بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب السرقة
والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد وفي العقوبة وفيما تثبت به هذه الجناية.
فأما السرقة.
فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية فإنه أوجب في الخلسة القطع وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا

(2/445)


ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهورة "أنها كانت تستعير الحلي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعها لموضع جحودها".
وبه قال أحمد وإسحاق والحديث حديث عائشة قالت:" كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها فأتى أسامة أهلها فكلموه فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي عليه الصلاة والسلام يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها".
ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول وذلك أن المعار مأمون وأنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز قالوا وفي حديث حذف وهو أنها سرقت مع أنها جحدت ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه قالوا وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده فقال فيه إن المخزومية سرقت قالوا وهذا يدل على أنها فعلت الأمرين جميعا الجحد والسرقة.
وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب.
وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا وسواء أكان حرا أو عبدا ذكرا أو أنثى أو مسلما أو ذميا إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر بن عبد العزيز ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره أعني الحدود التي تتشطر في حق العبيد وهو تشبيه ضعيف.
وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها فمن

(2/446)


أشهرها اشتراط النصاب وذلك أن الجمهور على اشتراطه إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال القطع في قليل المسروق وكثيره لعموم قوله تعالى :{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية.
وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" وبه قال الخوارج وطائفة من.
المتكلمين.
والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع وهم الجمهور اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة وهو قولان أحدهما قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم.
والثاني قول فقهاء العراق.
أما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة وربع دينار من الذهب.
واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة فقال مالك في المشهور تقوم بالدراهم لا بالربع دينار أعني إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا وقال الشافعي الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار.
وأما مالك فالدنانير والدراهم عنده كل واحد منهما معتبر بنفسه.
وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود وبقول مالك المشهور قال أحمد أعني بالتقويم بالدراهم.
وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم وقد قيل في أربعة دراهم وقال عثمان البتي في درهمين.
فعمدة فقهاء الحجاز ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :" تقطع

(2/447)


اليد في ربع دينار فصاعدا ".
وأما عمدة فقهاء العراق فحديث ابن عمر المذكور قالوا ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم وروي ذلك في أحاديث.
وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره.
وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم قالوا وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار.
وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشر درهما والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو والجمع بين حديث ابن عمر.
وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب فهذا هو أحد الشروط المشترطة في القطع.
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا وذلك بأن يخرجوا النصاب من الحرز معا مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب فقال مالك يقطعون جميعا وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وقال أبو حنيفة لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة.
واختلفوا متى يقدر المسروق فقال مالك يوم السرقة وقال أبو حنيفة يوم الحكم عليه بالقطع.
وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز وذلك أن

(2/448)


جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز.
والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الأغلاق والحظائر وما أشبه ذلك وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز.
فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" ومرسل مالك أيضا عن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب.
وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى :{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } الآية.
قالوا فوجب أن تحمل الآية على عمومها إلا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك.
وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه.
وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب.
وقال أبو عمر بن عبد البر أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات.
وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز واختلافهم في الأوعية.
ومثل اتفاقهم على من سرق من بيت دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار واختلافهم في الدار المشتركة فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز تقطع يده إذا أخرج من البيت وقال
أبو يوسف ومحمد لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار.
ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش أو ليس بحرز فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة هو حرز وعلى النباش القطع وبه قال عمر بن عبد العزيز وقال أبو حنيفة لا قطع عليه وكذلك قال سفيان الثوري وروي ذلك عن زيد بن ثابت والحرز عند

(2/449)


مالك بالجملة هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه فمرابط الدواب عنده أحراز وكذلك الأوعية وما على الإنسان من اللباس فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده.
وإذا توسد النائم شيئا فهو له حرز على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس.
ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده وكذلك من المساجد وقد قيل في المذهب إنه إن سرق منها ليلا قطع.
وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز.
واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع وسواء أكان داخل الحرز أو خارجه.
وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف مثل اختلاف المذهب إذا كانا سارقان أحدهما داخل البيت والآخر خارجه فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر فقيل القطع على الخارج المتناول له وقيل لا قطع على واحد منهما وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب.
والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لا انطلاقه.
فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج وقال ابن القاسم يقطع.
( فصل) وأما جنس المسروق فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض منه فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة والأشياء التي أصلها مباحة فإنهم اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه وقال أبو حنيفة لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش.
فعمدة الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب.
وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع في ثمر ولا كثر" وذلك أن هذا الحديث روي هكذا مطلقا من غير زيادة.
وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التي فيه لكل مالك وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه

(2/450)


القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك.
واختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحد مما ليس اليسرى وهذا هو أيضا أحد الشروط المشترطة في المسروق هو في ثلاثة مواضع في جنسه وقدره وشروطه وستأتي هذه المسألة فيما بعد.
واختلفوا من هذا
الباب أعني من النظر في جنس المسروق في المصحف فقال مالك والشافعي يقطع سارقه.
وقال أبو حنيفة لا يقطع.
ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه.
أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال.
واختلفوا من هذا الباب فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام فقال الجمهور يقطع.
وأما إن كان كبيرا يفقه فقال مالك يقطع وقال أبو حنيفة لا يقطع.
واختلفوا في الحر الصغير فعند مالك أن سارقه يقطع ولا يقطع عند أبي حنيفة وهو قول ابن الماجشون من أصحاب مالك.
واتفقوا كما قلنا أن شبهة الملك القوية تدرأ هذا الحد.
واختلفوا فيما هو شبهة يدرأ من ذلك مما لا يدرأ منها فمنها العبد يسرق مال سيده فإن الجمهور من العلماء على أنه لا يقطع وقال أبو ثور يقطع ولم يشترط شرطا وقال أهل الظاهر يقطع إلا أن يأتمنه سيده.
واشترط مالك في الخادم الذي يجب أن يدرأ عنه الحد أن يكون يلي الخدمة لسيده بنفسه والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه.
وبدرء الحد قال عمر رضي الله عنه وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة.
ومنها أحد الزوجين يسرق من مال الآخر فقال مالك إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه وقال الشافعي الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال وقد روي عنه مثل قول مالك واختاره المزني.
ومنها القرابات فمذهب مالك فيها أن لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط لقوله عليه الصلاة والسلام "أنت ومالك لأبيك" ويقطع ما سواهم من القرابات وقال الشافعي لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل يعني الأب والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء وقال أبو حنيفة لا يقطع ذو الرحم المحرمة وقال أبو ثور تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الإجماع.
ومنها اختلافهم فيمن سرق من الغنم أو من بيت المال.
فقال مالك يقطع وقال عبد الملك من أصحابه لا يقطع.
فهذا هو قول في الأشياء التي يجب بها ما يجب في هذه الجناية.

(2/451)


القول في الواجب
وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا أعني الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية والغرم إذا لم يجب القطع.
واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع فقال قوم عليه الغرم مع القطع وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة وقال قوم ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة وفرق مالك وأصحابه فقال إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم.
فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان حق لله وحق للآدمي فاقتضى كل حق.
موجبه وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة.
وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث.
قال أبو عمر لأنه عندهم مقطوع قال وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي.
والكوفيون يقولون إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه.
وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس.
وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل.
أما محل القطع فهو اليد اليمين باتفاق من الكوع وهو الذي عليه الجمهور وقال قوم الأصابع فقط.
فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى ولا يقطع منه غير ذلك.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى.
هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا فقال سفيان

(2/452)


وأبو حنيفة يقف القطع في الرجل وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط وقال مالك والشافعي إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر أعني قول مالك وأبي حنيفة.
فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى :{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط.
وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بعبد سرق فقطع يده اليمنى ثم الثانية فقطع رجله ثم أتي به في الثالثة فقطع يده اليسرى ثم أتي به في الرابعة فقطع رجله" وروي هذا عن حديث جابر بن عبد الله وفيه ثم أخذه الخامسة فقتله إلا أنه منكر عند أهل الحديث ويرده قوله عليه الصلاة والسلام "هن فواحش وفيهن عقوبة" ولم يذكر قتلا.
وحديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع الرجل بعد اليد وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة فإذا ذهب محل القطع سرقة بأن كانت اليد شلاء.
فقيل في المذهب ينتقل القطع إلى اليد اليسرى وقيل إلى الرجل.
واختلف في موضع القطع من القدم.
فقيل يقع من المفصل الذي في أصل الساق وقيل يدخل الكعبان في القطع وقيل لا يدخلان وقيل إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم.
واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الإمام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقوله عليه الصلاة والسلام :" لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد" وقوله لصفوان: " هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟."
واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع فقال مالك والشافعي عليه الحد لأنه قد رفع إلى الإمام وقال أبو حنيفة وطائفة لا حد عليه.
فعمدة الجمهور حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له "إن من لم يهاجر هلك فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة فنام في المسجد وتوسد ردائه

(2/453)


فجاء سارق فأخذ ردائه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال صفوان لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به".
القول فيما تثبت به السرقة
واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين وعلى أنها تثبت بإقرار الحر واختلفوا في إقرار العبد فقال جمهور فقهاء الأمصار إقراره على نفسه موجب لحده وليس يوجب عليه غرما وقال زفر لا يجب بإقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة وإن رجع عن الإقرار إلى شبهة قبل رجوعه وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان هكذا حكى البغداديون عن المذهب وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض وإنما هو لائق بتفريع المذهب.

(2/454)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الحرابة
والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى :{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
وذلك أن هذه الآية عند الجمهور هي في المحاربين.
وقال بعض الناس إنها نزلت في النفر الذين ارتدوا في زمان النبي عليه الصلاة والسلام واستاقوا الإبل فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم.
والصحيح أنها في المحاربين لقوله تعالى:{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وليس عدم القدرة عليهم مشترطة في توبة الكفار فبقي أنها في المحاربين.

