الذخيرة
للقرافي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(تَقْدِيم)
كتاب الذَّخِيرَة مبتكر فِي الْفِقْه الْمَالِكِي فروعه وأصوله بدع من
مؤلفات عصره الَّتِي هِيَ فِي الْأَعَمّ اختصارات أَو شُرُوح وتعليقات
وَرُبمَا كَانَت الذَّخِيرَة أهم المصنفات فِي الْفِقْه الْمَالِكِي خلال
الْقرن السَّابِع الهجري وَآخر الْأُمَّهَات فِي هَذَا الْمَذْهَب إِذْ لَا
نجد لكبار فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة المغاربة والشارقة الَّذين عاصروا
الْقَرَافِيّ أَو جاؤوا بعده سوى مختصرات لم تعد على مَا أدْركْت من شهرة
وانتشار أَن كرست عَن غير قصد تعقيد الْفِقْه وإفراغه من محتواه النظري
الخصب وأدلته الاجتهادية الْحَيَّة ليُصبح فِي النِّهَايَة مُجَرّد حك
أَلْفَاظ ونقاش عقيم يَدُور فِي حَلقَة مفرغة لَا تنْتج وَلَا تفِيد وَإِذا
كَانَ الْمَذْهَب الْمَالِكِي تركز أَكثر فِي الْجنَاح الغربي من الْعَالم
الإسلامي فَإِنَّهُ قطع أشواطا متميزة قبل أَن يصل إِلَى تعقيدات عصر
الْقَرَافِيّ فقد كَانَت القيروان بِالنِّسْبَةِ لهَذَا الْجنَاح الغربي
منطلق إشراق الْفِقْه الْمَالِكِي وأفوله مَعًا فَفِيهَا نشر أَسد بن
الْفُرَات (ت. 213) الْمُدَوَّنَة الأولى الَّتِي حوت سماعاته من مَالك
وَغَيره الْمَعْرُوفَة بالأسدية فَأَخذهَا سَحْنُون عبد السَّلَام بن سعيد
(ت. 240) وصححها على ابْن الْقَاسِم وَسمع من أَشهب وَابْن وهب وَغَيرهم من
تلاميذ مَالك وَرجع إِلَى القيروان بالمدونة الْكُبْرَى الَّتِي نسخت
الأَسدِية وجمعت
(1/5)
سِتَّة وَثَلَاثِينَ ألف مَسْأَلَة فانتشرت
فِي أقطار المغارب والأندلس وظلت ركيزة الْمَذْهَب الْمَالِكِي ومرجع
فقهائه طوال الْقُرُون الأولى وَفِي القيروان لاحظ أَبُو مُحَمَّد عبد الله
بن أبي زيد القيرواني (ت. 386) كسل الهمم عَن إِدْرَاك مدونة سَحْنُون
فاختصرها اختصارا غير مخل حل محلهَا وَعفى على الاختصارين الأندلسيين
السَّابِقين لفضل بن سَلمَة الْجُهَنِيّ (ت. 319) وَمُحَمّد بن عيشون
الطليطلي (ت. 341) ولسوء الْحَظ قَامَ فِي القيروان أَيْضا خلف بن أبي
الْقَاسِم البراذعي الْمُتَوفَّى أَوَائِل الْقرن الْخَامِس بِاخْتِصَار
مُخْتَصر شَيْخه ابْن أبي زيد القيرواني للْمُدَوّنَة سَمَّاهُ التَّهْذِيب
فتقبله النَّاس بِقبُول حسن وَقد ازدادوا حَاجَة إِلَى الِاخْتِصَار حَتَّى
إِذا جَاءَ أَبُو عَمْرو بن الْحَاجِب الدِّمَشْقِي (ت. 646) وَاخْتصرَ
التَّهْذِيب فزاده تعقيدا وطم السَّيْل مَعَ خَلِيل بن إِسْحَاق الْمصْرِيّ
(ت. 749) الَّذِي اختصر مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب فِي بضعَة كراريس فَأصْبح
مُخْتَصر خَلِيل الْمُخْتَصر الرَّابِع فِي مسلسل مختصرات الْمُدَوَّنَة
عبارَة عَن رموز لَا تفهم يحفظ عَن ظهر قلب وَيقْرَأ أحزابا فِي جَامع
الْقرَوِيين وَغَيره وَلَا تفك رموزه إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى عشرات
المجلدات من الشُّرُوح والحواشي والتعليقات دون إِدْرَاك روح التشريع طبعا
وَغدا بعض المدرسين (الْمُحَقِّقين) لَا يخْتم مُخْتَصر خَلِيل إِلَّا بعد
أَرْبَعِينَ سنة وَبِذَلِك تقرر جمود الْفِقْه وتحجره وَاسْتمرّ إِلَى
أيامنا هَذِه اعْتمد الْقَرَافِيّ فِي الذَّخِيرَة على نَحْو أَرْبَعِينَ
من تصانيف الْمَذْهَب الْمَالِكِي وَخص خَمْسَة مِنْهَا كمصادر أساسية يرجع
إِلَيْهَا دَائِما ويقارن بَينهَا ويناقش وَكلهَا كتب مُسْتَقلَّة مبتكرة
أصيلة (1) مدونة سَحْنُون القيرواني (2) والتفريغ لِعبيد الله بن الْجلاب
الْبَصْرِيّ (ت. 368) (3) ورسالة ابْن أبي زيد القيرواني (4) والتلقين
للْقَاضِي عبد الْوَهَّاب الْبَغْدَادِيّ (ت. 422) (5) والجواهر الثمينة
فِي مَذْهَب عَالم الْمَدِينَة لعبد الله بن شَاس الْمصْرِيّ (ت. 610)
وتميزت الذَّخِيرَة - إِلَى ذَلِك - بدقة التَّعْبِير وسعة الْأُفق وسلالة
الأسلوب وجودة
(1/6)
التَّقْسِيم والتبويب الْأَمر الَّذِي يضفي
عَلَيْهَا من جِهَة أُخْرَى طَابع الْجدّة والحداثة حَتَّى لكأنها كتبت فِي
عصرنا الْحَاضِر بقلم أحد أَعْلَام الْفِقْه والقانون تظهر عبقرية مؤلف
الذَّخِيرَة وموسوعيته الَّتِي سنتحدث عَنْهَا بعد قَلِيل فِي مزجه بَين
الْفِقْه وأصوله واللغة وقواعدها والمنطق والفلسفة والحساب والجبر
والمقابلة فِي المواطن الَّتِي تقتضيها وَفِي وَضعه مصطلحات دقيقة ورموزا
وَاضِحَة تختصر أَسمَاء الْأَشْخَاص والكتب الَّتِي يكثر تداولها فِي
الذَّخِيرَة تقليلا للحجم فكلمة الْأَئِمَّة تَعْنِي عِنْده الشَّافِعِي
وَأَبا حنيفَة وَابْن حَنْبَل وش ترمز للشَّافِعِيّ وح لأبي حنيفَة والصحاح
تَعْنِي الْمُوَطَّأ وصحيحي البُخَارِيّ وَمُسلم ونجد فِي الذَّخِيرَة
دَاخل الْأَبْوَاب والفصول والمباحث وَالْفُرُوع الْمُعْتَادَة عناوين
فرعية تضبط المعلومات الإضافية وتحددها وتبرزها أَمْثَال تمهيد تَحْقِيق
تَفْرِيع تَنْقِيح تَحْرِير تذييل قَاعِدَة فَائِدَة نَظَائِر فروع مرتبَة
وَيُمكن أَن يعد من مميزات الذَّخِيرَة كَذَلِك عناية الْمُؤلف بإبراز
أصُول الْفِقْه الْمَالِكِي دحضا للشبهات الَّتِي علقت بالأذهان مُنْذُ
قديم قَاصِرَة أصُول الْفِقْه بِالنِّسْبَةِ للمذاهب الْأَرْبَعَة على
الإِمَام الشَّافِعِي واعتباره هَذَا الْفَنّ برسالته الَّتِي حددت منهاجه
فِي استنباط الْأَحْكَام من الْقُرْآن وَكتب أُخْرَى لَهُ فِي الْقيَاس
وَإِبْطَال الِاسْتِحْسَان وَاخْتِلَاف الْأَحَادِيث وَإِذا كَانَ
الْقَرَافِيّ مَسْبُوقا فِي هَذَا الْمِضْمَار بِمَا كتبه القَاضِي أَبُو
بكر بن الْعَرَبِيّ الْمعَافِرِي الْمُتَوفَّى بفاس عَام 543 فِي شرحيه على
الْمُوَطَّأ القبس وترتيب المسالك مِمَّا يدل على سبق مَالك فِي بِنَاء
مذْهبه الفقهي على قَوَاعِد أصولية محكمَة لَا شكّ أَن تِلْمِيذه
الشَّافِعِي أَخذهَا عَنهُ ووسعها وَألف فِيهَا الرسَالَة والكتب
الْمَذْكُورَة فانتشرت حَتَّى أَصبَحت الْأُصُول علما مُسْتقِلّا بِذَاتِهِ
إِذا كَانَ ذَلِك فَإِن مزية مؤلف الذَّخِيرَة أَن جعل من شَرطه فِيهَا
تتبع الْأُصُول فِي مُخْتَلف الْأَبْوَاب قَائِلا فِي الْمُقدمَة
وَبَيَّنْتُ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
لِيَظْهَرَ عُلُوُّ شَرَفِهِ فِي اخْتِيَارِهِ فِي الْأُصُولِ كَمَا ظَهَرَ
فِي الْفُرُوعِ وَيَطَّلِعَ الْفَقِيهُ على مُوَافَقَته
(1/7)
لِأَصْلِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ
لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ مِنْهُ فيطلبه حَتَّى يطلع على مدركه وَيمْنَع
