومجازه
وإنما منع حمله عليهما بغير قرينة قيل: وموضع الخلاف ما إذا ساوى
المجاز الحقيقة لشهرته وإلا امتنع الحمل عليهما قطعا؛ لأن المجاز لا
يعلم تناول اللفظ له إلا بتقييد, والحقيقة تعلم بالإطلاق ومحله أيضا
حيث لم تقم قرينة بالحمل عليهما كما فعله الشافعي رضي الله عنه حيث حمل
الملامسة في قوله تعالى:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] على الجس باليد
والوطء. فعلم أنه يجوز الجمع بينهما بالحمل عليهما في لفظ باعتبار واحد
وأنه لا محذور في ذلك خلافا لما يوهمه كلام السائل - نفع الله به - ثم
ذكرته أولا من أن الخمر حقيقة هي المعتصر من ماء العنب والنبيذ هو
المعتصر من غير ذلك هو ما حكاه الشيخان عن الأكثرين في الأشربة؛ لكن في
تهذيب الأسماء واللغات عن الشافعي ومالك وأحمد وأهل الأثر رضي الله
عنهم أن الخمر اسم لكل مسكر وعليه فلا يحتاج إلى التخريج السابق على أن
اللغة تثبت قياسا أولا وعليه أيضا فليس هنا جمع بين حقيقة ومجاز وعلى
كل فالمعتمد طهارة النبيذ بالتخلل كما بينته في شرح العباب وعبارته بعد
قول العباب. "وإلا الخمر وكذا النبيذ في المختار من المعتمد الذي صرح
به الشيخان كالأصحاب في بابي الربا والسلم لإطباقهم على صحة السلم في
خل التمر والزبيب المستلزمة طهارتهما, إذ النجس لا يصح بيعه ولا السلم
فيه اتفاقا وعلى الصحة تارة والبطلان أخرى في مسألة الخلول العشرة
الآتي بيانها في باب الربا. فعلم أنهم مصرحون بطهارة خل النبيذ
بالتخلل, وأن ذلك هو المعتمد مذهبا ودليلا لا دليلا فحسب.
ج / 1 ص -53-
خلافا لما يوهمه تعبير المصنف كالسبكي
بالمختار ومن ثم قال البغوي كما نقله عنه ابن الرفعة والقمولي وغيرهما:
"وإن قال الزركشي لم أره في تهذيبه ولا في فتاويه إذا ألقي في العصير
ماء حال العصر طهر قطعا؛ لأن الماء من ضرورته" وسبقه أي البغوي لذلك
شيخه القاضي فقال لو صب الماء في العصير واستحال للخل فهو طاهر ا هـ.
ووجه كون الماء من ضرورته أنه من ضرورة استقصاء عصره حتى يخرج جميع ما
فيه. إذ لو كلف الناس الإعراض عما بقي فيه لشق بهم لأن فيه تفويت مالية
عليهم؛ فعلم أنه من ضرورته بالنسبة لإخراج ما بقي فيه إلا أنه من أصل
ضرورة عصره لسهولته بدونه وإذا تسومح في هذا الماء وقيل فيه بالمسامحة
كما عرفت فأولى ماء النبيذ لتوقف العصر عليه وبما وجهت به كلامه اندفع
اعتراض الزركشي عليه بقول الشيخين لو طرح عصير على خل فغلبه العصير
وانغمر الخل فيه عند الاشتداد فانقلب خلا لم يطهر قال فإذا كان لا يطهر
بخلط الخل مع أنه من جنسه فأولى لا يطهر في الماء ا هـ. وقد علمت أنه
لا مساواة فضلا عن الأولوية لأن خلط الخل بالعصير لا حاجة إليه وخلط
الماء به مضطر إليه فضلا عن الاحتياج فكيف يشكل هذا بهذا؟ وقول القاضي
أبي الطيب: "لا يطهر النبيذ بالتخلل لوجود الماء فيه" ضعيف وإن حكاه عن
الأصحاب لما علمت من تصريحهم بخلافه ولا نظر لوجود الماء فيه؛ لأنه من
ضرورياته كما تقرر وعجيب من السبكي حيث تبع البغوي على هذا هنا واعترضه
في باب الغصب بأنه لا حاجة إلى الماء, على أن قوله لا حاجة إلى الماء
لعله سهو وإلا فالوجه أنه قاض بالحاجة, بل الضرورة اللهم إلا أن يريد
أنه لا حاجة إلى خل النبيذ فلا حاجة إلى الماء في عصر ما منه النبيذ,
ومع ذلك فالنظر إلى ذلك تأباه جلالته. ولو حصرنا الأمر في خل العنب لشق
ذلك على الناس لأنه قليل بالنسبة لخل غيره فإن قلت: ما قالوه في السلم
والربا لا ينافي ما قاله أبو الطيب لإمكان حمل كلامه على ما إذا تحقق
التخمر ثم التخلل, وكلامهم على خلافه قلت: وإن أمكن ذلك لكنه أعني
التخمر من غير تخلل نادر لما يأتي عن الحليمي وغيره, أن العصير لا يصير
خلا من غير تخمر إلا في ثلاث صور وهذه الثلاثة قليل فعلها فكان التخلل
من غير تخمر نادرا جدا؛ فلا يحمل عليه كلامهم بل صرح الشيخان كما يأتي
بأنه لا بد من توسط الشدة وسيأتي أنه باعتبار الغالب, وقضية تعليل أبي
الطيب أن نبيذ الرطب يطهر بالتخلل قطعا لأنه لا ماء فيه كما قاله
الشيخان كالأصحاب في الربا لكن منعه الماوردي ومن تبعه وقالوا لا يأتي
إلا بالماء. ومال إليه الأذرعي ولا يبعد أنه نوعان ثم رأيت ما وجهت به
كلام البغوي في الماء مصرحا به في كلام ابن العماد, وحاصله أنه إذا وضع
ماء في العصير لا لحاجة أو لاستعجال التخلل فوجهان, أي والراجح عدم
الطهارة فإن وضعه لحاجة طهر بلا خلاف وعليه ينزل قول البغوي: "لو ألقي
الماء حال العصر طهر بلا خلاف؛ لأنه من ضرورته بخلاف نحو البصل وبخلاف
إلقاء ما بعد العصر فإنه ليس من ضرورته, ومراده بإلقائه حال العصر ما
يصب على.
ج / 1 ص -54-
الثفل ليستخرج به ما بقي فيه من الحلاوة
وبقية ماء العنب وسألت عن ذلك فقيل: إنهم يستخرجون حلاوة الثفل بصب
الماء مرتين, ثم يصب ذلك على العصير, ومثل ذلك ما يوضع على العصير من
الماء تكثيرا له وما يوضع فيه من السكر ونحوه تكثيرا للحلاوة ففي كل
هذه الصور يطهر ا هـ. وتنزيله الضرورة في كلام البغوي على الحاجة موافق
لما قدمته, وما ذكر في إلقاء الماء بعد العصر واضح إذ لا حاجة إليه
فضلا عن الضرورة, وبه يرد ما ذكره في وضعه على العصير تكثيرا له لكن
سبقه لنحو ذلك القاضي فقال: لا يضر صب الماء في العصير استعجالا للنحل
ولا صب الماء في العصير حال عصره تكثيرا للخل أو لاستخراج الحلاوة من
الثفل فإن له في ذلك غرضا صحيحا ا هـ. وما ذكره في الأولين لعله مبني
على رأيه الضعيف الآتي أن مصاحبة العين لا تضر لكن تعليله يفهم أن ذلك
مبني على الأصح وحينئذ فالأوجه خلافه؛ لأن الملحظ الحاجة, ولا حاجة في
ذلك وليس مجرد الغرض حاجة كما هو ظاهر انتهت عبارة شرح العباب. وحاصلها
أن المنقول المعتمد طهارة سائر الأنبذة بالتخلل؛ لأن الماء من ضرورتها,
وإن مثلها في ذلك ثفل العنب الذي يحتاج في استقصاء عصره إلى ماء لأنه
من ضرورة استخراج بقية ما فيه, وإن كان ما لا يحتاج إليه يضر طرحه فإذا
تخلل ما طرح فيه لا يطهر وإن وضع عليه الماء قبل التخمر؛ لأنه صاحبته
عين لا يحتاج إليها فنجسته ومثل الماء في ذلك نحو السكر الذي يوضع في
العصير تكثيرا للحلاوة فيضر إلا إن فرض تخمره فإنه يطهر بالتخلل ومنه
يؤخذ أنه لو عصر أنبذة مختلفة ثم خلطها وهي عصير فتخمرت ثم تخللت طهرت
وهو غير بعيد ولا ينافيه كلامهم فيما لو طرح على الخل عصير؛ لأن الخل
يستحيل تخمره فنظروا ثم للغالب بخلاف ما نحن فيه فإن الكل يتخمر فإذا
تخلل طهر أخذا من كلامهم فيما لو وضع خمر على خمر أخرى فإنهما يطهران.
وإن كانا من جنسين كما يأتي وأن الرطب إذا اعتصر ولم يختلط به ماء
وتخمر ثم تخلل طهر قطعا ولم يأت فيه خلاف النبيذ وبه يعلم أن ماء
النارجيل إذا لم يخالطه غيره فتخمر ثم تخلل طهر قطعا أيضا ولا يأتي فيه
خلاف النبيذ لما علمت من الفرق أن ذاك فيه ماء وهذا لا ماء فيه,
والخلاف السابق في الرطب ليس في طهارة خله بالتخلل وإنما هو في أن
عصيره هل يأتي منه خل من غير ماء أو لا؟ فالقائلون لا يأتي منه إلا
بالماء يقولون لو فرض أنه أتي منه من غير ماء طهر قطعا, فالخلاف ليس في
طهارته بفرض أنه جاء منه خل فكذا يقال في ماء النارجيل, وقول السائل
وما قولكم فيما إذا كان في إناء خمر إلى آخر جوابه ذكرته في الشرح
المذكور وعبارته قال البغوي وتبعه صاحب الأنوار والغزي وإن تعقبه ابن
شهبة بأنه لم ير ذلك في كلام غيره وغيرهما واعتمده لو نقص من خمر الدن
أو أدخل فيه شيء فارتفعت بسببه ثم أخرج فعادت كما كانت أي فلا تطهر إلا
إن صب عليها خمر قبل الجفاف حتى ارتفعت إلى الموضع الأول ا هـ. لكن
عبارة أولئك في المسألة الأولى وهي مسألة النقص ولو أخذ منها شيئا وهي
أولى.
ج / 1 ص -55-
من تعبير المصنف بالنقص لشموله لما لو كان
بسبب تشرب الدن أو انعقادها بواسطة هواء ونحوه, والحكم بعدم طهارة الخل
في هذه الصورة ليس بظاهر, بل الذي يتجه الطهارة هنا نظير الارتفاع
بالغليان؛ لأن كلا ليس بفعل فاعل فسومح به قال أعني البغوي وإنما لم
يطهر في الحالة الأولى وهي ما لو ارتفعت بفعل فاعل كأن وضع في الدن ظرف
فارتفعت بسببه, أما الدن فلعدم الضرورة وأما الخمر فلاتصالها بنجس
بخلافه في الحالة الثانية وهي ما لو غمر المرتفع قبل جفافه بخمر أخرى
فإنها تطهر بالتخلل لأن أجزاء الدن الملاقية للخل لا خلاف في طهارتها
تبعا له ا هـ. وقوله: قبل جفافه الذي تبعه المصنف وغيره عليه يقتضي
أنها لا تطهر فيما لو غمره بها بعد جفافه, وتعليله يقتضي خلافه. قال
شيخنا شيخ الإسلام زكريا - سقى الله عهده -: "والموافق لكلام غيره أنها
لا تطهر مطلقا لمصاحبتها عينا وإن كانت من جنسها" وقال غيره لعله تصوير
لتحقق انغمار موضع الارتفاع ونظر بعضهم في كلام شيخنا المذكور ولعل
مأخذه قول الزركشي وابن العماد واحترز الشيخان بفرضهما التفصيل الآتي
في طرح العصير على خل عما لو طرح خمر فوق خمر فإنها تطهر, ويحتمل
التفصيل بين أن يكون الخمر من جنسها فتطهر أو من غير جنسها كما إذا صب
النبيذ على خمر فلا تطهر ا هـ. وكأن ما قالاه أولا مساو لما أفتى به
بعضهم من إطلاق أنه لا يضر طرح خمر فوق خمر انتهت عبارة الشرح المذكور,
وبها يعلم أن الارتفاع متى كان بفعل فاعل لا تطهر إذا لم يغمر المرتفع
بخمر أخرى, وهذه الصورة لا نزاع فيها وإنما النزاع فيما لو غمرها بخمر
أخرى والذي يتجه ترجيحه الطهارة حينئذ سواء ما قبل الجفاف وما بعده لما
علل به البغوي المقتضي أن فرضه الكلام قبل الجفاف إنما هو للتصوير لا
للاحتراز وما ذكره شيخنا ينازع فيه كلام الزركشي وابن العماد فإنهما
ذكرا الطهارة في ذلك على جهة نقل المذهب, ثم أبديا في مقابلته احتمالا
لهما مفصلا وهو وإن كان له وجه إلا أن ما أطلقاه من الطهارة الموافق
لعلة البغوي السابقة هو اللاحق بالاعتماد؛ لأنه المنقول, وتعليل شيخنا
بمصاحبة العين يجاب عنه بأنه تلك المصاحبة لا تضر لاشتراك كل من
العينين في التخلل المقتضي للطهارة فليست كمصاحبة عين غير خمر نعم قد
يقال في خصوص مثالهما وهو النبيذ: إذا وضع على خمر ومثله عكسه أن
الأوجه فيه عدم الطهارة لأن النبيذ فيه الماء ففي ذلك وضع الماء على
الخمر بلا حاجة وقد سبق أنه يضر. وقد يجاب بأنه لما اغتفر فيه الماء
للحاجة كان كالعدم فلم يضر طرح ما هو فيه من النبيذ على غيره؛ لأنه
تابع له ويغتفر في الشيء تابعا ما لا يغتفر فيه مقصودا وبهذا الذي تقرر
في مسألة البغوي تعلم الطهارة فيما لو أريقت الخمر من دن ثم صب فيه خمر
أخرى قبل الجفاف أو بعده ثم نقلت منه إلى إناء طاهر, وذلك لأنه إذا علم
أن المنقول فيما إذا صبت خمر على خمر أخرى الطهارة مطلقا فما هنا كذلك
لأن صبها في الدن المتنجس بالخمر غايته أنه كصبها في دن ارتفعت إليه
بفعل فاعل ثم نزلت عنه. وقد مر أن ظاهر المنقول طهارته سواء أصبها عليه
قبل الجفاف أم.
ج / 1 ص -56-
بعده, وسواء كانت من الجنس أم من غير الجنس
على ما مر فيه هذا على ما اعتمدناه في مسألة البغوي, وأما على ما
اعتمده شيخنا فيها من عدم الطهارة مطلقا, فقياسه هنا النجاسة وأنها لا
تطهر بالتخلل مطلقا؛ لأن الشيخ يجعل ملاقاة الخمر لأخرى كملاقاة العين
الأجنبية والذي مر عن البغوي والزركشي وابن العماد وغيرهم أنهم يفرقون
بينهما, وأن الفرق أن الخمر الأخرى تشارك الأولى في التخلل المقتضي
لطهارتهما فلم تكن كالعين الأجنبية التي لا تقبل ذلك, وبما تقرر يعلم
الجواب عن قول السائل وهل الحكم المتقدم..إلخ وهو أنه لا فرق لما تلا
عليك واضحا مبينا. وفي الأنوار لو نقلت من دن إلى آخر طهرت بالتخلل قال
البغوي بخلاف ما إذا خرجت منه, ثم صب فيه عصير فتخمر ثم تخلل لا يطهر ا
هـ. ولا ينافي ما تقرر في وضع الخمر على خمر أخرى لما سبق من الفرق
الواضح بينها وبين غيرها.
"وسئل" رضي
الله عنه أخبره عدل أنه خرج منه حدث فهل يلزمه قبول خبره أو لا كما
أفتى به بعض أهل اليمن. "فأجاب"
- متع الله بحياته - الصواب أنه يلزمه وزعم أن خبره لا يفيد اليقين, بل
الظن ولا يرفع يقين طهر بظن حدث يبطله أنه لو أخبره بوقوع نجاسة في
الماء لزمه قبول خبره مع وجود العلة المذكورة, ووجهه أن هذا وإن كان
ظنا إلا أنه قائم مقام اليقين شرعا في أبواب كثيرة والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه وبركته - ما حكم استعمال الورق البالي من الكتب أغشية
لها؟ "فأجاب"
رضي الله عنه استعمال ما ذكر من الورق أغشية جائز إن لم يكن فيها قرآن
ولا علم شرعي ولا اسم الله أو نبيه أو غيرهما من كل اسم معظم وإلا فهو
حرام ومن أطلق الإفتاء بالجواز فقد أبعد والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يكره لداخل الخلاء حمل ما كتب عليه ذكر؟ وهل يعم ما إذا
قصد حمل الأمتعة فقط أو لا؟ كحمل المصحف في أمتعة. "فأجاب"
بأن الأوجه الفرق بأن المحدث إنما منع من الحمل المخل بالتعظيم, ولا
إخلال إذا كان المصحف تابعا, ومناط الكراهة هنا استصحاب ما عليه الذكر
وإدخاله المكان الخسيس المقتضي لامتهانه, والإخلال بتعظيمه وذلك حاصل
وإن لم يقصده.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يحرم دوس الورق أو الخرقة المكتوب عليها اسم الله واسم
رسوله. صلى الله عليه وسلم "فأجاب"
بقوله: نعم يحرم دوس ذلك؛ لأن فيه إهانة له فهو كجعل الدراهم فيه, بل
أولى وينبغي أن يلحق بذلك كل اسم معظم كما قالوه في دخول الخلاء به,
وإنما لم يحرم؛ لأنه ليس فيه من الإهانة ما في دوسه.
"وسئل" فسح
الله في مدته عمن وجد ورقة ملقاة في الطريق فيها اسم الله ما الذي يفعل
بها "فأجاب"
بقوله: قال ابن عبد السلام الأولى غسلها لأن وضعها في الجدار تعريض.
ج / 1 ص -57-
لسقوطها والاستهانة بها, وقيل: تجعل في
حائط وقيل: يفرق حروفها ويلقيها ذكره الزركشي, فأما كلام ابن عبد
السلام فهو متجه لكن مقتضى كلامه حرمة جعلها في حائط والذي يتجه خلافه
وأن الغسل أفضل فقط, وأما التمزيق فقد ذكر الحليمي في منهاجه أنه لا
يجوز تمزيق ورقة فيها اسم الله أو اسم رسوله لما فيه من تقطيع الحروف
وتفريق الكلمة وفي ذلك إزراء بالمكتوب, فالوجه الثالث شاذ لا ينبغي أن
يعول عليه فإن قلت: وجه الضعيف أيضا أن هذه الحروف لما ركب منها هذا
الاسم المعظم ثبت لها التعظيم, فتفريقها بعد ذلك لا يوجب إهدار ما ثبت
لها. قلت إنما يأتي ذلك على ما مال إليه السبكي من أن الحروف المقطعة
حكمها حكم الكلمات الشريفة, ومقتضى كلامهم خلافه فإن قلت: ينافي ذلك
حرمة تلفظ الجنب بحرف من القرآن كما اقتضاه كلام الروضة, وأصلها وبه
صرح في المجموع. قلت: لا ينافيه؛ لأن تلفظه به بقصد القراءة شروع في
المعصية؛ فالتحريم لذلك لا لكونه يسمى قارئا وبهذا أيضا يجاب عن قول
ابن عبد السلام: لا ثواب في قراءة أحد جزأي الكلمة فما توهمه الإسنوي
من أن ذلك يخالف ما مر وأن الأوجه أنه لا يحرم التلفظ يرد بما ذكرته,
ويرد به أيضا على من اعتمد كلام الإسنوي وأخذ منه أن الذي يجب احترامه
من القرآن هو الجمل المفيدة, بل هذا الأخير زلة يستغفر منها.
"وسئل" -
نفع الله به - عما إذا وجد القارئ غلطا في شكل المصحف الكريم أو حروفه
هل يلزمه إصلاحه؟ "فأجاب"
بقوله إن كان ملكه أو علم رضا مالكه لزمه إصلاحه وكذا لو كان وقفا,
وخطه لا يعيبه وإلا لم يجز له إصلاحه وهذا التفصيل ظاهر وإن لم أر من
صرح به ثم رأيتني ذكرت في شرح العباب ما لفظه: ونقل الزركشي وغيره عن
العبادي أن من استعار كتابا فوجد فيه خطأ لم يجز له إصلاحه وإن كان
مصحفا وجب, وقيده البدر بن جماعة والسراج البلقيني بالمملوك قالا أما
الموقوف فيجوز إصلاحه وظاهر أن محله إذا كان خطه مستصلحا ا هـ. وظاهر
كلام العبادي أن المصحف يجب إصلاحه مطلقا وله وجه إن لم يعبه ذلك
الإصلاح فإن عيبه لرداءة خط المصلح فينبغي تحريمه وظاهر أن محل الوجوب
أيضا ما إذا كان ذلك الإصلاح قليلا لا يقابل بأجرة فإن كان كثيرا بحيث
يقابل بها فالذي يظهر أنه لا يجب عليه إلا إن جعل له مالك المصحف أو
ناظره أجرة في مقابلته, ويؤيده قولهم لو سئل في تعليم الفاتحة لمن
يجهلها وجب عليه تعليمه إياها وتعين عليه حيث لم يكن هناك غيره لكن لا
مجانا بل بأجرة فلم يجعلوا التعين مانعا من استحقاق الأجرة والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه بما لفظه صرحوا بأن نسيان القرآن كبيرة فكيف ذلك مع خبر
الصحيحين:
"لا يقول أحدكم نسيت آية كذا وكذا, بل يقول نسيت" وخبرهما أنه سمع رجلا يقرأ فقال -
"رحمه الله - لقد أذكرني آية كنت أسقطتها"
وما المراد بالنسيان وهل يعذر به.
ج / 1 ص -58-
إذا كان لاشتغاله بمعيشة عياله التي لا بد
منها؟ وهل يشمل ذلك نسيان الخط بأن كان يقرؤه غيبا, ومن المصحف فصار لا
يقرؤه إلا غيبا وفي عكسه هل يحرم أيضا؟ "فأجاب"
بقوله لا تنافي بين الحديثين والحديث الدال على أن نسيان القرآن كبيرة
أما الأول فلأن الأمر بأن يقول نسيت بتشديد السين أو أنسيت إنما هو
لرعاية الأدب مع الله تعالى في إضافة الأشياء إليه؛ لأنها منه بطريق
الحقيقة خيرها وشرها, ونسبتها للعبد إنما هي من حيث الكسب والمباشرة
فأمرنا برعاية هذه القاعدة العظيمة النفع العزيزة الوقع التي ضل فيها
المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية, فليس في هذا الحديث أن النسيان كبيرة ولا
أنه غير كبيرة كما اتضح مما قررته. وأما الثاني فهو دليل على أن المراد
بالنسيان المحرم أن يكون بحيث لا يمكنه معاودة حفظه الأول إلا بعد مزيد
كلفة وتعب لذهابه عن حافظته بالكلية, وأما النسيان الذي يمكن معه
التذكر بمجرد السماع أو إعمال الفكر فهذا سهو لا نسيان في الحقيقة فلا
يكون محرما وتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بأسقطتها دون أنسيتها يظهر
لك ما قلناه ولا يعذر به, وإن كان لاشتغاله بمعيشة ضرورية لأنه مع ذلك
يمكنه المرور عليه بلسانه أو قلبه فلم يوجد في المعايش ما ينافي هذا
المرور فلم يكن شيء منها عذرا في النسيان نعم المرض المشغل ألمه للقلب
واللسان والمضعف للحافظة عن أن يثبت فيها ما كان فيها لا يبعد أن يكون
عذرا؛ لأن النسيان الناشئ من ذلك لا يعد به مقصرا لأنه ليس باختياره,
إذ الفرض أنه شغل قهرا عنه بما لم يمكنه معه تعهده وقد علم مما قررته
أن المدار في النسيان إنما هو على الإزالة عن القوة الحافظة بحيث صار
لا يحفظه عن ظهر قلب كالصفة التي كان يحفظه عليها قبل. ونسيان الكتابة
لا شيء فيه ولو نسيه عن الحفظ الذي كان عنده ولكنه يمكنه أن يقرأه في
المصحف لم يمنع ذلك عنه إثم النسيان لأنا متعبدون بحفظه عن ظهر قلب,
ومن ثم صرح الأئمة بأن حفظه كذلك فرض كفاية على الأمة, وأكثر الصحابة
كانوا لا يكتبون وإنما يحفظونه عن ظهر قلب وأجاب بعضهم عن الحديث
الثاني بأن نسيان مثل الآية أو الآيتين لا عن قصد لا يخلو منه إلا
النادر وإنما المراد نسيان ينسب فيه إلى تقصير, وهذا غفلة عما قررته من
الفرق بين النسيان والإسقاط, فالنسيان بالمعنى الذي ذكرته حرام بل
كبيرة ولو لآية منه كما صرحوا به, بل ولو لحرف كما جزمت به في شرح
الإرشاد وغيره لأنه متى وصل به النسيان ولو للحرف إلى أن صار يحتاج في
تذكره إلى عمل وتكرير فهو مقصر آثم, ومتى لم يصل إلى ذلك بل يتذكره
بأدنى تذكير فليس بمقصر وهذا هو الذي قل من يخلو عنه من حفاظ القرآن؛
فسومح به وما قدمته من حرمة النسيان وإن أمكن معه القراءة من المصحف
نقله بعضهم عن جماعة من محققي العلماء وهو ظاهر جلي والله أعلم
بالصواب.