(2/454)


الباب الأول في النظر في الحرابة
فأما الحرابة فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر واختلفوا فيمن حارب داخل المصر فقال مالك داخل المصر وخارجه سواء واشترط الشافعي الشوكة وإن كان لم يشترط العدد وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة ولذلك يشترط فيها البعد
عن العمران لأن المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران وكذلك يقول الشافعي إنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة أما غير ذلك فهو عنده اختلاس وقال أبو حنيفة لا تكون المحاربة في المصر.
الباب الثاني في النظر في المحارب
فأما المحارب فهو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة وهو المسلم والذمي.
الباب الثالث فيما يجب على المحارب
وأما ما يجب على المحارب فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين واتفقوا على أن حق الله هو القتل والصلب وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف والنفي على ما نص الله تعالى في آية الحرابة.
واختلفوا في هذه العقوبات هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب فقال مالك إن قتل فلا بد من قتله وليس للإمام تخيير في قطعه ولا في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه.
وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف.
وأما إذا أخاف السبيل فقط فالإمام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه.
ومعنى التخيير عنده أن الأمر راجع في ذلك إلى اجتهاد الإمام فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه لأن القطع لا يرفع ضرره.
وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف وإن كان ليس فيه شيء من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه وهو الضرب والنفي.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة هي مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها

(2/455)


عليه فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل ولا يقطع إلا من أخذ المال ولا ينفي إلا من لم يأخذ المال ولا قتل.
وقال قوم بل الإمام مخير فيهم على الإطلاق وسواء قتل أو لم يقتل أخذ المال أو لم يأخذه.
وسبب الخلاف:
هل حرف "أو" في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم ومالك حمل البعض من المحاربين على التفصيل والبعض على التخيير.
واختلفوا في معنى قوله { أَوْ يُصَلَّبُوا} فقال قوم إنه يصلب حتى يموت جوعا وقال قوم بل معنى ذلك أنه يقتل ويصلب معا وهؤلاء منهم من قال يقتل أولا ثم يصلب وهو قول أشهب وقيل إنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب ومن رأى أنه يقتل في الخشبة فقال بعضهم لا يصلي عليه تنكيلا له وقيل يقف خلف الخشبة ويصلي عليه.
وقال سحنون إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلي عليه.
وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة فيه قولان عنه وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.
وأما قوله {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ } من خلاف فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى.
واختلف إذا لم تكن له اليمنى فقال ابن القاسم تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى وقال أشهب تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى.
واختلف أيضا في قول أو ينفوا من الأرض فقيل إن النفي هو السجن.
وقيل إن النفي هو أن ينفى من بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته وهو قول ابن القاسم عن مالك ويكون بين البلدين أقل ما تقصر فيه الصلاة والقولان عن مالك وبالأول قال أبو حنيفة وقال ابن الماجشون معنى النفي هو فرارهم من الإمام لإقامة الحد عليهم فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا وقال الشافعي أما النفي فغير مقصود ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالاتباع.
وقيل هي عقوبة مقصودة فقيل على هذا ينفي ويسجن دائما وكلها عن الشافعي وقيل معنى أو ينفوا أي من أرض الإسلام إلى أرض الحرب.
والذي يظهر هو أن النفي تغريبهم عن وطنهم لقوله تعالى :{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا

(2/456)


أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} الآية.
فسوى بين النفي والقتل.
وهي عقوبة معروفة بالعادة من العقوبات كالضرب والقتل وكل ما يقال فيه سوى هذا فليس معروفا لا بالعادة ولا بالعرف.
الباب الرابع في مسقط الواجب عنه من التوبة
وأما ما يسقط الحق الواجب عليه فإن الأصل فيه قوله تعالى :{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ.}
واختلف من ذلك في أربعة مواضع أحدها هل تقبل توبته والثاني إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل توبته فإن لأهل العلم في ذلك قولين قول إنه تقبل توبته وهو أشهر لقوله تعالى :{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وقول إنه لا تقبل توبته قال ذلك من قال إن الآية لم تنزل في المحاربين.
وأما صفة التوبة التي تسقط الحكم إنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال أحدها أن توبته تكون بوجهين أحدهما أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام والثاني أن يلقي سلاحه ويأتي الإمام طائعا وهو مذهب ابن القاسم.
والقول الثاني أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه وإن أتى الإمام قبل أن تظهر توبته أقام عليه الحد وهذا هو قول ابن الماجشون.
والقول الثالث إن توبته إنما تكون بالمجيء إلى الإمام وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الإمام وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل إنها تكون بأن يأتي الإمام قبل أن يقدر عليه وقيل إنها تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط وقيل تكون بالأمرين جميعا.
وأما صفة المحارب الذي تقبل توبته فإنهم اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال أحدها أن يلحق بدار الحرب.
والثاني أن تكون له فئة.
والثالث كيفما كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق.
واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الإمام على أن ينزل فقيل له اختلفا لبعض عنه حد الحرابة وقيل لا أمان.
له لأنه إنما يؤمن المشرك.
وأما ما تسقط عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال أحدها أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين وهو قول مالك.والقول الثاني أن

(2/457)