الْمُخَالفين فِي المناظرات على أَصله نتج عَن كل مَا سبق دَعْوَة عَامَّة
فِي الْكتاب إِلَى الِاجْتِهَاد ونبذ التَّقْلِيد الْأَعْمَى فِي
الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة إِذْ علاوة على الْمُقدمَة الثَّانِيَة للذخيرة
فِي أصُول الْفِقْه وقواعد الشَّرْع الَّتِي خصص الْمُؤلف الْبَابَيْنِ
التَّاسِع عشر وَالْعِشْرين مِنْهَا للِاجْتِهَاد وَجَمِيع أَدِلَّة
الْمُجْتَهدين قَائِلا فِي حكم الِاجْتِهَاد وَمذهب مَالك وَجُمْهُور
الْعلمَاء رضوَان الله عَنْهُم وُجُوبُهُ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} وَقَدِ
اسْتَثْنَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ صُورَة للضَّرُورَة
علاوة على ذَلِك لَا يكَاد الْمُؤلف يَأْتِي بِمَسْأَلَة من مسَائِل فروع
الْعِبَادَات أَو الْمُعَامَلَات إِلَّا أبان أصل حكمهَا وحجج
الْمُخْتَلِفين فِيهَا من الْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء مبرزا أَدِلَّة
الْمَالِكِيَّة بِصفة خَاصَّة بعد عبارَة لنا دون إغفال أَدِلَّة الآخرين
سيرا مَعَ الخطة الَّتِي قررها فِي الْمُقدمَة وَقد آثرت التَّنْبِيه على
مَذْهَب الْمُخَالفين لنا من الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَمَآخِذِهِمْ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ ومزيدا من
الِاطِّلَاعِ فَإِنَّ الْحَقَّ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي جِهَةٍ فَيَعْلَمُ
الْفَقِيهُ أَيُّ الْمَذْهَبَيْنِ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَأَعْلَقُ
بِالسَّبَبِ الْأَقْوَى وتتكرر فِي الذَّخِيرَة عِبَارَات ليَكُون
الْفَقِيه على بَصِيرَة ليستدل الْفَقِيه تحفيزا للهمم على إِعْمَال
الْفِكر وإمعان النّظر واستنكافا عَن التَّقْلِيد والجمود وَأخذ الْمسَائِل
أحكاما مسلمة.
(1/8)
الْمُؤلف مؤلف الذَّخِيرَة هُوَ أَحْمد بن
إِدْرِيس بن عبد الرحمان بن عبد الله بن يلين الصنهاجي الملقب بشهاب الدّين
الْمَعْرُوف بالقرافي وبالمالكي وَقد اتّفق مترجموه على أَنه ينْسب للقرافة
وَلم يسكنهَا متناقلين مَا رَوَاهُ ابْن فَرِحُونَ فِي الديباج ص 660 عَن
الرحالة ابْن رشيد السبتي صَاحب ملْء العيبة أَن بعض
(1/9)
تلاميذ الْمُؤلف ذكر لَهُ أَن سَبَب شهرته
بالقرافي أَنه لما أَرَادَ الْكَاتِب أَن يثبت اسْمه فِي بَيت الدَّرْس
كَانَ حِينَئِذٍ غَائِبا فَلم يعرف اسْمه وَكَانَ إِذا جَاءَ للدرس يقبل من
جِهَة القرافة فَكتب الْقَرَافِيّ فمرت عَلَيْهِ هَذِه النِّسْبَة وأكد
الصَّفَدِي فِي الوافي بالوفيات 6: 233 مَضْمُون هَذِه الرِّوَايَة مضيفا
أَن السُّؤَال عَن الْمُؤلف كَانَ عِنْد تَفْرِقَة الجامكية لمدرسة الصاحب
بن شكر فَقيل هُوَ بالقرافة فَقَالَ اكتبوه الْقَرَافِيّ فَلَزِمَهُ ذَلِك
ويضيف أَصْحَاب كتب التراجم ثَلَاث نسب أُخْرَى للمؤلف هِيَ البهفشيمي
والبهنسي والمصري وَقد فسر الصَّفَدِي فِي الوافي بالوفيات 6: 233
النِّسْبَة الأولى قَائِلا إِن أَصله من قَرْيَة من كورة بوش من صَعِيد مصر
الْأَسْفَل تعرف ببهفشيم فِي حِين تشكك فِيهَا بَان فَرِحُونَ فِي الديباج
ص 66 قَائِلا ولعلها قَبيلَة من قبائل صنهاجة كَمَا تشكك فِي كَون أَصله من
بهنسا فِي الصَّعِيد الْمصْرِيّ قَائِلا إِن ذَلِك مِمَّا ذكره بَعضهم تبقى
إِذن النِّسْبَة الْأَصْلِيَّة الْمُتَّفق عَلَيْهَا للمؤلف هِيَ الصنهاجي
وصنهاجة من أكبر قبائل البربر بجنوب الْمغرب الْأَقْصَى وَهِي أرومة دولة
المرابطين مؤسسي مَدِينَة مراكش الَّذين شَمل نفوذهم مُعظم الغرب الإسلامي
من أقْصَى بِلَاد الأندلس شمالا إِلَى بِلَاد السودَان جنوبا فِي فَتْرَة
تمتد من منتصف الْقرن الْخَامِس الهجري إِلَى منتصف الْقرن السَّادِس 1144
- 1061 / 539 - 453 يُؤَكد
(1/10)
هَذِه النِّسْبَة الصنهاجية للمؤلف اسْم
جده الثَّالِث يلين الَّذِي ينْطق بِهِ فِي اللهجة الصنهاجية تَمامًا كَمَا
ضَبطه ابْن فَرِحُونَ بياء مثناة من تَحت مَفْتُوحَة وَلَام مُشَدّدَة
مَكْسُورَة وياء سَاكِنة مثناة من تَحت وَنون سَاكِنة وَأَصله كَمَا أكده
الزميل أَحْمد التَّوْفِيق بِالْهَمْزَةِ إيلين سهلت يَاء كَمَا هُوَ شَأْن
الصنهاجيين فِي النُّطْق بِمثل هَذِه الْكَلِمَات وَهُوَ عِنْدهم من جذر إل
بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون اللَّام الْمُشَدّدَة المفخمة بِمَعْنى الْبَحْر
وَالْخَال والسواد فإيلين أَو يلين بِصِيغَة الصّفة تَعْنِي المسود أَو
الأسمر والسمرة شائعة عِنْد الصنهاجيين الَّذين تتاخم مواطنهم فِي جنوب
الْمغرب بِلَاد السودَان يتجلى من كل مَا سبق أَن أَحْمد بن إِدْرِيس
الصنهاجي مؤلف الذَّخِيرَة مغربي صميم بِدُونِ ريب وَلَا لبس صرح بمغربيته
كثير مِمَّن ترجموا لَهُ قَدِيما وحديثا وَجزم بهَا بَعضهم مثل عبد الرؤوف
سعد الَّذِي قَالَ فِي تَقْدِيمه لشرح تَنْقِيح الْفُصُول فِي اخْتِصَار
الْمَحْصُول فِي الْأُصُول للقرافي وَلَا ريب فِي أَن مؤلفنا رَضِي الله
عَنهُ مغربي مَا فِي ذَلِك شكّ طبعة الْقَاهِرَة 1973 ح وَمِمَّا يُؤَكد
استبعاد ولادَة الْمُؤلف فِي بهنسا أَو بهفشيم وَيبين غربته فِي مصر وطروة
عَلَيْهَا أَنهم لم يَكُونُوا يعْرفُونَ حَتَّى اسْمه بله مسْقط رَأسه
وَهُوَ طَالب نابه يدرس بِإِحْدَى الْمدَارِس الشهيرة فِي الْقَاهِرَة
وَيسْتَحق الجامكية. لَا يعرف تَارِيخ ولادَة الْمُؤلف بِاتِّفَاق أَصْحَاب
كتب التراجم كَمَا لَا يعرف تَارِيخ انْتِقَاله إِلَى مصر مُنْفَردا أَو
مَعَ أَبِيه وَإِن كَانَ الرَّاجِح أَن أَحْمد هُوَ الَّذِي خرج إِلَى مصر
بعد أَن بلغ مبلغ الرِّجَال يدل على ذَلِك أَن من بَين شُيُوخه وتلامذته
مغاربة وأندلسيين كَمَا سنرى وَالْأَقْرَب إِلَى الْمنطق أَن يتم
الِاتِّصَال بهم فِي بَلَده قبل أَن يُهَاجر إِلَى مصر وَأَن وَالِده
إِدْرِيس لم يشْتَهر بِعلم وَلَا تِجَارَة تدعوانه إِلَى الالتحاق بِمصْر
وَإِن كَانَ هُنَاكَ احْتِمَال الْخُرُوج إِلَى الْحَج أَو طلب الرزق فِي
وَقت لم يكن الْمُسلمُونَ يُقِيمُونَ وزنا للحدود السياسية الوهمية
ويعتبرون أَرض الْإِسْلَام وَاحِدَة سَوَاء فِي الْمغرب أَو الْمشرق
(1/11)
وعَلى افتراض أَن المُهَاجر هُوَ أَحْمد
فإننا نقدر أَن يكون خُرُوجه من الْمغرب خلال العقد الْخَامِس من الْقرن
السَّابِع فِي فَتْرَة الِاضْطِرَاب الَّتِي عرفتها نِهَايَة دولة
الْمُوَحِّدين وَقبل أَن تتمكن قدم المرينيين مَعَ يَعْقُوب بن عبد الْحق