"وسئل" -
نفع الله به - هل يجوز كتابة قرآن أو اسم الله تعالى في حرز لكافر
يعتقد به حصول الخير له؟ وهل يفرق بين ما يكتب تكسيرا حرفيا أو عدديا
أم لا؟ "فأجاب"
بقوله: الذي صرح به أصحابنا أنه يحرم بالاتفاق السفر بالقرآن إلى أرض
الكفر سواء كان أهلها.
ج / 1 ص -59-
ذميين أم حربيين قال في المجموع. "ومحله
إذا خيف وقوعه بأيديهم؛ لما فيه من تعريضه للامتهان" وفي شرح مسلم إن
أمن ذلك كدخوله في الجيش الظاهر عليهم فلا منع ولا كراهة. وقال جماعة
من أصحابنا بالنهي مطلقا لظاهر الحديث وخشية من أن تناله الأيدي قال
الأذرعي وهو المختار ا هـ. قال أئمتنا: ولا يحرم بالاتفاق كتابة نحو
آيتين ضمن مكاتبتهم لأنه صلى الله عليه وسلم كتب ذلك في كتابه إلى
هرقل؛ ولأنه لا امتهان فيه ا هـ. إذا تقرر ذلك, فكتابة محض القرآن حرزا
لكافر ممنوعة مطلقا لأنه قد يظهر لنا أنه لا يمتهنه فإذا اختلى به
امتهنه ولا يبعد أن يلحق به الأسماء المعظمة, فإن قلت يجوز إسماعه
القرآن وتعليمه شيئا منه إن رجي إسلامه فهل فصلت كذلك في كتابة بعض
القرآن حرزا له قلت: مجرد الإسماع أو التعليم لا يقبل امتهانا بخلاف
الكتابة أما لو كتب آية أو آيتين ضمن حرز, فقياس ما تقرر جوازه؛ لأن
وقوعه ضمن غيره صيره تابعا غير معرض بذاته للامتهان, ويحتمل عدم الجواز
هنا أيضا لأن كتابة نحو الآية في ضمن مكاتباتهم يحتاج إليها في وعظهم
وإقامة الحجة عليهم, وأما كتابة الرقى لهم فلا حاجة بنا إليها فحرمت
مطلقا, ثم إذا قلنا بحرمة الكتابة إليهم فمحلها في كتابة للفظ القرآن
سواء كانت مكسرة تكسرا حرفيا, أو غيره.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عن رقية الكافر إذا لم يعلم أنها تتضمن كفرا هل يجوز
استعمالها للمسلمين أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: لا يجوز لأحد أن يستعمل رقية سواء كانت من كافر أو غيره إلا إذا
علم أنها غير مشتملة على كفر أو محرم, والدليل على ذلك أن الصحابة لما
سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن رقاهم لم يأذن لهم فيها حتى أمرهم
بأن يعرضوها عليه فعرضوها عليه فقال "لا بأس", وحيث كان في الرقية اسم
سرياني مثلا لم يجز استعمالها قراءة ولا كتابة إلا إن قال أحد من أهل
العلم الموثوق بهم: إن مدلول ذلك الاسم معنى جائز؛ لأن تلك الأسماء
المجهولة المعنى قد تكون دالة على كفر أو محرم, كما صرح به أئمتنا
فلذلك حرموها قبل علم معناها.
"وسئل" رضي
الله عنه عما إذا بان عظم أجنبية فهل ينقض مسه الوضوء. "فأجاب"
بقوله الذي ملت إليه في كتبي الفقهية أنه لا ينقض لأنه ليس مظنة للشهوة
بوجه فهو كالسن بل أولى لأنها يلتذ بالنظر إليها, وهذا لا يلتذ به. ولا
بالنظر إليه ويؤيد ذلك قول المهذب وغيره أن النقض إنما يكون بما يلتذ
بمسه دون نظره, وأما ما أفتى به بعضهم من أنه ينقض واستدل له بكلام
الأنوار, ففيه نظر ظاهر.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته؟ "فأجاب"
بقوله: قضية ما في المجموع عن الأصحاب التحريم وذلك لأنه قال: وأما ما
نقل عن سلمان رضي الله عنه "أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا
من القرآن فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية, فأجاب عنه أصحابنا بأنه
كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها ا هـ. فهو ظاهر.
ج / 1 ص -60-
أو صريح في تحريم كتابتها بالعجمية فإن
قلت: كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على
الكتابة بها فلا دليل لكم فيه قلت: بل هو جواب عن الأمرين, وزعم أن
القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه, فقد يكتب
بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه, فلا تلازم بينهما كما هو واضح وإذا لم
يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضي الله عنه في ذلك ظاهرا
فيما قلناه على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضي الله عنه سئل هل يكتب
المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال لا إلا على الكتبة الأولى
أي كتبة الإمام, وهو المصحف العثماني قال بعض أئمة القراء ونسبته إلى
مالك؛ لأنه المسئول وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة. قال أبو عمرو: ولا
مخالف له في ذلك من علماء الأمة, وقال بعضهم: والذي ذهب إليه مالك هو
الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون, وفي خلافها
تجهيل آخر الأمة أولهم, وإذا وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدث
الناس اليوم من مثل كتابة الربا بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء, فمنع
ما ليس من جنس الهجاء أولى, وأيضا ففي كتابته بالعجمية تصرف في اللفظ
المعجز الذي حصل التحدي به بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز, بل
الركاكة؛ لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو
ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم. وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط
الإعجاز وهو ظاهر في حرمة تقديم آية على آية كتابة كما يحرم ذلك قراءة,
فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة وبعكس الآيات محرمة وفرقوا
بأن ترتيب السور على النظم المصحفي مظنون, وترتيب الآيات قطعي. وزعم أن
كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا
يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن عما
كتبت عليه, وأجمع عليها السلف والخلف.
"وسئل" رضي
الله عنه عن مدخلي الميت قبره إذا أصابهم شيء من تراب قبره مع رطوبة,
ولم يتحقق نبش القبر هل ينجس؟ "فأجاب"
بقوله: لا ينجس إذ لا نجاسة مع الشك, ثم إن قرب احتمال النجاسة فالأولى
غسل ذلك وإلا الأولى ترك غسله وعلى هذا يحمل قول النووي - رحمه الله
تعالى - في شرح المهذب. "من البدع المذمومة غسل الثوب الجديد, أي الذي
لا يقرب احتمال نجاسته, وقول الشافعي واجب غسل حصى الجمار, أي لقرب
احتمال تنجسها لأن الغالب في مثلها أن تصيبه نجاسة المارين ونحوهم
فافهم ذلك فإنه مهم ولا يعارضه ما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
كانوا يمشون حفاة في الطرقات والطين ويصلون من غير غسل أرجلهم؛ لأنهم
قصدوا بذلك, إما بيان العفو عن طين الشوارع ونحوه أو أن هذا الدين سهل
لم يجعل الله علينا فيه من حرج خلافا لقوم غلب الشيطان على عقولهم فزين
لهم أن الوسوسة في الطهارات من شعائر المتقين, وما دروا أنها من الأدلة
القطعية على فساد العقل وقلة الدين, نعم هي شعار,.
ج / 1 ص -61-
أي شعار عند الشيعة الذين خذلهم الله
وأركسهم ومن خير ما عنده حرمهم وعنه طردهم فيلحق بهم الموسوسون, فإن من
كان على طريقة قوم حشر معهم والله تعالى يوفقنا لمرضاته ويمن علينا
بجزيل هباته.
"وسئل" رضي
الله عنه عمن لم يجد ماء وعلى بدنه نجاسة هل يتيمم للصلاة مع وجود
النجاسة أو يصلي بغير تيمم لعدم صحته مع النجاسة؟ "فأجاب"
بقوله: نعم يتيمم مع وجود النجاسة في هذه الصورة, وقولهم لا يصح التيمم
ممن على بدنه نجاسة محله فيمن كان معه ماء لا يكفيه إلا لإزالتها دون
الوضوء مثلا فهذا إذا أراد أن يتيمم عن الوضوء ثم بعد التيمم يغسل بما
معه نجاسة بدنه لم يصح تيممه؛ لأنه؛ للإباحة, ولا إباحة مع وجود
النجاسة فعليه أن يغسلها ولا يمكنه الصلاة بغير تيمم؛ لأنه واجد للتراب
فعليه التيمم به ثم الصلاة لحرمة الوقت ثم القضاء والله سبحانه أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عن كلب مس درجة بركة كبيرة وفيها ماء كثير فهل ينجس ما لاقاه
من الماء؟ "فأجاب"
بقوله: لا ينجس ملاقي الكلب في خلال الماء الكثير كما صرحوا به؛ لأن
كثرة الماء مانعة من وصول أثر النجس إلى غيره لتضاد ما بينهما.
"وسئل" -
أدام الله النفع به - عمن تنجس باطن عينه هل يلزمه غسله وإن خاف منه
تلفا أو بطء برء أو قلة ضوء؟ "فأجاب"
رضي الله عنه بقوله: يلزمه غسله من النجاسة ولا يلزمه غسله في الوضوء
والغسل, والفرق أن النجاسة أفحش من الحدث لأنه معنوي وهي حسية فشدد
فيها ما لم يشدد في الحدث, ومحل وجوب غسلها من النجاسة حيث لم يخش مبيح
تيمم, والأصلي على حسب حاله وأعاد وجوبا والله تعالى أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عن مصحف ليتيم أو موقوف بال عليه كلب مثلا ولم يمكن تطهيره
إلا بإزالة حروف كتابته وبطلان ماليته فهل يجب على الولي أو الناظر
التطهير المؤدي إلى ذلك أو لا؟ "فأجاب"
- نفع الله تعالى بعلومه - بقوله: الذي ملت إليه الوجوب ثم رأيت غير
واحد من أهل اليمن أفتى به أخذا بعموم قاعدة أن درء المفاسد مقدم على
جلب المصالح, وقياسا على إزالة نجاسة بدن الشهيد وإن أدى إلى إزالة دمه
وأقول لا يحتاج لذلك, بل للأصحاب في النجاسة المغلظة كلام يعم مسألتنا.
وقد صرح النووي بأن المسألة إذا دخلت تحت عموم كلام الأصحاب كانت
منقولة, وذلك الكلام الشامل لمسألتنا هو قولهم يجب التتريب وإن أدى إلى
فساد نحو الثوب وإذهاب ماليته. وهذا شامل لمسألتنا فيكونون مصرحين فيها
بوجوب التطهير وإن أدى إلى إزالة الكتابة وإبطال المالية فإن قلت:
صرحوا بأن إزالة النجاسة لا تجب إلا في صور ولم يذكروا هذه منها فاقتضى
ذلك أن هذه النجاسة لا تجب إزالتها. ويؤيده أن المصحف لا تعبد عليه,
فبقاء النجاسة عليه لهذا العذر وهو بقاء المالية لليتيم, والانتفاع
للموقوف عليهم لا يبعد أن يكون جائزا قلت: هو كذلك.
ج / 1 ص -62-
لولا ما عارض ذلك من أن بقاء النجاسة على
المصحف فيه ازدراء, وعدم القيام باحترامه فاقتضت رعاية ذلك وجوب تطهيره
وإن أدى إلى محوه وبطلان ماليته, وغاية ما في الباب أنه تعارض معنا حق
آدمي وهو النظر؛ لبقاء المالية وحق الله تعالى وهو تعظيم المصحف وإزالة
ما ينافي تعظيمه, فتقديمنا هذا الثاني على خلاف الأصل من تقديم حق
الآدمي على حق الله تعالى؛ لأن الخطر في بقاء النجاسة هنا أعظم من خطر
فوات المالية على أن فواتها لأجل تعظيم ما أمرنا به من تعظيم المصحف لا
خطر فيه ألا ترى أن قن اليتيم يجب قتله بنحو ترك الصلاة تقديما لحق
الله تعالى على حق الآدمي, وكذلك القن الموقوف فعلمنا أن حقوق الله
تعالى التي لا بدل لها ولا تستدرك مفسدتها تقدم على حقوق الآدمي, وبهذا
ظهر ما قلناه واتضح ما حررناه والله أعلم.
"وسئل" -
نفع الله به - عن الخمر إذا تخللت هل يقال انقلبت عينها أم لا؟ كما قال
بكل قائل. "فأجاب"
- رضي الله عنه - بقوله: إن أريد بانقلابها مع التخلل أن جسمها عاد
بعينه جسما آخر هو الخل فهو محال؛ لأن الجسم لا يصير جسما آخر, كما أن
الجوهر لا يصير جوهرا آخر, وكما لا يرجع الجوهر عرضا وعكسه, بل ولا
العرض عرضا آخر كالبياض سوادا أو عكسه, بل ولا البياض بياضا آخر فإذا
صار ثوب أبيض أسود لم ينقلب البياض سوادا, لكن أعدم الله البياض وأخلف
مكانه سوادا بقدرته, وكذا سائر الصفات. وإن أريد بذلك أن جسم الخمر
انعدم وخلف الخل مكانه بغير فصل فهو غير معلوم, وإن جاز في القدرة إذ
ليس كل جائز فيها واقعا إلا أن يعلم بالحس أو بخبر الصادق ألا ترى أن
إعدام الخمر وإخلاف مكانه الخل جائز في القدرة, لكن لما لم يرد به نص
وجب تكذيب مدعيه وكذلك يجوز أن يخلق الله تعالى بحضرتنا خلقا ولا يخلق
لنا إدراكا له ولو ادعاه مدع لم نصدقه, بل لا نشك في كذبه إذا تقرر ذلك
علم أن جنس الخمر بعد التخلل هو الخمر بعينه لا شك فيه, ولو جاز الشك
فيه لشك الإنسان في نفسه إذا تغيرت حاله من صحة لمرض وعكسه هل هو أو
غيره؟ وهذا لا يمكن ضرورة عاقلا أن يتوهمه وكذا الخمر, وإن العلم بكون
صفات الخل الواردة عليه غير صفات الخمر الموجود قبل التخلل فقدت
وأخلفتها صفة الخل ضروري, ولا يشك في هذا إلا معاند أو مخذول فذات
الخمر باقية وهو جسمها, وصفاتها معدومة وأخلفتها صفات الخل واسم الخمر
لا يطلق على ذاتها دون صفاتها ولا عكسه بل على مجموعها فإطلاق الانقلاب
عليها إذا تخللت تجوز في العبارة إذ هو حقيقة الانتقال من مكان إلى
مكان قال الله تعالى:
{وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا} [المطففين: 31] الآية فانقلبوا بنعمة من الله:
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وفي حديث صفية ثم قامت تنقلب فقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقلبها وفي حديث عثمان حين عاتبه عمر رضي الله عنهما
لما تخلف عن حضور الجمعة إلى أن طلع عمر المنبر انقلبت من السوق, فسمعت
النداء ومن ذلك أيضا قلبت الإناء لأن ما فيه انتقل من فوق إلى أسفل
وإذا تقرر.
ج / 1 ص -63-
أن الانقلاب الانتقال من مكان إلى مكان كان
ذلك محالا في الأعراض, فالمراد بانقلبت من الخمر إلى التخلل أن أعراضها
هي المتبدلة دون جسمها, وهذا معنى قول بعضهم: ماء العنب يغيره الله من
حال إلى حال في الرائحة واللون والفعل والطعم لا أنه ذهب ماء العنب,
وحدث غيره وإنما دخلت الشبهة على من قال انتقلت عينها من حيث إن الخمر
محرمة الذات نجستها, والخل حلال الذات طاهر فظن استحالة الحكم على
الذات الواحدة بالضد من النجاسة والطهارة والحرمة, والحل, وليس كما ظن
بل فيه تفصيل: هو أن النجس إما لأصله كالبول أو لما طرأ عليه كزيت ماتت
به فأرة, فالأول تستحيل طهارته باستحالة أصله بخلاف الثاني الطارئ عليه
ما هو العلة الشرعية في نجاسته؟ فإذا ارتفعت صح ارتفاع النجاسة عنه
شرعا. ونجاسة الخمر من هذا النوع لأنه كان طاهرا قبل وجود صفة الخمرية
فيه, فإذا أوردت وجبت نجاستها فإذا زالت وجبت طهارتها إلا إذا كان
بمصاحبة عين على اختلاف العلماء فيه, وفيه تفصيل في مذهبنا فجسم الخمر
يطهر بزوال صفة الخمرية كما يطهر الثوب من النجس بالماء فإن قلت: لا
فرق في الحقيقة بين البول والخمر والزيت إذ الماء أصل البول فساواهما
قلت: أجيب عن ذلك بأن المقرر أن الماء أصل لكل ما فيه بلة من جميع
النبات والحيوان فلما كان الماء مستهلكا في جميع ما يحصل منه كان ملغى,
ووجب اعتبار ما يخرج منه كالعصير والبول, فالبول أصل في نفسه لما ألغي
أصله, كما أن العصير أصل لما ألغي أصله على أن البول ليس عين المشروب,
وإنما هو وسخ يصل للمثانة يجتمع من بلة الجسم ورطوبته وإن لم يشرب
الماء ألا ترى أن الولد يبول عقب الولادة قبل أن يشرب ماء وإنما لم
يجعل الخمر أصلا في نفسه كالعصير؛ لأن جميع العصير لم يستهلك بعد صفة
الخمرية بخلاف الماء الذي شرب أو يسقى به الكرم فإنه استهلك في الجسم
والكرم.
"وسئل" -
نفع الله به - عن كلب لاقى درجة بركة وفيها ماء كثير فهل ينجس ما لاقاه
بين الماء؟ "فأجاب"
رضي الله تعالى عنه بقوله: كثرة الماء مانعة من النجاسة؛ لتعذرها معها
ومن ثم لو أمسك كلبا داخل الماء الكثير لم تنجس يده والله أعلم.
"وسئل" -
نفع الله تعالى بعلومه - عن الزباد هل يحل استعماله مع وجود الشعور وهل
يعفى عنها؟ وما قدر المعفو عنها؟, وعسر الاحتراز ووجود الخلاف في الهرة
الوحشية هل يقتضيان العفو مطلقا لعسر الاحتراز؟ "فأجاب"
- فسح الله تعالى في مدته - بقوله يحل استعمال الزباد ويعفى عن شعره
القليل عرفا كالثنتين والثلاث وعبارة شرحي على العباب مع متنه فرع في
المجموع وغيره "الزباد طاهر وهو لبن سنور بحري يجلب كالمسك ريحا,
واللبن بياضا يستعمله أهل البحر طيبا قاله الماوردي والروياني وأشار
إلى خلاف فيه بناء على نجاسة لبن غير المأكول لكن تعقبهما في المجموع
بأن الصواب طهارته, وصحة بيعه لأن الصحيح.
ج / 1 ص -64-
أن جميع حيوان البحر طاهر يحل لحمه ولبنه
أو عرق سنور بري كما هو المشاهد قال النووي وهو الذي سمعته من ثقات أهل
الخبرة فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف" ا هـ. وقد يقال لا منافاة لاحتمال
أن يكون لبن البحري كذلك ثم رأيت ابن الرفعة قال: وطريق الجمع أنه
نوعان لكن الغالب الثاني, وبه يرد قول الدميري: أن ما في الحاوي والبحر
وهم وفي القاموس: والزباد الطيب وهو رشح يجتمع تحت ذنبها على المخرج
فتمسك الدابة, وتمنع الاضطراب ويسلت ذلك الوسخ المجتمع هنالك بليطة أو
خرقة ا هـ. ويتجه كما بحثه بعضهم وتبعه المصنف وغيره العفو عن يسير
شعره؛ لما يأتي من العفو عن يسير شعر غير المأكول وبه يخص عموم قول
المجموع: "أنه يغلب اختلاطه بما يتساقط من شعره فليحذر عما وجد فيه,
فإن الأصح نجاسة شعر ما لا يؤكل, ومنع أكل السنور البري" انتهت عبارة
شرح العباب.
"وسئل" رضي
الله عنه عمن جرح جفن عينه فخرج منه دم, ودخل عينه هل يلزمه غسل
باطنها؟ فإن قلتم نعم وكان يخاف من غسلها تلفها أو بطء برئها أو قلة
ضوئها ما الحكم؟ "فأجاب"
- نفع الله بعلومه - بقوله: يعفى عن ذلك الدم ما لم يختلط بالدمع
فحينئذ يلزمه غسل ما وصل إليه من باطن العين ما لم يخش من غسله مبيح
تيمم كحدوث رمد أو بطء برئه.
"وسئل" رضي
الله عنه عن لحم المذكاة يخرج منه عروق يخرج منها دم هل هو طاهر أو نجس
يعفى عنه أو لا؟ "فأجاب"
رضي الله عنه بقوله: الصحيح أنه نجس وأنه يعفى عنه, ومن قال إنه طاهر
أراد به أنه حكم الطاهر باعتبار العفو عنه, ولا حجة لمن زعم حقيقة
الطهارة لقوله تعالى:
{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً}
[الأنعام: 145] لأن هذا مسفوح وإنما منع جريانه قلته؛ فلم يصح الاحتراز
عنه في الآية بالمسفوح وإنما هو احتراز عن الكبد والطحال لأنهما لما
انعقد أخرجا عن السفح فصارا طاهرين وحل أكلهما بنص قوله صلى الله عليه
وسلم
"أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال".
"وسئل" رضي
الله عنه بما لفظه: في جهتنا تصلح البيوت بالطين وكذلك كوارات النحل
يعجن طينها بالزبل هل يعفى عنه لمشقة الاحتراز عنه؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله لا يعفى عن شيء من ذلك إذ ليس
هذا مما يضطر إليه وزعم أن الطين لا يعجن ولا يلتئم إلا بالزبل ممنوع,
بل دقيق تبن نحو الفول أحسن في الخلط والالتئام من الزبل, وكذا يقال في
الآجر المعجون طينه بالزبل فلا يعفى عنه كذلك ولقد شاهدنا كثيرا من
يعجنونه بالتبن المذكور فيأتي أحسن مما عجن بالزبل, فالعجن به لم يحتج
إليه فضلا عن زعم أنه مضطر إليه.
"وسئل" -
نفع الله به - عما في فتاوى الشيخ زكريا - رحمه الله - وذلك أنه سئل
عما صورته إذا بال الرجل ولم يستنج أو استنجى بحجر هل يحرم عليه الوطء
أم لا؟ فأجاب بأن الظاهر.
ج / 1 ص -65-
أنه يحرم عليه الوطء لما فيه من التضمخ
بالنجاسة وهو حرام ا هـ. كلامه. فهل هو صحيح أم لا؟ لكن في الخادم نبه
الصيمري في شرح الكفاية على أمر حسن, وهو أن الغالب من حال كل إنسان
أنه عند الجماع يسبق منه خروج المذي قبل المني لا سيما من يحصل منه
ملاعبة, وإذا سبق المني تنجس رأس الذكر وكذا منيه الخارج عقبه متنجس؛
فينبغي له التحرز عنه ويتعدى ذلك إلى مني المرأة فينجسه ا هـ. وظاهره
في هذه الصورة عدم تحريم الوطء خلاف ما في فتاوى الشيخ المذكور فما
المعتمد من ذلك؟ "فأجاب"
بقوله: أما ما قاله فيمن لم يستنج فظاهر وإنما التردد فيما قاله في
المستنجي بالحجر, والكلام فيه في مقامين: الأول في أن الذكر هل يتنجس
بملاقاة الفرج حينئذ أو لا؟ كل محتمل, والأوجه الأول فقد قال الجلال
البلقيني محل قولهم إذا عرق محل استجماره ولم يجاوز صفحته أو حشفته عفي
عنه وإن تلوث به غيره إن كان ذلك الغير نحو ثوبه دون ثوب غيره ا هـ.
وقد صرحوا بأنه لا يعفى عنه إذا لاقى رطوبة أخرى, وعبارة شرح العباب.