التوبة تسقط عنه حد حقوق الله من الزنا والشراب والقطع في السرقة ويتبع بحقوق الناس من الأموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول.
والثالث أن التوبة ترفع جميع حقوق الله ويؤخذ بالدماء وفي الأموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم.
والقول الرابع أن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده.
الباب الخامس بماذا تثبت هذه الجناية
وأما بماذا يثبت هذا الحد فبالإقرار والشهادة ومالك يقبل شهادة المسلوبين على الذين سلبوهم.
وقال الشافعي تجوز شهادة أهل الرفقة عليهم إذا لم يدعوا لأنفسهم ولا لرفقائهم ما لا أخذوه وتثبت عند مالك الحرابة بشهادة السماع.
فصل في حكم المحاربين على التأويل
وأما حكم المحاربين على التأويل فإن محاربهم الإمام فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة فإن مالكا قال إن للإمام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين.
وأما إذا أسر بعد انقضاء الحرب فإن حكمه حكم البدعي الذي لا يدعو إلى بدعته فهو يستتاب فإن تاب وإلا قتل وقيل يستتاب فإن لم يتب يؤدب ولا يقتل وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل.
واختلف قول مالك في التكفير بالمآل ومعنى التكفير بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم.
وأما ما يلزم هؤلاء من الحقوق إذا ظفر بهم فحكمهم إذا تابوا أن لا يقام عليهم حد الحرابة ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بيده فيرد إلى ربه.
وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصا بمن قتل فقيل يقتل وهو قول عطاء وأصبغ وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك لا يقتل وبه قال الجمهور لأن كل من قاتل على التأويل فليس بكافر بتة أصله قتال الصحابة وكذلك الكافر بالحقيقة هو المكذب لا المتأول.

(2/458)


باب في حكم المرتد
والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب فاتفقوا على أنه يقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل فقال الجمهور تقتل المرأة وقال أبو حنيفة لا تقتل وشبهها بالكافرة الأصلية.
والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك وشذ قوم فقالوا تقتل وإن راجعت الإسلام.
وأما الاستتابة فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما رواه عن عمر.
وقال قوم لا تقبل توبته.
وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب إلا أن يسلم.
وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ فإنه يختلف في حكمه فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لا تبعة عليه في شيء مما فعل في حال ارتداده.
وأما إن كانت حرابته في دار الإسلام فإنه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الإسلام ثم أسلم وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال حكمه حكم المرتد من اعتبر يوم الجناية وقال حكمه حكم المسلم من اعتبر يوم الحكم.
وقد اختلف في هذا الباب في حكم الساحر فقال مالك يقتل كفرا وقال قوم لا يقتل والأصل أن لا يقتل إلا مع الكفر.

(2/459)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الأقضية
وأصول هذا الكتاب تنحصر في ستة أبواب أحدها في معرفة من يجوز قضاؤه.
والثاني في معرفة ما يقضي به.
والثالث في معرفة ما يقضي فيه.
والرابع في معرفة من يقضي عليه أو له.
والخامس في كيفية القضاء.
والسادس في وقت القضاء.

(2/459)


الباب الأول في معرفة من يجوز قضاؤه
والنظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه وفيما يكون به أفضل.
فأما الصفات المشترطة في الجواز.
فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا.
وقد قيل في المذهب إن الفسق يوجب العزل ويمضي ما حكم به.
واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد فقال الشافعي يجب أن يكون من أهل الاجتهاد ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب وقال أبو حنيفة يجوز حكم العامي.
قال القاضي وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة.
وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة فقال الجمهور هي شرط في صحة الحكم وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال قال الطبري يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء قال عبد الوهاب ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها.
ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء قال إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى.
وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته وليس شرطا في جواز ولايته وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما
هي شرط في الجواز فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به.
ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز فهذا إذا ولي القضاء عزل ونفذ ما حكم به إلا أن يكون جورا.
ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات.
ومن شرط القضاء عند مالك أن يكون واحدا والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان الجواز والمنع قال وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده.
وأما فضائل القضاء فكثيرة وقد ذكرها الناس في كتبهم. وقد اختلفوا في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا؟

(2/460)


والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا وقال قوم لا يجوز وعن الشافعي القولان جميعا لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز ولا خلاف في جواز حكم الإمام الأعظم وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه لا خلاف أعرف فيه.
واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام.
فقال مالك يجوز وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجوز وقال أبو حنيفة يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد.
الباب الثاني في معرفة ما يقضي به
وأما فيما يحكم فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة فيه خلاف وكذلك هل يستخلف فيه خلاف في المرض والسفر إلا أن يؤذن له.
وليس ينظر في الجباة ولا في غير ذلك من الولاة وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم.
ومن فروع هذا الباب هل ما يحكم فيه الحاكم يحله للمحكوم له به وإن لم يكن في نفسه حلالا وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا وذلك في الأموال خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام :" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار".
واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق وليس بحق إذ لا يحل حرام ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك هل يحل ذلك أم لا فقال الجمهور الأموال والفروج في ذلك سواء لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا وذلك مثل أن يشهد شاهد زور في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة فقال الجمهور لا تحل له وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم.
وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه تحل له.
فعمدة الجمهور عموم الحديث