سنة 1258 / 656 وَإِذا قَدرنَا أَنه كَانَ آنذاك فِي الثَّلَاثِينَ من عمره
فَتكون وِلَادَته حوالي عَام 1223 / 626 كَمَا استنتج ذَلِك إِسْمَاعِيل
الْبَغْدَادِيّ فِي إِيضَاح الْمكنون أَخذ أَحْمد الْقَرَافِيّ عَن شُيُوخ
كثرين أشهرهم خَمْسَة مُحَمَّد بن عمرَان الْمَعْرُوف بالشريف الكركي
الملقب بشرف الدّين وَهُوَ مغربي ولد بفاس وتفقه فِيهَا على يَد أبي
مُحَمَّد صَالح الهسكوري صَاحب التَّقْيِيد الشهير على الرسَالَة
الْمُتَوفَّى بفاس سنة 653 قَالَ عَنهُ تِلْمِيذه الْقَرَافِيّ إِنَّه تفرد
بِمَعْرِِفَة ثَلَاثِينَ علما وَحده وشارك النَّاس فِي علومهم وَقد هَاجر
الشريف الكركي أَيْضا إِلَى مصر وَلَعَلَّ ذَلِك تمّ فِي نفس فَتْرَة
الِاضْطِرَاب بَين الدولتين الموحدية والمرينية الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا
آنِفا وشارك تِلْمِيذه الْقَرَافِيّ فِي الْأَخْذ عَن سُلْطَان الْعلمَاء
الْعِزّ بن عبد السَّلَام فَكثر الآخذون عَن الكركي وانتشر علمه هُنَاكَ
حَتَّى عد شيخ الْمَالِكِيَّة وَالشَّافِعِيَّة بِمصْر وَالشَّام وَتُوفِّي
بِمصْر سنة 1298 / 698 وَأخذ الْقَرَافِيّ كَذَلِك عَن أبي بكر مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الْوَاحِد بن عَليّ الإدريسي وَهُوَ مغربي أَيْضا هَاجر
إِلَى الْمشرق وَعرف فِيهِ بِابْن أبي سرُور الْمَقْدِسِي الْحَنْبَلِيّ
ولقب بشمس الدّين يَقُولُونَ إِنَّه ولد وتفقه بِدِمَشْق وَأقَام مُدَّة
بِبَغْدَاد قبل أَن ينْتَقل إِلَى مصر حَيْثُ تصدر للتدريس وَكَانَ أول من
ولي منصب قَاضِي قُضَاة الْحَنَابِلَة بالديار المصرية وَبَقِي بهَا إِلَى
أَن مَاتَ عَام 1277 / 676 وَدفن بالقرافة لم يذكر أَصْحَاب كتب التراجم من
صلَة الْقَرَافِيّ بِهِ سوى أَنه سمع عَلَيْهِ مُصَنفه المعنون بوصول
ثَوَاب الْقُرْآن مَعَ أَن لأبي بكر الإدريسي مؤلفات أُخْرَى ككتاب الجدل
وعيون الْأَخْبَار وأصول الْقِرَاءَة وتتلمذ الْقَرَافِيّ أَيْضا لأبي
عَمْرو عُثْمَان ابْن الْحَاجِب الشَّامي ثمَّ الْمصْرِيّ
(1/12)
مؤلف المختصرات الشهيرة فِي أصُول الْفِقْه
وفروعه الْمَالِكِيَّة والكافية والشافية فِي النَّحْو وَالصرْف وَغَيرهَا
من كتب الْقرَاءَات والبلاغة وَرُبمَا لم تطل مُدَّة أَخذ الْقَرَافِيّ عَن
ابْن الْحَاجِب الَّذِي توفّي سنة 1248 / 646 كَمَا أَخذ الْقَرَافِيّ
المعقولات عَن إمامها شمس الدّين عبد الحميد بن عِيسَى الخسر وشاهي تلميذ
الإِمَام الرَّازِيّ وشارح كتبه وَلَا يعرف إِن كَانَ الْأَخْذ عَنهُ تمّ
فِي الشَّام أَو مصر لِأَن الْمَعْرُوف فِي كتب التراجم أَن الخسر وشاهي
انْتقل من مسْقط رَأسه بِفَارِس إِلَى الشَّام ثمَّ الكرك وَرجع أخيرا
إِلَى دمشق حَيْثُ توفّي عَام 1254 / 652 على أَن أعظم شُيُوخ الْقَرَافِيّ
بالمشرق هُوَ سُلْطَان الْعلمَاء عز الدّين بن عبد السَّلَام الشَّامي
الأَصْل قَاضِي مصر وخطيب جَامع عَمْرو بن الْعَاصِ ومدرس الصالحية مؤلف
قَوَاعِد الْأَحْكَام فِي مصَالح الْأَنَام ومجاز الْقُرْآن وَغَيرهمَا
لَازمه الْقَرَافِيّ طَويلا فِي مجالسة العلمية المتنوعة حَتَّى
الْفِقْهِيَّة وَلَو أَن الْعِزّ كَانَ شافعيا إِلَى أَن مَاتَ عَام 1261 /
660 وَيظْهر أثر ذَلِك جليا فِي الذَّخِيرَة حِين يفصل الْقَرَافِيّ
القَوْل فِي فروع الشَّافِعِيَّة أَكثر من الْمذَاهب الْأُخْرَى عِنْدَمَا
يقارنها بآراء فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة لَكِن رغم إعجاب الْقَرَافِيّ بشيخه
عز الدّين ابْن عبد السَّلَام فَإِنَّهُ لَا يتَرَدَّد فِي انتقاده
وَالرَّدّ على مذْهبه مَتى عنت لَهُ الْحَقِيقَة وبدا وَجه الصَّوَاب
شَأْنه فِي ذَلِك مَعَ الشَّيْخَيْنِ خسر وشاهمي والرزاي فِي مناقشة
آرائهما ومخالفتها أَحْيَانًا فِي شرح الْمَحْصُول وَهُنَاكَ عَالم آخر
تصنفه كتب التراجم من بَين شُيُوخ الْقَرَافِيّ وَأَظنهُ تِلْمِيذه هُوَ
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البقوري بباء مُوَحدَة نِسْبَة إِلَى بقور بلد
بالأندلس عَاشَ فِي بلاط المرينين بفاس وزار مصر والحجاز حِين أرْسلهُ
أَبُو يَعْقُوب يُوسُف المريني 685 - 1286 / 706 - 1306 إِلَى الْمشرق
وَمَعَهُ مصحف قُرْآن حمل بغل ليوقف بِمَكَّة وَكَانَت وَفَاة البقوري
بمراكش عَام 1307 / 707 وقبره بهَا مزارة مَقْصُودَة وَمن بَين مؤلفاته
حَاشِيَة على كتاب الْقَرَافِيّ فِي
(1/13)
الْأُصُول وَذَلِكَ مِمَّا نستدل بِهِ على
أَنه تلميذ لَهُ لَا شيخ وَمن تلاميذ الْقَرَافِيّ المغاربة الَّذين عنوا
بكتبه وشرحوها ونشروها أَحْمد بن عبد الرحمان التادلي الفاسي الْمُتَوفَّى
عَام 1340 / 741 شَارِح التَّنْقِيح وقاسم ابْن الشَّاط الْأنْصَارِيّ
السبتي الْمُتَوفَّى عَام 1323 / 723 صَاحب أنوار البروق فِي تعقب الفروق
وَقد حظي هَذَا الْكتاب الْأَخير لَدَى الْفُقَهَاء عُمُوما والمغاربة
مِنْهُم بِصفة خَاصَّة حَتَّى اشتهرت فِيهِ قولتهم عَلَيْك بفروق
الْقَرَافِيّ وَلَا تقبل مِنْهَا إِلَّا مَا سلمه ابْن الشَّاط وَمُحَمّد
بن عبد الله بن رَاشد الْبكْرِيّ القفصي الْمُؤلف المكثر المتوفي بتونس
عَام 1335 / 736 الَّذِي أجَازه الْقَرَافِيّ بِالْإِمَامَةِ فِي أصُول
الْفِقْه ونشير إِلَى أَن مُحَمَّد بن رشيد السبتي صَاحب ملْء العيبة قصد
بدوره أَحْمد الْقَرَافِيّ للأخذ عَنهُ فِي مصر لكنه لم يتَمَكَّن من ذَلِك
فَكتب فِي رحلته أسفا دخلت مصر عقب وَفَاته بِثمَانِيَة أَيَّام ففات لقاؤه
فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون ... وَكَانَت وَفَاته يَوْم
الْأَحَد متم جُمَادَى الْأَخِيرَة عَام أَرْبَعَة وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
وَدفن يَوْم الِاثْنَيْنِ غرَّة رَجَب فَلَقِيت أَصْحَابه وَقد فرق جمعهم
يحدد هَذَا النَّص علاوة على مَا يفهم مِنْهُ من كَثْرَة تلامذة
الْقَرَافِيّ المشارقة وتعلقهم بِهِ تَارِيخ وَفَاته وَدَفنه بِمَا لَا
مزِيد عَلَيْهِ من الدقة فَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يُخَالِفهُ فِي بعض كتب
التراجم كَانَ الْقَرَافِيّ كَمَا يَقُول تلميذ تلاميذه الصّلاح الصَّفَدِي
حسن الشكل والسمت درس بِجَامِع مصر وبمدرسة طيبرس وبمدرسة الصالحية بعد
وَفَاة شرف الدّين السُّبْكِيّ إِلَى أَن مَاتَ وَهُوَ مدرسها وَألف عشرات
الْكتب فِي مُخْتَلف فروع الْمعرفَة تشهد بمشاركته الواسعة فِي الْعُلُوم
الْعَقْلِيَّة والنقلية فَكتب فِي أصُول الدّين وأصول الْفِقْه وفروع
الْمَذْهَب الْمَالِكِي وَالْفِقْه الْمُقَارن والفتاوى وَالْأَحْكَام