"ولم أر تعرضا للمرأة المستجمرة بالحجر, وظاهر أنها كالرجل فيما ذكروا,
وأن العبرة في فرجها بمجاوزة شفريها قياسا على حشفة الذكر وأن ذكر
مجامعها لا يعفى عما يصيبه من رطوبة فرجها ما دامت مستجمرة بالحجر, ثم
رأيت الزركشي أخذ نحو هذا الأخير من تعليلهم العفو في المسألة الأولى
أعني قولهم: أو تلوث به غيره لعسر تجنبه, أي وذلك لا يعسر تجنبه, وسبقه
إليه ابن العماد" انتهت عبارة الشرح المذكورة, وإذا قلنا بتنجس الذكر
فهل نقول بحرمة الوطء كما أفتى به الشيخ لما فيه من التضمخ بالنجاسة أو
لا يحرم للحاجة إليه؟ والصواب في ذلك تفصيل لا بد منه وهو أنه إن
استنجى بالحجر لعدم الماء جاز له الوطء للحاجة أو مع وجود الماء لم يجز
له؛ إذ لا حاجة حينئذ وعلى هذا يحمل كلام الشيخ. وفي المجموع عن
الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم أنه يجوز للرجل أن يتوطن بادية لا ماء
بها وأن يجامع زوجته بلا كراهة, وبذلك قال أكثر العلماء: وصح أن أبا ذر
رضي الله عنه كان يقيم بالربذة, أي وهي بادية قريبة من المدينة ويفقد
الماء أياما, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"التراب كافيك وإن لم تجد الماء عشر سنين", وروى أحمد بسند ضعيف أن رجلا قال يا رسول الله
الرجل يغيب ولا يقدر على الماء, أيجامع أهله؟ قال "نعم" ا هـ. حاصل ما
في المجموع, وهو كما ترى صريح في جو از الوطء عند الاستجمار بالحجر
لفاقد الماء, ويوافق ذلك اتفاق أئمتنا على جواز وطء المستحاضة بلا
كراهة. وإن كان الدم يجري, وعليه أكثر العلماء أيضا؛ للخبر الحسن أن
حمنة رضي الله عنها كانت مستحاضة, وكان زوجها يطؤها فهذا تضمخ بالنجاسة
لكنه عفي عنه للحاجة فإن قلت: ما ذكرته في القسم الثاني, وحملت عليه
إفتاء الشيخ فيه نظر, ففي الجواهر يجوز وطء الرجل زوجته في ثقبة انفتحت
تحت معدتها مع انفتاح الأصلي أو انسداده, وإذا جاز ذلك مع مباشرته
للنجاسة, وعدم تعاطيه مخففا لها, فليجز في مسألتنا دنو مع الماء
بالأولى؛ لأن الاستجمار بالحجر رخصة تصير المحل كالمحكوم له بالطهارة
في.
ج / 1 ص -66-
أكثر الأحكام قلت: هذا ظاهر لو كان ما في
الجواهر سالما عن النزاع, وليس كذلك فقد نازع فيه الزركشي بأن التضمخ
بالغائط أشد منه بالدم, أي في وطء المستحاضة؛ ولذا عفي عن يسيره دون
يسير الغائط, ولذا حرم الوطء في الدبر ا هـ. وهو نزاع متجه موافق لعموم
قول المجموع وغيره: لا يثبت للمنفتح المذكور شيء من أحكام الفرج,
فاستثناء القمولي ذلك غير ظاهر, نعم يمكن حمل كلامه على وطء ليس فيه
تضمخ بغائط بل بدم؛ لأنه حينئذ نظير وطء المستحاضة, وقول السائل - نفع
الله به - إن كلام الخادم الذي ذكره ظاهر في جواز الوطء فيه نظر, بل
ليس ظاهره ذلك ولا قضيته؛ لأن معنى قوله: فينبغي له التحرز عنه أي عن
المني فليغسل ما أصابه منه, وإن لم نحكم بنجاسته احتياطا؛ رعاية للغالب
الذي ذكره من سبق المذي النجس للمني الذي يعقبه, فليس في هذا تعرض لوطء
ولا دلالة على حكمه أصلا والله الموفق للصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه عن الأفيون الذي يجلب من الهند واليمن, هل يحرم أكله أو لا؛
لعدم إسكاره وإضراره؟ وفي السمن الذي يجلبه الكفار الوثنيون من الجبل
في الجلد الذي لم يدبغ, ولم يعلم أنه من المذبوح أو غيره, وهم يقولون
أنه ذبيحة المسلم, هل يحل استعماله للمسلم أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: أكل الأفيون حرام إلا لمن ابتلي به وخشي الهلاك من فقده فيباح
له لكن عند الضرورة, لا مطلقا كلحم الميتة للمضطر, وكثيرون من المتفقهة
الذين ابتلوا به يظنون أن مجرد خشية هلاكهم بفقده يجوز لهم تناوله كيف
أرادوا وهذا تخيل فاسد زينه لهم الشيطان ليدوم ضحكه عليهم في سائر
الأحوال والأزمان. وإنما الحق في ذلك ما قررناه من أنه يصير كلحم
الميتة للمضطر فلا يتناول إلا حالة الاضطرار ولا يتناول منه في هذه
الحالة إلا القدر اليسير جدا الذي يندفع به خشية الموت, ومن أدمن ذلك
انقطع عنه سريعا فإنهم أجمعوا على أنه ينقطع بالتدريج فحينئذ يجب على
المبتلى به أن يتدرج في قطعه حتى يسلم من عظيم إثمه, وقول السائل: لعدم
إسكاره وإضراره عجيب منه فقد صرح الأئمة بحرمته وعدوه من السموم
المخدرة المسكرة. وهذا مشاهد لا يخفى على من له أدنى ذوق أو إحساس
اللهم إلا على من ابتلي به, وارتبك فيه فهذا لا عقل له ولا دين لأنه
يخرجه عن حيز الآدميين إلى حيز الممسوخين من القردة والخنازير, وكم
شاهدنا من ابتلي به فمسخ بدنه حتى صار لا يدرك منه إلا خياله, ومسخ
عقله حتى صار لا يصدر منه إلا هدره وخباله, والسمن المذكور طاهر كما هو
بديهي من قاعدة أن ما غلبت النجاسة في نوعه ولم تعلم فيه بعينه يحكم
بطهارته عملا بالأصل, وما كمسألة بول الظبية إنما هو لمعنى انضم
للمشاهدة لا يتأتى هنا كما هو واضح.
"وسئل" رضي
الله عنه عما لو ولغت هرة في متنجس بنجاسة كلبية ثم غابت بحيث يحتمل
ولوغها في ماء كثير, ثم ولغت في إناء فهل يحكم بطهارة سؤرها في هذه
الحالة.
ج / 1 ص -67-
كسائر أحوالها أو لا؛ للفرق بين المغلظة
والمخففة؟ وهل هذه المسألة كمسألة طين الشوارع أم لا؟ "فأجاب"
بقوله: لا يحكم بطهارة فمها بغيبتها في هذه الحالة, ولا في غيرها خلافا
لما يوهمه بعض العبارات, وكأن السائل توهم ما ذكره من تلك العبارات,
وإنما المعتمد المنقول المصرح به في ذلك أن الهرة أو غيرها من
الحيوانات التي تختلط بالناس وغيرها إذا أكلت نجاسة, ثم غابت واحتمل في
العادة ولوغها فيما يطهر فمها بأن يكون كدرا بالنسبة للنجاسة المغلظة
فإذا غابت واحتمل طهر فمها كما ذكر, ثم عادت وولغت في ماء قليل أو
مائع, أو مست بفمها ثوبا مثلا فلا يحكم بنجاسة ما لاقى فمها, وإن كان
باقيا على نجاسته, لأن الأصل بقاؤها. وإنما لم نحكم بنجاسة ما لاقى
فمها مع الحكم بنجاسته أعني الفم عملا بالأصلين المتعارضين؛ لأن الأصل
فيما مسته الطهارة, والأصل في فمها النجاسة, ولكن بغيبتها ضعف أصل
النجاسة فلم يؤثر التنجيس فبقي ما مسته على طهارته إذ لا يلزم من
النجاسة التنجيس فعلم أن هذه المسألة ليست كطين الشوارع, وإن كانت
النجاسة متيقنة فيهما؛ لأن طين الشوارع معفو عنه مع تحقق نجاسته وعدم
ما يعارضها لكنه لا يعفى عنه مطلقا, وإنما يعفى عما يتعذر الاحتراز
عنه؛ لأن هذا هو ملحظ العفو فيه, وأما فم الهرة فلا يقال إنه معفو عنه,
وإنما يقال: نجس لم ينجس لضعفه باحتمال زواله بالولوغ في ماء يطهره عند
الغيبة سواء كان ذلك النجس الذي أكله نحو الهرة مغلظا أو غيره, لكن
يشترط في المغلظ احتمال ولوغه في ماء كدر بتراب يكفي في النجاسة
المغلظة فإذا احتمل ولوغه في ذلك لم ينجس ما ولغ فيه, ولا ما مسه كما
صرحوا به والله أعلم.
باب الاجتهاد.
"وسئل" رضي الله عنه عن رجل تحت يده غلات أوقاف متحدة المصارف أو مختلفتها
من شخص أو أشخاص, فوضع غلاتها في مواضع فالتبست عليه فهل يسوغ له
التحري فيها فإن قلتم: نعم فلو تحرى فلم يظهر له دليل, هل يضمن كما لو
نسي الوديعة أم لا؟ فإن قلتم: نعم فما يكون حكم الغلات المشتبهة, هل
يملكها الناظر وينفذ تصرفه فيها قبل الضمان أم لا؟ "فأجاب"
رضي الله عنه بأن الذي يظهر من كلامهم أن من تحت يده الغلات المذكورة
يجوز له التحري فيها إذا كان ناظرا عليها, بل يجب عليه إذا لم يكن له
طريق سواه, وذلك لأنهم قالوا يجوز له التحري في الأموال المشتبهة؛ لأن
الملك شرط لصحية التصرف ويمكن التوصل إلى معرفته بالاجتهاد لأن للعلامة
فيها مجالا فشرع فيه الاجتهاد عند الاشتباه بعلامة تغلب ظن الملك في
المأخوذ. وغلبة الظن كافية في الأموال بدليل اعتماده على خط أبيه
الموثوق به بدين وحلفه عليه, ومن ثم جاز الاجتهاد في المالين مع انتفاء
أصل الحل في أحدهما ا هـ. وهذا ظاهر إن لم يكن صريحا في جواز الاجتهاد
للناظر في الصورة.
ج / 1 ص -68-
المذكورة فإن قلت: لا نسلم ظهوره في ذلك؛
لأنهم عبروا بالملك في قولهم, لأن الملك, وقولهم: يغلب ظن الملك, وهذا
يقتضي امتناع الاجتهاد في ذلك قلت: التعبير بالملك, إما أن يراد به
المعنى المقتضي لصحة التصرف الشامل لملك العين, وللولاية عليها وأما أن
يراد به ملك العين فقط, وكلامهم يدل على أن المراد الأول؛ لأن المشترط
لصحة التصرف هو عموم الأول لا خصوص الثاني. ويدل عليه أيضا قولهم:
وغلبة الظن كافية في الأموال أي في جواز التصرف فيها فإن قلت: ينافي
ذلك أن أبا ثور لما سأل الإمام الشافعي رضي الله عنه عمن اشترى بيضة من
رجل وبيضة من آخر, ووضعهما في كمه فانكسرت إحداهما فخرجت مذرة فعلى من
يردها؟ قال له الشافعي اتركه حتى يدعى قال: يقول: لا أدري قال له
الشافعي أقول له انصرف حتى تدري فإنا مفتون لا معلمون وهو بسكون العين
وكسر اللام, وهذا كما ترى صريح في أن لا يجتهد في بيضة واحدة ويردها
بالاجتهاد قلت: لا ينافي ما قررته لأن هذا لم يمنع فيه الاجتهاد لذاته؛
وإنما هو لما فيه من إلزام الغير بالاجتهاد, وذلك لا يجوز في الأموال
كما قاله الزركشي قال: ومثله لو قبض من شخص دراهم فخلطها, فوجد فيها
نحاسا. ويحتمل هنا أن يجتهد إن كان ثم أمارة ا هـ. والذي يتجه في هذه
أنه إن أراد الاجتهاد؛ لإلزام الغير بجعل النحاس له لم يفده اجتهاده
ذلك. وإن أراد به تمييز حقه من حق غيره حتى يحل له تناول ما ظهر له
بالاجتهاد أنه له جاز له ذلك فإن قلت: هل يلحق بالناظر الولي من الأب
والجد والوصي والحاكم وقيمه إذا كان تحت يده أموال لمحاجيره والتبست,
أو يفرق بأن الملاك هنا يرجى كمالهم واجتهادهم لأنفسهم فلا حاجة إلى
اجتهاد الولي بخلاف مصارف الوقف إذا كانت جهات؛ لأنه لا يتصور منها
اجتهاد, قلت: قضية تسويتهم في باب الوقف بين الناظر والولي في مسائل
إلحاقه به هنا في أنه يجوز له التحري, نعم ينبغي له أن لا يفعله إلا
فيما اضطر إلى التصرف فيه من أموالهم, وأما ما لا يضطر إلى التصرف فيه
منها فيبقيه على اشتباهه الذي لا يضر به إلى كمال مالكيه وقد صرحوا بأن
الاجتهاد يجب فيما اضطر إلى تناوله كشاة ميتة التبست بمذبوحة واضطر إلى
الأكل, ويجوز فيما لم يضطر إليه فكذا يقال بنظير ذلك في الناظر والولي
فإن قلت: ما ذكر في الناظر إنما يتجه إذا كان الوقف على جهات أو نحوها
مما لا يتصور منه الاجتهاد. أما إذا كان على مستحقين كاملين يمكن
اجتهادهم فلا ينبغي أن يجوز الاجتهاد للناظر حينئذ؛ لأنه لا حاجة به
إليه قلت: هو كذلك لأن الموقوف عليه يملك الغلة فإذا كان كاملا واشتبهت
غلته التي ملكها بغلة غيره اجتهد هو؛ لأنه المالك لا الناظر فإذا ظهر
للموقوف عليه أن الغلة التي صفتها كذا هي التي ملكها تولى الناظر حينئذ
إعطاءها إليه وبهذا يعلم أن الذي ينبغي: أن الوكيل لو كانت تحت يده
أموال لموكله أو لموكليه واشتبهت لا يجوز الاجتهاد فيها, بل يبقيها على
حالها حتى يجتهد فيها ملاكها؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك الذي قد يقع
بسببه نقص وتنازع بين الملاك لا غاية له: فإن قلت: هذا أعني اجتهاد
الموقوف عليه ظاهر إن كان
ج / 1 ص -69-
متحدا أو متعددا, واتفقوا على العلامة
المميزة لملكهم, فإن كانوا متعددين واختلفوا في العلامة ما حكمه؟ قلت:
الذي يظهر أنه حينئذ يرجع إلى قول الناظر لأن اليد له أخذا من قولهم
الآتي وقد أشكل على الوديع مستحقه منهما إذ قضيته: أن الوديع يرجع إليه
في التعيين, وإذا رجع إليه في ذلك فالناظر أولى بهذا منه لأن ولايته
أقوى, ومن قولهم: لو اشتبه ماله بمال غيره واجتهد فظهر له أن أحد
المالين بعينه هو ماله ونازعه من هو في يده فالقول قول ذي اليد فإن
قلت: فإن لم يعرف الناظر مميزا لأحد المالين هنا أو في الصورة السابقة
ما حكمه؟ قلت: الذي يظهر أنه توقف الأموال المشتبهة حتى يصطلح ملاكها
على شيء, ويدل لذلك قولهم: وإن استوقف مال إلى اصطلاح المتنازعين فيه
كمال وقف لشخصين عند وديع وقد أشكل على الوديع مستحقه منهما فاصطلحا
على أن يأخذه أحدهما, فيعطي الآخر من غيره لم يجز؛ لأنه بيع له, وشرطه
تحقق الملك في العوضين للمتعاقدين أو على أن يتفاضلا فيه جاز للضرورة؛
ولأنه نزول عن بعض الحق وقولهم: لو مات عن أكثر من أربع زوجات قبل
التعيين وقف لهن ميراث الزوجات حتى يصطلحن؛ لعدم العلم بعين مستحقه
فيقسم بينهن بحسب اصطلاحهن بتساو أو تفاوت؛ لأن الحق لهن إلا أن يكون
فيهن محجور عليها لصغر أو جنون أو سفه وصالح عنها وليها فيمتنع بدون
حصول من عددهن ا هـ. فيأتي نظير ذلك كله فيما نحن فيه فإن قلت: إنما
يتصور الوقف إلى الصلح إذا كان الموقوف عليهم يمكن اصطلاحهم فإن كان
نحو جهات لا يتصور منها ذلك ما حكمه؟ قلت: الذي يظهر حينئذ أن الناظر
يقسم تلك الأموال بين تلك الجهات على السواء أخذا مما قالوه فيما إذا
اندرست شروط الواقف من أنه إن كان على جماعة معينين أو جهات متعددة
قسمت الغلة بينهم بالسوية. فإن قلت: إذا قلت: بالرجوع إلى قول الناظر
وادعى أنه لا يعرف مميزا فهل للمستحقين تحليفه؟ قلت: الذي يظهر أن لهم
تحليفه على نفي العلم إن ادعوه عليه أخذا من قولهم: لو قال من تحت يده
عين لاثنين ادعيا عليه هي وديعة عندي ولا أدري أهي لكما أم لأحدكما أم
لغيركما حلف على نفي العلم إن ادعياه وتركت في يده لمن يقيم البينة بها
وليس لأحدهما تحليف الآخر لأنه لم يثبت لواحد منهما يد ولا استحقاق ا
هـ وأما قول السائل: فلو تحرى فلم يظهر له دليل وقسمها بين الموقوف
عليهم على السوية كما قدمناه من غير أن ينقص منها شيء بالاشتباه فلا
شيء عليه, وأما إذا نقص منها شيء بالاشتباه أو تلف منها شيء بعد
الاشتباه فقياس كلامهم في باب الوديعة أنه يضمن النقص في الأولى,
والتالف في الثانية؛ لأن الاشتباه ناشئ عن نسيانه فهو منسوب إليه. وإن
لم يكن متعديا به لأنه لا اختيار له فيه فإن قلت: هل هذا الحكم الذي هو
الضمان عام سواء أصدقه المستحقون على أن سبب الاشتباه النسيان أم كذبوه
أو خاص بما إذا كذبوه؟ قلت: الذي يظهر لي تفصيل في ذلك وهو أن ما تلف
بالاشتباه يضمنه مطلقا؛ لأنه تلف بسبب فعله كما تقرر وما تلف بسبب فعله
لا فرق في الضمان بين أن يصدقه المالك على أنه تلف بذلك أو يكذبه وما
تلف بعد.
ج / 1 ص -70-
الاشتباه لا يضمنه إلا إن كذبه المستحقون
في النسيان بخلاف ما إذا صدقوه أخذا من قولهم: لو تنازع اثنان الوديعة
فصدق الوديع أحدهما بعينه فللآخر تحليفه وإن صدقاه فاليد لهما والخصومة
بينهما, وإن قال هي لأحدكما ونسيته فإن كذباه في النسيان ضمن كالغاصب
لتقصيره بنسيانه. وإن صدقاه فيه فلا ضمان عليه ا هـ. والجامع بين هذه
ومسألتنا أن كلا منهما لم يكن النسيان فيها سببا للتلف وإنما هو سبب
للجهل بالمستحق فكما فصلوا في هذه بين التصديق والتكذيب كذلك يفصل في
مسألتنا بين التصديق والتكذيب, وأما قول السائل: فإن قلتم: نعم فما
يكون حكم الغلات المشتبهة. إلخ. فجوابه قد علم مما قررته سابقا, وذلك
لأنا لا نضمنه إلا ما تلف بسبب الاشتباه أو ما تلف بعد الاشتباه. وأما
ما بقي مشتبها فإنه إذا لم يظهر له علامة تميز بعضه عن بعض يقسمه بين
المستحقين أو يتركه إلى أن يصطلحوا كما مر تفصيله فلا يتصور ضمان في
الباقي بلا نقص هذا كله حيث كان هناك مجرد اشتباه من غير اختلاط, أو مع
اختلاط لا بفعل الناظر, وأمكن التمييز أما إذا كان مع اختلاط لا بفعل
الناظر ولم يمكن التمييز فإنها تصير مشتركة كما علم مما مر وسيأتي
التصريح به عن الشيخين في الصيد والذبائح, أو بفعل الناظر ولم يمكن
التمييز فإن تلك الغلات تصير كالهالكة سواء اختلط كل منها بمثله أم
بأجود أم بأردأ لتعذر رده فيملكها الناظر وله إبدالها أو إعطاء
المستحقين مما اختلط بمثله أو بأجود لا بأردأ إلا برضاهم فله ذلك ويسقط
عنه الأرش, وما قررته هنا هو قضية كلام الشيخين وغيرهما. وصرح به بعض
مختصري الروضة وغيره فيمن غصب من اثنين زيتين أو نحوهما كدرهمين
وخلطهما بحيث صارا لا يتميزان فيكون المخلوط كالهالك ويملكه الغاصب
خلافا لقول البلقيني المعروف عند الشافعية: أنه لا يملك شيئا منه ولا
يكون كالهالك, نعم صرح جمع بأنه وإن ملكه لا يتصرف فيه إلا بعد إيفاء
صاحبه حقه. وصرح الشيخان في الصيد والذبائح بأنه لو اختلط نحو زيتين
لمالكين بانصباب ونحوه كصب بهيمة أو برضا مالكيهما كان مشتركا بينهما؛
لعدم التعدي ا هـ. فكذا يقال بنظيره هنا إذا لم يتعد الناظر بالخلط كما
مر وفي صورة الاختلاط بغير تعد يجبر صاحب الأردإ على الأخذ من عين
المختلط؛ لأن بعضه عين حقه وبعضه خير منه بخلاف صاحب الأجود فإنه لا
يجبر على الأخذ ولا البدل من المختلط, بل يباع المختلط ويقسم الثمن
بينهما بنسبة القيمة, ولا يجوز قسمة عين المتفاضلين على نسبة القيمة
للتفاضل في الكيل ونحوه. ويأتي في الخلط بغير الجنس كالزيت بالشيرج ما
تقرر في خلط أو اختلاط نحو الزيتين من أنه يصير كالهالك ومن أن المتعدي
بالخلط يملكهما, ومن أنه يكون مشتركا في صورة الاختلاط بلا تعد وهنا
يجوز الاتفاق على المفاضلة في القسمة لأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس
والله سبحانه أعلم.
"وسئل" -
نفع الله ببركاته - عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفار
وثنية, وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني, فهل يحل أكل تلك الشاة
المذبوحة التي
ج / 1 ص -71-
وجدت في تلك المحلة أم لا؟ "فأجاب"
بأنه حيث كان ببلد فيه من يحل ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني, ومن لا
يحل ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد أو متولد بين من يحل ذبحه ومن لا يحل
ذبحه, ورئي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلا وشك هل ذبحها من يحل ذبحه لم
تحل للشك في الذبح المبيح, والأصل عدمه نعم بحث بعض المتأخرين أن من
يحل ذبحه لو كان أغلب في تلك البلد كأن كان أكثرها مسلمين أو كتابيين
حلت تلك الشياه المذبوحة مثلا, والعبرة في ذلك بالبلد دون المحلة منها
حتى لو كان في بلد محلة كل أهلها مسلمون وبقية محالها كفار أو كفار
ومسلمون, ومن لا يحل ذبحه أكثر حرمت تلك الشاة وإن وجدت في محلة من
البلد, وليس بتلك المحلة كافر. لأن العبرة ليس بالمحلة وحدها, بل بجميع
البلد, والحاصل أن المدار على الشك فحيث شك في ذابح تلك الشاة, ومن لا
يحل ذبحه أكثر حرمت وإلا فلا والله أعلم.
"وسئل" -
نفع الله به - عن أرض بعضها صدقة على جهة أو معين, وباقيها ملك لطائفة
وجهل كم قدر الصدقة من الأرض, أيجوز التحري هنا أو لا؟ فإن قلتم: نعم
فتحرى فلم يظهر له شيء ما حكمه؟ وكذلك نخلة على جهة أو معين في نخلات
مملوكة. "فأجاب"
بقوله: يجوز التحري في ذلك كله كما صرحوا بما يعم ذلك وغيره في باب
الاجتهاد, وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في أجوبة أسئلة الفقيه
الإمام عثمان, ويوافق ذلك قولهم في باب الصيد والذبائح لو اختلط حمامه
بحمام غيره ولم يتميزا فله أخذ قدر ملكه بالاجتهاد والورع لا يخفى,
ويؤخذ من ذلك أنه إذا تحرى ولم يظهر له شيء يلزمه أن لا يأخذ إلا ما
غلب على ظنه أنه صدقة وما شك فيه لا يجوز له أخذ شيء منه هذا إن كان كل
من البعض الصدقة والبعض الملك مفرزا عن الآخر قبل الاشتباه, فإن كان
بعض الأرض صدقة مشاعا وبعضها ملكا مشاعا, وانبهم فيجوز الاجتهاد أيضا
وله أخذ ما ظنه حقه أخذا من قول الغزالي وغيره: لو اختلط درهم أو دهن
حرام بدراهمه أو دهنه مثلا فله إفراز غير ملكه, وصرفه لجهة استحقاقه
والتصرف في الباقي وجرى عليه الشيخان. واعترض بأن الشريك لا يستقل
بالقسمة فليرفعه إلى القاضي؛ ليقاسمه عن المالك إذا تعذرت معرفته أو
حضوره, فإلحاق الرافعي له بالاختلاط الحمامين كأنه أراد في طريق التصرف
ا هـ. ويجاب بأن الأوجه بقاء كلام الرافعي على ظاهره من أن له ذلك, وإن
كان المالك حاضرا وإنما جاز له الاستقلال بالقسمة هنا على خلاف
القاعدة؛ للضرورة إذ لو كلفناه الرفع للقاضي احتاج إلى إثبات ملكه
والاختلاط مع ما في الرفع من المشقة والكلفة؛ فلذلك ساغ له الاستقلال
بالقسمة فيما ذكر كما جاز للدائن الظفر بمال مدينه, وإن لم يتعد ويجري
نظير هذا في صورتنا فيما يظهر فله الاستقلال بأخذ جزء من الأرض مثلا
بقدر حصة حقه ظنا, ولا يلزمه الرفع للقاضي للضرورة قال البغوي ولو
اختلط حمامه بحمامة فله أكله بعد الاجتهاد فيه إلا واحدة, وصححه في
المجموع كما لو اختلط ثمر غيره بثمره وحكى الروياني أنه ليس.