(2/461)


المتقدم وشبهة الحنفية أن الحكم باللعان ثابت بالشرع وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب واللعان يوجب الفرقة ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم وكذلك إن كانت هي الكاذبة لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء والجمهور أن الفرقة ههنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب.
الباب الثالث فيما يكون به القضاء
والقضاء يكون بأربع بالشهادة وباليمين وبالنكول وبالإقرار أو بما تركب من هذه ففي هذا الباب أربعة فصول.
الفصل الأول في الشهادة
والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء في الصفة والجنس والعدد.
فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة العدالة والبلوغ والإسلام والحرية ونفي التهمة.
وهذه منها متفق عليها ومنها مختلف فيها.
أما العدالة فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى :{ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ولقوله تعالى :{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.
واختلفوا فيما هي العدالة فقال الجمهور هي صفة زائدة على الإسلام هو أن يكون ملتزما لواجبات الشرع ومستحباته مجتنبا للمحرمات والمكروهات وقال أبو حنيفة يكفي في العدالة ظاهر الإسلام وأن لا تعلم منه جرحة.
وسبب الخلاف:
كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق.
وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ } الآية.
ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته إلا من كان فسقه من قبل القذف فإن أبا حنيفة يقول لا تقبل شهادته وإن تاب.
والجمهور يقولون تقبل.
وسبب الخلاف:
هل يعود الاستثناء في قوله تعالى :{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} إلى

(2/462)


أقرب مذكور إليه أو على الجملة إلا ما خصصه الإجماع وهو أن التوبة لا تسقط عنه الحد وقد تقدم هذا.
وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يشترط حيث تشترط العدالة.
واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الإجماع على أن من شرط الشهادة العدالة ومن شرط العدالة البلوغ ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند مالك وإنما هي قرينة حال.
ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا.
واختلف أصحاب مالك هل تجوز إذا كان بينهم كبير أم لا ولم يختلفوا أنه يشترط فيها العدة المشترطة في الشهادة واختلفوا هل يشترط فيها الذكورة أم لا واختلفوا أيضا هل تجوز في القتل الواقع بينهم ولا عمدة لمالك في هذا إلا أنه مروي عن ابن الزبير.
قال الشافعي فإذا احتج محتج بهذا قيل له إن ابن عباس قد ردها والقرآن يدل على بطلانها وقال بقول مالك ابن أبي ليلى وقوم من التابعين وإجازة مالك لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة.
وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول وأنه لا تجوز شهادة الكافر إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآية.
فقال أبو حنيفة يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله تعالى.
وقال مالك والشافعي لا يجوز ذلك ورأوا أن الآية منسوخة.
وأما الحرية فإن جمهور فقهاء الأمصار على اشتراطها في قبول الشهادة وقال أهل الظاهر تجوز شهادة العبد لأن الأصل إنما هو اشتراط العدالة والعبودية ليس لها تأثير في الرد إلا أن يثبت ذلك من كتاب الله أو سنة أو إجماع وكأن الجمهور رأوا أن العبودية أثر من أثر الكفر فوجب أن يكون لها تأثير في رد الشهادة.
وأما التهمة التي سببها المحبة فإن العلماء أجمعوا على أنها مؤثرة في إسقاط الشهادة.
واختلفوا في رد شهادة العدل بالتهمة لموضع المحبة أو البغضة التي سببها العداوة الدنيوية فقال بردها فقهاء الأمصار إلا أنهم اتفقوا في مواضع على إعمال التهمة وفي مواضع على إسقاطها وفي مواضع اختلفوا فيها

(2/463)


فأعملها بعضهم وأسقطها بعضهم.
فمما اتفقوا عليه رد شهادة الأب لابنه والابن لأبيه وكذلك الأم لابنها وابنها لها.
ومما اختلفوا في تأثير التهمة في شهادتهم شهادة الزوجين أحدهما للآخر فإن مالكا ردها وأبا حنيفة وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن وقال ابن أبي ليلى تقبل شهادة الزوج لزوجه ولا تقبل شهادتها له وبه قال النخعي.
ومما اتفقوا على إسقاط التهمة فيه شهادة الأخ لأخيه ما لم يدفع بذلك عن نفسه عارا على ما قال مالك وما لم يكن منقطعا إلى أخيه يناله بره وصلته ما عدا الأوزاعي فإنه قال لا تجوز.
ومن هذا الباب اختلافهم في قبول شهادة العدو على عدوه فقال مالك والشافعي لا تقبل وقال أبو حنيفة تقبل.
فعمدة الجمهور في رد الشهادة بالتهمة ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين" وما خرجه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام "لا تقبل شهادة بدوي على حضري" لقلة شهود البدوي ما يقع في المصر فهذه هي عمدتهم من طريق السماع.
وأما من طريق المعنى فلموضع التهمة وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية مثل اجتماعهم على أنه لا يرث القاتل المقتول وعلى توريث المبتوتة في المرض وإن كان فيه خلاف.
وأما الطائفة الثانية وهم شريح وأبو ثور وداود فإنهم قالوا تقبل شهادة الأب لابنه فضلا عمن سواه إذا كان الأب عدلا.
وعمدتهم قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} والأمر بالشيء يقتضي إجزاء المأمور به إلا ما خصصه الإجماع من شهادة المرء
لنفسه.
وأما من طريق النظر فإن لهم أن يقولون رد الشهادة بالجملة إنما هو لموضع اتهام الكذب وهذه التهمة إنما اعتملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل فلا تجتمع العدالة مع التهمة.
وأما النظر في العدد والجنس فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا الحسن البصري فإنه قال لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم وهذا ضعيف لقوله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وكل