والتوقيت وَالتَّعْدِيل
(1/14)
والحساب والجبر والهندسة والفرائض
والديانات وقواعد اللُّغَة وَإِلَى جَانب هَذِه الْعُلُوم النظرية كَانَ
الْقَرَافِيّ صناع الْيَد يحسن عمل التماثيل المتحركة فِي الْآلَات الفلكية
وَغَيرهَا نقل عَن كِتَابه شرح الْمَحْصُول كَمَا جَاءَ فِي كتاب
التَّصْوِير عِنْد الْعَرَب ص 79 قَوْله بَلغنِي أَن الْملك الْكَامِل من
سلاطين الدولة الأيوبية بِمصْر 576 - 635 هـ وضع لَهُ شمعدان كلما مضى من
اللَّيْل سَاعَة انْفَتح بَاب مِنْهُ وَخرج مِنْهُ شخص يقف فِي خدمَة
الْملك فَإِذا انْقَضتْ عشر سَاعَات طلع الشَّخْص على أَعلَى الشمعدان
وَقَالَ صبح الله السُّلْطَان بالسعادة فَيعلم أَن الْفجْر قد طلع قَالَ
وعملت أَنا هَذَا الشمعدان وزدت فِيهِ أَن الشمعة يتَغَيَّر لَوْنهَا فِي
كل سَاعَة وَفِيه أَسد تَتَغَيَّر عَيناهُ من السوَاد الشَّديد إِلَى
الْبيَاض الشَّديد إِلَى الْحمرَة الشَّدِيدَة فِي كل سَاعَة لَهَا لون
فَإِذا طلع الْفجْر طلع شخص على أَعلَى الشمعدان وأصبعه فِي أُذُنه يُشِير
إِلَى الْأَذَان غير أَنِّي عجزت عَن صَنْعَة الْكَلَام توفّي أَحْمد
الْقَرَافِيّ بدير الطين من الْقَاهِرَة يَوْم الْأَحَد متم جُمَادَى
الْأَخِيرَة عَام 2 / 684 شتنبر 1285 وَدفن يَوْم الِاثْنَيْنِ فاتح رَجَب
بالقرافة الْقَرِيبَة من قبر الإِمَام الشَّافِعِي
(مخطوطات الذَّخِيرَة)
تَنْتَشِر مخطوطات الذَّخِيرَة فِي عدد من مكتبات الْمغرب والمشرق وتختلف
تجزئاتها الَّتِي وقفنا عَلَيْهَا من سِتَّة إِلَى عشْرين جُزْءا وأكثرها
تداولا الثَّمَانِية لَيْسَ فِيهَا مَا كتب فِي حَيَاة الْمُؤلف وأقدمها
وأجودها مَا فِي خَزَائِن الْمغرب الْقرَوِيين بفاس وَابْن يُوسُف بمراكش
والخزانة الحسنية والخزانة الْعَامَّة بالرباط. فَفِي الْقرَوِيين ثَلَاثَة
أَجزَاء فهرست تجاوزا بالخامس وَالسَّادِس وَالثَّامِن
(1/15)
بَيْنَمَا الْخَامِس مختلط معظمه مُكَرر
مَعَ الثَّامِن يَبْتَدِئ بِكِتَاب الْجِنَايَات وَيَنْتَهِي بِتمَام
الْجَامِع وَبَاقِيه مُكَرر من نُسْخَة أُخْرَى مَعَ السَّادِس بِكِتَاب
الْوَصَايَا وَهُوَ بِخَط عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عبد الْملك
الْحَضْرَمِيّ كتب فِي الْعشْر الآخر لربيع الأول من عَام سَبْعَة وَعشْرين
وَسَبْعمائة أَي بعد وَفَاة الْقَرَافِيّ بِخمْس وَأَرْبَعين سنة
وَالسَّادِس من نُسْخَة أُخْرَى متلاشية يَبْتَدِئ بِبَقِيَّة كتاب
الْوَقْف ثمَّ كتاب الْوَصَايَا وَالثَّامِن أهم الْأَسْفَار الثَّلَاثَة
ضخامة مَادَّة وجمال خطّ يَبْتَدِئ بِكِتَاب أُمَّهَات الْأَوْلَاد
فالجنايات فموجبات الضَّمَان فالفرائض والمواريث فالجامع حَتَّى نِهَايَة
الْكتاب وينقصه فِي الْأَخير صفحة أَو صفحتان وَفِي خزانَة ابْن يُوسُف
سِتَّة أسفار من الذَّخِيرَة مُخْتَلفَة التجزئات والخطوط والجودة والصيانة
معظمها من الْعَصْر السَّعْدِيّ انتسخت لملوكهم أَو أوقفوها على طلبة
الْعلم بخزائن جَوَامِع الْمَدِينَة وَقد فهرس كل جُزْء حسب تجزئة نسخته
وَأعْطِي الرقم الْمُنَاسب لَهَا فِي الفهرس فالجزء الرَّابِع فِي فهرس
الخزانة مثلا يَبْتَدِئ من حَيْثُ يقف الْجُزْء الأول وَلَا شكّ أَنه
الرَّابِع فِي نُسْخَة مجزأَة إِلَى اثْنَي عشر جُزْءا بَيْنَمَا الأول من
نُسْخَة سداسية لذَلِك رتبنا الْأَجْزَاء حسب تسلسل موادها وَنَبَّهنَا
مَعَ ذَلِك على أرقامها فِي الخزانة ليسهل الرُّجُوع إِلَيْهَا الْجُزْء
الأول تَامّ صين فِي الْجُمْلَة بِخَط أندلسي دَقِيق جميل يَنْتَهِي
بِتمَام صَلَاة الْخَوْف الَّذِي يَلِيهِ كتاب الْجَنَائِز وَقد تمّ نسخه
فِي التَّاسِع عشر من شهر ذِي الْحجَّة عَام تِسْعَة وَعشْرين وَسَبْعمائة
أَي بعد سنتَيْن من تَارِيخ نسخ مخطوطة الْقرَوِيين العتيقة ويبتدئ
الْجُزْء الثَّانِي الرَّابِع فِي فهرس الخزانة بِكِتَاب الْجَنَائِز
وَيَنْتَهِي بِتمَام كتاب الصَّيْد وَهُوَ أَيْضا تَامّ صين فِي الْجُمْلَة
بِخَط مغربي وَاضح انتسخ فِي منتصف رَمَضَان عَام اثْنَيْنِ وَخمسين
وَتِسْعمِائَة بِمَدِينَة تيوت بالسوس الْأَقْصَى وَكَانَت فِي ذَلِك
التَّارِيخ مَدِينَة مهمة بضواحي الْحَاضِرَة الأولى للدولة السعدية
مَدِينَة المحمدية الْمُسَمَّاة الْيَوْم تارودانت وَكتب النَّاسِخ اسْمه
مُبْهما بهيئة
(1/16)
طغراء الْعُدُول والجزء الثَّالِث
الْخَامِس فِي فهرس الخزانة صين يَبْتَدِئ بِكِتَاب النِّكَاح مُشْتَمِلًا
على الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة الأولى مِنْهُ فِي أقطاب العقد وَيَنْتَهِي
مبتورا أثْنَاء الْبَاب الرَّابِع فِي القطب الرَّابِع الَّذِي هُوَ العقد
نَفسه وَقد ضَاعَ مِنْهُ بَقِيَّة كتاب النِّكَاح وَكتاب الطَّلَاق كُله
وَالْقسم الأول من كتاب الْبيُوع وَلم نعثر على ذَلِك للأسف فِي أَيَّة
نُسْخَة أُخْرَى وَلم يبْق فِي هَذَا الْجُزْء سوى اثْنَتَيْنِ وَخمسين
ورقة وَهُوَ من تحبيس السُّلْطَان مُحَمَّد الْمهْدي الشَّيْخ على جَامع
القصبة بمراكش بتاريخ أَوَاخِر ذِي الْعقْدَة عَام ثَلَاثَة وَسِتِّينَ
وَتِسْعمِائَة والجزء الرَّابِع الثَّالِث فِي فهرس الخزانة أطول حجما من
بَاقِي الْأَجْزَاء وأكثرها مَادَّة من نُسْخَة ملوكية حَبسه أَولا
السُّلْطَان السَّعْدِيّ عبد الله الْغَالِب على خزانَة الْجَامِع
الْجَدِيد المواسين بمراكش بتاريخ أَوَاخِر صفر عَام ثَمَانِيَة وَسبعين
وَتِسْعمِائَة ثمَّ حَبسه السُّلْطَان الْعلوِي مُحَمَّد بن عبد الله على
طلبة الْعلم بمراكش عَام 1195 وَهُوَ بِخَط مغربي مجوهر إِلَّا أَنه غلف
للصيانة بالبلاستيك الشفاف فطمست بعض سطوره يَبْتَدِئ بالقسم الثَّانِي من
كتاب الْبيُوع تليه الْأَقْسَام الْخَمْسَة الْأُخْرَى فَكتب الصُّلْح
وَالْإِجَارَة والجعالة والقراض وَالْمُسَاقَاة والمزارعة والمغارسة وإحياء
الْموَات وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْعدة وَالْوَقْف والوصايا
وَالْقِسْمَة وَيَنْتَهِي مبتورا أثْنَاء كتاب الشُّفْعَة وَهنا يفتقد فِي
مخطوطات خزانَة ابْن يُوسُف أَبْوَاب عديدة من كتاب الْوكَالَة إِلَى كتاب
الشَّهَادَات والجزء الْخَامِس السَّابِع فِي فهرس الخزانة صين فِي
الْجُمْلَة بِخَط مغربي دَقِيق مليح يدمج أَحْيَانًا فتتعذر قِرَاءَة بعض
كَلِمَاته يَبْتَدِئ مبتور الورقة الأولى من كتاب الوثائق تليه كتب
الدَّعَاوَى وَالْإِيمَان وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَالْكِتَابَة
وَأُمَّهَات الْأَوْلَاد والجنايات إِلَى تَمام الْحِرَابَة وَهُوَ بِخَط
