بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي كتاب الصيام
الصوم الواجب
الصوم
معرفة أنواع
الصيام الواجب
...
كتاب الصيام
وهذا الكتاب ينقسم أولا قسمين:
أحدهما في الصوم الواجب.
والآخر: في المندوب إليه.
والنظر في الصوم الواجب ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: في الصوم.
والآخر: في الفطر.
أما القسم الأول وهو الصيام: فإنه ينقسم أولا
إلى جملتين:
إحداهما: معرفة أنواع الصيام الواجب.
والأخرى: معرفة أركانه.
وأما القسم الذي
(1/282)
معرفة أركانه
...
الجملة الثانية:
في الأركان والأركان ثلاثة: اثنان متفق عليهما
وهما الزمان والإمساك عن المفطرات. والثالث
مختلف فيه وهو النية.
فأما الركن الأول : الذي هو الزمان فإنه ينقسم
إلى قسمين:
أحدهما: زمان الوجوب وهو شهر رمضان.
والآخر: زمان الإمساك عن المفطرات وهو أيام
هذا الشهر دون الليالي ويتعلق بكل واحد من
هذين الزمانين مسائل وقواعد اختلفوا فيها
فلنبدأ بما يتعلق من ذلك بزمان الوجوب وأول
ذلك في تحديد طرفي هذا الزمان. وثانيا في
معرفة الطريق التي بها يتوصل إلى معرفة
العلامة المحددة في حق شخص شخص وأفق أفق. فأما
طرفا هذا الزمان فإن العلماء أجمعوا
(1/283)
على أن الشهر
العربي يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن
الاعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية
لقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته" وعنى بالرؤية أول ظهور القمر
بعد السؤال. واختلفوا في الحكم إذا غم الشهر
ولم تمكن الرؤية وفي وقت الرؤية المعتبر. فأما
اختلافهم إذا غم الهلال فإن أن الحكم في ذلك
أن تكمل العدة ثلاثين فإن كان الذي غم هلال
أول الشهر عن الشهر الذي قبله ثلاثين يوما
وكان أول رمضان الحادي والثلاثين وإن كان الذي
غم هلال آخر الشهر صام الناس ثلاثين يوما.
وذهب ابن عمر إلى أنه إن كان المغمى عليه هلال
أول الشهر صيم اليوم الثاني وهو الذي يعرف
بيوم الشك. وروي عن بعض السلف أنه إذا أغمي
الهلال رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس وهو
مذهب مطرف بن الشخير وهو من كبار التابعين.
وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان
مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين
له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم
فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه. وسبب اختلافهم
الإجمال الذي في قوله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فاقدروا له" فذهب الجمهور إلى أن تأويله
أكملوا العدة ثلاثين. ومنهم من رأى أن معنى
التقدير له هو عده بالحساب. ومنهم من رأى أن
معنى ذلك أن يصبح المرء صائما وهو مذهب ابن
عمر كما ذكرنا وفيه بعد في اللفظ. وإنما صار
الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس
الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام: "فإن غم
عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وذلك مجمل وهذا
مفسر فوجب أن يحمل المجمل على المفسر وهي
طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين فإنهم ليس
عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا فمذهب
الجمهور في هذا لائح والله أعلم. وأما
اختلافهم في اعتبار وقت الرؤية فإنهم اتفقوا
على أنه إذا رؤي من العشي أن الشهر من اليوم
الثاني واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار
أعني أول ما رؤي فمذهب الجمهور أن القمر في
أول وقت رئي من النهار أنه لليوم المستقبل
كحلم رؤيته بالعشي وبهذا القول قال مالك
والشافعي
(1/284)
وأبو حنيفة
وجمهور أصحابهم. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي
حنيفة والثوري وابن حبيب من أصحاب مالك: إذا
رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن
رؤي بعد الزوال فهو للآتية. وسبب اختلافهم ترك
اعتبار التجربة فيما سبيله التجربة والرجوع
إلى الأخبار في ذلك وليس في ذلك أثر عن النبي
عليه الصلاة والسلام يرجع إليه لكن روي عن عمر
رضي الله عنه أثران: أحدهما عام والآخر مفسر
فذهب قوم إلى العام وذهب قوم إلى المفسر فأما
العام فما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن
سلمة قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن
الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال
نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه
بالأمس. وأما الخاص فما روى الثوري عنه أنه
بلغ عمر بن الخطاب أن قوما رأوا الهلال بعد
الزوال فأفطروا فكتب إليهم يلومهم وقال: إذا
رأيتم الهلال نهارا قبل الزوال فأفطروا وإذا
رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. قال القاضي:
الذي يقتضي القياس والتجربة أن القمر لا يرى
والشمس بعد لم تغب إلا وهو بعيد منها لأنه
حينئذ يكون أكبر من قوس الرؤية وإن كان يختلف
في الكبر والصغر فبعيد والله أعلم أن يبلغ من
الكبر أن يرى والشمس بعد لم تغب ولكن المعتمد
في ذلك التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل
الزوال ولا بعده وإنما المعتبر في ذلك مغيب
الشمس أو لا مغيبها. وأما اختلافهم في حصول
العلم بالرؤية فإن له طريقين: أحدهما الحس
والآخر الخبر فأما طريق الحس فإن العلماء
أجمعوا على أن من أبصر هلال الصوم وحده أن
عليه أن يصوم إلا عطاء بن أبي رباح فإنه قال:
لا يصوم إلا برؤية غيره معه واختلفوا هل يفطر