(2/464)


متفق أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي إلا ابن أبي ليلى فإنه قال لا بد من يمينه.
واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى :{ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.
واختلفوا في قبولهما في الحدود فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات وقال أهل الظاهر تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية وقال أبو حنيفة تقبل في الأموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن.
واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط فقال مالك وابن القاسم وابن وهب يقبل فيه شاهد وامرأتان وقال أشهب وابن الماجشون لا يقبل فيه إلا رجلان.
وأما شهادة النساء مفردات أعني النساء دون الرجال فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء.
ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع فإن أبا حنيفة قال لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء.
والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن فقال مالك يكفي في ذلك امرأتان قيل مع انتشار الأمر وقيل إن لم ينتشر وقال الشافعي ليس يكفي في ذلك أقل من أربع.
لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين واشترط الاثنينية وقال قوم لا يكفي بذلك بأقل من ثلاث وهو قول لا معنى له وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر.
وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع "كيف وقد أرضعتكما" وهذا ظاهره الإنكار ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه.

(2/465)


الفصل الثاني
في الأيمان وأما الأيمان فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى من المدعى عليه إذا لم تكن للمدعي بينة.
واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي فقال مالك يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعى عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه وقال غيره لا تثبت للمدعي باليمين دعوى سواء أكانت في إسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه أو إثبات حق أنكره فيه خصمه.
وسبب اختلافهم:
ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين لأن المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعى عليه بخلافه فمن قال هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا قال لا يثبت باليمين حق ولا يسقط به حق ثبت ومن قال إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة قال إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه مثل دعوى التلف في الوديعة وغير ذلك إن وجد شيء بهذه الصفة ولأولئك أن يقولوا الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق.
وكلهم مجمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة وهي عند مالك بالله الذي لا إله إلا هو لا يزيد عليها ويزيد الشافعي الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية.
وأما هل تغلظ بالمكان فإنهم اختلفوا في ذلك فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان وذلك في قدر مخصوص وكذلك الشافعي.
واختلفوا في القدر فقال مالك إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فلا خلاف أنه يحلف على المنبر وإن كان في غيره

(2/466)


من المساجد ففي ذلك روايتان إحداهما حيث اتفق من المسجد والأخرى عند المنبر.
وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع ولم يحدد.
وقال الشافعي يحلف في المدينة عند المنبر وفي مكة بين الركن والمقام وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا وقال داود يحلف على المنبر في القليل والكثير وقال أبو حنيفة لا تغلظ اليمين بالمكان.
وسبب الخلاف:
هل تغليظ الوارد في الحلف على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا فمن قال إنه يفهم منه ذلك قال لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى ومن قال للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال لا يجب الحلف على المنبر والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار" واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا هو عمل الخلفاء.
قال الشافعي لم يزل
عليه العمل بالمدينة وبمكة.
قالوا ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع.
قالوا وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجردا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يفهم منه وجوب القضاء باليمين وكذلك التغليظ الوارد في المكان.
وقال الفريق الأخر لا يفهم من التغليظ باليمين وجوب الحكم باليمين وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت.
وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان وكذلك بالزمان لأنه قال في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر.
وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه.
فقال مالك والشافعي وأحمد وداود وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة يقضي باليمين مع الشاهد في الأموال وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجمهور أهل العراق:

(2/467)


لا يقضي باليمين مع الشاهد في شيء وبه قال الليث من أصحاب مالك.
وسبب الخلاف:
في هذا الباب تعارض السماع.
أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك بآثار كثيرة منها حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وحديث زيد بن ثابت وحديث جابر إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس ولفظه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" خرجه مسلم ولم يخرجه البخاري.
وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد" لأن العمل عنده بالمراسيل واجب.
وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى :{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} قالوا وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد.
وأما من السنة فما خرجه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال "كان بيني وبين رجل خصومة في شيء فاختصمنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال شاهداك أو يمينه فقلت إذن يحلف ولا يبالي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" قالوا فهذا منه عليه الصلاة والسلام حصر للحكم ونقض لحجة كل واحد من الخصمين ولا يجوز عليه صلى الله عليه وسلم ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي.
والذين قالوا باليمين مع الشاهد هم على أصلهم في أن اليمين هي حجة أقوى المتداعيين شبهة.
وقد قويت هنا حجة المدعي بالشاهد كما قويت في القسامة.
وهؤلاء اختلفوا في القضاء باليمين مع المرأتين.
فقال مالك يجوز لأن المرأتين قد أقيمتا مقام الواحد وقال الشافعي لا يجوز له لأنه إنما أقيمت مقام الواحد مع الشاهد
الواحد لا مفردة ولا مع غيره.
وهل يقضي باليمين في الحدود التي هي حق للناس مثل القذف والجراح فيه قولان في المذهب.