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز أتم نسخه فِي ربيع الثَّانِي
عَام 943
(1/17)
أما السّفر الْأَخير من مخطوطات ابْن
يُوسُف الَّذِي كتب عَلَيْهِ الْجُزْء الثَّامِن فِي الفهرس فيشتمل فِي
الْوَاقِع على الجزئين السَّابِع وَالثَّامِن من نُسْخَة ثَمَانِيَة كتبت
جزءين جزءين فِي أَرْبَعَة أسفار وَقد غلفت أَيْضا صفحات هَذَا السّفر
للصيانة بالبلاستيك الشفاف فطمس كثيرا من الْكَلِمَات الَّتِي أَصبَحت
قرَاءَتهَا متعذرة يَبْتَدِئ السَّابِع مبتورا بالْكلَام على التَّدْبِير
وَالْكِتَابَة وَأُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي تسع وَخمسين صفحة فَقَط
بَيْنَمَا ضَاعَ معظمه ويشتمل الثَّامِن على كتاب الْجِنَايَات وَكتاب
الْفَرَائِض والمواريث وَكتاب الْجَامِع إِلَى نِهَايَة الْكتاب مَعَ بتر
صفحات فِي الْأَخير كتبه بِخَط مغربي دَقِيق مدموج مَسْعُود بن يعزا بن
إِبْرَاهِيم الولصاني البعقيلي للسُّلْطَان مُحَمَّد الْمهْدي الشَّيْخ
وَأتم نسخ الْجُزْء السَّابِع يَوْم الِاثْنَيْنِ رَابِع وَعشْرين رَمَضَان
عَام اثْنَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَفِي الخزانة الْعَامَّة بالرباط
سفر من الذَّخِيرَة يَبْتَدِئ بِكِتَاب الْحجر بعده كتب الْغَصْب
والاستحقاق واللقطة واللقيط والوديعة والحمالة وَالْحوالَة وَالْإِقْرَار
والأقضية والشهادات وَهُوَ من نفس النُّسْخَة الملوكية السَّابِقَة الذّكر
الَّتِي كتبهَا مَسْعُود بن يعزا بن إِبْرَاهِيم الولصاني البعقيلي
للسُّلْطَان مُحَمَّد الشَّيْخ انْتهى من نسخ هَذَا السّفر ضحوة يَوْم
الْأَرْبَعَاء الرَّابِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الثَّانِيَة عَام
اثْنَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة ماية لذَلِك نظن أَن هَذَا السّفر يضم
الجزءين الْخَامِس وَالسَّادِس من هَذِه النُّسْخَة الثَّمَانِية وَيكون قد
سقط من الْجُزْء السَّابِع كتب الوثائق والدعاوى وَالْإِيمَان وَالْعِتْق
سفر الخزانة الْعَامَّة صين فِي الْجُمْلَة إِلَّا أَنه وَقع تجليده
حَدِيثا فَقص السطر الْأَعْلَى أَو الْأَسْفَل من بعض صفحاته وَفِي الخزانة
الحسنية بالرباط الْجُزْء الأول من الذَّخِيرَة متلاش جدا بِفعل الأرضة
وَقد كتب بِخَط مشرقي وَاضح يَنْتَهِي بِتمَام كتاب الصَّلَاة فرغ من نسخه
مُحَمَّد بن عَليّ الْمَالِكِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع عشر ذِي
الْقعدَة عَام سِتِّينَ وَثَمَانمِائَة أما مخطوطات الذَّخِيرَة الْخمس
بدار الْكتب المصرية ومخطوط مكتبة
(1/18)
طرابلس بليبيا فقد حصلنا على مصورات
مِنْهَا استعملناها على مَا بهَا من تَصْحِيف وبياضات عِنْد الْمُقَابلَة
كَمَا سنرى
(عَملنَا فِي التَّحْقِيق)
بعد تلفيق كل المخطوطات الْمشَار إِلَيْهَا سَابِقًا بَقِي نَاقِصا من كتاب
الذَّخِيرَة الْقسم الْأَخير من كتاب النِّكَاح وَكتاب الطَّلَاق كُله
وَصدر كتاب الْبيُوع ونتف من أَبْوَاب أُخْرَى نأمل العثور عَلَيْهَا
اسْتِقْبَالًا فِي خروم خزانَة الْقرَوِيين وَغَيرهَا لإثباتها فِي طبعة
ثَانِيَة وَإِذا كَانَت كثير من أَبْوَاب كتاب الذَّخِيرَة قد قوبلت بِمَا
أمكن الْحُصُول عَلَيْهِ من المخطوطات المكررة الَّتِي يكمل بَعْضهَا
بَعْضًا فَإِن هُنَاكَ أبوابا أُخْرَى غير قَليلَة لم يتأت مقابلتها
لوجودها فِي مخطوطة فريدة أَو لم يُمكن تَحْقِيق كَلِمَات أَو سطور مطموسة
فِيهَا بِسَبَب الرُّطُوبَة أَو الأرضة أَو القص بل هُنَاكَ صفحات اسودت
وتعذرت قرَاءَتهَا وَعَسَى أَن يُمكن تدارك ذَلِك فِي طبعة مقبلة وَقد
رَجعْنَا عِنْد الْمُقَابلَة إِلَى الْمُقدمَة الثَّانِيَة للذخيرة فِي
الْأُصُول الَّتِي نشرها سنة 1973 طه عبد الرؤوف سعد ضمن شرح تَنْقِيح
الْفُصُول وَإِلَى الْجُزْء الأول الَّذِي طبعته كُلية الشَّرِيعَة بالأزهر
عَام 1961 / 1381 بإشراف الشَّيْخَيْنِ عبد الْوَهَّاب عبد اللَّطِيف وَعبد
السَّمِيع أَحْمد إِمَام ثمَّ أعادت طبعه وزارة الْأَوْقَاف والشؤون
الإسلامية بمطبعة الموسوعة الْفِقْهِيَّة عَام 1982 / 1402 فألفيناه رغم
جهود الشَّيْخَيْنِ واجتهاداتهما مليئا بالتصحيف والبتر والعذر لَهما
أَنَّهُمَا لم يطلعا فِي إعداده إِلَّا على مخطوطة دَار الْكتب المصرية
وَهِي كَثِيرَة الْقلب والحذف والبياضات والتزمنا فِي الهوامش بِذكر
السُّور وأرقام الْآيَات القرآنية وَتَخْرِيج الْأَحَادِيث الَّتِي لم يذكر
الْقَرَافِيّ مصادرها ورمزنا عِنْد الْمُقَابلَة إِلَى مخطوطات الْقرَوِيين
ب ق 5 وق 8 ومخطوطة الخزانة الْعَامَّة بالرباط ب خَ ومخطوطات خزانَة ابْن
يُوسُف ب ي ومخطوطات دَار الْكتب المصرية ب د ومخطوطة ليبيا ب ل وَإِلَى
الْمُقدمَة المطبوعة ب ت
(1/19)
والجزء الأول المطبوع ب ط وَلَا يفوتنا
هُنَا أَن نزجي خَالص الشُّكْر لصديقنا الْأُسْتَاذ الْحَاج الحبيب اللمسي
صَاحب دَار الغرب الإسلامي على عنايته الفائقة بنشر التراث الْمَالِكِي
الْأَصِيل فَبعد معيار الونشريسي وَالْبَيَان والتحصيل والمقدمات الممهدات
لِابْنِ رشد هَا هُوَ يخرج إِلَى النُّور موسوعة أُخْرَى فِي الْفِقْه
الْمَالِكِي وأصوله طالما ظلت حبيسة رفوف خَزَائِن المخطوطات واستعصت على
كل من حاول نشرها من الْمعَاهد والمؤسسات وَعَسَى أَن تسهم ذخيرة
الْقَرَافِيّ إِلَى جَانب مَا ينشر من الْأُمَّهَات الْفِقْهِيَّة فِي
تنشيط الدراسات الحديثة الواعدة بِرُجُوع الْمُسلمين إِلَى أَحْكَام الله
وَرَسُوله فِي عباداتهم ومعاملاتهم وَالله لَا يضيع أجر من أحسن عملا سلا
فِي 10 ربيع الأول عَام 1411 / فاتح شتنبر 1990 مُحَمَّد الحجي
(1/20)
صفحه أولى من مخطوط الْجُزْء الأول من
الذَّخِيرَة فِي خزانَة ابْن يُوسُف بمراكش ثمَّ نُسْخَة فِي 29 ذِي حجَّة
عَام 729
(1/21)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء الأول من
كتاب الذَّخِيرَة مخطوط خزانَة ابْن يُوسُف بمراكش كتب عَام 729
(1/22)
صفحة أخيرة من مخطوط السّفر السَّابِع من
الذَّخِيرَة فِي خزانَة ابْن يُوسُف بمراكش ثمَّ نُسْخَة فِي ربيع
الثَّانِي عَام 943
(1/23)
صفحة أولى من مخطوط جُزْء الْبيُوع من
الذَّخِيرَة فِي دَار الْكتب المصرية
(1/24)
اللوحة الأولى من الْجُزْء الأول من كتاب
الذَّخِيرَة مخطوط عَتيق متلاش بالخزانة الحسنية بالرباط
(1/25)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء الأول من
كتاب الذَّخِيرَة مخطوط الخزانة الحسنية بالرباط كتب عَام 860
(1/26)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء الثَّانِي