ج / 1 ص -72-
له أن يأكل واحدة حتى يصالح ذلك الغير أو
يقاسمه, ولناظر الصدقة والمالك القسمة بالرضا إن رأى الناظر المصلحة في
القسمة أخذا من قولهم في اختلاط الحمام: للمالكين ذلك مع الجهل للضرورة
وإنما اشترطت في الناظر ما ذكرته؛ لأنه متصرف عن الغير فلزم أن لا
يتصرف له إلا بالمصلحة كما هو شأن كل متصرف عن غيره والله سبحانه أعلم.
"وسئل" -
نفع الله به - بما لفظه هل غلبة الظن تخالف مجرد الظن إذ هو الطرف
الراجح؟ "فأجاب"
بقوله: جرى ابن الرفعة على اتحادهما حيث قال في قول الغزالي في القذف:
"وغلب على ظنه زناها" استعمل هو وغيره الظن هنا في مطلق التردد من غير
نظر إلى الراجح منه, وهو اصطلاح المتقدمين إذ جعل غلبة الظن هي
المؤثرة, ولو استعمله بحسب اصطلاح المتأخرين لم يحتج إلى تقييده
بالغلبة لأن أول الدرجات تكفي فيه إذا لا ضابط بعدها واعترض بأن في
اكتفائه هنا بمجرد الرجحان نظرا, بل ظاهر كلام الغزالي خلافه, وأنه
يعتبر أمرا زائدا على مجرد الرجحان وكذا فهمه صاحب الإمام محمد بن يحيى
عنه فقال: إذا علم زناها يقينا أو غلب على ظنه قريبا من العلم, وقول
الرافعي في كتبه: "أو ظنه ظنا مؤكدا" يشير لذلك, واعتبارهم لجواز القذف
الطرف المذكور دال على أنه لا يكفي مطلق الظن, بل ظن خاص غالب وهو ينشأ
عن الطرف المذكور, وهو أمر زائد على مجرد الرجحان ا هـ. قال الأذرعي
وهو حسن بالغ.
"وسئل" رضي
الله عنه قولهم في باب الآنية: لو تحير الأعمى قلد بصيرا فإن فقد
البصير تيمم الأعمى, ما ضابط الفقد هنا؟ هل يضبط بما قالوه في التيمم
في فقد الماء أو غير ذلك؟ وما هو؟ "فأجاب"
بقوله: إن الذي يتجه في ذلك: أن المراد بالفقد فيه وفي نظائره كالوقت
والقبلة عدم وجود مخبر له حالة التحير فلا يكلف طلبه, ويفرق بينه وبين
ما قالوه في الماء بأن الغالب في طلب الماء أنه يحصله كما صرحوا به
فرقا بين توهم الماء وتوهم البرء. وليس الغالب في طلب المقلد تحصيله
بالوصف المقصود؛ لأنه بفرض وجوده قد يتحير أيضا فلم يكن على ثقة من
حصول مقصوده بالطلب فلم يلزمه واكتفي في تيممه بمجرد عدم وجوده حالة
التحير, نعم ينبغي أنه لو وجد إنسانا حينئذ سأله وهل يجب سؤاله احتياطا
أو لا يجب؟ لأنه قد يتحير أيضا كل محتمل ويتجه ترجيح الأول حيث لا مشقة
والله أعلم بالصواب. فإن قلت: لم لم يؤخر إلى أن يضيق الوقت, لعله يجد
من يقلده؟ قلت: في صبره لذلك مشقة بل وخشية فوات بطرق موت أو نحوه فلم
يكلفه, ومن ثم كان بحث من بحث في البصير المتحير وفاقد الطهورين
ونحوهما الصبر إلى ضيق الوقت ضعيفا كما بينته في شرح العباب وغيره. فإن
قلت: البرء فعل الله فكيف قيل: بوجوب طلبه أو بعدم وجوبه, أي بل يندبه
خروجا من الخلاف, قلت: المراد بطلب البرء الكشف عنه هل وجد أم لا وهذا
لا ينافي كونه فعل الله على أن الفعل هو إيجاد البرء لا هو, بل هو
أثره, وكذلك وجود الماء فإيجاده.
ج / 1 ص -73-
فعل الله, ووجوده أثر فعله فكما قالوا فيه
بالطلب إثباتا ونفيا, فكذلك قالوا في البرء.
باب الاستنجاء
"وسئل" رضي
الله عنه عن كراهة البول تحت الشجر المثمر هل تختص بما إذا كان الغالب
أن الماء لا يقع على مكانها قبل الثمرة أم لا؟ "فأجاب"
فسح الله في مدته بأن الجواب عنه قد ذكرت في شرحي للإرشاد ومختصره ما
يصرح به حيث قلت ويكره قضاء الحاجة تحت شجر من شأنه أن يثمر ولو مباحا,
وإن كان في غير وقت الثمرة صيانة لها عن التلويث عند الوقوع فتعافها
الأنفس ومنه يؤخذ أيضا أنه لو كان يأتي تحتها ما يزيل ذلك قبل الثمرة
فلا كراهة, وبه صرح الإسنوي بحثا فقال وينبغي أن لا يكره تحت شجرة تسقى
قبل طلوع الثمرة ا هـ. ووجهه حصول الأمن من التلويث حينئذ كما تقرر
ويكفي في حصوله اطراد العادة بذلك, فاستبعاد بعضهم له بأنه قد يكون في
جهة لا يحصل السقي منها أو بطرق ما يمنع وصول الماء لموضع البول ليس في
محله إذ الصورة أنه يغلب عادة مجيء الماء إلى محل البول فيطهره. وإنما
لم يحرم لأن التنجيس غير متيقن, وبحث الرافعي أن كراهة البول أشد؛ لأنه
قد يجف وقد يخفى فلا يحترز عنه بخلاف الغائط ا هـ. حاصل ما ذكرته في
هذا المحل عن الشرحين المذكورين, وبه يتضح الجواب عما في السؤال, ثم
تعطيل الرافعي كون كراهة البول أشد بما ذكر قد ينازع فيه ويقال: بل
كراهة الغائط أشد؛ لأن العافية فيه أشد ألا ترى أن كثيرا من النفوس لا
تعاف أكل الذي غسل ما عليه من البول, وتكره أكل ما تلوث بالغائط وإن
غسل وأمعن في غسله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" فسح
الله في مدته بما صورته قولهم: إذا هبت ريح عن يمين القبلة أو شمالها
جاز محاذاتها مشكل, فإن محاذاة القبلة حرام, ومحاذاة الريح مكروهة, ولو
في حال هبوبها كما في المجموع وعبارته: "يكره استقبال الريح بالبول
فكيف جاز ارتكاب الحرام لاجتناب ما هو مكروه؟ "فأجاب"
بقوله: إنما جاز الاستقبال حينئذ؛ لأن عدمه يعود إلى ضرر يلحق المكلف,
وهو عود الرشاش عليه المنجس لبدنه أو ثوبه؛ فسقط الإشكال المذكور, وقول
المجموع: ما ذكر في السؤال يحمل على ما إذا لم يغلب على ظنه عود رشاش
ينجسه وإلا حرم كما هو ظاهر.
"وسئل" رضي
الله عنه عن كشف العورة عند قضاء الحاجة أو الاستنجاء بحضرة الناس هل
يحرم أو لا؟ كما زعمه بعض المدرسين وفعله, ويؤيده قولهم: الاستتار أدب
ويحصل ولو بإرخاء الذيل؛ ولأنه قد يحتاج لذلك لتنجس ماء البيوت بما
تلقيه الفئران في حيضانها مع قلة مائها, ولأنه يبعد من الناس النظر إلى
عورة المستنجي كاشفا لعورته بل كلهم يغضون عنه, وعلى تقدير النظر إليه
فالحرمة عليهم لا عليه فما الحكم في ذلك؟ ابسطوه مع دليله.
ج / 1 ص -74-
"فأجاب"
بقوله: نعم يحرم كشف العورة بحضرة الناس لقضاء الحاجة والاستنجاء
وغيرهما كما صرح به النووي في شرح مسلم في باب جواز الاغتسال عريانا في
الخلوة, وعبارته: "يجوز كشف العورة في موضع الحاجة في الخلوة, وذلك
كحالة الاغتسال وحالة البول وحال مباشرة الزوجة ونحو ذلك, فهذا كله
جائز فيه التكشف في الخلوة, وأما بحضرة الناس فيحرم كشف العورة في كل
ذلك ا هـ. فتأمل قوله في كل ذلك - تجده صريحا في المدعي, وأبلغ راد على
من زعم إباحة ذلك, ويؤيده إطلاقهم تحريم كشف العورة بحضرة الناس ووجوب
سترها ولو خارج الصلاة, ولم يستثنوا من ذلك إلا الكشف في الخلوة لحاجة,
والاستثناء معيار العموم, فنتج من ذلك أن كلامهم صريح فيما ذكره في شرح
مسلم فلا يقال أنه من تفرداته, وأما عدهم الستر من الأدب المستحب لقاضي
الحاجة, فمرادهم به الستر في الخلوة كما دل عليه ما مر من كلام النووي
والأصحاب, فإذا قضى الحاجة خاليا بالصحراء ونحوها سن له الستر بشرطه من
الارتفاع والقرب وهذا هو الذي يكفي فيه إرخاء الذيل, ومما يصرح بأن ذلك
هو مرادهم تعليلهم الندب بقولهم؛ لئلا يمر به أحد فيرى عورته. أما من
بحضرة الناس في نحو الصحراء فيتعلق به أدبان الإبعاد والاستتار بجملته
عن الأعين واتخاذ السترة إذا صار مستترا عن الأعين؛ لئلا يمر به أحد
فيرى عورته, وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من طرق أنه كان إذا
أراد قضاء الحاجة انطلق حتى لا يراه أحد ولقوله صلى الله عليه وسلم:
"من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيب رمل - فليستتر به". وأدب الستر في حق قاضي الحاجة في البنيان
أن يستتر بجملته في بناء مسقف أو نحوه, وأما ستر العورة بحضرة الناس
فهو باق على حكمه من الوجوب ولما كان ذلك في الظهور بحيث لا يتوهم أحد
سواه؛ لم يصرحوا بالتنبيه عليه في باب الاستطابة؛ اكتفاء بإطلاقهم وجوب
ستر العورة ونقلهم الإجماع عليه وإن اختلفوا في قدرها, وقد ظهر بما
تقرر أن حصول الفرض من الستر بإرخاء الذيل لا ينافي وجوبه بحضرة الناس؛
لأنه حينئذ ليس أدبا بل هو مما يتأدى به واجب الستر فلا يؤيد زعم من
ذكر في السؤال, وزعمه الاحتياج لذلك بما ذكر باطل فإن الزركشي صرح بأن
ما تلقيه الفئران في حياض البيوت القليلة الماء من الغائط يعفى عنه, أي
إن لم يتغير كما هو ظاهر, فإن قلت هذا ظاهر إن تحقق إلقاء الفئران له.
قلت: هو الظاهر ولا نظر لاحتمال خلافه؛ لبعد صدور ذلك من عاقل, وزعمه
أنه يبعد من الناس النظر إليه زعم باطل أيضا فلا يلتفت إليه, نعم إن
كان هناك من يثق منه بعدم النظر إليه - جاز التكشف للاستنجاء ونحوه
بحضرته, وكذا إذا لم يكن هناك إلا زوجته أو أمته التي يحل له وطؤها,
وزعمه أنه إذا كشف عورته كانت الحرمة عليهم لا عليه باطل أيضا, بل
الحرمة عليه أيضا؛ لأنه متسبب في الحرام ومعين عليه, فإن قلت: قد لا
يوجد في حيضان البيوت ماء ويضيق الوقت أو يخشى فوات الجمعة لو لم يستنج
إلا مع كشف العورة فهل يباح له حينئذ الاستنجاء مع كشفها للضرورة قلت:
يحتمل الجواز حينئذ حيث لم يتيسر له ماء في غير هذا المحل ولا حجر.
ج / 1 ص -75-
يجزئ في الاستنجاء؛ للضرورة ويحتمل أنه
يصلي على حاله لحرمة الوقت ويعيد, فإن قلت: هذان الاحتمالان هل هما في
الجواز أو الوجوب؟ قلت: يحتمل اختصاصهما بالجواز, وأن ذلك لا يجب عليه
قطعا؛ لأن في تكليفه كشف عورته بحضرة الناس مشقة وخرم مروءة لا يطاق
تحملها لا سيما إن كانت له وجاهة أو مرتبة تأبى ذلك, ويحتمل جريانهما
في الوجوب أيضا لأن هذا كشف لضرورة, ومع الضرورة لا ينبغي ذلك, والذي
ينقدح الآن أن ذلك لا يجب لما ذكرته, وأن الجواز محتمل.
"وسئل" رضي
الله عنه كيف قولهم يكره لقاضي الحاجة محاذاة بيت المقدس مع أن القبلة
إنما كانت صخرته لا هو؟ "فأجاب"
بقوله: ظاهر الأحاديث أن القبلة هي لبيت المقدس وهو المسجد الأقصى,
وعلى تقدير أنها الصخرة, فإطلاق اسم بيت المقدس عليها مجاز من إطلاق
اسم الكل على البعض.
"وسئل" فسح
الله في مدته هل يجوز غسل الثوب المتنجس بمطعوم؟ "فأجاب"
بقوله: نعم فقد روى أبو داود بإسناد فيه ضعف عن امرأة من بني غفار أن
النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة فحاضت فأمرها أن تغسل الدم
بماء وملح الحديث. قال في المجموع نقلا عن الخطابي: الملح مطعوم فقياسه
جواز غسل الثوب بالعسل كثوب الإبريسم الذي يفسده الصابون, وبالخل إذا
أصابه حبر ونحوه, قال: ويجوز على هذا التدلك بالنخالة, وغسل الأيدي
بدقيق الباقلاء ونحوه مما له قوة الجلاء, وحدثونا عن يونس بن عبد
الأعلى قال دخلت الحمام بمصر فرأيت الشافعي رضي الله عنه يتدلك
بالنخالة ا هـ. فعلم به جواز استعمال المطعوم في إزالة الأوساخ
والنجاسة إذا احتيج إليه, ويفارق الاستنجاء بأنه أفحش بخلاف ما نحن
فيه, فإن المزيل هو الماء بواسطته فلم يباشر النجاسة كمباشرته في
الاستنجاء.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يجوز الاستنجاء بكتب المنطق والفلسفة والتوراة والإنجيل؟
وهل يحرم مطالعة هذين والاشتغال بالأولين أو لا؟ القصد بسط ذلك
وتحريره. "فأجاب"
بقوله ممن صرح بجواز الاستنجاء بالأولين الإسنوي وغيره وهو في كتب
الفلسفة واضح, وأما في كتب المنطق فمبني على ما يأتي عن ابن الصلاح
وعلى القول به فشرطه كالأول أن يخلو ذلك الطرس المستنجى به عن أن يكون
فيه اسم معظم كما شمله قول الكفاية وغيرها: يحرم الاستنجاء بما عليه
اسم معظم كاسم الله أو اسم رسوله صلى الله عليه وسلم أو غيره من
الأنبياء أو الملائكة. وقول بعض المتأخرين: التقييد بذلك بعيد؛ لأنه لم
يقع في كلام متقدم ولا متأخر, بل كلهم أطلقوا القول بجواز الاستنجاء
بذلك وهم, فإنهم ذكروا ما قيدنا به قبل ذلك بسطر ونحوه فأي حاجة إلى
التقييد به حينئذ, وممن صرح بجواز الاستنجاء بالتوراة القاضي حسين,
وقيده من بعده بما علم تبديله منها وإلا فهو كلام الله يجب تعظيمه,
وواضح
ج / 1 ص -76-
مما مر أنه مقيد أيضا بما إذا خلا عن اسم
معظم, ثم في تبديلها أقوال: أحدها: أنها كلها بدلت, فلعل القاضي اعتمد
هذا؛ فأطلق ما مر. ثانيها: بدل أكثرها, وأدلته كثيرة, والأول قيل:
مكابرة إذ الأخبار والآيات كثيرة في أنه بقي منها شيء لم يبدل. ثالثها:
بدل أقلها ونصره ابن تيمية رابعها: بدل معناها فقط دون لفظها, واختاره
البخاري في آخر صحيحه قال الزركشي: واغتر بهذا بعض المتأخرين في حججه
وجوز مطالعتها, وهو قول باطل, ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا, والاشتغال
بالنظر فيها وبكتابتها لا يجوز بالإجماع, وقد غضب النبي صلى الله عليه
وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء منها وقال:
"لو كان موسى حيا وما وسعه إلا اتباعي", ولولا أنه معصية ما
غضب منه ا هـ. لكن تعقبه شيخ الإسلام ابن حجر فقال: إن ثبت الإجماع فلا
كلام, وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها فإن أراد من يتشاغل بذلك فقط
فلا يحصل المطلوب؛ لأنه يفهم الجواز إذا تشاغل بغيره معه, وإن أراد
مطلق التشاغل فهو محل النظر, وفي وصفه القول المذكور بالبطلان نظر أيضا
فإنه نسب لوهب بن منبه, وهو من أعلم الناس بالتوراة ولابن عباس رضي
الله عنهما, وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر, ولا دلالة في قضية عمر إذ
قد يغضب من فعل المكروه, وخلاف الأولى ممن لا يليق به كتطويل معاذ
الصبح بالقراءة, والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه, والأولى التفرقة بين
الراسخ في الإيمان فله النظر بخلاف غيره لا سيما عند الرد على
المخالفين, ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم
اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم,
ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه ا هـ. وما ذكره
واضح فلا محيد عنه, وإن اعتمد السبكي ما ذكره الزركشي وأطال في
الانتصار له, ونقله عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني ثم قال: وهذا هو
الذي اتفق عليه من يعتمد عليه من أئمة الإسلام والشافعي وأصحابه كلهم
متفقون على ذلك ثم قال بعد كلام طويل: "وبعض الناس يعتقد أن نظره في
ذلك فضيلة, وهو عين النقصان" وقال قبل ذلك احتجاجا على وجوب إعدامها:
"إذا دخلت تحت أيدينا أنها جمعت شيئا من كلام باطل قطعا, وقد اختلط بما
لم يبدل من غير تمييز فوجب إعدام الجميع ولا يتوقف في هذا إلا جاهل ا
هـ. فليحمل ما ذكره هو والزركشي وغيرهما على غير متمكن أو متمكن لم
يقصد بالنظر فيها مصلحة دينية أما متمكن قصد ذلك فلا وجه لمنعه ويأتي
ما ذكر فيها في الإنجيل, وأما الاشتغال بالفلسفة والمنطق فقد أفتى
بتحريمه ابن الصلاح وشنع على المشتغل بهما وأطال في ذلك, وفي أنه يجب
على الإمام إخراج أهلهما من مدارس الإسلام وسجنهم وكفاية شرهم قال: وإن
زعم أحدهم أنه غير معتقد لعقائدهم, فإن يكذبه, وأما استعمالات
الاصطلاحات المنطقية في الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستشنعة, وليس
بها افتقار إلى المنطق أصلا, وما يزعمه المنطقي للمنطق من الحد
والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن لا سيما من خدم
نظريات العلوم الشرعية هذا حاصل شيء من كلامه, وما ذكره في الفلسفة.
ج / 1 ص -77-
صحيح ومن ثم قال الأذرعي وما ذكرته من
تحريمها هو الصحيح أو الصواب, وقد بين ذلك الشيخ ابن الصلاح في فتاويه,
ونصوص الشافعي رضي الله عنه ناصة على تقبيح تعاطيه, ونقل عنه التعزير
على ذلك ا هـ. وأما ما ذكره في المنطق فمعارض بقول الغزالي في مقدمة
المنطق في أول المستصفى: "هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا
ثقة له بمعلومه أصلا". وقوله في المنقذ من الضلال. "وأما المنطقيات فلا
يتعلق شيء منها في الدين نفيا ولا إثباتا, بل وهو نظر في طرق الأدلة
والمقاييس وشروط مقدمة البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح
وكيفية ترتيبها, وإن العلم, إما تصور وسبيل معرفته الحد, وإما تصديق
وسبيل معرفته البرهان, وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر فإنه من قبيل ما
يتمسك به المتكلمون, وأهل النظر في الأدلة, وإنما يفارقونهم في
العبارات والاصطلاحات, وبزيادة الاستقصاء في التفريعات والتشعيبات,
ومثال كلامهم فيه: إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم منه أن بعض الحيوان
إنسان, وأن كل من ثبت أنه إنسان ثبت أنه حيوان ويعبرون عن هذا بأن
الموجبة الكلية تستلزم موجبة جزئية, وهذا حق لا شك فيه فكيف ينبغي أن
يجحد وينكر؟ على أنه لا تعلق له بمهمات الدين ثم متى أنكر مثل هذا لزم
منه عند أهل المنطق سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم
أن فيه إبطال مثل هذا" ا هـ. فتأمله تأملا خاليا عن التعصب تجده - رحمه
الله - قد أوضح المحجة وأقام الحجة على أنه ليس فيه شيء مما ينكر ولا
مما يجر إلى ما ينكر, وعلى أنه ينفع في العلوم الشرعية كأصول الدين
والفقه, وقد أطلق الفقهاء أن ما ينفع في العلوم الشرعية محترم يحرم
الاستنجاء به, ويجب تعلمه وتعليمه على الكفاية كالطب والنحو والحساب
والعروض ثم قال بعضهم كالإسنوي بعد ذلك بسطرين: "إن المنطق غير محترم
فعلمنا أن مراده المنطق الذي لا ينفع في العلوم الشرعية أو الذي يعود
منه ضرر على الدين, وهذا نوع من منطق الفلاسفة الأول يبحثون فيه عن نحو
ما ذكره الغزالي ثم يدرجون فيه البحث عن حال الموجودات وكيفية تراكيبها
ومفاهيمها وأعراضها وغير ذلك مما يخالفون فيه علماء الإسلام حتى
انتصبوا لهم, وردوا جميع مقالاتهم الفظيعة الشنيعة, فمثل هذا الفن من
المنطق هو الذي يحرم الاشتغال به. وعليه يحمل كلام ابن الصلاح, ويدل
لذلك قوله فيما مر عنه: "كفاية شرهم", وقوله: "وإن زعم أحدهم أنه غير
معتقد لعقائدهم فإن يكذبه" فعلمنا أن كلامه في منطق له شر وله أهل
يعتقدون خلاف عقائد المسلمين, وهو النوع الذي ذكرته لا غير, وأما
المنطق المتعارف الآن بين أيدي أكابر علماء أهل السنة فليس فيه شيء مما
ينكر ولا شيء من عقائد المتفلسفين, بل هو علم نظري يحتاج لمزيد رياضة
وتأمل يستعان به على التحرز عن الخطإ في الفكر ما أمكن فمعاذ الله أن
ينكر ذلك ابن الصلاح ولا أدون منه وإنما وقع التشنيع عليه من جماعة من
المتأخرين؛ لأنهم جهلوه فعادوه كما قيل: "من جهل شيئا عاداه" وكفى به
نافعا في الدين أنه لا يمكن أن ترد شبهة من شبه الفلاسفة وغيرهم من
الفرق إلا بمراعاته ومراعاة قواعده وكفى.