(2/468)


الفصل الثالث
وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك فقال مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شيء بنفس النكول إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا.
وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان وشاهد ويمين وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين وقال ابن أبي ليلى أردها في غير التهمة ولا أردها في التهمة.
وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا قولان.
فعمدة من رأى أن تنقلب اليمين ما رواه مالك من "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد في القسامة على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار".
ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين إما بيمين وشاهد وإما بنكول وشاهد وإما بنكول ويمين أصل ذلك عند اشتراط الاثنينية في الشهادة وليس يقضي عند الشافعي بشاهد ونكول.
وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى قالوا وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه.
فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي.
ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه.
لكن هذا عند الجمهور مع اقتران الشهادة به أعني إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده أعني المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه.
وأنه أشهدهم بثبوته وقد قيل إنه يكتفي فيه بخط القاضي وأنه كان به العمل الأول.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه عليهم.
فقال مالك يجوز.
وقال الشافعي وأبو حنيفة

(2/469)


لا يجوز ولا تصح الشهادة.
واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة أم لا بد في ذلك من شهادة فقال مالك يقضي بذلك وقال الشافعي لا بد من الشاهدين.
وكذلك قال أبو حنيفة وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث وقول الغير أجرى على الأصول.
ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح.
وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد.
الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف.
واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف فقال قوم لا يرد حكمه إذا لم يخرق الإجماع وقال قوم إذا كان شاذا وقال قوم يرد إذا كان حكما بقياس وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس وهو الأعدل إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول والكتاب محتمل والسنة غير متواترة وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق وإلى مالك باختلاف.
واختلف هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار فقال مالك وأكثر أصحابه لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار وبه قال أحمد وشريح وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة للقاضي أن يقضي بعلمه ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعي وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر.
أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال عليه الصلاة والسلام إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فخطب الناس وذكر القصة وقال أرضيتم قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل رسول الله صلى الله

(2/470)


عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد المنبر فخطب ثم قال أرضيتم قالوا نعم" فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه صلى الله عليه وسلم.
وأما من جهة المعنى فالتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي.
وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله.
ومنها ردهم شهادة الأب لابنه وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء.
وأما عمدة من أجاز ذلك أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة بن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" دون أن يسمع قول خصمها.
وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين.
وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا لا يقضي بعلمه في الحدود ويقضي في غير ذلك وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء ولا يقضي بما علمه قبل القضاء.
وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم.
وقال بعض أصحاب مالك يقضي بعلمه في المجلس أعني بما يسمع وإن لم يشهد عنده بذلك وهو قول الجمهور كما قلنا وقول المغيرة هو أجرى على الأصول لأن الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين.
الفصل الرابع
في الإقرار وأما الإقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به وإنما النظر فيمن يجوز إقراره.
ممن لا يجوز.
وإذا كان الإقرار محتملا رفع الخلاف.
أما من يجوز إقراره ممن لا يجوز فقد تقدم.
وأما عدد الإقرارات الموجبة فقد تقدم في باب الحدود ولا خلاف بينهم أن الإقرار مرة واحدة عامل في المال.
وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهو من قبل احتمال اللفظ وأنت إن أحببت أن تقف عليه فمن كتاب الفروع.

(2/471)


الباب الرابع في معرفة من يقضى عليه أو له
وأما على من يقضي ولمن يقضي فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يقضي لمن ليس يتهم عليه.
واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه.
فقال مالك لا يجوز قضاؤه على من لا تجوز عليه شهادته.
وقال قوم يجوز لأن القضاء يكون بأسباب معلومة وليس كذلك الشهادة.
وأما على من يقضى فإنهم اتفقوا على أنه يقضى على المسلم الحاضر.
واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب.
فأما القضاء على الغائب فإن مالكا والشافعي قالا يقضى على الغائب البعيد الغيبة وقال أبو حنيفة لا يقضي على الغائب أصلا وبه قال ابن الماجشون وقد قيل عن مالك لا يقضي في الرباع المستحقة.
فعمدة من رأى القضاء حديث هند المتقدم ولا حجة فيه لأنه لم يكن غائبا عن المصر.
وعمدة من لم ير القضاء قوله عليه الصلاة والسلام "فإنما أقضي له بحسب ما أسمع" وما رواه أبو داود وغيره عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أرسله إلى اليمن " لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر" وأما الحكم على الذمي فإن في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني أنه مخير وبه قال مالك وعن الشافعي القولان والثالث أنه واجب على الإمام أن يحكم بينهم وأن لم يتحاكموا إليه.
فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى :{ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وبهذا تمسك من رأى الخيار ومن أوجبه اعتمد قوله تعالى :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ } ورأى أن هذا ناسخ لآية التخيير.
وأما من رأى وجوب الحكم عليهم وإن لم يترافعوا فإنه احتج بإجماعهم على أن الذمي إذا سرق قطعت يده.
الباب الخامس في كيفية القضاء
وأما كيف يقضي القاضي فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر وأن يبدأ