برؤيته وحده؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى
أنه لا يفطر. وقال الشافعي: يفطر وبه قال أبو
ثور وهذا لا معنى له فإن النبي عليه الصلاة
والسلام قد أوجب الصوم والفطر للرؤية والرؤية
إنما تكون بالحس ولولا الإجماع على الصيام
بالخبر عن الرؤية لبعد وجوب الصيام بالخبر
لظاهر هذا الحديث وإنما فرق من فرق بين هلال
الصوم والفطر لمكان سد الذريعة أن لا يدعي
الفساق أنهم رأوا الهلال فيفطرون وهم بعد لم
يروه ولذلك قال الشافعي: إن خاف التهمة أمسك
عن الأكل والشرب واعتقد الفطر وشذ مالك فقال:
من أفطر وقد
(1/285)
رأى الهلال
وحده فعليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة:
عليه القضاء فقط. وأما طريق الخبر فإنهم
اختلفوا في عدد المخبرين الذين يجب قبول خبرهم
عن الرؤية في صفتهم. فأما مالك فقال: إنه لا
يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين
عدلين. وقال الشافعي في رواية المزني: إنه
يصام بشهادة رجل واحد على الرؤية ولا يفطر
بأقل من شهادة رجلين. وقال أبو حنيفة: إن كانت
السماء مغيمة قبل واحد وإن كانت صاحية بمصر
كبير لم يقبل إلا شهادة الجم الغفير. وروي عنه
أنه تقبل شهادة عدلين إذا كانت السماء مصحية.
وقد روي عن مالك أنه لا تقبل شهادة الشاهدين
إلا إذا كانت السماء مغيمة وأجمعوا على أنه لا
تقبل في الفطر إلا اثنان إلا أبا ثور فإنه لم
يفرق في ذلك بين الصوم والفطر كما فرق
الشافعي. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا
الباب وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب
الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا
يشترط فيها العدد. أما الآثار فمن ذلك ما
أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن زيد بن
الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه
فقال: إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين
فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" ومنها حديث
ابن عباس أنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال الليلة
فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
عبده ورسوله؟" قال: نعم قال: "يا بلال أذن في
الناس فليصوموا غدا" خرجه الترمذي قال: وفي
إسناده خلاف لأنه رواه جماعة مرسلا. ومنها
حديث ربعي بن خراش خرجه أبو داود عن ربعي بن
خراش عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: كان الناس في آخر يوم من رمضان فقام
أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم
لأهل الهلال أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم الناس أن يفطروا وأن يعودوا إلى
المصلى فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الترجيح
ومذهب الجمع فالشافعي جمع بين حديث ابن عباس
وحديث ربعي بن خراش على ظاهرهما,
(1/286)
فأوجب الصوم
بشهادة واحد والفطر باثنين ومالك رجح حديث عبد
الرحمن بن زيد لمكان القياس: أعني تشبيه ذلك
بالشهادة في الحقوق ويشبه أن يكون أبو ثور لم
ير تعارضا بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن
خراش وذلك أن الذي في حديث ربعي ابن خراش أنه
قضى بشهادة اثنين وفي حديث ابن عباس أنه قضى
بشهادة واحد وذلك مما يدل على جواز الأمرين
جميعا لا أن ذلك تعارض ولا أن الفضاء الأول
مختص بالصوم والثاني بالفطر فإن القول بهذا
إنما ينبني على توهم التعارض وكذلك يشبه أن لا
يكون تعارض بين حديث عبد الرحمن بن زيد وبين
حديث ابن عباس إلا بدليل الخطاب وهو ضعيف إذا
عارضه النص فقد نرى أن قول أبي ثور على شذوذه
هو أبين مع أن تشبيه الرائي بالراوي هو أمثل
من تشبيهه بالشاهد لأن الشهادة إما أن يقول إن
اشتراط العدد فيها عبادة غير معللة فلا يجوز
أن يقاس عليها وإما أن يقول إن اشتراط العدد
فيها لموضع التنازع الذي في الحقوق والشبهة
التي تعرض من قبل قول أحد الخصمين فاشترط فيها
العدد وليكون الظن أغلب والميل إلى حجة أحد
الشخصين أقوى ولم يتعد بذلك الاثنين لئلا يعسر
قيام الشهادة فتبطل الحقوق وليس في رؤية القمر
شبهة من مخالف توجب الاستظهار بالعدد ويشبه أن
يكون الشافعي إنما فرق بين هلال الفطر وهلال
الصوم للتهمة التي تعرض للناس في هلال الفطر
ولا تعرض في هلال الصوم ومذهب أبي بكر بن
المنذر هو مذهب أبي ثور وأحسبه هو مذهب أهل
الظاهر وقد احتج أبو بكر بن المنذر لهذا
الحديث بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر
والإمساك عن الأكل بقول واحد فوجب أن يكون
الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه إذ كلاهما
علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم وإذا
قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره
فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد؟ أعني هل يجب
على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك
برؤية بلد آخر أم لكل بلد رؤية؟ فيه خلاف فأما
مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه
إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا
الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه
وصامه غيرهم وبه قال الشافعي وأحمد. وروى
المدنيون عن مالك أن الرؤية لا أفطر بالخبر
عند غير أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية,
(1/287)
الفطر
معرفة المفَطِّرات و المفطرين وأحكامهم
...