ج / 1 ص -78-
الجاهل به أنه لا يقدر على التفوه مع
الفلسفي وغيره العارف به ببنت شفة بل يصير نحو الفلسفي يلحن بحجته,
وذلك الجاهل به وإن كان من العلماء الأكابر ساكتا لا يحير جوابا ولقد
أحسن القرافي من أئمة المالكية وأجاد حيث جعله شرطا من شرائط الاجتهاد
وأن المجتهد متى جهله سلب عنه اسم الاجتهاد فقال في بحث شروط الاجتهاد:
"يشترط معرفة شرائط الحد والبرهان على الإطلاق, فمن عرفهما استضاء
بهما؛ لأن الحدود هي التي تضبط الحقائق التصورية فمن علم ضابط شيء
استضاء به, فأي محل وجده ينطبق عليه علم أنه تلك الحقيقة وما لا فلا,
وهو معنى قول بعض الفضلاء إذا اختلفتم في الحقائق فحكموا الحدود,
والمجتهد يحتاج في كل حكم لذلك الذي يجتهد فيه إن كان حقيقة بسيطة -
فلا يضبطها إلا الحد, وإن كان تصديقا ببعض الأمور الشرعية - فكل تصديق
مفتقر لتصورين فيحتاج في معرفتهما لضابطهما, فهو محتاج للحد كيف اتجه
في اجتهاده, وشرائطه معلومة في علم المنطق, وهو وجوب الاطراد
والانعكاس, وأن لا يحد بالأخفى ولا بالمساوي في الخفاء, ولا بما لا
يعرف المحدود إلا بعد معرفته وأن لا يأتي باللفظ المجمل, ولا بالمجاز
البعيد وأن يقدم الأعم على الأخص, وأما شرائط البرهان فيحتاج إليها؛
لأن المجتهد لا بد له من دليل يدله على الحكم قطعي أو ظني, وكل دليل
فله شروط محررة في علم المنطق من أخطأ شرطا منها فسد عليه الدليل, وهو
يعتقده صحيحا, وتلك الشروط تختلف بحسب موارد الأدلة وضروب الأشكال
القياسية وبسط ذلك علم المنطق, فيكون المنطق شرطا في منصب الاجتهاد فلا
يمكن حينئذ أن يقال: الاشتغال به منهي عنه أو أن العلماء المتقدمين
كالشافعي ومالك لم يكونوا عالمين به فإن ذلك يقدح في حصول منصب
الاجتهاد لهم, نعم هذه العبارات الخاصة والاصطلاحات المعينة في زماننا
لا يشترط معرفتها, بل معرفة معانيها فقط ا هـ. فتأمل هذا الكلام الجليل
من هذا الإمام الجليل - تجده قد أشفى العي وأزال الغي, وناهيك بالسبكي
جلالة حيث قال: "ينبغي أن يقدم على الاشتغال فيه الاشتغال بالكتاب
والسنة والفقه حتى يتروى منها ويرسخ في ذهنه الاعتقادات الصحيحة, ويعلم
من نفسه صحة الذهن بحيث لا تروج عنده الشبهة على الدليل, فإذا وجد شيخا
ناصحا دينا حسن العقيدة جاز له الاشتغال بالمنطق وينتفع به ويعينه على
العلوم الإسلامية, وهو من أحسن العلوم, وأنفعها في كل بحث, ومن قال أنه
كفر أو حرام فهو جاهل فإنه علم عقلي محض كالحساب, غير أن الحساب لا يجر
إلى فساد وليس مقدمة لعلم آخر فيه مفسدة, والمنطق من اقتصر عليه ولم
تصبه سابقة صحيحة خشي عليه التزندق أو التغلغل باعتقاد فلسفي من حيث
يشعر أو لا يشعر, قال: وفصل القول فيه أنه كالسيف يجاهد به شخص في سبيل
الله ويقطع به آخر الطريق ا. هـ. بتأمله تجده نصا فيما قدمته من أن
المنطق قسمان: قسم: منه لا يخشى على المشتغل به شيء مما ذكره, والقسم
الآخر: وهو المدرج فيه كثير من العقائد الفلسفية لا يجوز الخوض فيه إلا
لمن أتقن ما ذكره ووجد شيخا بالصفة التي ذكرها, فهذا.
ج / 1 ص -79-
يجوز له الاشتغال حتى بهذا القسم لأنه يؤمن
عليه إذا وجدت فيه هذه الشروط الميل إلى ما فيه من الشبه الفاسدة, ولقد
اشتغل بهذا القسم كثير من فحول الإسلام حتى أحكموه وتمكنوا به من تمام
الرد على الفلاسفة وتزييف مقالاتهم الباطلة, وتأمل تجهيله لمن قال: إنه
حرام يعرض بذلك لابن الصلاح, لكن إذا حمل كلام ابن الصلاح على ما قدمته
اتجه على أنه بان لك من كلام السبكي أنه يجوز الاشتغال بهذا النوع أيضا
بشرطه السابق.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يحرم إخراج النجس للقبلة كالقيء والفصد؟ أو هو خاص بالبول
والغائط؟ "فأجاب"
بقوله: هو خاص بالبول والغائط, فشرط عدم الساتر الشرعي في غير المكان
المعد لقضاء الحاجة, وأما الفصد والقيء ونحوهما للقبلة فلا حرمة فيها,
لأن استقذارها ليس كاستقذار البول والغائط ومن ثم أباحوا الفصد في
المسجد في إناء - إذا أمن تلويثه - ولم يبيحوا البول فيه في إناء - وإن
أمن تلويثه - وعللوه بأن البول أقذر ولذا عفي عن قليل الدم وكثيره في
صور ولم يعف عن شيء من البول, والغائط أولى منه بذلك والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه استدل الحنفية على عدم وجوب الاستنجاء بحديث أنه صلى الله
عليه وسلم سئل عنه فقال:
"من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" فهل الحديث كذلك أم لا؟ "فأجاب" بقوله: ليس هذا لفظ الحديث وإنما لفظه: "من استجمر
فليوتر, من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" وهو حديث حسن كما في شرح
المهذب ولا دليل لهم فيه؛ لأن الكلام في الإيتار لا في أصل الاستنجاء
كما هو واضح.
"وسئل" -
نفع الله به - عن لمس المرأة ونظرها من وراء حائل كثوب هل يجوز أم لا؟
"فأجاب" -
فسح الله في مدته - بقوله: لمس الأجنبية من وراء حائل ظاهر كلامهم
جوازه, وليس على إطلاقه بل يتعين حمله على مس لا يحرك شهوة ولا يؤدي
لفتنة قطعا, أما ما هو كذلك كمس الفرج أو نحوه من وراء حائل, فلا ريب
في تحريمه ثم رأيت في شرح المهذب ما يؤيد ذلك, وهو قوله: "المدار في
باب النقض على إيقاع الاسم ولذا نقض مجرد لمس الأجنبية بلا قصد دون
معانقتها من وراء حائل رقيق, مع أنه لا نسبة بينهما في القبح" ا هـ.
فقوله: "لا نسبة بينهما في القبح" ظاهر فيما ذكرته من تحريم المس
المذكور, وهو واضح والله أعلم.
"سئل" رضي
الله عنه بما لفظه قال الزركشي في قواعده: قولهم: "يستحب التسمية عند
قراءة القرآن يشمل ما لو ابتدأ بأثناء سورة وبه صرح في البيان" ا هـ.
فهل كذلك ما إذا ابتدأ بأول "براءة" لخبر
"كل أمر ذي بال" أم يفرق بينهما؟ "فأجاب"
بقوله: يسن كما في تبيان النووي - رحمه الله - وغيره: "البسملة وإن
ابتدأ من أثناء السورة نعم اختلفوا في أثناء "براءة" فقال السخاوي من
أئمة القراءة: لا خلاف في أنه يسن البداءة أثناءها بالتسمية وفرق بين
أثنائها.
ج / 1 ص -80-
وأولها لكن بما لا يجدي ورد عليه الجعبري
منهم وهو الأوجه إذ المعنى المقتضي لترك البسملة أولها, من كونها نزلت
بالسيف, وفيها من التسجيل على المنافقين بفضائحهم القبيحة ما ليس في
غيرها موجود في أثنائها, فمن ثم لم تشرع التسمية في أثنائها كما في
أولها لما تقرر.
"وسئل" -
نفع الله به - عن استحباب التكبير من سورة الضحى إلى الآخر هل هو مختص
بمن يختم القرآن من أوله إلى آخره أو عام فيمن ابتدأ القراءة أو مما
قبلها وفيمن ابتدأها مما بعدها؟ وكيف الحكم في ذلك؟ "فأجاب"
بقوله: الذي حكاه الزركشي عن الحليمي والبيهقي وابن الجزري في النشر عن
طوائف من السلف وجمع من متأخري الشافعية, وأطال فيه "أن من سنن القراءة
التكبير في آخر سورة الضحى إلى أن يختم, وهي قراءة أهل مكة أخذها ابن
كثير عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي رواه ابن خزيمة,
وروى الحاكم في المستدرك نحوه وصححه قال الحافظ ابن كثير وقول الشافعي
رضي الله عنه: "إن تركت التكبير فقد تركت سنة من سنن نبيك يقتضي تصحيحه
لهذا الحديث" ا هـ. إذا تقرر ذلك علم منه أن التكبير مقيد بقراءة تلك
السور سواء أقرأ قبلها شيئا أم لا, وأنه لو ابتدأ من بعضها - كبر عقب
ما يقرؤه منها, واقتضى إطلاقهم أيضا أنه لا فرق بين القراءة بقراءة ابن
كثير وغيرها, فقول سليم الرازي: يكبر القارئ بها لعله؛ لكونه الراوي
لذلك كما مر.
"وسئل" -
نفع الله به - هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية؟ "فأجاب"
بقوله: أفتى بعضهم بحرمة ذلك وأطال في الاستدلال له لكن بما في دلالته
لما أفتى به نظر ظاهر.
"باب الوضوء".
"وسئل"
- فسح الله تعالى في مدته - عن وجوب الوضوء لكل حدث هل هو من قوله:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]..إلخ أو لا؟ لأن
القاعدة الأصولية أن الأمر لا يقتضي التكرار "فأجاب"
بقوله: نعم هو من الآية لأن محل القاعدة المذكورة ما إذا تجرد الأمر عن
الترتب على شرط أو صفة تثبت عليتهما للحكم بدليل خارجي, كقول السيد
لعبده: اسقني ماء, أما إذا ترتب على ذلك فإنه لا نزاع في التكرار
بواسطة الشرط أو الصفة؛ لوجوب وجود المعلول حيثما وجدت علته ومن هذا
القبيل قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن الزنا علة شرعية للحد, والآية المذكورة, فإن الحدث
عند القيام إلى الصلاة سبب شرعي, لوجوب الوضوء.
"وسئل" -
نفع الله به - بما صورته الفم والأنف لا يخلو إما أن يكونا من الظاهر
أو الباطن, فإن كانا من الظاهر فلم لم يجب غسلهما في الوضوء والغسل ولم
يفطر إذا ابتلع ريقه منهما؟ وإن كانا من الباطن فلم يجب غسلهما إذا
تنجسا, ويفطر الصائم إذا تقايأ ووصل القيء إليهما,.
ج / 1 ص -81-
ولم يجاوزهما ثم رجع منه شيء للجوف عمدا؟ "فأجاب"
بقوله: هما من الباطن إلا في مسائل النجاسة بالنسبة لوجوب الغسل
والإفطار ونحوهما, والفرق أن النجاسة أغلظ وأفحش فمن ثم وجب غسلها حيث
سهل وإن كانت في محل محكوم عليه أنه من الباطن فجعل بالنسبة لها ظاهرا
لسهولة ذلك مع فحشها وغلظها.
"وسئل" رضي
الله عنه بما صورته الحدث الذي ينوي المتوضئ رفعه هو المنع من نحو
الصلاة ومس المصحف, وهذا يرفعه التيمم ووضوء الضرورة فكيف تقولون أن
هذين لا يرفعان الحدث؟ "فأجاب"
المراد بالمنع الذي ينويه المتوضئ السليم منع مطلق من سائر الفروض
والنوافل؛ لأن هذا هو المترتب على الحدث, وهذا لا يرفعه نحو التيمم
وإنما يرفع منعا خاصا هو بعض ماصدقات الحدث فلم يحسن أن يقال أنهما
يرفعان الحدث بل شيئا ماصدقاته فقط.
"وسئل" رضي
الله عنه عما لو وقف متوضئ تحت ميزاب وتلقى منه الماء بكفيه مجتمعين
بعد غسل وجهه من غير نية اغتراف فهل يحكم على ما يكفيه بالاستعمال أو
لا؟ "فأجاب"
بقوله: نعم يحكم عليه بالاستعمال لرفع حدث اليدين, وكل منهما عضو مستقل
هنا وحينئذ فلا, يجوز له أن يغسل ساعديه ولا أحدهما؛ لأنه إذا غسلهما
به فكأنه غسل كلا بماء كفها وماء كف الأخرى, وهو مستعمل بالنسبة لغير
ساعدها وإن غسل به ساعدا واحدا فقط فقد غسلها بمائها وماء كف الأخرى,
ونظيره ما لو انغمس جنبان في ماء قليل, ونويا قبل تمام الانغماس, أما
إذا نوى الاغتراف فإنه لا يرفع حدث الكفين, فله أن يغسل به ساعديه أو
أحدهما وكالميزاب فيما ذكر ما لو صب عليه من إبريق ونحوه, فإن قلت: هل
يتصور الاحتياج إلى نية الاغتراف في الوضوء من نحو إبريق؟ قلت: إن كان
يأخذ الماء بيديه - احتاج إليها كما تقرر, وإن كان يأخذه بيد واحدة -
لم يحتج إليها إلا بالنسبة لحصول سنة تثليث الوجه بناء على ما قاله
الزركشي من وجوب نية الاغتراف بعد الغسلة الأولى وإلا ارتفع حدث اليد؛
لأنه إذا لم ينوها بعد غسلته الأولى - ارتفع حدث اليد فتفوت سنة
التثليث في الوجه؛ لتعذر حصوله بعد ارتفاع حدث الكف, وكذا يقال بذلك لو
كان يغترف من بحر وعليه فليغترف بذلك ويقال لنا متوضئ من بحر يحتاج
لنية الاغتراف.
"وسئل" فسح
الله في مدته عما طال من شعر منابت الرأس المتصل بالوجه الذي يجب غسله
لأجل استيعاب الوجه هل يجب غسله على طوله إذ كل شعر وجب غسل منبته وجب
غسله أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: الواجب القدر الذي يتحقق استيعاب الوجه بغسله أخذا من قولهم:
يجب غسل شيء مما حاذاه, فإذا وصل الغسل إلى أدنى شيء من منابت جميع شعر
الرأس المتصل بالوجه, فقد تحقق استيعاب الوجه بالغسل وإن لم يستوعب ما
طال منه هذا هو الظاهر من كلامهم.
ج / 1 ص -82-
"وسئل" رضي
الله عنه عن محدث انغمس بنية رفع حدثه هل يرتفع وإن لم يمكث أو كان
منكوسا؟ وما معنى قول جامع المختصرات: "ثالثها ودونه ورجح, وهل يشترط
كون الماء كثيرا؟ "فأجابه"
بقوله: نعم يرتفع حدثه عن جميع أعضاء الوضوء, وإن لم يمكث أو كان
منكوسا أو الماء قليلا كما بينته في شرح مختصر الروض, وأما معنى قول
النشائي: "ثالثها ودونه ورجح" أي دون إمكان حصول ترتيب فعل المتوضئ
حكما إذ الترتيب قسمان: القسم الأول نوعان أحدهما: ترتيب حسي, والثاني:
ترتيب حكمي بأن يمكث بعد انغماسه ونيته زمنا يمكنه فيه غسل أعضاء
الوضوء حسا لو أراده والقسم الثاني: ترتيب انغسال الأعضاء من غير نظر
إلى فعله, وهذا هو الترتيب التقديري وتسميته ترتيبا مجاز. وقوله:
"السادس الترتيب" مراد به النوع الأول من القسم الأول, وقوله: "أو
إمكانه" مراده به النوع الثاني وهو ما رجحه الرافعي قوله: "ودونه"
مراده به القسم الثاني, وهو ما رجحه النووي وإمكان حصول الترتيب غير
إمكان تقديره.
وسئل" - فسح
الله في مدته - بما لفظه ما محصل الخلاف في موجب الوضوء والغسل من
الجنابة والحيض والنفاس؟ وما فائدة الخلاف في ذلك وقد ذكر كثير لذلك
فوائد فهل هي صحيحة كلها؟ واختلف تعبيرهم في حكاية الأوجه في موجب ذلك
فما التحقيق في ذلك كله؟ فإنه مهم للمحصلين. "فأجاب"
- شكر الله سعيه - بقوله: الكلام على ذلك يستدعي مزيد بسط وطول, ومن ثم
صنف فيه بعضهم. وحاصل التحقيق في ذلك أن في موجب الوضوء أوجها: الأول:
وعليه العراقيون وغيرهم أن موجبه الحدث وجوبا موسعا ما لم يدخل الوقت
ويبقى ما يسعه, ويسع الصلاة فقط, ودليله أنه لولاه لم يجب, والدوران
دليل العلية, ومعنى كونه موجبا مع عدم الإثم بتأخير الوضوء عنه إجماعا
وعدم جريان الخلاف في العصيان بالموت قبل الوقت من غير وضوء أن سبب
الوجوب ينعقد به كما يقال: "تجب الزكاة بحولان الحول" بمعنى انعقاد
الوجوب مع توقف الاستقرار فيها على التمكن أو أنه سبب لوجوب الوضوء أو
لوجوب ترك نحو صلاة النفل ومس المصحف, فهو سبب وجوب واجب مخير قبل
الوقت ومعين بعده. فإن قيل: السببية إنما تثبت بالجعل وهو مفقود هنا
قلنا: قوله: صلى الله عليه وسلم:
"إنما الماء من الماء" مقتض لكون الحدث سببا إذ لا فارق بين الغسل والوضوء وبنى الرافعي
على هذا الوجه صحة نية الفرضية قبل الوقت, وإنما لم يكن الخبث موجبا
للطهر كالحدث على هذا الوجه, لأن طهارته من باب التروك, وطهارة الحدث
من باب الأفعال والكلام في الموجب لهذه لا تلك. الوجه الثاني: أن موجبه
دخول الوقت ويعبر عنه بإرادة القيام للصلاة أي أو نحوها مما يتوقف
عليه, وبعضهم عبر بالأول وهو أظهر؛ لأنه المحقق للوجوب وبعضهم بالثاني,
وهو أوفق لدليل هذا الوجه. وهو قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية, ومعنى كون الإرادة أو دخول الوقت موجبا أنه
سبب للموجب, وهو القيام إلى الصلاة إذ وجوبها موجب للوضوء،
ج / 1 ص -83-
فالمحقق لهذا الوجوب هو الوقت أو الإرادة
فأحدهما سبب للسبب هذا على التعبير عن هذا الوجه بما مر, وأما من عبر
عنه بنفس القيام إلى الصلاة فظاهر؛ لأن القيام إليها موجب بذاته لا سبب
للموجب, وعلى هذا الوجه تستشكل نية الفرضية قبل الوقت, وأجاب الرافعي
وتبعه في المجموع "بأنه ليس المراد بها ما يلزم الإتيان به وإلا لامتنع
وضوء الصبي بهذه النية, بل نية الطهر المشروط للصلاة. وشرط الشيء يسمى
فرضا, ولا ينافي ذلك أن اعتقاد كون النفل فرضا لا يبطله لأن محله في
الجاهل لا المعتقد للنفلية إذا نوى بالنفل ما يلزمه الإتيان به؛ لأنه
متلاعب ولا ينافيه أيضا وجوب نية الفرضية في صلاة الصبي لأن المراد بها
الفرض صورة أو ما هو فرض على المكلف كما يلزمه القيام في الصلاة وإن
كانت منه نفلا, وليس المراد حقيقة الفرضية بل لو نواها بطلت أخذا من
قولهم لو نوى بالأداء القضاء وهو عكسه مريدا لمعناه الشرعي, وهو عالم
بالحال بطلت صلاته الوجه الثالث: أن الموجب الحدث مع القيام إلى الصلاة
أو أحدهما بشرط الآخر, ولا خلاف في المعنى, وإن عبر بكل معبرون إذ لا
فرق بين أن يكون كل جزء علة أو أحدهما علة والآخر شرطا فيها. وجعله في
المهمات هذين وجهين متغايرين ليس فيه كبير فائدة, ويعبر عن القيام إلى
الصلاة هنا بدخول الوقت أيضا, وهذا الوجه هو الأصح عند الشيخين وغيرهما
وفي موجب الغسل من الجنابة هذه الأوجه الثلاثة, والصحيح فيه هو الثالث
أيضا, وإن صرح المتولي بأنه لا فائدة فيه, وإنما القصد به تبيين علة
الحكم فمن ذلك: نية الفرضية قبل الوقت, فعلى الأول يصح مطلقا, وعلى
الثاني لا يصح إلا بتأويل كما مر ومنها إذا أحدث ثم دخل الوقت ثم مات.
وقلنا: يعصي, فعلى الأول عصيانه بترك الوضوء من حين الحدث, وعلى الثاني
من أول الوقت كذا قيل وقد مر الإجماع على عدم عصيانه قبل الوقت ومنها
وصفه بالقضاء والأداء, فيوصف بهما على الثاني فقط؛ لأن وقته حينئذ وقت
الصلاة وهو محدود الطرفين, ورد بأنه على الأول أيضا أي, والثالث يكون
وقته محدود الطرفين, وفائدة اتصافه بذلك فيما يظهر وجوب التعرض له في
النية أولا قياسا على الصلاة وهل يلحق بالصلاة فيما لو نوى بالأداء
القضاء الشرعي أو عكسه عالما عامدا فيبطل أو لا؟ فيه نظر, والأقرب
الثاني؛ لأن اتصافه بذلك مختلف فيه ولأنه بطريق التبع للصلاة لا القصد
ومنها: أن ماء الغسل بالجماع إن قلنا بالأول وجب على الزوج إذ هو سببه
أو بالثاني فلا, ذكره في الخادم. وكان وجه الثاني أن الموجب ليس من
سببه لكنه ممنوع إذ القائل بالثاني لا يقطع النظر عن الأول إذ هو
الموجب حقيقة, وإن توقف إيجابه على دخول الوقت بناء على القول الثاني
ومنها إذا صب الماء بعد دخول الوقت, ثم تيمم فعلى كون الموجب دخول
الوقت يعيد, وعلى كونه القيام إلى الصلاة فلا, كذا في الخادم. قيل وهو
وهم منشؤه المغايرة بين دخول الوقت والقيام إلى الصلاة, ويرد بأن مراده
بالقيام إلى الصلاة الوجه الثالث إذ المعتمد أنه إذا صبه بعد الوقت لا
يعيد, وإن أثم, واختلاف مأخذ عدم القضاء في ذلك لا يضر, ومراده.
ج / 1 ص -84-
بدخول الوقت الوجه الثاني, فلا وهم لكن
قضية هذا أنه على الأول يجب القضاء قال في الخادم: "ولم نره ومنها إذا
توضأ قبل الوقت, فأحدث في أثنائه فعلى الأول يثاب على ما مضى ثواب
الواجب وعلى خلافه ثواب نفل" ومنها: قال في المهمات: قد يقال من فوائده
ما لو شرع فيه ثم أراد قطعه باللمس مثلا, وقلنا بالصحيح: أنه لا يجوز
قطع الواجب الموسع بعد الدخول فيه أما قطعه بما له فيه غرض صحيح فلا
إشكال في جوازها. ا هـ. وتعقبه أبو زرعة بأنه قد يكون له في اللمس غرض
صحيح فيساوي غيره, وبجواز الحدث بعده ولو بلا غرض, وأنه ليس مقصودا
لذاته حتى يجري مجرى غيره من الواجب الموسع, وابن العماد بأنه صحيح إن
ضاق الوقت وإلا فخطأ إذ المحافظة على الوضوء سنة والخروج منه جائز قطعا
كالخروج من النافلة بعد الشروع فيها بحدث أو غيره ا هـ. وحاصل كلامهما
أنه يجوز قطعه بلا غرض حتى على الأول وهو متجه ومنها أدرك من الوقت قدر
الفرض, ثم طرأ نحو جنون, فعلى الأول لا يعتبر مضي قدر الطهارة لسبق
موجبها وعلى الآخرين يعتبر, ذكره في الخادم وقضيته: أن الصحيح اعتبار
قدرها. وإن كانت طهارة رفاهية. ومنها: أنه سنة قبل الوقت فعلى الثاني
والثالث يستثنى من قاعدة: أن الواجب أفضل من النفل, ومنها: التعليق كإن
وجب عليك وضوء أو غسل فأنت طالق, فعلى الأول يقع بالحدث وهذه أصح
الفوائد لما علمته, ولأنها تتفرع على الخلاف الآتي في الحيض أيضا هذا
ما يتعلق بموجب الوضوء والغسل وفائدة الخلاف فيه, وأما الغسل من الحيض
والنفاس فموجبه كما في أصل الروضة قبل خروج الدم كخروج البول في الوضوء
وقيل: انقطاعه لحديث: "وإذا أدبرت, أي الحيضة فاغتسلي" وقيل: الخروج
عند الانقطاع كما يوجب الوطء العدة عند الطلاق, والنكاح الإرث عند
الموت, ولعدم صحة الغسل قبله. وظاهر كلام الروضة والمجموع أن هذا الوجه
لا يأتي في الحدث والجنابة لكن عبارة الرافعي تقتضي جريانه فيهما,
واعتمده بعضهم أخذا من كلام المتولي لعدم صحة الوضوء قبله أيضا, واعتذر
عنهم بأنهم إنما لم يجروه, ثم لأن زمن الحدث فيهما يقصر فلا يسع زمن
الطهارة معهما غالبا بخلاف الحيض فإن زمنه يطول, واستشكل في المهمات
المغايرة بين الأول والثالث بأن الأول يسلم عدم صحة الغسل إلا عند
الانقطاع. وأجاب في الخادم "بأن الثالث يشترط مع الانقطاع القيام إلى
الصلاة أخذا من كلام الرافعي ورد بأنه في المجموع غاير بين القائل
بالخروج والقائل بالانقطاع والقائل بالقيام إلى الصلاة والقائل
بالثلاثة فتعين أن الأول يشترط الانقطاع لصحة ما وجب عنده بالخروج,
والثاني الذي قدمناه عن أصل الروضة يجعله جزء علة أو شرطا لها, والذي
قدمناه عن المجموع يجعله هو العلة فقط والمعتمد هنا أن الموجب هو
الخروج بشرط الانقطاع, وإرادة فعل نحو الصلاة أو الخروج معهما إذ لا
فرق بين العبارتين على ما مر, وتصحيح المجموع للقول بأن الموجب
الانقطاع فقط, وأصل الروضة للقول بأنه الخروج من الانقطاع أو بشرطه لا
ينافي ذلك؛ لأنه إنما سكت عن الخروج والقيام إلى
ج / 1 ص -85-
الصلاة للعلم مما قدمه في الوضوء على أنه
قيل: إن تصحيح المجموع المذكور مبني على ضعيف وإن القول المعبر عنه في
المجموع بالانقطاع هو المعبر عنه في أصل الروضة بالخروج مع الانقطاع
وبه يعلم اندفاعه ما في الجواهر من جعله وجها خامسا في المسألة. قال في
المجموع عن إمام الحرمين وغيره: "وليس في هذا الخلاف فائدة فقهية" ثم
ذكر له فائدة على قول ضعيف, وفي الخادم عن صاحب الوافي "تظهر فائدة
الخلاف فيمن ولدت ولم تر دما فعلى الانقطاع لا غسل لأنها عادمته" ورد
بأن عدم الغسل لعدم تسمية الولد منيا لا لما ذكر, وفي جواز اللبث في
المسجد قبل الانقطاع فيحرم إن أوجبناه بالخروج فقط وإلا فهي استحاضة
ورد بأن التحريم مرتبط بحصول حدث الحيض, ولا أثر لكون الغسل وجب أو لم
يجب, وأنه لو بقي عليها من مدة الاعتكاف زمن فانقضى قبل الانقطاع فيحسب
على غير الأول. ورد بأن الحيض مناف للاعتكاف, وإن لم يجب الغسل ومن ثم
قيل ما ذكره في هذين عجيب بل غلط, وأنه يجوز اغتسالها من الجنابة على
غير الأول لا عليه؛ لأن من اجتمع عليه حدثان لا يجوز أن يرفع أحدهما مع
قيام الآخر وليس فيه إلا تعاطي عبادة فاسدة وهو مردود بأن طهرها حرام
حتى على غير الأول, ولا يضر اختلاف جهة الحرمة فإن قلنا بالضعيف, وهو
حل القراءة للحائض التي لا جنابة عليها أمكن أن يقال بحل غسلها؛ لهذا
العذر ويحتمل خلافه. وفي البيان يصح غسلها للإحرام على غير الأول, ورد
بأن البغوي من القائلين بالأول, وقد قال باستحبابه لها, وأن لها
المطالبة بثمن ماء غسل النفاس أو الحيض على وجه في الحال إن قلنا
بالأول والمطالبة به لو طلقها في النفاس أو الحيض وقبل الانقطاع على
الأول لوجود موجبه حال الزوجية, ولو نكح نفساء ولدت منه بشبهة ثم طهرت
فلها المطالبة على غير الأول, ويرد بأن سبب النفاس لم يكن من النكاح,
فلا وجوب مطلقا ولو هايأت المبعضة سيدها أو هايأها سيداها, فنفست في
نوبة وطهرت في أخرى. فعلى الأول يجب ثمن ماء نفاسها على السيد الأول,
وعلى الثاني يجب على الثاني والذي يظهر على المعتمد أنه يجب عليهما؛
لأن الموجب مركب وقد وجد عند كل جزء منه هذا إن كان الولد من غيرهما,
ولا نفقة عليه فإن كان من زوج عليه نفقتها أو من أحد السيدين, فواضح أن
الماء عليه مطلقا.
