المدخل لابن الحاج

[فَصْلٌ لَا يَنْبَغِي للعالم أَنْ يَسْمَعَ مِنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ]
(فَصْلٌ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مَنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ النَّاسِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا كَبِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ لِلْعَالِمِ، أَوْ الْعَابِدِ فَيُوَسْوِسُ لَهُ بِالزِّنَا، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِذِكْرِ شَخْصٍ غَائِبٍ فَيُذْكَرُ بِخَيْرٍ فَيَقُومُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَسْتَثْنِي بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ فِيهِ كَذَا وَأَنَّهُ كَذَا، فَيَتَرَتَّبُ الْإِثْمُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ، فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا، وَرَدَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَيَتَنَفَّسَ فَيَحْرِقُ بِنَفَسِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، أَوْ كَمَا وَرَدَ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَثْنِي إذَا اسْتَثْنَى وَلَمْ

(1/201)


يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ فَقَدْ بَاءُوا جَمِيعًا بِالْإِثْمِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ.

[فَصْلٌ فِي التَّحَرُّز عَنْ الْغِيبَة فى مَجْلِس الْعَالم]
(فَصْلٌ)
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْغِيبَةِ؛ لِأَنَّهَا مُصِيبَةٌ عُظْمَى فِي الدِّينِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ قِصَرُهَا قَالَ لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنْسَانًا وَلِي كَذَا وَكَذَا» وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ رَزِينٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ وَلَا مُجَاهِرٍ وَكُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ، أَوْ يَمْشِي بِالْحَدِيثِ إلَى الْأَمِيرِ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ» وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ.
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْكِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ بِتُونُسَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادُوا الطَّعَامَ أَبْطَأَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ مَا زَالَتْ عَادَتُهُ هَكَذَا، فَقَامَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ الْيَوْمَ لِي سَنَةٌ لَمْ أَسْمَعْ غِيبَةً فَسَمَّعْتُمُوهَا لِي الْيَوْمَ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا، فَقِسْ عَلَى هَذَا وَانْظُرْ

(1/202)


بِنَظَرِك أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَذَلِكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا: وَهِيَ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يَدْعُو إلَيْهَا، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يُخْفِيهَا، فَإِذَا ظَفِرَ بِأَحَدٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ، وَالْغِيبَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِخَصْمِهِ، وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَحَدٍ فَغِيبَتُهُ جَائِزَةٌ وَعِنْدَ الْعَالِمِ لِلْفَتْوَى، وَعِنْدَ مَنْ يُرْجَى تَغْيِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ، وَعِنْدَ الْمُرَافَقَةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ يَشْتَرِي دَارًا فَسَأَلَ عَنْ جَارِهَا أَوْ دُكَّانًا، وَالتَّجْرِيحُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْمُشَاوَرَةُ فِي أَمْرٍ مَا مِنْ أُمُورِ الْمُخَالَطَةِ، أَوْ الْمُجَاوِرَةِ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ، وَتَجْرِيحُ الْمُحَدِّثِينَ لِلرُّوَاةِ، وَذِكْرُ الرَّجُلِ بِاسْمٍ قَبِيحٍ يَشْتَهِرُ بِهِ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَخْفَشِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُسْتَثْنَاةُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُكُوسِ وَالظَّلَمَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَصِبِينَ لِظُلْمِ الْعِبَادِ وَأَذِيَّتِهِمْ فِي الْعِرْضِ، أَوْ الْمَالِ، أَوْ الْبَدَنِ، وَلَا يُعَيِّنُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ إذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ، فَإِنْ أَمِنَ عَيَّنَ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُونَهُ وَيَهْجُرُونَهُ، وَلَا يَتَعَاطَوْنَ مِثْلَ فِعْلِهِ