القسم الثاني من الصوم المفروض
وهو الكلام في الفطر وأحكامه والمفطرون في
الشرع على ثلاثة أقسام: وصنف يجوز له الفطر
والصوم بإجماع. وصنف يجب عليه الفطر على
اختلاف في ذلك بين المسلمين. وصنف لا يجوز له
الفطر وكل واحد من هؤلاء
(1/294)
تتعلق به أحكام
أما الذين يجوز لهم الأمران. فالمريض باتفاق
والمسافر باختلاف والحامل الكبير. وهذا
التقسيم كله مجمع عليه فأما المسافر فالنظر
فيه في مواضع منها: هل إن صام أجزأه صومه أم
ليس يجزيه؟ وهل إن كان يجزي المسافر صومه
الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟
وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل
ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟ ومتى
يفطر المسافر؟ ومتى يمسك؟ وهل إذا مرض بعض
الشهر له أن ينشىء السفر أم لا؟ ثم إذا أفطر
ما حكمه؟. وأما المريض فالنظر فيه أيضا في
تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم
الفطر.
أما المسألة الأولى : وهي إن صام المريض
والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم
اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه إن صام
وقع صيامه وأجزأه وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا
يجزيه وأن فرضه هو أيام أخر. والسبب في
اختلافهم تردد قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ
مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} بين أن يحمل على الحقيقة فلا
يكون هنالك محذوف أصلا أو يحمل على المجاز
فيكون التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر وهذا
الحذف في الكلام هو أهل صناعة الكلام بلحن
الخطاب فمن حمل الآية على الحقيقة ولم يحملها
على المجاز قال: إن فرض المسافر عدة من أيام
أخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} ومن قدر فأفطر قال: إنما فرضه عدة من
أيام أخر إذا أفطر وكلا الفريقين يرجح تأويله
بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين وإن كان الأصل
هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل
على حمله على المجاز. أما الجمهور فيحتجون
لمذهبهم بما ثبت من حديث أنس قال: سافرنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم
يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم
وبما ثبت عنه أيضا أنه قال: كان أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيصوم بعضهم
ويفطر بعضهم. وأهل الظاهر يحتجون لمذهبهم بما
ثبت عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى
بلغ الكديد ثم
(1/295)
أفطر فأفطر
الناس وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وهذا
يدل على نسخ الصوم. قال أبو عمر: والحجة على
أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام
أجزأه صومه.
وأما المسألة الثانية : وهي هل الصوم أفضل أو
الفطر؟ إذا قلنا إنه من أهل الفطر على مذهب
الجمهور فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة
مذاهب: فبعضهم رأى أن الصوم أفضل وممن قال
بهذا القول مالك وأبو حنيفة. وبعضهم رأى أن
الفطر أفضل وممن قال بهذا القول أحمد وجماعة.
وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير وأنه ليس
أحدهما أفضل. والسبب في اختلافهم معارضة
المفهوم من ذلك لظاهر بعض المنقول ومعارضة
المنقول بعضه لبعض وذلك أن المعنى المعقول من
إجازة الفطر للصائم إنما هو الرخصة له لمكان
رفع المشقة عنه وما كان رخصة فالأفضل ترك
الرخصة ويشهد لهذا حديث حمزة عن عمرو الأسلمي
خرجه مسلم أنه قال يا رسول الله أجد في قوة
على الصيام في السفر فهل علي من جناح؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من
الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا
جناح عليه" وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة
والسلام: "ليس من البر أن تصوم في السفر" ومن
أن آخر فعله عليه الصلاة والسلام كان الفطر
فيوهم أن الفطر أفضل لكن الفطر لما كان ليس
حكما وإنما هو من فعل المباح عسر على الجمهور
أن يضعوا المباح أفضل من الحكم. وأما من خير
في ذلك فلمكان حديث عائشة قالت: سأل حمزة بن
عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الصيام في السفر فقال: "إن شئت فصم وإن شئت
فأفطر" خرجه مسلم.