"وسئل" -
فسح الله في مدته - بما لفظه إذا قلتم: يستحب للمتوضئ أن ينوي رفع
الحدث مثلا عند غسل الكفين ويستحبها إلى فراغ الوضوء, وقد قالوا إذا
انغسل شيء من الوجه مع المضمضة والاستنشاق مقارنا لنية معتبرة كفى في
حصول النية, ولم تحصل المضمضة والاستنشاق لفوات محلهما, فقد يقال: كونه
مأمورا بالنية عند المضمضة والاستنشاق يؤدي إلى كونه مأمورا منهيا في
حالة واحدة, فإنه مأمور بالنية عندهما ليحصل له فضلهما, وذلك ممنوع؛
للدور أو إلى تحمل مشقة كأن يتمضمض ويستنشق بنحو أنبوبة أو يقال: لا
يلزم شيء من ذلك, بل هو مأمور بالنية عندهما في الجملة فإذا انغسل
معهما شيء من الوجه حكم.
ج / 1 ص -86-
بعدم حصولهما لفوات محلهما. "فأجاب" بأنه
لا يلزم من أمره بالنية عند التسمية وباستصحابها ذكرا إلى آخر الوضوء
كونه مأمورا منهيا في حالة واحدة إلى آخر ما ذكر في السؤال لأنه لا
يلزم من استصحاب النية عند المضمضة مثلا انغسال شيء من حمرة الشفة معها
لسهولة إيصال الماء إلى الفم من غير انغسال شيء من حمرة الشفة ولإمكان
إيصاله إلى داخل الأنف من غير انغسال شيء من حد الظاهر من الوجه وإنما
غاية ما فيه أن هذا الثاني فيه عسر لكنه يحتمل لمزيد فضله ولا يقال: أن
فيه حرجا؛ لأنه ليس بواجب وإنما هو أمر مندوب فمن أراد فضله فليفعله مع
عسره ومن لا فلا حرج عليه على أن قضية كلام بعض المتأخرين أنه إذا قصد
المضمضة دون غسل الوجه أجزأته المضمضة, وإن نوى عندها وانغسل معها شيء
من حمرة الشفة لكن الأوجه خلافه, فقد صرح بعض الأصحاب بخلافه, وقد يجاب
أيضا بحمل قولهم: ويستصحبها إلى فراغ الوضوء على ما عدا المضمضة
والاستنشاق فلا يستصحبها عندهما إذا كان ينغسل معهما شيء من الوجه؛ لأن
مصلحة تحصيلهما أتم من مصلحة الاستصحاب لأنه قيل بوجوبهما في الوضوء
والاستصحاب قيل: بعدم ندبه, وفرق واضح بين ما اختلف في مطلوبيته وما
اتفق على مطلوبيته واختلف في وجوبه, ولا ينافي ذلك كونهم أطلقوا ندب
الاستصحاب لأنهم وكلوه على ما قرروه قبل في المضمضة والاستنشاق مما
يصرح بما قلناه, فالحاصل أن فعلهما ولم ينغسل معهما شيء من الوجه
استصحب النية عندهما كغيرهما ولا محذور في ذلك, وإن كان ينغسل معهما
شيء من الوجه ترك الاستصحاب عندهما مراعاة لمصلحة حصولهما الآكد من
حصول الاستصحاب كما تقرر.
"سئل" - فسح
في مدته - عمن هجم بغير اجتهاد وتوضأ بأحد المشتبهين اعتمادا على أصل
الطهارة وصلى لم تصح صلاته قطعا ولا وضوءه على الأصح قاله الإسنوي في
شرح المنهاج فما وجه القطع مع جريان الخلاف في الوضوء؟ "فأجاب"
بقوله: قد يقال وجهه أن الصلاة هي أعلى ما طلب له الوضوء؛ فلذلك احتيط
في أمرها ولم يقل بإباحتها بهذا الوضوء, وإن قلنا بصحته لما اشتمل عليه
من خلل في شرطه الأعظم وهو احتمال النجاسة والطهارة على السواء من غير
مرجح وحينئذ فلا يلزم من صحته وإباحته بالنسبة لمس المصحف مثلا إباحته
للصلاة؛ لما عرفت من أنها لعظم خطرها لا يكتفي في إباحتها إلا بوضوء
بماء متيقن الطهارة, أو مظنونها ولم يوجد.
"وسئل" -
فسح الله تعالى في مدته عن الوضوء المجدد هل ينوى به رفع الحدث أو
التجديد, وفي شرح الروض كلام فيه حققوه نفع الله بكم آمين. "فأجاب" بقوله: قد ذكرت المسألة في شرح العباب موضحة
وعبارته "ويستثنى من كلامه الوضوء المجدد فلا يكفي فيه نية الرفع أو
الاستباحة على الأوجه خلافا لابن العماد, ولا يقاس بنية الفرضية في
الصلاة.
ج / 1 ص -87-
المعادة على ما يأتي فيها؛ لأن ذلك مشكل
خارج عن القواعد فلا يقاس عليه كذا قاله الإسنوي ومن تبعه. وأولى منه
أن يقال: الأصلية ليس لها إلا هذه النية فاعتبرت في العادة لتحكيمها,
وهذا الوضوء لم ينحصر في هاتين الكيفيتين فلا حاجة للتعرض لهما لإمكان
المحاكاة بغيرهما والذي يتجه فيما لو نذر التجديد أنه لا بد من نية فرض
الوضوء ونحوه, وأنه لا يكفي نية رفع الحدث أو الاستباحة هنا أيضا"
انتهت عبارة الشرح المذكورة, وفيها تحقيق لما في شرح الروض, وبيان
المعتمد في المسألة ورد لقول ابن العماد: "وتخريجه على الصلاة ليس
ببعيد لأن قضية التجديد أن يعيد الشيء بصفته الأولى وإلا لم يكن
تجديدا. ويرد أيضا بأنه ليس من صفته الأولى إلا مطلق نية تجزئ في الأول
لا خصوص نية الأول بعينها إذا كان للنية فيه كيفيات يصح صدق بعضها دون
بعض, ويؤيد ذلك أنا إذا قلنا بوجوب نية الفرضية في العادة لوجب على
ناويها أن لا يقصد بها حقيقة الفرض وإلا كان متلاعبا بل أن يقصد بها
صورة الفرض أو ما هو فرض على المكلف في الجملة فعلمنا أن صفة النية
ليست من مقتضيات الإعادة فكما أنه هنا أتى بنية مغايرة لصفة نية الأولى
من حيث إن المراد بالفرض في الأولى حقيقته وفي المعادة غير حقيقته,
فكذا يقال بنظيره في الوضوء, فإذا نوى في الأول نية رفع الحدث أو نية
استباحة الصلاة, ثم أراد التجديد قلنا: يلزمك نية بكيفية من الكيفيات
الأخر غير هاتين ولا يصح نيتك واحدة منهما؛ لعدم صدقهما إذ لا رفع
حينئذ ولا استباحة فإن قلت يمكن أن يأتي بهما قاصدا بهما المحاكاة
والصورة قلت: إنما أتى بالفرض في المعادة قاصدا ذلك لأنه لا مندوحة في
المحاكاة عن الإتيان به, وهنا أنه مندوحة في المحاكاة عن هذين فلم يحتج
إليهما ولا إلى تأويلهما على أن شرط التخريج على حكم أن يكون متفقا
عليه, أو الحكم فيه أظهر كما صرح به الرافعي, ونية الفرضية في المعادة
ليست كذلك فلم يتم لابن العماد التخريج الذي ذكره والله أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عمن وقف أرضا على من يستقي كل يوم قدرا معلوما من الماء
للتطهير بمسجد كذا هل يجوز التجديد وإزالة النجاسة عن البدن والثوب
وغسل الجمعة ونحوه من كل غسل مسنون أو طهارة مسنونة؟ "فأجاب"
بقوله: نعم يجوز ذلك كما صرح به قولي في شرح الإرشاد: "إن الماء
الموقوف يحرم الزيادة منه على الثلاث. وقولي في شرح العباب "وقيد
الزركشي كراهة الزيادة على الثلاث بغير الماء الموقوف على من يتطهر أو
يتوضأ منه كماء المدارس والربط التي يساق إليها الماء وإلا حرمت بلا
خلاف لتحريم السرف ولأنها غير مأذون فيها" ا هـ. فعلم من كلام الزركشي
أن الثانية والثالثة جائزة في الماء الموقوف على من يتطهر, وإذا جاز
هاتان جازت كل طهارة مسنونة إذ لا فرق بين هاتين, والوضوء المجدد
والأغسال المسنونة وهذا ظاهر. وكلام الأصحاب مصرح به حيث أدرجوا في
الطهارة الطهارة المسنونة كالواجبة؛ لأن كلا منهما يسمى طهارة لغة
وشرعا, وقول الواقف للتطهير بمسجد كذا يشمل كل طهارة واجبة ومندوبة
فنزل كلامه عليهما. نعم
ج / 1 ص -88-
لو اطردت عادة في زمنه بشيء وعرف تلك
العادة نزل وقفه عليها كما صرحوا به بقولهم: إن العادة المطردة في زمن
الواقف إذا عرفها تنزل منزلة شرطه. ويؤخذ من قول الزركشي: "والربط التي
يساق إليها الماء أنه لا فرق بين أن يكون الماء نابعا من المحل الموقوف
أو غيره ولا بين أن يكون الوقف على المستقي من ماء مملوك يباح الاستقاء
منه أو مباح أباحه الواقف أو غيره. وقوله: "للتطهير بمسجد كذا" صرح في
المنع من نقله إلى غير مسجد كذا, وإن قرب منه ما لم ينسب إليه عرفا لما
هو معلوم أن الواقف لا يقصد التطهر به داخل المسجد فحسب؛ لأنه يكثر
فيشوش على أهل المسجد. وإنما المقصود بذلك أن يتطهر به فيه أو في محل
منسوب إليه وهذا كله حيث لا عادة بشرطها السابق وإلا عمل بها لما مر,
فإن اقتضت جواز النقل مطلقا أو لمن هو متصف بصفة مخصوصة جاز النقل
بحسبها, ولا عبرة بعادة لم تطرد في زمن الواقف أو لم يعرفها, وحيث جاز
نقله لشرط أو عادة, فالذي يظهر أنه يجب عليه أن يقتصر على قدر كفايته
لتلك الطهارة, ولا يجوز له أن يدخره لصلاة أخرى أخذا مما قالوه في نبات
الحرم لا يجوز أخذه لدواء أو علف أو نحوهما إلا بعد وجود نحو المرض أو
الحيوان عنده لا قبل ذلك؛ لأن ما جاز لضرورة يتقدر بقدرها, فكذلك الأخذ
من ذلك الماء إنما جاز لضرورة التطهر للصلاة, فلا يجوز أخذه قبل أن تحق
ضرورته إليه, ولو جوزنا له أخذ أكثر من كفاية طهارته التي يريدها بنية
أن يدخره إلى طهارة أخرى, لكنا قد جوزنا له أخذ هذا الزائد قبل أن تحقق
ضرورته إليه. فإن قلت: النبات الحرمي يجوز للمريض مثلا أن يأخذ منه من
غير أن يتقيد بقدر ما يستعمله مرة واحدة, وكذلك المضطر يجوز له التزود
من الميتة, قلت يفرق بينهما بأن سبب جوازه الأخذ للمرض والاضطرار, وبعد
وقوعه الأصل دوامه فلم يتقيد الأخذ بشيء بخلاف ما نحن فيه فإن كل طهارة
لها سبب مستقل فلو جوزنا له الأخذ لطهارة صلاة أخرى لم يدخل وقتها لكنا
جوزنا له تقديم الأخذ على سببه, وهو ممتنع كما تقرر فإن قلت في الخادم
عن العبادي أنه يحرم نقل شيء من الماء المسبل إلى غير ذلك المحل كما لو
أباح لواحد طعاما ليأكله لا يجوز له حمل الحبة منه, ولا صرفه لغير
الأكل ثم قال: وفي هذا تضييق شديد وعمل الناس على خلافه من غير نكير.
وقضيته جواز النقل في صورة السؤال, قلت: ليس قضيته ذلك؛ لأن الواقف في
صورة السؤال قيد بقوله: بمسجد كذا, فوجب اتباع تقييده لأنه بمنزلة
شرطه. وشرطه حيث لم يخالف الشرع يجب اتباعه بخلاف المسبل في مسألة
العبادي فإنه أطلق فأمكن الزركشي أن يقول فيه ما ذكر. على أن الأوجه
كما ذكرته في شرح العباب وغيره هو ما قاله العبادي؛ لأن قرينة حال
المسبل تقتضي أنه قصد رفق أهل تلك المحلة بما سبله فيها, والقرائن لها
أثر بين في ذلك فعمل بها قياسا على ما ذكره في مسألة الإباحة, وعليه
فهل المراد بالمحلة في كلامه المحلة التي هو فيها كنقل الزكاة أو موضعه
المنسوب إليه عادة بحيث يقصد المسبل أهله بذلك؟ محل
ج / 1 ص -89-
نظر, والثاني أقرب فإن قلت: القياس أن
الطهارة لا تشمل إلا الواجبة أخذا مما أفتى به ابن الصلاح وأقروه من أن
ما وقف للتكفين لا يعطى منه الميت إلا ثوب سابغ ولا يعطى القطن والحنوط
فإنه من قبيل الأثواب المستحسنة التي لا تعطى على الأظهر المحفوظ في
نظيره ا هـ. قلت يفرق بين المسألتين بأن لفظ الواقف ثم وهو التطهير
يشمل الواجب والمندوب لغة وشرعا كما مر فحمل عليهما بخلاف التكفين فإنه
لا يشمل القطن والحنوط فلم يحصل عليهما, ويؤيد ذلك أنه لما كان فيه
شمول للزائد على ساتر العورة أعطيه كما أفاده ابن الصلاح بقوله: ويكون
سابغا فإن ظاهره أنه يعطاه, وإن قلنا الواجب ستر العورة ويفرق بينه
وبين الثوب الثاني والثالث بأنه آكد منهما ولهذا لم يلتفت لمنع الغرماء
له بخلاف سائر المستحبات, ولا ينافي قولنا وأقروه. قول ابن الأستاذ إن
قيد الواقف بالواجب أو الأكمل اتبع, وإن أطلق واقتضت العادة شيئا نزل
عليه. ووجه عدم المنافاة أن كلام ابن الصلاح مفروض كما هو جلي حيث لا
نص من الواقف, ولا ما هو منزل منزلة نصه, وهو العادة المطردة في زمنه,
فحينئذ يعمل بما قاله ابن الصلاح وأما مع نصه على الواجب فقط أو عليهما
أو وجدت عادة له بذلك فلا إشكال أن ذلك يعمل به حتما فظهر أنه لا تنافي
بين كلامي ابن الصلاح وابن الأستاذ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" -
نفع الله به - هل يصح وضوء من بسفل رجله شوكة, وإذا تعذر إخراجها ما
الحكم؟ "فأجاب"
بقوله: عبارة شرحي للعباب "قال الزركشي هنا شيء يغفل عنه وهو أن تقع
شوكة في يده مثلا, وحكمه أنه إن ظهر بعضها - وجب قلعه وغسل محله؛ لأنه
صار في حكم الظاهر فإن استترت كلها صارت في حكم الباطن فيصح وضوءه
لكنها تنجست بالدم فلا تصح صلاته معها كالوشم" ا هـ. وفيه نظر؛ لأن
تنجسها بذلك معفو عنه وفارقت مسألة الوشم بأن الدم ظهر ثم, واختلط
بأجنبي بخلافه هنا على أنه مر أنه لو أدخل عودا في دبره وغيبه كله صحت
صلاته, فهذا أولى ثم رأيت بعضهم قيد ما قاله فيما إذا ظهر بعضها بما في
فتاوى البغوي من أن ذلك فيما إذا كانت لو نقشت بقي محلها مثقوبا بخلاف
ما إذا كان المحل يلتئم عند قلعها فإنه لا يضر وجودها, ولفظ الفتاوى
شوكة دخلت أصبعه يصح وضوءه, وإن كان رأسها ظاهرا لأن ما حواليه يجب
غسله وهو ظاهر, وما ستره الشوك فهو باطن فإن كان بحيث لو نقب عن الشوك
بقي نقبه حينئذ لا يصح وضوءه إن كان رأس الشوك خارجا حتى ينزعه ا هـ.
ويتعين حمل الشق الأول على ما إذا جاوزت الجلد إلى اللحم, وغاصت فيه لا
يضر ظهور رأسها حينئذ لأنها في الباطن والثاني على ما إذا سترت رأسها
جزءا من ظاهر الجلد بأن بقي جزء منها فيه, ونظر فيما قاله آخرا بنحو ما
ذكرته فقال: "الظاهر أنها لا تلحق بالوشم للعفو عن مثله, وإنما لم
ينظروا في الوشم لذلك لظهوره بفعله وعدوانه, ولتحريمه بخلاف ما نحن
فيه, ولا شك أن ما ذكره مفقود فيما إذا غاص بعضها
ج / 1 ص -90-
وقد مر عن البغوي فيه الصحة فلا وجه
لإلحاقه بالوشم" انتهت عبارة شرح العباب, وهي مشتملة على جواب السؤال
مع الزيادة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" -
نفع الله به - عمن انقلبت بواطن أصابعه إلى ظهر الكف فهل العبرة بما
سامت بطن الكف أو بالباطن وإن سامت ظهر اليد؟ "فأجاب"
بقوله: بحث بعضهم أنه لا ينقض باطنها لأنه بظهر الكف ولا ظاهرها؛ لأن
العبرة بالباطن ويؤيده أنهم شرطوا في النقض بالزائدة أن تكون على السنن
وإن تسامت فكما لا ينقض التي ليست على السنن وإن سامتت ولا غير
المسامتة, وإن كانت على السنن فكذا هذه فإن قلت: الفرق بينهما أن هذه
أصلية فلا تحتاج لشرط وتلك زائدة, والأصل فيها عدم النقض فاحتاجت لشرط
قلت: لما خالفت هذه وضع الأصليات خرجت على أن تكون متمحضة الأصالة من
كل وجه فكان إلحاقها بالزائدة غير بعيد.
"وسئل" - نفع الله به - عن حديث: "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات"
هل هو صحيح أو ضعيف؟ "فأجاب" بقوله: المشهور أنه ضعيف كما صرح به جماعة
لكن قضية كلام أبي داود أنه صالح للاحتجاج به, فهو عنده حسن لأن من ضعف
لأجله لم يتفق على ضعفه.
"وسئل" -
نفع الله به - عن حديث: "الوضوء نور على نور" من خرجه؟ "فأجاب" بقوله:
قال المنذري: والزين العراقي لم نقف على من خرجه: واعترضا بأن رزينا
أورده في كتابه.
"وسئل" رضي
الله عنه عن حديث "من قرأ في أثر وضوئه:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
[القدر:1] مرة واحدة كان من الصديقين ومن قرأها مرتين كتب في ديوان
الشهداء ومن قرأها ثلاثا حشره الله محشر الأنبياء" من رواه؟ "فأجاب"
بقوله: رواه الديلمي, وفي سنده مجهول والله أعلم.
"وسئل" -
نفع الله به - عن المتوضئ إذا سمع الأذان هل تسن له الإجابة حينئذ أم
لا؟ "فأجاب"
رضي الله عنه بقوله أما حال الوضوء فيجيب؛ لأن المتوضئ إنما يسن له
السكوت عن غير الذكر, وأذكار الأعضاء في ندبها خلاف بل الأصح عدم ندبها
كما قاله النووي؛ لأن أحاديثها لا تخلو عن كذاب أو متهم بالكذب,
واعتراض المتأخرين عليه رددته في شرح الإرشاد والعباب, وأما الإجابة
فمندوبة اتفاقا ولذا قالوا بندبها للطائف مع أن له أذكارا مطلوبة
اتفاقا, فالمتوضئ أولى وأما بعد فراغ الوضوء بأن وافق فراغ وضوئه فراغ
المؤذن, فيأتي بذكر الوضوء كما أفتى به البلقيني مقدما له على الذكر
عقب الأذان لأنه للعبادة التي فرغ منها ثم يذكر الأذان قال, وحسن أن
يأتي بشهادتي الوضوء ثم بدعاء الأذان لتعلقه بالنبي صلى الله عليه
وسلم, ثم بالدعاء لنفسه.
