التهذيب في اختصار المدونة

كتاب الأقضية
3247 - وإذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء، ثم تبين له أن الحق غير ما قضى به، رجع فيه، وإنما لا ينقض ما حكم فيه غيره مما فيه اختلاف. ولا ينبغي للقاضي أن يكثر الجلوس جداً، وإذا دخله هم أو نعاس أو ضجر فليقم.
قال مالك: والقضاء في المسجد من الحق، وهو من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه بالدون من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس. (1)
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/144) .

(3/575)


ولا يقيم في المسجد الحدود وشبهها، ولا بأس فيه بخفيف الأدب، ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده وظلمه.
3248 - ولا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر، فإن زُكوا في السر أو في العلانية اكتفى بذلك، ولا يقبل في التزكية أقل من رجلين، ويزكى الشاهد وهو غائب عن القاضي، ومن الناس من لا يسأل عنه ولا يطلب فيه تزكية لشهرة عدالته عند القاضي والناس، وإذا استقال الشاهد بعد الحكم لم يقل.
ولا تجوز شهادته فيما يُستقبل، وإن استقال قبل الحكم وادعى وهماً وجاء بشبهة أُقيل، ولا تبطل شهادته إلا أن يعرف كذبه فيما شهد به، فترد شهادته في هذا وفي غيره.
وإذا عرف الشاهد خطه في كتاب فيه شهادته، فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب.
3249 - وإذا مات القاضي أو عزل وفي ديوانه شهادة البينات وعدالتها، لم ينظر فيه من ولي بعده ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول: ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي، لم يقبل قوله، ولا أراه شاهداً، فإن لم تقد بينة على ذلك أمرهم القاضي المحدث بإعادة البينة.

(3/576)


وللطالب أن يحلِّف المطلوب بالله أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة ثم نظر فيها الذي ولي بما كان ينظر المعزول، ولا تجوز شهادة المعزول على ما حكم به.
3250 - ولا يتخذ القاضي كاتباً من أهل الذمة ولا قاسماً ولا عبداً [ولا مكاتباً] ولا يتخذ في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المسلمين.
3251 - وإذا كتب قاض إلى قاض، فمات الذي كتب الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل، ووصل الكتاب إلى من ولي بعده، فالكتاب جائز ينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب إلى غيره. (1)
3252 - وتجوز كتب القضاة إلى القضاة في القصاص والحدود وغيرها، لجواز الشهادة على ذلك.
ومن أقام بينة على غائب ثم قدم قبل الحكم لم تعد البينة بحضوره، ألا ترى
_________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/146) ، والتاج والإكليل (6/142) .

(3/577)


أنه يقضى عليه في غيبته، ولكن يخبر بمن شهد عليه وبالشهادة، فلعل له حجة، فإن كانت عنده حجة وإلا حكم عليه.
3253 - وسُئل مالك عن أشياء قضت فيها ولاة المياه، فرأى أن تجوز إلا في جور بيّن، وكذلك والي الفسطاط أمير الصلاة إن حكم، وكذلك والي الإسكندرية إن قضى بقضية أو استقضى قاضياً فقضى، فإنما يُنقض من ذلك الجور البين.
ولو أن رجلين حكّما بينهما رجلاً فحكم بينهما، فليمضه القاضي ولا يرده، إلا أن يكون جوراً بيناً. ومسألة من اعتُرفت في يده دابة [أو غيرها، فسأل وضع قيمتها ليخرج بها إلى بلد بائعه] قد تقدم ذكرها في كتاب تضمين الصناع.
3254 - وكره مالك إجارة قسام القاضي، وأنا أرى إن وقع ذلك أن يكون على عدد

(3/578)


الرؤوس لا على قدر الأنصباء إذا لم يشترطوا بينهم شيئاً.
ولا تجوز شهادة القُسّام على ما قسموا، وإذا اقتسم الورثة ثم ادعى أحدهما الغلط فذلك مذكور في كتاب القسم.
وإذا دفع القاضي مالاً إلى رجل فأمره أن يدفعه إلى فلان، فقال: دفعته إليه، وكذبه فلان، فالرسول ضامن إلا أن يقيم بينة.
3255 - وإذا وجد السلطان أحداً على حدّ من حدود الله تعالى رفع ذلك إلى من فوقه، وإن رآه السلطان الأعلى الذي ليس فوقه سلطان فليرفعه إلى القاضي، فإن رآه مثل أمير مصر رفعه إلى القاضي، وكان شاهداً، دون أن يرفعه إلى أمير المؤمنين.
وإن سمع السلطان قذفاً، فإن كان معه شهود لم يجز فيه عفو الطالب، إلا أن يريد ستراً، مثل أن يخاف أن يثبت ذلك عليه إن لم يعف، قيل لمالك: فكيف يعرف ذلك؟ قال: يسأل الإمام عن ذلك سراً، فإن أخبر أن ذلك أمر قد سمع أجاز عفوه.
3256 - ولا يقضي القاضي بعلمه قبل أن يلي أو بعد، ولو أقرّ أحد الخصمين عند القاضي بشيء وليس عنده أحد، ثم يعود [المقر] إليه فيجحد ذلك الإقرار، فإنه لا يقضي عليه به إلا ببينة سواه، فإن لم تكن عنده بينة شهد هو بذلك عند من فوقه، وكذلك ما اطلع عليه من حد لله عز وجل أو رأى من غصب، أو سمع من قذف، فليرفعه إلى من فوقه ويكون شاهداً.

(3/579)


وفرق أهل العراق بين الحدود والإقرارات، وقالوا يحكم من الإقرار بما سمع في ولايته لا بما علم قبل أن يلي، ورأى مالك ذلك كله سواء.
3257 - ولا عهدة على قاضٍ أو على وصي فيما وليا بيعه، وعهدة المبتاع في مال اليتامى فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام.
3258 - وإذا عزل القاضي [وقد حكم بأحكام] فادعى من حكم عليه جوره، لم ينظر في قوله، ولا خصومة بينهما، وقضاؤه نافذ، إلا أن يرى الذي ولي بعده جوراً بيّناً فيرده، ولا شيء على الأول، ولا يتعرض الذي ولي قضاء من كان قبله إلا في الجور البين.
3259 - قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه (1) . وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضى حتى يكون عارفاً بآثار من مضى مستشيراً لذوي الرأي.
قال مالك: ولا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلاً للفتيا. قال
_________
(1) انظر: المدونة (12/149، 150) .

(3/580)


سحنون: الناس هاهنا العلماء. قال ابن هرمز: ويرى هو نفسه أهلاً لذلك. قال مالك: وليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان قد أخذ شيئاً من علم القضاء من أبان بن عثمان وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان.
3260 - وإذا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما فليقل لهما: أبَقِيت لكما حجةظ فإن قالا: لا، حكم بينهما، ثم لا يقبل من المطلوب حجة إلا أن يأتي بما له وجه، مثل بينة لم يعلم بها، أو يكون أتى بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، فحكم عليه، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم، وقال: لم أعلم به، فليقض بهذا الآخر. (1)
* * *
_________
(1) انظر: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين بن جماعة الشافعي - بتحقيقنا - ط دار الكتب العلمية، وكذلك مثله: رسائل في السياسة الشرعية.

(3/581)