وأما المسألة الثالثة : وهي هل الفطر الجائز
للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود.
فإن العلماء اختلفوا فيها فذهب الجمهور إلى
أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة
وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب
قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم
السفر وهم أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم
معارضة ظاهر اللفظ للمعنى وذلك أن ظاهر
(1/296)
اللفظ أن كل من
ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله
تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وأما
المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو
المشقة ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على
الحد في ذلك وجب أن يقاس في ذلك على الحد في
تقصير الصلاة. وأما المرض الذي يجوز فيه الفطر
فإنهم اختلفوا فيه أيضا فذهب قوم إلى أنه
المرض الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرورة وبه
قال مالك. وذهب قوم إلى أنه المرض الغالب وبه
قال أحمد. وقال قوم إذا انطلق عليه اسم المريض
أفطر. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في
حد السفر.
وأما المسألة الخامسة : وهي متى يفطر المسافر
ومتى يمسك فإن قوما قالوا: يفطر يومه الذي خرج
فيه مسافرا وبه قال الشعبي والحسن وأحمد.
وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك وبه قال فقهاء
الأمصار. واستحبت جماعة العلماء لمن علم أنه
يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائما
وبعضهم في ذلك أكثر تشديدا من بعض وكلهم لم
يوجبوا على من دخل مفطرا كفارة. واختلفوا فيمن
دخل وقد ذهب بعض النهار فذهب مالك و الشافعي
إلى أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: يكف عن الأكل وكذلك الحائض عنده تطهر
تكف عن الأكل. والسبب في اختلافهم في الوقت
الذي يفطر فيه المسافر هو معارضة الأثر للنظر.
أما الأثر فإنه ثبت من حديث ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صام حتى بلغ الكديد
ثم أفطر وأفطر الناس معه وظاهر هذا أنه أفطر
بعد أن بيت الصوم. وأما الناس فلا يشك أنهم
أفطروا بعد تبييتهم الصوم وفي هذا المعنى أيضا
حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة فسار حتى بلغ
كراع الغميم وصام الناس ثم دعا بقدح من ماء
فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد
ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة
أولئك العصاة" وخرج أبو داود عن أبي نضرة
الغفاري أنه لما تجاوز البيوت دعا بالسفرة قال
جعفر راوي الحديث:
(1/297)
فقال: ألست تؤم
البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ قال جعفر: فأكل. وأما النظر
فلما كان المسافر لا يجوز له إلا أن يبيت
الصوم ليلة سفره لم يجز له أن يبطل صومه وقد
بيته لقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمَالَكُمْ} وأما اختلافهم في إمساك الداخل
في أثناء النهار عن الأكل أو لا إمساكه.
فالسبب فيه اختلافهم في تشبيه من يطرأ عليه في
يوم شك أفطر فيه الثبوت أنه من رمضان فمن شبهه
به قال يمسك عن الأكل ومن لم يشبهه به قال لا
يمسك عن الأكل لأن الأول أكل موضع الجهل وهذا
أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل. والحنفية تقول:
كلاهما سببان موجبان للإمساك عن الأكل بعد
إباحة الأكل.
وأما المسألة السادسة : وهي هل يجوز للصائم في
رمضان أن ينشىء سفرا ثم لا يصوم فيه فإن
الجمهور على أنه يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم
وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز
أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر.
والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله
تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن
من شهد بعض الشهر فالواجب عليه أن يصومه كله
ويحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن
يصوم ذلك البعض الذي شهده وذلك أنه لما كان
المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله
كان من شهد بعضه فهو يصوم بعضه ويؤيد تأويل
الجمهور إنشاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
السفر في رمضان. وأما حكم المسافر إذا أفطر
فهو القضاء باتفاق وكذلك المريض لقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ما عدا
المريض بإغماء أو جنون فإنهم اختلفوا في وجوب
القضاء عليه وفقهاء الأمصار على وجوبه على
المغمى عليه واختلفوا في المجنون ومذهب مالك
وجوب القضاء عليه وفيه ضعف لقوله عليه الصلاة
والسلام: "وعن المجنون حتى يفيق" والذين
أوجبوا عليهما القضاء اختلفوا في كون الإغماء
والجنون مفسدا للصوم فقوم قالوا: إنه مفسد.