من كتاب الذَّخِيرَة الرَّابِع مخطوط خزانَة ابْن يُوسُف بمراكش كتب عَام
952
(1/27)
اللوحة الأولى من الْجُزْء الثَّالِث من
كتاب الذَّخِيرَة الْخَامِس مخطوط وقفي مبتور فِي خزانَة ابْن يُوسُف
بمراكش
(1/28)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء الْخَامِس
من كتاب الذَّخِيرَة مخطوط خزانَة الْقرَوِيين بفاس كتب عَام 727 أقدم
مخطوط للذخيرة وقفنا عَلَيْهِ
(1/29)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء السَّادِس
من كتاب الذَّخِيرَة مخطوط الخزانة الْعَامَّة بالرباط انتسخ للسُّلْطَان
مُحَمَّد الْمهْدي الشَّيْخ عَام 952
(1/30)
اللوحة الْأَخِيرَة من السّفر السَّابِع من
كتاب الذَّخِيرَة مخطوط خزانَة ابْن يُوسُف بمراكش انتسخ للسُّلْطَان
مُحَمَّد الْمهْدي الشَّيْخ عَام 952
(1/31)
اللوحة الْأَخِيرَة من الْجُزْء الثَّامِن
من كتاب الذَّخِيرَة مخطوط الْقرَوِيين بفاس تنقصه صفحة أَو صفحتان بعد
هَذِه اللوحة
(1/32)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَى سيدنَا ومولانا مُحَمَّد النَّبِي الْمُصْطَفى
الْكَرِيم
يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ أَحْمَدُ بْنُ
إِدْرِيسَ الْمَالِكِيُّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَجَلَّى لِخَلْقِهِ
فِي عَجَائِبِ مُبْتَدَعَاتِ صَنْعَتِهِ وَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ
بِسُرَادِقَاتِ كَمَالَاتِ هُوِيَّتِهِ وَتَفَرَّدَ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ
فَهُوَ الْأَبَدِيُّ فِي قَيُّومِيَّتِهِ وَتَوَحَّدَ بِالْإِيجَادِ
فَكُلُّ الْأَكْوَانِ خَاضِعَةٌ لِجَلَالِ هَيْبَتِهِ وَتَنَزَّهَ عَنِ
الشَّبِيهِ وَالشَّرِيكِ فَهُوَ الْوَاحِد الْأَحَد فِي إلاهيته
اسْتَخْلَصَ الْعُلَمَاءَ بِمَوَاهِبِ عِنَايَتِهِ فَأَطْلَعَ شُمُوسَ
الْعُلُومِ فِي آفَاقِ سَرَائِرِهِمْ فَأَشْرَقَتْ عَرَصَاتُ الْأَرْوَاحِ
بِآثَارِ رَحْمَتِهِ وَأَيْنَعَتْ رِيَاضُ الْأَشْبَاحِ بِثَمَرَاتِ
الْمَعَارِفِ فَأَضْحَتْ حَالِيَةً بِجَمِيلِ طَاعَتِهِ فَهُمُ
السَّامِعُونَ لِتَفَاصِيلِ مُنَاجَاتِهِ وَالْحَامِلُونَ لِأَعْبَاءِ
رِسَالَاتِهِ وَالْعَامِلُونَ بِمَحَاسِنِ مَشْرُوعَاتِهِ فَأُولَئِكَ
مِشْكَاةُ أَنْوَارِهِ وَمَعْدِنُ أَسْرَارِهِ وَالْهَائِمُونَ بِجَمَالِ
صِفَاتِهِ وَالْهَانِئُونَ بِجَلَالِ عَظَمَةِ ذَاتِهِ وَالْفَانُونَ عَنِ
الْأَكْوَانِ بِمُلَاحَظَاتِ بَهَاءِ وَارِدَاتِهِ فَهُمْ خَيْرُ
بَرِّيَّتِهِ مِنْ سَائِر مَخْلُوقَاتِهِ وَنَحْنُ الضَّارِعُونَ
بِضَعْفِنَا لِجَلَالِهِ وَالْمُبْتَهِلُونَ بِنَقْصِنَا لِكَمَالِهِ أَنْ
يَفِيضَ عَلَيْنَا كَمَا أَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَتِهِ وَأَفْضَلُ
الصَّلَوَاتِ وَالتَّسْلِيمَاتِ عَلَى أَفْضَلِ الصَّادِرِينَ عَنْ
قُدْرَتِهِ مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ بِأَفْضَلِ الرَّسَائِلِ وَأَقْرَبِ
الْوَسَائِلِ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ الْجَامِعِ بَيْنَ ذِرْوَةِ
مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَخُلَاصَةِ شَرَفِ الْأَعْرَاقِ فِي حَوْزَتِهِ
الْمَخْصُوصِ بِسِيَادَةِ الدُّنْيَا
(1/33)
لعُمُوم رسَالَته واستيلاء ملك ... ثَنَاء
... وانفاد ... . . وَارْتِفَاعِ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَعِتْرَتِهِ أُسَاةِ الْمَضَايِقِ
وَهُدَاةِ الْخَلَائِقِ إِلَى أَفْضَلِ الطَّرَائِقِ مِنْ سِيرَتِهِ أَمَّا
بَعْدُ فَإِنَّ الْفِقْهَ عِمَادُ الْحَقِّ وَنِظَامُ الْخَلْقِ
وَوَسِيلَةُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَلُبَابُ الرِّسَالَةِ
الْمُحَمَّدِيَّةِ مَنْ تَحَلَّى بِلِبَاسِهِ فَقَدْ سَادَ وَمَنْ بَالَغَ
فِي ضَبْطِ مَعَالِمِهِ فَقَدْ شَادَ وَمِنْ أَجَلِّهِ تَحْقِيقًا
وَأَقْرَبِهِ إِلَى الْحَقِّ طَرِيقًا مَذْهَبُ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّة واختبارات آرَائِهِ الْمَرْضِيَّةِ لِأُمُورٍ مِنْهَا
وُرُودُ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ فِيهِ وَتَظَاهُرُ الْآثَارِ بِشَرَفِ
مَعَالِيهِ وَاخْتِصَاصُهُ بِمَهْبِطِ الرِّسَالَةِ وَامْتِيَازُهُ
بِضَبْطِ أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَقُولَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَقْضِيَةِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يشق غباره وَيَقُول
الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ
وَيَقُولُ أَيْضًا لِأَبِي يُوسُفَ أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَصَاحِبُنَا
يَعْنِي مَالِكًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَمْ صَاحِبُكُمْ؟ يَعْنِي
أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ أَصَاحِبُنَا أَعْلَمُ
بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ
صَاحِبُكُمْ؟ فَقَالَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ أَصَاحِبُنَا أَعْلَمُ
بِأَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَمْ صَاحِبُكُمْ؟
فَقَالَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ فَإِذَنْ لَمْ يَبْقَ لِصَاحِبِكُمْ إِلَّا
الْقِيَاسُ وَهُوَ فَرْعُ النُّصُوصِ وَمَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِالْأَصْلِ
كَانَ أَعْلَمَ بِالْفَرْعِ وَمِنْهَا طُولُ عُمُرِهِ فِي الْإِقْرَاءِ
وَالْإِفْتَاءِ سِنِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا يَنْبُوعُ الِاطِّلَاعِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ أَمْلَى فِي مَذْهَبِهِ نَحْوًا مِنْ مِائَةٍ
وَخَمْسِينَ مُجَلَّدًا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَكَادُ
يَقَعُ فَرْعٌ إِلَّا وَيُوجَدُ لَهُ فِيهِ فُتْيَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ
مِمَّنْ لَا يَكَادُ يَجِدُ لَهُ
(1/34)
أَصْحَابُهُ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ
الْمُجَلَّدَاتِ كَالْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ وَفَتَاوَى مُفَرَّقَةٍ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ
خَرَّجَ أَصْحَابُهُمْ بَقِيَّةَ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى مُنَاسَبَاتِ
أَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّخْرِيجَ قَدْ يُوَافِقُ