(2/472)


بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه.
وإن لم يكن له بينة فإن كان في ماله وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى.
وقال مالك لا تجب إلا مع شاهد وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أم لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة اختلفوا في ذلك فقال جمهور فقهاء الأمصار اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس "البينة على المدعي واليمين عل المدعى عليه" وقال مالك لا تجب اليمين إلا بالمخالطة وقال بها السبعة من فقهاء المدينة.
وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوى إلى تعنيت بعضهم بعضا وإذاية بعضهم بعضا ومن هنا لم ير مالك إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه.
والدعوى لا تخلو أن تكون في شيء في الذمة أو في شيء بعينه فإن كانت في الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق.
وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع في عين مثل بيع أو غير ذلك.
وأما إن كانت الدعوى في عين وهو الذي يسمى استحقاقا فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه فقال أبو حنيفة لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر وقال غيره لا تسمع في شيء وقال مالك والشافعي تسمع أعني في أن يشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك.
فعمدة من قال لا تسمع أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه فوجب أن لا ينقلب الأمر وكان ذلك عندهما عبادة.
وسبب الخلاف:
هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشيء المدعي فيه موجودا بيده أم ليست تفيد ذلك فمن قال لا تفيد معنى زائدا قال لا معنى لها ومن قال تفيد اعتبرها.
فإذا قلنا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمر زائدا مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك.
فالحكم عند مالك أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر وقال أبو حنيفة بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة

(2/473)


كما لا تترجح عند مالك بالعدد وقال الأوزاعي تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند مالك كلا بينة يحلف المدعى عليه فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق لأن يد المدعى عليه شاهدة له ولذلك جعل دليله أضعف الدليلين أعني اليمين.
وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه.
وأما إذا كان مالا في الذمة فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند مالك حتى يتبين عدمه إما بطول السجن والبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلي سبيله لقوله تعالى :{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
وقال قوم يؤاجره وبه قال أحمد.
وروي عن عمر بن عبد العزيز وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار ولا خلاف أن البينة إذا جرحها المدعى عليه أن الحكم يسقط إذا كان التجريح قبل الحكم وإن كان بعد الحكم لم ينتقض عند مالك وقال الشافعي ينتقض.
وأما إن رجعت البينة عن الشهادة فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الحكم أو بعده فإن كان قبل الحكم فالأكثر أن الحكم لا يثبت وقال بعض الناس يثبت.
وإن كان بعد الحكم.
فقال مالك يثبت الحكم.
وقال غيره لا يثبت الحكم.
وعند مالك أن الشهداء يضمنون ما أتلفوا
بشهادتهم.
فإن كان مالا ضمنوه على كل حال قال عبد الملك لا يضمنون في الغلط وقال الشافعي لا يضمنون المال.
وإن كان دما فإن ادعوا الغلط ضمنوا الدية.
وإن أقروا أقيد منهم على قول أشهب ولم يقتص منهم على قول ابن القاسم.
الباب السادس في وقت القضاء
وأما متى يقضي فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعي فيه وإزالة اليد عنه إذا كان عينا.
فأما متى يقضي القاضي فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان" ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم لكن إذا قضى في حال من هذه

(2/474)


الأحوال بالصواب فاتفقوا فيما أعلم على أنه ينفذ حكمه ويحتمل أن يقال لا ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه.
وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الأجل والإعذار إليه ومعنى نفوذ هذا هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم فيه اختلاف من قول مالك والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الإحباس والعتق ولا يسمع ذلك.
وقيل لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز وقيل لا يسمع منهما جميعا وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه وهو ما إذا أقر بالعجز.
وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الإعذار وهو إذا لم يرد الذي استحق الشيء من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشيء من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق.
وقال الشافعي يشتريه منه.
فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له وإن عطب في أثناء الحكم ممن ضمانه اختلف في ذلك فقيل إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق وقيل إنما يضمن المستحق بعد الحكم.
وأما بعد الثبات وقبل الحكم فهو من المستحق منه قال القاضي رضي الله عنه وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم وقسم لا يقضي به الحكام وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه.
وهذا الجنس من الأحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى.
وأما ما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره وفي هذا الجنس تدخل العبادات.
وهذه هي السنن الكرامية ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي
تسمى عفة وهذه صنفان السنن الواردة في المطعم والمشرب والسنن الواردة في المناكح ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور.فهذه هي

(2/475)


أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال والتي تقتضي العدل في الأبدان وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات.
لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل ومنها السنن الواردة في الأعراض ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل.
والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه وتدخل أيضا في باب الاشتراك في الأموال وكذلك الأمر في الصدقات.
ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية وهي المعبر عنها بالرياسة ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين.
ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن وهو الذي يسمى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وهي المحبة والبغضة أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة.
وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل.
كمل كتاب الأقضية وبكماله كمل جميع الديوان والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله.

(2/476)