وقوم قالوا: ليس بمفسد. وقوم فرقوا بين أن
يكون أغمي عليه بعد الفجر أو قبل الفجر. وقوم
قالوا: إن أغمي عليه بعد مضي أكثر النهار
(1/298)
أجزأه وإن أغمي
عليه في أول النهار قضى وهو مذهب مالك وهذا
كله فيه ضعف فإن الإغماء والجنون يرتفع بها
التكليف وبخاصة الجنون وإذا ارتفع التكليف لم
يوصف بمفطر ولا صائم فكيف يقال في الصفة التي
ترفع التكليف إنها مبطلة للصوم إلا كما يقال
في الميت أو فيمن لا يصح منه العمل إنه قد بطل
صومه وعمله. ويتعلق بقضاء المسافر والمريض
مسائل: منها هل يقضيان ما عليهما متتابعا أم
لا؟ ومنها ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير
عذر إلى أن يدخل رمضان آخر ومنها إذا ماتا ولم
يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟.
أما المسألة الأولى : فإن بعضهم أوجب أن يكون
القضاء متتابعا على صفة الأداء وبعضهم لم يوجب
ذلك وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب
التتابع والجماعة على ترك إيجاب التتابع. وسبب
اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس وذلك أن
القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء
أصل ذلك الصلاة والحج. أما ظاهر قوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فإنما يقتضي
إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع. وروي عن
عائشة أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر
متتابعات فسقطت متتابعات. وأما إذا أخر القضاء
حتى دخل رمضان آخر فقال قوم: يجب عليه بعد
صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة وبه قال
مالك والشافعي وأحمد. وقال قوم: لا كفارة عليه
وبه قال الحسن البصري وإبراهيم النخعي. وسبب
اختلافهم هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم
لا؟ فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: إنما
عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات
قال: عليه الكفارة قياسا على من أفطر متعمدا
لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فبترك
القضاء زمان القضاء وأما ذلك فبالأكل في يوم
لا يجوز فيه الأكل وإنما كان يكون القياس
مستندا لو ثبت أن للقضاء زمانا محدودا بنص من
الشارع لأن أزمنة الأداء هي محدودة في الشرع
وقد شذ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى
يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه وهذا مخالف
للنص. وأما إذا مات وعليه صوم فإن قوما قالوا:
لا يصوم أحد عن أحد. وقوم قالوا: يصوم عنه
وليه والذين لم يوجبوا الصوم قالوا: يطعم عنه
وليه وبه قال الشافعي. وقال
(1/299)
بعضهم: لا صيام
ولا سنان إلا أن يوصي به وهو قول مالك. وقال
أبو حنيفة يصوم فإن لم يستطع أطعم وفرق قوم
بين النذر والصيام المفروض فقالوا يصوم عنه
وليه في النذر ولا يصوم عنه في الصيام
المفروض. والسبب في اختلافهم معارضة القياس
للأثر وذلك أنه ثبت عنه من حديث عائشة أنه قال
عليه الصلاة والسلام: "من مات وعليه صيام صام
عنه وليه" خرجه مسلم وثبت عنه أيضا من حديث
ابن عباس أنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت
وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: "لو كان
على أمك دين أكنت قاضيته عنها؟" قال نعم قال:
"فدين الله أحق بالقضاء" فمن رأى أن الأصول
تعارضه وذلك أنه كما لا يصلي أحد عن أحد ولا
يتوضأ أحد عن أحد كذلك لا يصوم أحد عن أحد
قال: لا صيام على الولي ومن أخذ بالنص في ذلك
قال: بإيجاب الصيام عليه ومن لم يأخذ بالنص في
ذلك قصر الوجوب على النذر ومن قاس رمضان عليه
قال: يصوم عنه في رمضان. وأما من أوجب الإطعام
فمصيرا إلى قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الآية. ومن خير في ذلك
فجمعا بين الآية والأثر فهذه هي أحكام المسافر
والمريض من الصنف الذين يجوز لهم الفطر
والصوم. وأما باقي هذا الصنف وهو المرضع
والحامل والشيخ الكبير فإن فيه مسألتين
مشهورتين: إحداهما الحامل والمرضع إذا أفطرتا
ماذا عليهما؟ وهذه المسألة للعلماء فيها أربعة
مذاهب: أحدها أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما
وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس. والقول الثاني
أنهما يقضيان فقط ولا سنان عليهما وهو مقابل
الأول وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد
وأبو ثور. والثالث أنهما يقضيان ويطعمان وبه
قال الشافعي. والقول الرابع أن الحامل تقضي
ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم وسبب اختلافهم
تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض
فمن شبههما بالمريض قال: عليهما القضاء فقط
ومن شبههما بالذي يجهده الصوم قال: عليهما
الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} الآية. وأما من جمع عليهما الأمرين
فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها
فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه
المريض
(1/300)
وعليهما الفدية
من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام
ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح لكن يضعف
هذا فإن الصحيح لا يباح له الفطر. ومن فرق بين
الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم
المرضع مجموعا من حكم المريض وحكم الذي يجهده
الصوم أو شبهها بالصحيح ومن أفرد لهما أحد
الحكمين أولى والله أعلم ممن جمع كما أن من
أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام
فقط لكون القراءة غير متواترة فتأمل هذا فإنه
بين. وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا
يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما
أن يفطرا واختلفوا فيما عليهما إذا أفطرا فقال
قوم: عليهما الإطعام. وقال قوم: ليس عليهما
سنان وبالأول قال الشافعي وأبو حنيفة وبالثاني
قال مالك ألا أنه استحبه. وأكثر من رأى
الإطعام عليهما يقول مد عن كل يوم وقيل إن حفن
حفنات كما كان أنس يصنع أجزأه. وسبب اختلافهم
اختلافهم في القراءة التي ذكرنا أعني قراءة من
قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} فمن
أوجب العمل بالقراءة التي لم تثبت في المصحف
إذا وردت من طريق الآحاد العدول قال: الشيخ
منهم ومن لم يوجب بها عملا جعل حكمه حكم
المريض الذي يتمادى به المرض حتى يموت فهذه هي
أحكام الصنف من الناس الذين يجوز لهم الفطر
أعني أحكامهم المشهورة التي أكثرها منطوق به
أو لها تعلق بالمنطوق به في الصنف الذي يجوز
له الفطر. وأما النظر في أحكام الصنف الذي لا
يجوز له الفطر إذا أفطر فإن النظر في ذلك
يتوجه إلى من يفطر بجماع وإلى من يفطر بغير
جماع وإلى من يفطر بأمر متفق عليه وإلى من
يفطر بأمر مختلف عليه أعني بشبهة أو بغير شبهة
وكل واحد من هذين إما أن يكون على طريق السهو
أو طريق العمد أو طريق الاختيار أو طريق
الإكراه. أما من أفطر بجماع متعمدا في رمضان
فإن الجمهور على أن الواجب عليه القضاء
والكفارة لما ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟"
قال وقعت على امرأتي في رمضان قال: "هل تجد ما
تعتق به رقبة؟" قال: لا قال: "فهل تستطيع أن
تصوم
(1/301)
الشهرين
متتابعين؟" قال: لا قال: "فهل تجد ما تطعم به
ستين مسكينا؟" قال: لا ثم جلس فأتي النبي صلى
الله عليه وسلم بفرق فيه تمر فقال: "تصدق
بهذا" فقال: أعلى أفقر مني؟ فما بين لابتتها
أهل بيت أحوج إليه منه قال: فضحك النبي صلى
الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "اذهب
فأطعمه أهلك" واختلفوا من ذلك في مواضع: منها
هل الإفطار متعمدا بالأكل والشرب حكمه حكم
الإفطار بالجماع في القضاء والكفارة أم لا؟
ومنها إذا جامع ساهيا ماذا عليه؟ ومنها ماذا
على المرأة إذا لم تكن مكرهة؟ ومنها هل
الكفارة واجبة فيه مترتبة أو على التخيير؟
ومنها كم المقدار الذي يجب أن يعطى كل مسكين
إذا كفر بالإطعام؟ ومنها هل الكفارة متكررة
بتكرر الجماع أم لا؟ ومنها إذا لزمه الإطعام
وكان معسرا هل يلزمه الإطعام إذا أثرى أم لا؟
وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع
إلا القضاء فقط إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث
وإما لأنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث
لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق
أو الإطعام أن يصوم ولا بد إذا كان صحيحا على
ظاهر الحديث وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه
الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه
الصيام أن لو كان مريضا وكذلك شذ قوم أيضا
فقالوا: ليس عليه الكفارة فقط إذ ليس في
الحديث ذكر القضاء والقضاء الواجب بالكتاب
إنما هو لمن أفطر ممن يجوز له الفطر أو ممن لا
يجوز له الصوم على الاختلاف الذي قررناه قبل
في ذلك فأما من أفطر متعمدا فليس في إيجاب
القضاء عليه نص فيلحق في قضاء المتعمد الخلاف
الذي لحق في قضاء تارك الصلاة عمدا حتى خرج
وقتها إلا أن الخلاف في هاتين المسألتين شاذ.
وأما الخلاف المشهور فهو في المسائل التي
عددناها قبل.
وأما المسألة الأولى : وهي هل تجب الكفارة
بالإفطار بالأكل والشرب متعمدا فإن مالكا
وأصحابه وأبا حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة
ذهبوا إلى أن من أفطر متعمدا بأكل أو شرب أن
عليه القضاء والكفارة المذكورة في هذا الحديث.
وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن
الكفارة إنما أفطر في الإفطار من الجماع فقط.