إِرَادَةَ صَاحِبِ الْأَصْلِ وَقَدْ يُخَالِفُهَا حَتَّى لَوْ عُرِضَ
عَلَيْهِ الْمُخَرَّجُ عَلَى أَصْلِهِ لَأَنْكَرَهُ وَهَذَا مَعْلُومٌ
بِالضَّرُورَةِ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ مَنْ قَلَّدَ مَذْهَبًا فَقَدْ جَعَلَ
إِمَامَهُ وَاسِطَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَسُكُونُ
النُّفُوسِ إِلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْقُدْوَةِ أَكْثَرُ مِنْ سُكُونِهَا
إِلَى أَتْبَاعِهِ بِالضَّرُورَةِ وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَسْعَدَهُ وَسَدَّدَهُ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ يَنْقُلُ
أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَخْلَافُهُمْ عَنْ أَسْلَافِهِمُ
الْأَحْكَامَ وَالسُّنَنَ النَّقْلَ الْمُتَوَاتِرَ بِسَبَبِ جَمْعِ
الدَّارِ لَهُمْ ولأسلافهم فَيخرج الْمسند عَنْ حَيِّزِ الظَّنِّ
وَالتَّخْمِينِ إِلَى حِيزِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ وَغَيْرُهُ لَمْ
يَظْفَرْ بِذَلِكَ وَلِذَلِكَ لَمَّا شَاهَدَ أَبُو يُوسُفَ مُسْتَنَدَ
مَالِكٍ فِي الصَّاعِ وَالْأَذَانِ وَالْأَوْقَاتِ وَكَثِيرٍ مِنَ
الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّاتِ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ صَاحِبِهِ إِلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَمِنْهَا مَا
ظَهَرَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَاخْتِصَاصِهِمْ بِهِ
وَتَصْمِيمِهِمْ عَلَيْهِ مَعَ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ
بِأَنَّ الْحَقَّ يَكُونُ فِيهِمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ إِلَى
أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَتَكُونُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَهُمْ شَهَادَةً
لَهُ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ حَقٌّ لِأَنَّهُ شِعَارُهُمْ وَدِثَارُهُمْ وَلَا
طَرِيقَ لَهُمْ سِوَاهُ وَغَيْرُهُ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ
وَلَمَّا وَهَبَنِي اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَنِي مِنْ جُمْلَةِ
طلبته الْكَاتِبين فِي صَحِيفَتِهِ تَعَيَّنَ عَلَيَّ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاسْتِفْرَاغِ الْجُهْدِ فِي مُكَافَأَةِ
الْإِحْسَانِ فَوَجَدْتُ أَخْيَارَ عُلَمَائِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَدْ أَتَوْا فِي كُتُبِهِمْ بِالْحِكَمِ الْفَائِقَةِ
(1/35)
وَالْأَلْفَاظِ الرَّائِقَةِ وَالْمَعَانِي
الْبَاهِرَةِ وَالْحُجَجِ الْقَاهِرَةِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ
الْفَتَاوَى فِي مَوَاطِنِهَا حَيْثُ كَانَتْ وَيَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهَا
أَيْنَ وُجِدَتْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَعَاقِدِ التَّرْتِيبِ
وَنِظَامِ التَّهْذِيبِ كَشُرَّاحِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُمْ
مَنْ سَلَكَ التَّرْتِيبَ الْبَدِيعَ وَأَجَادَ فِيهِ الصَّنِيعَ
كَالْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ كَمَالِ الدِّينِ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ
الثَّمِينَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْيَسِيرِ
مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ التَّوْجِيهِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ
الْفِقْهَ وَإِنْ جَلَّ إِذَا كَانَ مفترقا تبددت حكمته وَقلت طلاوته وبعدت
عِنْدَ النُّفُوسِ طِلْبَتُهُ وَإِذَا رُتِّبَتِ الْأَحْكَامُ مُخَرَّجَةً
عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةً عَلَى مَآخِذِهَا نَهَضَتِ
الْهِمَمُ حِينَئِذٍ لِاقْتِبَاسِهَا وَأُعْجِبَتْ غَايَةَ الْإِعْجَابِ
بِتَقَمُّصِ لِبَاسِهَا وَقَدْ آثَرْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ الْكُتُبِ
الْخَمْسَةِ الَّتِي عَكَفَ عَلَيْهَا الْمَالِكِيُّونَ شَرْقًا وَغَرْبًا
حَتَّى لَا يَفُوتَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ مَطْلَبٌ وَلَا يُعْوِزُهُ
أَرَبٌ وَهِيَ الْمُدَوَّنَةُ وَالْجَوَاهِرُ وَالتَّلْقِينُ والجلاب
وَالرِّسَالَةُ جَمْعًا مُرَتَّبًا بِحَيْثُ يَسْتَقِرُّ كُلُّ فَرْعٍ فِي
مركزه وَلَا يُوجد فِي غَيره حَيِّزِهِ عَلَى قَانُونِ الْمُنَاسَبَةِ فِي
تَأْخِيرِ مَا يَتَعَيَّنُ تَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمِ مَا يَتَعَيَّنُ
تَقْدِيمُهُ مِنَ الْكُتُبِ وَالْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ مُتَمَيِّزَةَ
الْفُرُوع حَتَّى إِذَا رَأَى الْإِنْسَانُ الْفَرْعَ فَإِنْ كَانَ
مَقْصُودُهُ طَالَعَهُ وَإِلَّا أَعْرَضَ عَنْهُ فَلَا يُضَيِّعُ
الزَّمَانَ فِي غير مَقْصُوده وَأَعْزِي الْفَرْعَ إِلَى الْمُدَوَّنَةِ
إِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا أَوْ خَاصًّا بِهَا
(1/36)
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا عَزَيْتُهُ
لِكِتَابِهِ لِيَكُونَ الْفَقِيهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ نَقْلِهِ لِعِلْمِهِ
بِالْكِتَابِ الْمَنْقُولِ مِنْهُ وَمَتَى شَاءَ رَاجَعَهُ وَمَتَّى
وَجَدْتُ الْفَرْع أتم فِي كِتَابه نَقَلْتُهُ مِنْهُ وَأَعْرَضْتُ عَنْ
غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فِيهِ إِلَّا الْمُدَوَّنَةَ فَإِنِّي
أَدْأَبُ فِي اسْتِيعَابِهَا غَيْرَ أَوَّلِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ
مُسْتَوْعَبٌ مِنْ غَيرهَا فَإِنَّهُ نَزْرٌ وَمَتَّى كَانَتْ فُرُوعٌ
مَنْقُولَةٌ عَنْ وَاحِدٍ سَمَّيْتُهُ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ
وَأَقْتَصِرُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِي قَالَ وَلَا أُسَمِّيهِ طَلَبًا
لِلِاخْتِصَارِ وَإِذَا قُلْتُ قَالَ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ الْمُدَوَّنَةُ
وَأُقَدِّمُ الْمَشْهُورَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ لِيَسْتَدِلَّ
الْفَقِيه بتقديمه على مشهوريته إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَسَاوِي
الْأَقْوَالِ أَوْ لوُقُوع الْخلاف بَين الْأَصْحَاب فِي الْمَشْهُورِ
اخْتِلَافًا عَلَى السَّوَاءِ وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْمَذْهَبِ يُعْلَمُ