ج / 1 ص -91-
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عمن قطع أنفه أو أنملته فجعل محله بدله من ذهب مثلا
فهل يجب غسله في الوضوء والغسل أو إزالته وهل يمسحه بدلا عما تحته
كالجبيرة أو لا؟ "فأجاب"
بقوله إن كان ذلك البدل بحيث يمكن بلا خشية مبيح تيمم إزالته وعوده
وجبت إزالته وغسل ما تحته, وهذا ظاهر وإن لم يكن كذلك فالذي يظهر أنه
إن بني عليه اللحم أو الجلد وستره - وجب غسله وكذا لو بني على بعضه
فيجب غسل ذلك البعض وهذا ظاهر أيضا, وأما الظاهر الذي لم يبن عليه
اللحم ولا الجلد فهو محل تردد النظر, وقد ذكروا في الجنايات في السن
المتخذة من ذهب أنه لا أرش فيها وإن كان نفعها أكثر من نفع الصحيحة,
وإنما فيها حكومة. وهذا ناطق بأنهم لم يلحقوها بالسن الأصلية التي هي
بدل عنها وإذا لم يلحقوها بها في حقوق الآدميين مع بنائها على
المضايقة, فأولى أن لا يلحقوا البدل في مسألتنا بالأصلي في حقوق الله
تعالى, وعليه فلا يجب غسل ما لم ينبت عليه لحم ولا جلد من أنف النقد
ولا أنملته, ومثله ما لو وصل عظمه بعظم نجس بل هذا أولى؛ لأن غسل
الطاهر معهود بخلاف غسل نجس العين وكذا لو وصله بعظم طاهر لكن لا
أولوية هنا بل قد يدعى عدم المساواة, لأن النقد لا يشبه العضو المفقود
بوجه بخلاف العظم من آدمي أو حيوان فإنه يشبه العضو المفقود, فإن قلت:
سلمنا عدم وجوب غسل الظاهر من النقد المذكور فما يصنع فيما ستره من محل
القطع الذي باشره القطع فظهر به, وصار ظاهرا يجب غسله قلت: إذا استحضرت
أن الفرض أنه خشي من إزالته محذور التيمم ظهر لك أن اللحم أو الجلد بني
عليه إذ لا يخشى ذلك المحذور إلا حينئذ كما هو ظاهر, وإذا بني عليه ذلك
وجب غسل ما استتر منه به دون ما عداه كما مر, وبفرض أنه لم يبن عليه
شيء هو آيل إلى البناء عليه ويصير بعضه إن لم يعمه نحو اللحم أو كله إن
عمه عضوا مغسولا, وبهذا فارق وجوب مسح الجبيرة بدلا عما أخذته من أطراف
الصحيح؛ لأنها ليست آيلة إلى العضوية بل هي بصدد الزوال فلم ينتظر فيها
ذلك على أن مسحها كالخف رخصة فلا تجري في غيرهما لامتناع القياس في
الرخص على ما تقرر في الأصول وخرج بقولي: "محل القطع الذي ظهر به..إلخ"
باطن الأنف المستتر بالقصبة والمارن, فهذا لو فرض ظهوره لم يجب غسله
عملا بالأصل فيه وهو كونه باطنا, وإذا لم يجب غسله بفرض ظهوره فما ستره
من أنف النقد أولى إذ لا يجب غسله ولا يأتي نظير ذلك في الأنملة؛ لأن
جميع ما ظهر يجب غسله, لأنه قبل القطع لم يحكم عليه بشيء لتعذر ظهوره,
وباطن الأنف محكوم عليه بالباطنية مع تأتي غسله, وبهذا يظهر لك الفرق
بين إيجابهم غسل ما ظهر بالقطع دون ما كان مستترا بالقصبة والمارن,
وكذا باطن الفم ثم رأيت بعضهم أفتى في هذه المسألة بما حاصله أنه يجب
مسحه كالجبيرة مع ستر كل لما يجب غسله, وقد علمت فساد القياس سيما مع
ظهور الفرق الذي ذكرته على أنه توقف بعد ذلك فيها بحثه من وجوب المسح
كالجبيرة, ثم قال: ينبغي إن التحم جانب الأنف وجب غسل الملتحم, وكذا
بقية أنف النقد
ج / 1 ص -92-
تبعا قياسا على ما لو جبر عظمه بعظم طاهر
فالتحم جانباه, فإن الظاهر وجوب غسل الجميع وقياسا على انكشاط جلدة
العضد والتصاقها بالساعد فإنه يجب غسل ظاهر ما يحاذي الفرض منها مع ما
تحته إن تجافت, والجامع بينهما كون كل منهما لا يجب غسله من قبل, وإنما
وجب غسله تبعا لا أصالة. ا هـ. وقد علمت مما قدمته فساد القياس على
الجلدة المذكورة؛ لأنها من جنس ما يجب غسله فإذا صارت في محل الفرض
نسبت إليه وعدت منه فوجب غسلها لذلك, وأما أنف النقد فليس من جنس ما
يجب غسله في الطهارة بحال فلم يصح قياسه ولا جامعه المذكوران فتأمل
ذلك, وأمعن النظر فيما قررته لك فإنه مهم إذ لم يصرحوا فيه بشيء وإنما
أخذنا ذلك من فحوى كلامهم والله سبحانه وتعالى هو الموفق, وفوق كل ذي
علم عليم.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عن الداخل إلى بيته والخارج منه ما الذي يقدم من
رجليه. "فأجاب"
بقوله: لم أر في خصوص ذلك كلاما لأصحابنا ورأيت للمالكية أنه يقدم
يمينه فيهما. والذي يجري على قواعدنا أنه يقدم يمينه في الدخول ويساره
في الخروج لأن منزل الإنسان يشرف بشرفه؛ ولذا طلب منه أن يجعل لمنزله
نصيبا من صلاته وأن لا يتخذه قبرا, أي كالقبر يهجره عن وقوع الأعمال
الصالحة فيه فطلب الشارع ذلك فيه يدل على شرفه, وأيضا طلب الشارع من
داخله أن يأتي ببعض الأذكار عند دخوله ورتب على بعضها أنه إذا قاله
ارتحل الشيطان عنه وصار منزها عنه وهذا فيه تشريف له أي تشريف. وإذا
ثبت شرفه على ما يليه بهذه الاعتبارات التي ذكرتها لزم أن يجري فيه ما
ذكرته من أنه يقدم يمينه عند دخوله له ويساره عند خروجه منه قياسا له
على المسجد بالنسبة لغيره فإن قلت: الفرق بينه وبين المسجد واضح. قلت:
لا نظر لخصوص المسجدية ألا ترى أن المدرسة ومصلى العيد ونحوهما من محال
العبادة يجوز المكث فيهما للجنب, ولا يثبت لهما شيء من الأحكام المختصة
بالمسجدية ومع ذلك يقدم يمينه دخولا ويساره خروجا فيهما كما هو واضح من
كلامهم فإذا ثبت ذلك فيهما نظرا إلى أنهما محل عبادة طلبت فيهما, فكذلك
المنزل لأنه محل لعبادات مخصوصة طلبت فيه بخصوصه دون غيره فتأمله على
أنه لو سلمنا أنه لا شرف فيه هو لا خسة فيه اتفاقا, وكل ما لا شرف فيه
ولا خسة يبدأ فيه باليمين كما بينته في شرح العباب أخذا من كلام
الأصحاب, وإذا بدأ في دخوله باليمين بدأ في الخروج منه باليسار.
باب الغسل
"وسئل" رضي
الله عنه - ومتع بحياته المسلمين - عن رجل يجمع عدة من الأطفال
بألواحهم وفرشهم في المسجد لإقرائهم القرآن, وتارة يرفعون أصواتهم
فيشوشون على
ج / 1 ص -93-
المصلين وكثيرا يلوثون المسجد بالمياه فهل
تعليم القرآن بالمسجد من حيث هو حرام أم لا؟ وهل يمنع المعلم من ذلك
ويمنع الأطفال عنه فإن لم يمتنع عزر أو لا؟ "فأجاب"
فسح الله في مدته إقراء القرآن في المسجد قربة عظيمة ففي الحديث الصحيح
"إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" قال تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ} [النور: 36] وهذا عام في إقراء البالغين
وغيرهم بشرطهم الآتي. وأما ما رآه مالك رضي الله عنه من كراهة القراءة
في المصحف في المسجد, وأنه بدعة أحدثها الحجاج وأن يقاموا إذا اجتمعوا
للقراءة يوم الخميس أو غيره فهو رأي انفرد به ومن ثم قال الزركشي هذا
استحسان لا دليل عليه, والذي عليه السلف والخلف استحباب ذلك لما فيه من
تعميرها بالذكر وقراءة القرآن للحديث الصحيح, أي الذي قدمناه هذا كله
حيث كان المتعلمون مميزين يؤمن منهم تنجيس المسجد وتقذيره وعدم التشويش
على المصلين فإن كان فيهم غير مميزين لا يؤمن تنجيسهم أو تقذيرهم له
حرم على المعلم إدخالهم وعلى الحاكم - وفقه الله وسدده - زجره وردعه عن
إدخاله مثل هؤلاء, وكذلك عليه نهيه أيضا عن رفع الصوت لإقامة صلاة فيه,
والحاصل أنه لا يجوز إخراجه من المسجد بالكلية لأجل ذلك من أول وهلة,
وإنما يمنع أولا من تمكينه من تنجيس المسجد أو تقذيره بمن يدخل إليه
فيه, وكذلك يمنع من تمكينه من يرفع صوته إذا كان ثم من يصلي فإذا أصر
المعلم على ما منع منه, ورأى الحاكم أن نهيه وزجره عما ذكر لا يفيد جاز
له حينئذ أن يمنعه من المسجد بالكلية لعصيانه في بعض الصور ولعناده,
وقد صرح الزركشي بأن للحاكم أن يمنع من أكل نحو ثوم أو بصل أو كراث أو
فجل من دخول المسجد مع كراهة دخوله: فقياسه أن يجوز له منع المعلم
المذكور إذا وجد منه ما ذكرناه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يتوقف حصول السنة في نحو غسل الجمعة على غسل جميع بدنه
كغسل الجنابة أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: نعم يتوقف حصول السنة على غسل جميعه لا صحة الغسل على ذلك فلو
غسل بعضه صح غسله, لكن لا يحصل المقصود حتى يكمل غسل الباقي منه.
"وسئل" رضي
الله عنه عمن علم أن في الحمام من يكشف عورته, فهل يجوز له دخوله ويجب
الإنكار أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: يجوز دخوله فإن قدر أنكر, وإلا كره بقلبه وأثيب على ذلك, وإنما
ينكر على من كشف السوأتين دون غيرهما؛ لأنه ليس بعورة عند بعض العلماء
ما لم يكن فاعل ذلك يعتقد التحريم كذا قاله ابن عبد السلام ونقله في
المهمات وأقره, فإن قلت: هذا ظاهر إن احتمل تقليد العاري للقائل بالحل
بخلاف العوام الذين لا يحتمل فيهم ذلك. قلت: حيث لم يعلم منه اعتقاد
التحريم لا ينكر عليه؛ لأنه إما معتقد الإباحة أو ليس معتقدا تحريما
ولا إباحة, والحالة الأولى واضحة وكذا الثانية لأن شبهة الخلاف أسقطت.
ج / 1 ص -94-
وجوب الإنكار, بل قال بعض أصحابنا من
الشافعية: من شرب النبيذ لا يفسق, وإن كان ضعيفا بل شاذا وليس ذلك إلا
لشبهة الخلاف فيه.
"وسئل" رضي
الله عنه عن المضمضة والاستنشاق هل هما سنتان في الغسل من الحدث الأكبر
حتى لو أتى به مجردا عن الوضوء سن له الإتيان بهما, فإن قلتم: لا فذاك,
وإن قلتم: نعم. فهل يشترط في الاعتداد بهما أن تقارنهما نية الحدث
الأكبر ليخرج من خلاف من أوجبهما أم لا؟ وعلى القول باشتراط المقارنة
أو عدمها, فهل يدخلان في مضمضة الوضوء واستنشاقه سواء قدمه أو وسطه أو
أخره إذ لا معنى لتوالي مضمضتين واستنشاقين في طهارة واحدة أم لا؟ لأن
كلا منهما سنة مقصودة كسنة العشاء والوتر مثلا. "فأجاب"
بقوله: بأن المنقول المعتمد فقد جزم به في الروضة ونقله في المجموع عن
الأصحاب أنه يندب في الغسل المضمضة والاستنشاق ثم الوضوء كاملا بأن
يأتي بجميع سننه, ومنها التسمية وما بعدها كالمضمضة والاستنشاق
وغيرهما, وأنه يكره ترك كل من الثلاثة لأن كلا سنة مؤكدة, فيعيد
الثلاثة لكن ندب إعادة المضمضة والاستنشاق آكد, ومن ثم نص الشافعي رضي
الله عنه على ندب إعادتهما وسكت عن إعادة الوضوء ووجهه القاضي حسين
وغيره من الأصحاب بأن الخلاف في وجوبهما كان في زمنه رضي الله عنه فأحب
الخروج منه بخلاف الخلاف في وجوب الوضوء فإنه لم يكن في زمنه؛ ولأن
الماء قد وصل موضع الوضوء دون موضعهما فأمر بإيصاله إلى محلهما, وبهذا
يعلم سقوط ما فهمه الإسنوي ومن تبعه من أن حاصل كلام الشافعي أنه لا
يأتي به ويأتي بهما. وشرط الاعتداد بالثلاثة ليثاب عليها تأخرها عن نية
نحو الجنابة كما صرحوا به, ويوجه ندب طلب المضمضة والاستنشاق مستقلين
مع اشتمال الوضوء المندوب عليهما بأن محلهما يكثر فيه الأذى والقذر
فطلب مزيد التنظف فيه بتكرار غسله بخلاف غيره من بقية الأعضاء؛ ولذا
جرى خلاف في وجوبهما وخلاف في وجوب الوضوء المشتمل عليهما ولم يجر نظير
ذلك في غيرهما من الأعضاء.
"وسئل" رضي
الله عنه عن معنى قول ابن المقري في روضه: ويجب قرنها, أي نية الجنابة
بأول فرض وفي تقديمها على السنن وعزوبها ما مر في الوضوء, هل معناه أن
النية محلها عند إفاضة الماء على رأسه حتى يكون رأسه كالوجه فكما لا
يكفي اقتران النية في الوضوء بسنة قبل الوجه كذلك, ولا يكفي اقترانها
هنا بسنة قبل الإفاضة كغسل الكفين فيما إذا قدم الوضوء يجب عليه إعادة
غسل أعضاء الوضوء بعد الإفاضة مع سائر بدنه, وإن غسلها بنية رفع
الجنابة مثلا فيكتفي حينئذ باقترانها بغسل الرأس دون أعضاء الوضوء,
والكل محل للحدث؛ لأن الجنابة تحل جميع البدن فنحتاج إلى الفرق أو
مراده بأول فرض غسل جزء من بدنه ولو من أعضاء الوضوء فما معنى قوله وفي
تقديمها على السنن وعزوبها ما مر في الوضوء فهو متى نوى عند غسل الكفين
كفى, فلا يبقى لقوله وفي تقديمها على السنن وعزوبها بها ما مر في
الوضوء معنى إذ لم يبق لنا سنة متقدمة على غسل الكفين تقارن غسلا.
ج / 1 ص -95-
"فأجاب" بأن
معنى قول الروض كأصله ويجب قرنها..إلخ أنه يجب قرنها بأول مفروض وهو
أول ما يغسل من البدن من الرأس والوجه وغيرهما من أعضاء الوضوء وغيرهما
وإنما وجب قرنها في الوضوء بالوجه دون غيره؛ لأنه يجب فيه الترتيب ولا
يمكن خلو أول الواجبات عنها فلو جوزنا اقترانها بغسل اليد لخلا الوجه
عنها, وهو لا يجوز بخلافه هنا فإنه لا ترتيب فيه فأي جزء من البدن غسله
ناويا معه وقع غسله عن الجنابة, فأول مغسول هنا كالوجه في الوضوء, فلو
نوى بعد غسل جزء وجب إعادة المغسول, فوجب قرنها بالأول ليعتد به لا
لأنه لا يصح قرنها بما بعده نظير ما قالوه في غسل الوجه في الوضوء,
ومعنى قوله: وفي تقديمها على السنن..إلخ أنه لو خلي عنها شيء من السنن
بأن أتى به قبل الإتيان بالنية لم يثب عليه, وأنه لو أتى بها في أولاهن
كالسواك لكنها عزبت قبل غسل أول جزء من البدن لم يعتد بها, فتجب
إعادتها عند غسل أول جزء من البدن, فعلم الجواب عن قول السائل فنحتاج
إلى الفرق, وعن قوله: إذ لم يبق لنا سنة متقدمة على غسل الكفين تقارن
غسلا.
"وسئل" -
نفع الله به - بما صورته إذا أتى المغتسل بالأكمل في الغسل وقدم الوضوء
فهل يستحب له أن ينوي عند غسل الكفين نية رفع الجنابة, ونية رفع الحدث
الأصغر إن لم تتجرد جنابته عنه أو نية الغسل إن تجردت ويستصحب نية كل
منهما إلى فراغه كما هو مقتضى كلامهم أو يكتفي بنية الغسل عن الجنابة
أو ما الحكم فيها؟ "فأجاب"
بقوله: إن جنابته تارة تتجرد عن الحدث الأصغر كأن يلوط أو يطأ بهيمة أو
ينزل بنحو ضم امرأة بحائل, وحينئذ فينوي بالوضوء سنة الغسل, وتارة لا
تتجرد وحينئذ فينوي به رفع الحدث الأصغر وإن قلنا: إنه يندرج في الغسل
خروجا من خلاف من أوجبه, وتصريح ابن الرفعة كابن خلف الطبري بما ظاهره
يخالف ذلك مؤول, وليست النية المذكورة في القسمين واجبة بل مندوبة في
أول كل ولا يشترط استصحابها إلى آخره قياسا على نحو الطواف في الحج
لشمول نية الغسل للوضوء, وقول الإسنوي لا يتصور شمول نية الغسل للوضوء؛
لأنه إذا نوى رفع الحدث ارتفعت الجنابة عن المغسول من أعضاء الوضوء
فيكون المأتي به غسلا لا وضوء غلط كما قاله الزركشي؛ لأن رفع الجنابة
لا ينافي الإتيان بصورة الوضوء. وإذا تقرر أن حصول صورته لا ينافي
ارتفاع الجنابة في أعضائه, فبحث ابن الرفعة عدم ارتفاعها؛ لأنه غسلها
بنية السنة يرد بأن قصد ذلك لا ينافي نية رفع الحدث إذ هو من
مقتضياتها, وإذا لم تتجرد جنابته وأخر الوضوء إلى ما بعد الغسل فقضية
كلام الإسنوي أنه ينوب رفع الحدث هنا أيضا, وليس بتلاعب خلافا لما زعمه
النووي؛ لأن نية ذلك إنما هي للخروج من خلاف القائل بعدم اندراج الأصغر
في الأكبر, والأصغر في هذه الصورة لم يرتفع عند القائل بذلك فشرعت نيته
عند الإتيان به ولو بعد الغسل ليرتفع عند ذلك القائل
ج / 1 ص -96-
"وسئل" -
نفع الله به - عن قول الأصحاب, والعبارة للإرشاد "وندب لجنب غسل فرج
ووضوء لنوم ووطء وطعم هل ينوي الوضوء لهذه الأشياء؟ كما أنه ينوي في
الأغسال المسنونة أسبابها إلا المجنون والمغمى عليه فينوي كل منهما رفع
الجنابة؟" فإن قلتم به فذاك وإلا فما الفرق؟ "فأجاب"
بقوله: قد ذكرت المسألة في شرح العباب مع نظائرها من كل وضوء مسنون,
وعبارة الشرح مع المتن "والمراد في جميع هذه الصور التي قلنا يسن
الوضوء فيها الوضوء الشرعي كما نص عليه الشافعي رضي الله عنه في نحو
الغيبة وصوبه النووي في المجموع مستندا إلى ما يأتي عن الشاشي, وهو غسل
الأعضاء الأربعة مع النية والترتيب لا اللغوي الذي هو مجرد النظافة
خلافا للمتولي وابن الصباغ, فقد استبعد الشاشي في المعتمد حمل الثاني
استحباب الشافعي الوضوء من الكلام الخبيث على غسل الفم بأن ظاهر النص
أن المراد به الشرعي قال: والمعنى يؤيده فإن غسل الفم لا يؤثر فيما جرى
وإنما القصد به التكفير من المأثم والتطهير من الذنوب" ا هـ. نعم قال
الحليمي: "المراد به لمعاودة الوطء اللغوي للتصريح به في رواية" ا هـ.
ونقله القرطبي في شرح مسلم عن أكثر العلماء لخبر "فليغسل فرجه" مكان
"فليتوضأ" ونقل عن الجمهور أن المراد بوضوء الجنب للأكل غسل يديه لما
رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أراد أن ينام, وهو جنب توضأ, وإذا أراد أن يأكل أو يشرب غسل يديه
ثم يأكل أو يشرب ا هـ. والذي يتجه أن المراد الوضوء الشرعي في الكل؛
لما فيه من تخفيف الحدث, وأن غسل الفرج في الأول واليدين في الثاني
يحصل به أصل السنة لا كمالها" انتهت عبارة الشرح المذكور, وبما ذكر
فيها من أن المراد الوضوء الشرعي وأنه النية, وغسل الأعضاء الأربعة مع
الترتيب يعلم أنه ينوي به نية من نياته المجزئة لا أسبابها؛ لأن القصد
هنا رفع الحدث الأصغر إما ليخف حدثه الأكبر في صورة الجنب المذكورة في
السؤال, وإما لتحصل له حقيقة الطهارة, فيكفر إثمه في نحو التكلم بكلام
فيه إثم أو يرتفع حدثه في الصور التي جرى فيها خلاف بنقض الوضوء, أو
يزداد تأهله وتعظيمه في نحو قراءة القرآن والحديث والعلم ونحو الأذان
والذكر بما تقرر هنا من هذه الفوائد المترتبة على ما قلناه أنه ينوي
بالوضوء نحو رفع الحدث يفرق بين ما هنا وبين نيته في الأغسال المسنونة
أسبابها إلا المجنون والمغمى عليه, ويؤيد الفرق استثناء هذين؛ لأن
القصد في أمرهما بالغسل رفع الجنابة المحتملة؛ فلذلك طلب من كل منهما
نية رفعها, فكذا القصد بالوضوء في تلك الصور ما مر من تخفيف الحدث وما
بعده, وذلك لا يحصل إلا بنية رفعه أو نحوها فتأمل هذا الفرق, فإنه ظاهر
لا خفاء فيه والله سبحانه أعلم.
"وسئل" رضي
الله عنه عما إذا وقف جنب على سطح أطراف جذوعه على جدار المسجد, والطرف
الآخر على جدار بجانبه أيجوز أم لا؟ "فأجاب"
بقوله: لم أر في ذلك نقلا فيحتمل أن يقال بالجواز لأنه ليس واقفا في
المسجد ولا فيما هو من توابع المسجد,
ج / 1 ص -97-
ويحتمل أن يقال بالحرمة قياسا على ما لو
وقف بجناح بجداره فإنه يحرم, وإن كان كله في هواء الشارع كما يقتضيه
كلام المجموع في الاعتكاف, وعلى ما لو وضع رجله في المسجد والأخرى
خارجه واعتمد عليهما فإن الأوجه الحرمة, ويجاب بالفرق بين مسألتنا
وهاتين. أما الجناح فلأنه لما كان أصله جميعه في جدار المسجد, ولم يكن
منه شيء خارج عن المسجد كان يعد من توابع المسجد نظرا لأصوله ولم ينظر
لخروج هوائه عن المسجد؛ لأنه تابع فأعرض النظر عنه ونظر للمتبوع فقط
بخلاف صورة السؤال فإن أصول السطح الواقف عليه ليست من توابع المسجد؛
لأن بعضها فيه وبعضها في غيره فلم تكن نسبتها للمسجد أولى من نسبتها
لغيره بل تعارضا, والأصل الإباحة. وأما الوقوف على الرجلين معتمدا
عليهما فلأنه باشر ببدنه أرض المسجد مع الاعتماد فكان كالواقف كله فيه
فحرم بخلاف صورة السؤال, فإن الواقف على السطح لم يباشر المسجد, ولا ما
هو من توابع المسجد فلم يكن للحرمة مقتض حتى تناط به فالذي يتجه حينئذ
في صورة السؤال الجواز لما علمته مما تقرر والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
"وسئل" رضي
الله عنه عما صورته ما الحكمة في قول الحاوي: "مقرونا في الغسل هنا",
وتأنيثه في الوضوء, والجميع صفة للنية؟ "فأجاب" بقوله: قول الحاوي
مقرونة في الوضوء ومقرونا في الغسل نبه على فائدة حسنة, وهي أن الفعل
وما تفرع عنه في العمل كاسم المفعول هنا إذا أسند إلى مؤنث ظاهر مفصول
منه جاز تأنيث العامل وتذكيره, وإن كان المؤنث حقيقي التأنيث فمجازيه
أولى؛ لجواز الأمرين فيه بلا فصل أيضا لكن الأولى التأنيث, ومن ثم بدأ
به الحاوي في الوضوء, ثم ذكره في الغسل؛ تنبيها على اللغتين, وأن
البداءة بالأفصح أولى, وبما تقرر اندفع قول السائل, والجميع صفة للنية.
"وسئل" رضي
الله عنه بما لفظه: صرح البغوي أنه لو نزل منيه لقصبة ذكره فربطه بخرقة
صح غسله هل هو معتمد؟ "فأجاب"
بقوله: ليس بمعتمد بل لا يجب الغسل قطعا لإطباقهم على أن الموجب للغسل
هو خروج المني, وهذا مخرج لنزوله إلى قصبة الذكر من غير خروج ولو أحس
متوضئ ببول في قصبة ذكره صحت صلاته حينئذ كما هو صريح كلامهم, وفيه
أبلغ رد أيضا لما قاله البغوي.
"وسئل" -
نفع الله به - هل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تنور أو لا, كما
أفتى به النووي. "فأجاب"
بقوله: أخرج ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ العماد بن كثير أنه صلى
الله عليه وسلم كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله.