والسبب في اختلافهم اختلافهم في جواز قياس
(1/302)
المفطر بالأكل
والشرب وعلى المفطر بالجماع فمن رأى أن شبههما
فيه واحد وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما
واحدا. ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابا
لانتهاك الحرمة فإنها أشد مناسبة للجماع منها
لغيره وذلك أن العقاب المقصود به الردع قد
يوضع لما إليه النفس أميل وهو لها أغلب من
الجنايات وإن كانت الجناية متقاربة إذ كان
المقصود من ذلك التزام الناس الشرائع وأن
يكونوا أخيارا عدولا كما قال تعالى: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} قال هذه الكفارة المغلظة خاصة
بالجماع وهذا إذا كان ممن يرى القياس. وأما من
لا يرى القياس فأمره بين أنه ليس يعدي حكم
الجماع إلى الأكل والشرب. وأما ما روى مالك في
الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى
الله عليه وسلم بالكفارة المذكورة فليس بحجة
لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل والمجمل ليس له
عموم فيؤخذ به لكن هذا قول على أن الراوي كان
يرى أن الكفارة كانت لموضع الإفطار ولولا ذلك
لما عبر بهذا اللفظ ولذكر النوع من الفطر الذي
أفطر به.
وأما المسألة الثانية : وهو إذا جامع ناسيا
لصومه فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان: لا قضاء
عليه ولا كفارة. وقال مالك: عليه القضاء دون
الكفاءة. وقال أحمد وأهل الظاهر: عليه القضاء
والكفارة. وسبب اختلافهم في قضاء الناسي
معارضة ظاهر الأثر في ذلك القياس. وأما القياس
فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة فمن شبهه
بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص
على ناسي الصلاة. وأما الأثر المعارض بظاهره
لهذا القياس فهو ما أخرجه البخاري ومسلم عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم
صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وهذا الأثر يشهد
به عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ومن
هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت
فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك هل عليه قضاء أم
لا؟ وذلك أن هذا مخطئ والمخطئ والناسي حكمهما
(1/303)
واحد فكيفما
قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين
والله أعلم. وذلك أنا إن قلنا إن الأصل هو أن
لا يلزم الناس قضاء حتى يدل الدليل على ذلك
وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم
إذ لا دليل ههنا على ذلك بخلاف الأمر في
الصلاة وإن قلنا إن الأصل هو إيجاب القضاء حتى
يدل الدليل على رفعه عن الناسي فقد دل الدليل
في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي اللهم
إلا أن يقول قائل: إن الدليل الذي استثنى ناسي
الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن
تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة
لكن إيجاب القضاء بالقياس فيه ضعف وإنما
القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد. وأما من
أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف
فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بين في
الشرع والكفارة من أنواع العقوبات وإنما
أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في
الحديث أعني من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك
عمدا ولا نسيانا لكن من أوجب الكفارة على قاتل
الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا مع أن النص
إنما جاء في المتعمد وقد كان يجب على أهل
الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه وهو إيجاب
الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على
إيجابها على الناسي أو يأخذوا بعموم قوله عليه
الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"
حتى يدل الدليل على التخصيص ولكن كلا الفريقين
لم يلزم أصله وليس في مجمل ما نقل من حديث
الأعرابي حجة. ومن قال من أهل الأصول إن ترك
التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة
العموم في الأقوال فضعيف فإن الشارع لم يحكم
قط إلا على مفصل وإنما الإجمال في حقنا.
وأما المسألة الثالثة : وهو اختلافهم في وجوب
الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع فإن
أبا حنيفة وأصحابه ومالكا وأصحابه أوجبوا
عليها الكفارة وقال الشافعي وداود: لا كفارة
عليها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر
للقياس وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر
المرأة في الحديث بكفارة والقياس أنها مثل
الرجل إذ كان كلاهما مكلفا.
وأما المسألة الرابعة : وهي هل هذه الكفارة
مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير وأعني
بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من
الواجبات المخيرة
(1/304)
إلا بعد العجز
عن الذي قبله وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء
ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا
اختلفوا في ذلك فقال الشافعي وأبو حنيفة
والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة فالعتق
أولا فإن لم يجد فالصيام فإن لم يستطع
فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى
عنه ابن القاسم مع ذلك أنه يستحب الإطعام أكثر
من العتق ومن الصيام. وسبب اختلافهم في وجوب
الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة
وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها
على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة
والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا وظاهر ما
رواه مالك من أن رجلا أفطر في رمضان فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة أو
يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا أنها
على التخيير إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب
التخيير وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب إذ
كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات
الأقوال. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك
فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة
اليمين لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة
اليمين وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي.
وأما استحباب مالك الابتداء بالإطعام فمخالف
لظواهر الآثار وإنما ذهب إلى هذا من طريق
القياس لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام
في مواضع شتى من الشرع وأنه مناسب له أكثر من
غيره بدليل قراءة من قرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات
وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه وهذا كأنه من
باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على
الأثر الذي لا تشهد له الأصول.
