المدخل
لابن الحاج [فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ
الْأَذَانِ]
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي
الْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَيْفَ عَمَّتْ مَنْفَعَتُهُ
لِلْأُمَّةِ إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ قَالَ «إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا
يَقُولُ» وَأَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مَنْ
حَكَاهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا لَيْسَ
إلَّا لَفَاتَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ إذْ
إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُكَلَّفُ قَاعِدًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ فِي
سُوقِهِ مَشْغُولًا لَا يَسْمَعُهُ أَوْ فِي أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ
نَوْمِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ، فَلَوْ كَانَ
الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً يُؤَذِّنُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لَفَاتَتْهُمْ
حِكَايَتُهُ، فَإِذَا أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ حِكَايَةِ
الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَدْ
(2/260)
يَتَنَبَّهُ النَّائِمُ مِنْ نَوْمِهِ
فَيَحْكِيهِ وَيَعْلَمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ هُوَ مِنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ
فَتَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ لِلْأُمَّةِ.
وَقَدْ وَرَدَ «أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ عِنْدَ
اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الْجِهَادِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ إلَى
الصَّلَاةِ وَعِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ»
فَإِذَا حَكَى الْمُكَلَّفُ الْمُؤَذِّنَ وَدَعَا بِمَا يَخْتَارُهُ
اُسْتُجِيبَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَعْدِ الْجَمِيلِ،
وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا نُقِلَ
عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَقَالَ: إنِّي
أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» ثُمَّ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ
قَالَ الْوَاصِفُ لِصَوْمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّهُ
«كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى
نَقُولَ إنَّهُ لَا يَصُومُ، وَمَا أَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا
رَمَضَانَ» . وَذَلِكَ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
تَوْسِعَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَخْذٌ مِنْهُ بِالْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَى.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا لَفَاتَتْ
تِلْكَ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلِ الْمُسَافِرِ
وَالْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ، وَعَلَى مَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - يُدْرِكُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْفَضِيلَةَ بِكَمَالِهَا
وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّهْرِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْبَرَ بِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ
اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ
بَلْ قَالَ الْوَاصِفُ لِقِيَامِهِ إنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ
قَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ
مِنْ اللَّيْلِ نَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ قَائِمًا، وَمَا ذَاكَ إلَّا
لِرِفْقِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأُمَّتِهِ حَتَّى لَا
تَفُوتُهُمْ فَضِيلَةُ اتِّبَاعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -،
فَمَنْ نَامَ مِنْهُمْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ أَدْرَكَ الْجُزْءَ
الْآخَرَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَهَّلَهُ لِلرِّفْقِ بِأُمَّتِهِ وَرَفْعِ
الْمَشَاقِّ عَنْهُمْ وَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ، كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ مَعَهُمْ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أُمَّتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَكَ لَا
رَبَّ سِوَاكَ.
[فَصْلٌ وُقُوف الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ
الصَّلَاةَ]
{فَصْلٌ}
(2/261)
وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى
أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ رَحِمكُمْ اللَّهُ
حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ حُضُورَ
الصَّلَاةِ بِسَمَاعِهِ الْأَذَانَ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ.
هَذَا وَجْهٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَذَانُ
الشَّرْعِيُّ كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَهِدُوا
ذَلِكَ يَتَّكِلُونَ عَلَى وُقُوفِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى أَبْوَابِ
الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا
الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَهْرَعُوا إلَى الْمَسْجِدِ لِاتِّكَالِهِمْ
عَلَى مَا وَصَفْنَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَدِيثِ فِي الدِّينِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
مَارًّا فِي طَرِيقٍ بِالْبَصْرَةِ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَدَخَلَ إلَى
الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهِ الْفَرْضَ فَرَكَعَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي
أَثْنَاءِ الرُّكُوعِ، وَإِذَا بِالْمُؤَذِّنِ قَدْ وَقَفَ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ وَقَالَ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ، فَفَرَغَ
مِنْ رُكُوعِهِ وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا
أُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ فِيهِ بِدْعَةٌ.
{فَصْلٌ} وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ {إِنَّ
اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] وقَوْله تَعَالَى
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] عِنْدَ
إرَادَتِهِمْ الْأَذَانَ لِلْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
كُلُّهَا بَرَكَةً وَخَيْرًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ
الْعِبَادَاتِ إلَّا حَيْثُ وَضَعَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. |