بِقَرِينَةِ الْبَحْثِ فِيهِ وَاخْتَرْتُ أَنْ أَقُول قَالَ صَاحب
الْبَيَان أَو قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ صَاحِبُ النُّكَتِ
لِأَجْمَعَ بَيْنَ الْقَائِلِ وَالْكِتَابِ الْمَقُولِ فِيهِ فَإِنَّ
صَاحِبَ الْبَيَانِ قَدْ يَنْقُلُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَصَاحِبُ النُّكَتِ
قَدْ يَنْقُلُ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ وَمَتَّى قُلْتُ قَالَ
الْمَازِرِيُّ فَهُوَ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ تَرَكْتُهُ لِطُولِ الِاسْمِ
وَقَدْ آثَرْتُ التَّنْبِيهَ عَلَى مَذَاهِبِ الْمُخَالِفِينَ لَنَا مِنَ
الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَمَآخِذِهِمْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْمَسَائِلِ تَكْمِيلًا لِلْفَائِدَةِ وَمَزِيدًا فِي الِاطِّلَاعِ
فَإِنَّ الْحَقَّ
(1/37)
لَيْسَ مَحْصُورًا فِي جِهَةٍ فَيَعْلَمُ
الْفَقِيهُ أَيُّ الْمَذْهَبَيْنِ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَأَعْلَقُ
بِالسَّبَبِ الْأَقْوَى وَقَدْ جَعَلْتُ الشِّينَ عَلَامَةً لِلشَّافِعِيِّ
وَالْحَاءَ عَلَامَةً لِأَبِي حَنِيفَةَ تَقْلِيلًا لِلْحَجْمِ
وَالْأَئِمَّةَ عَلَامَةً لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ
حَنْبَلٍ وَالصِّحَاحَ عَلَامَةً لِمُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ
وَالْمُوَطَّأِ وَأَوْدَعْتُهُ مَا تَحْتَاجُهُ الْأَبْوَابُ مِنَ
اللُّغَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ وَغَيْرِهِ وَمَا تَحْتَاجُهُ مِنَ النَّحْوِ
وَأُضِيفُ الْأَحَادِيثَ إِلَى مُصَنِّفِيهَا لِتَقْوِيَةِ الْحُجَّةِ فِي
الْمُنَاظَرَةِ وَالْعِلْمِ بِقُوَّةِ السَّنَدِ مِنْ ضَعْفِهِ
وَأَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحَادِيثِ بِمَا تَحْتَاجُهُ مِنْ إِشْكَالٍ أَوْ
جَوَابه فِيهِ أَوْ إِثَارَةِ فَائِدَةٍ مِنْهُ وَأُضِيفُ الْأَقْوَالَ
إِلَى قَائِلهَا إِنْ أَمْكَنَ لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ التَّفَاوُتَ
بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ
بِخِلَافِ مَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ
قَوْلَانِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلَا يَدْرِي الْإِنْسَانُ مَنْ
يَجْعَلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْقَائِلَيْنِ
وَلَعَلَّ قَائِلَهُمَا وَاحِدٌ وَقَدْ رَجَعَ عَنْ أَحَدِهِمَا
فَإِهْمَالُ ذَلِكَ مُؤْلِمٌ فِي التَّصَانِيفِ وَأَوْدَعْتُهُ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأَسْرَارِ الْأَحْكَامِ
وَضَوَابِطِ الْفُرُوعِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِهِ مِنْ فَضْلِهِ
مُضَافًا لِمَا أَجِدُ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ بِحَسَبِ الْإِمْكَان
والتيسير
(1/38)
وَقَدْ جَمَعْتُ لَهُ مِنْ تَصَانِيفِ
الْمَذْهَبِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ تَصْنِيفًا مَا بَيْنَ شَرْحٍ وَكِتَابٍ
مُسْتَقِلٍّ خَارِجًا عَنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَلَا يَكَادُ
أَحَدٌ يَجِدُ فِيهَا فَرْعًا إِلَّا نَقَلْتُهُ مُضَافًا لِمَا جَمَعْتُهُ
وَأُطَالِعُهَا جَمِيعَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْبَابِ وَحِينَئِذٍ أَضَعُهُ
وَمَا كَانَ مِنَ الْفُرُوعِ يَنْدَرِجُ تَحْتَ غَيْرِهِ تَرَكْتُهُ فَلَا
مَعْنَى لِإِعَادَةِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَأَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ
لَفْظُهُ خَالِيًا عَنِ التَّطْوِيلِ الْمُمِلِّ وَالِاخْتِصَارِ
الْمُخِلِّ وَأُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُقَدِّمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي
بَيَانِ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وآدابه ليَكُون ذَلِك معدنا وَتَقْوِيَةً
لِطُلَّابِهِ وَالْمُقَدِّمَةُ الْأُخْرَى فِي قَوَاعِدِ الْفِقْهِ
وَأُصُولِهِ وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ نَفَائِسِ الْعِلْمِ مِمَّا
يَكُونُ حِلْيَةً لِلْفَقِيهِ وَجُنَّةً لِلْمُنَاظِرِ وَعَوْنًا عَلَى
التَّحْصِيلِ وَبَيَّنْتُ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ لِيَظْهَرَ عُلُوُّ شَرَفِهِ فِي اخْتِيَارِهِ فِي الْأُصُولِ
كَمَا ظَهَرَ فِي الْفُرُوعِ ويطلع الْفَقِيه على مُوَافقَة لِأَصْلِهِ
أَوْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ لِمُعَارِضٍ أَرْجَحَ مِنْهُ فَيَطْلُبَهُ حَتَّى
يَطَّلِعَ عَلَى مَدْرَكِهِ وَيُطْلِعَ الْمُخَالِفِينَ فِي
الْمُنَاظَرَاتِ عَلَى أَصْلِهِ وَأُنَقِّحُ إِنْ شَاءَ كِتَابَ
الْفَرَائِضِ وَأُمَهِّدُ قَوَاعِدَهُ وَمَا عَلَيْهَا مَنْ نُقُوضٍ
وَأُقَرِّرُ مَا أَجِدُهُ وَأُودِعُ فِيهِ مِنَ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ
مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِنَا بَلْ فِي
كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْرَارِ
الْعَجِيبَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ
الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ إِلَّا بِهَا وَأُمَهِّدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ كِتَابَ
الْجَامِعِ مِنْهُ تَمْهِيدًا جَمِيلًا وَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَى هَذِهِ
الْمَقَاصِدِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ سَمَّيْتُهُ
بِالذَّخِيرَةِ
(1/39)
وَهُوَ ذَخِيرَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لِلْمَعَادِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ عِلْمٍ
يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ وَلَدٍ صَالح يَدْعُو لَهُ
وَهُوَ ذخيرة لطلبة الْعِلْمِ فِي تَحْصِيلِ مَطَالِبِهِمْ وَتَقْرِيبِ
مَقَاصِدِهِمْ فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ إِقْرَاءَ كِتَابٍ مِنَ
الْكُتُبِ الْخَمْسَة أَو قِرَاءَته وجد فروعه فِيهِ مشروحة ممهدة وَالله
تَعَالَى هُوَ المسؤول فِي الْعَوْنِ عَلَى خُلُوصِ النِّيَّةِ وَحُصُولِ
الْبُغْيَةِ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ وَلَا مَلْجَأَ مِنْهُ
إِلَّا إِلَيْهِ
(1/40)
|