وأما المسألة الخامسة : وهو اختلافهم في مقدار
الإطعام فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا:
يطعم لكل مسكين مدا بمد النبي صلى الله عليه
وسلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزي أقل من
مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك صاع
لكل مسكين. وسبب اختلافهم معارضة القياس
للأثر. أما القياس فتشبيه هذه الفدية بفدية
الأذى المنصوص عليها. وأما الأثر فما روي في
بعض طرق حديث الكفارة أن الفرق كان فيه خمسة
عشر صاعا لكن ليس يدل كونه فيه خمسة عشر صاعا
على الواجب من ذلك لكل مسكين
(1/305)
إلا دلالة
ضعيفة وإنما يدل على أن بدل الصيام في هذه
الكفارة هو هذا القدر.
وأما المسألة السادسة : وهي تكرر الكفارة
بتكرر الإفطار فإنهم أجمعوا على أن من وطئ في
يوم رمضان ثم كفر ثم وطئ في يوم آخر أن عليه
كفارة أخرى وأجمعوا على أنه من وطئ مرارا في
يوم واحد أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة.
واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر
حتى وطئ في يوم ثان فقال مالك والشافعي
وجماعة: عليه لكل يوم كفارة وقال أبو حنيفة
وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن
الجماع الأول. والسبب في اختلافهم تشبيه
الكفارات بالحدود فمن شبهها بالحدود قال:
كفارة واحدة تجزي في ذلك عن أفعال كثيرة كما
يلزم الزاني جلد واحد وإن زنى ألف مرة إذا لم
يحد لواحد منها ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل
واحد من الأيام حكما منفردا بنفسه في هتك
الصوم فيه أوجب في كل يوم كفارة. قالوا:
والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة
والحدود زجر محض.
وأما المسألة السابعة : وهي هل يجب عليه
الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب
فإن الأوزاعي قال: لا شيء عليه إن كان معسرا.
وأما الشافعي فتردد في ذلك. والسبب في
اختلافهم في ذلك أنه حكم مسكوت عنه فيحتمل أن
يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت
الإثراء ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا
عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام فهذه أحكام
من أفطر متعمدا في رمضان مما أجمع على أنه
مفطر. وأما من أفطر مما هو مختلف فيه فإن بعض
من أوجب فيه الفطر أوجب فيه القضاء والكفارة
وبعضهم أوجب فيه القضاء فقط مثل من رأى الفطر
من الحجامة ومن الاستقاء ومن بلع الحصاة ومثل
المسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس
له أن يفطر في ذلك اليوم فإن مالكا أوجب فيه
القضاء والكفارة وخالفه في ذلك سائر فقهاء
الأمصار وجمهور أصحابه. وأما من أوجب القضاء
والكفارة على من استقاء فأبو ثور والأوزاعي
وسائر من يرى أن الاستقاء مفطر لا يوجبون إلا
القضاء فقط. والذي أوجب القضاء والكفارة في
الاحتجام من القائلين بأن الحجامة تفطر هو
عطاء وحده. وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء
فيه اختلاف فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر
فمن غلب أحد
(1/306)
الشبهين أوجب
له ذلك الحكم وهذان الشبهان الموجودان فيه هما
اللذان أوجبا فيه الخلاف أعني هل هو مفطر أو
غير مفطر ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة
عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط نزع أبو
حنيفة إلى أنه من أفطر متعمدا الفطر ثم طرأ
عليه في ذلك اليوم سبب مبيح للفطر أنه لا
كفارة عليه كالمرأة تفطر عمدا ثم تحيض باقي
النهار وكالصحيح يفطر عمدا ثم يمرض والحاضر
يفطر ثم يسافر فمن اعتبر الأمر في نفسه أعني
أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب
عليهم كفارة وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد كشف
الغيب أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه ومن
اعتبر الاستهانة بالشرع أوجب عليه الكفارة
لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة وهو
مذهب مالك والشافعي. ومن هذا الباب إيجاب مالك
القضاء فقط على من أكل وهو شاك في الفجر
وإيجابه القضاء والكفارة على من أكل وهو شاك
في الغروب على ما تقدم من الفرق بينهما. واتفق
الجمهور على أنه ليس في الفطر عمدا في قضاء
رمضان كفارة لأنه ليس له حرمة زمان الأداء:
أعني رمضان إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء
والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب أن
عليه يومين قياسا على الحج الفاسد. وأجمعوا
على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل
الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يزال
الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور"
وقال: "تسحروا فإن في السحور بركة" وقال عليه
الصلاة والسلام: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل
الكتاب أكلة السحر" وكذلك جمهورهم على أن من
سنن الصوم ومرغباته كف اللسان عن الرفث والخنا
لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الصوم جنة
فإذا أصبح أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن
امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" وذهب أهل الظاهر
إلى أن الرفث يفطر وهو شاذ فهذه مشهورات ما
يتعلق بالصوم المفروض من المسائل وبقي القول
في الصوم المندوب إليه وهو القسم الثاني من
هذا الكتاب.
(1/307)
|