وفي رواية مرسلة سندها جيد أيضا أنه أطلى وولي عانته بيده وفي أخرى عند
الخرائطي وابن سفيان وابن عساكر أنه قيل لثوبان مولى النبي صلى الله
عليه وسلم تدخل الحمام, وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام, وكان يتنور وفي أخرى
عند ابن عساكر عن واثلة لما فتح صلى الله عليه وسلم خيبر أكل متكئا,
وأطلى
ج / 1 ص -98-
وأصابته الشمس ولبس الظلة, وكان المراد ب
"أصابته" الشمس أنها أثرت فيه لكبر سنه أكثر ما كانت تؤثر فيه قبل, ومن
ثم أعقبه بقوله لبس الظلة, أي ما يجعل على الرأس مما له ظل يقي الوجه
والعنق ونحوهما عن الشمس. وفي أخرى مرسلة رواها ابن أبي شيبة وسعيد بن
منصور كان إذا أطلى ولي عانته بيده وفي أخرى مرسلة أيضا رواها سعيد بن
منصور أنه لما فتح خيبر أكل متكئا وتنور وفي أخرى مرسلة أيضا عند أبي
داود في مراسيله والبيهقي في سننه الكبرى أن رجلا نور رسول الله فلما
بلغ العانة كف الرجل, ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه وفي أخرى
سندها ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنور كل شهر ويقلم أظفاره كل
خمس عشرة قيل: وفيها فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت ا هـ. وفيه نظر فإن
بدنه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الاعتدال فلا يقاس به غيره في ذلك
نظير ما قالوه فيما صح أنه كان يوضئه المد ويغسله الصاع أن ذلك خاص بمن
بدنه كبدنه صلى الله عليه وسلم ليونة واعتدالا وإلا زيد ونقص بحسب
التفاوت, فكذا هنا ومن ثم قال الأئمة في حلق العانة والإبط والقلم وقص
الشارب: "أن ذلك لا يتقيد بمدة بل يختلف باختلاف الأبدان والمحال
فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك في حق كل أحد بما يناسبه" فتأمله وما
قيل: أنه يكره التنور في أقل من شهر أخذا من هذه الرواية يرد بأن
الكراهة تحتاج إلى نهي, فإن أريد بها الكراهة الإرشادية لما صح عن ابن
عمر رضي الله عنهما أنه آثر الحلق على التنور, أي في بعض الأوقات,
وقال: إن التنور يرق الجلد كان صحيحا, وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن الحمامي كان ينوره فإذا بلغ حقوه قال له اخرج, أي وتولى العورة
بنفسه اقتداء به صلى الله عليه وسلم كما في أول الأحاديث السابقة, وهو
أصح من الحديث الأخير المقتضي أنه لم يطل إلا عانته فقط, وأنه مكن
الرجل من إطلاء ما عداها من بقية العورة على أنه مرسل فلا حجة فيه
للقائل بأن العورة ما عدا السوأتين ولا يعارض ما مر خبر أنه صلى الله
عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا لا يطلون؛ لأنه نفي وما
مر إثبات فيقدم عليه على أن هذا مرسل متكلم فيه, وورد روايتان أخريان
كذلك سندهما منقطع, وأخرى أنه كان لا يتنور فإذا كبر شعره حلقه, وهي
موصولة لكنها ضعيفة وبتقدير صحة ذلك كان يتنور في وقت ويحلق في وقت
وجاء في روايات عن عمر رضي الله عنه أنه كره التنور, وعلله بأنه من
النعيم في رواية ما يقتضي أنه إنما كره كثرة طلاء النورة, وجاء عن ابن
عباس رضي الله عنهما ما أطلى نبي قط, ومعناه ما مال نبي إلى هوى لأنه
من أطلى الرجل إذا مالت عنقه للموت أو غيره, ثم استعير للميل عن الحق
وقال ابن الأثير: أصله من ميل الطلاء, وهي الأعناق واحدتها طلاءة يقال:
أطلى الرجل إطلاء إذا مالت عنقه إلى أحد الشقين وروى البخاري في
تاريخه, وابن عدي والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود صلوات الله وسلامه
عليهما" وأخرج ابن أبي حاتم وغيره أن سبب ذلك "أن
بلقيس كانت شعراء فاستقبح سليمان حلقه بالموسى لقبح أثره فجعلت له
الشياطين النورة من أصداف" والله سبحانه وتعالى أعلم.
ج / 1 ص -99-
"وسئل" -
نفع الله به - عن قول الشيخ زكريا - رحمه الله - في فتاويه: "ولا يسن
الوضوء للغسل المسنون بل هو مختص بالواجب كما قيد به المحاملي وغيره" ا
هـ كلامه. لكن ذكر المزجد في عبابه ما لفظه: "وصفته يعني الغسل للجمعة
كغسل الجنابة فيتوضأ قبله ا هـ. وغير خاف على سيدي تدافع الكلامين فما
المعتمد من ذلك؟ "فأجاب"
بقوله: مذكور في شرحي للعباب وعبارته "هذا وقضية كلامهم أن الوضوء إنما
يكون سنة في الغسل الواجب, وبه صرح أبو زرعة وغيره تبعا للمحاملي, وقد
يقتضيه قول الرافعي, وإنما بعد الوضوء من مندوبات الغسل إذا كان جنبا
غير محدث أو قلنا بالاندراج وإلا فلا, وعلى هذا يحتاج إلى إفراده بنية
لأنه عبادة مستقلة وعلى الأصح لا ا. هـ. فقوله وإلا يشمل غير الجنب
أصلا, ولو قيل بندبه كغيره من سائر السنن التي ذكروها هنا في الغسل
المسنون أيضا لم يبعد, بل قد يؤخذ من كلام الرافعي المذكور أن وجه
تخصيص الواجب بالذكر الاكتفاء بنيته عن نية الوضوء بخلاف نية الغسل
المسنون فإنها لا تكفي عن نية الوضوء فهو أعني الوضوء إن قيل: بندبه
يكون مندوبا عند الغسل المسنون لا فيه إذ لا يكتفى بنيته عنه ثم رأيت
المصنف في باب الجمعة جزم بهذا الاحتمال" انتهت عبارة الشرح المذكور
وبها يعلم أنه لا خلاف في المسألة, وأن مراد من قال بندبه أنه مندوب
عند الغسل, ومن قال بعدمه عدم ندبه في الغسل. فتأمله يظهر لك أنه لا
تدافع بين الكلامين أصلا ولما ذكرت في شرح العباب قوله فيتوضأ قبله قلت
عقبه: ندبا بناء على ما قدمته في باب الغسل من ندب الوضوء عند الغسل
المسنون وعليه لا بد فيه من النية ا هـ. فأشرت هنا أيضا إلى أنه لا
خلاف في المسألة.
"وسئل" رضي
الله عنه ماذا ينوي الجنب والحائض إذا توضأ للوطء والطعم هل ينوي سنة
الغسل أو رفع الحدث الأكبر عن أعضاء الوضوء أخذا من تعليلهم بتقليل
الحدث أو غير ذلك؟ "فأجاب"
بقوله: إنه لا ينوي شيئا مما ذكره السائل وإنما ينوي رفع الحدث الأصغر
كما يصرح به كلام المجموع. وعبارة شرحي للعباب "والحكمة في ذلك تخفيف
الحدث غالبا والتنظيف إذ الأصح أن الوضوء يؤثر في حدث الجنب ويزيله عن
أعضاء الوضوء خلافا لقول الإمام لا يرتفع شيء من الحدث حتى تكمل
الطهارة ذكره في المجموع, وضمير يزيله للحدث الأصغر, فعليه لا إشكال
وإنما الإشكال في قول القاضي وابن الصباغ: "وضوء الجنب يزيل الجنابة عن
أعضاء وضوئه إلا أن يحمل على أنه نوى رفع الحدث وأطلق أو يؤول على أنه
يصلح لإزالتها عن غالب أعضاء وضوئه فيما إذا ظن حدثه الأصغر فنواه.
وقيل الحكمة لعله ينشط للغسل ثم ما تقرر من أن المراد في جميع ما ذكروه
الوضوء الشرعي هو ما في المجموع وغيره, وعليه يدل بعض الأحاديث
الصحيحة, وقيل: المراد به في الأكل والشرب غسل اليدين وعليه جمهور
العلماء؛ لأنه جاء مفسرا به في خبر البيهقي وقال الحليمي هو في العود
للوطء غسل فرجه لرواية به, قيل: وعليه الجمهور ويرده خبر مسلم "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوء".
ج / 1 ص -100-
فأكد بالمصدر؛ دفعا لإرادة المجاز انتهت
عبارة الشرح المذكور. وبتأمل كلام المجموع واستشكال ما بعده مع الجواب
عنه يتضح اندفاع قول السائل: أو رفع الحدث الأكبر. إلخ. ومرادهم بتقليل
الحدث تقليله برفع الأصغر, فإن قلت: هذا ظاهر إن كان عليه أصغر أما إذا
تجردت جنابته عنه فتبقى نية رفع الأكبر إذ التقليل لا يحصل إلا بذلك
قلت: الأمر كذلك وعليه قد يحمل قول السائل: أو رفع الحدث الأكبر إلخ.
فإن قلت: هل يمكن أن يقال أنه ينوي بالوضوء هنا سنة الوضوء كما في نية
الوضوء لغسل الجنابة المجردة عن الحدث الأصغر؟ قلت: يمكن ذلك لولا
قولهم: القصد من هذا الوضوء تقليل الحدث, فإنه ظاهر في أنه ينوي الحدث
الأصغر إن وجد وإلا فالأكبر, ويفرق بين هذا والوضوء والمقدمة للغسل
المذكور بأن القصد بهذا شيئان: الخروج من خلاف من منع الاندراج وزيادة
النظافة ليكون مقدمة للغسل فإذا فات الأول بقي الثاني وكفت فيه نية
السنة, وأما ذاك فالقصد به تخفيف الحدث فحيث أمكنت نيته لم ينو غيره
وإذا تعين في الوضوء المسنون لنحو القراءة والمجدد نية مما يجزئ في
الأصل فأولى هذا على أن النية في الوضوء المقدمة غير واجبة لإجزاء نية
غسل الجنابة عنه كما تحقق في محله, والنية في الوضوء لنحو الأكل واجبة
فلا تقاس إحداهما بالأخرى, وحينئذ اتجه ما ذكرته واندفع ما يتوهم من
القياس السابق فتأمله.
"وسئل" -
نفع الله بعلومه - عن رجل تحرم عليه القراءة في صلاته ما صورته؟ "فأجاب"
بقوله: هو فاقد الطهورين يحرم عليه قراءة زائدة على الفاتحة.
"وسئل" فسح
الله في مدته عن الكافرة الممتنعة, هل يجب على مغسلها النية كالمسلمة
الممتنعة أو لا؟ ويفرق, وقد نقل ترجيح عدم الوجوب عن شرح المهذب,
وعبارة التكملة في باب النكاح "أما إذا امتنعت فيغسلها الزوج
ويستبيحها, وإن لم توجد نية للضرورة وقيل: ينوي عنها وهو ضعيف كذا قاله
في شرح المهذب. "فأجاب"
بقوله كلام شرح المهذب في مسألة نية الكافرة متناقض, وعبارة شرح العباب
ويعتبر كما في التحقيق وحكاه في المجموع عن المتولي "نية الكافرة
استباحة التمتع, والأولى نيتها لإيهامه عدم اشتراط كونها كتابية, وليس
كذلك كما مر في بحث المستعمل وما في موضعين من المجموع من عدم اشتراط
نيتها محمول كما في الروضة, وأصلها في موانع النكاح على الممتنعة
المغتسلة بإجبار الحليل, ونية غاسل المجنونة وغاسل الممتنعة, ولا فرق
فيهما كما اقتضاه كلامهم كالمجموع بين المسلمة وغيرها. وفي الكفاية عن
القاضي ينوي الزوج عنها كما ينوي عن المجنونة ا هـ. والفرق بينهما بأن
المجنونة لا يتصور منها قصد مقوم لفعلها, والكافر يتصور منه ذلك بل
يتصور منه النية بل تلزمه فيما إذا ظاهر, وأراد الإعتاق يرد بأنهم لو
نظروا لذلك أوجبوا على حليل المسلمة الممتنعة النية على أن الامتناع
صيرها كالمجنونة, وتصور النية
ج / 1 ص -101-
منها إنما هو بتقدير زوال الامتناع, وحينئذ
المجنونة كذلك تتصور النية منها بتقدير زوال الجنون فلا فرق بينهما
انتهت.
"وسئل" -
نفع الله به - هل المدارس تسمى مساجد فتكون لها تحية أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: المدرسة غير المسجد ما لم يعلم أن واقفها جعلها مسجدا, فتصير
مدرسة ومسجدا حينئذ فيثبت لها أحكامه من التحية وغيرها وأما إذا لم
يعلم أنه وقفها مسجدا فلا يثبت لها من أحكام المسجد شيء والله أعلم.
باب مسح الخفين.
"وسئل" رحمه
الله أعرب بعضهم قول المنهاج: "ساتر" محل فرضه وما بعده أحوالا من ضمير
يلبس هل يصح وتوهم بعضهم أن قوله: بعد كمال طهر كذلك هل هو صحيح أيضا؟
"فأجاب" بأن
الأول صحيح, والثاني مردود بأنه ظرف ليلبس فلا يصلح أن يكون وصفا للخف,
فلم يصح جعله حالا من ضميره والله أعلم.
باب التيمم.
"وسئل" رضي
الله عنه عن شخص تيمم وعلى بدنه نجاسة معفو عنها كأن استنجى بالقلع
بالحجارة مثلا بشروطه, وكان التيمم والقلع في مكان الغالب فيه عدم
الماء فهل يجب عليه قضاء ما صلاه بالتيمم إذا كان المتيمم إنما استنجى
بالقلع لأن شرط التيمم طهارة البدن. وظاهر إطلاق الأصحاب في باب التيمم
سواء في الطهارة محل النجو وغيره, وصرح به شارح الإرشاد في شرحه المسمى
بالإمداد الذي هو بمنزلة التصحيح على الإسعاد, وكذا صنع في كتابه
المنهج القويم بشرح مسائل التعليم, لكن هل المراد بذلك حيث كان ذلك في
مكان الغالب فيه وجود الماء؛ لأن إزالة النجاسة إنما هي شرط عند القدرة
عليها كما صرح به جمع متأخرون, فهل يجب عليه قضاء ما صلاه في هذه
الحالة لفقد الطهارة المشروطة أو لا يجب عليه قضاء سواء كان ذلك القلع
والتيمم بمكان الغالب فيه وجود الماء أو عدمه كما اقتضاه كلام المنهاج
في شروط الصلاة حيث قال: "ويعفى عن محل استجماره", وظاهره أن ذلك لا
يختص بمتوضئ ولا متيمم قال بعضهم: وصرح بذلك الناشري في إيضاحه فقال
سواء في ذلك المتوضئ والمتيمم, وهو ظاهر بالنسبة للمتوضئ. وأما المتيمم
فقد اجتمع عليه الحدث والنجس؟ "فأجاب" رضي الله عنه بقوله: المعتمد كما
بينته في شرح العباب أن من اجتمع عليه حدث ونجاسة غير معفو عنها, ووجد
ما يكفي أحدهما فقط تعين الماء للنجاسة التي بمحل النجو وغيره خلافا
لما وقع للزركشي, وأطال
ج / 1 ص -102-
فيه بما لا يصح هذا إذا كان مسافرا, أي
بمحل يغلب فيه فقد الماء أما الحاضر, أي بمحل يغلب فيه وجود الماء فلا
يتعين الماء لخبثه لأنه لا بد له من الإعادة على كل تقدير, والمعتمد
أيضا أنه يجب تقديم غسلها على التيمم وإلا لم يصح تيممه؛ لأنه للإباحة
ولا إباحة مع المانع فأشبه التيمم قبل الوقت, وبه يعلم أنه لا فرق هنا
بين المسافر والحاضر وإن لزمته الإعادة بكل تقدير, وإنما فرق بينهما
فيما مر لأن موجب التعيين ثم عدم الإعادة, وهما يفترقان فيها والملحظ
هنا أنه لا إباحة مع المانع وهما مستويان في ذلك. وصوب في المجموع أن
صورة المسألة أن يكون معه من الماء ما يكفي لإزالة الخبث فقط, قال:
ويتصور أيضا فيمن تيمم لنحو مرض بحيث لا يجب استعمال الماء في الحدث
ويجب في الخبث لقلته. ا هـ. وينبغي أن يتصور أيضا فيمن تيمم لنحو مرض,
ومعه ماء يكفي لإزالة الخبث وبعض الحدث, ويعلم من كلام جمع متقدمين أن
محل بطلان تيمم من على بدنه نجاسة إذا كان معه ماء يكفيها أما لو عدم
الماء فتيمم, ولو مع وجودها صح قالوا لأنا لو لم نصحح تيممه لعجز عن
الصلاة؛ لأن نجاسة البدن لا تزال إلا بالماء ا هـ. إذا تقرر ذلك علم أن
الكلام في مقامين لأنه إن لم يكن معه ماء صح تيممه مع وجود النجاسة
مطلقا ثم إن كانت النجاسة غير معفو عنها لزمته الإعادة مطلقا, وإن كانت
معفوا عنها كالتي بمحل النجو بشروطه, فإن كان بمحل يغلب فيه فقد الماء
لم يلزمه الإعادة وإلا لزمته؛ لأن وجود ماء بمحل النجو حينئذ كعدمه,
وإن كان معه ماء فإن غسل به النجاسة ثم تيمم صح تيممه مطلقا ثم إن كان
بمحل يغلب فيه الفقد فلا إعادة وإلا فالإعادة, وإن تيمم ثم غسل النجاسة
بطل تيممه فيلزمه الإعادة مطلقا, فإن أعاد التيمم بعد غسلها تأتى فيه
التفصيل المذكور والله سبحانه أعلم.
"وسئل" فسح
الله في مدته عمن خشي من الغسل في البحر الملح القمل أو كثرته, فهل
يباح له التيمم؟ "فأجاب"
بقوله: يحتمل أن يقال: يباح له التيمم إن أخبره بذلك عارف ثقة, أو
اطردت العادة به أو علم من نفسه ذلك على ما فيه من كلام ذكروه في
التيمم أخذا من قولهم: لو خاف زيادة الألم أبيح له التيمم. ولا شك أن
في القمل ألما يساوي زيادة ألم المرض بل يزيد, وقياسا على ما ذكره في
باب اللباس من أنه يباح الحرير لحكة وقمل وجرب, والجامع بين البابين أن
كلا من التيمم ولبس الحرير للرجل إنما يجوز للضرورة, وعدوا منها في كل
باب أسبابا يتحدان في أكثرها فليتحدا في الباقي, ويحتمل أن يفرق بين
البابين بأن الضرر في لبس الحرير أخف ومن ثم أبيح للنساء مطلقا وبأن
التيمم عبادة ووسيلة إلى الصلاة فليحتط لها أكثر وبأن الطهر بالماء
واجب إلا أن يتحقق السبب المسقط له ولم يتحقق, ويؤيد هذا الاحتمال
قولهم في التيمم: لو خشي التألم في الحال من غير أن يخشى مرضا لا يخشى
منه ما ذكروه لم يبح له التيمم, فعموم هذه العبارة يقتضي أنه لا يباح
له التيمم بخشية حدوث القمل إلا أن الأول بالرخص وتخفيفات الشرع أشبه
ج / 1 ص -103-
"وسئل" -
نفع الله به - عمن معه ماء لكنه يخشى العطش في المآل, وهناك عطشان في
الحال فهل يجب عليه بذله له أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: ذكر في المجموع في المقدم منهما وجهين ولم أر من رجح منهما
شيئا, والذي يظهر ترجيحه أنه يقدم العطشان في الحال إذا خشي من العطش
الهلاك؛ لأن إتلاف مهجته محقق بخلاف المالك فإنه قد يحصل له ماء فإن
كان ببرية أيس فيها من حصول ماء وغلب على ظنه الهلاك لو بذل ما معه
فللنظر في ذلك مجال, وعدم وجوب البذل حينئذ أقرب وكذا لو خشي العطشان
من العطش في الحال إتلاف عضو أو حدوث مرض ونحوه, وخشي المالك من العطش
في المآل إتلاف النفس, فلا يجب البذل أيضا على الأقرب فإن قلت: هذا
التفصيل الذي ذكر غير الوجهين المطلقين المذكورين في المجموع قلت: لا
يضر ذلك على أنه ليس غيرهما, بل هو ترجيح لواحد منهما بشرط لم يذكره
النووي - رحمه الله - لعدم تعرضه للترجيح.
"وسئل" رضي
الله عنه عن قول المنهاج وغيره في التيمم, وبرمل فيه غبار هل المراد
بغبار الرمل ما يحصل من التراب لا ما خلق من نفس الرمل بدليل ما قد
يوهم ذلك من قول المنهج يتيمم بتراب ولو برمل, أو المراد أعم. وإنما
عبر المنهج بذلك لأن الغبار المخلوق من نفس الرمل يسمى ترابا وإلا لكان
قول الشارح المحلي بعد قول المنهاج ما تقدم؛ لأنه من طبقات الأرض وكان
في معنى التراب ضائعا "فأجاب"
بقوله: قد صرح الولي أبو زرعة بأن غبار الرمل لا يسمى ترابا. وعبارة
الحاوي كالروض والإرشاد وعبارة شيخنا في شرح البهجة أنه يسميه ومن ثم
قال بعض شارحي الإرشاد: مثل بغبار الرمل ليفيد أنه من جنس التراب أو من
طبقات الأرض, ويجوز أن يكون تنظيرا لما يجوز التيمم به من غير التراب
بالتراب, وقد يحمل كلام أبي زرعة على أنه لا يسميه حقيقة, وكلام غيره
على أنه يسميه مجازا, ويدل لذلك عبارة شرح الإرشاد المذكورة حيث جوز أن
يكون تمثيلا وأن يكون تنظيرا, نعم قول الماوردي: الرمل ضربان: ما له
غبار, فيجوز التيمم به؛ لأنه من جنس التراب. وما لا غبار له فلا, لعدم
الغبار لا لخروجه عن اسم التراب ظاهر في أن كلا منهما يسمى ترابا حقيقة
إلا أن يؤول ما ذكر, وبتأمل ما تقرر اتضح كلام المنهج مع كلام الشارح
المحقق أعني الجلال المحلي, وأنه لا تنافي بينهما لصحة التيمم به سواء
أقلنا إنه تراب حقيقة أم مجازا. وقول الغزي: لو سحق رمل وصار له غبار
صح التيمم به بخلاف الحجر المسحوق يرده قولهم: لا يصح بالرمل الناعم
لأنه حصى متصاغرة جدا كالحجارة المدقوقة فإن قلت: أي فرق بين المدقوق
والغبار وإن تحققنا أنه من الرمل قلت: الفرق أن الغبار ليس حصى متصاغرة
ولا قريبا من ذلك, وإنما هو شيء ينفصل عن تلك الحصى بواسطة التصاق
بعضها ببعض أو بنحو ذلك ففيه معنى غبار التراب الحقيقي بخلاف الرمل
المدقوق فإنه لم يخرج بالدق, وإن بولغ فيه عن كونه حصى متصاغرة جدا,
فلم يكن فيه معنى غبار التراب والله أعلم.
ج / 1 ص -104-
"وسئل" -
فسح الله في مدته - عن الفقد الشرعي, هل يكون كالفقد الحسي فيما إذا
حمل المسافرون ما لا يحتاجون إليه في الحال ويحتاجون إليه في المآل حتى
لا يشترط لصحة تيممهم تقدم طلب للماء, أو يقال شرط الفقد الحسي أن يعلم
أن لا ثم ماء, فمتى حصل لهم علم بأن الماء لا يزيد على حاجتهم للشرب
ونحوه استوى الفقدان بخلاف ما إذا بقي معه تردد في أنه هل يزيد على
الحاجة أم لا وما الحكم فيها؟ "فأجاب"
بأنهم صرحوا بأن من معه ماء واحتاجه لعطش محترم من نفسه أو غيره كرفقته
ولو مآلا تيمم وإن ظن وجود الماء في المآل دفعا لما يلحقه من الضرر
الناجز أو المتوقع, ومن ثم قال في الجواهر: "وليس المراد بالرفيق
المخالط خاصة بل لو علم في القافلة من يحتاجه لعطشه حالا أو مآلا لزمه
التيمم وصرف الماء إليه عند الحاجة" ا هـ. وظاهره أنه يجب التردد له إن
أمكنه والذي يتجه أنه حيث علم أو غلب على ظنه احتياج أحد من القافلة
إليه مآلا لزمه التزود له إن قدر عليه وإلا فلا ولا يجب على أحد الطلب
إلا إذا توهم ماء في حد القرب أو الغوث بشرطه زائدا على ما يحتاجه
الناس أو دوابهم لشربه, وإلا لم يلزمه طلب؛ لأنه عبث, وبما تقرر علم أن
وجود الماء مع الاحتياج إليه حالا أو مآلا كفقده الحسي, وأنه متى علم
أنه لا يزيد على حاجتهم كان كفقده فلا يجب طلبه, بل لا يجوز استعماله.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يجوز التيمم من تراب أرض الغير بغير إذنه؟ ومن عليه نجس,
ولم يجد ماء هل يتيمم ويصلي؟ وإذا مات وعليه نجس ولم يوجد ماء هل
يتيمم؟ "فأجاب"
بقوله: لا يجوز التيمم من تراب أرض الغير الذي لا يظن رضاه بغير إذنه,
ونظيره أنه لا يجوز تتريب الكتاب من أرض الغير بغير إذنه, ومن عليه نجس
ولم يجد ماء يلزمه التيمم, والصلاة لحرمة الوقت ثم القضاء, وكذا يجب أن
ييمم الميت الذي عليه نجاسة ولم يوجد ماء.
"وسئل" -
نفع الله به - عن المتيمم إذا فرق نية التيمم على أعضائه هل تجزئه تلك
النية مفرقة قياسا على تفريق نية الوضوء أو لا؟ "فأجاب"
بقوله: لا يتأتى تفريق النية في التيمم كما يصرح به قول الزركشي وغيره:
التفريق في الوضوء إنما يتأتى عند نية رفع الحدث, أي والطهارة عنه لأن
التجزي إنما يظهر في هاتين بخلاف نحو نية التيمم, فإنه لا يمكن فيها
تجز فهذا صريح واضح في أن التيمم لا يتأتى فيه تفريق؛ لامتناع نية
الحدث والطهارة فيه إذ ليس فيه رفع حدث حتى تفرق فيه نية الاستباحة وهي
لا تقبل التفريق إذ لا توجد إلا بعد تمام التيمم, وأما رفع الحدث في
الوضوء, فإنه يوجد عقب فراغ كل عضو فجاز تفريق نيته.
"وسئل" رضي
الله عنه هل يجوز التيمم من تراب أرض الغير بغير إذنه؟ "فأجاب"
بقوله: لا يجوز على ما صرحوا به.
ج / 1 ص -105-
" |